تفسير البيضاوي: أنوار التنزيل و أسرار التأويل أبو سعيد عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشيرازي الفارسي، ناصر الدين، القاضي الشافعي (ت ٦٨٥ هـ ١٢٨٦ م) _________________________________ سورة التوبة سورة التوبة وقيل إلا آيتين من قوله لقد جاءكم رسول وهي آخر ما نزل ولها أسماء آخر التوبة والمقشقشة والبحوث والمبعثرة والمنقرة والمثيرة والحافرة والمخزية والفاضحة والمنكلة والمشردة والمدمدمة وسورة العذاب لما فيها من التوبة للمؤمنين والقشقشة من النفاق وهي التبري منه والبحث عن حال المنافقين وإثارتها والحفر عنها وما يخزيهم ويفضحهم وينكلهم ويشردهم ويدمدم عليهم وايها مائة وثلاثون وقيل تسع وعشرون وانما تركت التسمية فيها لأنها نزلت لرفع الامان وبسم اللّه امان وقيل كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا نزلت عليه سورة أو آية بين موضعها وتوفي ولم يبين موضعها وكانت قصتها تشابه قصة الأنفال وتناسبها لأن في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذها فضمت إليها وقيل لما اختلفت الصحابة في أنهما سورة واحدة هي سابعة السبع الطوال أو سورتان تركت بينهما فرجة ولم تكتب بسم اللّه _________________________________ {براءة من اللّه ورسوله} أي هذه براءة ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف تقديره وأصله من اللّه ورسوله ويجوز أن تكون براءة مبتدأ لتخصصها بصفتها والخبر {إلى الذين عاهدتم من المشركين} وقرئ بنصبها على اسمعوا براءة والمعنى أن اللّه ورسوله برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين وإنما علقت البراءة باللّه ورسوله والمعاهدة بالمسلمين للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم وإن كانت صادرة بإذن اللّه تعالى واتفاق الرسول فإنهما برئا منها وذلك أنهم عاهدوا مشركي العرب فنكثوا إلا أناسا منهم بنو ضمرة وبنو كنانة فأمرهم بنبذ العهد إلى الناكثين وأمهل المشركين أربعة أشهر ليسيروا أين شاءوا فقال ٢ {فسيحوا في الأرض أربعة أشهر} شوال وذي القعدة وذي الحجة والمحرم لأنها نزلت في شوال وقيل هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر لأن التبليغ كان يوم النحر لما روي أنها لما نزلت أرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليا رضي اللّه عنه راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم وكان قد بعث أبا بكر رضي اللّه تعالى عنه أميرا على الموسم فقيل له لو بعث بها إلى أبي بكر فقال لا يؤدي عني إلا رجل مني فلما دنا علي رضي اللّه تعالى عنه سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال هذا رغاء ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما لحقه قال أمير أو مأمور فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه وحدثهم عن مناسكهم وقام علي رضي اللّه عنه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: أيها الناس إني رسول اللّه إليكم فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ثم قال أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده ولعل قوله صلى اللّه عليه وسلم لا يؤدي عني إلا رجل مني ليس على العموم فإنه صلى اللّه عليه وسلم بعث لأن يؤدي عنه كثير لم يكونوا من عترته بل هو مخصوص بالعهود فإن عادة العرب أن لا يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل منها ويدل عليه أنه في بعض الروايات لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي {واعلموا أنكم غير معجزي اللّه} لا تفوتونه وإن أمهلكم {وإن اللّه مخزي الكافرين} بالقتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة ٣ {واذان من اللّه ورسوله إلى الناس} أي إعلام فعال بمعنى الإفعال كالأمان والعطاء ورفعه كرفع براءة على الوجهين {يوم الحج الأكبر} يوم العيد لأن فيه تمام الحج معظم أفعاله ولأن الإعلام كان فيه ولما روي أنه صلى اللّه عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال هذا يوم الحج الأكبر وقيل يوم عرفة لقوله صلى اللّه عليه وسلم الحج عرفة ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر أو لأن المراد بالحج ما يقع في ذلك اليوم من أعماله فإنه أكبر من باقي الأعمال أو لأن ذلك الحج اجتمع فيه المسلمون والمشركون ووافق عيده أعياد أهل الكتاب أو لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين {أن اللّه} أي بأن اللّه {بريء من المشركين} أي من عهودهم {ورسوله} عطف على المستكن في بريء أو على محل إن واسمها في قرأءة من كسرها إجراء للأذان مجرى القول وقرئ بالنصب عطفا على اسم إن أو لأن الواو بمعنى مع ولا تكرير فيه فإن قوله براءة من اللّه إخبار بثبوت البراءة وهذه إخبار بوجوب الإعلام بذلك ولذلك علقه بالناس ولم يخصه بالمعاهدين {فإن تبتم} من الكفر والغدر {فهو} فالتوب {خير لكم وإن توليتم} عن التوبة أو تبتم على التولي عن الإسلام والوفاء {فاعلموا أنكم غير معجزي اللّه} لا تفوتونه طلبا ولا تعجزونه هربا في الدنيا {وبشر الذين كفروا بعذاب أليم} في الآخرة ٤ {إلا الذين عاهدتم من المشركين} استثناء من المشركين أو استدراك فكأنه قيل لهم بعد أن أمروا بنبذ العهد إلى الناكثين ولكن الذين عاهدوا منهم {ثم لم ينقصوكم شيئا} من شروط العهد ولم ينكثوه أو لم يقتلوا منكم ولم يضروكم قط ولم يظاهروا {عليكم أحدا} من أعدائكم {فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} إلى تمام مدتهم ولا تجروهم مجرى الناكثين {إن اللّه يحب المتقين} تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى ٥ {فإذا انسلخ} انقضى وأصل الانسلاخ خروج الشيء مما لابسه من سلخ الشاة {الأشهر الحرم} التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها وقيل هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وهذا مخل بالنظم مخالف للإجماع فإنه يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم إذ ليس فيما نزل بعد ما ينسخها {فاقتلوا المشركين} الناكثين {حيث وجدتموهم} من حل أو حرم وخذوهم وأسروهم والأخيذ اليسير {واحصروهم} واحبسوهم أو حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام {واقعدوا لهم كل مرصد} كل ممر لئلا يتبسطوا في البلاد وانتصابه على الظرف {فإن تابوا} عن الشرك بالإيمان {وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة} تصديقا لتوبتهم وإيمانهم {فخلوا سبيلهم} فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء من ذلك وفيه دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله {إن اللّه غفور رحيم} تعليل للأمر أي فخلوهم لأن اللّه غفور رحيم غفر لهم ما قد سلف وعدلهم الثواب بالتوبة ٦ {وإن أحد من المشركين} المأمور بالتعرض لهم {استجارك} استأمنك وطلب منك جوارك {فأجره} فأمنه {حتى يسمع كلام اللّه} ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر { ثم أبلغه مأمنه} موضع أمنه إن لم يسلم وأحد رفع بفعل يفسره ما بعده لا بالابتداء لأن إن من عوامل الفعل {ذلك} الأمن أو الأمر {بأنهم قوم لا يعلمون} ما الإيمان وما حقيقة ما تدعوهم إليه فلا بد من أمانهم ريثما يسمعون ويتدبرون ٧ {كيف يكون للمشركين عهد عند اللّه وعند رسوله} استفهام بمعنى الإنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد ولا ينكثوه مع وغرة صدورهم أو لأن يفي اللّه ورسوله بالعهد وهم نكثوه وخبر يكون كيف وقدم للاستفهام أو للمشركين أو عند اللّه وهو على الأولين صفة لل عهد أو ظرف له أو ل يكون و كيف على الأخيرين حال من الـ عهد و للمشركين إن لم يكن خبرا فتبيين {إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام} هما المستثنون قبل ومحله النصب على الاستثناء أو الجر على البدل أو الرفع على أن الاستثناء منقطع أي ولكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم} أي فتربصوا أمرهم فإن استقاموا على العهد فاستقيموا على الوفاء وهو كقوله فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم [التّوبة:٤] غير أنه مطلق وهذا مقيد وما تحتمل الشرطية والمصدرية {إن اللّه يحب المتقين} سبق بيانه [في آل عمران:٧٦] ٨ {كيف} تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد أو بقاء حكمه مع التنبيه على العلة وحذف الفعل للعلم به كما في قوله وخبر تماني أنما الموت بالقرى فكيف وهاتا هضبة وقليب أي فكيف مات {وإن يظهروا عليكم} أي وحالهم أنهم إن يظفروا بكم لا يرقبوا فيكم {لا يراعوا فيكم إلا} حلفا وقيل قرأبة قال حسان لعمرك إن الك من قريش كإل السقب من رأل النعام وقيل ربوبية ولعله اشتق للحلف من الإل وهو الجؤار لأنهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه ثم استعير للقرأبة لأنها تعقد بين الأقارب ما لا يعقده الحلف ثم للربوبية والتربية وقيل اشتقاقه من ألل الشيء إذا حدده أو من آل البرق إذا لمع وقيل إنه عبري بمعنى الإله لأنه قرئ إيلا كجبرئل وجبرئيل {ولا ذمة} عهدا أو حقا يعاب على إغفاله {يرضونكم بأفواههم} استئناف لبيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد المؤدية إلى عدم مراقبتهم عند الظفر ولا يجوز جعله حالا من فاعل لايرقبوا فإنهم بعد ظهورهم لا يرضون ولأن المراد إثبات إرضائهم المؤمنين بوعد الإيمان والطاعة والوفاء بالعهد في الحال واستبطان الكفر والمعاداة بحيث إن ظفروا لم يبقوا عليهم والحالية تنافيه {وتأبى قلوبهم} ما تتفوه به أفواههم {وأكثرهم فاسقون} متمردون لا عقيدة تزعهم ولا مروءة تردعهم وتخصيص الأكثر لما في بعض الكفرة من التفادي عن الغدر والتعفف عما يجر إلى أحدوثة السوء ٩ {اشتروا بآيات اللّه} استبدلوا بالقرأن {ثمنا قليلا} عرضا يسيرا وهو اتباع الأهواء والشهوات {فصدوا عن سبيله} دينه الموصل إليه أو سبيل بيته بحصر الحجاج والعمار والفاء للدلالة على أن اشتراءهم أداهم إلى الصد {إنهم ساء ما كانوا يعملون} عملهم هذا أو ما دل عليه قوله ١٠ {ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة} فهو تفسير لا تكرير وقيل الأول عام في الناقضين وهذا خاص بالذين اشتروا وهم اليهود أو الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم {وأولئك هم المعتدون} في الشرارة ١١ {فإن تابوا} عن الكفر {وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين} فهم إخوانكم في الدين لهم ما لكم وعليهم ما عليكم {ونفصل الآيات لقوم يعلمون} اعتراض للحث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين أو خصال التائبين ١٢ {وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم} وإن نكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان أو الوفاء بالعهود {وطعنوا في دينكم} بصريح التكذيب وتقبيح الأحكام {فقاتلوا أئمة الكفر} أي فقاتلوهم فوضع أئمة الكفر موضع الضمير للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم في الكفر أحقاء بالقتل وقبل المراد بالأئمة رؤساء المشركين فالتخصيص إما لأن قتلهم أهم وهم أحق به أو للمنع من مراقبتهم وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي وروح عن يعقوب أئمة بتحقيق الهمزتين على الأصل والتصريح بالياء لحن {إنهم لا أيمان لهم} أي لا أيمان لهم على الحقيقة وألا لما طعنوا ولم ينكثوا وفيه دليل على أن الذمي إذا طعن في الإسلام فقد نكث عهده واستشهد به الحنفية على أن يمين الكافر ليست يمينا وهو ضعيف لأن المراد نفي الوثوق عليها لا أنها ليست بأيمان لقوله تعال وإن نكثوا أيمانهم وقرأ ابن عامر لا أيمان لهم بمعنى لا أمان أو لا إسلام وتشبث به من لم يقبل توبة المرتد وهو ضعيف لجواز أن يكون يمعنى لا يؤمنون على الإخبار عن قوم معينين أو ليس لهم إيمان فيراقبوا لأجله {لعلهم ينتهون} متعلق ب قاتلوا أي ليكن غرضكم في المقاتلة أن ينتهوا عما هم عليه لا إيصال الأذية بهم كما هو طريقة المؤذين ١٣ {ألا تقاتلون قوما} تحريض على القتال لأن الهمزة دخلت على النفي للإنكار فأفادت المبالغة في الفعل {نكثوا أيمانهم} التي حلفوها مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين على أن لا يعاونوا عليهم فعاونوا بني بكر على خزاعة {وهموا بإخراج الرسول} حين تشاوروا في أمره بدار الندوة على ما مر ذكره في قوله وإذ يمكر بك الذين كفروا [الانفال:٣٠] وقيل هم اليهود نكثوا عهد الرسول وهموا بإخراجه من المدينة {وهم بدءوكم أول مرة} بالمعاداة والمقاتلة لأنه صلى اللّه عليه وسلم بدأهم بالدعوة وإلزام الحجة بالكتاب والتحدي به فعدلوا عن معارضته إلى المعاداة والمقاتلة فما يمنعكم أن تعارضوهم وتصادموهم {أتخشونهم} أتتركون قتالهم خشية أن ينالكم مكروه منهم {فاللّه أحق أن تخشوه} فقاتلوا أعداءكم ولا تتركوا أمره {إن كنتم مؤمنين} فإن قضية الإيمان أن لا يخشى إلا منه ١٤ {قاتلوهم} أمر بالقتال بعد بيان موجبه والتوبيخ على تركه والتوعد عليه {يعذبهم اللّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم} وعد لهم إن قاتلوهم بالنصر عليهم والتمكن من قتلهم وإذلالهم {ويشف صدور قوم مؤمنين} يعني بني خزاعة وقيل بطونا من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى شديدا فشكوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: أبشروا فإن الفرج قريب ١٥ {ويذهب غيظ قلوبهم} لما لقوا منهم وقد أوفى اللّه بما وعدهم والآية من المعجزات {ويتوب اللّه على من يشاء} ابتداء إخبار بأن بعضهم يتوب عن كفره وقد كان ذلك أيضا وقرئ ويتوب بالنصب على إضمار أن على أنه من جملة ما أجيب به الأمر فإن القتال كما تسبب لتعذيب قوم تسبب لتوبة قوم آخرين {واللّه عليم} بما كان وما سيكون {حكيم} لا يفعل ولا يحكم إلا على وفق الحكمة ١٦ {أم حسبتم} خطاب للمؤمنين حين كره بعضهم القتال وقيل للمنافقين و أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على الحسبان {أن تتركوا ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم} ولم يتبين الخلص منكم وهم الذين جاهدوا من غيرهم نفى العلم وأراد نفي المعلوم لمبالغة فإن كالبرهان عليه من حيث إن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه {ولم يتخذوا} عطف على جاهدوا داخل في الصلة {من دون اللّه ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة} بطانة يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم وما في لما من معنى التوقع منبه على أن تبين ذلك متوقع {واللّه خبير بما تعملون} يعلم غرضكم منه وهو كالمزيج لما يتوهم من ظاهر قوله ولما يعلم اللّه ١٧ {ما كان للمشركين} ما صح لهم {أن يعمروا مساجد اللّه} شيئا من المساجد فضلا عن المسجد الحرام وقيل هو المراد وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامر الجميع ويدل عليه قرأءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب بالتوحيد {شاهدين على أنفسهم بالكفر} بإظهار الشرك وتكذيب الرسول وهو حال من الواو والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة بيت اللّه وعبادة غيره روي أنه لما أسر العباس عيره المسلمون بالشرك وقطيعة الرحم وأغلظ له علي رضي اللّه تعالى عنه في القول فقال ما بالكم تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا أنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني فنزلت {أولئك حبطت أعمالهم} التي يفتخرون بها بما قارنها من الشرك {وفي النار هم خالدون} لأجله ١٨ {إنما يعمر مساجد اللّه من آمن باللّه واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة} أي إنما تستقيم عمارتها لهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية ومن عمارتها تزيينها بالفرش وتنويرها بالسرج وإدامة العبادة والذكر ودروس العلم فيها وصيانتها مما لم تبن له كحديث الدنيا و عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: قال اللّه تعالى إن بيوتي في أرضي المساجد وإن زواري فيها عمارها فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره وإنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلى اللّه عليه وسلم لما علم أن الإيمان باللّه قرينة وتمامه الإيمان به ولدلالة قوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة عليه {ولم يخش إلا اللّه} أي في أبواب الدين فإن الخشية عن المحاذير جبلية لا يكاد العاقل يتمالك عنها {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} ذكره بصيغة التوقع قطعا لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم وتوبيخا لهم بالقطع بأنهم مهتدون فإن هؤلاء مع كمالهم إذا كان اهتداؤهم دائرا بين عسى ولعل فما ظنك بأضدادهم ومنعا للمؤمنين أن يغتروا بأحوالهم ويتكلوا عليها ١٩ {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللّه واليوم الآخر وجاهد في سبيل اللّه} السقاية والعمارة مصدر أسقى وعمر فلا يشبهان بالجثث بل لا بد من إضمار تقديره أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن ويؤيد الأول قرأءة من قرأ سقاة الحاج وعمرة المسجد والمعنى إنكار أن يشبه المشركون وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة ثم قرر ذلك بقوله {لا يستوون عند اللّه} وبين عدم تساويهم بقوله {واللّه لا يهدي القوم الظالمين} أي الكفرة ظلمة بالشرك ومعاداة الرسول صلى اللّه عليه وسلم منهمكون في الضلالة فكيف يساوون الذين هداهم اللّه ووفقهم للحق والصواب وقيل المراد بالظالمين الذين يسوون بينهم وبين المؤمنين ٢٠ {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند اللّه} أعلى رتبة وأكثر كرامة ممن لم تستجمع فيه هذه الصفات أو من أهل السقاية والعمارة عندكم {وأولئك هم الفائزون} بالثواب ونيل الحسنى عند اللّه دونكم ٢١ {يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها} في الجنات {نعيم مقيم} دائم وقرأ حمزة يبشرهم بالتخفيف وتنكير المبشر به إشعار بأنه وراء التعيين والتعريف ٢٢ {خالدين فيها أبدا} أكد الخلود بالتأبيد لأنه قد يستعمل للمكث الطويل {إن اللّه عنده أجر عظيم} يستحقر دونه ما استوجبوه لأجله أو نعيم الدنيا ٢٣ {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء} نزلت في المهاجرين فإنهم لما أمروا بالهجرة قالوا إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجاراتنا وبقينا ضائعين وقيل نزلت نهيا عن موالاة التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة والمعنى لا تتخذوهم أولياء يمنعونكم عن الإيمان ويصدونكم عن الطاعة لقوله {إن استحبوا الكفر على الإيمان} إن اختاروه وحرصوا عليه {ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون} بوضعهم الموالاة في غير موضعها ٢٤ {قل إن كان ءاباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم} أقرباؤكم مأخوذ من العشرة وقيل من العشرة فإن العشيرة جماعة ترجع إلى عقد كعقد العشرة وقرأ أبو بكر وعشيراتكم وقرئ وعشائركم {وأموال اقترفتموها} اكتسبتموها {وتجارة تخشون كسادها} فوات وقت نفاقها {ومساكن ترضونها أحب إليكم من اللّه ورسوله وجهاد في سبيله} الحب الاختياري دون الطبيعي فإنه لا يدخل تحت التكليف في التحفظ عنه {فتربصوا حتى يأتي اللّه بأمره} جواب ووعيد والأمر عقوبة عاجلة أو آجلة وقيل فتح مكة {واللّه لا يهدي القوم الفاسقين} لا يرشدهم وفي الآية تشديد عظيم وقل من يتخلص منه ٢٥ {لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرة} يعني مواطن الحرب وهي مواقفها {ويوم حنين} وموطن يوم حنين ويجوز أن يقدر في أيام مواطن أو يفسر الموطن بالوقت كمقتل الحسين ولا يمنع إبدال قوله {إذ أعجبتكم كثرتكم} منه أن يعطف على موضع في مواطن فإنه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف حتى يقتضي كثرتهم وإعجابها إياهم في جميع المواطن و حنين واد بين مكة والطائف حارب فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون وكانوا اثني عشر ألفا العشرة الذين حضروا فتح مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء هوازن وثقيفا وكانوا أربعة آلاف فلما التقوا قال النبي صلى اللّه عليه وسلم أو أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه أو غيره من المسلمين لن تغلب اليوم من قلة إعجابا بكثرتهم واقتتلوا قتالا شديدا فأدرك المسلمين إعجابهم واعتمادهم على كثرتهم فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذا بلجامه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث وناهيك بهذا شهادة على تناهي شجاعته فقال للعباس وكان صيتا صح بالناس فنادى يا عباد اللّه يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة فكروا عنقا واحدا يقولون لبيك لبيك ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين فقال صلى اللّه عليه وسلم: هذا حين حمي الوطيس ثم أخذ كفا من ترا فرماهم ثم قال: انهزموا ورب الكعبة فانهزموا {فلم تغن عنكم} أي الكثرة {شيئا} من الإغناء أو من أمر العدو {وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} برحبها أي بسعتها لا تجدون فيها مفرا تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب أو لا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه {ثم وليتم} الكفار ظهوركم {مدبرين} منهزمين والإدبار الذهاب إلى خلف الإقبال ٢٦ {ثم أنزل اللّه سكينته} رحمته التي سكنوا بها وأمنوا {على رسوله وعلى المؤمنين} الذين انهزموا وإعادة الجار للتنبيه على اختلاف حاليهما وقيل هم الذين ثبتوا مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم ولم يفروا {وأنزل جنودا لم تروها} بأعينكم أي الملائكة وكانوا خمسة آلاف أو ثمانية أو ستة عشر على اختلاف الأقوال {وعذب الذين كفروا} بالقتل والأسر والسبي {وذلك جزاء الكافرين} أي ما فعل بهم جزاء كفرهم في الدنيا ٢٧ {ثم يتوب اللّه من بعد ذلك على من يشاء} منهم بالتوفيق للإسلام {واللّه غفور رحيم} يتجاوز عنهم ويتفضل عليهم روي أن ناسا جاءوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأسلموا وقالوا يا رسول اللّه أنت خير الناس وأبرهم وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا وقد سبي يومئذ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى فقال صلى اللّه عليه وسلم: اختاروا إما سباياكم وإما أموالكم فقالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئا فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال: إن هؤلاء جاءوا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا فمن كان بيده سبي وطابت نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه فقالوا رضينا وسلمنا فقال إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا إلينا فرفعوا أنهم قد رضوا ٢٨ { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس} لخبث باطنهم أو لأنه يجب أن يجتنب عنهم كما يجتنب عن الأنجاس أو لأنهم لا يتطهرون ولا يتجنبون عن النجاسات فهم ملابسون لها غالبا وفيه دليل على أن ما الغالب نجاسته نجس وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن أعيانهم نجسة كالكلاب وقرئ نجس بالسكون وكسر النون وهو ككبد في كبد وأكثر ما جاء تابعا لرجس {فلا يقربوا المسجد الحرام} لنجاستهم وإنما نهى عن الاقتراب للمبالغة أو للمنع عن دخول الحرم وقيل المراد به النهي عن الحج والعمرة لا عن الدخول مطلقا وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع وفيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع {بعد عامهم هذا} يعني سنة براءة وهي التاسعة وقيل سنة حجة الوداع {وإن خفتم عيلة} فقرأ بسبب منعهم من الحرم وانقطاع ما كان لكم من قدومهم من المكاسب والأرفاق {فسوف يغنيكم اللّه من فضله} من عطائه أو تفضله بوجه آخر وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدرارا ووفق أهل تبالة وجرش فأسلموا وامتاروا لهم ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من أقطار الأرض وقرئ عائلة على أنها مصدر كالعافية أو حال {إن شاء} قيده بالمشيئة لتنقطع الآمال إلى اللّه تعالى ولينبه على أنه تعالى متفضل في ذلك وان الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض وفي عام دون عام {إن اللّه عليم} بأحوالكم {حكيم} فيما يعطي ويمنع ٢٩ {قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر} أي لا يؤمنون بهما على ما ينبغي كما بيناه في أول البقرة فإن إيمانهم كلا إيمان {ولا يحرمون ما حرم اللّه ورسوله} ما ثبت تحريمه بالكتاب والسنة وقيل رسوله هو الذي يزعمون اتباعه والمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا {ولا يدينون دين الحق} الثابت الذي هو ناسخ سائر الأديان ومبطلها {من الذين أوتوا الكتاب} بيان للذين لا يؤمنون {حتى يعطوا الجزية} ما تقرر عليهم أن يعطوه مشتق من جزى دينه إذا قضاه {عن يد} حال من الضمير أي عن يد مؤاتية بمعنى منقادين أو عن يدهم بمعنى مسلمين بأيديهم غير باعثين بأيدي غيرهم ولذلك منع من التوكيل فيه أو عن غنى ولذلك قيل لا تؤخذ من الفقير أو عن يد قاهرة عليهم بمعنى عاجزين أذلاء أو من الجزية بمعنى نقدا مسلمة عن يد إلى يد أو عن إنعام عليهم فإن إبقاءهم بالجزية نعمة عظيمة {وهم صاغرون} أذلاء وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما قال تؤخذ الجزية من الذمي وتوجأ عنقه ومفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب ويؤيده أن عمر رضي اللّه تعالى عنه لم يكن يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف رضي اللّه تعالى عنه أنه صلى اللّه عليه وسلم أخذها من مجوس هجر وأنه قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب وذلك لأنهم لهم شبهة كتاب فألحقوا بالكتابيين وأما سائر الكفرة فلا تؤخذ منهم الجزية عندنا وعند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى تؤخذ منهم إلا مشركي العرب لما روى الزهري أنه صلى اللّه عليه وسلم صالح عبدة الأوثان إلا من كان من العرب وعند مالك رحمه اللّه تعالى تؤخذ من كل كافر إلا المرتد وأقلها في كل سنة دينار سواء فيه الغني والفقير وقال أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى على الغني ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط نصفها وعلى الفقير الكسوب ربعها ولا شيء على الفقير غير الكسوب ٣٠ {وقالت اليهود عزير ابن اللّه} إنما قاله بعضهم من متقدميهم أو ممن كانوا بالمدينة وإنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة وهو لما أحياه اللّه بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظا فتعجبوا من ذلك وقالوا ما هذا إلا أنه ابن اللّه والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قرئت عليهم فلم يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب وقرأ عاصم والكسائي ويعقوب عزيز بالتنوين على أنه عربي مخبر عنه بابن غير موصوف به وحذفه في القرأءة الأخرى إما لمنع صرفه للعجمة والتعريف أو لالتقاء الساكنين تشبيها للنون بحروف اللين أو لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا أو صاحبنا وهو مزيف لأنه يؤدي إلى تسليم النسب وإنكار الخبر المقدر {وقالت النصارى المسيح ابن اللّه} هو أيضا قول بعضهم وإنما قالوه استحالة لأن يكون ولد بلا أب أو لأن يفعل ما فعله من إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى من لم يكن إلها {ذلك قولهم بأفواههم} إما تأكيد لنسبة هذا القول إليهم ونفي للتجوز عنها أو إشعار بأنه قول مجرد عن برهان وتحقيق مماثل للمهمل الذي يوجد في الأفواه ولا يوجد مفهومه في الأعيان {يضاهئون قول الذين كفروا} أي يضاهي قولهم قول الذين كفروا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه {من قبل} أي من قبلهم والمراد قدماؤهم على معنى أن الكفر قديم فيهم أو المشركون الذين قالوا الملائكة بنات اللّه أو اليهود على أن الضمير للنصارى والمضاهاة المشابهة والهمز لغة فيه وقرأ به عاصم ومنه قولهم امرأة ضهيأ على فعيل للتي شابهت الرجال في أنها لا تحيض {قاتلهم اللّه}دعاء عليهم بالإهلاك فإن من قاتله اللّه هلك أو تعجب من شناعة قولهم {أنى يؤفكون} كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل ٣١ {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه} بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل اللّه وتحليل ما حرم اللّه أو بالسجود لهم {والمسيح ابن مريم} بأن جعلوه ابنا للّه {وما أمروا} أي وما أمر المتخذون أو المتخذون أربابا فيكون كالدليل على بطلان الاتخاذ {إلا ليعبدوا} ليطيعوا {إلها واحدا} وهو اللّه تعالى وأما طاعة الرسول وسائر من أمر اللّه بطاعته فهو في الحقيقة طاعة للّه {لا إله إلا هو} صفة ثانية أو استئناف مقرر للتوحيد {سبحانه عما يشركون} تنزيه له عن أن يكون له شريك ٣٢ {يريدون أن يطفئوا} يخمدوا {نور اللّه} حجته الدالة على وحدانيته وتقدسه عن الولد أو القرأن أو نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم بأفواههم بشركهم أو بتكذيبهم {ويأبى اللّه} أي لا يرضى {إلا أن يتم نوره} بإعلاء التوحيد وإعزاز الإسلام وقيل إنه تمثيل لحالهم في طلبهم إبطال نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم بالتكذيب بحال من يطلب إطفاء نور عظيم منبث في الآفاق يريد اللّه أن يزيده بنفخه وإنما صح الاستثناء المفرغ والفعل موجب لأنه في معنى النفي {ولو كره الكافرون} محذوف الجواب لدلالة ما قبله عليه ٣٣ {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} كالبيان لقوله {ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره} [التّوبة:٣٢] ولذلك كرر {ولو كره المشركون} غير أنه وضع المشركون موضع الكافرون للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الشرك باللّه والضمير في ليظهره للدين الحق أو للرسول صلى اللّه عليه وسلم واللام في الدين للجنس أي على سائر الأديان فينسخها أو على أهلها فيخذلهم ٣٤ {يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل} يأخذونها بالرشا في الأحكام سمي أخذ المال أكلا لأنه الغرض الأعظم منه {ويصدون عن سبيل اللّه} دينه {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه} يجوز أن يراد به الكثير من الأحبار والرهبان فيكون مبالغة في وصفهم بالحرص على المال والضن به وأن يراد المسلمون الذين يجمعون المال ويقتنونه ولا يؤدون حقه ويكون اقترانه بالمرتشين من أهل الكتاب للتغليظ ويدل عليه أنه لما نزل كبر على المسلمين فذكر عمر رضي اللّه تعالى عنه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: إن اللّه لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم وقوله صلى اللّه عليه وسلم: ما أدي زكاته فليس بكنز أي بكنز أوعد عليه فإن الوعيد على الكنز مع عدم الإنفاق فيما أمر اللّه أن ينفق فيه وأما قوله صلى اللّه عليه وسلم: من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها ونحوه فالمراد منها ما لم يؤد حقها لقوله صلى اللّه عليه وسلم فيما أورده الشيخان مرويا عن أبي هريرة رضي اللّه تعالى عنه: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جبينه وجنبه وظهره {فبشرهم بعذاب أليم} هو الكي بهما ٣٥ {يوم يحمى عليها في نار جهنم} أي يوم توقد النار ذات حمى شديد عليها وأصله تحمى بالنار فجعل الإحماء للنار مبالغة ثم حذفت النار وأسند الفعل إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود فانتقل من صيغة التأنيث إلى صيغة التذكير وإنما قال عليها والمذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة كما قال علي رضي اللّه تعالى عنه أربعة آلاف وما دونها وما فوقها كنز وكذا قوله تعالى {ولا ينفقونها} [التوبة: ٣٤] وقيل الضمير فيهما للكنوز أو للأموال فإن الحكم عام وتخصيصهما بالذكر لأنهما قانون التمول أو للفضة وتخصيصها لقربها ودلالة حكمها على أن الذهب أولى بهذا الحكم {فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} لأن جمعهم وإمساكهم إياه كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية والملابس البهية أو لأنهم ازوروا عن السائل وأعرضوا عنه وولوه ظهورهم أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخيره وجنباه {هذا ما كنزتم} على إرادة القول {لأنفسكم} لمنفعتها وكان عين مضرتها وسبب تعذيبها {فذوقوا ما كنتم تكنزون} أي وبال كنزكم أو ما تكنزونه وقرئ تكنزون بضم النون ٣٦ {إن عدة الشهور} أي مبلغ عددها {عند اللّه} معمول عدة لأنها مصدر {اثنا عشر شهرا في كتاب اللّه} في اللوح المحفوظ أو في حكمه وهو صفة لاثني عشر وقوله يوم خلق السموات والأرض متعلق بما فيه من معنى الثبوت أو بالكتاب إن جعل مصدرا والمغنى أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر مذ خلق اللّه الأجرام والأزمنة {منها أربعة حرم} واحد فرد وهو رجب وثلاثة سرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم {ذلك الدين القيم} أي تحريم الأشهر الأربعة هو الدين القويم دين إبراهيم وإسماعيل صلى اللّه عليه وسلم والعرب ورثوه منهما {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} بهتك حرمتها وارتكاب حرامها والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيها منسوخة وأولو الظلم بارتكاب المعاصي فيهن فإنه أعظم وزرا كارتكابها في الحرم وحال الإحرام وعن عطاء أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم وفي الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا ويؤيد الأول ما روي أنه صلى اللّه عليه وسلم حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} جميعا وهو مصدر كف عن الشيء فإن الجميع مكفوف عن الزيادة وقع موقع الحال {واعلموا أن اللّه مع المتقين} بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواهم ٣٧ {إنما النسيء} أي تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد العدد وعن نافع برواية ورش إنما النسي بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها وقرئ النسي بحذفها والنسء والنساء وثلاثتها مصادر نسأه إذا أخره {زيادة في الكفر} لأنه تحريم ما أحله اللّه وتحليل ما حرمه اللّه فهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم {يضل به الذين كفروا} ضلالا زائدا وقرأ حمزة والكسائي وحفص يضل على البناء للمفعول وعن يعقوب يضل على أن الفعل للّه تعالى {يحلونه عاما} يحلون المنسي من الاشهر الحرم سنة ويحرمون مكانه شهرا آخر {ويحرمونه عاما} فيتركونه على حرمته قيل أول من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني كان يقوم على جمل في الموسم فينادي إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم ينادي في القبائل إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه والجملتان تفسير للضلال أو حال {ليواطئوا عدة ما حرم اللّه} أي ليوافقوا عدة الأربعة المحرمة واللام متعلقة بيحرمونه أو بما دل عليه مجموع الفعلين {فيحلوا ما حرم اللّه} بمواطأة العدة وحدها من غير مراعاة الوقت {زين لهم سوء أعمالهم} وقرئ على البناء للفاعل وهو اللّه تعالى والمعنى خذلهم وأضلهم حتى حسبوا قبيح أعمالهم حسنا {واللّه لا يهدي القوم الكافرين} هداية موصلة إلى الاهتداء ٣٨ {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل اللّه أثاقلتم} تباطأتم وقرئ تثاقلتم على الأصل و أثاقلتم على الاستفهام للتوبيخ {إلى الأرض} متعلق به كأنه ضمن معنى الاخلاد والميل فعدي بإلى وكان ذلك في غزوة تبوك أمروا بها بعد رجوعهم من الطائف في وقت عسرة وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليهم {أرضيتم بالحياة الدنيا} وغرورها {من الآخرة} بدل الآخرة ونعيمها {فما متاع الحياة الدنيا} فما التمتع بها {في الآخرة} في جنب الآخرة {إلا قليل} مستحقر ٣٩ {إلا تنفروا} إن لا تنفروا إلى ما استنفرتم إليه {يعذبكم عذابا أليما} بالإهلاك بسبب فظيع كقحط وظهور عدو {ويستبدل قوما غيركم} ويستبدل بكم آخرين مطيعين كأهل اليمن وأبناء فارس {ولا تضروه شيئا} إذ لا يقدح تثاقلكم في نصر دينه شيئا فإنه الغني عن كل شيء وفي كل أمر وقيل الضمير للرسول صلى اللّه عليه وسلم أي ولا تضروه فإن اللّه سبحانه وتعالى وعد له بالعصمة والنصرة ووعده حق {واللّه على كل شيء قدير} فيقدر على التبديل وتغيير الاسباب والنصرة بلا مدد كما قال ٤٠ {إلا تنصروه فقد نصره اللّه} أي إن لم تنصروه فسينصره اللّه كما نصره {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين} ولم يكن معه إلا رجل واحد فحذف الجزاء وأقيم ما هو كالدليل عليه مقامه أو إن لم تنصروه فقد أوجب اللّه له النصر حتى نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في غيره واسناد الاخراج إلى الكفرة لأن همهم بإخراجه أو قتله تسبب لإذن اللّه له بالخروج وقرئ {ثاني اثنين} بالسكون على لغة من يجري المنقوص مجرى المقصور في الاعراب ونصبه على الحال {إذ هما في الغار} بدل من إذ أخرجه بدل البعض إذ المراد به زمان متسع والغار نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثا {إذ يقول} بدل ثان أو ظرف لثاني لصاحبه وهو أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه {لا تحزن إن اللّه معنا} بالعصمة والمعونة روي أن المشركين طلعوا فوق الغار فأشفق أبو بكر رضي اللّه عنه على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ما ظنك باثنين اللّه ثالثهما فأعماهم اللّه عن الغار فجعلوا يترددون حوله فلم يروه وقيل لما دخلا الغار بعث اللّه حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه {فأنزل اللّه سكينته} أمنته التي تسكن عندها القلوب عليه على النبي صلى اللّه عليه وسلم أو على صاحبه وهو الأظهر لأنه كان منزعجا {وأيده بجنود لم تروها} يعني الملائكة أنزلهم ليحرسوه في الغار أو ليعينوه على العدو يوم بدر والاحزاب وحنين فتكون الجملة معطوفة على قوله {نصره اللّه} [التّوبة:٤١] {وجعل كلمة الذين كفروا السفلى} يعني الشرك أو دعوة الكفر {وكلمة اللّه هي العليا} يعني التوحيد أو دعوة الإسلام والمعنى وجعل ذلك بتخليص الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن أيدي الكفار إلى المدينة فإنه المبدأ أو بتأييده إياه بالملائكة في هذه المواطن أو بحفظه ونصره له حيث حضر وقرأ يعقوب وكلمة اللّه بالنصب عطفا على كلمة الذين والرفع أبلغ لما فيه من الاشعار بأن كلمة اللّه عالية في نفسها وإن فاق غيرها فلا ثبات لتفوقه ولا اعتبار ولذلك وسط الفصل {واللّه عزيز حكيم} في أمره وتدبيره ٤١ {انفروا خفافا} لنشاطكم له {وثقالا} عنه لمشقته عليكم أو لقلة عيالكم ولكثرتها أو ركبانا ومشاة أو خفافا وثقالا من السلاح أو صحاحا ومراضا ولذلك لما قال ابن أم مكتوم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعلي أن أنفر قال نعم حتى نزل ليس على الأعمى حرج [النور:٦١] {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل اللّه} بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحدهما {ذلكم خير لكم} من تركه {إن كنتم تعلمون} الخير علمتم أنه خير أو إن كنتم تعلمون أنه خير إذ إخبار اللّه تعالى به صدق فبادروا إليه ٤٢ {لو كان عرضا} أي لو كان ما دعوا إليه نفعا دنيويا {قريبا} سهل المأخذ {وسفرا قاصدا} متوسطا {لاتبعوك} لوافقوك {ولكن بعدت عليهم الشقة} أي المسافة التي تقطع بمشقة وقرئ بكسر العين والشين {وسيحلفون باللّه} أي المتخلفون إذا رجعت من تبوك معتذرين {لو استطعنا} يقولون لو كان لنا استطاعة العدة أو البدن وقرئ لو استطعنا بضم الواو تشبيها لها بواو الضمير في قوله اشتروا الضلالة [البقرة:١٦] {لخرجنا معكم} ساد مسد جوابي القسم والشرط وهذا من المعجزات لأنه إخبار عما وقع قبل وقوعه {يهلكون أنفسهم} بإيقاعها في العذاب وهو بدل من سيحلفون لأن الحلف الكاذب إيقاع للنفس في الهلاك أو حال من فاعله {واللّه يعلم انهم لكاذبون} في ذاك لأنهم كانوا مستطيعين الخروج ٤٣ {عفا اللّه عنك} كناية عن خطئه في الإذن فإن العفو من روادفه {لم أذنت لهم} بيان لما كني عنه بالعفو ومعاتبة عليه والمعنى لأي شيء أذنت لهم في القعود حين استأذنوك واعتلوا بأكاذيب وهلا توقفت {حتى يتبين لك الذين صدقوا} في الاعتذار {وتعلم الكاذبين} فيه قيل إنما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئين لم يؤمر بهما اخذه للفداء وإذنه للمنافقين فعاتبه اللّه عليهما ٤٤ {لا يستأذنك الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} أي ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا فإن الخلص منهم يبادرون إليه ولا يتوقفون على الأذن فيه فضلا أن يستأذنوك في التخلف عنه أو أن يستأذنوك في التخلف لا كراهة أن يجاهدوا {واللّه عليم بالمتقين} شهادة لهم بالتقوى وعدة لهم بثوابه ٤٥ {إنما يستأذنك} في التخلف {الذين لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر} تخصيص الإيمان باللّه عز وجل واليوم الآخر في الموضعين للاشعار بأن الباعث على الجهاد والوازع عنه الإيمان وعدم الإيمان بهما {وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون} يتحيرون ٤٦ {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له} للخروج {عدة} أهبة وقرئ عده بحذف التاء عند الإضافة كقوله إن الخليط أجدوا البين فانجردوا وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا وعده بكسر العين بالاضافة وعدة بغيرها {ولكن كره اللّه انبعاثهم} استدراك عن مفهوم قوله ولو أرادوا الخروج كأنه قال ما خرجوا ولكن تثبطوا لأنه تعالى كره انبعاثهم أي نهوضهم للخروج {فثبطهم} فحسبهم بالجبن والكسل {وقيل اقعدوا معالقاعدين} تمثيل لإلقاء اللّه كراهة الخروج في قلوبهم أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود أو حكاية قول بعضهم لبعض أو إذن الرسول عليه السلام لهم والقاعدين يحتمل المعذورين وغيرهم وعلى الوجهين لا يخلو عن ذم ٤٧ {لو خرجوا فيكم ما زادوكم} بخروجهم شيئا {إلا خبالا} فسادا وشرا ولا يستلزم ذلك أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زادوه لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء ولأجل هذا التوهم جعل الاستثناء منقطعا وليس كذلك لأنه لا يكون مفرغا {ولأوضعوا خلالكم} ولأسرعوا ركائبهم بينكم بالنميمة والتضريب أو الهزيمة والتخذيل من وضع البعير وضعا إذا أسرع {يبغونكم الفتنة} يريدون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم أو الرعب في قلوبكم والجملة حال من الضمير في أوضعوا {وفيكم سماعون لهم} ضعفة يسمعون قولهم ويطيعونهم أو نمامون يسمعون حديثكم للنقل إليهم {واللّه عليم بالظالمين} فيعلم ضمائرهم وما يتأتى منهم ٤٨ {لقد ابتغوا الفتنة} تشتيت أمرك وتفريق أصحابك {من قبل} يعني يوم أحد فإن ابن أبي واصحابه كما تخلفوا عن تبوك بعدما خرجوا مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلى ذي جدة أسفل من ثنية الوداع انصرفوا يوم أحد {وقلبوا لك الأمور} ودبروا لك المكايد والحيل ودوروا الآراء في ابطال أمرك {حتى جاء الحق} بالنصر والتأييد الإلهي {وظهر أمر اللّه} وعلا دينه {وهم كارهون} أي على رغم منهم والآيتان لتسلية الرسول صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين على تخلفهم وبيان ما ثبطهم اللّه لأجله وكره انبعاثهم له وهتك أستارهم وكشف أسرارهم وإزاحة اعتذارهم تداركا لما فوت الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالمبادرة إلى الآذن ولذلك عوتب عليه ٤٩ {ومنهم من يقول ائذن لي} في القعود {ولا تفتني} ولا توقعني في الفتنة أي في العصيان والمخالفة بأن لا تأذن لي وفيه أشعار بأنه لا محالة متخلف أذن له أم يأذن أو في الفتنة بسبب ضياع المال والعيال إذ لا كافل لهم بعدي أو في الفتنة بنساء الروم لما روي أن جد بن قيس قال قد علمت الأنصار أني مولع بالنساء فلا تفتني ببنات الاصفر ولكني اعينك بمالي فاتركني {ألا في الفتنة سقطوا} أي إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة التخلف أو ظهور النفاق لا ما احترزوا عنه {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} جامعة لهم يوم القيامة أو الآن لأن احاطة أسبابها بهم كوجودها ٥٠ {إِن تُصِبْكَ} في بعض غزواتك {حَسَنَةٌ} ظفر وغنيمة. {تَسُؤْهُمْ} لفرط حسدهم. {و إن تصبك } في بعضها { مصيبة } كسر أو شدة أو كما أصاب يومأحد {يقولوا قد اخذنا امرنا من قب} تبجحوا بانصرافهم واستحمدوا رأيهم فيالتخلف {ويتولوا} عن متحدثهم بذلك ومجتمعهملهأوعن الرسول صلىاللّهعليه وسلم {وهم فرحون } مسرورون ٥١ {قل لن يصيبنا إلا ما كتب اللّه لنا} إلا ما احتصنا بإثباته وإيجابه من النصرة أو الشهادة أو ما كتب لأجلنا في اللوح المحفوظ لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم وقرئ هل يصيبنا و هل يصيبنا وهو من فيعل لا من فعل لأنه من بنات الواو لقولهم صاب السهم يصوب واشتقاقه من الصواب لأنه وقوع الشيء فيما قصد به وقيل من الصواب {هو مولان}ا ناصرنا ومتولي امورنا {وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون} لأن حقهم أن لا يتوكلوا على غيره ٥٢ {قل هل تربصون بنا تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنيين} إلا إحدى العاقبتين اللتين كل منهما حسنى العواقب النصرة والشهادة {ونحن نتربص بكم} أيضا إحدى السوأيين {إن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده} بقارعة من السماء {أو بأيدينا} أو بعذاب بأيدينا وهو القتل على الكفر {فتربصوا} ما هو عاقبتنا {إنا معكم متربصون} ما هو عاقبتكم ٥٣ {قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم} أمر في معنى الخبر أي لن يتقبل منكم نفقاتكم أنفقتم طوعا أو كرها وفائدته المبالغة في تساوي الانفاقين في عدم القبول كأنهم امروا بأن يمتحنوا فينفقوا وينظروا هل يتقبل منهم وهو جواب قول جد بن قيس وأعينك بمالي ونفي التقبل يحتمل أمرين أن لا يؤخذ منهم وان لا يثابوا عليه وقوله {إنكم كنتم قوما فاسقين} تعليل له على سبيل الاستئناف وما بعده بيان وتقرير له ٥٤ {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا باللّه وبرسوله} أي وما منعهم قبول نفقاتهم إلا كفرهم وقرأ حمزة والكسائي أن يقبل بالياء لأن تأنيث النفقات غير حقيقي وقرئ يقل على أن الفعل للّه {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} متثاقلين {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} لأنهم لا يرجون بهما ثوابا ولا يخافون على تركهما عقابا ٥٥ {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} فإن ذلك استدراج ووبال لهم كما قال {إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب وما يرون فيها من الشدائد والمصائب {وتزهق أنفسهم وهم كافرون} فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع عن النظر في العاقبة فيكون ذلك استدراجا لهم وأصل الزهوق الخروج بصعوبة ٥٦ {ويحلفون باللّه إنهم لمنكم} إنهم لمن جملة المسلمين {وما هم منكم} لكفر قلوبهم {ولكنهم قوم يفرقون} يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلون بالمشركين فيظهرون الإسلام تقية ٥٧ {لو يجدون ملجأ} حصنا يلجؤون إليه {أو مغارات} غيرانا {أو مدخلا} نفقا ينجحرون فيه مفتعل من الدخول وقرأ يعقوب مدخلا من مدخل وقرئ مدخلا أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم و متدخلا و مندخلا من تدخل اندخل {لولوا إليه} لأقبلوا نحوه {وهم يجمحون} يسرعون إسراعا لا يردهم شيء كالفرس الجموح وقرئ يجمزون ومنه الجمازة ٥٨ {ومنهم من يلزمك} يعيبك وقرأ يعقوب يلمزك بالضم وابن كثير يلامزك {في الصدقات} في قسمها {فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} قيل إنها نزلت في أبي الجواظ المنافق فقال ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم أنه يعدل وقيل في ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم غنائم حنين فاستعطف قلوب أهل مكة بتوفير الغنائم عليهم فقال اعدل يا رسول اللّه فقال: ويلك إن لم أعدل فمن يعدل و إذا للمفاجأة نائب مناب الفاء الجزائية ٥٩ {ولو أنهم رضوا ما آتاهم اللّه ورسوله} ما أعطاهم الرسول من الغنيمة أو الصدقة وذكر اللّه للتعظيم وللتنبيه على أن ما فعله الرسول صلى اللّه عليه وسلم كان بأمره {وقالواحسبنا اللّه} كفانا فضله {سيؤتينا اللّه من فضله} صدقة أو غنيمة أخرى ورسوله فيؤتينا اكثر مما آتانا {إنا إلى اللّه راغبون} في أن يغنينا من فضله والاية بأسرها في حيز الشرط والجواب محذوف تقديره خيرا لهم ثم بين مصارف الصدقات تصويبا وتحقيقا لما فعله الرسول صلى اللّه عليه وسلم فقال ٦٠ {إنما الصدقات للفقرأء والمساكين} أي الزكوات لهؤلاء المعدودين دون غيرهم وهو دليل على أن المراد باللمز لمزهم في قسم الزكوات دون الغنائم والفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته من الفقار كأنه اصيب فقاره والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه من السكون كأن العجز أسكنه ويدل عليه قوله تعالى أما السفينة فكانت لمساكين [الكهف:٧٩] وأنه صلى اللّه عليه وسلم كان يسأل المسكنة ويتعوذ من الفقر وقيل بالعكس لقوله تعالى {ومسكينا ذا متربة} [البلد: ١٦] {والعاملين عليها} الساعين في تحصيلها وجمعها {والمؤلفة قلوبهم} قوم اسلموا ونيتهم ضعيفة فيه فيستأنف قلوبهم أو أشراف قد يترتب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم وقد أعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عيينة بن حصن والألقرع بن حابس والعباس بن مرداس لذلك وقيل أشراف يستألفون على أن يسلموا فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يعطيهم والأصح أنه كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله وقد عد منهم من يؤلف قبله بشيء منها على قتال الكفار ومانعي الزكاة وقيل كان سهم المؤلفة لتكثير سواد الإسلام فلما أعزه اللّه وأكثر أهله سقط {وفي الرقاب} وللصرف في فك الرقاب بأن يعاون المكاتب بشىء منها على أداء النجوم وقيل بأن تبتاع الرقاب فتعتق وبه قال مالك وأحمد أو بأن يفدي الأساري والعدول عن اللام إلى في للدلالة على أن الاستحقاق للجهة لا للرقاب وقيل للايذان بأنهم أحق بها {والغارمين} والمديونين لأنفسهم غير معصية ومن غير إسراف إذا لم يكن لهم وفاء أو الاصلاح ذات البين وان كانوا اغنياء لقوله صلى اللّه عليه وسلم: لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل اللّه أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني أو لعامل عليها {وفي سبيل اللّه} وللصرف في الجهاد بالانفاق على المتطوعة وابتياع الكراع والسلاح وقيل وفي بناء القناطر والمصانع {وابن السبيل} المسافر المنقطع عن ماله {فريضة من اللّه} مصدر لما دل عليه الآية الكريمة أي فرض لهم اللّه الصدقات فريضة أو حال من الضمير المستكن في للفقرأء وقرئ بالرفع على تلك فريضة {واللّه عليم حكيم} يضع الأشياء في مواضعها وظاهر الآية يقتضي تخصيص استحقاق الزكاة بالاصناف الثمانية ووجوب الصرف إلى كل صنف وجد منهم ومراعاة التسوية بينهم قضية للاشتراك واليه ذهب الشافعي رضي اللّه تعالى عنه وعن عمر وحذيفة وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان اللّه عليهم أجمعين جواز صرفها إلى صنف واحد وبه قال الأئمة الثلاثة واختاره بعض اصحابنا وبه كان يفتي شيخي ووالدي رحمهما اللّه تعالى على أن الآية بيان أن الصدقة لا تخرج منهم لا ايجاب قسمها عليهم ٦١ {ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن} يسمع كل ما يقال له ويصدقه سمي بالجارحة للمبالغة كأنه من فرط استماعه صار جملته آلة السماع كما سمي الجاسوس عينا لذلك أو اشتق له فعل من أذن أذنا إذا استمع كأنف وشلل روي أنهم قالوا محمد أذن سامعه نقول ما شئنا ثم تأتيه فيصدقنا بما نقول {قل أذن خير لكم} تصديق لهم بأنه أذن ولكن لا على الوجه الذي ذموا به بل من حيث أنه يسمع الخير ويقبله ثم فسر ذلك بقوله {يؤمن باللّه} يصدق به لما قام عنده من الأدلة {ويؤمن للمؤمنين} ويصدقهم لما علم من خلوصهم واللام مزيدة للتفرقة بين إيمان التصديق فإنه بمعنى التسليم وإيمان الأمان ورحمة أي وهو رحمة {للذين آمنوا منكم} لمن اظهر الإيمان حيث يقبله ولا يكشف سره وفيه تنبيه عل انه ليس يقبل قولكم جهلا بحالكم بل رفقا بكم وترحما عليكم وقرأ حمزة ورحمة بالجر عطفا على خير وقرئ بالنصب على إنها علة فعل دل عليه {أذن خير} أي يأذن لكم رحمة وقرأ نافع أذن بالتخفيف فيهما وقرئ {أذن خير} على أن خير صفة له أو خبر ثان {والذين يؤذون رسول اللّه لهم عذاب أليم} بإيذائه ٦٢ {يحلفون باللّه لكم} على معاذيركم فيما قالوا أو تخلفوا ليرضوكم لترضوا عنهم والخطاب للمؤمنين {واللّه ورسوله احق أن يرضوه} أحق بالإرضاء بالطاعة والوفاق وتوحيد الضمير لتلازم الرضائين أو لأن الكلام في إيذاء الرسول صلى اللّه عليه وسلم وإرضائه أو لأن التقدير واللّه احق أن يرضوه والرسول كذلك {إن كانوا مؤمنين} صدقا ٦٣ {ألم يعلموا انه} أن الشأن وقرئ بالتاء {من يحادد اللّه ورسوله} يشاقق مفاعلة من الحد {فأن له نار جهنم خالدا فيها} على حذف الخبر أي فحق أن له أو على تكرير أن للتأكيد ويحتمل أن يكون معطوفا على أنه ويكون الجواب محذوفا تقديره من يحادد اللّه ورسوله يهلك وقرئ فإن بالكسر {ذلك الخزي العظيم} يعني الهلاك الدائم ٦٤ {يحذر المنافقون أن تنزل عليهم} على المؤمنين {سورة تنبئهم بما في قلوبهم} وتهتك عليهم استارهم ويجوز أن يكون الضمائر للمنافقين فإن النازل فيهم كالنازل عليهم من حيث انه مقروء ومحتج به عليهم وذلك يدل على ترددهم أيضا في كفرهم وأنهم لم يكونوا على بت في أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم بشيء وقيل إنه خبر في معنى الأمر وقبل كانوا يقولونه فيما بينهم استهزاء لقوله {قل استهزؤوا إن اللّه مخرج} مبرز أو مظهر {ما تحذرون} أي ما تحذرونه من إنزال السورة فيكم أو ما تحذرون اظهاره من مساويكم ٦٥ {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب} روي أن ركب المنافقين مروا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك فقالوا انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات فأخبر اللّه تعالى به نبيه فدعاهم فقال قلتم كذا وكذا فقالوا لا واللّه ما كنا في شيء من أمرك وأمر أصحابك ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر {قل أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون} توبيخا على استهزائهم بمن لا يصح الاستهزاء به وإلزاما للحجة عليهم ولا تعبأ باعتذارهم الكاذب ٦٦ {لا تعتذروا} لا تشتغلوا باعتذاراتكم فإنها معلومة الكذب {قد كفرتم} قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى اللّه عليه وسلم والطعن فيه {بعد ايمانكم} بعد اظهاركم الإيمان {أن نعف عن طائفة منكم} لتوبتهم وإخلاصهم أو لتجنبهم عن الإيذاء والاستهزاء {نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} مصرين على النفاق أو مقدمين على الإيذاء والاستهزاء وقرأ عاصم بالنون فيهما وقرئ بالياء وبناء الفاعل فيهما وهو اللّه وإن تعف بالتاء والبناء على المفعول ذهابا إلى المعنى كأنه قال أن ترحم طائفة ٦٧ {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} أي متشابهة في النفاق والبعد عن الإيمان كأبعاض الشيء الواحد وقيل إنه تكذيب لهم في حلفهم باللّه إنهم لمنكم وتقرير لقولهم وما هم منكم وما بعده كالدليل عليه فإنه يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين وهو قوله {يأمرون بالمنكر} بالكفر والمعاصي {وينهون عن المعروف} عن الإيمان والطاعة {ويقبضون أيديهم} عن المبار وقبض اليد كناية عن الشح {نسوا اللّه} غفلوا عن ذكر اللّه وتركوا طاعته فنسيهم فتركهم من لطفه وفضله {إن المنافقين هم الفاسقون} الكاملون في التمرد والفسوق عن دائرة الخير ٦٨ {وعد اللّه المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها} مقدرين الخلود {هي حسبهم} عقابا وجزاء وفيه دليل على عظم عذابها {ولعنهم اللّه} أبعدهم من رحمته وأهانهم {ولهم عذاب مقيم} لا ينقطع والمراد به ما وعدوه أو ما يقاسونه من تعب النفاق ٦٩ {كالذين من قبلكم} أي أنتم مثل الذين أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم {كانوا اشد منكم قوة وأكثر اموالا وأولادا} بيان لتشبيههم بهم وتمثيل حالهم بحالهم {فاستمتعوا بخلاقهم} نصيبهم من ملاذ الدنيا واشتقاقه من الخلق بمعنى التقدير فإنه ما قدر لصاحبه {فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم} ذم الأولين باستمتاعهم بحظوظهم المخدجة من الشهوات الفانية والتهائهم بها عن النظر في العاقبة والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيقية تمهيدا لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم وخضتم ودخلتم في الباطل كالذين خاضوا كالذين خاضوا أو كالفوج الذي خاضوا أو كالخوض الذي خاضوه {أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} لم يستحقوا عليها ثوابا في الدارين {وأولئك هم الخاسرون} الذين خسروا الدنيا والاخرة ٧٠ {ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح} اغرقوا بالطوفان وعاد اهلكوا بالريح وثمود أهلكوا بالرجفة {وقوم إبراهيم} أهلك نمروذ ببعوض وأهلك اصحابه {وأصحاب مدين} وأهل مدين وهم قوم شعيب أهلكوا بالنار يوم الظلة والمؤتفكات قريات قوم لوط ائتفكت بهم أي انقلبت بهم فصار عاليها سافلها وامطروا حجارة من سجيل وقيل قريات المكذبين المتمردين وائتفاكهن انقلاب احوالهن من الخير إلى الشر {أتتهم رسلهم} يعني الكل {بالبينات فما كان اللّه ليظلمهم} أي لم يك من عادته ما يشابه ظلم الناس كالعقوبة بلا جرم {ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب ٧١ {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض} في مقابلة قوله المنافقون والنمافقات بعضهم من بعض [التّوبة:٦٧] {يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون اللّه ورسوله} في سائر الأمور {أولئك سيرحمهم اللّه} لا محالة فإن السين مؤكدة للوقوع {إن اللّه عزيز} غالب على كل شيء لا يمتنع عليه ما يريده {حكيم} يضع الاشياء مواضعها ٧٢ {وعد اللّه المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة} تستطيبها النفس أو يطيب فيها العيش وفي الحديث إنها قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر {في جنات عدن} إقامة وخلود وعنه عليه الصلاة والسلام عدن دار اللّه التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة النبيون والصديقون والشهداء يقول اللّه تعالى طوبى لمن دخلك ومرجع العطف فيها يحتمل أن يكون إلى تعدد الموعود لكل واحد أو للجميع على سبيل التوزيع أو إلى تغاير وصفه فكأنه وصفه اولا بأنه من جنس ما هو ابهى الاماكن التي يعرفونها لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع اسماعهم ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التي لا تخلو عن شيء منها اماكن الدنيا وفيها ما تشتهي الانفس وتلذ الاعين ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار عليين لا يعتريهم فيها فناء ولا تغير ثم وعدهم بما هو اكبر من ذلك فقال {ورضوان من اللّه أكبر} لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة والمؤدي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء وعنه صلى اللّه عليه وسلم: إن اللّه تعالى يقول لأهل الجنة هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط احدا من خلقك فيقول أنا اعطيكم افضل من ذلك فيقولون واي شيء من ذلك فيقول احل عليكم رضواني فلا اسخط عليكم أبدا {ذلك} أي الرضوان أو جميع ما تقدم {هو الفوز العظيم} الذي تستحقر دونه الدنيا وما فيها ٧٣ {يا آيها النبي جاهد الكفار} بالسيف والمنافقين بإلزام الحجة وإقامة الحدود {واغلظ عليهم} في ذلك ولا تحابهم {ومأواهم جهنم وبئس المصير} مصيرهم ٧٤ {يحلفون باللّه ما قالوا} روي أنه صلى اللّه عليه وسلم اقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرأن ويعيب المتخلفين فقال الجلاس بن سويد لئن كان ما يقول محمد لإخواننا حقا لنحن شر من الحمير فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاستحضره فحلف باللّه ما قاله فنزلت فتاب الجلاس وحسنت توبته {ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم} واظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام {وهموا بما لم ينالوا} من فتك الرسول وهو أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مرجعه من تبوك أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ تسنم العقبة بالليل فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع اخفاف الإبل وقعقعة السلاح فقال إليكم إليكم يا أعداء اللّه فهربوا أو اخراجه واخراج المؤمنين من المدينة أو بأن يتوجوا عبد اللّه بن أبي وإن لم يرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {وما نقموا} وما أنكروا أو ما وجدوا ما يورث نقمتهم {إلا أن اغناهم اللّه ورسوله من فضله} فإن أكثر أهل المدينة كانوا محاويج في ضنك من العيش فلما قدمهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى والاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل أو العلل {فإن يتوبوا يك خيرا لهم} وهو الذي حمل الجلاس على التوبة والضمير في يك للتوب {وإن يتولوا} بالإصرار على النفاق {يعذبهم اللّه عذابا أليما في الدنيا والآخرة} بالقتل والنار {وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير} فينجيهم من العذاب ٧٥ {ومنهم من عاهد اللّه لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين} نزلت في ثعلبة بن حاطب آتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ادع اللّه أن يرزقني مالا فقال عليه الصلاة والسلام يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه فراجعه وقال والذي بعثك بالحق لئن رزقني اللّه لأعطين كل ذي حق حقه فدعا له فاتخذ غنما فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة فسأل عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقيل كثر ماله حتى لا يسعه واد فقال يا ويح ثعلبة فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مصدقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرأه الكتاب الذي فيه الفرائض فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية فارجعا حتى أرى رأيي فنزلت فجاء ثعلبة بالصدقة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم إن اللّه منعني أن اقبل منك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني فقبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجاء بها إلى أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه فلم يقبلها ثم جاء بها إلى عمر رضي اللّه تعالى عنه في خلافته فلم يقبلها وهلك في زمان عثمان رضي اللّه تعالى عنه ٧٦ {فلما أتاهم من فضله بخلوا به} منعوا حق اللّه منه وتولوا عن طاعة اللّه {وهم معرضون} وهم قوم عادتهم الإعراض عنها ٧٧ {فأعقبهم نفاقا في قلوبهم} أي فجعل اللّه عاقبة فعلهم ذلك نفاقا وسوء اعتقاد في قلوبهم ويجوز أن يكون الضمير للبخل والمعنى فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم {إلى يوم يلقونه} يلقون اللّه بالموت أو يلقون عملهم أي جزاءه وهو يوم القيامة {بما أخلفوا اللّه ما وعدوه} بسبب إخلافهم ما وعدوه من التصدق والصلاح {وبما كانوا يكذبون} وبكونهم كاذبين فيه فإن خلف الوعد متضمن لكذب مستقبح من الوجهين أو المقال مطلقا وقرئ يكذبون بالتشديد ٧٨ {ألم يعلموا} أي المنافقون أو من عاهد اللّه وقرئ بالتاء على الالتفات {أن اللّه يعلم سرهم} ما أسروه في أنفسهم من النفاق أو العزم على الإخلاف ونجواهم وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن أو تسمية الزكاة جزية {وأن اللّه علام الغيوب} فلا يخفى عليه ذلك ٧٩ {الذين يلمزون} ذم مرفوع أو منصوب أو بدل من الضمير في سرهم وقرئ يلمزون بالضم المطوعين المتطوعين {من المؤمنين في الصدقات} روي أنه صلى اللّه عليه وسلم حث على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال كان لي ثمانية آلاف فأقرضت ربي أربعة وأمسكت لعيالي أربعة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: بارك اللّه لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك اللّه له حتى صولحت إحدى امرأتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم وتصدق عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع تمر فقال بت ليلتي أجر بالجرير على صاعين فتركت صاعا لعيالي وجئت بصاع فأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن ينثره على الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء ولقد كان اللّه ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنه أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات فنزلت {والذين لا يجدون إلا جهدهم} إلا طاقتهم وقرئ بالفتح وهو مصدر جهد في الأمر إذا بالغ فيه {فيسخرون منهم} يستهزئون بهم {سخر اللّه منهم} جازاهم على سخريتهم كقوله تعالى {اللّه يستهزئ بهم} [البقرة:١٥] {ولهم عذاب أليم} على كفرهم ٨٠ {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} يريد به التساوي بين الأمرين في عدم الإفادة لهم كما نص عليه بقوله {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّه لهم} روي أن عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي وكان من المخلصين سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفر له ففعل صلى اللّه عليه وسلم فنزلت فقال صلى اللّه عليه وسلم: لأزيدن على السبعين فنزلت سواء عليهم استغفرت لهم أو لم تستغفر لهم لن يغفر اللّه لهم [المنافقين:٦] وذلك لأنه صلى اللّه عليه وسلم فهم من السبعين العدد المخصوص لأنه الأصل فجوز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما وراءه فبين له أن المراد به التكثير دون التحديد وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة ونحوها في التكثير لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد فكأنه العدد بأسره {ذلك بأنهم كفروا باللّه ورسوله} إشارة إلى أن اليأس من المغفرة وعدم قبول استغفارك ليس لبخل منا ولا قصور فيك بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها {واللّه لا يهدي القوم الفاسقين} المتمردين في كفرهم وهو كالدليل على الحكم السابق فإن مغفرة الكافر بالاقلاع عن الكفر والارشاد إلى الحق والمنهمك في كفره المطبوع عليه لا ينقلع ولا يهتدي والتنبيه على عذر الرسول في استغفاره وهو عدم يأسه من ايمانهم ما لم يعلم انهم مطبوعون على الضلالة والممنوع هو الاستغفار بعد العلم لقوله تعالى {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم انهم أصحاب الجحيم} [التّوبة: ١١٣] ٨١ {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول اللّه} بقعودهم عن الغزو خلفه يقال اقام خلاف الحي أي بعدهم ويجوز أن يكون بمعنى المخالفة فيكون انتصابه على العلة أو الحال {وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه} ايثارا للدعة والخفض على طاعة اللّه وفيه تعريض بالمؤمنين الذين آثروا عليها تحصيل رضاه ببذل الأموال والمهج {وقالوا لا تنفروا في الحر} أي قال بعضهم لبعض أو قالوه للمؤمنين تثبيطا {قل نار جهنم أشد حرا} وقد آثرتموها بهذه المخالفة {لو كانوا يفقهون} أن مآبهم إليها أو إنها كيف هي ما اختاروها بايثار الدعة على الطاعة ٨٢ {فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون} إخبار عما يؤول إليه حالهم في الدنيا والاخرة اخرجه على صيغة الأمر للدلالة على انه حتم واجب ويجوز أن يكون الضحك والبكاء كنايتين عن السرور والغم والمراد من القلة العدم ٨٣ {فإن رجعك اللّه إلى طائفة منهم} فإن ردك إلى المدينة وفيها طائفة من المتخلفين يعني منافقيهم فإن كلهم لم يكونوا منافقين أو من بقي منهم وكان المتخلفون اثني عشر رجلا {فاستأذنوك للخروج} إلى غزوة أخرى بعد تبوك {فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا} إخبار في معنى النهي للمبالغة {انكم رضيتم بالقعود أول مرة} تعليل له وكان اسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم و {أول مرة} هي الخرجة إلى غزوة تبوك {فاقعدوا مع الخالفين} أي المتخلفين لعدم لياقتهم للجهاد كالنساء والصبيان وقرئ مع الخلفين على قصر الخالفين ٨٤ {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا} روي أن عبد اللّه بن أبي دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مرضه فلما دخل عليه سأله أن يستغفر له ويكفنه في شعاره الذي يلي جسده ويصلي عليه فلما مات أرسل قميصه ليكفن فيه وذهب ليصلي عليه فنزلت وقيل صلى عليه ثم نزلت وانما لم ينه عن التكفين في قميصه ونهى عن الصلاة عليه لأن الضن بالقميص كان مخلا بالكرم ولأنه كان مكافأة لا لباسه العباس قميصه حين أسر ببدر والمراد من الصلاة الدعاء للميت والاستغفار له وهو ممنوع في حق الكافر ولذلك رتب النهي على قوله {مات أبدا} يعني الموت على الكفر فإن إحياء الكافر للتعذيب دون التمتع فكأنه لم يحيى {ولا تقم على قبره} ولا تقف عند قبره للدفن أو الزيارة {إنهم كفروا باللّه ورسوله وماتوا وهم فاسقون} تعليل للنهي أو لتأبيد الموت ٨٥ {ولا تعجبك أموالهم لا أولادهم إنما يريد اللّه أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون} تكرير للتأكيد والأمر حقيق به فإن الابصار طامحة إلى الأموال والاولاد والنفوس مغتبطة عليها ويجوز أن تكون هذه في فريق غير الأول ٨٦ {وإذا انزلت سورة} من القرأن ويجوز أن يراد بها بعضها {أن آمنوا باللّه} بأن آمنوا باللّه ويجوز أن تكون أن المفسرة {وجاهدوا مع رسوله استأذنك اولوا الطول منهم} ذوو الفضل والسعة {وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين} الذين قعدوا لعذر ٨٧ {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف} مع النساء جمع خالفه وقد يقال الخالفة للذي لا خير فيه {وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} ما في الجهاد وموافقة الرسول من السعادة وما في التخلف عنه من الشقاوة ٨٨ {لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم} أي إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم {وأولئك لهم الخيرات} منافع الدارين النصر والغنيمة في الدنيا والجنة والكرامة في الآخرة وقيل الحور لقوله تعالى {فيهن خيرات حسان} [الرحمن: ٧٠] وهي جمع خيرة تخفيف خيرة {وأولئك هم المفلحون} الفائزون بالمطالب ٨٩ {أعد اللّه لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم} بيان لما لهم من الخيرات الأخروية ٩٠ {وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم} يعني اسدا وغطفان استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال وقيل هم رهط عامر بن الطفيل قالوا أن غزونا معك اغارت طييء على اهالينا ومواشينا والمعذر أما من عذر في الأمر إذا قصر فيه موهما أن له عذرا ولا عذر له أو من اعتذر إذا مهد العذر بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين ويجوز كسر العين لالتفاء الساكنين وضمها للاتباع لكن لم يقرأ بهما وقرأ يعقوب المعذرون من أعذر إذا اجتهد في العذر وقرئ المعذرون بتشديد العين والذال على انه من تعذر بمعنى اعتذر وهو لحن إذ التاء لا تدغم في العين وقد اختلف في أنهم كانوا معتذرين بالتصنع أو بالصحة فيكون قوله {وقعد الذين كذبوا اللّه ورسوله} في غيرهم وهم منافقو الاعراب كذبوا اللّه ورسوله في ادعاء الإيمان وان كانوا هم الأولين فكذبهم بالاعتذار {سيصيب الذين كفروا منهم} من الأعراب أو من المعذرين فإن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره {عذاب أليم} بالقتل والنار ٩١ {ليس على الضعفاء ولا على المرضى} كالهرمى والزمنى {ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون} لفقرهم كجهينة ومزينة وبني عذرة حرج إثم في التأخر {إذا نصحوا للّه ورسوله} بالإيمان والطاعة في السر والعلانية كما يفعل الموالي الناصح أو بما قدروا عليه فعلا أو قولا يعود على الإسلام والمسلمين بالصلاح {ما على المحسنين من سبيل} أي ليس عليهم جناح ولا إلى معاتبتهم سبيل وانما وضع المحسنين موضع الضمير للدلالة على انهم منخرطون في سلك المحسنين غير معاتبين لذلك {واللّه غفور رحيم} لهم أو للمسيء فكيف للمحسن ٩٢ {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم} عطف على الضعفاء أو على المحسنين وهم البكاؤون سبعة من الأنصار معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد اللّه بن كعب وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد اللّه بن مغفل وعلية بن زيد أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالوا قد نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغز معك فقال صلى اللّه عليه وسلم: لا اجد ما احملكم عليه فتولوا وهم يبكون وقيل هم بنو مقرن معقل وسويد والنعمان وقيل أبو موسى وأصحابه {قلت لا أجد ما أحملكم عليه} حال من الكاف في أتوك بإضمار قد. {تَوَلَّوْا} جواب إذا. {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} تسيل. {مِنَ ٱلدَّمْعِ} أي دمعاً فإن من للبيان وهي مع المجرور في محل النصب على التمييز وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأنه يدل على أن العين صارت دمعاً فياضاً. {حَزَناً} نصب على العلة أو الحال أو المصدر لفعل دل عليه ما قبله. {أَلاَّ يَجِدُوا} لئلا يجدوا متعلق بـ {حَزَناً} أو بـ { تَفِيضُ}. {مَا يُنْفِقُونَ} في مغزاهم. ٩٣ {إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ} بالمعاتبة. {عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء} واجدون الأهبة. {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوٰلِفِ} استئناف لبيان ما هو السبب لاستئذانهم من غير عذر وهو رضاهم بالدناءة والانتظام في جملة الخوالف إيثاراً للدعة. {وَطَبَعَ ٱللّه عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} حتى غفلوا عن وخامة العاقبة. {فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} مغبته. ٩٤ {يعتذرون اليكم} في التخلف {إذا رجعتم إليهم} من هذه السفرة {قل لا تعتذروا} بالمعاذير الكاذبة لأنه {لن نؤمن لكم} لن نصدقكم لأنه {قد نبأنا اللّه من اخباركم} أعلمنا بالوحي إلى نبيه بعض اخباركم وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد {وسيرى اللّه عملكم ورسوله} أتتوبون عن الكفر أم تثبتون عليه فكأنه استتابة وإمهال للتوبة {ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة} أي إليه فوضع الوصف موضع الضمير للدلالة على انه مطلع على سرهم وعلنهم لا يفوت عن علمه شيء من ضمائرهم واعمالهم {فينبئكم بما كنتم تعملون} بالتوبيخ والعقاب عليه ٩٥ {سيحلفون باللّه لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم} فلا تعاتبوهم {فأعرضوا عنهم} ولا توبخوهم {إنهم رجس} لا ينفع فيهم التأنيب فإن المقصود منه التطهير بالحمل على الانابة وهؤلاء ارجاس لا تقبل التطهير فهو علة الاعراض وترك المعاتبة {ومأواهم جهنم} من تمام التعليل وكأنه قال إنهم ارجاس من أهل النار لا ينفع فيهم التوبيخ في الدنيا والاخرة أو تعليل ثان والمعنى أن النار كفتهم عتابا فلا تتكلفوا عتابهم {جزاء بما كانوا يكسبون} يجوز أن يكون مصدرا وان يكون علة ٩٦ {يحلفون لكم لترضوا عنهم} بحلفهم فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم {فإن ترضوا عنهم فإن اللّه لا يرضى عن القوم الفاسقين} أي فإن رضاكم لا يستلزم رضا اللّه ورضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كانوا في سخط اللّه وبصدد عقابه وان امكنهم أن يلبسوا عليكم لا يمكنهم أن يلبسوا على اللّه فلا يهتك سترهم ولا ينزل الهوان بهم والمقصود من الآية النهي عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم بعد الأمر بالاعراض وعدم الالتفات نحوهم ٩٧ {الاعراب} أهل البدو {أشد كفرا ونفاقا} من أهل الحضر لتوحشهم وقساوتهم وعدم مخالطتهم لأهل العلم وقلة استماعهم للكتاب والسنة {وأجدر} أن لا يعلموا وأحق بأن {ألا يعلموا حدود ما أنزل اللّه على رسوله} من الشرائع فرائضها وسنتها {واللّه عليم} بعلم حال كل أحد من أهل الوبر والمدر {حكيم} فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم عقابا وثوابا ٩٨ {ومن الاعراب من يتخذ} يعد {ما ينفق} يصرفه في سبيل اللّه ويتصدق به مغرما غرامة وخسرانا إذ لا يحتسبه قربة عند اللّه ولا يرجو عليه ثوابا وإنما ينفق رياء أو تقية {ويتربص بكم الدوائر} دوائر الزمان ونوبه لينقلب الأمر عليكم فيتخلص من الانفاق {عليهم دائرة السوء} اعتراض بالدعاء عليهم بنحو ما يتربصون أو الإخبار عن وقوع ما يتربصون عليهم والدائرة في الأصل مصدر أو اسم فاعل من دار يدور وسمي به عقبة الزمان و السوء بالفتح مصدر اضيف إليه للمبالغة كقولك رجل صدق وقرأ ابن كثير وأبو عمرو السوء هنا وفي الفتح بضم السين {واللّه سميع} لما يقولون عند الانفاق {عليم} بما يضمرون ٩٩ {ومن الاعراب من يؤمن باللّه واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند اللّه} سبب قربات وهي ثاني مفعولي يتخذ وعند اللّه صفتها أو ظرف ل يتخذ {وصلوات الرسول} وسبب صلواته لأنه صلى اللّه عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين ويستغفر لهم ولذلك سن للمصدق عليه أن يدعو للمتصدق عند أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلي عليه كما قال صلى اللّه عليه وسلم: اللّهم صل على آل أبي أوفى لأنه منصبه فله أن يتفضل به على غيره {إلا إنها قربة لهم} شهادة من اللّه بصحة معتقدهم وتصديق لرجائهم على الاستئناف مع حرف التنبيه وإن المحققة للنسبة والضمير لنفقتهم وقرأ ورش قربة بضم الراء {سيدخلهم اللّه في رحمته} وعدلهم بإحاطة الرحمة عليهم والسين لتحقيقه وقوله {إن اللّه غفور رحيم} لتقريره وقيل الأولى في أسد وغطفان وبني تميم والثانية في عبد اللّه ذي البجادين وقومه ١٠٠ {والسابقون الأولون من المهاجرين} هم الذين صلوا إلى القبلتين أو الذين شهدوا بدرا أو الذين أسلموا قبل الهجرة والانصار أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة وأهل بيعة العقبة الثانية وكانوا سبعين والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير وقرئ عطفا على والسابقون {والذين اتبعوهم بإحسان} اللاحقون بالسابقين من القبيلتين أو من اتبعوهم بالأيمان والطاعة إلى يوم القيامة {رضي اللّه عنهم} بقبول طاعتهم وارتضا أعمالهم {ورضوا عنه} بما نالوا من نعمه الدينية والدنيوية {وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار} وقرأ ابن كثير {من تحتها الأنهار} كما في سائر المواضع {خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} ١٠١ {وممن حولكم} أي وممن حول بلدتكم يعني المدينة {من الاعراب منافقون} هم جهينة ومزينة واسلم واشجع وغفار كانوا نازلين حولها {ومن أهل المدينة} عطف على ممن حولكم أو خبر لمحذوف صفته {مردوا على النفاق} ونظيره في حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه قوله أنا ابن جلا وطلاع الثنايا وعلى الأول صفة للمنافقين فصل بينها وبينه بالمعطوف على الخبر أو كلام مبتدأ لبيان تمرنهم وتمهرهم في النفاق {لا تعلمهم} لا تعرفهم بأعيانهم وهو تقرير لمهارتهم فيه وتنوقهم في تحامي مواقع التهم إلى حد اخفى عليك حالهم مع كمال فطنتك وصدق فراستك {نحن نعلمهم} ونطلع على اسرارهم إن قدروا أن يلبسوا عليك لم يقدروا أن يلبسوا علينا {سنعذبهم مرتين} بالفضيحة والقتل أو بأحدهما وعذاب القبر أو بأخذ الزكاة ونهك الأبدان {ثم يردون إلى عذاب عظيم} إلى عذاب النار ١٠٢ {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} ولم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة وهم طائفة من المتخلفين اوثقوا أنفسهم على سواري المسجد لما بلغهم ما نزل في المتخلفين فقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدخل المسجد على عادته فصلى ركعتين فرآهم فسأل عنهم فذكر له أنهم اقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى تحلهم فقال: وأنا اقسم أن لا احلهم حتى اومر فيهم فنزلت فأطلقهم {خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا} خلطوا الفعل الصالح الذي هو اظهار الندم والاعتراف بالذنب بآخر سيىء هو التخلف وموافقة أهل النفاق والواو إما بمعنى الباء كما في قولهم بعت الشاء شاة ودرهما أو للدلالة على أن كل واحد منهما مخلوط بالآخر {عسى اللّه أن يتوب عليهم} أن يقبل توبتهم وهي مدلول عليها بقوله اعترفوا بذنوبهم {إن اللّه غفور رحيم} يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه ١٠٣ {خذ من أموالهم صدقة} روي انهم لما اطلقوا قالوا يا رسول اللّه هذه اموالنا التي خلفتنا فتصدق بها وطهرنا فقال ما امرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزلت تطهرهم من الذنوب أو حب المال المؤدي بهم إلى مثله وقرئ تطهرهم من أطهره بمعنى طهره و {تطهرهم} بالجزم جوابا للأمر {وتزكيهم بها} وتنمي بها حسناتهم وترفعهم إلى منازل المخلصين {وصل عليهم} واعطف عليهم بالدعاء والاستغفار لهم {إن صلاتك سكن لهم} تسكن إليها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم وجمعها لتعدد المدعو لهم وقرأ حمزة والكسائي وحفص بالتوحيد {واللّه سميع} لاعترافهم {عليم} بندامتهم ١٠٤ {ألم يعلموا} الضمير إما للمتوب عليهم والمراد أن يمكن في قلوبهم قبول توبتهم والاعتداد بصدقاتهم أو لغيرهم والمراد به التحضيض عليهما {أن اللّه هو يقبل التوبة عن عباده} إذا صحت وتعديته ب عن لتضمنه معنى التجاوز {ويأخذ الصدقات} يقبلها قبول من يأخذ شيئا ليؤدي بدله {وأن اللّه هو التواب الرحيم} وأن من شأنه قبول توبة التائبين والتفضل عليهم ١٠٥ {وقل اعملوا} ما شئتم {فسيرى اللّه عملكم} فإنه لا يخفى عليه خيرا كان أو شرا {ورسوله والمؤمنون} فإنه تعالى لا يخفى عنهم كما رأيتم وتبين لكم {وستردون إلى عالم الغيب والشهادة} بالموت {فينبئكم بما كنتم تعملون} بالمجازاة عليه ١٠٦ {وآخرون} من المتخلفين {مرجون} مؤخرون أي موقوف أمرهم من ارجأته إذا اخرته وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص مرجون بالواو وهما لغتان {لأمر اللّه} في شأنهم {إما يعذبهم} إن أصروا على النفاق {وإما يتوب عليهم} إن تابوا والترديد للعباد وفيه دليل على أن كلا الأمرين بإرادة اللّه تعالى {واللّه عليم} بأحوالهم {حكيم} فيما يفعل بهم وقرئ واللّه غفور رحيم والمراد بهؤلاء كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم اصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم فلما رأوا ذلك أخلصوا نياتهم وفوضوا أمرهم إلى اللّه فرحمهم اللّه تعالى ١٠٧ {والذين اتخذا مسجدا} عطف على وآخرون مرجون أو مبتدأ خبره محذوف أي وفيمن وصفنا الذين اتخذوا أو منصوب على الاختصاص وقرأ نافع وابن عامر بغير الواو {ضرارا} مضارة للمؤمنين وروي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف فبنوا مسجدا على قصد أن يؤمهم فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام فلما اتموه أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا أنا قد بنينا مسجدا لذي الحاجة والعلة والليلة المطيرة والشاتية فصل فيه حتى نتخذه مصلى فأخذ ثوبه ليقوم معهم فنزلت فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن والوحشي فقال لهم: انطلقوا إلى المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعل واتخذ مكانه كناسة {وكفرا} وتقوية للكفر الذي يضمرونه {وتفريقا بين المؤمنين} يريد الذي كانوا يجتمعون للصلاة في مسجد قباء {وارصادا} ترقبا {لمن حارب اللّه ورسوله من قبل} يعني الراهب فإنه قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد: لا اجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين حتى انهزم مع هوازن وهرب إلى الشام ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومات بقنسرين وحيدا وقيل كان يجمع الجيوش يوم الأحزاب فلما انهزموا خرج إلى الشام و من قبل متعلق ب حارب أو ب اتخذوا أي اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف لما روي انه بنى قبيل غزوة تبوك فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يأتيه فقال: أنا على جناح سفر وإذا قدمنا إن شاء اللّه صلينا فيه فلما قفل كرر عليه فنزلت {وليحلفن أن أردنا إلا الحسنى} ما أردنا ببنائه إلا الخصلة الحسنى أو الارادة الحسنى وهي الصلاة والذكر والتوسعة على المصلين {واللّه يشهد انهم لكاذبون} في حلفهم ١٠٨ {لا تقم فيه أبدا} للصلاة {لمسجد اسس على التقوى} يعني مسجد قباء اسسه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء من الاثنين إلى الجمعة لأنه اوفق للقصة أو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقول أبي سعيد رضي اللّه عنه سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنه فقال: هو مسجدكم هذا مسجد المدينة {من أول يوم} من أيام وجوده ومن يعم الزمان والمكان كقوله لمن الديار بقنة الحجر اقوين من حجج ومن دهر {احق أن تقوم فيه} اولى بأن تصلي فيه {فيه رجال يحبون أن يتطهروا} من المعاصي والخصال المذمومة طلبا لمرضاة اللّه سبحانه وتعالى وقيل من الجنابة فلا ينامون عليها {واللّه يحب المطهرين} يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه تعالى ادناء المحب حبيبه قيل لما نزلت مشى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال صلى اللّه عليه وسلم: امؤمنون انتم فسكتوا فأعادها فقال عمر انهم مؤمنون وأنا معهم فقال صلى اللّه عليه وسلم: اترضون بالقضاء قالوا نعم قال صلى اللّه عليه وسلم: اتصبرون على البلاء قالوا نعم قال اتشكرون في الرخاء قالوا نعم فقال صلى اللّه عليه وسلم: انتم مؤمنون ورب الكعبة فجلس ثم قال: يا معشر الأنصار أن اللّه عز وجل قد اثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط فقالوا يا رسول اللّه نتبع الغائط الاحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبي فيه رجال يحبون أن يتطهروا ١٠٩ {أفمن اسس بنيانه بنيان} دينه {على تقوى من اللّه ورضوان خير} على قاعدة محكمة هو التقوى من اللّه وطلب مرضاته بالطاعة {أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار} على قاعدة هي اضعف القواعد وارخاها {فانهار به في نار جهنم} فأدى به لخوره وقلة استمساكه إلى السقوط في النار وانما وضع شفا الجرف وهو ما جرفهالوادي الهائر في مقابلة التقوى تمثيلا لما بنوا عليه أمر دينهم في البطلان وسرعة الانطماس ثم رشحه بانهياره به في النار ووضعه في مقابلة الرضوان تنبيها على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه من النار ويوصله إلى رضوان اللّه ومقتضياته التي الجنة ادناها وتأسيس هذا على ما هم بسببه على صدد الوقوع في النار ساعة فساعة ثم أن مصيرهم إلى النار لا محالة وقرأ نافع وابن عامر أسس على البناء للمفعول وقرئ اساس بنيانه و أسس بنيانه على الاضافة و ٦ أسس على البناء للمفعول وقرئ أساس بنيانه و أسس بنيانه على الاضافة و أسس و آساس بالفتح والمد و إساس بالكسر وثلاثتها جمع أس و تقوى بالتنوين على أن الألف للالحاق لا للتأنيث كتترى وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر جرف بالتخفيف {واللّه لا يهدي القوم الظالمين} إلى ما فيه صلاحهم ونجاحهم ٠١١ {لا يزال بنيانهم الذي بنوا} بناؤهم الذي بنوه مصدر أريد به المفعول وليس بجمع ولذلك قد تدخله التاء ووصف بالمفرد واخبر عنه بقوله {ريبة في قلوبهم} أي شكا ونفاقا والمعنى أن بناءهم هذا لا يزال سبب شكهم وتزايد نفاقهم فإنه حملهم على ذلك ثم لما هدمه الرسول صلى اللّه عليه وسلم رسخ ذلك في قلوبهم وازداد بحيث لا يزول وسمه عن قلوبهم {إلا أن تقطع قلوبهم} قطعا بحيث لا يبقى لها قابلية الادراك وهو في غاية المبالغة والاستثناء من اعم الازمنة وقيل المراد بالتقطع ما هو كائن بالقتل أو في القبر أو في النار وقيل المراد بالتقطع ما هو كائن بالقتل أو في القبر أو في النار وقيل التقطع بالتوبة ندما وأسفا وقرأ يعقوب إلى بحرف الانتهاء و تقطع بمعنى تتقطع وهو قرأءة ابن عامر وحمزة وحفص وقرئ يقطع بالياء و تقطع بالتخفيف و تقطع قلوبهم على خطاب الرسول أو كل مخاطب ولو قطعت على البناء للفاعل والمفعول {واللّه عليم} بنياتهم {حكيم} فبما أمر بهدم بنيانهم ١١١ {إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم واموالهم بأن لهم الجنة} تمثيل لإثابة اللّه اياهم الجنة على بذل أنفسهم واموالهم في سبيله {يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون} استئناف ما لأجله الشراء وقيل يقاتلون في معنى الأمر وقرأ حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول وقد عرفت أن الواو لا توجب الترتيب وان فعل البعض قد يسند الىالكل {وعدا عليه حقا} مصدر مؤكد لما دل عليه الشراء فإنه في معنى الوعد {في التوراة والانجيل والقرأن} مذكورا فيهما اثبت في القرأن {ومن أوفى بعهده من اللّه} مبالغة في الانجاز وتقرير لكونه حقا {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} فافرحوا به غاية الفرح فإنه اوجب لكم عظائم المطالب كما قال {وذلك هو الفوز العظيم} ٢١١ {التائبون} رفع على المدح أي هم التائبون والمراد بهم المؤمنون المذكورون ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره التائبون من أهل الجنة وإن لم يجاهدوا لقوله وكلا وعد اللّه الحسنى [الحديد:١٠] أو خبره ما بعده أي التائبون عن الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال وقرئ بالياء نصبا على المدح أو جرا صفة للمؤمنين {العابدون} الذين عبدوا اللّه مخلصين له الدين الحامدون لنعمائه أو لما نابهم من السراء والضراء {السائحون} الصائمون لقوله صلى اللّه عليه وسلم: سياحة أمتي الصوم شبه بها لأنه يعوق عن الشهوات أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على حفايا الملك والملكوت أو السائحون للجهاد أو لطلب العلم {الراكعون الساجدون} في الصلاة {الآمرون بالمعروف} بالأيمان والطاعة {والناهون عن المنكر} عن الشرك والمعاصي والعاطف فيه للدلالة على انه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة كأنه قال الجامعون بين الوصفين وفي قوله تعالى {والحافظون لحدود اللّه} أي فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل وهذا مجملها وقيل انه للايذان بأن التعداد قد تم بالسابع من حيث أن السبعة هو العدد التام والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ولذلك سمي واو الثمانية {وبشر المؤمنين} يعني به هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل ووضع المؤمنين موضع ضميرهم للتنبيه على أن ايمانهم دعاهم إلى ذلك وان المؤمن الكامل من كان كذلك وحذف المبشر به للتعظيم كأنه قيل وبشرهم بما يجل عن احاطة الافهام وتعبير الكلام ٣١١ {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} روي انه صلى اللّه عليه وسلم قال لأبي طالب لما حضرته الوفاة: قل كلمة احاج لك بها عند اللّه فأبى فقال صلى اللّه عليه وسلم: لا أزال استعفر لك ما لم انه عنه فنزلت وقيل لما افتتح مكة خرج إلى الابواء فزار قبر أمه ثم قام مستعبرا فقال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي وأنزل علي الآيتين {ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم انهم أصحاب الجحيم} بأن ماتوا على الكفر وفيه دليل على جواز الاستغفار لاحيائهم فإنه طلب توفيقهم للايمان وبه دفع النقيض باستغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه الكفار فقال ٤١١ {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه} وعدها إبراهيم أباه بقوله لأستغفرن لك [الممتحنة:٤] أي لاطلبن مغفرتك بالتوفيق للايمان فإنه يجب ما قبله ويدل عليه قرأءة من قرأ أباه أو وعدها إبراهيم أبوه وهي الوعد بالأيمان {فلما تبين له أنه عدو للّه} بأن مات على الكفر أو اوحي إليه بأنه لن يؤمن {تبرأ منه} فقطع استغفاره {إن إبراهيم لأواه} لكثير التأوه وهو كناية عن فرط ترحمه ورقة قلبه {حليم} صبور على الاذى والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له مع شكاسته عليه ٥١١ {وما كان اللّه ليضل قوما} أي ليسميهم ضلالا ويؤاخذه مؤاخذتهم {بعد إذ هداهم} للإسلام {حتى يبين لهم ما يتقون} حتى يبين لهم خطر ما يجب اتقاؤه وكأنه بيان عذر الرسول صلى اللّه عليه وسلم في قوله لعمه أو لمن استغفر لاسلافه المشركين قبل المنع وقيل إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر ونحو ذلك وفي الجملة دليل على أن الغافل غير مكلف {إن اللّه بكل شيء عليم} فيعلم أمرهم في الحالين ٦١١ {إن اللّه له ملك السموات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون اللّه من ولي ولا نصير} لما منعهم من الاستغفار للمشركين وان كانوا اولي قربى وتضمن ذلك وجوب التبرؤ عنهم رأسا بين لهم أن اللّه مالك كل موجود ومتولي آمره والغالب عليه ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه ليتوجهوا بشراشرهم إليه ويتبرؤوا مما عداه حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه ١١٧ {لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والانصار} من إذن المنافقين في التخلف أو هو بعث على التوبة والمعنى ما من أحد إلا وهو محتاج إلى التوبة حتى النبي صلى اللّه عليه وسلم والمهاجرون والانصار لقوله تعالى {وتوبوا إلى اللّه جميعا} إذ ما من أحد إلا وله مقام الأنبياء والصالحين من عباده {الذين ابتعوه في ساعة العسرة} في وقتها هي حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد والزاد حتى قيل أن الرجلين كانا يقتسمان تمرة والماء حتى شربوا القيظ {من بعد ما كان يزيغ قلوب فريق منهم} عن الثبات على الإيمان أو اتباع الرسول صلى اللّه عليه وسلم وفي كاد ضمير الشأن أو ضمير القوم والعائد إليه الضمير في منهم وقرأ حمزة وحفص يزيغ بالياء لأن تأنيث القلوب غير حقيق وقرئ من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم يعني المتخلفين {ثم تاب عليهم} تكرير للتأكيد وتنبيه على انه تاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة أو المراد انه تاب عليهم لكيدودتهم {إنه بهم رؤوف رحيم} ٨١١ {وعلى الثلاثة} وتاب على الثلاثة كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع {الذين خلفوا} تخلفوا عن الغزو أو خلف أمرهم فإنهم المرجئون {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت} أي برحبها لإعراض الناس عنهم بالكلية وهو مثل لشدة الحرية {وضاقت عليهم أنفسهم} قلوبهم من فرط الوحشة والغم بحيث لا يسعها انس ولا سرور وظنوا وعلموا {أن لا ملجأ من اللّه} من سخطه {إلا إليه} إلا إلى استغفاره {ثم تاب عليهم} بالتوفيق للتوبة ليتوبوا أو أنزل قبول توبتهم ليعدوا من جملة التائبين أو رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم {إن اللّه هو التواب} لمن تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة {الرحيم} المتفضل عليهم بالنعم ٩١١ {يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه} فيما لا يرضاه {وكونوا مع الصادقين} في إيمانهم وعهودهم أو في دين اللّه نية وقولا وعملا وقرئ {من الصادقين} أي في توبتهم وإنابتهم فيكون المراد به هؤلاء الثلاثة وأضرابهم ١٢٠ {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه} نهي عبر به بيصغة النفي للمبالغة {ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه} ولا يصونوا أنفسهم عما لم يصن نفسه عنه ويكابدوا معه ما يكابده من الاهوال روي أن أبا خيثمة بلغ بستانه وكانت له زوجة حسنات فرشت في الظل وبسطت له الحصير وقربت إليه الرطب والماء البارد فنظر فقال ظل ظليل ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الضح والريح ما هذا بخير فقام فرحل ناقته واخذ سيفه ورمحه ومر كالريح فمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال كن أبا خيثمة فكأنه ففرح به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استغفر له وفي لا يرغبوا يجوز النصب والجزم {ذلك} إشارة إلى ما دل عليه قوله ما كان من النهي عن التخلف أو وجوب المشايعة {بأنهم} بسبب أنهم {لا يصيبهم ظمأ} شيء من العطش {ولا نصب} تعب {ولا مخمصة} مجاعة {في سبيل اللّه ولا يطئون} ولا يدوسون {موطئا} مكانا {يغيظ الكفار} يغضبهم وطؤه {ولا ينالون من عدو نيلا} كالقتل والاسر والنهب {إلا كتب لهم به عمل صالح} إلا استوجبوا به الثواب و لك ١٢١ {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً} ولو علاَّقة. {وَلاَ كَبِيرَةً} مثل ما أنفق عثمان رضي اللّه تعالى عنه في جيش العسرة. {وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا} في مسيرهم وهو كل منعرج ينفذ فيه السيل اسم فاعل من ودي إذا سال فشاع بمعنى الأرض. {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ} أثبت لهم ذلك. {لِيَجْزِيَهُمُ ٱللّه} بذلك. {أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} جزاء أحسن أعمالهم أو أحسن جزاء أعمالهم. ١٢٢ {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} وما استقام لهم أن ينفروا جميعا لنحو غزو أو طلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعا فإنه يخل بأمر المعاش {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة} فهلا نفر من كل جماعة كثيرة كقبيلة وأهل بلدة جماعة قليلة {ليتفقهوا في الدين} ليتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا مشاق تحصيلها {ولينذروا قومهم إذا رجعوا} ليهم وليجعلوا غاية سعيهم ومعظم غرضهم من الفقاهة ارشاد القوم وانذارهم وتخصيصه بالذكر لانه اهم وفيه دليل على أن التفقه و التذكير من فروض الكفاية وانه ينبغي أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد {لعلهم يحذرون} إرادة أن يحذروا عما ينذرون منه واستدل به على أن إخبار الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر منكل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر فرقتها كي يتذكروا ويحذروا فلو لم يعتبر الأخبار ما لم يتواتر لم يفد ذلك وقد اشبعت القول فيه تقريرا واعتراضا في كتابي المرصاد وقد قيل للآية معنى آخر وهو انه لما نزل في المتخلفين ما نزل سبق المؤمنون إلى النفير وانقطعوا عن التفقه فأمروا أن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر لأن الجدال بالحجة هو الأصل والمقصود م البعثة فيكون الضمير في ليتفقهوا ولينذروا لبواقي الفرق بعد الطوائف النافرة للغزو وفي رجعوا للطوائف أي ولينذروا لبواقي قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا أيام غيبتهم من العلوم ١٢٣ {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} أمروا بقتال الأقرب منهم فالأقرب كما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اولا بإنذار عشيرته الاقربين فإن الأقرب احق بالشفقة والاستصلاح وقيل هم يهود حوالي المدينة كقريظة والنضير وخيبر وقيل الروم فإنهم كانوا يسكنون الشأم وهو قريب من المدينة {وليجدوا فيكم غلظة} شدة وصبرا على القتال وقرئ بفتح الغين وضمها وهما لغتان فيها {واعلموا أن اللّه مع المتقين} بالحراسة والاعانة ١٢٤ {وإذا ما أنزلت سورة فمنهم} فمن المنافقين {من يقول} انكار واستهزاء أيكم {زادته هذه} السورة ايمانا وقرئ أيكم بالنصب على اضمار فعل يفسره زادته {فأما الذين آمنوا فزادتهم ايمانا} بزيادة العلم الحاصل من تدبر السورة وانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى ايمانهم {وهم يستبشرون} بنزولها لانه سبب لزيادة كمالهم وارتفاع درجاتهم ١٢٥ {وأما الذين في قلوبهم مرض} كفر {فزادتهم رجسا إلى رجسهم} كفرا بها مضموما إلى الكفر بغيرها {وماتوا وهم كافرون} واستحكم ذلك فيهم حتى ماتوا عليه ١٢٦ {أو لا يرون} يعني المنافقين وقرئ بالتاء {انهم يفتنون} يبتلون بأصناف البليات أو بالجهاد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيعاينون ما يظهر من الآيات {في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون} لا ينتهون ولا يتوبون من نفاقهم {ولا هم يذكرون} ولا يعتبرون ١٢٧ {وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض} تغامزوا بالعيون انكارا لها وسخرية أو غيظاص لما فيها من عيوبهم {هل يراكم من أحد} أي يقولون هل يراكم أحد إن قمتم من حضرة الرسول صلى اللّه عليه وسلم فإن لم يرهم أحد قاموا وإن يرهم أحد اقاموا {ثم انصرفوا} عن حضرته مخافة الفضيحة {صرف اللّه قلوبهم} عن الإيمان وهو يحتمل الأخبار والدعاء بأنهم بسبب انهم {قوم لا يفقهون} لسوء فهمهم أو لعدم تدبرهم ١٢٨ {لقد جاءكم رسول من انفسكم} من جنسكم عربي مثلكم وقرئ من انفسكم أي من اشرفكم {عزيز عليه} شديد شاق {ما عنتم} عنتكم ولقاؤكم المكروه {حريص عليكم} أي على ايمانكم وصلاح شأنكم بالمؤمنين منكم ومن غيركم {رؤوف رحيم} قدم الابلغ منهما وهو الرؤوف لأن الرأفة شدة الرحمة محافظة على الفواصل ١٢٩ {فإن تولوا} عن الإيمان بك {فقل حسبي اللّه} فإنه يكفيك معرتهم ويعينك عليهم {لا إله إلا هو} كالدليل عليه {عليه توكلت} فلا أرجو ولا اخاف إلا منه وهو {رب العرش العظيم} الملك العظيم أو الجسم العظيم المحيط الذي تنزل منه الأحكام والمقادير وقرئ العظيم بالرفع وعن أبي بن كعب رضي اللّه تعالى عنه أن آخر ما نزل هاتان الايتان و عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: ما نزل القرأن علي إلا آية آية وحرفا حرفا ما خلا سورة براءة و قل هو اللّه أحد فإنهما انزلتا علي ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة واللّه اعلم |
﴿ ٠ ﴾