تفسير البيضاوي: أنوار التنزيل و أسرار التأويل أبو سعيد عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي

البيضاوي الشيرازي الفارسي، ناصر الدين، القاضي الشافعي (ت ٦٨٥ هـ ١٢٨٦ م)

_________________________________

سورة الحج

سورة الحج مكية إ لا ست آيات من هذان خصمان إلى صراط الحميد وآيها ثمان وسبعون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة} تحريكها للأشياء على الإسناد المجازي أو تحريك الأشياء فيها فاضيفت إليها إضافة معنوية بتقدير في أو إضافة المصدر إلى الظرف على إجرائه مجرى المفعول به وقيل هي زلزلة تكون قبيل طلوع الشمس من مغربها وإضافتها إلى الساعة لأنها من أشراطها

{شيء عظيم} هائل علل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة ليتصوروها بعقولهم ويعلموا أنه لا يؤمنهم منها سوى التدرع بلباس التقوى فيبقوا على أنفسهم ويتقوها بملازمة التقوى

٢

{يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت} تصوير لهولها والضمير لل زلزلة و يوم منصوب ب تذهل وقرئ تذهل و تذهل مجهولا ومعروفا أي تذهلها الزلزلة والذهول الذهاب عن الأمر بدهشة والمقصود الدلالة على أن هولها بحيث إذا دهشت التي ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه وذهلت عنه و ما موصولة أو مصدرية

{وتضع كل ذات حمل حملها} جنينها

{وترى الناس سكارى} كأنهم سكارى

{وما هم بسكارى} على الحقيقة

{ولكن عذاب اللّه شديد} فأرهقهم هوله بحيث طير عقولهم وأذهب تمييزهم وقرئ ترى من أريتك قائما أو رؤيت قائما بنصب الناس ورفعه على أنه نائب مناب الفاعل وتأنيثه على تأويل الجماعة وإفراده بعد جمعه لأن الزلزلة يراها الجميع وأثر السكر إنما يراه كل أحد على غيره وقرأ حمزة والكسائي سكرى كعطشى إجراء للسكر مجرى العلل

٣

 {ومن الناس من يجادل في اللّه بغير علم} نزلت في النضر بن الحارث وكان جدلا يقول الملائكة بنات اللّه والقرآن أساطير الأولين ولا بعث بعد الموت هي تعمه وأضرابه

{ويتبع} في المجادلة أو في عامة أحواله

{كل شيطان مريد} متجرد للفساد وأصله العري

٤

{كتب عليه} على الشيطان {أنه من تولاه} تبعه والضمير للشأن

{فإنه يضله} خبر لمن أو جواب له والمعنى كتب عليه إضلال من يتولاه لأنه جبل عليه وقرئ بالفتح على تقدير فشأنه أنه يضله لا على العطف فإنه يكون بعد تمام الكلام وقرئ بالكسر في الموضعين على حكاية المكتوب أو إضمار القول أو تضمين الكتب معناه

{ويهديه إلى عذاب السعير} بالحمل على ما يؤدي إليه

٥

{يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث} من إمكانه وكونه مقدورا وقرئ من البعث بالتحريك كالجلب

{فإنا خلقناكم} أي فانظروا في بدء خلقكم فإنه يزيح ريبكم فإنا خلقناكم

{من تراب} بخلق آدم منه أو الأغذية التي يتكون منها المني

{ثم من نطفة} مني من النطف وهو الصب

{ثم من علقة} قطعة من الدم جامدة

{ثم من مضغة} قطعة من اللحم وهي في الأصل قدر ما يمضغ

{مخلقة وغير مخلقة} مسواة لا نقص فيها ولا عيب وغير مسواة أو تامة وساقطة أو مصورة وغير مصورة

{لنبين لكم} بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا وأن ما قبل التغير والفساد والتكون مرة قبلها أخرى وأن من قدر على تغييره وتصويره أولا قدر على ذلك ثانيا وحذف المفعول إيماء إلى أن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وحكمته ما لا يحيط به الذكر

{ونقر في الأرحام ما نشاء} أن نقره

{إلى أجل مسمى} هو وقت الوضع وأدناه بعد ستة أشهر وأقصاه أربع سنين وقرئ ونقره بالنصب وكذا قوله

{ثم نخرجكم طفلا} عطفا على نبين كأن خلقهم مدرجا لغرضين تبيين القدرة وتقريرهم في الأرحام حتى يولدوا وينشؤوا ويبلغوا حد التكليف وقرئا بالياء رفعا ونصبا ويقر بالياء ونقر من قررت الماء إذا صببته و طفلا حال أجريت على تأويل كل واحد أو للدلالة على الجنس أو لأنه في الأصل مصدر

{ثم لتبلغوا أشدكم} كمالكم في القوة والعقل جمع شدة كالأنعم جمع نعمة كأنها شدة في الأمور

{ومنكم من يتوفى} عند بلوغ الأشد أو قبله وقرئ يتوفى أو يتوفاه اللّه تعالى

{ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} وهو الهرم والخوف وقرئ بسكون الميم

{لكيلا يعلم من بعد علم شيئا} ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما عمله وينكر ما عرفه والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره

{وترى الأرض هامدة} ميتة يابسة من همدت النار إذا صارت رمادا

{فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت} تحركت بالنبات

{وربت} وانتفخت وقرئ وربات أي ارتفعت

{وأنبتت من كل زوج} من كل صنف

{بهيج} حسن رائق وهذه دلالة ثالثة كررها اللّه تعالى في كتابه لظهورها وكونها مشاهدة

٦

{ذلك} إشارة إلى ما ذكر من خلق الإنسان في أطوار مختلفة وتحويله على أحوال متضادة وإحياء الأرض بعد موتها وهو مبتدأ خبره

{بأن اللّه هو الحق} أي بسبب انه الثابت في نفسه الذي به تتحقق الأشياء

{وأنه يحي الموتى وأنه} يقدر على إحيائها وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة وانه

{على كل شيء قدير} لأن قدرته لذاته الذي نسبته غلى الكل على سواء فلما دلت المشاهدة على قدرته على إحياء بعض الأموات لزم اقتداره على إحياء كلها

٧

{وأن الساعة آتية لا ريب فيها} فإن التغيير من مقدمات الانصرام وطلائعه

{وأن اللّه يبعث من في القبور} بمقتضى وعده الذي لا يقبل الخلف

٨

{ومن الناس من يجادل في اللّه بغير علم} تكرير للتأكيد ولم نيط به من الدلالة بقوله

{ولا هدى ولا كتاب منير} على أنه لا سند له عن استدلال أو وحي أو الأول في المقلدين وهذا في المقلدين والمراد بالعلم العلم الفطري ليصبح عطف ال هدى وال كتاب عليه

٩

{ثاني عطفه} متكبرا وثنى العطف كناية عن التكبر كلي الجيد أو معرضا عن الحق استخفافا به وقرئ بفتح العين أي مانع تعطفه

{ليضل عن سبيل اللّه} علة للجدال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس بفتح الياء على أن إعراضه عن الهدى المتمكن منه بالإقبال على الجدال الباطل خروج من الهدى إلى الضلال وأنه من حيث مؤداه كالغرض له

{له في الدنيا خزي} وهو ما أصابه يوم بدر

{ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق} المحروق وهو النار

١٠

 {ذلك بما قدمت يداك} على الالتفات أو إرادة القول أي يقال له يوم القيامة ذلك الخزي والتعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي

{وأن اللّه ليس بظلام للعبيد} وإنما هو مجاز لهم على أعمالهم والمبالغة لكثرة العبيد

١١

{ومن الناس من يعبد اللّه على حرف} على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون على طرف الجيش فإن أحس بظفر قر وإلا فر

{فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه} روي أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته غلاما سويا وكثر ماله وماشيته قال ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن وإن كان الأمر بخلافه قال ما أصبت إلا شرا وانقلب وعن أبي سعيد أن يهوديا أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالإسلام فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال أقلني فقال إن الإسلام لا يقال فنزلت

{خسر الدنيا والآخرة} بذهاب عصمته وحبوط عمله بالارتداد وقرئ حاسرا بالنصب على الحال والرفع على الفاعلية ووضع الظاهر موضع الضمير تنصيصا على خسرانه أو على أنه خبر محذوف

{ذلك هو الخسران المبين} إذ لا خسران مثله

١٢

{يدعو من دون اللّه ما لا يضره وما لا ينفعه} يعبد جمادا بنفسه ولا ينفع

{ذلك هو الضلال البعيد} عن المقصد مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالا

١٣

{يدعو لمن ضره} بكونه معبودا لأنه يوجب القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة

{أقرب من نفعه} الذي يتوقع بعبادته وهو الشفاعة والتوسل بها إلى اللّه تعالى واللام معلقة ل يدعو من حيث إنه بمعنى يزعم والزعم قول مع اعتقاد أو داخلة على الجملة الواقعة مقولا إجراء له مجرى قول أي يقول الكافر ذلك بدعاء وصراخ حين يرى استضراره به أو مستأنفة على أن يدعو تكرير للأول ومن مبتدأ خبره

{لبئس المولى} الناصر {ولبئس العشير} الصاحب

١٤

{إن اللّه يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار إن اللّه يفعل ما يريد} من إثابة الموحد الصالح وعقاب المشرك الطالح لا دافع له ولا نافع

١٥

{من كان يظن أن لن ينصره اللّه في الدنيا والآخرة} كلام فيه اختصار والمعنى أن اللّه ناصر رسوله في الدنيا والآخرة فمن كان يظن خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه وقيل المراد بالنصر الرزق والضمير لمن

{فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع} فليستقص في إزالة غيظه أو جزعه بأن يفعل كل ما يفعله الممتلئ غيظا أو المبالغ جزعا حتى يمد حبلا إلى سماء بيته فيختنق من قطع إذا اختنق فإن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه وقيل فليمده حبلا إلى سماء الدنيا ثم ليقطع به المسافة حتى يبلغ عنانها فيجتهد في دفع نصره أو تحصيل رزقه وقرأ ورش وأبو عمرو وابن عامر ليقطع بكسر اللام

{فلينظر} فليتصور في نفسه

{هل يذهبن} في {كيده} فعله ذلك وسماه على الأول كيدا لأنه منتهى ما يقدر عليه

{ما يغيظ} غيظه أو الذي يغيظ من نصر اللّه وقيل نزلت في قوم مسلمين استبطأوه نصر اللّه لاستعجالهم وشدة غيظهم على المشركين

١٦

{وكذلك} ومثل ذلك الإنزال {أنزلناه} القرآن كله

{آيات بينات} واضحات {وأن اللّه يهدي} ولأن اللّه يهدي به أو يثبت على الهدى

{من يريد} هدايته أو إثباته أنزله كذلك مبينا

١٧

{إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن اللّه يفصل بنهم يوم القيامة} بحكومة بينهم وإظهار المحق منهم على المبطل أو الجزاء فيجازي كلا ما يليق به ويدخله المحل المعدل له وإنما أدخلت إن على كل واحد من طرفي الجملة لمزيد التأكيد

{إن اللّه على كل شيء شهيد} عالم به مراقب لأحواله

١٨

{ألم تر أن اللّه يسجد له من في السموات ومن في الأرض} يستخر لقدرته ولا يتأتى عن تدبيره أو يدل بذلته على عظمته مدبره ومن يجوز أن يعم أولي العقل وغيرهم على التغليب فيكون قوله

{والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب} إفرادا لها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها وقرىء والدواب بالتخفيف كراهة التضعيف أو الجمع بين السكنين

{وكثير من الناس} عطف عليها إن جوز إعمال اللفظ الواحد فيكل واحد من مفهوميه وإسناده بعتبار أحدهما إلى أمر وباعتبار الآخر إلى آخر فإن تخصيص الكثير يدل على خصوص المعنى المسند إليهم أو مبتدأ خبره محذوف يدل عليه خبر قسيمة نحو حق له الثواب أو فاعل فعل مضمر أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة

{وكثير حق عليه العذاب} بكفره وإبائه عن الطاعة ويجوز أن يجعل وكثيرا تكريرا للأول مبالغة في تكثير المحقوقين بالعذاب وأن يعطف به على الساجدين بالمعنى العام موصوفا بما بعده وقرىء حق بالضم وحقا بإضمار فعله

{ومنيهن اللّه} بالشقاوة {فما له من مكرم} يكرمه بالسعادة وقرىء بالفتح بمعنى الإكرام

{إن اللّه يفعل ما يشاء} من الإكرام والإهانة

١٩

{هذان خصمان} أي فوجان مختصمان ولذلك قال

{اختصموا} حملا على المعنى ولو عكس لجاز والمراد بهما المؤمنون والكافرون

{في ربهم} في دينه أو في ذاته وصفاته وقيل تخاصمت اليهود والمؤمنون فقال اليهود نحن أحق باللّه وأقدم منكم كتابا ونبيا قبل نبيكم وقال المؤمنون نحن أحق باللّه آمنا بمحمد ونبيكم وبما أنزل اللّه من كتاب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم كفرتم به حسدا فنزلت

{فالذين كفروا} فصل لخصومتهم وهو المعنى بقوله تعالى إن اللّه يفصل بينهم يوم القيامة [الحج:١٧]

{قطعت لهم} قدرت لهم على مقادير جثهم وقرىء بالتخفيف

{ثياب من نار} نيران تحيط بهم إحاطة الثياب

{يصب من فوق رؤوسهم الحميم} حال من الضمير في لهم أو خبر ثان والحميم الماء الحار

٢٠

{يصهر به ما في بطونهم والجلود} أي يؤثر من فرط حرارته في بطونهم تأثيره في ظاهرهم فتذاب به أحشاؤهم كما تذاب به جلودهم والجملة حال من الحميم أو من ضميرهم وقرىء بالتشديد للتكثير

٢١

{ولهم مقامع من حديد} سياط منه يجلدون بها وجمع مقمعة وحقيقتها ما يقمع به أي بكف بعنف

٢٢

{كلما أرادوا أن يخرجوا منها} من النار

{من غم} من عمومها بدل من الهاء بإعادة الجار

{أعيدوا فيها} أي فخرجوا أعيدوا لأن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج وقيل يضربهم لهيب النار فيرفعهم إلى أعلاها فيضربون بالمقامع فيهرون فيها

{وذوقوا} أي وقيل لهم ذوقوا

{عذاب الحريق} أي النار البالغة في الإحراق

٢٣

{إن اللّه يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها النهار} غير الأسلوب فيه وأسند الإدخال إلى اللّه تعالى وأكده بإن إحمادا لحال المؤمنين وتعظيما لشأنهم

{يحلون فيها} من حليت المرأة إذا ألبستها الحلى وقرىء بالتخفيف والمعنى واحد

{من أساور} صفة مفعول محذوف و أساور جمع أسورة وه جمع سوار

{من ذهب} بيان له {ولؤلؤا} عطف عليها لا على ذهب لأنه لم يعهد السوار منه غلا يراد المرصعة به ونصبه نافع وعاصم عطفا على محلها أو إضمار الناصب مثل ويؤتون وروى حفص بهمزتين وترك أبو بكر والسوسي عن أبي عمرو الهمزة الأولى وقرىء لؤلؤا بقلب الصانية واوا ولوليا بقلبهما ولوين ثم قلب الثانية ياء و ليليا بقلبهما ياءين ولول كأدل و

{ولباسهم فيها حرير} غير أسلوب الكلام فيه للدلالة على ان الحرير ثيابهم المعتادة أو للمحافظة عل هيئة الفواصل

٢٤

{وهدوا إلى الطيب من القول} وهو قولهم {الحمد للّه الذي صدقنا وعده} [الزمر:٧٤] أو كلمة التوحيد

{وهدوا إلى صراط الحميد} المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة أو الحق أو المستحق لذاته الحمد وهو اللّه سبحانه وتعالى وصراط الإسلام

٢٥

{إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل اللّه} لا يريد به حالا ولا استقبالا وإنما يريد به استمروا الصد منهم كقولهم فلان يعطي ويمنع ولذلك حسن عطفه على الماضي وقيل هو حال من فاعل كفروا وخبر إن محذوف دل عليه آخر الآية أي معذبون

{والمسجد الحرام} عطف على إسم اللّه وأوله الخنفية بمكة واستشهدوا بقوله

{الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد} أي المقيم والطارىء على عدم جواز بيع دورها وإجارتها وهو مع ضعفه معارض بقوله تعالى {الذين أخرجوا من ديارهم} [الحج:٤٠] وشراء عمر رضي اللّه تعالى عنه دار السجن فيها من غير نكير و سواء خبر مقدم والجملة مفعول ل ثان ل جعلناه إن جعل للناس حالا من الهاء وإلا فحال من المستكن فيه وصبه حفص على أنه المفعول أو الحال و العاكف مرتفع به وقرىء العاكف بالجر على أنه بدل من الناس

{ومن يرد فيه} مما ترك مفعوله ليتناول كل متناول وقرىء بالفتح من الورود

{بإلحاد} عدول عن القصد {بظلم} بغير حق وهما حالان مترادفان أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار أو صلة له أي مجلدا بسبب الظلم كالإشراك واقتراف الآثام

{نذقه من عذاب أليم} جواب ل من

٢٦

{وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} أي واذكر إذ عيناه وجعلنا له مباءة وقيل اللام زائدة ومكان ظرف أي وإذ أنزلناه فيه قيل رفع البيت إلى السماء وانطمس أيام الطوفان فأعلمه اللّه مكانه بريح أرسلها فكنست ما حوله فبناه على اسه القديم

{أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود} أن مفسرة ل بوأنا من حيث إنه تضمن معنى تعبدنا لأن التبوئة من أجل العبادة أو مصدرية موصولة بالنهي أي فعلنا ذلك لئلا تشرك بعبادتي وطهر بيتي من الأوثان والأقدار لمن يطوف به ويصلي فيه ولعله عبر عن الصلاة بأركانها للدلالة على أن كل واحد منها مستقل بإقتضاء ذلك كيف وقد اجتمعت وقرىء يشرك بالياء وقرأ نافع وحفص وهشام بيتي بفتح الياء

٢٧

{وأذن في الناس} ناد فيهم وقرىء وآذن

{بالحج} بدعوة الحج والأمر به روي أنه عليه الصرة والسلام صعد أبا قبيس فقال يا أيها الناس حجوا بيت ربكم فأسمعه اللّه من أصلاب الرجال وأرحام النساء فيما بين المشرق والمغرب ممن سبق في علمه أن يحج وقيل الخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمر بذلك في حجة الوداع

{يأتوك رجالا} مشاة جمع راجل كقائم وقيام وقرىء بضم الراء مخفف الجيم ومثقلة ورجالي كعجالي

{وعلى كل ضامر} أي وركبنا على كل بعير مهزول أتعب بعد السفر فهزله

{يأتين} صفة ل ضامر محمولة على معناه وقرىء يأتون صفة للرجال والركبان أو استئناف فيكون الضمير ل الناس

{من كل فج} طريق {عميق} بعيد وقرىء معيق يقال بئر بعيدة العمق والمع بمعنى

٢٨

{ليشهدوا} ليحضروا نافع لهم} دينية ودنيوية وتنكيرها لأن المراد بها نوع من المنافع مخصوص بهذه العبادة

{ويذكروا اسم اللّه} عند إعداد الهدايا والضحايا وذبحها وقيل كنى بالذكر عن النحر لأن ذبح المسلمين لا ينفك عنه تنبيها على أنه المقصود مما يتقرب به إلى اللّه تعالى

{في أيام معلومات} هي عشر ذي الحجة وقيل أيام النحر

{على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} علق الفعل بالمروزق وبينه بالبهيمة تحريضا على التقرب وتنبيها على مقتضى الذكر

{فكلوا منها} من لحومها أمر بذلك إباحة وإزالة لما عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه أو ندبا إلى مواساة الفقرأء ومساواتهم وهذا في المتطوع به دون الواجب

{وأطعموا البائس} الذي أصابه بؤس أي شدة

{الفقير} المحتاج والمر فيه للوجوب وقد قيل به في الأول

٢٩

{ثم ليقضوا تفثهم} ثم ليزيلوا وسخهم بقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والإستحداد عند الحلال

{وليوفوا نذورهم} ما ينذرون من البر في حجهم وقيل مواجب الحج وقرأ أبو بكر بفتح الواو وتشديد الفاء

{وليطوفوا} طواف الركن الذين به تمام التحلل فإنه قرينة قضاء التفث وقيل طواف الوداع وقرأ ابن عامر وحده بكسر اللام فيهما

{بالبيت العتيق} القديم لأنه أول بيت وضع للناس أو المعتق من تسلط الجبابرة فكم من جبار رسا إليه ليهدمه فمنعه اللّه تعالى وأما الحجاج فإنما قصد إخراج ابن الزبير منه دون التسلط عليه

٣٠

{ذلك} خبر محذوف أي المر ذلك وهو وأمثاله تطلق لفصل بين كلامين

{ومن يعظم حرمات اللّه} أحكامه وسائر ما لا يحل هتكه أو الحرم وما يتعلق بالحج من التكاليف وقيل الكعبة والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمحرم

{فهو خير له} فالتعظيم خير له {عند ربه} ثوابا

{وأحلت لكم النعام إلا ما يتعلى عليكم} إلا المتلو عليكم تحريمه وهو ما حرم منها لعارض كالميتة وما أهل به لغير اللّه فلا تحرموا منها غير ما حرمه اللّه كالبحيرة والسائبة

{فاجتنبوا الرجس من الأوثان} فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان كما تجتنب النجاس وهو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها

{واجتنبوا قول الزور} تعميم بعد تخصيص فإن عبادة الأوثان راس الزور كأنه لما حث على تعظيم الحرمات أتبعه ذلك ردا لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب وتعظيم الأوثان والإفتراء على اللّه تعالى بأنه حكم بذلك وقيل شهادة الزور لم روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: عدلت شهادة الزور الإشراك باللّه تعالى ثلاثا وتلا هذه الآية و والزور من الزور وهو الإنحراف كما أن الإفك من الإفك وهو الصرف فإن الذب منحرف عن الواقع

٣١

{حنفاء للّه} مخلصين له {غير مشركين به} وهما حالان من الواو

{ومن يشرك باللّه فكأنما خر من السماء} لأنه سقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر

{فتخطفه الطير} فإن الهواء الرديئة توزع أفكاره وقرأ نافع وحده فتخطفه بفتح الخاء وتشديد الطاء

{أو تهوى به الريح في مكان سحيق} بعيد فإن الشيطان قد طرح به في الضلالة وأو للتخيير كما قوله تعالى {أو كصيب من السماء} [البقرة:١٩] أو للتنويع فإن من المشركين من لا خلاص له أصلا ومنهم من يمكن خلاصه بالتوبة لكن على بعد ويجوز أن يكون من التشبيهات المركبة فيكون المعنى ومن يشرك باللّه فقد هلكت نفسه هلاكا يشبه أحد الهلاكين

٣٢

{ذلك ومن يعظم شعائر اللّه} دين اللّه أو فرائض الحج ومواضع نسكه أو الهدايا لأنها من معالم الحج وهو أوفق لظاهر ما بعده وتعظيمها أن تختارها حسانا سمانا عالية الأثمان روي أنه صلى اللّه عليه وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفة برة من ذهب وأن عمر رضي اللّه تعالى عنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار

{فإنها من تقوى القلوب} فإن تعظيمها منه من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات والعائد إلى من وذكر القلوب لأنها منشأ التقوى والفجور أو الآمرة بهما

٣٣

{لكم فيها منافع} درها ونسلها وصوفها وظهرها إلى أن تنحر ثم وقت نحرها منتهية إلى البيت أي ما يديه من الحرم و ثم تحتلم التراخي في الوقت والتراخي في الرتبة أي لكم فيها منافع دنيوية إلى وقت النحر وبعده منافع دينية أعظم منها وهو على الأولين إما متصل بحديث النعام والضمير فيه لها

أو المراد على الأول لكم فيها منافع دينية تنتفعون بها

{إلى اجل مسمى} هو الموت {ثم محلها} منتهية

{إلى البيت العتيق} الذي ترفع غليه الأعمال أو يكون فيه ثوابها وهو البيت المعمور أو الجنة وعلى الثاني {لكم فيها منافع} التجارات في الأسواق إلى وقت المراجعة ثم وقت الخروج منه منتهية إلى الكعبة بالإحلال بطواف الزيارة

٣٤

{ولكل أمة} ولك أهل دين {جعلنا منسكا} متعبدا أو قربانا يتقربون به إلى اللّه وقرأ حمزة والكسائي بالكسر أي موضع نسك

{ليذكروا إسم اللّه} دون غيره ويجعلون نسيكتهم لوجهه علل الجعل به تنبيها على أن المقصود من المناسك تذكر المعبود

{على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} عند ذبحها وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون نعما

{فإلهكم إله واحد فله أسلموا} أخلصوا التقرب أو الذكر ولا تشوبوه بالإشراك

{وبشر المخبتين} المتواضعين أو المخلصين فإن الإخبات صفتهم

٣٥

{الذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم} هيبة منه لإشراق أشعة جلاله عليها

{والصابرين على ما أصابهم} من الكلف والمصائب

{والمقيمي الصلاة} في أوقاتها وقرىء والمقيمين الصلاة على الأصل

{ومما رزقناهم ينفقون} في وجوه الخير

٣٦

{والبدن} جمع بدنه كخشب وخشبة وأصله الضم وقد قرىء به وإنما سميت بها الإبل لعظم بدنها مأخوذة من بدن بدانة ولا يلزم من مشاركة البقرة لها في أجزائها عن سبعة بقوله عليه الصلاة السلام البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة تناول اسم البدنة لها شرعا بل الحديث يمنع ذلك وانتصابه بفعل يفسره

{جعلناها لكم} ومن رفعه جعله مبتدأ

{من شعائر اللّه} من أعلام دينه التي شرعها اللّه تعالى

{لكم فيها خير} منافع دينية وذنيوية

{فاذكروا اسم اللّه عليها} بأن تقولوا عند ذبحها اللّه أكبر لا إله إلا اللّه واللّه أكبر اللّهم منك وإليك صواف قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن وقرىء صوافن من صفن الفرس إذا قام علىثلاث وعلى طرف حافر الرابعة لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث وقرىء صوافنا بإبدال التنوين منحرف الإطلاق عند الوقف وصوافي أي خوالص لوجه اللّه وصوافي بسكون الياء على لغة من يسكن الياء مطلقا كقولهم أعط القوس باريها

{فإذا وجبت جنوبها} سقطت على الأرض وهو كناية عن الموت

{فكلوا منها وأطعموا القانع} الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسألة ويؤيده

قرأءة القنع أو السائل من قنعت غليه قنوعا إذا خضعت له في السؤال

{والمعتر} والمعترض بالسؤال وقرىء والمعتري يقال عره وعرراه واعتراه واعتراه

{كذلك} مثل ما وصفنا من نحرها قياما

{سخرناها لكم} مع عظامها وقوتها حتى تأخذوها منقادة فتعقلوها وتحبسوها صافة قوائمها ث تطعنون في لباتها

{لعلكم تشكرون} إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص

٣٧

{لن ينال اللّه} لن يصيب رضاه ولني قع منه موقع القبول

{لحومها} المتصدق بها {ولا دماؤها} المهراقة بالنحر من حيث إنها لحوم ودماء

{ولكن يناله التقوى منكم} ولكن يصيبه ما يصحبه من تقوى قلوبكم التي تدعوكم إلى تعظيم أمره تعالى والتقريب إليه والإخلاص له وقيل كان أهل الجاهلية إذا ذبحوا القرابين لطخوا الكعبة بدمائها قربة إلى اللّه تعالى فهم به المسلمون فنزلت

{كذلك سخرها لكم} كرره تذكيرا للنعمة وتعليلا له بقوله

{لتكبروا اللّه} أي لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره فتوحدوه بالكبرياء وقيل هو التكبير عند الإحلال أو الذبح

{على ما هداكم} أرشدكم إلى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها و ما تحتمل المصدرية والخيرية و على متعلقة ب لتكبروا لتضمنه معنى الشكر

{وبشر المحسنين} المخلصين فيما يأتونه ويذرونه

٣٨

{إن اللّه يدفع عن الذين آمنوا} غائلة المشركين وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون يدافع أي يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه

{إن اللّه لا يحب كل خوان} في أمانة اللّه

{كفور} لنعمته كمن يتقرب إلى الأصنام بذبيحته فلا يرتضي علهم ولا ينصرهم

٣٩

{أذن} رخص وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي على البناء للفاعل وهو اللّه

{للذين يقاتلون} المشركين والمأذون فيه محذوف لدلالته عليه وقرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح التاء أي الذين يقاتلهم المشركون

{بأنهم ظلموا} بسبب أنهم ظلموا وهم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان المشركون يؤذونهم وكانوا يأتونه من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فانزلت وهي أول آية نزلت في القتال بعدما نهي عنه في نيف وسبعين آية

{وإن اللّه على نصرهم لقدير} وعد لهم بالنصر كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم

٤٠

{الذين أخرجوا من ديارهم} يعن مكة

{بغير حق} بغير موجب استحقوه به

{ألا أن يقولوا ربنا اللّه} على طريقة قول النابغة

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

وقيل منقطع

{ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض} بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين

{لهدمت} لخربت باستيلاء المشركين على أهل الملل وقرأ نافع دفاع وقرأ نافع وابن كثير لهدمت بالتخفيف

{صوامع} صوامع الرهبانية {وبيع} بيع النصارى

{وصلوات} كنائس اليهود سميت بها لأنها يصلى فيها وقيل أصلها صلوتا بالعبرانية فعربت

{ومساجد} مساجد المسلمين

{يذكر فيها اسم اللّه كثيرا} صفة للأربع أو لمساجد خصت بها تفضيلا

{ولينصرن اللّه من ينصره} من ينصر دينه وقد أنجز وعده بأن سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاشرة العجم وقياصرتهم وأورثهم أرضهم وديارهم

{إن اللّه لقوي} على نصرهم {عزيز} لا يمانعه شيء

٤١

{الذين إن مك ن اهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} وصف للذين أخرجوا وهو ثناء قبل بلاء وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين إذ لم يستجمع ذلك غيرهم من المهاجرين وقيل بدل ممن ينصره

{وللّه عاقبة الأمور} فإن مرجعها إلى حكمه وفيه تأكيد لما وعده

٤٢

{وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود}

٤٣

{وقوم إبراهيم وقوم لوط}

٤٤

{وأصحاب مدين} تسلية له صلى اللّه عليه وسلم بأن قومه إن كذبوه فهو ليس بأوحدي في التكذيب فإن هؤلاء قد كذبوا رسلهم قبل قومه

{وكذب موسى} غير فيه النظم وبنى الفعل للمفعول لأن قومه بو إسرائيل ولم يكذبوه وإنما كذبه القبط ولأن تكذيبه كان أشنع وآياته كانت أعظم وأشنع

{فأمليت للكافرين} فأمهلتهم حتى انصرمت آجالهم المقدرة

{ثم أخذتهم فكيف كان نكير} أي إنكاري عليهم بتغيير النعمة محنة والحياة هلاكا والعمارة خرابا

٤٥

{فكأين من قرية أهلكناها} بإهلاك أهلها وقرأ البصريان بغير لفظ التعظيم

{وهي ظالمة} أي أهلها

{فهي خاوية على عروشها} ساقطة حيطانها على سقوفها بأن تعطل بنيانها فخرت سقوفها ثم انهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف أو خالية مع بقاء عروشها وسلامتها فيكون الجار متعلقا ب خاوية ويجوز أن يكون خبر بعد خبر أي هي خالية وهي على عروشها أي مطلة عليها بأن سقطت وبقيت الحيطان مائلة مشرفة عليها والجملة معطوفة على أهلكناها لا على

{وهي ظالمة} فإنها حال والإهلاك ليس حال خوائها فلا محل لها إن نصبت كأي بمقدر يفسره اهلكناها وإن رفعته بالابتداء فمحلها الرفع

{وبئر معطلة} عطف على قرية أي وكم بئر عامرة في البوادي تركت لا يستقي منها لهلاك أهلها وقرئ بالتخفيف ممن أعطله بمعنى عطلة

{وقصر مشيد} مرفوع أو مجصص أخليناه عن ساكنيه وذلك يقوي أن معنى خاوية على عروشها خالية مع بقاء عروشها وقيل المراد ب بئر بئر في سفح جبل بحضرموت وبقصر قصر مشرف على قلته كان لقوم حنظلة بن صفوان من قوم صالح فلما قتلوه أهلكهم اللّه تعالى وعطلهما

٤٦

{أفلم يسيروا في الأرض} حث لهم على أن يسافروا ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا وهو وإن كانوا قد سافروا فلم يسافروا لذلك

{فتكون لهم قلوب يعقلون بها} ما يجب أن يعقل من التوحيد بما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال

{أو آذان يسمعون بها} ما يجب أن يسمع من الوحي والتذكير بحال من شاهدوا آثارهم

{فإنها} الضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار وفي تعمى راجع إليه والظاهر أقيم مقامه

{لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} عن الاعتبار أي ليس الخلل في مشاعرهم وإنما أيفت عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد وذكر الصدور للتأكيد ونفي التجوز وفضل التنبيه على أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الذي يخص البصر قيل لما نزل من كان في هذا أعمى قال ابن أم مكتوم يا رسول اللّه أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى فنزلت فإنها لا تعمى الأبصار

٤٧

{ويستعجلونك بالعذاب} المتوعد به

{ولن يخلف اللّه وعده} لامتناع الخلف في خبره فيصيبهم ما أوعدهم به ولو بعد حين لكنه صبور لا يعجل بالعقوبة

{وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون} بيان لتناهي صبره وتأنيه حتى استقصر المدد الطوال أو لتمادي عذابه وطول أيامه حقيقية أو من حيث إن أيام الشدائد مستطالة وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء

٤٨

{وكأين من قرية} وكم من أهل قرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب ورجع للضمائر والأحكام مبالغة في التعميم والتهويل وإنما عطف الأولى بالفاء وهذه الواو لأن الأولى بدل من قوله فكيف كان نكير وهذه في حكم ما تقدمها من الجملتين لبيان أن المتوعد به يحيق بهم لا محالة وأن تأخيره لعادته تعالى

{أمليت لها} كما أمهلتكم {وهي ظالمة} مثلكم

{ثم أخذتها} بالعذاب {وإلي المصير} وإلى حكمي مرجع الجميع

٤٩

{قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين} أوضح لكم ما أنذركم به والاقتصار على الإنذار مع عموم الخطاب وذكر الفريقين لأن صدر الكلام ومساقه للمشركين وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة في غيظهم

٥٠

{فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة} لما بدر منهم {ورزق كريم} هي الجنة وال كريم من كل نوع ما يجمع فضائله

٥١

{والذين سعوا في آياتنا} بالرد والإبطال

{معاجزين} مسابقين مشاقين للساعين فيها بالقبول والتحقيق عن عاجزه فأعجزه وعجزه إذا سابقه فسبقه لأ كلا من المتسابقين يطلب إعجاز الآخر عن اللحوق به وقرأ ابن كثير وأبو عمرو معجزين على أنه حال مقدرة

{أولئك أصحاب الجحيم} النار الموقدة وقيل اسم دركة

٥٢

{وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي} الرسول من بعثه اللّه بشريعة مجددة يدعو الناس إليها والنبي بعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام ولذلك شبه النبي صلى اللّه عليه وسلم علماء أمته بهم فالنبي أعم من الرسول ويدل عليه أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الأنبياء فقال:

مائة ألف وأربعة وعشرون الفا قيل فكم الرسل منهم قال ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا

وقيل الرسول من جمع إلى المعجزة كتابا منزلا عليه والنبي غير الرسول من لا كتاب له وقيل الرسول من يأتيه الملك بالوحي والنبي يقال له ولمن يوحى غليه في المنام

{إلا إذا تمنى} زور في نفسه ما يهواه

{ألقى الشيطان في أمنيته} في تشهيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا كما قال عليه الصلاة والسلام: وإنه ليغان على قلبي فاستغفر اللّه سبعين مرة

{فينسخ اللّه ما يلقي الشيطان} فيبطله ويذهب به بعصمته عن الركون غليه والإرشاد إلى ما يزيحه لم

{ثم يحكم اللّه آياته} ث يبت آياته الداعية إلى الإستغراق في أمر الآخرة

{واللّه عليم} بأحوال الناس {حكيم} فيما يفعله بهم قيل حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت وقيل تمنى لحرصه على إيمان قومه أن ينزل عليه ما يقربهم غليه واستمر به ذلك حتى كان في ناديهم فنزلت عليه سورة والنجم فأخذ يقرؤها فلما بلغ {ومناة الثالثة الأخرى} [النجم:٢٠] وسوس غليه الشيطان حتىسبق لسانه سهوا إلى أن قال تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ففرح به المشركون حتى شايعوه بالسجود لما سجد في آخرها بحيث لم يبق في المسجد مؤمم ولا مشرك إلا سجد ث نبهه جبريل عليه السلام فأغتم لذلك فعزاه اللّه بهذه الآية وهو مردود عند المحققين وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه وقيل تمنى قرأ كقوله

تمنى كتاب اللّه أول ليله تمني داود الزبور على رسل

وأمنيته قرأءته وإلقاء الشيطان فيها أن تكلم بذلك رافعا صوته بحيث ظن السامعون أنه من قرأءة النبي صلى اللّه عليه وسلم وقد رد أيضا بأنه يخل بالوثوق على القرآن ولا يندفع بقوله

{فينسخ اللّه ما يلقي الشيطان ثم يحكم اللّه آياته} لأنه أيضا يحتمله والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء وتطرق الوسوسة إليهم

٥٣

{ليجعل ما يلقي الشيطان} علة لتمكين الشيطان منه وذلك يدل على أن المقى أمر ظاهر عرفه المحق والمبطل

{فتنة للذين في قلوبهم مرض} شك ونفاق

{والقاسية قلوبهم} المشركين {إن الظالمين} يعني الفريقين فوضع الظاهر موضع ضميرهم قضاء عليهم بالظلم

{لفي شقاق بعيد} عن الحق أو عن الرسول والمؤمنين

٥٤

 {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك} أن القرآن هو الحق النازل من عند اللّه أو تمكين الشيطان من الإلقاء هو الحق الصادر من اللّه لأنه مما جرت به عادته في الإنس من لدن آدم

{فيؤمنوا به} بالقرآن أو باللّه

{فتخبت له قلوبهم} بالإنقياد والخشية

{وإن اللّه لهادي الذين آمنوا} فيما أشكل

{إلى صراط مستقيم} هو نظر صحيح يوصلهم إلى ما هو الحق فيه

٥٥

{ولا يزال الذين كفروا في مرية} في شك

{منه} من القرآن أو الرسول أو مما ألقى الشيطان في أمنيته يقولن ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنها

{حتى تأتيهم الساعة} القيامة أو أشراطها أو الموت

{بغتة} فجأة {أو يأتيهم عذاب يوم عقيم} يقتلون فيه كيوم بدر سمي به لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كالعقم أو لأن المقاتلين أبناء الحرب فإذا قتلوا صارت عقيما فوصف ايوم بوصفها اتساعا أو لأنه لا خير لهم فيه ومنه الريح القيم لما لم تنشيء مطرا ولم لقح شجرا أو لأنه لا مثل له لقتال الملائكة فيه أويوم القيامة على أن المراد بن الساعة غيره أو على وضعه موضع ضميرها للتهويل

٥٦

{الملك يومئذ للّه} التنوين فيه ينوب عن الجملة التي دلت عليها الغاية أي يوم تزول مريتهم

{يحكم بينهم} بالمجازاة والضمير يعم المؤمنين والكافرين لتفصيله بقوله {فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم}

٥٧

والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين وإدخال الفاء فيخبر الثاني دون الأول تنبيه على أن إثابة الؤمنين بالجنات تفضيل من اللّه تعالى وأن عقاب الكافرين مسبب عن أعمالهم فلذلك قال

{لهم عذاب} ولم يقل هم عذاب

٥٨

{والذين هاجروا في سبيل اللّه ثم قتلوا} في الجهاد

{أو ماتوا ليرزقنهم اللّه رزقا حسنا} الجنة ونعيمها وإنما سوى بين من قتل في الجهاد ومن مات حتف أنفه في الوعد لا ستوائهما في القصد وأصل العمل روي أن بعض الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم قالوا يا نبي اللّه هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم اللّه تعالى من الخير ونخن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا فنزلت

{وإن اللّه لهو خير الرازقين} فإنه يرزق بغير حساب

٥٩

{ليدخلنهم مدخلا يرضونه} هو الجنة فيها ما يحبونه

{وإن اللّه لعليم} بأحوالهم وأحوال معادهم

{حليم} لا يعاجل في العقوبة ذلك أي المر

٦٠

{ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به} ولم يزد في الإقتصاص وإنما سمي الإبتداء بالعقاب الذي هو الجزاء للإزدواج أو لأنه سببه

{ثم يفي عليه} بالمعاودة إلى العقوبة

{لينصرنه اللّه} لا محالة

{إن اللّه لعفو غفور} للمنتصر حيث اتبع هواه في الإنتقام وأعرض عما ندب اللّه غليه بقوله ولمن صبر وغفران ذلك لمن عزم الأمور [الشورى:٤٣] ووفيه تعريض بالحث على العفو والمغفرة فإنه تعالى مع كمال قدرته وتعالي شأنه لما كان يعفو ويغفر فغيره بذلك أولى وتنبيه على أنه تعالى قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده

٦١

{ذلك} أي ذلك النصر {بأن اللّه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل} بسبب أن اللّه تعالى قادر على تغليب الأمور بعضها على بعض جار عادته على المداولة بين الأشياء المتعاندة ومن ذلك إيلاج أحد الملوين في الآخر بأن يزيد فيه ما ينقص منه أو بتحصيل ظلمة الليل في مكان النهار بتغيب الشمس وعكس ذلك باظلاعها

{وأن اللّه سميع} يسمع قول المعاقب

{بصير} يرى أفعالهما فلا يهملهما

٦٢

{ذلك} الوصف بكمال القدرة والعلم

{بأن اللّه هو الحق} الثابت في نفسه الواجب لذاته وحده فإن وجوب وجوده ووحدته يقتضيان أن يكون مبدأ لكل ما يوجد سواه عالما بذاته وبما عداه أو الثابت الإلهية ولا يصلح لها إلا من كان قادرا عالما

{وأن ما يدعون من دونه} إلها وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وأبو بكر بالتاء على مخاطبة المشركين وقرأ بالبناء للمفعول فتكون الواو لما فإنه في معنى الآلهة

{هو الباطل} المعدوم في حد ذاته أو باطل الألوهية

{وأن اللّه هو العلى} عن الأشياء

{الكبير} على أن يكون له شريك لا شيء أعلى منه شأنها وأكبر منه سلطانا

٦٣

{ألم تر أن اللّه أنزل من السماء} ماء استفهام تقرير ولذلك رفع

{فتصبح الأرض مخضرة} عطف على أنزل أذ لو نصب جوابا لدل على نفي الإخضرار كما في قولك ألم تر أني جئتك فتكر مني والمقصود إثباته وإنما عدل به عن صبغة الماضي للدلالة على بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان

{إن اللّه لطيف} يصل علمه أو لطفه إلى كل ما جل ودق

{خبير} بالتدابير الظاهرة والباطنة

٦٤

{له ما في السموات وما في الأرض} خلقا وملكا

{وإن اللّه لهو الغني} في ذاته عن كل شيء

{الحميد} المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله

٦٥

{ ألم تر أن اللّه سخر لكم ما في الأرض} جعلها مذللة لكم معدة لمنافعكم

{والفلك} عطف على ما أو على إسم أن وقرىء بالرفع على الإبتداء

{تجري في البحر بأمره} حال منها أو خبر

{ويمسك السماء أن تقع على الأرض} من أن تقع أو كراهة بأن خلقها على صورة متداعية إلى الاستمساك

{إلا بإذنه} إلا بمشيته وذلك يوم القيامة وفيه رد لاستمساكها بذاتها فإنها مساوية لسائر الأجسام في الجسيمة فتكون قابلة للميل الهابط قبول غيرها

{إن اللّه بالناس لرؤوف رحيم} حيث هيأ لهم أسباب الاستدلال وفتح عليهم أبواب المنافع ودفع عنها أبواب المضار

٦٦

{وهو الذي أحياكم} بعد أن كنتم جمادا عناصر ونطفا

{ثم يمينكم} إذا جاء أجلكم {ثم يحييكم} في الآخرة

{إن الإنسان لكفور} لجحود لنعم اللّه مع ظهورها

٦٧

{لكل أمة} أهل دن {جعلنا منسكا} متعبدا أو شريعة تعبدوا بها وقيل عيدا

{هم ناسكوه} ينسكونه {فلا ينازعك} سائر أرباب الملل

{في الأمر} في أمر الدين أو النسائك لأنهم بين جهال وأهل عناد أو لأن أمر دينك أظهر من أن يقبل النزاع وقيل المراد نهي الرسول صلى اللّه عليه وسلم لأنهم بين جهال وأهل عناد أو لأن أمر دينك أظهر من أن يقبل النزاع وقيل المراد نهي الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن الالتفات إلى قولهم وتمكينهم من المناظرة المؤدية إلى نزاعهم فإنها إنما تنفع طالب الحق وهؤلاء أهل مراء أو عن منازعتهم كقولك لا يضار بك زيد وهذا إنما يجوز في أفعال المغالبة للتلازم وقيل نزلت في كفار خزاعة قالوا للمسلمين ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله اللّه وقرئ فلا ينزعنك على تهييج الرسول والمبالغة في تثبيته على دينه على أنه من نازعته فنزعته إذا غلبته

{وادع إلى ربك} إلى توحيده وعبادته

{إنك لعلى هدى مستقيم} طريق إلى الحق سوي

٦٨

{وإن جادلوك} وقد ظهر الحق ولزمت الحجة

{فقل اللّه أعلم بما تعملون} من المجادلة الباطلة وغيرها فيجازيكم عليها وهو وعيد فيه رفق

٦٩

{اللّه يحكم بينكم} يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين بالثواب والعقاب

{يوم القيامة} كما فصل في الدنيا بالحجج والآيات

{فيما كنتم فيه تختلفون} من أمر الدين

٧٠

{ألم تعلم أن اللّه يعلم ما في السماء والأرض} فلا يخفى عليه شيء

{إن ذلك في كتاب} هو اللوح كتبه فيه قبل حدوثه فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به وحفظنا له

{إن ذلك} إن الإحاطة به وإثباته في اللوح المحفوظ أو الحكم بينكم

{على اللّه يسير} لأن علمه مقتضى ذاته المتعلق بكل المعلومات على سواء

٧١

{ويعبدون من دون اللّه ما لم ينزل به سلطانا} حجة تدل على جواز عبادته

{وما ليس لهم به علم} حصل لهم من ضرورة العقل أو استدلاله

{وما للظالمين} وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم

{من نصير} يقرر مذهبهم أو يدفع العذاب عنهم

٧٢

{وإذا تتلى عليهم آياتنا} من القرآن {بينات} واضحات الدلالة على العقائد الحقية والحكام الإلهية

{تعرف في وجوه الذين كفروا والمنكر} الإنكار لفرط نكيرهم للحق وغيظهم لأباطيل أخذوها تقليدا وهذا منتهى الجهالة وللإشعار بذلك وضع الذين كفروا موضع الضمير أو ما يقصدونه من الشر

{يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا} يثبون ويبطشون بهم

{قل أفأنبئكم بشر من ذلكم} من غيظكم على التالين وسطوتكم عليهم أو مما أصابكم من الصخر بسبب ما تلوا عليكم النار أي هو

{النار} كأنه جواب سائل قال ما هو ويجوز أن يكون مبتدأ خبره

وعدها اللّه الذين كفروا} وقرىء بالنصب على الإختصاص وبالجر بدلا من شر فتكون الجملة استئنافا كما إذا رفعت خبرا أو حالا منها {وبئس المصير} النار

٧٣

{يا أيها الناس ضرب مثل} بين لكم حال مستغربة أو قطة رائعة ولذلك سماها مثلا أو جعل للّه مثل أي مثل في أستحقاق العبادة

{فاستمعوا له} للمثل أو لشأنه استماع تدبر وتفكر

{إن الذين تدعون من دون اللّه} يعني الأصنام وقرأ يعقوب بالياء وقرىء مبنيا للمفعول والراجع إلى الموصول محذوف على الأولين

{لن يخلقوا ذبابا} لا يقدرون على خلقه مع صغره لأن لن بما فيها من تأكد النفي دالة على منافاة ما بين المنفي والمنفي عنه و الذباب من الذب لأنه يذب وجمعه أذبة وذبان

{ولو اجتمعوا له} أي للخلق هو بجوابه المقدر في موضع حال جيء به للمبالغة أي لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متعاونين عليه فكيف إذا كانوا منفردين

{وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنفذوه منه} جهلهم غاية التجهيل بأن أشركوا غليها قدر على المقدورات كلها وتفرد بإيجاد الموجودات بأسرها تماثيل هي أعجز الأشياء وبين ذلك بأنها لا تقدر على خلق أقل الأحياء وأذلها ولو اجتمعوا له بل لا تقوى على مقاومته هذا الأقل الأذل وتعجز عن ذبه عن نفسها واستنفاذ ما يختطفه من عندها قيل كانوا يطلونها بالطيب والعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله

{ضعف الطالب والمطلوب} عابد الصنم ومعبوده أو الذباب يطلب ما يسلب عن الصنم من الطيب والصنم يطلب الذباب منه السلب أو الصنم والذباب كأنه يطلبه ليستنقذ منه ما يسلبه ولو حققت وجدت الصنم أضعف بدرجات

٧٤

{ما قدروا اللّه حق قدره} ما عرفوه حق معرفته حيث أشركوا به وسموا باسمه ما هو أبعد الأشياء عنه مناسبة

{إن اللّه لقويي} على خلق الممكنات بأسرها

{عزيز} لا يغلبه شيء وآلهتهم التي يعبدونها عاجزة عن أقلها مقهورة من أذلها

٧٥

{اللّه يصطفي من الملائكة رسلا} يتوسطون بينه وبين الأنبياء بالوحي

{ومن الناس} يدعون سائرهم إلى الحق ويبلغون إليهم ما نزل عليهم كأنه لما قرر وحدانيته في الألوهية ونفى أن يشاركه غيره في صفاتها بين أن له عبادا مصطفين للرسالة يتوسل بإجابتهم والاقتداء بهم إلى عبادة اللّه سبحانه وتعالى وهو أعلى المراتب ومنتهى الدرجات لمن سواه من الموجودات تقريرا للنبوة وتزييفا لقولهم {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى} [الزمر: ٣] والملائكة بنات اللّه تعالى ونحو ذلك

{إن اللّه سميع بصير} مدرك للأشياء كلها

٧٦

{يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} عالم بواقعها ومترقبها

{وإلى اللّه ترجع الأمور} وإليه ترجع الأمور لأنه مالطها بالذات لا يسأل عما يفعل من الاصطفاء وغيره وهم يسألون

٧٧

{يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} في صلاتكم أمرهم بهما لأنهم ما كانوا يفعلونها أول الإسلام أو صلوا وعبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانها أو أخضعوا اللّه وخروا سجدا

{واعبدوا ربكم} بسائر ما تعبدكم به

{وافعلوا الخير} وتحروا ما هو خير وأصلح فيما تأتون وتذرون كنوافل الطاعات وصلة الأرحام ومكارم الأخلاق

{لعلكم تفلحون} أي افعلوا هذه كلها وأنتم راجون الفلاح غير متيقنين له واثقين على أعمالكم والآية آية سجدة عندنا لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود ولقوله عليه الصلاة والسلام: فضلت سورة الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرؤها

٧٨

{وجاهدوا في اللّه} أي واللّه ومن أجله أعداء دينه الظاهرة كأهل الزيغ والباطنة كالهوى والنفس وعنه عليه الصلاة والسلام أنه رجع من غزوة تبوك فقال: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر

{حق جهاده} أي جهادا فيه أي جهادا فيه حقا خالصا لوجهه فعكس وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة كقولك هو حق عالم وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا أو لأنه مختص باللّه من حيث أنه مفعول لوجه اللّه تعالى ومن أجله

{هو اجتباكم} اختاركم لدينه ولنصرته وفيه تنبيه على المقتضى للجهاد والداعي إليه في قوله

{وما جعل عليكم في الدين من حرج} أي ضيق بتكليف ما يشتد القيام به عليكم إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه ولا عذر لهم في تركه أو إلى الرخصة في إغفال بعض ما أمرهم به حيث شق عليهم لقوله عليه الصلاة والسلام إذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم

وقيل ذلك بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجا بأن رخص لهم في المضايق وفتح عليهم باب التوبة وشرع لهم الكفارات في حقوقه والأروش والديات في حقوق العباد

{ملة ابيكم إبراهيم} منتصبة على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبلها بحذف المضاف أي وسع دنكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم أو على الإغراء أو على الاختصاص وإنما جعله أباهم لأنه أبو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة أو لأن أكثر العرب كانوا من ذرتيه فغلبوا على غيرهم

{هوة سماكم المسلمين من قبل} من قبل القرآن في الكتب المتقدمة

{وفي هذا} وفي القرآن والضمير للّه تعالى ويدل عليه أنه قرىء اللّه سماكم أو ل إبراهيم وتسميتهم بمسلمين في القرآن وإن لم تكن منه كانت بسبب تسميته من قبل في قوله {ومن ذريتنا أمة مسلمة لك} [البقرة: ١٢٨] وقيل وفي هذا تقديره وفي هذا بيان تسميته إياكم مسلمين

{ليكون الرسول} يوم القيامة متعلق بسماكم

{شهيدا عليكم} بأنه بلغكم فيدل على قبول شهادته لنفسه اعتمادا على عصمته أو بطاعة من أطاع وعصيان من عصى

{وتكونوا شهداء على الناس} بتبليغ الرسل إليهم

{فأقيموا الصلوة وآتو الزكوة} فتقربوا إلى اللّه تعالى بأنواع الطاعات لما خصكم بهذا الفضل والشرف

{واعتصموا باللّه} وثقوا به في مجامع اموركم ولا تطلبوا الإعانة والنصرة إلا منه

{هو مولاكم} ناصركم ومتولي أموركم

{فنعم المولى ونعم النصير} هو إذ لا مثل له سبحانه في الولاية والنصرة بل لا مولى ولا نصير سواه في الحقيقة عن النبي عليه الصلاة والسلام:

من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي

﴿ ٠