تفسير البيضاوي: أنوار التنزيل و أسرار التأويل أبو سعيد عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشيرازي الفارسي، ناصر الدين، القاضي الشافعي (ت ٦٨٥ هـ ١٢٨٦ م) _________________________________ سورة الأنعام ١ {الحمد للّه الذي خلق السموات والأرض} أخبر بأنه سبحانه وتعالى حقيق بالحمد ونبه على أنه المستحق له على هذه النعم الجسام حمد أو يحمد ليكون حجة على الذين هم بربهم يعدلون وجمع السموات دون الأرض وهي ٢مثلهن لأن طبقاتها مختلفة بالذات متفاوتة الآثار والحركات وقدمها لشرفها وعلو مكانها وتقدم وجودها {وجعل الظلمات والنور} أنشأهما والفرق بين خلق وجعل الذي له مفعول واحد أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمن ولذلك عبر عن إحداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها أو لأن المراد بالظلمة الضلال وبالنور الهدى والهدى واحد والضلال متعدد وتقديمها لتقدم الإعدام على الملكات ومن زعم أن الظلمة عرض يضاد النور احتج بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} عطف على قوله الحمد للّه على معنى أن اللّه سبحانه وتعالى حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته ويكون بربهم تنبيها على أنه خلق هذه الأشياء أسبابا لتكونهم وتعيشهم فمن حقه أن يحمد عليها ولا يكفر أو على قوله خلق على معنى أنه سبحانه وتعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه ومعنى ثم استبعاد عدولهم بعد هذا البيان والباء على الأول متعلقة بكفروا وصلة يعدلون محذوفة أي يعدلون عنه ليقع الإنكار على نفس الفعل وعلى الثاني متعلقة ب يعدلون والمعنى أن الكفار يعدلون بربهم الأوثان أي يسوونها به سبحانه وتعالى ٢ {هو الذي خلقكم من طين} أي ابتدأ خلقكم منه فإنه المادة الأولى وأن آدم الذي هو أصل البشر خلق منه أو خلق أباكم فحذف المضاف {ثم قضى أجلا} أجل الموت {وأجل مسمى عنده} أجل القيامة وقيل الأول ما بين الخلق والموت والثاني ما بين الموت والبعث فإن الأجل كما يطلق لآخر المدة يطلق لجملتها وقيل الأول النوم والثاني الموت وقيل الأول لمن مضى والثاني لمن بقي ولمن يأتي وأجل نكرة خصصت بالصفة ولذلك استغني عن تقديم الخبر والاستئناف به لتعظيمه ولذلك نكر ووصف بأنه مسمى أي مثبت معين لا يقبل التغيير وأخبر عنه بأنه عند اللّه لا مدخل لغيره فيه يعلم ولا قدرة ولأنه المقصود بيانه {ثم أنتم تمترون} استبعاد لامترائهم بعد ما ثبت أنه خالقهم وخالق أصولهم ومحييهم إلى آجالهم فإن من قدر على خلق المواد وجمعها وإيداع الحياة فيها وإبقائها ما يشاء كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانيا فالآية الأولى دليل التوحيد والثانية دليل البعث والامتراء الشك وأصله المري وهو استخراج اللبن من الضرع ٣ {وهو اللّه} الضمير للّه سبحانه وتعالى و اللّه خبره {في السموات وفي الأرض} متعلق باسم اللّه والمعنى هو المستحق للعبادة فيهما لا غير كقوله سبحانه وتعالى وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [الزّخرف:٨٤] أو بقوله {يعلم سركم وجهركم} والجملة خبر ثان أو هي الخبر و اللّه بدل ويكفي لصحة الظرفية كون المعلوم فيهما كقولك رميت الصيد في الحرم إذا كنت خارجه والصيد فيه أو ظرف مستقر وقع خبرا بمعنى أنه سبحانه وتعالى لكمال علمه بما فيهما كأنه فيهما ويعلم سركم وجهركم بيان وتقرير له وليس متعلقا بالمصدر لأن صفته لا تتقدم عليه {ويعلم ما تكسبون} من خير أو شر فيثيب عليه ويعاقب ولعله أريد بالسر والجهر ما يخفى وما يظهر من أحوال الأنفس وبالمكتسب أعمال الجوارح ٤ {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم} من الأولى مزيدة للاستغراق والثانية للتبعيض أي ما يظهر لهم دليل قط من الأدلة أو معجزة من المعجزات أو آية من آيات القرأن {إلا كانوا عنها معرضين} تاركين للنظر فيه غير ملتفتين إليه ٥ {فقد كذبوا بالحق لما جاءهم} يعني القرأن وهو كاللازم ما قبله كأنه قيل إنهم لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا بها لما جاءهم أو كدليل عليه على معنى أنهم لما أعرضوا عن القرأن وكذبوا به وهو أعظم الآيات فكيف لا يعرضون عن غيره ولذلك رتب عليه بالفاء {فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون} أي سيظهر لهم ما كانوا به يستهزئون عند نزول العذاب بهم في الدنيا والآخرة أو عند ظهور الإسلام وارتفاع أمره ٦ {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن} أي من أهل زمان والقرن مدة أغلب أعمار الناس وهي سبعون سنة وقيل ثمانون وقيل القرن أهل عصر فيه نبي أو فائق في العلم قلت المدة أو كثرت واشتقاقه من قرنت {مكناهم في الأرض} جعلنا لهم فيها مكانا وقررناهم فيها وأعطيناهم من القوى والآلات ما تمكنوا بها من أنواع التصرف فيها {ما لم نمكن لكم} ما لم نجعل لكم من السعة وطول المقام يا أهل مكة ما لم نعطكم من القوة والسعة في المال والاستظهار في العدد والأسباب {وأرسلنا السماء عليهم} أي المطر أو السحاب أو المظلة إن مبدأ المطر منها {مدرارا} أي مغزارا {وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم} فعاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار {فأهلكناهم بذنوبهم} أي لم يغن ذلك عنهم شيئا {وأنشأنا} وأحدثنا {من بعدهم قرنا آخرين} بدلا منهم والمعنى أنه سبحانه وتعالى كما قدر على أن يهلك من قبلكم كعاد وثمود وينشىء مكانهم يعمر به بلاده يقدر أن يفعل ذلك بكم ٧ {ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس} مكتوبا في ورق {فلمسوه بأيديهم} فمسوه وتخصيص اللمس لأن التزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم أن يقولوا إنما سكرت أبصارنا ولأنه يتقدمه الإبصار حيث لا مانع وتقييده بالأيدي لدفع التجوز فإنه قد يتجوز به للفحص كقوله وإنا لمسنا السماء {لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} تعنتا وعنادا ٨ {وقالوا لولا أنزل عليه ملك} هلا أنزل معه ملك يكلمنا أنه نبي كقوله لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا [الفرقان:٧] {ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر} جواب لقولهم وبيان هو المانع مما اقترحوه والخلل فيه والمعنى أن الملك لو أنزل بحيث عاينوه كما اقترحوا لحق إهلاكهم فإن سنة اللّه قد جرت بذلك فيمن قبلهم {ثم لا ينظرون} بعد نزوله طرفة عين ٩ {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون} جواب ثان إن جعل الهاء للمطلوب وإن جعل للرسول فهو جواب اقتراح ثان فإنهم تارة يقولون لولا أنزل عليه ملك وتارة يقولون لو شاء ربنا لأنزل ملائكة والمعنى ولو جعلنا قرينا لك ملكا يعاينونه أو الرسول ملكا لمثلناه رجلا كما مثل جبريل في صورة دحية الكلبي فإن القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك في صورته وإنما رآهم كذلك الأفراد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوتهم القدسية وللبسنا جواب محذوف أي ولو جعلناه رجلا للبسنا أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم فيقولون ما هذا إلا بشر مثلكم وقرئ لبسنا بلام واحدة و لبسنا بالتشديد للمبالغة ١٠ {ولقد استهزئ برسل من قبلك} تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عما يرى من قومه {فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} فأحاط بهم الذي كانوا يستهزئون به حيث أهلكوا لأجله أو فنزل بهم وبال استهزائهم ١١ {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} كيف أهلكهم اللّه بعذاب الاستئصال كي تعتبروا والفرق بينه وبين قوله قل سيروا في الأرض فانظروا أن السير ثمت لأجل النظر ولا كذلك ها هنا ولذلك قيل معناه إباحة السير للتجارة وغيرها وإيجاب النظر في آثار الهالكين ١٢ {قل لمن ما في السموات والأرض} خلقا وملكا وهو سؤال تبكيت {قل للّه} تقريرا لهم وتنبيها على أنه المتعين للجواب بالإنفاق بحيث لا يمكنهم أن يذكروا غيره {كتب على نفسه الرحمة} التزمها تفضلا وإحسانا والمراد بالرحمة ما يعم الدارين ومن ذلك الهداية إلى معرفته والعلم بتوحيده بنصب الأدلة وإنزال الكتب والإمهال على الكفر {ليجمعنكم إلى يوم القيامة} استئناف وقسم للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر أي ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة فيجازيكم على شرككم أو في يوم القيامة وإلى بمعنى في وقيل بدل من الرحمة بدل البعض فإنه من رحمته بعثه إياكم وإنعامه عليكم {لا ريب فيه} في اليوم أو الجمع {الذين خسروا أنفسهم} بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم وموضع الذين نصب على الذم أو رفع على الخبر أي وأنتم الذين أو على الابتداء والخبر {فهم لا يؤمنون} والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد وإغفال النظر أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع من الإيمان ١٣ {وله} عطف على اللّه {ما سكن في الليل والنهار} من السكنى وتعديته بفي كما في قوله تعالى وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم [الحجر:٤٥] والمعنى ما اشتملا عليه أو من السكون أي ما سكن فيهما وتحرك فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر {وهو السميع} لكل مسموع {العليم} بكل معلوم فلا يخفى عليه شيء ويجوز أن يكون وعيدا للمشركين على أقوالهم وأفعالهم ١٤ {قل أغير اللّه أتخذ وليا} إنكار لاتخاذ غير اللّه وليا لا لاتخاذ الولي فلذلك قدم وأولى الهمزة والمراد بالولي المعبود لأنه رد لمن دعاه إلى الشرك {فاطر السموات والأرض} مبدعهما وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ما عرفت معنى الفاطر حتى آتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما أنا فطرتها أي ابتدأتها وجره على الصفة للّه فإنه بمعنى الماضي ولذلك قرئ فطر وقرئ بالرفع والنصب على المدح {وهو يطعم ولا يطعم} يرزق ولا يرزق وتخصيص الطعام لشدة الحاجة إليه وقرئ ولا يطعم بفتح الياء وبعكس الأول على أن الضمير لغير اللّه والمعنى كيف أشرك بمن هو فاطر السموات والأرض ما هو نازل عن رتبة الحيوانية وببنائهما لفاعل على أن الثاني من أنعم بمعنى استطعم أو على معنى أنه يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله يقبض ويبسط {قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم} لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم سابق أمته في الدين {ولا تكونن من المشركين} وقيل لي ولا تكونن ويجوز عطفه على كل ١٥ {قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} مبالغة أخرى في قطع أطماعهم وتعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب والشرط معترض بين الفعل والمفعول به وجوابه محذوف دل عليه الجملة ١٦ {من يصرف عنه يومئذ} أي بصرف العذاب عنه وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم يصرف على أن الضمير فيه للّه سبحانه وتعالى وقد قرئ بإظهاره والمفعول به محذوف أو يومئذ بحذف المضاف {فقد رحمه} نجاه وأنعم عليه {وذلك الفوز المبين} أي الصرف أو الرحمة ١٧ {وإن يمسسك اللّه بضر} ببلية كمرض وفقر {فلا كاشف له} فلا قادر على كشفه {إلا هو وإن يمسسك بخير} بنعمة كصحة وغنى {فهو على كل شيء قدير} فكان قادرا على حفظه وإدامته فلا يقدر غيره على دفعه كقوله تعالى فلا راد لفضله [هود:١٠٧] ١٨ {وهو القاهر فوق عباده} تصوير لقهره وعلوه بالغلبة والقدرة {وهو الحكيم} في أمره وتدبيره {الخبير} بالعباد وخفايا أحوالهم ١٩ {قل أي شيء أكبر شهادة} نزلت حين قالت قريش يا محمد لقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا من يشهد لك أنك رسول اللّه والشيء يقع على كل موجود وقد سبق القول فيه في سورة البقرة {قل اللّه} أي اللّه أكبر شهادة ثم ابتدأ {شهيد بيني وبينكم} أي هو شهيد بيني وبينكم ويجوز أن يكون اللّه شهيد هو الجواب لأنه سبحانه وتعالى إذا كان الشهيد كان أكبر شيء شهادة {وأوحي إلي هذا القرأن لأنذركم به} أي بالقرأن واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة {ومن بلغ} [الأنعام: ١٩] عطف على ضمير المخاطبين أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه من الأسود والأحمر أو من الثقلين أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن بلغه إلى يوم القيامة وفيه دليل على أن أحكام القرأن تعم الموجودين وقت نزوله ومن بعدهم وأنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه {أئنكم لتشهدون مع اللّه آلهة أخرى} تقرير لهم مع إنكار واستبعاد قل لا أشهد بما تشهدون {قل إنما هو إله واحد} أي بل أشهد أن لا إله إلا هو {وإنني بريء مما تشركون} يعني الأصنام ٢٠ {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه} يعرفون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحليته المذكورة في التوراة والإنجيل {كما يعرفون أبناءهم} بحلاهم {الذين خسروا أنفسهم} {من أهل الكتاب والمشركين}{فهم لا يؤمنون}لتضييعهم ما به يكتسب الإيمان ٢١ {ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا} كقولهم الملائكة بنات اللّه [انظر النّحل:٥٧] و هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه [يونس:١٨] {أو كذب بآياته} كأن كذبوا بالقرأن والمعجزات وسموها سحرا وإنما ذكر أو وهم وقد جمعوا بين الأمرين تنبيها على أن كلا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس {إنه} الضمير للشأن {لا يفلح الظالمون} فضلا عمن لا أحد أظلم منه ٢٢ {ويوم نحشرهم جميعا} منصوب بمضمر تهويلا للأمر {ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم} أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء للّه وقرأ يعقوب يحشرهم ويقول بالياء {الذين كنتم تزعمون} أي تزعمونهم شركاء فحذف المفعولان والمراد من الاستفهام التوبيخ ولعله يحال بينهم وبين آلهتهم حينئذ ليفقدوها في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها ويحتمل أن يشاهدوهم ولكن لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم ٢٣ {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالو}ا أي كفرهم والمراد عاقبته وقيل معذرتهم التي يتوهمون أن يتخلصوا بها من فتنة الذهب إذا خلصته وقيل جوابهم وإنما سماه فتنة لأنه كذب أو لأنهم قصدوا به الخلاص وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم لم تكن بالتاء و فتنتهم بالرفع على أنها الاسم ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عنه بالتاء والنصب على أن الاسم أن قالوا والتأنيث للخبر كقولهم من كانت أمك والباقون بالياء والنصب {واللّه ربنا ما كنا مشركين} يكذبون ويحلفون عليه مع علمهم بأنه لا ينفعهم من فرط الحيرة والدهشة كما يقولون ربنا أخرجنا منها وقد أيقنوا بالخلود وقيل معناه ما كنا مشركين عند أنفسنا وهو لا يوافق قوله ٢٤ {انظر كيف كذبوا على أنفسهم} أي بنفي الشرك عنها وحمله على كذبهم في الدنيا تعسف يخل بالنظم ونظير ذلك قوله يوم يبعثهم اللّه جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم وقرأ حمزة والكسائي ربنا بالنصب على النداء أو المدح {وضل عنهم ما كانوا يفترون} من الشركاء ٢٥ {ومنهم من يستمع إليك} حين تتلو القرأن والمراد أبو سفيان والوليد والنضر وعتبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم اجتمعوا فسمعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقرأ القرأن فقالوا للنضر ما يقول فقال والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية فقال أبو سفيان إني لأرى حقا فقال أبو جهل كلا {وجعلنا على قلوبهم أكنة} أغطية جمع كنان وهو ا يستر الشيء {أن يفقهوه} كراهة أن يفقهوه {وفي آذانهم وقراً} يمنع من استماعه وقد مر تحقيق ذلك في أول البقرة {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم {حتى إذا جاؤك يجادلونك} أي بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم جاؤو يجادلونك وحتى هي التي نقع بعدها الجمل لا عمل لها والجملة إذا وجوابه وهو {يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين} فإن جعل أصدق الحديث خرافات الأولين غاية التكذيب ويجادلونك حال لمجيئهم ويجوز أن تكون الجارة وإذا جاؤوك في موضع الجر ويجادلونك حال ويقول تفسير له والأساطير الأباطيل جمع أسطورة أو اسطارة أو أسطار جمع سطر وأصله السطر بمعنى الخط ٢٦ {وهم ينهون عنه} أي ينهون الناس عن القرأن أو الرسول صلى اللّه عليه وسلم والإيمان به {وينأون عنه} بأنفسهم أو ينهون عن التعرض لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وينأون عنه فلا يؤمنون به كأبي طالب {وإن يهلكون} وما يهلكون بذلك {إلا أنفسهم وما يشعرون} أن ضرره لا يتعداهم إلى غيرهم ٢٧ {ولو ترى إذ وقفوا على النار} جوابه محذوف أي لو تراهم حين يوقعون على النار حتى يعاينوها أو يطلعون عليها أو يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها لرأيت أمرا شنيعا وقرئ وقفوا على البناء للفاعل من وقف عليها وقوفا {فقالوا يا ليتنا نرد} تمنيا للرجوع إلى الدنيا {ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين} استئناف كلام منهم على وجه الإثبات كقولهم دعني ولا أعود أي وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني أو عطف على نرد أو حال من الضمير فيه فيكون في حكم التمني وقوله وإنهم لكاذبون [المؤمنون:٩٠] راجع إلى ما تضمنه التمني من الوعد ونصبهما حمزة ويعقوب وحفص على الجواب بإضمار أن بعد الواو إجراء لها مجرى الفاء وقرأ ابن عامر برفع الأول على العطف ونصب الثاني على الجواب ٢٨ {بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل} الإضراب عن إرادة الإيمان المفهومة من التمني والمعنى أنه كظهر لهم ما كانوا يخفون من نفاقهم أو قبائح أعمالهم فتمنوا ذلك ضجرا لا عزما على أنهم لو ردوا لآمنوا {ولو ردوا} أي إلى الدنيا بعد الوقوف والظهور {لعادوا لما نهوا عنه} من الكفر والمعاصي {وإنهم لكاذبون} فيما وعدوا به من أنفسهم ٢٩ {وقالوا} عطف على لعادوا أو على إنهم لكاذبون أو على نهوا أو استئناف بذكر ما قالوه في الدنيا {إن هي إلا حياتنا الدنيا} الضمير للحياة {وما نحن بمبعوثين} ٣٠ {ولو ترى إذ وقفوا على ربهم} مجاز عن الحبس للسؤال والتوبيخ وقيل معناه وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه أو عرفوه حق التعريف {قال أليس هذا بالحق} كأنه جواب قائل قال ماذا قال ربهم حينئذ والهمزة للتقريع على التكذيب والإشارة إلى البعث وما يتبعه من الثواب والعقاب {قالوا بلى وربنا} إقرأر مؤكد باليمين لانجلاء الأمر غاية الجلاء {قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} بسبب كفركم أو ببدله ٣١ {قد خسر الذين كذبوا بلقاء اللّه} إذ فاتهم النعم واستوجبوا العذاب المقيم ولقاء اللّه البعث وما يتبعه {حتى إذا جاءتهم الساعة} غاية لكذبوا لا لخسر لأن خسرانهم لا غاية له {بغتة} فجأة ونصبها على الحال أو المصدر فإنها نوع من المجيء {قالوا يا حسرتنا} أي تعالي فهذا أوانك {على ما فرطنا قصرنا فيها} في الحياة الدنيا أضمرت وإن لم يجر ذكرها للعلم بها أو في الساعة يعني في شأنها والإيمان بها {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} تمثيل لاستحقاقهم آصار الآثام {ألا ساء ما يزرون} بئس شيئا يزرونه وزرهم ٣٢ {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو} أي وما أعمالها إلا لعب ولهو يهلي الناس ويشغلهم عما يعقب منفعة دائمة ولذة حقيقة وهو جواب لقولهم إن هي إلا حياتنا الدنيا {وللدار الآخرة خير للذين يتقون} لدوامها وخلوص منافعها ولذاتها وقوله {للذين يتقون} تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين لعب ولهو وقرأ ابن عامر ولدار الآخرة {أفلا تعقلون} أي الأمرين خير وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم ويعقوب بالتاء على خطاب المخاطبين به أو تغليب الحاضرين على الغائبين ٣٣ {قد يعلم إنه ليحزنك الذي يقولون} معنى قد زيادة الفعل وكثرته كما في قوله ولكنه قد يهلك المال نائله والهاء في أنه للشأن وقرئ ليحزنك من أحزن {فإنهم لا يكذبونك} في الحقيقة وقرأ نافع والكسائي لا يكذبونك من أكذبه إذا وجده كاذبا أو نسبة إلى الكذب {ولكن الظالمين بآيات اللّه يجحدون} ولكنهم يجحدون بآيات اللّه ويكذبونها فوضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أنهم ظلموا بجحودهم أو جحدوا لتمرنهم على الظلم والباء لتضمين الجحود معنى التكذيب روي أن أبا جهل كان يقول ما نكذبك وإنك عندنا لصادق وإنما نكذب ما جئتنا به فنزلت ٣٤ {ولقد كذبت رسل من قبلك} تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفيه دليل على أن قوله لا يكذبوك ليس لنفي تكذيبه مطلقا {فصبروا على ما كذبوا وأوذوا} على تكذيبهم وإيذائهم فتأس بهم واصبر {حتى أتاهم نصرنا} فيه إيماء بوعد النصر للصابرين {ولا مبدل لكلمات اللّه} لمواعيده من قوله ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين الآيات {ولقد جاءك من نبإي المرسلين} أي بعض قصصهم وما كابدوا من قومهم ٣٥ {وإن كان كبر عليك} عظم وشق {إعراضهم}[٣٥: سورة الأنعام]وعن الإيمان بما جئت به {فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية} منفذا تنفذ فيه إلى جوف الأرض فتطلع لهم آية أو مصعدا تصعد به إلى السماء فتنزل منها آية وفي الأرض صفة لنفقا وفي السماء صفة لسلما ويجوز أن يكونا متعلقين بتبتغي أو حالين من المستكن وجواب الشرط الثاني محذوف تقديره فافعل والجملة جواب الأول والمقصود بيان حرصه البالغ على إسلام قومه وأنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم {ولو شاء اللّه لجمعهم على الهدى} لوفقهم للإيمان حتى يؤمنوا ولكن لم تتعلق به مشيئته فلا تتهالك عليه والمعتزلة أولوه بأنه لو شاء لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة {فلا تكونن من الجاهلين} بالحرص على ما لا يكون والجزع في مواطن الصبر فإن ذلك من دأب الجهلة إنما يستجيب الذين يسمعون ٣٦ {إنما يجيب الذين يسمعون} بفهم وتأمل لقوله تعالى أو ألقى السمع وهو شهيد [ق:٣٧] وهؤلاء كالموتى الذين لا يسمعون {والموتى يبعثهم اللّه} فيعلمهم حين لا ينفعهم الإيمان {ثم إليه ترجعون} للجزاء ٣٧ {قالوا لولا نزل عليه آية من ربه} أي آية بما اقترحوه أو آية أخرى سوى ما أنزل من الآيات المتكاثرة لعدم اعتدادهم بها عنادا {قل إن اللّه قادر على أن ينزل آية} مما اقترحوه أو آية تضطرهم إلى الإيمان كنتق الجبل أو آية إن جحدوها هلكوا {ولكن أكثرهم لا يعلمون} أن اللّه قادر على إنزالها وأن إنزالها يستجلب عليهم البلاء وأن لهم فيما أنزل مندوحة عن غيره وقرأ ابن كثير ينزل بالتخفيف والمعنى واحد ٣٨ {وما من دابة في الأرض} تدب على وجهها {ولا طائر يطير بجناحيه} في الهواء وصفه به قطعا لمجاز السرعة ونحوها وقرئ ولا طائر بالرفع على المحل {إلا أمم أمثالكم} محفوظة أحوالها مقدرة أرزاقها وآجالها والمقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته وشمول علمه وسعة تدبيره ليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزل آية وجمع الأمم للحمل على المعنى {ما فرطنا في الكتاب من شيء} يعني اللوح المحفوظ فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من الجليل والدقيق لم يهمل فيه أمر حيوان ولا جماد أو القرأن فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلا أو مجملا ومن مزيدة وشيء في موضع المصدر لا بالمفعول به فإن فرط لا يتعدى بنفسه وقد عدي بفي إلى الكتاب وقرئ ما فرطنا بالتخفيف {ثم إلى ربهم يحشرون} يعني الأمم كلها فينصف بعضها من بعض كما روي أنه يأخذ للجماء من القرناء وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما حشرها موتها ٣٩ {والذين كذبوا بآياتنا صم} لا يسمعون مثل هذه الآيات الدالة على ربوبيته وكمال علمه وعظم قدرته سماعا تتأثر به نفوسهم {وبكم} لا ينطقون بالحق {في الظلمات} خبر ثالث أي خابطون في ظلمات الكفر أو في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد ويجوز أن يكون حالا من المستكن في الخبر من يشإ اللّه يضللّه {من يشأ اللّه} إضلاله {يضللّه}وهو دليل واضح لنا على المعنزلة {ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} بأن يرشده إلى الهدى ويحمله عليه ٤٠ {قل أرأيتكم} استفهام تعجب والكاف حرف خطاب أكد به الضمير للتأكيد لا محل له من الإعراب لأنك تقول أرأيتك زيدا ما شأنه فلو جعلت الكاف مفعولا كما قاله الكوفيون لعديت الفعل إلى ثلاثة مفاعيل وللزم في الآية أن يقال أرأيتموكم بل الفعل معلق أو المفعول محذوف تقديره أرأيتكم آلهتكم تنفعكم إذ تدعونها وقرأ نافع أرأيتكم وأرأيت وأرأيتم وأفرأيتم وأفرأيت وشبهها إذا كان قبل الراء همزة بتسهيل الهمزة التي بعد الراء والكسائي يحذفها أصلا والباقون يحققونها وحمزة إذا وقف وافق نافعا {إن أتاكم عذاب اللّه} كما أتى من قبلكم {أو أتتكم الساعة} وهو لها ويدل عليه {أغير اللّه تدعون} وهو تبكيت لهم {إن كنتم صادقين} أن الأصنام آلهة وجوابه محذوف أي فادعوه ٤١ {بل إياه تدعون} بل تخصونه بالدعاء كما حكى عنهم في مواضع وتقديم المفعول لإفادة التخصيص {فيكشف ما تدعون إليه} أي ما تدعونه إلى كشفه {إن شاء} أي يتفضل عليكم ولا يشاء في الآخرة {وتنسون ما تشركون} وتتركون آلهتكم في ذلك الوقوف لما ركز في العقول على أنه القادر على كشف الضر دون غيره أو وتنسونه من شدة الأمر وهوله ٤٢ {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك} أي قبلك ومن زائدة فأخذناهم أي فكفروا وكذبوا المرسلين {فأخذناهم بالبأساء} بالشدة والفقر {والضراء} والضر والآفات وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما {لعلهم يتضرعون} يتذللون لنا ويتوبون عن ذنوبهم ٤٣ {فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا} معناه نفي تضرعهم في ذلك الوقت مع قيام ما يدعوهم أي لم يتضرعوا {ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون} استدرك على المعنى وبيان للصارف لهم عن التضرع وأنه لا مانع لهم إلا قساوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم ٤٤ {فلما نسوا ما ذكروا به} من البأساء والضراء ولم يتعظوا به {فتحنا عليهم أبواب كل شيء} من أنواع النعم مراوحة عليهم بين نوبتي الضراء والسراء وامتحانا لهم بالشدة والرخاء إلزاما للحجة وإزاحة للعلة أو مكرا بهم لما روي أنه صلى اللّه عليه وسلم قال: مكر بالقوم ورب الكعبة وقرأ ابن عامر فتحنا بالتشديد في جميع القرأن ووافقه يعقوب فيما عدا هذا والذي في الأعراف {حتى إذا فرحوا} أعجبوا {بما أوتوا} من النعم ولا يزيدوا غير البطر والاشتغال بالنعم عن المنعم والقيام بحقه سبحانه وتعالى {أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} متحسرون آيسون ٤٥ {فقطع دابر القوم الذين ظلموا} أي آخرهم بحيث لم يبق منهم أحد من دبره دبرا ودبورا إذا تبعه {والحمد للّه رب العالمين} على إهلاكهم فإن هلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها ٤٦ {قل أرأيتم إن أخذ اللّه سمعكم وأبصاركم} أصمكم وأعماكم {وختم على قلوبكم} بأن يغطي عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم {من إله غير اللّه يأتيكم به} أي بذلك أو بما أخذ وختم عليه أو بأحد هذه المذكورات {انظر كيف نصرف الآيات} نكررها تارة من جهة المقدمات العقلية وتارة من جهة الترغيب والترهيب وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين {ثم هم يصدقون} يعرضون عنها وثم لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات وظهورها ٤٧ {قل أرأيتكم إن آتاكم عذاب اللّه بغتة} من غير مقدمة {أو جهرة} بتقدمه أمارة تؤذن بحلوله وقيل ليلا أو نهارا وقرئ بغتة أو جهرة {هل يهلك} أي ما يهلك به هلاك سخط وتعذيب {إلا القوم الظالمون} ولذلك صح الاستثناء المفرغ منه وقرئ يهلك بفتح الياء ٤٨ {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين} المؤمنين بالجنة {ومنذرين} الكافرين بالنار ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويتلهى بهم {فمن آمن وأصلح} ما يجب إصلاحه على ما شرع لهم {فلا خوف عليهم} من العذاب {ولا هم يحزنون} بفوات الثواب ٤٩ {والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب} جعل العذاب ماسا لهم كأنه الطالب للوصول إليهم واستغنى بتعريفه عن التوصيف {بما كانوا يفسقون} [الأنعام: ٤٩] بسبب خروجهم عن التصديق والطاعة ٥٠ {قل لا أقول لكن عندي خزائن اللّه} مقدوراته أو خزائن رزقه {ولا أعلم الغيب} ما لم يوح إلي ولم ينصب عليه دليل وهو من جملة المقول {ولا أقول لكم إني ملك} أي من جنس الملائكة أو أقدر على ما يقدرون عليه {إن اتبع إلا ما يوحى إلي} تبرأ عن دعوى الألوهية والملكية وادعى النبوة التي هي من كمالات البشر ردا لاستبعادهم دعواه وجزمهم على فساد مدعاه {قل هل يستوي الأعمى والبصير} مثل للضال والمهتدي أو الجاهل والعالم أو مدعي المستحيل كالألوهية والملكية ومدعي المستقيم كالنبوة {أفلا تتفكرون} فتهتدوا أو فتميزوا بين ادعاء الحق والباطل أو فتعلموا أن اتباع الوحي مما لا محيص عنه ٥١ {وأنذر به} الضمير لما يوحى إلي {الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم} هم المؤمنون المفرطون في العمل أو المجوزون للحشر مؤمنا كان أو كافرا مقرأ به أو مترددا فيه فإن الإنذار ينفع فيهم دون الفارغين الجازمين باستحالته {ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع} في موضع الحال من يحشروا فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة {لعلهم يتقون} لكي يتقوا ٥٢ {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} بعدما أمره بإنذار غير المتقين ليتقوا أمره بإكرام المتقين وتقريبهم وأن لا يطردهم ترضية لقريش روي أنهم قالوا لو طردت هؤلاء الأعبد يعنون فقرأء المسلمون كعمار وصهيب وخباب وسلمان جلسنا إليك وحادثناك فقال ما أنا بطارد المؤمنين قالوا فأقمهم عنا إذا جئناك قال نعم وروي أن عمر رضي اللّه عنه قال له لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون فدعا بالصحيفة وبعلي رضي اللّه تعالى عنه ليكتب فنزلت والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام وقيل صلاتا الصبح والعصر وقرأ ابن عامر بالغدوة هنا وفي الكهف {يريدون وجهه} حال من يدعون أي يدعون ربهم مخلصين فيه قيد الدعاء بالإخلاص تنبيها على أنه ملاك الأمر ورتب النهي عليه إشعارا بأنه يقتضي إكرامهم وينافي إبعادهم {ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء} أي ليس عليك حساب إيمانهم فلعل إيمانهم عند اللّه أعظم من إيمان من تطردهم بسؤالهم طمعا في إيمانهم لو آمنوا أو ليس عليك اعتبار بواطهنم وإخلاصهم لما اتسموا بسيرة المتقين وإن كان لهم باطن غير مرضي كما ذكره المشركون وطعنوا في دينهم فحسابهم عليهم لا يتعداهم إليك كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم وقيل ما عليك من حساب رزقهم أي من فقرهم وقيل الضمير للمشركين والمعنى لا تؤاخذ بحسابهم ولا هم بحسابك حتى يهمك إيمانهم بحيث تطرد المؤمنين طمعا فيه {فتطردهم} فتبعدهم وهو جواب النفي {فتكون من الظالمين} جواب النهي ويجوز عطفه على فتطردهم على وجه التسبب وفيه نظر ٥٣ {وكذلك فتنا بعضهم ببعض} ومثل ذلك الفتن وهو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا فتنا أي ابتلينا بعضهم ببعض في أمر الدنيا فقدمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش بالسبق إلى الإيمان {ليقولوا أهؤلاء من اللّه عليهم من بيننا} أي أهؤلاء من أنعم اللّه عليهم بالهداية والتوفيق لما يسعدهم دوننا ونحن الأكابر والرؤساء وهم المساكين والضعفاء وهو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق والسبق إلى الخير كقولهم لو كان خيرا ما سبقونا إليه واللام للعاقبة أو للتعليل على أن فتنا متضمن معنى خذلنا {أليس اللّه بأعلم بالشاكرين} بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوقفه وبمن لا يقع منه فيخذله ٥٤ {وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة} الذين يؤمنون هم الذين يدعون ربهم وصفهم بالإيمان بالقرأن واتباع الحجج بعدما وصفهم بالمواظبة على العبادة وأمره بأن يبدأ بالتسليم أو يبلغ سلام اللّه تعالى إليهم ويبشرهم بسعة رحمة اللّه تعالى وفضله بعد النهي عن طردهم إيذانا بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم والعمل ومن كان كذلك ينبغي أن يقرب ولا يطرد ويعز ولا يذل ويبشر من اللّه بالسلامة في الدنيا والرحمة في الآخرة وقيل إن قوم جاءوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا إنا أصبنا ذنوبا عظاما فلم يرد عليهم شيئا فانصرفوا فنزلت {إنه من عمل منكم سوءا} استئناف بتفسير الرحمة وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ويعقوب بالفتح على البدل منها {بجهالة} في موضع الحال أي ملتبسا بفعل الجهالة فإن ارتكاب ما يؤدي إلى الضرر من أفعال أهل السفه والجهل {ثم تاب من بعده} بعد العمل أو السوء {وأصلح} بالتدارك والعزم على أن لا يعود إليه {فأنه غفور رحيم} فتحه من فتح الأول غير نافع على إضمار مبتدأ أو خبر أي فأمره أو فله غفرانه ٥٥ {وكذلك} ومثل ذلك التفضيل الواضح {نفصل الآيات} أي آيات القرأن في صفة المطيعين والمجرمين المصرين منهم والأوابين {ولتستبين سبيل المجرمين} قرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على معنى ولنستوضح يا محمد سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يحق لهم فصلنا هذا التفصيل وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم برفعه على معنى ولنبين سبيلهم والباقون بالياء والرفع على تذكير السبيل فإنه يذكر ويؤنث ويجوز أن يعطف على علة مقدرة أي نفصل الآيات ليظهر الحق ويستبين ٥٦ {قل إني نهية} صرفت وزجرت بما نصب لي من الأدلة وأنزل علي من الآيات في أمر التوحيد {أن اعبد الذين تدعون من دون اللّه} عن عبادة ما تعبدون من دون اللّه أو ما تدعونه آلهة أي تسمونها {قل لا أتبع أهواءكم} تأكيد لقطع أطماعهم وإشارة إلى الموجب للنهي وعلة الامتناع عن متابعتهم واستجهال لهم وبيان لمبدأ ضلالهم وأن ما هم عليه هوى وليس يهدي وتنبيه لمن تحرى الحق على أن يتبع الحجة ولا يقلد {قد ضللت إذا} أي اتبعت أهواءكم فقد ضللت {وما أنا من المهتدين} أي في شيء من الهدى حتى أكون من عدادهم وفيه تعريض بأنهم كذلك ٥٧ {قل إني على بينة} تنبيه على ما يجب اتباعه بعد ما بين ما لا يجوز اتباعه والبينة الدلالة الواضحة التي تفصل الحق من الباطل وقيل المراد بها القرأن والوحي أو الحجج العقلية أو ما يعمها {من ربي} من معرفته وأنه لا معبود سواه ويجوز أن يكون صفة لبينة وكذبتم به الضمير لربي أي {كذبتم به} حيث أشركتم به غيره أو للبينة باعتبار المعنى {ما عندي ما تستعجلون به} يعني العذاب الذي استعجلوه بقولهم {فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم}[الأنفال: ٣٢] {إن الحكم إلا للّه} في تعجيل العذاب وتأخيره {يقص الحق} أي القضاء الحق أو يصنع الحق ويدبره من قولهم قضى الدرع إذا صنعتها فيما يقضي من تعجيل وتأخير وأصل القضاء الفصل بتمام الأمر وأصل الحكم المنع فكأنه منع الباطل وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم يقص من قص الأثر أو من قص الخبر {وهو خير الفاصلين} القاضين ٥٨ {قل لو أن عندي} في قدرتي ومكنتي {ما تستعجلون به} من العذاب {لقضي الأمر بيني وبينكم} لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي وانقطع ما بيني وبينكم {واللّه أعلم بالظالمين} في معنى الاستدراك كأنه قال ولكن الأمر إلى اللّه سبحانه وتعالى وهو أعلم بمن ينبغي أن يؤخذ وبمن ينبغي أن يمهل منهم ٥٩ {وعنده مفاتح الغيب} خزائنه جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن أو ما يتوصل به إلى المغيبات مستعار من المفاتح الذي هو جمع مفتح بكسر الميم وهو المفتاح ويؤيده أنه قرئ مفاتيح والمعنى أنه المتوصل إلى المغيبات المحيط علمه بها {لا يعلمها إلا هو} فيعلم أوقاتها وما في تعجيلها وتأخيرها من الحكم فيظهرها على ما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته وفيه دليل على أنه سبحانه وتعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها {ويعلم ما في البر والبحر} عطف للأخبار عن تعلق علمه تعالى بالمشاهدات على الإخبار عن اختصاص العلم بالمغيبات به {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها} مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات {ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس} معطوفات على ورقة وقوله {إلا في كتاب مبين} بدل من الاستثناء الأول بدل الكل على أن الكتاب المبين علم اللّه سبحانه وتعالى أو بدل الاشتمال إن أريد به اللوح وقرئت بالرفع للعطف على محل ورقة أو رفعا على الابتداء والخبر إلا في كتاب مبين ٦٠ {وهو الذي يتوفاكم بالليل} ينيمكم فيه ويراقبكم استعير التوفي من الموت للنوم لما بينهم من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز فإن أصله قبض الشيء بتمامه {ويعلم ما جرحتم بالنهار} كسبتم فيه خص الليل بالنوم والنهار بالكسب جريا على المعتاد {ثم يبعثكم} يوقظكم أطلق البعث ترشيحا للتوفي {فيه} {في النهار} {ليقضى أجل مسمى} ليبلغ المتيقظ آخر أجله المسمى له في الدنيا {ثم إليه مرجعكم} بالموت {ثم ينبئكم بما كنتم تعملون} بالمجازاة عليه وقيل الآية خطاب للكفرة والمعنى أنكم ملقون كالجيف بالليل وكاسبون للآثام بالنهار وأنه سبحانه وتعالى مطلع على أعمالكم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ليقضي الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموت وجزائهم على أعمالهم ثم إليه مرجعكم بالحساب ثم ينبئكم بما كنتم تعملون بالجزاء ٦١ {وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة} ملائكة تحفظ أعمالكم وهم الكرام الكاتبون والحكمة فيه أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان أزجر عن المعاصي وأن العبد إذا وثق بلطف سيده واعتمد على عفوه وستره لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطيعين عليه {حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا} ملك الموت وأعوانه وقرأ حمزة توفاه بالألف ممالة {وهم لا يفرطون} بالتواني والتأخير وقرئ بالتخفيف والمعنى لا يجاوزون ما حد لهم بزيادة أو نقصان ٦٢ {ثم ردوا إلى اللّه} إلى حكمه وجزائه {مولاهم} الذي يتولى أمرهم {الحق} العدل الذي لا يحكم إلا بالحق وقرئ بالنصب على المدح {ألا له الحكم} يومئذ لا حكم لغيره فيه {وهو أسرع الحاسبين} يحاسب الخلائق في مقدار حلب شاة لا يشغله حساب عن حساب ٦٣ {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} من شدائدهما استعيرت الظلمة للشدة لمشاركتهم في الهول وإبطال الإبصار فقيل لليوم الشديد يوم مظلم ويوم ذو كواكب أو من الخسف في البر والغرق في البحر وقرأ يعقوب ينجيكم بالتخفيف والمعنى واحد {تدعونه تضرعا وخفية} معلنين ومسرين أو إعلانا وإسرارا وقرأ أبو بكر هنا وفي الأعراف وخيفة بالكسر وقرئ خيفة {لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين} على إرادة القول أي تقولون لئن أنجيتنا وقرأ الكوفيون لئن أنجانا ليوافق قوله تدعونه وهذه إشارة إلى الظلمة ٦٤ {قل اللّه ينجيكم منها} شدده الكوفيون وهشام وخففه الباقون {ومن كل كرب} غم سواها {ثم أنتم تشركون} تعودون إلى الشرك ولا توفون بالعهد وإنما وضع تشركون موضع لا تشكرون تنبيها على أن من أشرك بعبادة اللّه سبحانه وتعالى فكأنه لم يعبده رأسا ٦٥ {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} كما فعل بقوم نوح ولوط وأصحاب الفيل {أو من تحت أرجلكم} كما أغرق فرعون وخسف بقارون وقيل من فوقكم أكابركم وحكامكم ومن تحت أرجلكم سفلتكم وعبيدكم {أو يلبسكم} يخلطكم {شيعا} فرقا متحزبين على أهواء شتى فينشب القتال بينكم قال وكتيبة لبستها بكتيبة حتى إذا التبست نفضت لها يدي {ويذيق بعضكم بأس بعض} يقاتل بعضكم بعضا {انظر كيف نصرف الآيات} بالوعد والوعيد {لعلهم يفقهون} ٦٦ {وكذب به قومك} أي بالعذاب أو بالقرأن {وهو الحق} الواقع لا محالة أو الصدق {قل لست عليكم بوكيل} بحفيظ وقل وكل إلي أمركم فأمنعكم من التكذيب أو أجازيكم إنما أنا منذر واللّه الحفيظ ٦٧ {لكل نبأ} خبر يريد به إما بالعذاب أو الإيعاد به {مستقر} وقت استقرأر ووقوع {وسوف تعلمون} عند وقوعه في الدنيا والآخرة ٦٨ {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا} بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها {فأعرض عنهم} فلا تجالسهم وقم عنهم {حتى يخوضوا في حديث غيره} أعاد الضمير على معنى الآيات لأنها القرأن {وإما ينسينك الشيطان} بأن يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي وقرأ ابن عامر ينسيك بالتشديد {فلا تقعد بعد الذكرى} بعد أن تذكره {مع القوم الظالمين} أي معهم فوضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أنهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والاستعظام ٦٩ {وما على الذين يتقون} وما يلزم المتقين من قبائح أعمالهم وأقوالهم الذين يجالسونهم {من حسابهم من شيء} شيء مما يحاسبون عليه {ولكن ذكرى} ولكن عليهم أن يذكروهم ذكرى ويمنعوهم عن الخوض وغيره من القبائح ويظهروا كراهتها وهو يحتمل النصب على المصدر والرفع ولكن عليهم ذكرى ولا يجوز عطفه على محل من شيء لأن من حسابهم يأباه ولا على شيء لذلك ولأن من لا تزاد في الإثبات {لعلهم يتقون} يجتنبون ذلك حياء أو كراهة لمساءتهم ويحتمل أن يكون الضمير للذين يتقون والمعنى لعلهم يثبتون على تقواهم ولا تنثلم بمجالستهم روي أن المسلمين قالوا لإن كنا نقوم كلما استهزءوا بالقرأن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ونطوف فنزلت ٧٠ {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا} أي بنوا أمر دينهم على التشهي وتدين بما لا يعود عليهم بنفع عاجلا وآجلا كعبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب أو اتخذوا دينهم الذي كلفوهم لعبا ولهوا حيث سخروا به أو جعلوا عيدهم الذي جعل ميقات عبادتهم زمان لهو ولعب والمعنى أعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم ويجوز أن يكون تهديدا لهم كقوله تعالى {وغرتهم الحياة الدنيا} حتى أنكروا البعث {وذكر به} أي بالقرأن {أن تبسل نفس بما كسبت} مخافة أن تسلم إلى الهلاك وترهن بسوء عمله وأصل الأبسال والبسل المنع ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه وهذا بسل عليك أي حرام {ليس لها من دون اللّه ولي ولا شفيع} يدفع عنها العذاب {وإن تعدل كل عدل} وإن تفد كل فداء والعدل الفدية لأنها تعادل المفدي وها هنا الفداء وكل نصب على المصدرية {لا يؤخذ منها} الفعل مسند إلى منها لا إلى ضميره بخلاف قوله ولا يؤخذ منها عدل فإنه المفدى به {أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا} أي سلموا إلى العذاب بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة {لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون} تأكيد وتفصيل لذلك والمعنى هم بين ماء مغلي يتجرجر في بطونهم ونار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم ٧١ {قل أندعو أنعبد من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرنا} ما لا يقدر على نفعنا وضرنا {ونرد على أعقابنا} ونرجع إلى الشرك {بعد إذ هدانا اللّه} فأنقذنا منه ورزقنا الإسلام {كالذي استهوته الشياطين} كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامة استفعال من هوى يهوي هويا إذا ذهب وقرأ حمزة استهواه بألف ممالة ومحل الكاف النصب على الحال من فاعل نرد أي مشبهين الذين استهوته أو على المصدر أي ردا مثل رد الذي استهوته {في الأرض حيران} متحيرا ضالا عن الطريق {له أصحاب} لهذا المستهوى رفقه {يدعونه إلى الهدى} إلى أن يهدوه الطريق المستقيم أو إلى الطريق المستقيم وسماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر {ائتنا} يقولون له ائتنا {قل إن هدى اللّه} الذي هو الإسلام {هو الهدى} وحده وما عداه ضلال {وأمرنا لنسلم لرب العالمين} من جملة المقول عطف على أن هدى اللّه واللام التعليل الأمر أي أمرنا بذلك لنسلم وقيل هي بمعنى الباء وقيل هي زائدة ٧٢ {وأن أقيموا الصلاة واتقوه} عطف على لنسلم أي للإسلام ولإقامة الصلاة أو على موقعه كأنه قيل وأمرنا أن نسلم أو أقيم الصلاة روي أن عبد الرحمن بن أبي بكر دعا أباه إلى عبادة الأوثان فنزلت وعلى هذا كان أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم بهذا القول إجابة عن الصديق رضي اللّه تعالى عنه تعظيما لشأنه وإظهارا للاتحاد الذي كان بينهما {وهو الذي إليه تحشرون} [الأنعام: ٧٢] يوم القيامة ٧٣ {وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق} قائما بالحق والحكمة {ويوم يقول كن فيكون قوله الحق} جملة اسمية قدم فيها الخبر أي قوله الحق يوم يقول كقولك القتال يوم الجمعة والمعنى أنه الخالق للسموات والأرضين وقوله الحق نافذ في الكائنات وقيل يوم منصوب بالعطف على السموات أو الهاء في واتقوه أو بمحذوف دل عليه بالحق وقوله الحق مبتدأ وخبر أو فاعل يكون على معنى وحين يقول لقوله الحق أي لقضائه كن فيكون والمراد به حين يكون الأشياء ويحدثها أو حينا تقوم القيامة فيكون التكوين حشر الأموات وإحياءها {وله الملك يوم ينفخ في الصور} كقوله سبحانه وتعالى {لمن الملك اليوم للّه} الواحد القهار {عالم الغيب والشهادة} أي هو عالم الغيب {وهو الحكيم الخبير} كالفذلكة للآية ٧٤ {وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر} هو عطف بيان لأبيه وفي كتب التواريخ أن اسمه تارح فقيل هما علمان له كإسرائيل ويعقوب وقيل العلم تارح وآزر وصف معناه الشيخ أو المعوج ولعل منع صرفه لأنه أعجمي حمل على موازنه أو نعت مشتق من الآزر أو الوزر والأقرب أنه علم أعجمي على فاعل كعابر وشالخ وقيل اسم صنم يعبده فلقب به للزوم عبادته أو أطلق عليه بحذف المضاف وقيل المراد به الصنم ونصبه بفعل مضمر يفسره ما بعده أي أتعبد آزر ثم قال {أتتخذ أصناما آلهة} تفسيرا وتقريرا ويدل عليه أنه قرئ أزرا تتخذ أصناما بفتح همزة آزر وكسرها وهو اسم صنم وقرأ يعقوب بالضم على النداء وهو يدل على أنه علم {إني أراك وقومك في ضلال} عن الحق {مبين} ظاهر الضلالة ٧٥ {وكذلك نري إبراهيم} ومثل هذا التبصير نبصره وهو حكاية حال ماضية وقرئ ترى بالتاء ورفع الملكوت ومعناه تبصره دلائل الربوبية {ملكوت السموات والأرض} ربوبيتها وملكها وقيل عجائبها وبدائعها والملكوت أعظم الملك والتاء فيه للمبالغة {وليكونن من الموقنين} أي ليستدل وليكون أو وفعلنا ذلك ليكون ٧٦ {فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي} تفصيل وبيان لذلك وقيل عطف على قال إبراهيم وكذلك نري اعتراض فإن أباه وقومه كانوا يعبدون الأصنام والكواكب فأراد أن ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم إلى الحق من طريق النظر والاستدلال وجن عليه الليل ستره بظلامه والكواكب كان الزهرة أو المشتري وقوله هذا ربي على سبيل الوضع فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم ثم يكر عليه بالإفساد أو على وجه النظر والاستدلال وإنما قاله زمان مراهقته أو أول أوان بلوغه {فلما أفل} أي غاب {قال لا أحب الآفلين} فضلا عن عبادتهم فإن الانتقال والاحتجاب بالأستار يقتضي الأمام والحدوث وينافي الألوهية ٧٧ {فلما رأى القمر بازغا} مبتدئا في الطلوع قال {هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهديني ربي لأكونن من القوم الظالمين} استعجز نفسه واستعان بربه في درك الحق فإنه لا يهتدي إليه إلا بتوفيقه ارشادا لقومه وتنبيها لهم على أن القمر أيضا لتغير حاله لا يصلح للألوهية وأن من اتخذه إلها فهو ضال ٧٨ {فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي} ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر وصيانة للرب عن شبهة التأنيث {هذا أكبر} كبره استدلالا أو إظهارا لشبهة الخصم {فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون} من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث يحدثها ومخصص يخصصها بما تختص به ثم لما تبرأ منها توجه إلى موجدها ومبدعها الذي دلت هذه الممكنات عليه فقال ٧٩ { إني وجهة وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} وإنما احتج بالأفوال دون البزوغ مع أنه أيضا انتقال لتعدد دلالته ولأنه رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء حين حاول الاستدلال ٨٠ {وحاجه قومه} وخاصموه في التوحيد {قال أتحاجوني في اللّه} في وحدانيته سبحانه وتعالى وقرأ نافع وابن عامر بخلاف عن هشام بتخفيف النون {وقد هدان} إلى توحيده {ولا أخاف ما تشركون به} أي لا أخاف معبوداتكم في وقت لأنها لا تضر بنفسها ولا تنفع {إلا أن يشاء ربي شيئا} أن يصيبني بمكروه من جهتها ولعله جواب لتخويفهم إياه من آلهتهم وتهديدا لهم بعذاب اللّه {وسع ربي كل شيء علما} كأن علة الاستثناء أي أحاط به علما فلا يعبد أن يكون في علمه أن يحيق بي مكروه من جهتها {أفلا تتذكرون} فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز ٨١ {وكيف أخاف ما أشركتم} ولا يتعلق به ضر {ولا تخافون أنكم أشركتم باللّه} وهو حقيق بأن يخاف منه كل الخوف لأنه إشراك للمصنوع بالصانع وتسوية بين المقدور العاجز بالقادر الضار النافع {ما لم ينزل به عليكم سلطانا} ما لم ينزل بإشراكه كتابا أو لم ينصب عليه دليلا {فأي الفريقين أحق بالأمن} أي الموحدون والمشركون وإنما لم يقل أينا أنا أم أنتم أحترازا من تزكية نفسه {إن كنتم تعلمون} ما يحق أن يخاف منه ٨٢ {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} استئناف منه أو من اللّه بالجواب عما استفهم عنه والمراد بالظلم ها هنا الشرك لما روي أو أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة وقال أينا لم يظلم نفسه فقال صلى اللّه عليه وسلم: ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان لابنه يا بني لا تشرك باللّه إن الشرك لظلم عظيم [لقمان:١٣] وليس الإيمان به أن يصدق بوجود الصانع الحكيم ويخلط بهذا التصديق الإشراك به وقيل المعصية ٨٣ {وتلك} إشارة إلى ما احتج به إبراهيم على قومه من قوله فلما جن عليه الليل [الانعام:٧٦] إلى قوله وهم مهتدون أو من قوله أتحاجوّني [الانعام:٨٠] إليه {حجتنا آتيناها إبراهيم} أرشدناه إليها أو علمناه إياها {على قومه} متعلق ب حجتنا إن جعل خبر تلك وبمحذوف إن جعل بدله أي آتيناها إبراهيم حجة على قومه {نرفع درجات من نشاء} في العلم والحكمة وقرأ الكوفيون ويعقوب بالتنوين {إن ربك حكيم} في رفعه وخفضه {عليم} بحال من يرفعه واستعداده له ٨٤ {ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا} أي كلا منهما {ونوحا هدينا من قبل} من قبل إبراهيم عد هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنه أبوه وشرف الوالد يتعدى إلى الولد من ذريته الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ الكلام فيه وقيل لنوح عليه السلام لأنه أقرب ولأن يونس ولوطا ليسا {من ذرية} إبراهيم فلو كان لإبراهيم اختص البيان بالمعدودين في تلك الآية والتي بعدها والمذكورون في الآية الثالثة عطف على نوحا {داود وسليمان وأيوب} أيوب بن أموص من أسباط عيص بن إسحاق {ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين} أي ونجزي المحسنين جزاء مثل ما جزينا إبراهيم برفع درجاته وكثر أولاده والنبوة فيهم ٨٥ {وزكريا ويحيى وعيسى} هو ابن مريم وفي ذكره دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنت {وإلياس} قيل هو إدريس جد نوح فيكون البيان مخصوصا بمن في الآية الأولى وقيل هو من أسباط هارون أخي موسى {كل من الصالحين} الكاملين في الصلاح وهو الإتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي ٨٦ {وإسماعيل واليسع} هو الليسع بن أخطوب وقرأ حمزة والكسائي والليسع وعلى القرأءتين هو علم أعجمي أدخل عليه اللام كما أدخل على اليزيد في قوله رأيت الوليد بن اليزيد مباركا شديدا بأعباء الخلافة كاهله {ويونس} هو يونس بن متى {ولوطا} هو ابن هاران أخي إبراهيم {وكلا فضلنا على العالمين} بالنبوة وفيه دليل على فضلهم على من عداهم من الخلق ٨٧ {ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم} عطف على كلا أو نوحا أي فضلنا كلا منهم أو هدينا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فإن منهم من لم يكن نبيا ولا مهديا {واجتبيناهم} عطف على فضلنا أو هدينا {وهديناهم إلى صراط مستقيم} تكرير لبيان ما هدوا إليه ٨٨ {ذلك هدى اللّه} إشارة إلى ما دانوا به {يهدي به من يشاء من عباده} دليل على أنه متفضل عليهم بالهداية {ولو أشركوا} أي ولو أشرك هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع فضلهم وعلو شأنهم {لحبط عنهم ما كانوا يعملون} لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم بسقوط ثوابها ٨٩ {أولئك الذين آتيناهم الكتاب} يريد به الجنس {والحكم} الحكمة أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق {والنبوة} والرسالة {فإن يكفر بها} أي بهذه الثلاثة {هؤلاء} يعني قريشا {فقد وكلنا بها} أي بمراعاتها {قوم ليسوا بها كافرين} وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون ومتابعوهم وقيل هم الأنصار أو أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم أو كل من آمن به أو الفرس وقيل الملائكة ٩٠ {أولئك الذين هدى اللّه} يريد الأنبياء عليه الصلاة والسلام المتقدم ذكرهم {فبهداهم اقتده} فاختص طريقهم بالاقتداء والمراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين دون الفروع المختلف فيه فإنها ليست هدى مضافا إلى الكل ولا يمكن التأسي بها جميعا فليس فيه دليل على أنه صلى اللّه عليه وسلم متعبد بشرع من قبله والهاء في اقتده للوقف ومن أثبتها في الدرج ساكنة كابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم أجرى الوصل مجرى الوقف ويحذف الهاء في الوصل خاصة حمزة والكسائي وأشبعها بالكسر ابن عامر برواية ابن ذكوان على أنها كناية المصدر وكسرها بغير إشباع برواية هشام {قل لا أسألكم عليه} أي على التبليغ أو القرأن {أجرا} جعلا من جهتكم كما لم يسأل من قبل من النبيين وهذا من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه {إن هو} أي التبليغ أو القرأن أو الغرض {إلا ذكرى للعالمين} إلا تذكيرا وموعظة لهم ٩١ {وما قدروا اللّه حق قدره} وما عرفوه حق معرفته في الرحمة والإنعام على العباد إذ قالوا {ما أنزل اللّه على بشر من شيء} حين أنكروا الوحي وبعثه الرسل عليهم الصلاة والسلام وذلك من عظائم رحمته وجلائل نعمته أو في السخط على الكفار وشدة البطش بهم حين جسروا على هذه المقالة والقائلون هم اليهود قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرأن بدليل نقض كلامهم وإلزامهم بقوله {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس} وقرأءة الجمهور {تجعلونه قرأطيس تبدونها وتخفون كثيرا} بالتاء وإنما قرأ بالياء ابن كثير وأبو عمرو حملا على قالوا وما قدروا وتضمن ذلك توبيخهم على سوء جهلهم بالتوراة وذمهم على تجزئتها بإبداء بعض انتخبوه وكتبوه في ورقات متفرقة وإخفاء بعض لا يشتهونه وروي أن مالك بن الصيف قاله لما أغضبه الرسول صلى اللّه عليه وسلم بقوله أنشدك اللّه الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيه أن اللّه يبغض الحبر السمين قال نعم إن اللّه يبغض الحبر السمين قال صلى اللّه عليه وسلم: فأنت الحبر السمين وقيل هم المشركون وإلزامهم بإنزال التوراة لأنه كان من المشهودات الذائعة عندهم ولذلك كانوا يقولون لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدي منهم {وعلمتم} على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم {ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم} زيادة على ما في التوراة وبيانا لما التبس عليكم وعلى آبائكم الذين كانوا أعلم منكم ونظيره إن هذا القرأن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم {فيه يختلفون} وقيل الخطاب لمن آمن من قريش {قل اللّه} أي أنزله اللّه أو اللّه أنزله أمره بأن يجيب عنهم إشعارا بأن الجواب متعين لا يمكن غيره وتنبيها على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب {ثم ذرهم في خوضهم} في أباطيلهم فلا عليك بعد التبليغ وإلزام الحجة {يلعبون} حال من هم الأول والظرف صلة ذرهم أو يلعبون أو حال منهم الأول والظرف صلة ذرهم أو يلعبون أو حال من مفعوله أو فاعل يلعبون أو من هم الثاني والظرف متصل بالأول ٩٢ {وهذا كتاب أنزلنا مبارك} كثير الفائدة والنفع {مصدق الذي بين يديه} يعني التوراة أو الكتب التي قبله {ولتنذر أم القرى} عطف على ما دل عليه مبارك أي للبركات ولتنذر أو علة لمحذوف أي ولتنذر أهل أم القرى أنزلناه وإنما سميت مكة بذلك لأنها قبلة أهل القرى ومحجهم ومجتمعهم وأعظم القرى شأنا وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء ولينذر الكتاب {ومن حولها} أهل الشرق والغرب {والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون} فإن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر حتى يؤمن بالنبي والكتاب والضمير يحتملهما ويحافظ على الطاعة وتخصيص الصلاة لأنها عماد الدين وعلم الإيمان ٩٣ {ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا} فزعم أنه بعثه نبيا كمسيلمة والأسود العنسي أو اختلق عليه أحكاما كعمرو بن لحي ومتابعيه {أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء} كعبد اللّه بن سعد بن أبي سرح كان يكتب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما نزلت {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} فلما بلغ قوله {ثم أنشأناه خلقا آخر} قال عبد اللّه فتبارك اللّه أحسن الخالقين تعجبا من تفصيل خلق الإنسان فقال صلى اللّه عليه وسلم: اكتبها فكذلك نزلت فشك عبد اللّه وقال لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال ومن قال سنزل مثل ما أنزل اللّه كالين قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا {ولو ترى إذ الظالمون} حذف مفعوله لدلالة الظرف عليه أي ولو ترى الظالمين {في غمرات الموت} شدائده من غمره الماء إذا غشيه والملائكة باسطو أيديهم بقبض أرواحهم كالمتاقضي الملظ أو بالعذاب {أخرجوا أنفسكم} أي يقولون لهم أخرجوها إلينا من أجسادكم تغليظا وتعنيفا عليهم أو أخرجوها من العذاب وخلصوها من أيدينا اليوم يريدون وقت الإماتة أو الوقت الممتد من الإماتة إلا ما لا نهاية له {تجزون عذاب الهون} أي الهوان يريدون العذاب المتضمن لشدة وإهانة فإضافته إلى الهون لعراقته وتمكنه فيه {بما كنتم تقولون على اللّه غير الحق} كادعاء الولد والشريك له ودعوى النبوة والوحي كاذبا {وكنتم عن آياته تستكبرون} فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون ٩٤ {ولقد جئتمونا} للحساب والجزاء {فرادى} منفردين عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى وقرئ فراد كرخال وفراد كثلاث وفردى كسكرى {كما خلقناكم أول مرة} بدل من أنه أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد أو حال ثانية إن جوز التعدد فيها أو حال من الضمير في فرادى أي مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلا بهم أو صفة مصدر جئتمونا أي مجيئنا كما خلقناكم {وتركتم ما خولناكم} ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة {وراء ظهوركم} ما قدمت منهم شيئا ولم تحتملوا نقيرا {وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء} أي شركاء للّه في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم {لقد تقطع بينكم} أي تقطع وصلكم وتشدد جمعكم والبين من الأضداد يستعمل للوصل والفصل وقيل هو الظرف أسند إليه الفعل اتساعا والمعنى وقع التقطع بينكم ويشهد له قرأءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه أو أقيم مقام موصوفة وأصله لقد تقطع ما بينكم وقد قرئ به وظل عنهم ضاع وبطل {ما كنتم تزعمون} أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء ٩٥ {إن اللّه فالق الحب والنوى} بالنبات والشجر وقيل المراد به الشقاق الذي في الحنطة والنواة {يخرج الحي} يريد به ما ينمو من الحيوان والنبات ليطابق ما قبله {من الميت} مما لا ينمو كالنطف والحب {ومخرج الميت من الحي} ومخرج ذلك من الحيوان والنبات ذكره بلفظ الاسم حملا على فالق الحب فإن قوله يخرج الحي واقع موقع البيان له {ذلكم اللّه} أي ذلكم المحي المميت هو الذي يحق له العبادة {فأنا تؤفكون} تصرفون عنه إلى غيره ٩٦ {فالق الإصباح} شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل أو عن بياض النهار أو شاق ظلمة الإصباح وهو الغبش الذي يليه والإصباح في الأصل مصدر أصبح إذا دخل في الصباح سمي به الصبح وقرئ بفتح الهمزة على الجمع وقرئ {فالق الإصباح} بالنصب على المدح {وجاعل الليل سكنا} يسكن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه من سكن إليه إذا اطمأن إليه استئنافا به أو يسكن فيه الخلق من قوله تعالى {لتسكنوا فيه} [يونس:٦٧] ونصبه بفعل دل عليه جاعل لا به فإن في معنى الماضي ويدل عليه قرأءة الكوفيين {وجعل الليل} [الأنعام: ٩٦] حملا على معنى المعطوف عليه فإن فالق بمعنى فلق ولذلك قرئ به أو به على أن المراد منه جعل مستمر في الأزمنة المختلفة وعلى هذا يجوز أن يكون {والشمس والقمر} عطفا على محل الليل ويشهد له قرأءتهما بالجر والأحسن نصبهما بجعل مقدرا وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مجعولان {حسبانا} أي على أدوار مختلفة يحسب بهما الأوقات ويكونان علمي الحسبان وهو مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب وقيل جمع حساب كشهاب وشهبان ذلك إشارة إلى جعلهما حسبانا أي {ذلك} التيسير بالحساب المعلوم {تقدير العزيز} الذي قهرهما وسيرهما على الوجه المخصوص {العليم} بتدبيرهما والأنفع من التداوير الممكنة لهما ٩٧ {وهو الذي جعل لكم النجوم} خلقها لكم {لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} في ظلمات الليل في البر والبحر وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة وهو إفراد لبعض منافعها بالذكر بعد ما أجملها بقوله لكم {قد فصلنا الآيات} بيناها فصلا فصلا {لقوم يعلمون} فإنهم المنتفعون به ٩٨ {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة} هو آدم عليه الصلاة والسلام {فمستقر ومستودع} أي فلكم استقرأر في الأصلاب أو فوق الأرض واستيداع في الأرحام أو تحت الأرض أو موضع استقرأر واستيداع وقرأ ابن كثير والبصريان بكسر القاف على أنه اسم فاعل والمستودع اسم مفعول أي فمنكم قال ومنكم مستودع لأن الاستقرأر منا دون الاستيداع {قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} ذكر من ذكر النجوم يعلمون لأن أمرها ظاهر ومع ذلك تخليق بني آدم يفقهون لأن إنشاءهم من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى استعمال فطنة وتدقيق نظر ٩٩ {وهو الذي أنزل في السماء ماء} من السحاب أو من جانب السماء {فأخرجنا} على تلوين الخطاب {به} بالماء {نبات كل شيء} نبت كل صنف من النبات والمعنى إظهار القدرة في إنبات الأنواع المختلفة المفننة المسقية بماء واحد كما في قوله سبحانه وتعالى {يسقى بماء واحد} ونفضل بعضها على بعض في الأكل {فأخرجنا منه} من النبات أو الماء خضرا شيئا أخضر يقال أخضر وخضر كأعور وعور وهو الخارج من الحبة المتشعب {نخرج منه} من الخضر {حبا متراكبا} وهو السنبل {ومن النخل من طلعها قنوان} أي وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان أو من النخل شيء من طلعها قنوان ويجوز أن يكون من النخل خبر قنوان ومن طلعها بدل منه والمعنى وحاصلة من طلع النخل قنوان وهو الأعذاق جمع قنو كصنوان جمع صنو وقرئ بضم القاف كذئب وذؤبان وبفتحها على أنه اسم جمع إذ ليس فعلان من أبنية الجمع دانية قريبة من المتناول أو متلفة قريب بعضها من بعض وإنما اقتصر على ذكرها عن مقابلها لدلالتها عليه وزيادة النعمة فيها {وجنات من أعناب} عطف على نبات كل شيء وقرأ نافع بالرفع على الابتداء أي ولكم أو ثم جنات أو من الكرم جنات ولا يجوز عطفه على قنوان إذ العنب لا يخرج من النخل {والزيتون والرمان} أيضا عطف على نبات أو نصب على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عنده {مشتبها وغير متشابه} حال من الرمان أو من الجميع أي بعض ذلك متشابه وبعضه غير متشابه في الهيئة والقدر واللون والطعم {انظروا إلى ثمره} أي ثمر كل واحد من ذلك وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء والميم وهو جمع ثمرة كخشبة وخشب أو ثمار ككتاب وكتب {إذا أثمر} إذا أخرج ثمره كيف يثمر ضئيلا لا يكاد ينتفع به {وينعه} وإلى حال نضجه أو إلى نضيجة كيف يعود ضخما ذا نفع ولذة وهو في الأصل مصدر ينعت الثمر إذا أدركت وقيل جمع يانع كتاجر وتجر وقرئ بالضم وهو لغة فيه ويانعة {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} أي لآيات دالة على وجود القادر الحكيم وتوحيده فإن حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المتفننة من أصل واحد ونقلها من حال إلى حال لا يكون إلا بإحداث قادر يعلم تفاصيلها ويرجع ما يقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها ولا يعوقه عن فعله ند يعارضه أو ضد يعانده ولذلك عقبه بتوبيخ من أشرك به والرد عليه فقال ١٠٠ {وجعلوا للّه شركاء الجن} أي الملائكة بأن عبدوهم وقالوا الملائكة بنات اللّه وسماهم جنا لاجتنانهم تحقيرا لشأنهم أو الشياطين لأنهم أطاعوهم كما يطاع اللّه تعالى أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم أو قالوا اللّه خالق الخير وكل نافع والشيطان خالق الشر وكل ضار كما هو رأي الثنوية ومفعول جعلوا {للّه شركاء} والجن بدل من شركاء أو شركاء الجن و للّه متعلق ب شركاء أو حال منه وقرئ الجن بالجن كأنه قيل من هم فقيل الجن و الجن بالجر على الإضافة للتبيين {وخلقهم} حال بتقدير قد والمعنى وقد علموا أن اللّه خالقهم دون الجن وليس من يخلق كمن لا يخلق وقرئ وخلقهم عطفا على الجن أي وما يخلقونه من الأصنام أو على شركاء أي وجعلوا له اختلافهم للإفك حيث نسبوه إليه {وخرقوا له} افتعلو وافتروا له وقرأ نافع بتشديد الراء للتكثير وقرئ وحرفوا أي وزوروا {بنين وبنات} فقالت اليهود عزير ابن اللّه وقالت النصارى المسيح ابن اللّه وقالت العرب الملائكة بنات اللّه {بغير علم} من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه ويروا عليه دليلا وهو في موضع الحال من الواو أو المصدر أي خرقا بغير علم {سبحانه وتعالى عما يصفون} وهو أن له شريكا أو ولدا ١٠١ {بديع السموات والأرض} من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أو إلى الظرف كقولهم ثبت العذر بمعنى أنه عديم النظير فيهما وقيل معناه المبدع وقد سبق الكلام فيه ورفعه على الخبر والمبتدأ محذوف أو على الابتداء وخبره أنا {يكون له ولد} أي من أين أو كيف يكون له ولد {ولم تكن له صاحبة} يكون منها الولد وقرئ بالياء للفصل أو لأن الاسم ضمير اللّه أو ضمير الشأن {وخلقوا كل شيء وهو بكل شيء عليم} لا تخفى عليه خافية وإنما لم يقل به لتطرق التخصيص إلى الأول وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه الأول أنه من مبتدعاته السموات والأرضون وهي مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة مبرأة عنها لاستمرارها وطول مدتها فهو أولى بأن يتعالى عنها أو أن ولد الشيء نظيره ولا نظير له فلا ولد والثاني أن المعقول من الولد ما يتولد من ذكر وأنثى متجانسين واللّه سبحانه وتعالى منزه عن المجانسة والثالث أن الولد كفؤ الوالد ولا كفؤ له لوجهين الأول أن كل ما عداه مخلوقه فلا يكافئه والثاني أنه سبحانه وتعالى لذاته عالم بكل المعلومات ولا كذلك غيره بالإجماع ١٠٢ {ذلكم} إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصفات وهو مبتدأ {اللّه ربكم لا إله إلا هو خالق كل شي} أخبار مترادفة ويجوز أن يكون البعض بدلا أو صفة والبعض خبرا {فاعبدوه} حكم مسبب عن مضمونها فإن من استجمع هذه الصفات استحق العبادة {وهو على كل شيء وكيل} أي وهو مع تلك الصفات متولي أمورهم فكلوها إليه وتوسلوا بعبادته إلى إنجاح مآربكم ورقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها ١٠٣ {لا تدركه} أي لا تحيط به {الأبصار} جمع بصر وهي حاسة النظر وقد يقال للعين من حيث إنها محلها واستدل به المعتزلة على امتناع الرؤية وهو ضعيف إذ ليس الإدراك مطلق الرؤية ولا النفي في الآية عاما في الأوقات فلعله مخصوص ببعض الحالات ولا في الأشخاص فإنه في قوة قولنا لا كل بصر يدركه مع أن النفي لا يوجب الامتناع {وهو يدرك الأبصار} يحيط علمه بها {وهو اللطيف الخبير} فيدرك ما لا تدركه الأبصار كالأبصار ويجوز أن يكون من باب اللف أي لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير فيكون اللطيف مستعارا من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها ١٠٤ {قد جاءكم بصائر من ربكم} البصائر جمع بصيرة وهي للنفس كالبصر للبدن سميت بها لدلالة لأنها تجلي لها الحق وتبصرها به {فمن أبصر} أي أبصر الحق وآمن به فلنفسه أبصر لأن نفعه لها {ومن عمي} عن الحق وظل فعليها وباله {وما أنا عليكم بحفيظ} وإنما أنا منذر واللّه سبحانه وتعالى هو الحفيظ عليكم ليحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها وهذا كلام ورد على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام ١٠٥ {وكذلك نصرف الآيات} ومثل هذا التصريف نصرف وهو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة من الصرف وهو نقل الشيء من حال إلى حال {وليقولوا درست} أي وليقولوا درست صرفنا واللام لام العاقبة والدرس القرأءة والتعلم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو دارست أي دارست أهل الكتاب وذاكرتهم وابن عامر ويعقوب درست من الدروس أي قدمت هذه الآيات وعفت كقولهم أساطير الأولين [الانفال:٣١] وقرئ درست بضم الراء مبالغة في درست ودرست على البناء للمفعول بمعنى قرئت أو عفيت ودارست بمعنى درست أو دارست اليهود محمدا صلى اللّه عليه وسلم وجاز إضمارهم بلا ذكر لشهرتهم بالدراسة ودرسنا أي عنون ودرس أي درس محمد صلى اللّه عليه وسلم ودارسات أي قديمات أو ذوات درس كقوله تعالى {في عيشة راضية}[الحاقة: ٢١] {ولنبينه} اللام على أصله لأن التبيين مقصود التصريف والضمير للآيات باعتبار المعنى أو للقرأن وإن لم يذكر لكونه معلوما أو للمصدر {لقوم يعلمون} فإنهم المنتفعون به ١٠٦ {اتبع ما يوحي إليك من ربك} بالتدين به {لا إله إلا هو} اعتراض أكد به إيجاب الأتباع أو حال مؤكدة من ربك بمعنى منفردا في الألوهية {وأعرض عن المشركين} ولا تحتفل بأقوالهم ولا تلتفت إلى آرائهم ومن جعله منسوخا بآية السيف حمل الإعراض على ما يعم الكف عنهم ١٠٧ {ولو شاء اللّه} توحيدهم وعدم إشراكهم {ما أشركوا} وهو دليل على أنه سبحانه وتعالى لا يريد إيمان الكافرين وأن مراده واجب الوقوع {وما جعلناك عليهم حفيظا} رقيبا {وما أنت عليهم بوكيل} تقوم بأمورهم ١٠٨ {ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه} أي ولا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح {فيسبوا اللّه عدوا} تجاوزا عن الحق إلى الباطل {بغير علم} على جهالة باللّه سبحانه وتعالى وبما يجب أن يذكر به وقرأ يعقوب عدوا يقال عدا فلان عدوا وعدوا وعداء وعدوانا روي أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يطعن في آلهتهم فقالوا لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهك فنزلت وقيل كان المسملون يسبونها فنهوا لئلا يكون سبهم سبا لسب اللّه سبحانه وتعالى وفيه دليل على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر {كذلك زينا لكل أمة عملهم} من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقا وتخذيلا ويجوز تخصيص العمل بالشر وكل أمة بالكفرة لأن الكلام فيهم والمشبه به تزيين سب اللّه لهم {ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون} بالمحاسبة والمجازاة عليهم ١٠٩ {وأقسموا باللّه جهد أيمانهم} مصدر في موقع الحال والداعي لهم إلى هذا القسم والتأكيد فيه التحكم على الرسول صلى اللّه عليه وسلم في طلب الآيات واستحقار ما رأوا منها {لئن جاءتهم آية} من مقترحاتهم {ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند اللّه} هو قادر عليها يظهر منها ما يشاء وليس شيء منها بقدرتي وإرادتي {وما يشعركم} وما يدريكم استفهام إنكار أنها أي أن الآية المقترحة {إذا جاءت لا يؤمنون} أي لا تدرون أنهم لا يؤمنون أنكر السبب مبالغة في نفي المسبب وفيه تنبيه على أنه سبحانه وتعالى إنما لم ينزلها لعلمه بأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وقيل لا مزيدة وقيل أن بمعنى لعل إذ قرئ لعلها قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب إنها بالكسر كأنه قال وما يشعركم ما يكون منهم ثم أخبركم بما علم منهم والخطاب للمؤمنين فإنه يتمنون مجيء الآية طمعا في إيمانهم فنزلت وقيل للمشركين إذ قرأ ابن عامر وحمزة {لا تؤمنون} بالتاء وقرئ وما يشعركم أنها إذا جاءتهم فيكون إنكارا لهم على حلفهم أي وما يشعرهم أن قلوبهم حينئذ لم تكن مطبوعة كما كانت عند نزول القرأن وغيره من الآيات فيؤمنون بها ٠١١ {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم} عطف على لا يؤمنون أي وما يشعركم أنا حينئذ يقلب أفئدتهم عن الحق فلا يفقهونه وأبصارهم فلا ينصرونه فلا يؤمنون بها {كما لم يؤمنوا به} أي بما أنزل من الآيات {أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون} وندعهم متحيرين لا نهديهم هداية المؤمنين وقرئ ويقلب و يذرهم على الغيبة و تقلب على البناء للمفعول والإسناد إلى الأفئدة ١١١ {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا} كما اقترحوا فقالوا لولا أنزل علينا الملائكة فأتوا بآياتنا {أو تأتي باللّه والملائكة قبيلا} وقبلا جمع قبيل بمعنى كفيل أي كفلاء بما بشروا به وأنذروا به أو جمع قبيل الذي هو جمع قبيل بمعنى جماعات أو مصدر بمعنى مقابلة كقبلا وهو قرأءة نافع وابن عامر وهو على الوجوه حال من كل وإنما جاز ذلك لعمومه {ما كانوا ليؤمنوا} لما سبق عليهم القضاء بالكفر {إلا أن يشاء اللّه} استثناء من أعم الأحوال أي لا يؤمنون في حال من الأحوال إلا حال مشيئة اللّه تعالى إيمانهم وقيل منقطع وهو حجة واضحة على المعتزلة {ولكن أكثرهم يجهلون} أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون باللّه جهد أيمانهم على ما لا يشعرون ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم مع أن مطلق الجهل يعمهم أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعا في إيمانهم ٢١١ {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا} أي كما جعلنا لك عدوا جعلنا لكل نبي سبقك عدوا وهو دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بفعل اللّه سبحانه وتعالى وخلقه {شياطين الإنس والجن} مردة الفريقين وهو بدل من عدوا أو أول مفعولي جعلنا و عدوا مفعوله الثاني ولكل متعلق به أو حال منه {يوحي بعضهم إلى بعض} يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس أو بعض الجن إلى بعض وبعض الإنس إلى بعض {زخرف القول} الأباطيل المموهة منه من زخرفة إذا زينه غرورا مفعول له أو مصدر في موقع الحال {ولو شاء ربك} إيمانهم {ما فعلوه} أي ما فعلوا ذلك يعني معاداة الأنبياء عليه الصلاة والسلام وإيحاء الزخارف ويجوز أن يكون الضمير للإيحاء أو الزخرف أو الغرور وهو أيضا دليل على المعتزلة {فذرهم وما يفترون} وكفرهم ٣١١ {ولتصغى إليهم أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة} عطف على غرورا إن جعل علة أو متعلق بمحذوف أي وليكون ذلك {جعلنا لكل نبي عدوا} والمعتزلة لما اضطروا فيه قالوا اللام لام العاقبة أو لام القسم كسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون أو لام الأمر وضعفه أظهر والصغو الميل والضمير لما له الضمير في فعلوه {وليرضوه} لأنفسهم {وليقترفوا} وليكتسبوا {ما هم مقترفون} من الآثام ٤١١ {أفغير اللّه أبتغي حكما} على إرادة القول أي قل لهم يا محمد أفغير اللّه أطلب من يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل و غير مفعول أبتغي و حكما حال منه ويحتمل عكسه و حكما أبلغ من حاكم ولذلك لا يوصف به غير العادل {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب} القرأن المعجز مفصلا مبينا فيه الحق والباطل بحيث ينفي التخليط والالتباس وفيه تنبيه على أن القرأن بإعجازه وتقريره مغن عن سائر الآيات {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} تأييد لدلالة الإعجاز على أن القرأن حق منزل من عند اللّه سبحانه وتعالى يعلم أهل الكتاب به لتصديقه ما عندهم مع أنه صلى اللّه عليه وسلم لم يمارس كتبه ولم يخالط علماءهم وإنما وصف جميعهم بالعلم لأن أكثرهم يعلمون ومن لم يعلم فهو متمكن منه بأدنى تأمل وقيل المراد مؤمنون أهل الكتاب وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم منزل بالتشديد {فلا تكونن من الممترين} في أنهم يعلمون ذلك أو في أنه منزل لجحود أكثرهم وكفرهم به فيكون من باب التهييج كقوله تعالى {ولا تكونن من المشركين} [يونس: ١٠٥] أو خطاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم لخطاب الأمة وقيل الخطاب لكل أحد على معنى أن الأدلة لما تعاضدت على صحته فلا ينبغي لأحد أن يمتري فيه ٥١١ {وتمت كلمة ربك} بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده {صدقا} في الأخبار والمواعيد {وعدلا} في الأقضية والأحكام ونصيبهما يحتمل التمييز والحال والمفعول له {لا مبدل لكلماته} لا أحد يبدل شيئا منها بما هو أصدق وأعدل أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعا ذائعا كما فعل بالتوراة على أن المراد بها القرأن فيكون ضمانا لها من اللّه سبحانه وتعالى بالحفظ كقوله وإنا له لحافظون [يوسف:١٢] أو لا نبي ولا كتاب بعدها ينسخها ويبدل أحكامها وقرأ الكوفيون ويعقوب {كلمة ربك} أي ما تكلم به أو القرأن {وهو السميع} لما يقولون {العليم} بما يضمرون فلا يهملهم ٦١١ {وإن تطع أكثر من في الأرض} أي أكثر الناس يريد الكفار أو الجهال أو اتباع الهوى وقيل الأرض أرض مكة {يضلوك عن سبيل اللّه} عن الطريق الموصل إليه فإن الضال في غالب الأمر لا يأمر إلا بما هو ضلال {إن يتبعون إلا الظن} وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على حق أو جهالاتهم وآرائهم الفاسدة فإن الظن يطلق على ما يقابل العلم {وإن هم إلا يخرصون} يكذبون على اللّه سبحانه وتعالى فيما ينسبون إليه كاتخاذ الولد وجعل عبادة الأوثان وصلة إليه وتحليل الميتة وتحريم البحائر أو يقدرون أنهم على شيء وحقيقته ما يقال عن ظن وتخمين ٧١١ {إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} أي أعلم بالفريقين و من موصولة أو موصوفة في محل النصب يفعل دل عليه أعلم لا به فإن أفعل لا ينصب الظاهر في مثل ذلك أو استفهامية مرفوعة بالابتداء والخبر يضل والجملة معلق عنها الفعل المقدر وقرئ من يضل أي يضله اللّه فتكون من منصوبة بالفعل المقدر أو مجرورة بإضافة أعلم إليه أي أعلم المضلين من قوله تعالى {من يضلل اللّه} [الاعراف:١٨٦] أو من أضللته إذا وجدته ضالا والتفضيل في العلم بكثرته وإحاطته بالوجوه التي يمكن تعلق العلم بها ولزومه وكونه بالذات لا بالغير ٨١١ {فكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه} مسبب على إنكار اتباع المضلين الذين يحرمون الحلال ويحللون الحرام والمعنى كلوا مما ذكر اسم اللّه على ذبحه لا مما ذكر عليه اسم غيره أو مات حتف أنفه {إن كنتم بآياته مؤمنين} فإن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحله اللّه سبحانه وتعالى واجتناب ما حرمه ٩١١ {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه} وأي غرض لكم في أن تتحرجوا عن أكله وما يمنعكم عنه {وقد فصل لكم ما حرم عليكم} مما لم يحرم بقوله {حرمت عليكم الميتة} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر فصل على البناء للمفعول ونافع ويعقوب وحفص حرم على البناء للفاعل {إلا ما اضطررتم إليه} مما حرم عليكم فإنه أيضا حلال حال الضرورة {وإن كثير ليضلون} بتحليل الحرام وتحريم الحلال قرأ الكوفيون بضم الياء والباقون بالفتح {بأهوائهم بغير علم} بتشبيههم من غير تعلق بدليل يفيد العلم {إن ربك هو أعلم بالمعتدين} بالمجاوزين الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام ١٢٠ {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} ما يعلن وما يسر أو ما بالجوارح وما بالقلب وقيل الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخدان {إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون} يكتسبون ١٢١ {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه} ظاهر في تحريم متروك التسمية عمدا أو نسيانا وإليه ذهب داود وعن أحمد مثله وقال مالك والشافعي بخلافه لقوله صلى اللّه عليه وسلم: ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم اللّه عليه وفرق أبو حنيفة رحمه اللّه بين العمد والنسيان وأوله بالميتة أو بما ذكر غير اسم اللّه عليه لقوله {وإنه لفسق} فإن الفسق ما أهل لغير اللّه به والضمير لما ويجوز أن يكون للأكل الذي دل عليه ولا تأكلوا {وإن الشياطين ليوحون} ليوسوسون {إلى أوليائهم} من الكفار {ليجادلوكم}بقولهم تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله اللّه وهو يؤيد التأويل بالميتة {وإن أطعتموهم} في استحلال ما حرم {إنكم لمشركون} فإن من ترك طاعة اللّه تعالى إلى طاعة غيره واتبعه في دينه فقد أشرك وإنما حسن حذف الفاء فيه لأن الشرط بلفظ الماضي ١٢٢ {أو من كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس} مثل به من هداه اللّه سبحانه وتعالى وأنقذه من الضلال وجعل له نور الحجج والآيات يتأمل بها في الأشياء فيميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل وقرأ نافع ويعقوب ميتا على الأصل {كمن مثله} صفته وهو مبتدأ خبره {في الظلمات} وقوله {ليس بخارج منها} حال من المستكن في الظرف لا من الهاء في مثله للفصل وهو مثل لمن بقي على الضلالة لا يفارقها بحال {كذلك} كما زين للمؤمنين إيمانهم {زين للكافرين ما كانوا يعملون} والآية نزلت في حمزة وأبي جهل وقيل في عمر أو عمار وأبي جهل ١٢٣ {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها} أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها لميكروا فيها و جعلنا بمعنى صيرنا ومفعولاه أكابر مجرميها على تقديم المفعول الثاني أو في كل قرية أكابر و مجرميها بدل ويجوز أن يكون مضافا إليه إن فسر الجعل بالتمكين وأفعل التفضيل إذا أضيف جاز فيه الإفراد والمطابقة ولذلك قرئ أكبر مجرميها وتخصيص الأكابر لأنهم أقوى من استتباع الناس والمكر بهم {وما يمكرون إلا بأنفسهم} لأن وباله يحيق بهم {وما يشعرون} ذلك ١٢٤ {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه} يعني كفار قريش لما روي أن أبا جهل قال زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحي إليه واللّه لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت {اللّه أعلم حيث يجعل رسالته} استئناف للرد عليهم بأن النبوة ليست بالنسب والمال وإنما هي بفضائل نفسانية يخص اللّه سبحانه وتعالى بها من يشاء من عباده فيجتبي لرسالاته من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم رسالته {سيصيب الذين أجرموا صغار} ذل وحقارة بعد كبرهم عند اللّه يوم القيامة وقيل تقديره من {عند اللّه وعذاب شديد بما كانوا يمكرون} بسبب مكرهم أو جزاء على مكرهم ١٢٥ {فمن يرد اللّه أن يهديه} يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان {يشرح صدره للإسلام} فيتسع له وينفسح فيه مجاله وهو كناية عن جعل النفس قابلة للحق مهيأة لحلوله فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه وإليه أشار إليه أفضل الصلاة والسلام حين سأل عنه فقال نور يقذفه اللّه سبحانه وتعالى في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح فقالوا هل لذلك من أمارة يعرف بها فقال نعم الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يدخله الإيمان وقرأ ابن كثير ضيقا بالتخفيف ونافع وأبو بكر عن عاصم حرجا بالكسر أي شديد الضيق والباقون بالفتح وصفا بالمصدر {كأنما يصعد في السماء} شبهة مبالغة في ضيق صدره بمن يزاول ما لا يقدر عليه فإن صعود السماء مثل فيما يبعد عن الاستطاعة ونبه به على أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع الصعود وقيل معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق وتباعدا في الهرب منه وأصل يصعد يتصعد وقد قرئ به وقرأ ابن كثير يصعد وأبو بكر عن عاصم يصاعد بمعنى يتصاعد {كذلك} أي كما يضيق صدره ويبعد قلبه عن الحق {يجعل اللّه الرجس على الذين لا يؤمنون} يجعل العذاب أو الخذلان عليهم فوضع الظاهر موضع المضمر للتعليل ١٢٦ {وهذا} إشارة إلى البيان الذي جاء به القرأن أو إلى الإسلام أو ما سبق من التوفيق والخذلان {صراط ربك} الطريق الذي ارتضاه أو عادته وطريقه الذي اقتضته حكمته {مستقيما} لا عوج فيه أو عادلا مطردا وهو حال مؤكدة كقوله وهو الحق مصدقا [البقرة:٩١] أو مقيدة والعامل فيها معنى الإشارة {قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون} فيعلمون أن القادر هو اللّه سبحانه وتعالى وأن كل ما يحدث من خير أو شر فهو بقضائه وخلقه وأنه عالم بأحوال العباد حكيم عادل فيما يفعل بهم ١٢٧ {لهم دار السلام} دار اللّه أضاف الجنة إلى نفسه تعظيما لها أو دار السلامة من المكاره أو دار تحيتهم فيها سلام {عند ربهم} في ضمانه أو ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنهها غيره {وهو وليهم} مواليهم أو ناصرهم {بما كانوا يعملون} بسبب أعمالهم أو متوليهم بجزائها فيتولى إيصاله إليهم ١٢٨ {ويوم يحشرهم جميعا} نصب بإضمار أذكر أو نقول والضمير لمن يحشر من الثقلين وقرأ حفص عن عاصم وروح عن يعقوب يحشرهم بالياء {يا معشر الجن} يعني الشياطين {قد استكثرتم من الإنس} أي من إغوائهم وإضلالهم أو منهم جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم كقوله استكثر الأمير من الجنود {وقال أولياؤهم من الإنس} الذين أطاعوهم {ربنا استمتع بعضنا ببعض} أي انتفع الإنس والجن بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها والجن والإنس بأن أطاعوهم وحصلوا مرادهم وقيل استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز وعند المخاوف واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم يقدرون على إجازتهم {وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} أي البعث وهو اعتراف بما فعلوه من طاعة الشيطان واتباع الهوى وتكذيب البعث وتحسر على حالهم {قال النار مثواكم} منزلكم أو ذات مثواكم {خالدين فيها} حال والعامل فيها مثواكم إن جعل مصدرا ومعنا الإضافة إن جعل مكانا {إلا ما شاء اللّه} إلا الأوقات التي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير وقيل إلا ما شاء اللّه قبل الدخول كأنه قيل النار مثواكم أبدا إلى ما أمهلكم {إن ربك حكيم} في أفعاله {عليم} بأعمال الثقلين وأحوالهم ١٢٩ {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا} نكل بعضهم إلى بعض أو نجعل بعضهم يتولى بعضا فيغويهم أولياء بعض وقرناءهم في العذاب كما كانوا في الدنيا {بما كانوا يكسبون} من الكفر والمعاصي ١٣٠ {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} الرسل من الإنس خاصة لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح ذلك ونظيره يخرج منه اللؤلؤ والمرجان والمرجان يخرج من الملح دون العذب وتعلق بظاهره قوم وقالوا بعث إلى كل من الثقلين رسل من جنسهم وقيل الرسل من الجن رسل الرسل إليهم لقوله تعالى {ولوا إلى قومهم منذرين} [الأحقاف: ٢٩] {يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا} يعني يوم القيامة {قالوا} جوابا {شهدنا على أنفسنا} بالجرم والعصيان وهو اعتراف منهم بالكفر واستيجاب العذاب {وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات المخدجة وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد تحذير للسامعين مثل حالهم ذلك إشارة إلى إرسال الرسل وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ١٣١ {ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} تعليل للحكم وأن مصدرية أو مخففة من الثقيل ة أي الأمر لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك أهل القرى بسبب ظلم فعلوه أو ملتبسين يظلم أو ظالما وهم غافلون لم ينبهوا برسول أو بدل من ذلك ١٣٢ {ولكل} من المكلفين {درجات} مراتب {مما عملوا} من أعمالهم أو من جزائها أو من أجلها {وما ربك بغافل عما يعملون} فيخفى عليه عمل أو قدر ما يستحق به من ثواب أبو عقاب وقرأ ابن عامر بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة ١٣٣ {وربك الغني} عن العباد والعبادة {ذو الرحمة} يترحم عليهم بالتكليف تكميلا لهم ويمهلهم على المعاصي وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتأسيس لما بعده وهو قوله {إن يشأ يذهبكم} أي ما به إليكم حاجة إن يشأ يذهبكم أيها العصاة {ويستخلف من بعدكم ما يشاء} من الخلق {كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين} أي قرن بعد قرن لكنه أنبأكم ترحم عليكم ١٣٤ {إنما توعدون} من البعث وأحواله {لآت} لكائن لا محالة {وما أنتم بمعجزين} طالبكم به ١٣٥ {قل يا قوم أعملوا على مكانتكم} على غاية تمكنكم واستطاعتكم يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن أو على ناحيتكم وجهتكم التي أنتم عليها من قولهم مكان ومكانة كمقام ومقامة وقرأ أبو بكر عن عاصم مكاناتكم بالجمع في كل القرأن وهو أمر تهديد والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم {إني عامل} ما كنت عليه من المصابرة والثبات على الإسلام والتهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد كأن المهدد يريد تعذيبه مجمعا عليه فيحمله بالأمر على ما يفضي به إليه وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن ينقضي عنه {فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار} إن جعل {من} استفهامية بمعنى أينا تكون له عاقبة الدار الحسنى التي خلق اللّه لها هذه الدار فمحلها الرفع وفعل العلم معلق عنه وإن جعلت خبرية فالنصب ب {تعلمون} أي فسوف تعرفون الذي تكون له عاقبة الدار وفيه مع الإنذار إنصاف في المقال وحسن الأدب وتنبيه على وثوق المنذر بأنه محق وقرأ حمزة والكسائي يكون بالياء لأنه تأنيث العاقبة غير حقيقي {إنه لا يفلح الظالمون} وضع الظالمين موضع الكافرين لأنه أعم وأكثر فائدة ١٣٦ {وجعلوا} أي مشركوا العرب {وللّه مما ذرأ} خلق {من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا للّه بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى اللّه وما كان للّه فهو يصل إلى شركائهم} روي أنهم كانوا يعينون شيئا من حرث ونتائج للّه ويصرفونه إلى الضيفان والمساكين وشيئا منهما لآلهتهم وينفقونه على سدنتها ويذبحونه عندها ثم إن رأوا ما عينوا للّه أزكى بدلوه بما لآلهتهم وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حبا لآلهتهم وفي قوله مما ذرأ تنبيه على فرط جهالتهم فإنهم أشركوا الخالق في خلقه جمادا لا يقدر على شيء ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكي له وفي قوله يزعمهم تنبيه على أن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم اللّه به وقرأ الكسائي بالضم في الموضعين وهو لغة فيه وقد جاء فيه الكسر أيضا كالود والود {ساء ما يحكمون} حكمهم هذا ١٣٧ {وكذلك} ومثل ذلك للتزيين في قسمة القربان {زين لكثير من المشركين قتل أولادهم} بالوأد ونحرهم لآلهتهم شركاؤهم من الجن أو من السدنة وهو فاعل زين وقرأ ابن عامر زين على البناء للمفعول الذي هو القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مفصولا بينهما بمفعوله وهو ضعيف في العربية معدود من ضرورات الشعر كقوله فزججتها بمزجة زج القلوص أبي مزاده وقرئ بالبناء للمفعول وجر أولادهم ورفع شركاؤهم بإضمار فعل دل عليه زين {ليردوهم} ليهلكوهم بالإغواء {وليلبسوا عليهم دينهم} وليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به واللام للتعليل أن كان التزيين من الشياطين والعاقبة إن كان من السدنة {ولو شاء اللّه ما فعلوه} ما فعل المشركون ما زين لهم أو الشركاء التزيين أو الفريقان جميع ذلك {فذرهم وما يفترون} افتراءهم أو ما يفترونه من الإفك ١٣٨ { وقالوا هذه} إشارة إلى ما جعل لآلهتهم {أنعام وحرث حجر} حرام فعل بمعنى مفعول كالذبح يستوي فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى وقرئ حجر بالضم وحرج أي مضيق {لا يطعمها إلا من نشاء} يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء {بزعمهم} من غير حجة {وأنعام حرمت ظهورها} يعني البحائر والسوائب والحوامي {وأنعام لا يذكرون اسم اللّه عليه} في الذبح وإنما يذكرون أسماء الأصنام عليها وقيل لا يحجون على ظهورها {افتراء عليه} نصب على المصدر لأن ما قالوا تقول على اللّه سبحانه وتعالى والجار متعلق ب قالوا أو بمحذوف هو صفة له أو على الحال أو على المفعول له والجار متعلق به أو بالمحذوف {سيجزيهم بما كانوا يفترون} بسببه أو بدله ١٣٩ {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام} يعنون أجنة البحائر السوائب {خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا} حلال للذكور خاصة دون الإناث إن ولد حيا لقوله {وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء} فالذكور والإناث فيه سواء وتأنيث الخالصة للمعنى فإن ما في معنى الأجنة ولذلك وافق عاصم في رواية أبي بكر بن عامر في تكن بالتاء وخالفه هو وابن كثير في ميتة فنصب كغيرهم أو التاء فيه للمبالغة كما في رواية الشعر أو هو مصدر كالعافية وقع موقع الخالص وقرئ بالنصب على أنه مصدر مؤكد والخبر لذكورنا أو حال من الضمير الذي في الظرف لا من الذي في ذكورنا ولا من الذكور لأنها لا تتقدم على العامل المعنوي ولا على صاحبها المجرور وقرئ خالصنا بالرفع والنصب و خالصة بالرفع والإضافة إلى الضمير على أنه بدل من ها أو مبتدأ ثان والمراد ما كان حيا والتذكير في فيه لأن المراد بالميتة ما يعم الذكر والأنثى فغلب الذكر {سيجزيهم وصفهم} أي جزاء وصفهم الكذب على اللّه سبحانه وتعالى في التحريم والتحليل من قوله وتصف ألسنتهم الكذب {إنه حكيم عليم} ١٤٠ {قد خسر الذين قتلوا أولادهم} يريد بهم العرب الذين كانوا يقتلون بناتهم مخافة السبي والفقر وقرأ ابن كثير وابن عامر قتلوا بالتشديد بمعنى التكثير {سفها بغير علم} لخفة عقلهم وجهلهم بأن اللّه سبحانه وتعالى رازق أولادهم لا هم ويجوز نصبه على الحال أو المصدر {وحرموا ما رزقهم اللّه} من البحائر ونحوها {افتراء على اللّه} يحتمل الوجوه المذكورة في مثله {قد ضلوا وما كانوا مهتدين} إلى الحق والصواب ١٤١ {وهو الذي أنشأ جنات} من الكروم {معروشات} [الأنعام:١٤١] مرفوعات على ما يحملها {وغير معروشات} ملقيات على وجه الأرض وقيل المعروشات ما غرسه الناس فعرشوه وغير معروشات ما نبت في البراري والجبال والنخل {والزرع مختلفا أكله} ثمره الذي يؤكل في الهيئة والكيفية والضمير للزرع والباقي مقيس عليه أو النخل والزرع داخل في حكمه لكونه معطوفا عليه أو للجميع على تقدير أكل ذلك أو كل واحد منهما ومختلفا حال مقدرة لأنه لم يكن ذلك عند الإنشاء {والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه} يتشابه بعض أفرادهما في اللون والطعم ولا يتشابه بعضهما {كلوا من ثمره} من ثمر كل واحد من ذلك {إذا أثمر} وإن لم يدرك ولم يينع بعد وقيل فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق اللّه تعالى {وآتوا حقه يوم حصاده} يريد به ما كان يتصدق به يوم الحصاد لا الزكاة المقدرة لأنها فرضت بالمدينة والآية مكية وقيل الزكاة والآية مدنية والأمر بإيتائها يوم الحصاد ليهتم به حينئذ حتى لا يؤخر عن وقت الأداء وليعلم أن الوجوب بالإدراك لا بالتنقية وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي حصاده بكسر الحاء وهو لغة فيه {ولا تسرفوا} في التصدق كقوله تعالى {ولا تبسطها كل البسط} [الاسراء:٢٩] {إنه لا يحب المسرفين} لا يرتضي فعلهم ١٤٢ {ومن الأنعام حمولة وفرشا} عطف على جنات أي وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح أو ما يفرش المنسوج من شعره وصوفه ووبره وقيل الكبار الصالحة للحمل والصغار الدانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها {كلوا مما رزقكم اللّه} كلوا مما أحل لكم منه {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} في التحليل والتحريم من عند أنفسكم {إنه لكم عدو مبين} ظاهرة العداوة ١٤٣ {ثمانية أزواج} بدل من حمولة وفرشا أو مفعول كلوا ولا تتبعوا معترض بينهم أو فعل دل عليه أو حال من ما بمعنى مختلفة أو متعددة والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه وقد يقال لمجموعهما والمراد الأول {من الضأن اثنين} زوجين اثنين الكبش والنعجة وهو بدل من ثمانية وقرئ اثنان على الابتداء و الضأن اسم جنس كالإبل وجمعه ضئين أو جمع ضائن كتاجر وتجر وقرئ بفتح الهمزة وهو لغة فيه {ومن المعز اثنين} التيس والعنز وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بالفتح وهو جمع ماعز كصاحب وصحب وحارس وحرس وقرئ المعزى {قل آلذكرين} ذكر الضأن وذكر المعز حرم {أم الأنثيين} أم أنثييهما ونصب الذكران والاثنين بحرم {أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين} أو ما حملت إناث الجنسين ذكرا كان أو أنثى {نبئوني بعلم} بأمر معلوم يدل على أن اللّه تعالى حرم شيئا من ذلك {إن كنتم صادقين} دعوى التحريم عليه ١٤٤ {ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين} كما سبق والمعنى إنكار أن اللّه حرم شيئا من الأجناس الأربعة ذكرا كان أو أنثى أو ما تحمل إناثها ردا عليهم فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة أخرى وأولادها كيف كانت تارة زاعمين أن اللّه حرمها {أم كنتم شهداء} بل أكنتم شاهدين حاضرين {إذ وصاكم اللّه بهذا} حين وصاكم بهذ التحريم إذ أنتم لا تؤمنون بنبي فلا طريق لكم إلى معرفة أمثالي ذلك إلا المشاهدة والسماع {فمن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا} فنسب إليه تحريم ما لم يحرم والمراد كبراؤهم المقررون لذلك أو عمرو بن لحي بن قمعة المؤسس لذلك {ليضل الناس بغير علم إن اللّه لا يهدي القوم الظالمين}[الأنعام: ١٤٤] ١٤٥ {قل لا أجد فيما أوحي إلي} أي في القرأن أو فيما أوحي إلي مطلقا وفيه تنبيه على أن التحريم إنما يعلم بالوحي لا بالهوى محرما طعاما {محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة} أن يكون الطعام ميتة وقرأ ابن كثير وحمزة تكون بالتاء لتأنيث الخبر وقرأ ابن عامر بالياء ورفع ال ميتة على أن كان هي التامة وقوله {أو دما مسفوحا} عطف على أن مع ما في حيزه أي إلا وجود ميتة أو دم مسفوحا أي مصبوبا كالدم في العروق لا كالكبد والطحال {أو لحم خنزير فإنه رجس} فإن الخنزير أو لحمه قذر لتعدوه أكل النجاسة أو خبيث محنث {أو فسقا} عطف على لحم خنزير وما بينهما اعتراض للتعليل {أهل لغير اللّه به} صفة له موضحة وإنما سمي ما ذبح على اسم الصنم فسقا لتوغله في الفسق ويجوز أن يكون فسقا مفعولا له من أهل وهو عطف على يكون والمستكن فيه راجع إلى ما رجع إليه المستكن في يكون {فمن اضطر} فمن دعته الضرورة إلى تناول شيء من ذلك {غير باغ} على مضطر مثله {ولا عاد} قدر الضرورة {فإن ربك غفور رحيم} لا يؤاخذه والآية محكمة لأنها تدل على أنه لم يجد فيما أوحي إلى تلك الغاية محرما غير هذه وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء أخر فلا يصح الاستدال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد ولا على حل الأشياء غيرها إلا مع الاستصحاب ١٤٦ {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر} كل ماله أصبع الإبل والسباع والطيور وقيل كل ذي مخلب وحافر وسمي الحافر ظفرا مجازا ولعل المسبب عن الظلم تعميم التحريم {ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما} الثروب وشحوم الكلى والإضافة لزيادة الربط {إلا ما حملت ظهورهما} إلا ما علقت بظهورهما {أو الحوايا أو ما} اشتمل على الأمعاء جمع حاوية أو حاوياء كقاصعاء وقواصع أو حوية كسفينة وسفائن وقيل هو عطف على شحومهما واو بمعنى الواو أو ما {اختلط بعظم} هو شحم الإلية لاتصالها بالعصعص {ذلك} التحريم أو الجزاء {جزيناهم ببغيهم} بسبب ظلمهم {وإنا لصادقون} في الإخبار أو الوعد والوعيد ١٤٧ {فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة} يمهلكم على التكذيب فلا تغتروا بإمهاله فإنه لا يهمل {ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين} حين ينزل أو ذو رحمة واسعة على المطيعين وذو بأس شديد على المجرمين فأقام مقامه ولا يرد بأسه لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم مع الدلالة على أنه لازب بهم لا يمكن رده عنهم ١٤٨ {سيقول الذين أشركوا} إخبار عن مستقبل ووقوع مخبره يدل على إعجازه {لو شاء اللّه ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} أي لو شاء خلاف ذلك مشيئة ارتضاء كقوله فلو شاء لهداكم أجمعين لما فعلنا نحن ولا آباؤنا أرادوا بذلك أنهم على الحق المشروع المرضي عند اللّه لا الاعتذار عن ارتكاب هذه القبائح بإرادة اللّه إياها منهم حتى ينهض ذمهم به دليلا للمعتزلة ويؤيده ذلك قوله كذلك {كذب الذين من قبلهم} أي مثل هذا التكذيب لك في أن اللّه تعالى منع من الشرك ولم يحرم ما حرموه كذب الذين من قبلهم الرسل وعطف آباؤنا على الضمير في أشركنا من غير تأكيد للفصل بلا {حتى ذاقوا بأسنا} الذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم {قل هل عندكم من علم} من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على ما زعمتم {فتخرجوه لنا} فتظهروه لنا {إن تتبعون إلا الظن} ما تتبعون في ذلك إلا الظن {وإن أنتم إلا تخرصون} تكذبون على اللّه سبحانه وتعالى وفيه دليل على المنع من اتباع الظن سيما في الأصول ولعل ذلك حيث يعارضه قاطع إذ الآية فيه ١٤٩ {قل فللّه الحجة البالغة} البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه وهي من الحج بمعنى القصد كأنها تقصد إثبات الحكم وتطلبه {فلو شاء لهداكم أجمعين} بالتوفيق لها والحمل عليها ولكن شاء هداية قوم وضلال آخرين ١٥٠ {قل هلم شهداءكم} أحضروهم وهو اسم فعل لا يتصرف عند أهل الحجاز وفعل يؤنث ويجمع عند بني تميم وأصله عند البصريين ها لم من لم إذا قصد حذفت الألف لتقدير السكون في اللام فإنه الأصل وعند الكوفيين هل أم فحذفت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام وهو بعيد لأن هل لا تدخل الأمر ويكون متعديا كما في الآية ولازما كقوله هلم إلينا [الاحزاب:١٨] {الذين يشهدون أن اللّه حرم هذا} يعني قدوتهم فيه استحضرهم ليلزمهم الحجة ويظهر بانقطاعهم ضلالتهم وأنه لا متمسك لهم كمن يقلدهم ولذلك قيد الشهداء بالإضافة ووصفهم بما يقتضي العهد بهم {فإن شهدوا فلا تشهد معهم} فلا تصدقهم فيه وبني لهم فساده فإن تسليمه موافقة لهم في الشهادة الباطلة {ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا} من وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير وأن متبع الحجة لا يكون إلا مصدقا بها {والذين لا يؤمنون بالآخرة} كعبدة الأوثان {وهم بربهم يعدلون} يجعلون له عديلا ١٥١ {قل تعالوا} أمر من التعالي وأصله أن يقوله من كان في علو لمن كان في سفل فاتسع فيه بالتعميم {أتل} أقرأ {ما حرم ربكم} منصوب بأتل وما تحتمل الخبرية والمصدرية ويجوز أن تكون استفهامية منصوبة بحرم والجملة مفعول أتل لأنه بمعنى أقل فكأنه قيل أتل أي شيء حرم ربكم {عليكم} متعلق ب حرم أو أتل {ألا تشركوا به} أي لا تشركوا به ليصح عطف الأمر عليه ولا يمنعه تعليق الفعل المفسر ب ما حرم فإن التحريم باعتبار الأوامر يرجع إلى أضددها ومن جعل أن ناصبة فمحلها النصب بعليكم على أنه للإغراء أو البدل من ما أو من عائده المحذوف على أن لا زائدة والجر بتقدير اللام أو الرفع على تقدير المتلو أن لا تشركوا أو المحرم أن تشركوا {شيئا} يحتمل المصدر والمفعول {وبالوالدين إحسانا} أي وأحسنوا بهما إحسانا وضعه موضع النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة وللدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف بخلاف غيرهما {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} من أجل فقر ومن خشية كقوله خشية إملاق {نحن نرزقكم وإياهم} منع لموجبية ما كانوا يفعلون لأجله واحتجاج عليه {ولا تقربوا الفواحش} كبائر الذنوب أو الزنا {ما ظهر منها وما بطن} بدل منه وهو مثل قوله ظاهر الإثم وباطنه {ولا تقتلوا النفس التي حرم اللّه إلا بالحق} كالقود وقتل المرتد ورجم المحصن {ذلكم} إشارة إلى ما ذكر مفصلا {وصاكم به} بحفظه {لعلكم تعقلون} ترشدون فإن كمال العقل هو الرشد ١٥٢ {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره {حتى يبلغ أشده} حتى يصير بالغا وهو جمع شدة كنعمة وأنعم أو شد كصر وأصر وقيل مفرد كأنك {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط} بالعدل والتسوية {لا نكلف نفسا إلا وسعها} إلا ما يسعها ولا يعصر عليها وذكره عقيب الأمر معناه أن إيفاء الحق عسر عليكم فعليكم بما في وسعكم وما وراءه معفو عنكم {وإذا قلتم} في حكومة ونحوها {فاعدلوا} فيه {ولو كان ذا قربى} ولو كان المقول له أو عليه من ذوي قرأبتكم {وبعهد اللّه أوفوا} يعني ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع {ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} تتعظون به وقرأ حمزة وحفص والكسائي تذكرون بتخفيف الذال حيث وقع إذا كان بالتاء والباقون بتشديدها ١٥٣ {وأن هذا صراطي مستقيما} الإشارة فيه إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة وقرأ حمزة والكسائي إن بالكسر على الاستئناف وابن عامر ويعقوب بالفتح والتخفيف وقرأ الباقون بها مشددة بتقدير اللام على أنه علة لقوله {فاتبعوه} وقرأ ابن عامر صراطي بفتح الياء وقرأ وهذا صراطي وهذا صراط ربكم وهذا صراط ربك {ولا تتبع السبل} الأديان المختلفة أو الطرق التابعة للّهوى فإن مقتضى الحجة واحد ومقتضى الهوى متعدد لاختلاف الطبائع والعادات {فتفرق بكم} فتفرقكم وتزيلكم {عن سبيله} الذي هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان {ذلكم} الاتباع {وصاكم به لعلكم تتقون} الضلال والتفرق عن الحق ١٥٤ { ثم آتينا موسى الكتاب} عطف على وصاكم وثم للتراخي في الإخبار أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل ذلكم وصاكم به قديما وحديثا ثم أعظم من ذلك إنا آتينا موسى الكتاب {تماما} للكرامة والنعمة {على الذي أحسن} على كل من أحسن القيام به ويؤيده إن قرئ على الذين أحسنوا أو على الذي أحسن تبليغه وهو موسى عليه أفضل الصلاة والسلام تماما على ما أحسنه أي أجاده من العلم والتشريع أي زيادة على علمه إتماما له وقرئ بالرفع على أن خبر مبتدأ محذوف أي على الذي هو أحسن أو على الوجه الذي هو حسن ما يكون عليه الكتب {وتفصيلا لكل شيء} وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه في الدين وهو عطف على تمام ونصبهما يحتمل العلة والحال والمصدر {وهدى ورحمة لعلهم} لعل بني إسرائيل {بلقاء ربهم يؤمنون} أي بلقائه للجزاء ١٥٥ {وهذا كتاب} يعني القرأن {أنزلناه مبارك} كثير النفع {فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون} بواسطة اتباعه وهو العمل بما فيه ١٥٦ {أن تقولوا} كراهة أن تقولوا علة لأنزلناه {إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا} اليهود والنصارى ولعل الاختصاص في إنما لأن الباقي المشهود حنيئذ من الكتب السماوية لم يكن غير كتبهم {وإن كنا} إن هي المخففة من الثقيل ة ولذلك دخلت اللام الفارقة في خبر كان أي وإنه كنا {عن دراستهم} قرأءتهم {لغافلين} لا ندري ما هي أو لا تعرف مثلها ١٥٧ {أو تقولوا} عطف على الأول {لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا ولذلك تلقفنا فنونا من العلم كالقصص والأشعار والخطب على أن أميون {فقد جاءكم بينة من ربكم} حجة واضحة تعرفونها {وهدى ورحمة} لمن تأمل فيه وعمل به {فمن أظلم ممن كذب بآيات اللّه} بعد أن عرف صحتها أو تكمن من معرفتها {وصدف} أعرض أوصد {عنها} فضل أو أفضل {سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب} شدته {بما كانوا يصدفون} بإعراضهم أو صدهم ١٥٨ {هل ينظرون} أي ما ينتظرون يعني أهل مكة وهم ما كانوا منتظرين لذلك ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين {إلا أن تأتيهم الملائكة} ملائكة الموت أو العذاب وقرأ حمزة والكسائي بالياء هنا وفي النحل {أو يأتي ربك} أي أمر بالعذاب أو كل آية يعني آيات القيامة والهلاك الكلي لقوله {أو يأتي بعض آيات ربك} يعني أشراط الساعة وعن حذيفة بن اليمان والبراء بن عازب كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: ما تذاكرون؟ فقلنا: نتذاكر الساعة قال: فإنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان ودابة الأرض وخسفا بالمشرق وخسفا بالمغرب وخسفا بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونار تخرج من عدن {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها} كالمحتضر إذا صار الأمر عيانا والإمام برهاني وقرأ تنفع بالتاء لإضافة الإيمان إلى ضمير المؤنث {لم تكن آمنت من قبل} صفة نفسا {أو كسبت في إيمانها خيرا} عطف على آمنت والمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها أو مقدمة إيمانها غير كاسبة في إيمانها خيرا وهو دليل لمن لم يعتبر الإيمان المجرد عن العمل وللمعتبر تخصيص هذا الحكم بذلك اليوم وحمل الترديد على اشتراط النفع بأحد الأمرين على معنى لا ينفع نفسا خلت عنها إيمانها والعطف على لم تكن بمعنى لا ينفع نفسا إيمانها الذي حدثته حينئذ وإن كسبت فيه خيرا {قل انتظروا إنا منتظرون} وعيد لهم أي انتظروا إتيان أحد الثلاثة فإن منتظرون له وحينئذ لنا الفوز وعليكم الويل ١٥٩ {إن الذين فرقوا دينهم} بددوه فآمنوا ببعض وكفروا ببعض أو افترقوا فيه قال صلى اللّه عليه وسلم: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة وقرأ حمزة والكسائي فارقوا أي باينوا {وكانوا شيعا} فرقا تشيع كل فرقة إماما {لست منهم في شيء} أي من السؤال عنهم وعن تفرقهم أو من عقابهم أو أنت بريء منهم وقيل هو نهي عن التعرض لهم وهو منسوخ بآية السيف {إنما أمرهم إلى اللّه} يتولى جزاءهم {ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون} بالعقاب ١٦٠ {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} أي عشر حسنات أمثالها فضلا من اللّه وقرأ يعقوب عشرة بالتنوين وأمثالها بالرفع على الوصف وهذا أقل ما وعد من الأضعاف وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة وبغير حساب ولذلك قيل المراد بالعشر الكثرة دون العدد {ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها} قضية للعدل {وهم لا يظلمون} بنقص الثواب وزيادة العقاب ١٦١ {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم} بالوحي والإرشاد إلى ما نصب من الحجج دينا بدل من محل إلى صراط إذ المعنى هداني صراطا كقوله {ويهديكم صراطا مستقيما} أو مفعول فعل مضمر دل عليه الملفوظ قيما فيعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من المستقيم باعتبار الزنة والمستقيم باعتبار الصيغة وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي قيما على أنه مصدر نعت به وكان قياسه قوما كعوض فاعل لإعلال فعله كالقيام {ملة إبراهيم} عطف بيان لدينا حنيفا حال من إبراهيم {وما كان من المشركين} عطف عليه ١٦٢ {قل إن صلاتي ونسكي} عبادتي كلها أو قرباني أو حجي {ومحياي ومماتي} وما أنا عليه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والطاعة أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير أو الحياة والممات أنفسهما وقرأ نافع محياي بإسكان الياء إجراء للوصل مجرى الوقف {للّه رب العالمين} ١٦٣ {لا شريك له} خالصة له لا أشرك فيها غيرا {وبذلك} القول أو الإخلاص {أمرت وأنا أول المسلمين} لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته ١٦٤ {قل أغير اللّه أبغي ربا} فأشركه في عبادتي وهو جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم {وهو رب كل شيء} حال في موضع العلة للإنكار والدليل له أي وكل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} فلا ينفعني في ابتغاء رب غيره ما أنتم عليه من ذلك {ولا تز وازرة وزر أخرى} جواب عن قولهم {اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} [العنكبوت:١٢] {ثم إلى ربكم مرجعكم} يوم القيامة {فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} بتبيين الرشد من الغي وتمييز المحق من المبطل ١٦٥ {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض} يخلف بعضكم بعضا أو خلفاء اللّه في أرضه تتصرفون فيها على أن الخطاب عام أو خلفاء الأمم السالفة على أن الخطاب للمؤمنين {ورفع بعضكم فوق بعض درجات} في الشرف والغنى {ليبلوكم فيما آتاكم} من الجاه والمال {إن ربك سريع العقاب} لأن ما هو آت قريب أو لأنه يسرع إذا أراده {وإنه لغفور رحيم} وصف العقاب ولم يصفه إلى نفسه ووصف ذاته بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة وأتى ببناء المبالغة واللام المؤكدة تنبيها على أنه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض كثير الرحمة مبالغ فيها كثير العقوبة مسامح فيها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أنزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعام صلى عليه واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوما وليلة |
﴿ ٠ ﴾