تفسير البيضاوي: أنوار التنزيل و أسرار التأويل أبو سعيد عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي

البيضاوي الشيرازي الفارسي، ناصر الدين، القاضي الشافعي (ت ٦٨٥ هـ ١٢٨٦ م)

_________________________________

سورة مريم

سورة مريم وهي ثمان أو تسع وتسعون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{كهيعص} أمال أبو عمرو الهاء لأن ألفات أسماء التهجي ياءات وابن عامر وحمزة الياء والكسائي وأبو بكر كليهما ونافع بين بين ونافع وابن كثير وعاصم يظهرون دال الهجاء عند الذال والباقون يدغمونها ذكر رحمت ربك خبر ما قبله إن أول السورة أو بالقرآن فإنه مشتمل عليه أو خبر محذوف أي هذا المتلو

٢

{ذكر رحمة ربك} أو مبتدأ حذف خبره أي فيما يتلى عليك ذكرها وقرىء {ذكر رحمة} على الماضي و ذكر على الأمر

{عبده} مفعول الرحمة أو الذكر على أن الرحمة فاعله على الإتساع كقولك ذكرني جود زيد

{زكريا} بدل منه أو عطف بيان له

٣

{إذ نادى ربه نداء خفيا} لأن الإخفاء والجهر عند اللّه سيان والإخفاء أشد إخباتا وأكثر إخلاصا

أو لئلا يلام على طلب الولد في إبان الكبر أو لئلا يطلع عليه مواليه الذين خافهم أو لأن ضعف الهرم أخفى صوته واختلف في سنه حينئذ

فقيل ستون وقيل سبعون وقيل خمس وسبعون وقيل خمس وثمانون وقيل تسع وتسعون

٤

{قال رب إني وهن العظم مني} تفسير للنداء والوهن الضعف وتخصيص العظم لأنه دعامة البدن وأصل بنائه ولأنه أصلب ما فيه فإذا وهن كان ما وراءه أوهن وتوحيد لأن المراد به الجنس وقرىء و هن و وهن بالضم والكسر ونظيره كمل بالحركات الثلاث

{واشتعل الرأس شيبا} شبه الشيب في بياضه وإنارته بشواظ النار وانتشاره وفشوه في الشعر باشتعالها ثم أخرجه مخرج الإستعارة وأسند الإشتعال إلى الرأس الذي هو مكان الشيب مبالغة وجعله مميزا إيضاحا للمقصود واكتفى باللام على الإضافة للدلالة على أن علم المخاطب بتعين المراد يغني عن التقيد

{ولم أكن بدعائك رب شقيا} بل كلما دعوتك استجبت لي وهو توسل بما سلف معه من الإستجابة وتنبيه على أن المدعو له وإن لم يكن معتادا فإجابته معتادة وأنه تعالى عوده بالإجابة وأطمعه فيها ومن حق الكريم أن لا يخيب من أطمعه

٥

{وإني خفت الموالي} يعني بني عمه وكانوا أشرار بني إسرائيل فخاف أن لا يحسنوا خلافته على أمته ويبدلوا عليهم دينهم {من ورائي} بعد موتي وعن ابن كثير بالمد والقصر بفتح الياء وهو يتعلق بمحذوف أو بمعنى الموالي أي خفت فعل الموالي من ورائي أو الذين يلون الأمر من ورائي وقرىء خفت الموالي من ورائي أي قلوا وعجزوا عن إقامة الدين بعدي أو خفوا ودرجوا قدامي فعلى هذا كان الظرف متعلقا ب خفت

{وكانت امرأتي عاقرا} لا تلد {فهب لي من لدنك} فإن مثله لا يرجى إلا من فضلك وكمال قدرتك فإني وامرأتي لا نصلح للولادة

{وليا} من صلبي الحبورة فإنه كان حبرا

٦

 {يرثني ويرث من آل يعقوب} صفتان له وجزمهما أبو عمرو والكسائي على أنهما جواب الدعاء والمراد وراثة الشرع والعلم فإن الأنبياء لا يورثون المال وقيل يرثني الحبورة فإنه كان حبراً،

ويرث من آل يعقوب الملك، وهو يعقوب بن إسحاق عليهما الصلاة والسلام. وقيل يعقوب كان أخا زكريا أو عمران بن ماثان من نسل سليمان عليه السلام. وقرىء يرثني وارث آل يعقوب على الحال من أحد الضميرين و أو يرث بالتصغير لصغره ووارث من آل يعقوب على أنه فاعل يرثني وهذا يسمى التجريد في علم البيان لأنه جرد عن المذكور أولا مع أنه المراد.

{واجعله رب رضيا} ترضاه قولا وعملا

٧

{يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى} جواب لندائه ووعد بإجابة دعائه وإنما توالي تسميته تشريفا له

{لم نجعل له من قبل سميا} لم يسم أحد بيحيى قبله وهو شاهد بأن التسمية بالأسامي الغريبة تنويه للمسمى وقيل سميا شبيها كقوله تعالى هل تعلم له سميا [مريم:٦٥] لأن المتماثلين يتشاركان في الاسم والأظهر أنه أعجمي وإن كان عربيا فمنقول عن فعل كيعيش ويعمر وقيل سمي به لأنه حيي به رحم أمه أو لأن دين اللّه حيي بدعوته

٨

{قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا} جساوة وقحولا في المفاصل وأصله عتو وكقعود فاستثقلوا توالي الضمتين والواوين فكسروا التاء فانقلبت الواو الأولى ياء ثم قلبت الثانية وأدغمت وقرأ حمزة والكسائي وحفص عتيا بالكسر وإنما استعجب الولد من شيخ فان وعجوز عاقر اعترافا بأن المؤثر فيه كمال قدرته وأن الوسائط عند التحقيق ملغاة ولذلك

٩

{قال} أي اللّه تعالى أو الملك المبلغ للبشارة تصديقا له {كذلك} الأمر كذلك ويجوز أن تكون الكاف منصوبة ب قال في {قال ربك} وذلك إشارة إلى مبهم يفسره

{هو علي هين} ويؤيد الأول قرأءة من قرأ وهو على هين أي الأمر كما قلت أو كما وعدت وهو على ذلك يهون علي أو كما وعدت وهو على ذلك يهون علي أو كما وعدت وهو علي هين لا أحتاج فيما أريد أن أفعله إلى الأسباب ومفعول قال الثاني محذوف

{وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا} بل كنت معدوما صرفا وفيه دليل على أن المعدوم ليس بشيء وقرأ حمزة والكسائي وقد خلقناك

١٠

{قال ربك اجعل لي آية} علامة أعلم بها وقوع ما بشرتني به

{قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا} سوي الخلق ما بك من خرس ولا بكم وإنما ذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران للدلالة على أنه استمر عليه المنع من كلام الناس والتجرد للذكر والشكر ثلاثة أيام ولياليهن

١١

{فخرج على قومه من المحراب} من المصلى أو من الغرفة

{فأوحى إليهم} فأومأ إليهم لقوله إلا رمزا [آل عمران:٤١] وقيل كتب لهم على الأرض

{أن سبحوا} صلوا أو نزهوا ربكم

{بكرة وعشيا} طرفي النهار ولعله كان مأمورا بأن يسبح ويأمر قومه بأن يوافقوه و أن تحتمل أن تكون مصدرية وأن تكون مفسرة

١٢

{يا يحي} على تقدير القول {خذ الكتاب} التوراة

{بقوة} بجد واستظهار بالتوفيق

{وآتيناه الحكم صبيا} يعني الحكمة وفهم التوراة وقيل النبوة أحكم اللّه عقله في صباه واستنبأه

١٣

{وحنانا من لدنا} ورحمة منا عليه وتعطفا في قلبه على أبويه وغيرهما عطف على الحكم

{وزكاة} وطهارة من الذنوب أو صدقة أي تصدق اللّه به على أبويه أو مكنه ووفقه للتصديق على الناس

{وكان تقيا} مطيعا متجنبا عن المعاصي

١٤

{وبرا بوالديه} وبارا بهما {ولم يكن جبارا عصيا} عاقا أو عاصي ربه

١٥

{وسلام عليه} من اللّه {يوم ولد} من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم

{ويوم يموت} من عذاب القبر

{ويوم يبعث حيا} من عذاب النار القيامة

١٦

{واذكر في الكتاب} في القرآن {مريم} يعني قصتها

{إذ انتبذت} اعتزلت بدل من مريم بدل الاشتمال لأن الأحيان مشتملة على ما فيها أو بدل الكل لأن المراد ب مريم قصتها وبالظرف الأمر الواقع فيه وهما واحد أو ظرف لمضاف مقدر وقيل إذ بمعنى أن المصدرية كقولك

 أكرمتك إذ لم تكرمني

فتكون بدلا لا محالة من

{أهلها مكانا شرقيا} شرقي بيت المقدس أو شرقي دارها ولذلك اتخذ النصارى المشرق قبلة ومكانا ظرف أو مفعول لأن انتبذت متضمن معنى أتت

١٧

{فاتخذت من دونهم حجابا} سترا

{فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا} قيل قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض متحجبة بشيء يسترها وكانت تتحول من المسجد إلى بيت خالتها إذا حاضت وتعود إليه إذا طهرت فبينما هي في مغتسلها أتاها جبريل عليه السلام متمثلا بصورة شاب أمرد سوي الخلق لتستأنس بكلامه ولعله لتهييج شهوتها به فتنحدر نطفتها إلى رحمها

١٨

{قالت إني أعوذ بالرحمن منك} من غاية عفافها

{إن كنت تقيا} تتقي اللّه وتحتفل بالاستعاذة وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي فإني عائذة منك أو فتتعظ بتعويذي أو فلا تتعرض لي ويجوز أن يكون للمبالغة أي إن كنت تقيا متورعا فإني أتعوذ منك فكيف إذا لم تكن كذلك

١٩

{قال إنما أنا رسول ربك} الذي استعذت به

{لأهب لك غلاما} أي لأكون سببا في هبته في بالنفخ في الدرع ويجوز أن يكون حكاية لقول اللّه تعالى ويؤيده قرأءة أبي عمرو والأكثر عن نافع ويعقوب بالياء

{زكيا} طاهرا من الذنوب أو ناميا على الخير أي مترقيا من سن إلى سن على الخير والصلاح

٢٠

{قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر} ولم يباشرني رجل بالحلال فإن هذه الكنايات إنما تطلق فيه أما الزنا فإنما يقال فيه خبث بها وفجر ونحو ذلك ويعضده عطف قوله

{ولم أك بغيا} عليه وهو فعول من البغي قلبت واوه ياء وأدغمت ثم كسرت الغين اتباعا ولذلك لم تلحقه التاء أو فعيل بمعنى فاعل ولم تلحقه التاء لأنه للمبالغة أو للنسب كطالق

٢١

{قال كذلك قال ربك هو عل ي هين ولنجعله} أي ونفعل ذلك لنجعله آية أو لنبين به

قدرتنا ولنجعله وقيل عطف على ليهب على طريقة الالتفات

{آية للناس} علامة لهم وبرهانا على كمال قدرتنا

{ورحمة منا} على العباد يهتدون بإرشاده

و {وكان أمرا مقضيا} أي تعلق به قضاء اللّه في الأزل أو قدر وسطر في اللوح أو كان أمرا حقيقيا بأن يقضى ويفعل لكونه آية ورحمة

٢٢

{فحملته} بأن الفتح في درعها فدخلت النفخة في جوفها وكان مدة حملها سبعة أشهر

وقيل ستة وقيل ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية غيره وقيل ساعة كما حملته نبذته وسنها ثلاث عشرة سنة وقيل عشر سنين وقد حاضت حيضتين

{فانتبذت به} فاعتزلت وهو في بطنها كقوله

تدوس بنا الجماجم والتريبا

والجار والمجرور في موضع الحال

{مكانا قصيا} بعيدا من أهلها وراء الجبل وقيل أقصى الدار

٢٣

{فأجاءها المخاض} فألجأها المخاض وهو في الأصل منقول من جاء لكنه خص به في الاستعمال كآتي في أعطى وقرئ المخاض بالكسر وهما مصدر مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج

{إلى جذع النخلة} لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة وهو مابين العرق والغصن وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة وكان الوقت شتاء والتعريف إما للجنس أو للعهد إذ لم يكن ثم غيرها وكانت كالمتعالم عند الناس ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياته ما يسكن روعتها ويطعمها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها

{قالت يا ليتني مت قبل هذا} استحياء من الناس ومخافة لومهم وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر مت من مات يموت

{وكنت نسيا} ما من شأنه ان ينسى ولا يطلب ونظيره الذبح لما يذبح وقرأ حمزة وحفص بالفتح وهو لغة فيه أو مصدر سمي به وقرئ به وبالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء ينسؤه لقلته

{منسيا} منسي الذكر بحيث لا يخطر ببالهم وقرئ بكسر الميم على الاتباع

٢٤

{فناداها لمن تحتها} عيسى وقيل جبريل كان يقبل الولد وقيل تحتها أسفل من مكانها وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص وروح من تحتها بالكسر والجر على أن في نادى ضمير أحدهما وقيل الضمير في تحتها النخلة

{ألا تحزني} أي لا تحزني أو بأن لا تحزني

{قد جعل ربك تحتك سريا} جدولا هكذا روي مرفوعا وقيل سيدا من السرو وهو عيسى عليه الصلاة والسلام

٢٥

{وهزي إليك بجذع النخلة} وأميليه إليك والباء مزيدة للتأكيد أو افعلي الهز والإمالة به أو هزي الثمرة بهزه والهز تحريك بجذب ودفع

{تساقط عليك} تتساقط فأدغمت التاء الثانية في السين وحذفها حمزة وقرأ يعقوب بالياء وحفص تساقط من ساقطت بمعنى أسقطت وقرئ تتساقط وتسقط ويسقط فالتاء للنخلة والياء

للجذع

{رطبا جنيا} تمييز أو مفعول روي أنها كانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا ثمر وكان الوقت شتاء فهزتها فجعل اللّه تعالى لها رأسا وخوصا ورطبا وتسليتها بذلك لما فيه من المعجزات الدالة على براءة ساحتها فإن مثلها لا يتصور لمن يرتكب الفواحش والمنبهة لمن رآها على أن من قدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء قدر أن يحبلها من غير فحل وأنه ليس ببدع من شأنها مع ما فيه من الشراب والطعام ولذلك رتب عليه الأمرين فقال

٢٦

{فكلي واشربي} أي من الرطب وماء السري أو من الرطب وعصيره

{وقري عينا} وطيبي نفسك وارفضي عنها ما أحزنك وقرىء وقري بالكسر وهو لغة نجد واشتقاقه من القرار فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره أو من القرفان دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة ولذلك يقال قرة العين للمحبوب وسخنتها للمكروه

{فأما ترين من البشر أحدا} فإن تري آدما وقرىء ترئن على لغة من يقول لبأت بالحج لتآخ بين الهمزة وحرف اللين

{فقولي إني نذرت للرحمن صوما} صمتا وقد قرىء به أو صياما وكانوا لا يتكلمون في صيامهم

{فلن أكلم اليوم إنسيا} بعد أن أخبرتم بنذري وإنما أكلم الملائكة وأناجي ربي وقيل أخبرتهم بنذرها بالإشارة وأمرها بذلك لكراهة المجادلة و الإكتفاء بكلام عيسى عليه الصلاة والسلام فإنه قاطع في قطع الطاعن

٢٧

{فأتت به} أي مع ولدها {قومها} راجعة إليهم بعد ما طهرت من النفاس

{تحمله} حاملة إياه {قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا} أي بديعا منكرا من فرى الجلد

٢٨

{يا أخت هرون} يعنون هرون النبي عليه الصلاة والسلام وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة وقيل كانت من نسله وكان بينهما ألف سنة وقيل هو رجل طالح أو صالح كان في زمانهم شبهوها به تهكما أو لما رأوا قبل من صلاحها أو شتموها به

{ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا} تقرير لآن ما جاءت به فري وتنبيه على أن الفواحش من أولاد الصالحين أفحش

٢٩

{فأشارت إليه} إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أي كلموه ليجيبكم

{قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا} ولم نعهد صبيا في المهد كلمه عاقل و كان زائدة والظرف صلة من و صبيا حال من المستكن فيه أو تامة أو دائمة كقوله تعالى وكان اللّه عليما حكيما [النساء:١٧٠] أو بمعنى صار

٣٠

{قال إني عبد اللّه} أنطقه اللّه تعالى به أولا لأنه أول المقامات وللرد على من يزعم ربوبيته

{آتاني الكتاب} الإنجيل {وجعلني نبيا}

٣١

{وجعلني مباركا} نفاعا معلما للخير والتعبير بلفظ الماضي إما باعتبار ما سبق في قضائه أو بجعل المحقق وقوعه كالواقع وقيل أكمل اللّه عقله واستنبأه طفلا

{أينما كنت} حيث كنت {وأوصاني} وأمرني

{بالصلاة والزكاة} زكاة المال إن ملكته أو تطهير النفس عن الرذائل {ما دمت حيا}

٣٢

{وبرا بوالدتي} وبارا بها عطف على مباركا وقرىء بالكسر على أنه مصدر وصف به أو منصوب بفعل دل عليه أوصاني أي وكلفني برا ويؤيده القرأءة بالكسر والجر عطفا على الصلاة

{ولم يجعلني جبارا شقيا} عند اللّه من فرط تكبره

٣٣

{والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا} كما هو على يحيى والتعريف للعهد والأظهر أنه للجنس والتعريض باللعن على أعدائه فإنه لما جعل جنس السلام على نفسه عرض بأن ضده عليهم كقوله تعالى {والسلام على من أتبع الهدى}[طه: ٤٧] فإنه تعريض بأن العذاب على من كذب وتولى

٣٤

{ذلك عيسى ابن مريم} أي الذي تقدم نعته هو عيسى ابن مريم لا ما يصفه النصارى وهو تكذيب لهم فيما يصفونه على الوجه الأبلغ والطريق البرهاني حيث جعله موصوفا بأضداد ما يصفونه ثم عكس الحكم

{قول الحق} خبر محذوف أي هو قول الحق الذي لا ريب فيه والإضافة للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة وقيل صفة عيسى أبدل أو خبر ثان ومعناه كلمة اللّه وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب قول بالنصب على أنه مصدر مؤكد وقرىء قال الحق وهو بمعنى القول

{الذي فيه يمترون} في أمره يشكون أو يتنازعون فقالت اليهود ساحر وقالت النصارى ابن اللّه وقرىء بالتاء على الخطاب

٣٥

{ما كان للّه أن يتخذ من ولد سبحانه} تكذيب للنصارى وتنزيه للّه تعالى عما بهتوه

{إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} تبكيت لهم فإن من إذا أراد شيئا أوجده ب كن كان منزها عن شبه الخلق إلى الحاجة فى إتخاذ الولد بإحبال الإناث وقرأ ابن عامر فيكون بالنصب على الجواب

٣٦

{وإن اللّه ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} سبق تفسيره في سورة آل عمران وقرأ الحجازيان والبصريان وأن بالفتح على ولأن وقيل إنه معطوف على الصلاة

٣٧

{فاختلف الأحزاب من بينهم} اليهود والنصارى أو فرق النصارى نسطورية قالوا إنه ابن اللّه ويعقوبية قالوا هو اللّه هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء وملكانية قالوا هو عبد اللّه ونبيه

{فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم} من شهود يوم عظيم هوله وحسابه وجزاؤه وهو يوم القيامة أو من وقت الشهود أو من مكانه فيه أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وآرابهم وأرجلهم بالكفر والفسق أو من وقت الشهادة أو من مكانها وقيل هو ما شهدوا به في عيسى وأمه

٣٨

{أسمع بهم وأبصر} تعجب معناه أن استماعهم وإبصارهم {يوم يأتوننا} أي يوم القيامة جدير بأن يتعجب منهما بعد ما كانوا صما عميا في الدنيا أو التهديد بما سيسمعون ويبصرون يومئذ وقيل أمر بأن يسمعهم ويبصرهم مواعيد ذلك وما يحيق بهم فيه والجار والمجرور على الأول في موضع الرفع وعلى الثاني في موضع النصب

{لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين} أوقع الظالمون موقع الضمير إشعارا بأنهم ظلموا أنفسهم حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين ينفعهم وسجل بأنه ضلال بين

٣٩

{وأنذرهم يوم الحسرة} يوم يتحسر الناس المسيء على إساءته والمحسن على قلة إحسانه

{إذ قضي الأمر} فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار وإذ بدل من اليوم أو ظرف ل لحسرة

{وهم في غفلة وهم لا يؤمنون} حال متعلقة بقوله {في ضلال مبين} [مريم:٣٨] وما بينهما اعتراض أو ب أنذرهم أي أنذرهم غافلين غير مؤمنين فتكون حالا متضمنة للتعليل

٤٠

{إنا نحن نرث الأرض ومن عليها} لا يبقى لأحد غيرنا عليها وعليهم ملك ولا ملك أو نتوفى الأرض ومن عليها بالإفناء والإهلاك توفي الوارث لإرثه

{وإلينا يرجعون} يردون للجزاء

٤١

{واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا} ملازما للصدق أو كثير التصديق لكثرة ما صدق به من غيوب اللّه تعالى وآياته وكتبه ورسله

{نبيا} استنبأه اللّه

٤٢

{إذ قال} بدل من إبراهيم وما بينهما اعتراض أو متعلق ب كان أو ب {صديقا نبيا} [مريم:٤١] {لأبيه يا أبت} التاء معوضة من ياء الإضافة ولذلك لا يقال يا أبتي ويقال يا أبتا وإنما تذكر للاستعطاف ولذلك كررها

{لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر} فيعرف حالك ويسمع ذكرك ويرى خضوعك

{ولا يغني عنك شيئا} في جلب نفع أو دفع ضر دعاه إلى الهدى وبين ضلاله واحتج عليه أبلغ احتجاج وأرشقه برفق وحسن أدب حيث لم يصرح بضلاله بل طلب العلة التي تدعوه إلى عبادة ما يستخف به العقل الصريح ويأبى الركون إليه فضلا عن عبادته التي هي غاية التعظيم ولا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام وهو الخالق الرازق المحي المميت المعاقب المثيب ونبه على أن العاقل ينبغي أن يفعل ما يفعل لغرض صحيح والشيء لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على النفع والضر ولكن كان ممكنا لاستنكف العقل القويم عن عبادته وإن كان أشرف الخلق كالملائكة والنبيين لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة الواجبة فكيف إذا كان جمادا لا يسمع ولا يبصر ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق القويم والصراط المستقيم لما لم يكن محظوظا من العلم الإلهي مستقلا بالنظر السوي فقال

٤٣

{يا أبتي إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا} ولم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق بل جعل نفسه كرفيق له في مسير يكون أعرف بالطريق ثم ثبطه عما كان عليه بأنه مع خلوة عن النفع مستلزم للضر فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان من حيث إنه الآمر به فقال

٤٤

{يا أبت لا تعبد الشيطان} ولما استهجن ذلك بين وجه الضر فيه بأن الشيطان مستعص على ربك المولي للنعم بقوله

{إن الشيطان كان للرحمن عصيا} ومعلوم أن المطاوع للعاصي عاص وكل عاص حقيق بأن تسترد منه النعم وينتقم منه ولذلك عقبه بتخويفه سوء عاقبته وما يجر إليه فقال

٤٥

{يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا} قرينا في اللعن والعذاب تليه ويليك أو ثابتا في موالاته فإنه أكبر من العذاب كما أن رضوان اللّه أكبر من الثواب وذكر الخوف والمس وتنكير العذاب إما للمجاملة أو لخفاء العاقبة ولعل اقتصاره على عصيان الشيطان من بين جناياته لارتقاء همته في الربانية أو لأنه ملاكها أو لأنه من حيث إنه نتيجة معاداته لآدم وذريته منبه عليها

٤٦

{قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم} قابل استعطافه ولطفه في الإرشاد بالفظاظة وغلظه العناد فناداه باسمه ولم يقابل يا أبتي بيا بني وأخره وقدم الخبر على المبتدأ وصدره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة على ضرب من التعجب كأنها مما لا يرغب عنها عاقل ثم هدده فقال

{لئن لم تنته} عن مقالك فيها أو الرغبة عنها

{لأرجمنك} بلساني يعني الشتم والذم أو بالحجارة حتى تموت أو تبعد مني واهجرني عطف على ما دل عليه لأرجمنك أي فاحذرني

{واهجرني مليا} زمانا طويلا من الملاوة أو مليا بالذهاب عني

٤٧

{قال سلام عليك} توديع ومتاركة ومقابلة للسيئة بالحسنة أي لا أصيبك بمكروه ولا أقول لك بعد ما يؤذيك ولكن

{سأستغفر لك ربي} لعله يوفقك للتوبة والإيمان فإن حقيقة الاستغفار للكافر استدعاء التوفيق لما يوجب مغفرته وقد مر تقريره في سورة التوبة {إنه كان بي حفيا} بليغا في البر والإلطاف

٤٨

{وأعتزلكم وما تدعون من دون اللّه} بالمهاجرة بديني

{وأدعوا ربي} وأعبده وحده

{عسى} أن {ألا أكون بدعاء ربي شقيا} خائبا ضائع السعي مثلكم في دعاء آلهتكم وفي تصدير الكلام ب عسى التواضع وهضم النفس والتنبيه على أن الإجابة والإثابة تفضل غير واجبتين وأن ملاك الأمر خاتمته وهو غيب

٤٩

{فلما اعتزلتهم وما يعبدون من دون اللّه} بالهجرة إلى الشام {وهبنا له إسحق ويعقوب} بدل من فارقهم من الكفرة قيل أنه لما قصد الشام أتى أولا حران وتزوج بسارة وولدت له إسحق وولد منه يعقوب ولعل تخصيصها بالذكر لأنهما شجرتا الأنبياء أو لأنه أراد أن يذكر إسماعيل بفضله على الانفراد

{وكلا جعلنا نبيا} وكلا منهما أو منهم

٥٠

{ووهبنا لهم من رحمتنا} النبوة والأموال والأولاد

{وجعلنا لهم لسان صدق عليا} يفتخر بهم الناس ويثنون عليهم استجابة لدعوته {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} [الشعراء:٨٤] والمراد باللسان ما يوجد به ولسان العرب لغتهم وإضافته إلى الصدق وتوصيفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء بما يثنون عليهم وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار وتحول الدول وتبدل الملل

٥١

{واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا} موحدا أخلص عبادته عن الشرك والرياء أو أسلم وجهه للّه وأخلص نفسه عما سواه وقرأ الكوفيون بالفتح على أن اللّه أخلصه

{وكان رسولا نبيا} أرسله اللّه إلى الخلق فأنبأهم عنه ولذلك قدم رسولا مع أنه أخص وأعلى

٥٢

{وناديناه من جانب الطور الأيمن} من ناحيته اليمنى من اليمين وهي التي تلي يمين موسى أو من جانبه الميمون من اليمن بأن تمثل له الكلام من تلك الجهة

{وقربناه} تقريب تشريف شبهه بمن قربه الملك لمناجاته

{نجيا} مناجيا حال من أحد الضميرين وقيل مرتفعا من النحوة وهو الارتفاع لما روي أنه فوق السموات حتى سمع صرير القلم

٥٣

{ووهبنا له من رحمتنا} من أجل رحمتنا

{أخاه} معاضده أخيه وموازرته إجابة لدعوته {واجعل لي وزيرا من أهلي} [طه:٢٩] فإنه كان أسن من موسى وهو مفعول أو بدل على تقدير أن تكون من للتبعيض

{هارون} عطف بيان له {نبيا} حال منه

٥٤

{واذكر في الكتاب اسماعيل إنه كان صادق الوعد} ذكره بذلك لأنه المشهور به والموصوف بأشياء في هذا الباب لم تعهد من غيره وناهيك أنه وعد الصبر على الذبح فقال {ستجدني إن شاء اللّه من الصابرين} [القصص:٢٨] فوفى

{وكان رسولا نبيا} يدل على أن الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته

٥٥

{وكان يأمر أهله بالصلاة والزكوة} اشتغالا بالأهم وهو أن يقبل الرجل على نفسه ومن هو أقرب الناس إليه بالتكميل قال اللّه تعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء:٢١٤] وأمر اهلك بالصلوة قو أنفسكم وأهليكم نارا وقيل أهله أمته فإن الأنبياء آباء الأمم

{وكان عند ربه مرضيا} لاستقامة أقواله وأفعاله

٥٦

{واذكر في الكتاب إدريس} وهو سبط شيث وجد أبي نوح عليهم السلام واسمه أخنوخ واشتقاق إدريس من الدرس يرده منع صرفه نعم لا يبعد أن يكون معناه في تلك اللغة قريبا من ذلك فلقب به لكثرة درسه إذ روي أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة وأنه أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب

{إنه كان صديقا نبيا}

٥٧

{ورفعناه مكانا علينا} يعني شرف النبوة والزلفى عند اللّه وقيل الجنة وقيل السماء السادسة أو الرابعة

٥٨

{أولئك} إشارة إلى المذكورين في السورة من زكريا إلى إدريس عليهم السلام

{الذين أنعم اللّه عليهم} بأنواع النعم الدينية والدنيوية

{من النبيين} بيان للموصول

{من ذرية آدم} بدل منه بإعادة الجار ويجوز أن تكون من فيه للتبعيض لأن المنعم عليهم أعم من الأنبياء وأخص من الذرية

{وممن حملنا مع نوح} أي ومن ذرية من حملنا خصوصا وهم من عدا إدريس فإن إبراهيم كان من ذرية سام بن نوح

{ومن ذرية إبراهيم} الباقون {وإسرائيل} عطف على إبراهيم أي ومن ذرية إسرائيل وكان منهم موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية

{وممن هدينا} ومن جملة من هديناهم إلى الحق

{واجتنبينا} للنبوة والكرامة

{إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} خبر ل أولئك إن جعلت الموصول صفته واستئناف إن جعلته خبره لبيان خشيتهم من اللّه وإخباتهم له مع ما لهم من علو الطبقة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من اللّه تعالى وعن النبي عليه الصلاة والسلام: اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكو فتباكوا والبكي جمع باك كالسجود في جمع ساجد وقرىء يتلى بالياء لأن التأنيث غير حقيقي وقرأ حمزة والكسائي بكيا بكسر الباء

٥٩

{فخلف من بعدهم خلف} فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء يقال خلف صدق بالفتح وخلف سوء بالسكون

{أضاعوا الصلوة} تركوها أو أخروها عن وقتها

{واتبعوا الشهوات} كشرب الخمر واستحلال نكاح الأخت من الأب والإنهماك في المعاصي وعن علي رضي اللّه تعالى عنه في قوله

{واتبعوا الشهوات} من بنى الشديد وركب المنظور ولبس المشهور

{فسوف يلقون غيا} شرا كقوله

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

أو جزاء غي كقوله تعالى {يلق أثاما} [الفرقان:٦٨] أو غيا عن طريق الجنة وقيل هو واد في جهنم يستعيذ منه أوديتها

٦٠

{إلا من تاب وآمن وعمل صالحا} يدل على أن الآي في الكفرة

{فأولئك يدخلون الجنة} وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر ويعقوب على البناء للمفعول من أدخل

{ولا يظلمون شيئا} ولا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم ويجوز أن ينتصب شيئا على المصدر وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرهم ولا ينقص أجورهم

٦١

{جنات عدن} بدل من الجنة بدل البعض لاشتمالها عليها أو منصوب على المدح و قرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وعدن لأنه المضاف إليه في العلم أو علم للعدن بمعنى الإقامة كبرة ولذلك صح وصف ما أضيف إليه بقوله

{التي وعد الرحمن عباده بالغيب} أي وعدها إياهم وهي غائبة عنهم أو وهم غائبون عنها أو وعدهم بإيمانهم بالغيب

{إنه} إن اللّه {كان وعده} الذي هو الجنة

{مأتيا} يأتيها أهلها الموعود لهم لا محالة وقيل هو من أتى إليه إحسانا أي مفعولا منجزا

٦٢

{لا يسمعون فيها لغوا} فضول كلام

{إلا سلاما} ولكن يسمعون قولا يسلمون فيه من العيب والنقيصة أو تسليم الملائكة عليهم أو تسليم بعضهم على بعض على الاستثناء المنقطع أو على أن معنى التسليم إن كان لغوا فلا يسمعون لغوا سواه كقوله

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

أو على أن معناه الدعاء بالسلامة وأهلها أغنياء عنه فهو من باب اللغو ظاهرا وإنما فائدته الإكرام

{ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا} على عادة المتنعمين والتوسط بين الزهادة والرغابة وقيل المراد دوام الرزق ودروره

٦٣

{تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا} نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم كما يبقى على الوارث مال مورثه والوراثة أقوى لفظ يستعمل في التملك والاستحقاق من حيث إنها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع ولا تبطل برد ولا إسقاط وقيل يورث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا زيادة في كرامتهم وعن يعقوب نورث بالتشديد

٦٤

{وما تنزل إلا بأمر ربك} حكاية قول جبريل عليه الصلاة والسلام حين استبطأه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه فأبطأ عليه خمسة عشر يوما

وقيل أربعين يوما حتى قال المشركون ودعه ربه وقلاه ثم نزل ببيان ذلك والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع نزل وقد يطلق بمعنى النزول مطلقا كما يطلق نزل بمعنى أنزل والمعنى وما ننزل وقتا عب وقت إلا بأمر اللّه على ما تقتضيه حكمته وقرئ وما يتنزل بالياء والضمير للوحي

{له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك} وهو ما نحن فيه من الأماكن والأحايين لا ننتقل من مكان إلى مكان ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته

{وما كان ربك نسيا} تاركا لك أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به ولم يكن ذلك عن ترك اللّه لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وإنما كان لحكمة رآها فيه وقيل أول الآية حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة والمعنى وما ننزل الجنة إلا بأمر اللّه ولطفه وهو مالك الأمور كلها السالفة والمترقبة والحاضرة فما وجدناه وما نجده من لطفه وفضله وقوله

{وما كان ربك نسيا} تقرير من اللّه لقولهم أي وما كان ربك نسيا لأعمال العاملين وما وعد لهم من الثواب عليها وقوله

٦٥

{رب السموات والأرض وما بينهما} بيان لامتناع النسيان عليه وهو خبر محذوف أو بدل من ربك

{فاعبده واصطبر لعبادته} خطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم مرتب عليه أي لما عرفت ربك لأنه لا ينبغي له أن ينساك أو أعمال العمال فأقبل على عبادته واصطبر عليها ولا تتشوش بإبطاء الوحي وهزء الكفر وإنما عدي باللام لتضمنه معنى الثبات للعبادة فيما يورد عليه من الشدائد والمشاق كقولك للمحارب اصطبر لقرنك

{هل تعلم له سميا} مثلا يستحق أن يسمى إلها أو أحدا سمي اللّه فإن المشركين وإن سموا الصنم إلها لم يسموه اللّه قط وذلك لظهور أحديته تعالى وتعالى ذاته عن المماثلة بحيث لم يقبل اللبس والمكابرة وهو تقرير للأمر أي إذا صح أن لا أحد مثله ولا يستحق العبادة غيره لم يكن بد من التسليم لأمره والاشتغال بعبادته والاصطبار على مشاقها

٦٦

{ويقول الإنسان} المراد به الجنس بأسره فإن المقول مقول فيما بينهم وإن لم يقله كلهم كقولك بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم أو بعضهم المعهود وهم الكفرة أو أبي بن خلف فإنه أخذ عظاما بالية ففتها وقال يزعم محمد أننا نبعث بعدما نموت

{أئذا ما مت لسوف أخرج حيا} من الأرض أو من حال الموت وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار لأن المنكر كون ما بعد الموت وقت الحياة وانتصابه بفعل دل عليه أخرج لا به فإن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها وهي ها هنا مخلصة للتوكيد مجردة عن معنى الحال كما خلصت الهمزة واللام في يا اللّه للتعويض فساغ اقترانها بحرف الاستقبال وروي عن ابن ذكوان إذا ما مت بهمزة واحدة مكسورة على الخبر

٦٧

{أولا يذكر الإنسان} عطف على يقول وتوسيط همزة الإنكار بينه وبين العاطف مع أن الأصل أن يتقدمهما للدلالة على أن المنكر بالذات هو المعطوف وأن المعطوف عليه إنما نشأ منه فإنه لو تذكر وتأمل

{إنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا} بل كان عدما صرفا لم يقل ذلك فإن أعجب من جمع المواد بعد التفريق وإيجاد مثل ما كان

فيها من الأعراض وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وقالون عن يعقوب يذكر من الذكر الذي يراد به التفكر وقرئ يتذكر على الأصل

٦٨

{فوربك لنحشرنهم} أقسم باسمه تعالى مضافا إلى نبيه تحقيقا للأمر وتفخيما لشأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

{والشياطين} عطف أو مفعول معه لما روي أن الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم كل مع شيطانه في سلسلة وهذا وإن كان مخصوصا بهم ساغ نسبته إلى الجنس بأسره فإنهم إذا حشروا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا جميعا معهم

{ثم لنحضرنهم حول جهنم} ليرى السعداء ما نجاهم اللّه منه فيزدادوا غبطة وسرورا وينال الأشقياء ما ادخروا لمعادهم عدة ويزدادوا غيظا من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب وشماتتهم عليهم

{جثيا} على ركبهم لما ديهمهم من هول الموقف جاثون لقوله تعالى {وترى كل أمة جاثية} [الجاثية: ٢٨] على المعتاد في مواقف التقاول وإن كان المراد بالإنسان الكفرة فلعلهم يساقون جثاة من الموقف إلى شاطىء جهنم إهانة بهم أو لعجزهم عن القيام لما عراهم من الشدة وقرأ حمزة والكسائي وحفص جثيا بكسر الجيم

٦٩

{ثم لننزعن منكل شيعة} من كل أمة شاعت دينا

{أيهم أشد على الرحمن عتيا} من كان أعصى وأعتى منهم فنطرحهم فيها وفي ذكر الأشد تنبيه على أنه تعالى يعفو كثيرا من أهل العصيان ولو خص ذلك بالكفرة فالمراد أنه يميز طوائفهم أعتاهم فأعتاهم ويطرحهم في النار علىالترتيب أو يدخل كلا طبقتها التي تليق به أيهم مبني على الضم عند سيبويه لأن حقه أن يبنى كسائر الموصولات لكنه أعرب حملا على كل وبعض للزوم الإضافة وإذا حذف صدر صلته زاد نقصه فعاد إلى حقه منصوب المحل بننزعن ولذلك قرىء منصوبا ومرفوع عند غيره إما بالإبتداء على أنه استفهامي وخبره أشد والجملة محكية وتقدير الكلام لننزعن من كل شيعة الذين يقال فيهم أيهم أشد أو معلق عنها لننزعن لتضمنه معنى التمييز اللازم للعلم أو مستأنفة والفعل واقع على

{من كل شيعة} على زيادة من أو على معنى لننزعن بعض كل شيعة وإما بشيعة لأنها بمعنى تشيع وعلى للبيان أو متعلق بافعل وكذا الباء في قوله

٧٠

{ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا} أي لنحن أعلم بالذين هم أولى بالصلي أو صليهم أولى بالنار وهم المنتزعون ويجوز أن يراد بهم وبأشدهم عتيا رؤساء الشيع فإن عذابهم مضاعف لضلالهم وقرأ حمزة والكسائي وحفص صليا بكسر الصاد

٧١

{وإن منكم} وما منكم التفات إلى الإنسان ويؤيده أنه قرىء وإن منهم

{إلا واردها} إلا واصلها وحاضر دونها يمر بها المؤمنون وهي خامدة وتنهار بغيرهم وعن جابر رضي اللّه عنه أنه عليه السلام سئل عنه فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار فيقال لهم قد رودتموها وهي خامدة وأما قوله تعالى {أولئك عنها مبعدون}[الأنبياء:١٠١] فالمراد عن عذابها وقيل ورودها الجواز على الصراط فإنه ممدود عليها

{كان على ربك حتما مقضيا} كان ورودهم وادبا واجبا اللّه على نفسه وقضى به بأن وعد به وعدا لا يمكن خلفه وقيل أقسم عليه

٧٢

{ثم ننجي الذين اتقوا} فيساقون إلى الجنة وقرأ الكسائي ويعقوب ننجي بالتخفيف وقرىء ثم بفتح الثاء أي هناك

و {ونذر الظالمين فيها جثيا} منهارا بهم كما كانوا وهو دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وأن المؤمنين يفارقون الفجرة إلى الجنة بعد تجاثيهم وتبقى الفجرة فيها منهارا بهم على هيئاتهم

٧٣

{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} مرتلات الألفاظ مبينات المعاني بنفسها أو ببيان الرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو واضحات الإعجاز

{قال الذين كفروا للذين آمنوا} لأجلهم أو معهم

{أي الفريقين} المؤمنين والكافرين

{خير مقاما} موضع قيام أو مكانا وقرأ ابن كثير بالضم أي موضع إقامة ومنزل

{وأحسن نديا} مجلسا ومجتمعا والمعنى أنهم لما سمعوا حفوظ الدنيا والإستدلال بزيادة حظهم فيها على فضلهم وحسن حالهم عند اللّه تعالى لقصور نظرهم على الحال وعلمهم بظاهر من الحياة الدنيا فرد عليهم ذلك أيضا مع التهديد نقضا بقوله

٧٤

{وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا} و كم مفعول أهلكنا و {من قرن} بيانه وإنما سمي أهل كل عصر قرنا أي مقدما من قرن الدابة وهو مقدمها لأنه يتقدم من بعده وهم أحسن صفة لكم وأثاثا تمييز عن النسبة وهو متاع البيت

وقيل هو ماجد منه والخرثي ما رث والرئي المنظر فعل من الرؤية لما يرى كالطحن والخبز وقرأ نافع وابن عامر ريا على قلب الهمزة وإدغامها أو على أنه من الري الذي هو النعمة وقرأ أبو بكر رييا على القلب وقرىء ريا بحذف الهمزة وزيا من الزي وهو الجمع فإنه محاسن مجموعة ثم بين أن تمتيعهم استدراج وليس بإكرام وإنما العيار على الفضل والنقص ما يكون في الآخرة بقوله

٧٥

{قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا} فيمده ويمهله بطول العمر والتمتع به وإنما أخرجه على لفظ الأمر إيذانا إمهاله مما ينبغي أن فعله استدراجا وقطعا لمعاذيره كقوله تعالى {إنما نملي لهم ليزدادوا إثما}[آل عمران: ١٧٨] وكقوله أو {لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر} [فاطر: ٣٧]

{حتى إذا رأوا ما يوعدون} غاية المد وقيل غاية قول الذين كفروا للذين آمنوا أي قالوا أي الفريقين حتى إذا رأوا ما يوعدون

{إما العذاب وإما الساعة} تفصيل للموعود فإنه إما العذاب في الدنيا وهو غلبة المسلمين عليهم وتعذيبهم إياهم قتلا وأسرا وإما يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والنكال

{فسيعلمون من هو شر مكانا} من الفريقين بأن عاينوا الأمر على عكس ما قدروه وعاد ما متعوا به خذلانا ووبالآ عليهم وهو جواب الشرط والجملة محكية بعد حتى

{وأضعف جندا} أي فئة وأنصارا قابل به أحسن نديا من حيث إن حسن النادي باجتماع وجوه القوم وأعيانهم وظهور شوكتهم واستظهارهم

٧٦

{ويزيد اللّه الذين اهتدوا هدى} عطف على الشرطية المحكية بعد القول كأنه لما بين أن إمهال الكافر وتمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله أراد أن يبين أن قصور حظ المؤمن منها ليس لنقصه بل لأن اللّه عز وجل أراد به ما هو خير له وعوضه منه وقيل عطف على فليمدد لأنه في معنى الخبر كأنه قيل من كان في الضلالة يزيد اللّه اللّه في ضلاله ويزيد المقابل له هداية

{والباقيات الصالحات} الطاعات التي تبقى عائدتها أبد الآباد ويدخل فيها ما قيل من الصلوات الخمس وقول سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر

{خير عند ربك ثوابا} عائدة مما متع به الكفرة من النعم المخدجة الفانية التي يفتخرون بها سيما ومآلها النعيم المقيم ومآل هذه الحسرة والعذاب الدائم كما أشار إليه بقوله

{وخير مردا} والخير ها هنا إما لمجرد الزيادة أو على طريقة قولهم الصيف أحر من الشتاء أي أبلغ في حره منه في برده

٧٧

{أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا} نزلت في العاص بن وائل كان لخباب عليه مال فتقاضاه فقال له لا حتى تكفر بمحمد فقال لا واللّه لا أكفر بمحمد حيا ولا ميتا ولا حين تبعث قال فإذا بعثت جئتني فيكون لي ثم مال وولد فأعطيك ولما كانت الرؤية أقوى سند الإخبار استعمل أرأيت بمعنى الإخبار والفاء أصلها في التعقيب والمعنى أخبر بقصة هذا الكافر عقب حديث أولئك وقرأ حمزة والكسائي ولدا وهو جمع ولد كأسد في أسد أو لغة فيه كالعرب والعرب

٧٨

{أطلع الغيب} أقد بلغ من عظمة شأنه إلى أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار حتى ادعى أن يؤتى في الآخرة مالا وولدا وتألى عليه

{أم اتخذ عند الرحمن عهدا} أو اتخذ من عالم الغيب عهدا بذلك فإنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين وقيل العهد كلمة الشهادة والعمل الصالح فإن وعد اللّه بالثواب عليهما كالعهد عليه

٧٩

{كلا} ردع وتنبيه على أنه مخطئ فيما تصوره لنفسه

{سنكتب ما يقول} سنظهر له أنا كتبنا قوله على طريقة قوله

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة

أي تبين أني لم تلدني لئيمة أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة العدو وحفظها عليه فإن نفس الكتابة لا تتأخر عن القول لقوله تعالى {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} [ق: ١٨]

{ونمد له من العذاب مدا} ونطول له من العذاب ما يستأهله أو نزيد عذابه ونضاعفه له لكفره وافترائه واستهزائه على اللّه جلت عظمته ولذلك أكده بالمصدر دلالة على فرط غضبه عليه

٨٠

{ونرثه} بموته {ما يقول} يعني المال والولد

{ويأتينا} يوم القيامة {فردا} لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا فضلا أن يؤتى ثم زائدا وقيل فردا رافضا لهذا القول منفردا عنه

٨١

{واتخذوا من دون اللّه آلهة ليكونوا لهم عزا} ليتعززوا بهم حيث يكونون لهم وصلة إلى اللّه وشفعاء عنده

٨٢

{كلا} ردع وإنكار لتعززهم بها

{سيكفرون بعبادتهم} ستجحد الآلهة عبادتهم ويقولون ما عبدتمونا لقوله تعالى {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا}[البقرة: ١٦٦] أو سينكر الكفرة لسوء العاقبة أنهم عبدوها لقوله تعالى {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا واللّه ربنا ما كنا مشركين}[الأنعام: ٢٣]

{ويكونون عليهم ضدا} يؤيد الأول إذا فسر الضد بضد العز أي ويكونون عليهم ذلا أو بضدهم على معنى أنها تكون معونة في عذابهم بأن توقد بها نيرانهم أو جعل الواو للكفرة أي يكونون كافرين بهم بعد أن كانوا يعبدونها وتوحيده لوحدة المعنى الذي به مضادتهم فإنهم بذلك كالشيء الواحد ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام وهم يد على من سواهم وقرىء كلا بالتنوين على قلب الألف نونا في الوقف قلب ألف الإطلاق في قوله

أقلي اللوم عاذل والعتابن

أو على معنى كل هذا الرأي كلا وكلا على إضمار فعل يفسره ما بعده أي سيجحدون {كلا سيكفرون بعبادتهم}

٨٣

{ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين} بأن سلطانهم عليهم أو قيضنا لهم قرناء

{تؤزهم أزا} تهزهم وتغريهم على المعاصي بالتسويلات وتحبيب الشهوات والمراد تعجيب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أقاويل الكفرة وتماديهم في الغي وتصميمهم على الكفر بعد وضوح الحق على ما نطقت به الآيات المتقدمة

٨٤

{فلا تعجل عليهم} بأن يهلكوا حتى تستريح أنت والمؤمنون من شرورهم وتطهر الأرض من فسادهم

{إنما نعد لهم} أيام آجالهم {عدا} والمعنى لا تعجل بهلاكهم فإنه لم يبق له إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة

٨٥

{يوم نحشر المتقين} نجمعهم

{إلى الرحمن} إلى ربهم الذي غمرهم برحمته ولا ختبار هذا الإسم في هذه السورة شأن ولعله لأن مساق هذا الكلام فيها لتعداد نعمه الجسام وشرح حال الشاكرين له ا والكافرين بها

{وفدا} وافدين عليه كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين لكرامتهم وإنعامهم

٨٦

{ونسوق المجرمين} كما تساق البهائم

{إلى جهنم وردا} عطاشا فإن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش أو كالدواب التي ترد الماء

٨٧

{لا يملكون الشفاعة} الضمير فها للعباد المدلول عليها بذكر القسمين وهو الناصب لليوم

{إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا} إلا من تحلى بما يستعد به ويستأهل أن شفع للعصاة من الإيمان والعمل الصالح على ما وعد اللّه تعالى أو إلا من اتخذ من اللّه إذنا فيها كقوله تعالى {لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن}[طه:١٠٩] من قولهم عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به ومحله الرفع على البدل من الضمير أو النصب على تقدير مضاف أي إلا شفاعة من اتخذ أو على الآستثناء وقيل الضمير للمجرمين والمعنى لا يملكون الشفاعة فيهم إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا يستعد به أن يشفع له بالإسلام

٨٨

{وقالوا اتخذ الرحمن ولدا} الضمير يحتمل الوجهين لأن هذا لما كان مقولا فيما بين الناس جاز أن ينسب إليهم

٨٩

{لقد جئتم شيئا إدا} على الإلتفات للمبالغة في الذم والتسجيل عليهم بالجراءة على اللّه تعالى والإد بالفتح والكسر العظيم المنكر الإداة الشدة وأدني الأمر وآدني أثقلني وعظم علي

٩٠

{تكاد السموات} وقرأ نافع والكسائي بالياء

{يتفطرن منه} يتشققن مرة بعد أخرى وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وأبو بكر ويعقوب ينفطرن والأول أبلغ لأن التفعل مطاوع فعل والإنفعال مطاوع فعل ولأن أصل التفعل التكلف

{وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا} تهد هدا أو مهدودة أو لأنها تهد أي تكسر وهو تقرير لكونه أدا والمعنى أن هول هذه الكلمة وعظمها بحيث لو تصورت بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام والعظام وتفتت من شدتها أو أن فظاعتها مجلبة لغضب اللّه بحيث لولا حلمه لخرب العالم وبدد قوائمه غضبا على من تفوه بها

٩١

{أن دعوا للرحمن ولدا} يحتمل النصب على العلة ل تكاد أو ل هدا على حذف اللام وإفضاء الفعل إليه والجر بإضمار اللام أو بالإبدال من الهاء في منه والرفع على أنه خبر محذوف تقديره الموجب لذلك أن دعوا أو فاعل هدا أي هدها دعاء الولد للرحمن وهو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين وإنما اقتصر على المفعول الثاني ليحيط بكل ما دعي له ولدا أو من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعه ادعى إلى فلان إذا انتسب إليه

٩٢

{وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا} ولا يليق به اتخاذ الولد ولا يتطلب له لو طلب مثلا لأنه مستحيل ولعل ترتيب الحكم بصفة الرحمانية للإشعار بأن كل ما عداه نعمة ومنعم عليه فر يجانس من هو مبدأ النعم كلها ومولي أصولها وفروعها فكيف يمكن أن يتخذه ولدا ثم صرح به في قوله

٩٣

 {إن كل من في السموات والأرض} أي ما منهم

{إلا آتي الرحمن عبدا} إلا وهو مملوك له يأوي إليه بالعبودية والإنقياد وقرىء آت الرحمن على الأصل

٩٤

{لقد أحصاهم} حصرهم وأحاط بهم بحيث لا يخرجون عن حوز علمه وقبضة قدرته

{وعدهم عدا} عد أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم فإن كل شيء عنده بمقدار

٩٥

{وكلهم آتية يوم القيامة فردا} منفردا عن الإتباع والأنصار فلا يجانسه شيء من ذلك ليتخذه ولدا ولا يناسبه ليشرك به

٩٦

{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا} سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تعرض منهم لأسبابها وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم: إذا أحب اللّه عبدا يقول لجبريل أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن اللّه قد أحب فلانا فأحبوه في حبه أهل السماء ثم توضع له المحبة في الأرض والسين إما لأن السورة مكية وكانوا ممقوتين حينئذ بين الكفرة فوعدهم ذلك إذا دجا الإسلام أو لأن الموعود في القيامة حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد فينزع ما في صدورهم من الغل

٩٧

{فإنما يسرناه بلسانك} بأن أنزلناه بلغتك والباء بمعنى على أو على أصله لتضمن يسرناه معنى أنزلناه بلغتك

{لتبشر به المتقين} الصائرين إلى التقوى

{وتنذر به قوما لدا} أشداء الخصومة آخذين في كل لديد أي شق من المراء لفرط لجاجهم فبشر به وأنذر

٩٨

{وكم أهلكنا قبلهم من قرن} تخويف للكفرة وتجسير للرسول صلى اللّه عليه وسلم على إنذارهم

{هل تحس منهم من أحد} هل تشعر بأحد منهم وتراه

{أو تسمع لهم ركزا} وقرئ تسمع من أسمعت والركز الصوت الخفي وأصل التركيب هو الخفاء ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز المال المدفون عن رسول اللّه:

من قرأ سورة مريم أعطي عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدق به ويحيى ومريم وعيسى وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورين فيها وبعدد من دعا اللّه في الدنيا ومن لم يدع اللّه

﴿ ٠