تفسير البيضاوي: أنوار التنزيل و أسرار التأويل أبو سعيد عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشيرازي الفارسي، ناصر الدين، القاضي الشافعي (ت ٦٨٥ هـ ١٢٨٦ م) _________________________________ سورة النمل سورة النمل مكية وهي ثلاث أو أربع أو خمس وتسعون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم _________________________________ {طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين} الإشارة إلى آي السورة والكتاب المبين إما اللوح المحفوظ وإبانته أنه خط فيه ما هو كائن فهو يبينه للناظرين فيه وتأخيره باعتباره تعلق علمنا به وتقديمه في الحجر باعتبار الوجود أو القرآن وإبانته لما أودع فيه من الحكم والأحكام أو لصحته بإعجازه وعطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الاخرى وتنكيره للتعظيم وقرىء وكتاب بالرفع على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ٢ {هدى وبشرى للمؤمنين} حالان من ال آيات والعامل فيهما معنى الإشارة أو بدلان منها أو خبران آخران أو خبران لمحذوف ٣ {الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة} الذين يعملون الصالحات من الصلاة والزكاة {وهم بالآخرة هم يوقنون} من تتمة الصلة والواو للحال أو للعطف وتغيير النظم للدلالة على قوة يقينهم وثباته وأنهم الأوحدون فيه أو جملة اعتراضية كأنه قيل وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة فإن تحمل المشاق إنما يكون لخوف العاقبة والوثوق علىالمحاسبة وتكرير الضمير للاختصاص ٤ {إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم} زين لهم أعمالهم القبيحة بأن جعلها مشتهاة للطبع محبوبة للنفس أو الأعمال الحسنة التي وجب عليهم أن يعملوها بترتيب المثوبات عليها {فهم يعمهون} عنها لا يدركون ما يتبعها من ضر أو نفع ٥ {أولئك الذين لهم سوء العذاب} كالقتل والأسر يوم بدر {وهم في الآخرة هم الأخسرون} أشد الناس خسرانا لفوات المثوبة واستحقاق العقوبة ٦ {وإنك لتلقى القرآن} لتؤتاه {من لدن حكيم عليم} أي حكيم وأي عليم والجمع بينهما مع أن العلم داخل في الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على اتقان الفعل والإشعار بأن علوم القرآن منها ما هو حكمه كالعقائد والشرائع ومنها ما ليس كذلك كالقصص والأخبار عن المغيبات ثم شرع في بيان بعض تلك العلوم بقوله ٧ {إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا} أي اذكر قصته إذ قال ويجوز أن يتعلق ب عليم {سآتيكم منها بخبر} أي عن حال الطريق لأنه قد ضله وجمع الضمير إن صح أنه لم يكن معه غير امرأته لما كنى عنها بالأهل والسين للدلالة على بعد المسافة والوعد بالإتيان وإن أبطأ {أو آتيكم بشهاب قبس} شعلة نار مقبوسة نار وإضافة الشهاب إليه لأنه قد يكون قبسا وغير قبس ونونه الكوفيون ويعقوب على أن ال قبس بدل منه أو وصف له لأنه بمعنى المقبوس و العدتان على سبيل الظن ولذلك عبر عنهما بصيغة الترجي في طه والترديد للدلالة على أنه إن لم يظفر بهما لم يعدم أحدهما بناء على ظاهر الأمر أو ثقة بعبادة اللّه تعالى أنه لا يكاد يجمع حرمانين على عبده {لعلكم تصطلون} رجاء أن تستدفئوا بها والصلاء النار العظيمة ٨ {فلما جاءها نودي أن بورك} أي بورك فإن النداء فيه معنى القول أو ب أن بورك على أنها مصدرية أو مخففة من الثقيل ة والتخفيف وإن اقتضى التعويض بلا أو قد أو السين أو سوف لكنه دعاء وهو يخالف غيره في أحكام كثيرة {من في النار ومن حولها} من في مكان النار وهو البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى نودي من شاطىء الواد الأيمن في البقعة المباركة [القصص:٣٠] ومن حول مكانها والظاهر أنه عام في كل من تلك الأرض وفي ذلك الواد وحواليها من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتا وخصوصا تلك البقعة التي كلم اللّه فيها موسى وقيل المراد موسى والملائكة الحاضرون وتصدير الخطاب بذلك بشارة بأنه قد قضى له أمر عظيم تنتشر بركته في أقطار الشأم {وسبحان اللّه رب العالمين} من تمام ما نودي به لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيها وللتعجيب من عظمة ذلك الأمر أو تعجب من موسى لما دهاه من عظمته ٩ {يا موسى إنه أنا اللّه} الهاء للشأن و أنا اللّه جملة مفسرة له أو للمتكلم و أنا خبره و اللّه بيان له {العزيز الحكيم} صفتان للّه ممهدتان لما أراد أن يظهره يريد أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية الفاعل كل ما أفعله بحكمة وتدبير ١٠ {وألق عصاك} عطف على بورك أي نودي أن بورك من في النار [النمل:٩] وأن ألق عصاك ويدل عليه قوله وأن ألق عصاك [القصص:٣١] بعد قوله أن يا موسى إني أنا اللّه [القصص:٣٠] بتكرير أن {فلما رآها تهتز} تتحرك باضطراب {كأنها جان} حية خفيفة سريعة وقرىء جأن على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين {ولى مدبرا ولم يعقب} ولم يرجع من عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار وإنما رعب لظنه أن ذلك الأمر أريد به ويدل عليه قوله {يا موسى لا تخف} أي من غيري ثقة بي أو مطلقا لقوله {إني لا يخاف لدي المرسلون} أي حين يوحى إليهم من فرط الإستغراق فإنهم أخوف الناس أي من اللّه تعالى أو لا يكون لهم عندي سوء عاقبة فيخافون منه ١١ {إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم} استثناء منقطع استدرك به ما يختلج في الصدر من نفي الخوف عن كلهم وفيهم من فرطت منه صغيرة فإنهم وإن فعلوها أتبعوا فعلها ما يبطلها ويستحقون به من اللّه مغفرة ورحمة فإنه لا يخاف أيضا وقصد تعريض موسى بوكزه القبطي وقيل متصل وثم بدل مستأنف معطوف على محذوف أي عن ظلم ثم بدل ذنبه بالتوبة ١٢ {وأدخل يدك في جيبك} لأنه كان بمدرعة صوف لا كم لها وقيل الجيب القميص لأنه يجاب أي يقطع {تخرج بيضاء من غير سوء} آفة كبرص {في تسع آيات} في جملتها أو معها على أن التسع هي الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم ولمن عد العصا واليد من التسع أن يعد الأخيرين واحدا ولا يعد الفلق لأنه لم يبعث به {إلى فرعون} أو إذهب في تسع آيات على أنه استئناف بالإرسال فيتعلق به إلى فرعون {وقومه} وعلى الأولين يتعلق بنحو مبعوثا أو مرسلا {إنهم كانوا قوما فاسقين} تعليل للإرسال ١٣ {فلما جاءتهم آياتنا} بأن جاءهم موسى بها {مبصرة} بينة اسم فاعل أطلق للمفعول وإشعارا بأنها لفرط اجتلائها للأبصار بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر أو ذات تبصر من حيث إنها تهدي والعمي لا تهتدي فضلا عن أن تهدي أو مبصرة كل من نظر إليها وتأمل فيها وقرىء مبصرة اي مكانا يكثركم فيه التبصر {قالوا هذا سحر مبين} واضح سحريته ١٤ {وجحدوا بها} وكذبوا بها {واستيقنتها أنفسهم} وقد استيقنتها لأن الواو للحال {ظلما} لأنفسهم {وعلوا} ترفعا عن الإيمان وانتصابهما على العلة من جحدوا {فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} وهو الإغراق في الدنيا والإحراق في الآخرة ١٥ {ولقد آتينا داود وسليمان علما} طائفة من العلم وهو علم الحكم والشرائع أو علما أي علم {وقالا الحمد للّه} عطفه بالواو إشعارا بأن ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه النعمة كأنه قال ففعلا شكرا له ما فعلا وقالا الحمد للّه {الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين} يعني من لم يؤت علما أو مثل علمهما وفيه دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه ما أوتيا من الملك الذي لم يؤت غيرهما وتحريض للعالم على أن يحمد اللّه تعالى على ما أتاه من فضله وأن يتواضع ويعتقد أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه كثير ١٦ {وورث سليمان داود} النبوة أو العلم أو الملك بأن قام مقامه في ذلك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر {وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء} تشهيرا لنعمة اللّه وتنويها بها ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير وغير ذلك من عظائم ما أوتيه والنطق والمنطق في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردا كان أو مركبا وقد يطلق لكل ما يصوت به على التشبيه أو التبع كقولهم نطقت الضمير مفردا كان أو مركبا وقد يطلق لكل ما يصوت به على التشبيه أو التبع كقولهم نطقت الحمامة ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد فإن الأصوات الحيوانية من حيث إنها تابعة للتخيلات منزلة منزلة العبارات سيما وفيها ما يتفاوت باختلاف الأغراض بحيث يفهمها ما من جنسه ولعل سليمان عليه الصلاة والسلام مهما سمع صوت حيوان علم بقوته القدسية التخيل الذي صوته والغرض الذي توخاه به ومن ذلك ما حكي أنه مر ببلبل يصوت ويترقص فقال يقول إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء وصاحت فاختة فقال إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا فلعله كان صوت البلبل عن شبع وفراغ بال وصياح الفاختة عن مقاساة شدة وتألم قلب والضمير في علمنا وأوتينا له ولأبيه عليهما الصلاة والسلام اوله وحده على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة والمراد من كل شيء كثرة ما أوتي كقولك فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء {إن هذا لهو الفضل المبين} الذي لا يخفى على أحد ١٧ {وحشر} وجمع {لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يوزعون} يحبسون بحبس اولهم على آخرهم ليتلاحقوا ١٨ {حتى إذا أتوا على وادي النمل} واد بالشام كثير النمل وتعدية الفعل إليه ب على إما لأن اتيانهم كان من عال أو لأن المراد قطعة من قولهم أتى على الشيء إذا انفده وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا اخريات الوادي {قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها فصاحت صيحة نبهت بها ما بحضرتها من النمال فتبعتها فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك اجروا مجراهم مع انه لا يمتنع أن خلق اللّه سبحانه وتعالى فيها العقل والنطق {لا يحطمنكم سليمان وجنوده} نهي لهم عن الحطم والمراد نهيها عن التوقف بحيث يحطمونها كقولهم لا أرينك ها هنا فهو استئناف أو بدل من الأمر لا جواب له فإن النون لا تدخله في السعة {وهم لا يشعرون} بأنهم يحطمونكم إذ لو شعروا لم يفعلوا كأنها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والايذاء وقيل استئناف أي فهم سليمان والقوم لا يشعرون ١٩ {فتبسم ضاحكا من قولها} تعجبا من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى مصالحها وسرورا بما خصه اللّه تعالى به من إدراك همسها وفهم غرضها ولذلك سأل توفيق شكره {وقال رب اوزعني أن اشكر نعمتك} أي اجعلني ازع شكر نعمتك عندي أي اكفه وارتبطه لا ينفلت عني بحيث لا انفك عنه وقرأ البزي وورش بفتح ياء اوزعني {التي انعمت علي وعلى والدي} ادرج فيه ذكر والديه تكثيرا للنعمة أو تعميما لها فإن النعمة عليهما نعمة عليه والنعمة عليه يرجع نفعها إليهما سيما الدينية {وأن أعمل صالحا ترضاه} إتماما للشكر واستدامة للنعمة {وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين} في عدادهم الجنة ٢٠ {وتفقد الطير} وتعرف الطير فلم يجد فيها الهدهد {فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين} أم منقطعة كأنه لما لم يره ظن انه حاضر ولا يراه لساتر أو غيره فقال ما لي لا أراه ثم احتاط فلاح له انه غائب فأضرب عن ذلك واخذ يقول اهو غائب كأنه يسأل عن صحة ما لا له ٢١ {لأعذبنه عذابا شديدا} كنتف ريشه والقائه في الشمس أو حيث النمل يأكله أو جعله مع ضده في قفص {أو لأذبحنه} ليعتبر به أبناء جنسه {أو ليأتيني بسلطان مبين} بحجة تبين عذره والحلف في الحقيقة على أحد الأولين بتقدير عدم الثالث لكن لما اقتضى ذلك وقوع أحد الأمور الثلاثة ثلث المحلوف عليه بعطفه عليهما وقرأ ابن كثير أو ليأتينني بنونين الأولى مفتوحة مشددة ٢٢ {فمكث غير بعيد} زمانا غير مديد يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفا منه وقرأ عاصم بفتح الكاف {فقال أحطت بما لم تحط به} يعني حال سبأ وفي مخاطبته إياه بذلك تنبيه له على أن في أدنى خلق اللّه تعالى من أحاط علما بما لم يحط به لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر لديه علمه وقرئ بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير اطباق {وجئتك من سبأ} وقرأ ابن كثير برواية البزي وأبو عمرو غير مصروف على تأويل القبيلة والبلدة والقواس بهمزة ساكنة {بنبأ يقين} بخبر متحقق روي انه عليه الصلاة والسلام لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج فوافى الحرم وأقام بها ما شاء ثم توجه إلى اليمن فخرج من مكة صباحا فوافى صنعاء ظهيرة فأعجبته نزاهة أرضها فنزل بها ثم لم يجد الماء وكان الهدهد رائده لأنه يحسن طلب الماء فتفقده لذلك فلم يجده إذ حلق حين نزل سليمان فرأى هدهدا واقعا فانحط الهي فتواصفا وطار معه لينظر ما وصف له ثم رجع بعد العصر وحكى ما حكى ولعل في عجائب قدرة اللّه وما خص به خاصة عباده أشياء اعظم من ذلك يستكبرها من يعرفها ويستنكرها من ينكرها ٢٣ {إني وجدت امرأة تملكهم} يعني بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان والضمير لسبأ أو لأهلها {وأوتيت من كل شيء} يحتاج إليه الملوك {ولها عرش عظيم} عظمه بالنسبة إليها أو إلى عروش امثالها وقيل كان ثلاثين ذراعا في ثلاثين عرضا وسمكا أو ثمانين من ذهب وفضة مكللا بالجواهر ٢٤ {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون اللّه} كأنهم كانا يعبدونها {وزين لهم الشيطان أعمالهم} عبادة الشمس وغيرها من مقابح أعمالهم {فصدهم عن السبيل} عن سبيل الحق والصواب {فهم لا يهتدون} إليه ٢٥ {ألا يسجدوا للّه} فصدهم لئلا يسجدوا أو زين لهم أن لا يسجدوا على انه بدل من أعمالهم أو لا يهتدون إلى أن يسجدوا بزيادة لا وقرأ الكسائي ويعقوب إلا بالتخفيف على إنها للتنبيه ويا للنداء مناداه محذوف أي ألا يا قوم اسجدوا كقوله وقالت إلا يا اسمع اعظك بخطة فقلت سميعا فانطقي واوصيبي وعلى هذا صح أن يكون استئنافا من اللّه أو من سليمان والوقف على لا يهتدون فيكون امرا بالسجود وعلى الأول ذما على تركه وعلى الوجهين يقتضي وجوب السجود في الجملة لا عند قرأءتها وقرئ هلا و هلا بقلب الهمزة هاء و ألا تسجدون و هلا تسجدون على الخطاب {الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون} وصف له تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود من التفرد بكمال القدرة والعلم حثا على سجوده وردا على من يسجد لغيره و الخبء ما خفي في غيره واخراجه اظهاره وهو يعم اشراق الكواكب وانزال الامطار وانبات النبات بل الانشاء فإنه إخراج ما في الشيء بالقوة إلى الفعل والابداع فإنه إخراج ما في الإمكان والعدم إلى الوجوب والوجود ومعلوم انه يختص بالواجب لذاته وقرأ حفص والكسائي {ما تخفون وما تعلنون} بالتاء ٢٦ {اللّه لا إله إلا هو رب العرش العظيم} الذي هو أول الاجرام وأعظمها والمحيط بجملتها فبين العظيمين بون ٢٧ {قال سننظر} سنعرف من النظر بمعنى التأمل {أصدقت أم كنت من الكاذبين} أي أم كذبت والتغيير للمبالغة ومحافظة الفواصل ٢٨ {اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم} ثم تنح عنهم إلى مكان قريب تتوىر فيه {فانظر ماذا يرجعون} ما يرجع بعضهم إلى بعض من القول ٢٩ {قالت} أي بعد ما ألقى إليها {يا أيها الملأ إني ألقي الي كتاب كريم} لكرم مضمونه أو مرسله أو لأنه كان مختوما أو لغرابة شأنه إذ كانت مستلقية في بيت مغلقه الابواب فدخل الهدهد من كوة والقاه على نحرها بحيث لم تشعر به ٣٠ {إنه من سليمان} استئناف كأنه قيل لها ممن هو وما هو فقالت إنه أي إن الكتاب أو العنوان من سليمان {وإنه} أي وإن المكتوب أو المضمون وقرئ بالفتح على الابدال من كتاب أو التعليل لكرمه {بسم اللّه الرحمن الرحيم} ٣١ {ألا تعلو علي} أن مفسرة أو مصدرية فتكون بصلتها خبر محذوف أي هو أو المقصود أن لا تعلو أو بدل من كتاب {وائتوني مسلمين} مؤمنين أو منقادين وهذا كلام في غاية الوجازة مع كمال الدلالة على المقصود لاشتماله على البسملة الدالة على ذات الصانع تعالى وصفاته صريحا أو التزاما والنهي عن الترفع الذي هو أم الرذائل والأمر بالإسلام الجامع لامهات الفضائل وليس الأمر فيه بالانقياد قبل إقامة الحجة على رسالته حتى يكون استدعاء للتقليد فإن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة من اعظم الدلالة ٣٢ {قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري} اجيبوني في أمري الفتى واذكروا ما تستصوبون فيه {ما كنت قاطعة أمرا} ما أبت أمرا {حتى تشهدون} إلا بمحضركم استعطفتهم بذلك ليمالئوها على الإجابة ٣٣ {قالوا نحن اولوا قوة} بالاجساد والعدد {واولوا بأس شديد} نجدة وشجاعة {والأمر إليك} موكول {فانظري ماذا تأمرين} من المقاتلة أو الصلح نطعك ونتبع رأيك ٣٤ {قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية} عنوة وغلبة {أفسدوها} تزييف لما احست منهم من الميل إلى المقاتلة بإدعائهم القوى الذاتية والعرضية واشعار بأنها ترى الصلح مخافة أن يتخطى سليمان خططهم فسرع إلى افساد ما يصادفه من أموالهم وعماراتهم ثم أن الحرب سجال لا تدري عاقبتها {وجعلوا أعزة أهلها أذلة} بنهب أموالهم وتخريب ديارهم إلى غير ذلك من الاهانة والاسر {وكذلك يفعلون} تأكيد لما وصفت من حالهم وتقرير بأن ذلك من عاداتهم الثابتة المستمرة أو تصديق لها من اللّه عز وجل ٣٥ {وإني مرسلة إليهم بهدية} بيان لما ترى تقديمه في المصالحة والمعنى إني مرسلة رسلا بهدية ادفعه بها عن ملكي {فناظرة بم يرجع المرسلون} من حاله حتى اعمل بحسب ذلك روي إنها بعثت منذر بن عمرو في وفد وارسلت معهم غلمانا على زي الجواري وجواري على زي الغلمان وحقا في درة عذراء وجزعة معوجة الثقب وقالت إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري وثقب الدرة ثقبا مستويا وسلك في الخرزة خيطا فلما وصلوا إلى معسكره ورأوا عظمة شأنه تقاصرت إليهم نفوسهم فلما وقفوا بين يديه وقد سبقهم جبريل بالحال فطلب الحق وأخبر عما فيه فأمر الارضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة وأمر دودة بيضاء فأخذت الخيط ونفذت في الجزعة ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ثم رد الهدية ٣٦ {فلما جاء سليمان} أي الرسول أو ما أهدت إليه وقرئ فلما جاؤوا {قال أتمدونني بمال} خطاب للرسول ومن معه أو للرسول والمرسل على تغليب المخاطب وقرأ حمزة ويعقوب بالادغام وقرئ بنون واحدة وبنونين وحذف الياء {فلما آتاني اللّه} من النبوة والملك الذي لا مزيد عليه وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها بإمالتها الكسائي وحده {خير مما آتاكم} فلا حاجة لي إلى هديتكم ولا وقع لها عندي {بل أنتم بهديتكم تفرحون} لانكم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا فتفرحون بما يهدى اليكم حبا لزيادة أموالكم أو بما تهدونه افتخارا على امثالكم والاضراب عن انكار الامداد بالمال عليه وتقليله إلى بيان السبب الذي حملهم عليه وهو قياس حاله على حالهم في قصور الهمة بالدنيا والزيادة فيها ٣٧ {ارجع إِلَيْهِمْ} الرسول إليهم إلى بلقيس وقومها {فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها} لا طاقة لهم بمقاومتها ولا قدرة لهم على مقابلتها وقرئ بهم {ولنخرجنهم منها} من سبأ {أذلة} بذهاب ما كانوا فيه من العز {وهم صاغرون} أسراء مهانون ٣٨ {قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها} أراد بذلك أن يريها بعض ما خصه اللّه تعالى به من العجائب الدالة على عظم القدرة وصدقه في دعوى النبوة ويختبر عقلها بأن ينكر عرشها فينظر اتعرفه أم تنكره {قبل أن يأتوني مسلمين} فإنها إذا أتت مسلمة لم يحل اخذه إلا برضاها ٣٩ {قال عفريت} خبيث مارد {من الجن} بيان له لأنه يقال للرجل الخبيث المنكر المعفر أقرانه وكان اسمه ذكوان أو صخرا {أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك} من مجلسك للحكومة وكان يجلس إلى نصف النهار {وإني عليه} على حمله {لقوي أمين} لا أختزل منه شيئا ولا أبدله ٤٠ {قال الذي عنده علم من الكتاب} آصف بن برخيا وزيره أو الخضر أو جبريل عليهما السلام أو ملك ايده اللّه به أو سليمان عليه السلام نفسه فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على شرف العلم وأن هذه الكرامة كانت بسببه والخطاب في {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} للعفريت كأنه استبطأه فقال له ذلك أو أراد اظهار معجزة في نقله فتحداهم اولا ثم اراهم انه يتأتى له ما لا يتأتى لعفاريت الجن فضلا عن غيرهم والمراد ب الكتاب جنس الكتب المنزلة أو اللوح و آتيك في الموضعين صالح للفعلية والاسمية والطرف تحريك الاجفان للنظر فوضع موضعه ولما كان الناظر يوصف بإرسال الطرف كما في قوله وكنت إذا ارسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر وصف برد الطرف والطرف بالارتداد والمعنى انك ترسل طرفك نحو شيء فقبل أن ترده احضر عرشها بين يديك وهذا غاية في الاسراع ومثل فيه {فلما رآه} أي العرش {مستقرا عنده} حاصلا بين يديه {قال} تلقيا للنعمة بالشكر يعلى شاكلة المخلصين من عباد اللّه تعالى {هذا من فضل ربي} تفضل به علي من غير استحقاق والاشارة إلى التمكن من احضار العرش في مدة ارتداد الطرف من سيرة شهرين بنفسه أو غيره والكلام في إمكان مثله قد مر في آية الاسراء {ليبلوني ااشكر} بأن أراه فضلا من اللّه تعالى بلا حول مني ولا قوة واقوم بحقه {أم اكفر} بأن أجد نفسي في البين أو اقصر في أداء مواجبه ومحلها النصب على البدل من الياء {ومن شكر فإنما يشكر لنفسه} لأنه به يستجلب لها دوام النعمة ومزيدها ويحط عنها عبء الواجب ويحفظها عن وصمة الكفران {ومن كفر فإن ربي غني} عن شركه {كريم} بالانعام عليه ثانيا ٤١ {قال نكروا لها عرشها} بتغيير هيئته وشكله {ننظر} جواب الأمر وقرئ بالرفع على الاستئناف {أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون} إلى معرفته أو الجواب الصواب وقيل إلى الإيمان باللّه ورسوله إذا رأت تقدم عرشها وقد خلفته مغلقة عليه الابواب موكلة عليها الحراس ٤٢ {فلما جاءت قيل أهكذا عرشك} تشبيها عليها زيادة في امتحان عقلها إذ ذكرت عنده بسخافة العقل {قالت كأنه هو} ولم تقل هو هو لاحتمال أن يكون مثله وذلك من كمال عقلها {وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين} من تتمة كلامها كأنها ظنت انه أراد بذلك اختبار عقلها واظهار معجزة لها فقالت وأوتينا العلم بكمال قدرة اللّه وصحة نبوتك قبل هذه الحالة أو المعجزة مما تقدم من الآيات وقيل انه من كلام سليمان عليه السلام وقومه وعطوفه على جوابها لما فيه من الدلالة على ايمانها باللّه ورسوله حيث جوزت أن يكون ذلك عرشها تجويزا غالبا وإحذار ثمة من المعجزات التي لا يقدر عليها غير اللّه تعالى ولا تظهر إلا على يد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أي واوتينا العلم باللّه وقدرته صحة ما جاء به عنده قبلها وكنا منقادين لحكمه ولم نزل على دينه ويكون غرضهم فيه التحدث بما أنعم اللّه عليهم من التقدم في ذلك شكر اللّه تعالى ٤٣ {وصدها ما كانت تعبد من دون اللّه} أي وصدها عبادتها الشمس عن التقدم إلى الإسلام أو وصدها اللّه عن عبادتها بالتوفيق للايمان {إنها كانت من قوم كافرين} وقرئ بالفتح على الابدال من فاعل صدها على الأول أي صدها نشؤها بين اظهر الكفار أو التعليل له ٤٤ {قيل لها ادخلي الصرح} القصر وقيل عرضة الدار {فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها} روي انه أمر قبل قدومها ببناء قصر صحنه من زجاج ابيض واجرى من تحته الماء والقى فيه حيوانات البحر ووضع سريره في صدره فجلس عليه فلما أبصرته ظننته ماء راكدا فكشفت عن ساقيها وقرأ ابن كثير برواية قنبل سأقيها بالهمز حملا على جمعه سؤوق وأسؤق {قال إنه} إن ما تظنينه ماء {صرح ممرد} مملس {من قوارير} من الزجاج {قالت رب إني ظلمت نفسي} بعبادتي الشمس وقيل بظني بسليمان فإنها حسبت انه يغرقها في اللجة {وأسلمت مع سليمان للّه رب العالمين} فيما أمر به عباده وقد اختلف في أنه تزوجها أو زوجها من ذي تبع ملك همدان ٤٥ {ولقد ارسلنا إلى ثمود اخاهم صالحا أن اعبدوا اللّه} بأن اعبدوا اللّه وقرئ بضم النون على اتباعها الباء {فإذا هم فريقان يختصمون} ففاجئوا التفرق والاختصام فآمن فريق وكفر فريق والواو لمجموع الفريقين ٤٦ {قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة} بالعقوبة فتقولون ائتنا بما تعدنا {قبل الحسنة} قبل التوبة فتؤخرونها إلى نزول العقاب فإنهم كانوا يقولون إن صدق ايعاده تبنا حينئذ {لولا تستغفرون اللّه} قبل نزوله {لعلكم ترحمون} بقبولها فإنها لا تقبل حينئذ ٤٧ {قالوا اطيرنا} تشاءمنا {بك وبمن معك} إذ تتابعت علينا الشدائد أو وقع بيننا الافتراق منذ اخترعتم دينكم {قال طائركم} سببكم الذي جاء منه شركم {عند اللّه} وهو قدره أو عملكم المكتوب عنده {بل أنتم قوم تفتنون} تختبرون بتعاقب السراء والضراء والاضراب من بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه ٤٨ {وكان في المدينة تسعة رهط} نسعة انفس وانما وقع تمييزا للتسعة باعتبار المعنى والفرق بينه وبين النفر أنه من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة النفر من الثلاثة إلى التسعة {يفسدون في الأرض ولا يصلحون} أي شأنهم الافساد الخالص عن شوب الصلاح ٤٩ {قالوا} أي قال بعضهم لبعض {تقاسموا باللّه} أمر مقول أو خبر وقع بدلا أو حالا بإضمار قد {لنبيتنه وأهله} لنباغتن صالحا وأهله ليلا وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على خطاب بعضهم لبعض وقرئ بالياء على أن تقاسموا خبر {ثم لنقولن} فيه القرأءات الثلاث {لوليه} لولي دمه {ما شهدنا مهلك أهله} فضلا أن تولينا اهلاكهم وهو يحتمل المصدر والزمان والمكان وكذا مهلك في قرأءة حفص فإن مفعلا قد جاء مصدرا كمرجع وقرأ أبو بكر بالفتح فيكون مصدرا {وإنا لصادقون} ونحلف إنا لصادقون أو والحال إنا لصادقون فيما ذكرنا لأن الشاهد للشيء غير المباشر له عرفا أو لأنا ما شهدنا مهلكهم وحده بل مهلكه ومهلكهم كقولك ما رأيت ثمة رجلا بل رجلين ٥٠ {ومكروا مكرا} بهذه المواضعة {ومكرنا مكرا} بأن جعلناها سببا لأهلاكهم {وهم لا يشعرون} بذلك روي أنه كان لصالح في الحجر مسجد في شعب يصلي فيه فقالوا زعم انه يغفر منا إلى ثلاث فنفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث فذهبوا إلى الشعب ليقتلوه فوقع عليهم صخرة حيالهم فطبقت عليهم فم الشعب فهلكوا ثمة وهلك الباقون في اماكنهم بالصيحة كما أشار إليه قوله ٥١ {فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين} و كان إن جعلت ناقصة فخبرها كيف و {أنا دمرناهم} استئناف أو خبر محذوف لا خبر كان لعدم العائد وان جعلتها تامة ف كيف حال وقرأ الكوفيون ويعقوب {أنا دمرناهم} بالفتح على انه خبر محذوف أو بدل من اسم كان أو خبر له و كيف حال ٥٢ {فتلك بيوتهم خاوية} خالية من خوى البطن إذا خلا أو ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط وهي حال عمل فيها معنى الاشارة وقرئ بالرفع على انه خبر مبتدأ محذوف {بما ظلموا} بسبب ظلمهم {إن في ذلك لآية لقوم يعلمون} يتعظون ٥٣ {وأنجينا الذين آمنوا} صالحا ومن معه {وكانوا يتقون} الكفر والمعاصي فلذلك خصوا بالنجاة ٥٤ {ولوطا} واذكر لوطا أو وأرسلنا لوطا لدلالة ولقد ارسلنا عليه {إذ قال لقومه} بدل على الأول وظرف على الثاني {أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون} تعلمون فحشها من بصر القلب واقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح أو يبصرها بعضكم من بعض لأنهم كانوا يعلنون بها فتكون افحش ٥٥ {أئنكم لتأتون الرجال شهوة} بيان لإتيانهم الفاحشة وتعليله بالشهوة للدلالة على قبحه والتنبيه على أن الحكمة في المواقعة طلب النسل لا قضاء الوطر {من دون النساء} اللاتي خلقن لذلك {بل أنتم قوم تجهلون} تفعلون فعل من يجهل قبحها أو يكون سفيها لا يميز بين الحسن والقبيح أو تجهلون العاقبة والتاء فيه لكون الموصوف به في معنى المخاطب ٥٦ {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} أي يتنزهن عن افعالنا أو عن الاقذار ويعدون فعلنا قذرا ٥٧ {فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين} قدرنا كونها من الباقين في العذاب ٥٨ {وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين} مر مثله ٥٩ {قل الحمد للّه وسلام على عباده الذين اصطفى} أمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم بعدما قص عليه القصص الدالة على كمال قدرته وعظم شأنه وما خص به رسله من الآيات الكبرى والانتصار من العدا بتحميده والسلام على المصطفين من عبادة شكرا على ما أنعم عليهم أو علمه ما جهل من أحوالهم وعرفانا لفضلهم وحق تقدمهم واجتهادهم في الدين أو لوطا بأن يحمده على هلاك كفرة قومه ويسلم على من اصطفاه بالعصمة من الفواحش والنجاة من الهلاك {اللّه خير أما يشركون} إلزام لهم وتهكم بهم وتسفيه لرأيهم إذ من المعلوم أن لا خير فيما اشركوه رأسا حتى يوازن بينه وبين من هو مبدأ كل خير وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالتاء أمن بل ٦٠ {أمّن خلق السماوات والأرض} التي هي اصول الكائنات ومبادئ المنافع وقرأ أمن بالتخفيف على انه بدل من اللّه {وأنزل لكم} لأجلكم {من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة} عدل به من الغيبة إلى التكلم لتأكيد اختصاص الفعل بذاته والتنبيه على أن انبات الحدائق البهية المختلفة الانواع المباعدة الطباع من المواد المتشابهة لا يقدر عليه غيره كما شاار الهي بوقله {ما كان لكمن أن تنبتوا شجرها} شجر الحدائق وهي البساتين من الاحداق وهو الاحاطة {أإله مع اللّه} أغيره يقرن به ويجعل له شريكا وهو المنفرد بالخلق والتكوين وقرئ أإلها بإضمار فعل مثل أتدعون أو أتشركون وبتوسيط مدة الهمزتين واخراج الثانية بين بين {بل هم قوم يعدلون} عن الحق الذي هو التوحيد ٦١ {أمّن جعل الأرض قرارا} بدل من {أمّن خلق السماوات} وجعلها قرارا بإبداء بعضها من الماء وتسويتها بحيث يتأتى استقرار الإنسان والدواب عليها {وجعل خلالها} وسطها ٦ {أنهارا} جارية {وجعل لها رواسي} جبالا تتكون فيها المعادن وتنبع من حضيضها المنابع {وجعل بين البحرين} العذب والمالح أو خليجي فارس والروم {حاجزا} برزخا وقد مر بيانه في سورة الفرقان {أإله مع اللّه بل أكثرهم لا يعلمون} الحق فيشركون به ٦٢ {أمّن يجيب المضطر إذا دعاه} المضطر الذي أحوجه شدة ما به إلى اللجوء إلى اللّه تعالى من الاضطرار وهو افتعال من الضرورة واللام فيه للجنس لا للاستغراق فلا يلزم منه اجابة كل مضطر {ويكشف السوء} ويدفع عن الإنسان ما يسوءه {ويجعلكم خلفاء الأرض} خلفاء فيها بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها ممن قبلكم {أإله مع اللّه} الذي خصكم بهذه النعم العامة والخاصة {قليلا ما تذكرون} أي تذكرون آلاءه تذكرا قليلا وما مزيدة والمراد بالقلة العدم أو الحقارة المزيحة للفائدة وقرأ أبو عمرو وهشام وروح بالياء وحمزة والكسائي وحفص بالتاء وتخفيف الذال ٦٣ {أمّن يهديكم في ظلمات البر والبحر} بالنجوم وعلامات الأرض وال ظلمات ظلمات الليالي واضافتها إلى {البر والبحر} للملابسة أو مشتبهات الطرق يقال طريقة ظلماء وعمياء للتي لا منار بها {ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته} يعني المطر ولو صح أن السبب الأكثر في تكون الرياح معاودة الادخنة الصاعدة من الطبقة الباردة لانكسار حرها وتمويجها الهواء فلا شك أن الاسباب الفاعلية والقابلية لذلك من خلق اللّه تعالى والفاعل للسبب فعل للمسبب {أإله مع اللّه} يقدر على مثل ذلك {تعالى اللّه عما يشركون} تعالى اللّه القادر الخالق عن مشاركة العاجز المخلوق ٦٤ {أمّن يبدأ الخلق ثم يعيده} والكفرة وإن أنكروا الاعادة فهم محجوجون بالحجج الدالة عليها {ومن يرزقكم من السماء والأرض} أي بأسباب سماوية وأرضية {أإله مع اللّه} يفعل ذلك {قل هاتوا برهانكم} على أن غيره يقدر على شيء من ذلك {إن كنتم صادقين} في إشراككم فإن كمال القدرة من لوازم الألوهية ٦٥ {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا اللّه} لما بين اختصاصه تعالى بالقدرة التامة الفائقة العامة اتبعه ما هو كاللازم له وهو التفرد بعلم الغيب والاستثناء منقطع ورفع المستثنى على اللغة التميمية للدلالة على انه تعالى إن كان ممن في السماوات والأرض ففيها من يعلم الغيب مبالغة في نفيه عنهم أو متصل على أن المراد ممن في السماوات والأرض من تعلق علمه بها واطلع عليها اطلاع الحاضر فيها فإنه يعم اللّه تعالى وأولي العلم من خلقه وهو موصول أو موصوف {وما يشعرون ايان يبعثون} متى ينشرون مركبة من أي وآن وقرئت بكسر الهمزة والضمير لمن وقيل للكفرة ٦٦ {بل آدارك علمهم في الآخرة} لما نفى عنهم علم الغيب واكد ذلك بنفي شعورهم بما هو مآلهم لا محالة بالغة فيه بأن أضرب عنه وبين أن ما انتهى وتكامل فيه اسباب علمهم من الحجج والايات هو أن القيامة كائنة لا محالة لا يعلمونه كما ينبغي {بل هم في شك منها} كمن تحير في الأمر لا يجد عليه دليلا {بل هم منها عمون} لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم وهذا وإن اختص بالمشركين ممن في السماوات والأرض نسب إلى جميعهم كما يسند فعل البعض إلى الكل والاضرابات الثلاث تنزيل لاحوالهم وقل الأول اضراب عن نفي الشعور بوقت القيامة عنهم إلى وصفهم باستحكام علمهم في أمر الآخرة تهكما بهم وقيل أدرك بمعنى انتهى واضمحل من قولهم ادركت الثمرة لأن تلك غايتها التي عندها تعدم وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص بل ادراك بمعنى تتابع حتى استحكم أو تتابع حى انقطع من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك وأبو بكر أدرك واصلهما تفاعل وافتعل وقرئ أأدرك بهمزتين و آأدرك بألف بينهما و بل أدرك و بل تدارك و بلى أأدرك و أم إدراك أو تدارك وما فيه استفهام صريح أو مضمن من ذلك فإنكار وما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له بالادراك على التهكم وما بعده اضراب عن التفسير مبالغة في نفيه ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها بل إنهم منا عمون أو رد وانكار لشعورهم ٦٧ {وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون} كالبيان لعمههم والعامل في إذا ما دل عليه {أئنا لمخرجون} وهو نخرج لا مخرجون لأن كلا من الهمزة وإن واللم مانعة من عمله فيما قبلها وتكرير الهمزة للمبالغة في الإنكار والمراد بالاخراج الاخراج من الاجداث أو من حال الفناء إلى الحياة وقرأ نافع إذا كنا بهمزة واحدة مكسورة وقرأ ابن عامر والكسائي إننا لمخرجون بنونين على الخبر ٦٨ {لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل} من قبل وعد محمد صلى اللّه عليه وسلم وتقديم هذا على نحن لأن المقصود بالذكر هو البعث وحيث أخر فالمقصود به المبعوث {إن هذا إلا اساطير الأولين} التي هي كالاسمار ٦٩ {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين} تهديد لهم على التكذيب وتخويف بأن ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم والتعبير عنهم ب المجرمين ليكون لطفا بالمؤمنين في ترك الجرائم ٧٠ {ولا تحزن عليهم} على تكذيبهم واعراضهم {ولا تكن في ضيق} في حرج صدر وقرأ ابن كثير بكسر الضاد وهما لغتان وقرئ ضيق أي أمر ضيق {مما يمكرون} من مكرهم فإن اللّه يعصمك من الناس ٧١ {ويقولون متى هذا الوعد} العذاب الموعود {إن كنتم صادقين} ٧٢ {قل عسى أن يكون ردف لكم} تبعكم ولحقكم واللام مزيدة للتأكيد أو الفعل مضمن معنى فعل يتعدى باللام مثل دنا وقرئ بالفتح وهو لغة فيه {بعض الذي تستعجلون} حلوله وهو عذاب يوم بدر وعسى ولعل وسوف في مواعيد الملوك كالجزم بها وإنما يطلقونها اظهارا لوقارهم واشعارا بأن الرمز منهم كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد اللّه تعالى ووعيده ٧٣ {وإن ربك لذو فضل على الناس} لتأخير عقوبتهم على المعاصي والفضل والفاضلة الافضال وجميعها فضول وفواضل {ولكن أكثرهم لا يشكرون} لا يعرفون حق النعمة فيه فلا يشكرونه بل يستعجلون بجهلهم وقوعه ٧٤ {وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم} ما تخفيه وقرئ بفتح التاء من كنت أي سترت {وما يعلنون} من عداوتك فيجازيهم عليه ٧٥ {وما من غائبة في السماء والأرض} خافية فيهما وهما من الصفات الغالبة والتاء فيهما للمبالغة كما في الرواية أو اسمان لما يغيب ويخفى كالتاء في عافية وعاقبة {إلا في كتاب مبين} بين أو مبين ما فيه لما يطالعه والمراد اللوح أو القضاء على الاستعارة ٧٦ {إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل اكثر الذي هم فيه يختلفون} كالتشبيه والتنزيه وأحوال الجنة والنار وعزيز والمسيح ٧٧ {وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين} فإنهم المنتفعون به ٧٨ {إن ربك يقضي بينهم} بين بني إسرائيل بحكمه بما يحكم به وهو الحق أو بحكمته ويدل عليه انه قرئ {بحكمه وهو العزيز} فلا يرد قضاؤه {العليم} بحقيقة ما يقضى فيه وحكمه ٧٩ {فتوكل على اللّه} ولا تبال بمعاداتهم {إنك على الحق المبين} وصاحب الحق حقيق بالوثوق بحفظ اللّه ونصره ٨٠ {إنك لا تسمع الموتى} تعليل آخر للامر بالتوكل من حيث إنه يقطع طعمه عن مشايعتهم ومعاضدتهم رأسا وانما شبهوا بالموتى لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم كما شبهوا بالصم في قوله ولا تسمع الصم الدُّعَاءَ إذا ولوا مدبرين فإن إسماعهم في هذه الحالة أبعد وقرأ ابن كثير {ولا يسمع الصم} ٨١ {وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم} حيث الهداية لا تحصل إلا بالبصر وقرأ حمزة وحده وما أنت تهدي العمي {إن تسمع} أي ما يجدي اسماعك {إلا مَنْ يؤمن بآياتنا} من هو في علم اللّه كذلك {فهم مسلمون} مخلصون من أسلم وجهه للّه ٨٢ {وإذا وقع القول عليهم} إذا دنا وقوع معناه وهو ما وعدوا به من البعث والعذاب {أخرجنا لهم دابة من الأرض} وهي الجساسة روي أن طولها ستون ذراعا ولها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان لا يفوتها هارب ولا يدركها طالب وروي انه صلى اللّه عليه وسلم سئل من أين مخرجها فقال من أعظم المساجد حرمة على اللّه يعني المسجد الحرام {تكلمهم} من الكلام وقيل من الكلم إذ قرئ تكلمهم وروي إنها تخرج ومعها عصى موسى وخاتم سليمان عليهما الصلاة والسلام فتنكت بالعصا في مسجد المؤمن نكتة بيضاء فيبيض وجهه وبالخاتم في أنف الكافر نكتة سوداء فيسود وجهه {إن الناس كانوا بآياتنا} خروجها وسائر احوالها فإنها من آيات اللّه تعالى وقيل القرآن وقرأ الكوفيون أن الناس بالفتح {لا يوقنون} لا يتيقنون وهو حكاية معنى قولها أو حكايتها لقول اللّه عز وجل أو علة خروجها أو تكلمها على حذف الجار ٨٣ {ويوم نحشر من كل أمة فوجا} يعني يوم القيامة {ممن يكذب بآياتنا} بيان للفوج أي فوجا مكذبين و من الأولى للتبعيض لان أمة كل نبي وهل كل قرن شامل للمصدقين المكذبين {فهم يوزعون} يحبس اولهم على آخرهم ليتلاحقوا وهو عبارة عن كثرة عددهم وتباعد اطرافهم ٨٤ {حتى إذا جاءوا} إلى المحشر {قال اكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما} الواو للحال أي اكذبتم بها بادئ الرأي غير ناظرين فيها نظرا يحيط علمكم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق أو التكذيب أو للعطف أي اجمعتم بين التكذيب بها وعدم القاء الاذهان لتحققها {أمّا ذا كنتم تعملون} أم أي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك وهو للتبكيت إذ لم يفعوا غير التكذيب من الجهل فلا يقدرون أن يقولوا فعلنا غير ذلك ٨٥ {ووقع القول عليهم} حل بهم العذاب الموعود وهو كبهم في النار بعد ذلك {بما ظلموا} بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات اللّه {فهم لا ينطقون} باعتذار لشغلهم بالعذاب ٨٦ {ألم يروا} ليتحقق لهم التوحيد ويرشدهم إلى تجويز الحشر وبعثة الرسل لأن تعاقب النور والظلمة إلى وجه مخصوص غير متعين بذاته لا يكون إلا بقدرة قاهر وان من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادة واحدة قدر على إبدال الموت بالحياة في مواد الابدان وان من جعل النهار ليبصروا فيه سببا من اسباب معاشهم لعله لا يخل بما هو مناط جميع مصالحهم في معاشهم ومعادهم {أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه} بالنوم والقرار {والنهار مبصرا} فإن أصله ليبصروا فيه فبولغ فيه بجعل الابصار حالا من أحواله المجعول عليها بحيث لا ينفك عنها {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} لدلاتها على الأمور الثلاثة ٨٧ {ويوم ينفخ في الصور} في الصور أو القرن وقيل إنه تمثيل لانبعاث الموتى بانبعاث الجيش إذا نفخ في البوق {ففزع من في السماوات ومن في الأرض} من الهول وعبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه {إلا من شاء اللّه} أن لا يفزع بأن يثبت قلبه قيل هم جبريل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل وقيل الحور والخزنة وحملة العرش وقيل الشهداء وقيل موسى عليه الصلاة والسلام لانه صعق مرة ولعل المراد ما يعم ذلك {وكل اتوه} حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية أو راجعون إلى أمره وقرأ حمزة وحفص أتوه على الفعل وقرئ أتاه على التوحيد للفظ الكل {داخرين} صاغرين وقرئ دخرين ٨٨ {وترى الجبال تحسبها جامدة} ثابتة في مكانها {وهي تمر مر السحاب} في السرعة وذلك لأن الاجرام الكبار إذا تحركت في سمت واحد لا تكاد تبين حركتها {صنع اللّه} مصدر مؤكد لنفسه وهو لمضمون الجملة المتقدمة كقوله {وعد اللّه} [القصص:١٣] {الذي اتقن كل شيء} احكم خلقه وسواه على ما ينبغي {إنه خبير بما تفعلون} عالم بظواهر الأفعال وبواطنها فيجازيكم عليها كما قال ٨٩ {من جاء بالحسنة فله خير منها} إذ ثبت له الشريف بالخسيس والباقي بالفاني وسبعمائة بواحدة وقيل {خير منها} أي خير حاصل من جهتها وهو الجنة وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام خبير بما يفعلون بالياء والباقون بالتاء {وهم من فزع يومئذ آمنون} يعني به خوف عذاب يوم القيامة وبالاول ما يلحق الإنسان من التهيب لما يرى من الاهوال والعظائم لذلك يعم الكافر والمؤمن وقرأ الكوفيون بالتنوين لأن المراد فزع واحد من أفزاع ذلك اليوم وآمن يتعدى بالجار وبنفسه كقوله {أفأمنوا مكر اللّه} [الاعراف:٩٩] وقرأ الكوفيون ونافع يومئذ بفتح الميم والباقون بكسرها ٩٠ {ومن جاء بالسيئة} قيل بالشرك {فكبت وجوههم في النار} فكبوا فيها على وجوههم ويجوز أن يراد بالوجوه أنفسهم كما اريدت بالايدي في قوله تعالى {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة:١٩٥] {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون} على الالتفات أو باضمار القول أي قيل لهم ذلك ٩١ {إنما امرت أن اعبد رب هذه البلدة الذي حرمها} أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم بأن يقول لهم ذلك بعدما بين المبدأ والمعاد وشرح احوال القيامة واشعار بأنه قد أتم الدعوة وقد كملت وما عليه بعد إلا الاشتغال بشأنه والاستغراق في عبادة ربه وتخصيص مكة بهذه الاضافة تشريف لها وتعظيم لشأنها وقرئ التي حرمها {وله كل شيء} خلقا وملكا {وأمرت أن أكون من المسلمين} المنقادين أو الثابتين على ملة الإسلام ٩٢ {وأن أتلو القرآن} وان اواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه في تلاوته شيئا فشيئا أو اتباعه وقرئ {واتل عليهم} وأن أتل {فمن اهتدى} باتباعه اياي في ذلك {فإنما يهتدي لنفسه} فإن منافعه عائدة إليه {ومن ضل} بمخالفتي {فقل إنما أنا من المنذرين} فلا علي من وبال ضلاله شيء إذ ما على الرسول إلا البلاغ وقد بلغت ٩٣ {وقل الحمد للّه} على نعمة النبوة أو على ما علمني ووفقني للعمل به {سيريكم آياته} القاهرة في الدنيا كوقعة بدر وخروج دابة الأرض أو في الآخرة {فتعرفونها} أنها آيات اللّه ولكن حين لا تنفعكم المعرفة {وما ربك بغافل عما تعملون} فلا تحسبوا أن تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالياء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: من قرأ سورة طس كان له من الاجر عشر حسنات بعدد من صدق سليمان وكذب به وهودا وصالحا وإبراهيم وشعيبا ويخرج من قبره وهو ينادي لا اله إلا اللّه {الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة} بدل من الذين كفروا بدل البعض للبيان والتخصيص وهم يهود قريظة عاهدهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن لا يمالثوا عليه فأعانوا المشركين بالسلاح وقالوا نسينا ثم عاهدهم فنكثوا ومالؤوهم عليه يوم الخندق وركب كعب بن الاشرف إلى مكة فحالفهم ومن لتضمين المعاهدة معنى الأخذ والمراد بالمرة مرة المعاهدة أو المحاربة {وهم لا يتقون} سبة الغدر ومغبته أو لا يتقون اللّه فيه أو نصره للمؤمنين وتسليطه إياهم عليهم ٥٧ {فإما تثقفنهم} فإما تصادفنهم وتظفرن بهم {في الحرب فشرد بهم} ففرق عن مناصبتك ونكل عنها بقتلهم والنكاية فيهم {من خلفهم} من وراءهم من الكفرة والتشريد تفريق على اضطراب وقرئ فشرذ بالذال المعجمة وكأنه مقلوب شذر و {من خلفهم} والمعنى واحد فإنه إذا شرد من وراءهم فقد فعل التشريد في الوراء {لعلهم يذكرون} لعل المشردين يتعظون ٥٨ {وإما تخافن من قوم} معاهدين خيانة نقض عهد بأمارات تلوح لك {فانبذ إليهم} فاطرح إليهم عهدهم {على سواء} على عدل وطريق قصد في العداوة ولا تناجزهم الحرب فإنه يكون خيانة منك أو على سواء في الخوف أو العلم بنقض العهد وهو في موضع الحال من النابذ على الوجه الأول أي ثابتا على طريق سوي أو منه أو من المنبوذ إليهم أو منهما على غيره وقوله {إن اللّه لا يحب الخائنين} تعليل للأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال على طريقة الاستئناف ٥٩ {ولا تحسبن} خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم وقوله {الذين كفروا سبقوا} مفعولاه وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص بالياء على أن الفاعل ضمير أحد أو {من خلفهم} أو {الذين كفروا} والمفعول الأول أنفسهم فحذف للتكرار أو على تقدير أن سبقوا وهو ضعيف لأن أن المصدرية كالموصول فلا تحذف أو على ايقاع الفعل على {أنهم لا يعجزون} بالفتح على قرأءة ابن عامر وأن لا صلة و سبقوا حال بمعنى سابقين أي مفلتين والاظهر أنه تعليل للنهي أي لا تحسبنهم سبقوا فأفلتوا لأنهم لا يفوتون اللّه أو لا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم وكذا أن كسرت إن إلا أنه تعليل على سبيل الاستئناف ولعل الآية ازاحة لما يحذر به من نبذ العهد وإيقاظ العدو وقيل نزلت فيمن افلت من فل المشركين ٦٠ {وأعدوا} أيها المؤمنون {لهم} لناقضي العهد أو الكفار {ما استطعتم من قوة} من كل ما يتقوى به في الحرب وعن عقبة بن عامر سمعته صلى اللّه عليه وسلم يقول على المنبر ألا أن القوة الرمي قالها ثلاثا ولعله صلى اللّه عليه وسلم خصه بالذكر لأنه أقواه {ومن رباط الخيل} اسم للخيل التي تربط في سبيل اللّه فعال بمعنى مفعول أو مصدر سمي به يقال ربط ربطا ورباطا ورابط مرابطة ورباطا أو جمع ربيط كفصيل وفصال وقرئ ربط الخيل بضم الباء وسكونها جمع رباط وعطفها على القوة كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة {ترهبون به} تخوفون به وعن يعقوب ترهبون بالتشديد والضمير ل {ما استطعتم} أو للإعداد {عدو اللّه وعدوكم} يعني كفار مكة {وآخرين من دونهم} من غيرهم من الكفرة قيل هم اليهود وقيل المنافقون وقل الفرس لا تعلمونهم لا تعرفونهم بأعيانهم {اللّه يعلمهم} يعرفهم {وما تنفقوا من شيء في سبيل اللّه يوف إليكم} جزاؤه {وأنتم لا تظلمون} بتضييع العمل أو نقص الثواب ٦١ {وإن جنحوا} مالوا ومنه الجناح وقد يعدى باللام وإلى للسلم للصلح أو الاستسلام وقرأ أبو بكر بالكسر {فاجنح لها} وعاهد معهم وتأنيث الضمير لحمل السلم على نقيضها فيه قال السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفاسها جرع وقرئ فاجنح بالضم {وتوكل على اللّه} ولا تخف من إبطانهم خداعا فيه فإن اللّه يعصمك من مكرهم ويحيقه بهم {إنه هو السميع} لأقوالهم {العليم} بنياتهم والاية مخصوصة بأهل الكتاب لاتصالها بقصتهم وقيل عامة نسختها آية السيف ٦٢ {وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك اللّه} فإن محسبك اللّه وكافيك قال جرير إني وجدت من المكارم حسبكم أن تلبسوا حر الثياب وتشبعوا {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} جميعا ٦٣ {وألف بين قلوبهم} مع ما فيهم من العصبية والضغينة في أدنى شيء والتهالك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا كنفس واحدة وهذا من معجزاته صلى اللّه عليه وسلم وبيانه {لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم} أي تناهي عداوتهم إلى حد لو انفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر على الألفة والإصلاح {ولكن اللّه ألف بينهم} بقدرته البالغة فإنه المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء {إنه عزيز} تام القدرة والغلبة لا يعصى عليه ما يريده {حكيم} يعلم انه كيف ينبغي أن يفعل ما يريده وقيل الآية في الاوس والخزرج كان بينهم محن لا أمد لها ووقائع هلكت فيها ساداتهم فأنساهم اللّه ذلك وألف بينهم بالإسلام حتى تصافوا وصاروا أنصارا ٦٤ {يا أيها النبي حسبك اللّه} كافيك {ومن اتبعك من المؤمنين} أما في محل النصب على المفعول معه كقوله إذا كانت الهيجاء واشتجر القنا فحسبك والضحاك سيف مهند أو الجر عطفا على المكني عند الكوفيين أو الرفع عطفا على اسم اللّه تعالى أي كفاك اللّه والمؤمنون و الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر وقيل أسلم مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم اسلم عمر رضي اللّه عنه فنزلت ولذلك قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما نزلت في إسلامه ٦٥ {يا آيها النبي حرض المؤمنين على القتال} بالغ في حثهم عليه واصله الحرض وهو أن ينهكه المرض حتى يشفى على الموت وقرئ حرص من الحرص {أن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا} شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد للعشرة والوعد بأنهم أن صبروا غلبوا بعون اللّه وتأييده وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر تكن بالتاء في الآيتين ووافقهم البصريان في {وإن يكن منكم مائة} {بأنهم قوم لا يفقهون} بسبب أنهم جهلة باللّه واليوم الآخر لا يثبتون ثبات المؤمنين رجاء الثواب وعوالي الدرجات قتلوا أو قتلوا ولا يستحقون من اللّه إلا الهوان والخذلان ٦٦ {الآن خفف اللّه عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن اللّه} لما أوجب على الواحد مقاومة العشرة والثبات لهم وثقل ذلك عليهم خفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين وقيل كان فيهم قلة فأمروا بذلك ثم لما كثروا خفف عنهم وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة للدلالة على أن حكم القليل والكثير واحد والضعف ضعف البدن وقيل ضعف البصيرة وكانوا متفاوتين فيها وفيه لغتان الفتح وهو قرأءة عاصم وحمزة والضم وهو قرأءة الباقين {واللّه مع الصابرين} [البقرة: ٢٤٩] بالنصر والمعونة فكيف لا يغلبون ٦٧ {ما كان لنبي} وقرئ للنبي على العهد {أن يكون له أسرى} وقرأ البصريان بالتاء {حتى يثخن في الأرض} يكثر القتل ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه ويعز الإسلام ويستولي أهله من أثخنه المرض إذا أثقله وأصله الثخانة وقرئ يثخن بالتشديد للمبالغة {تريدون عرض الدنيا} حطامها بأخذكم الفداء {واللّه يريد الآخرة} يريد لكم ثواب الآخرة أو سبب نيل ثواب الآخرة من إعزاز دينه وقمع اعدائه وقرئ بجر الآخرة على إضمار المضاف كقوله أكل امرئ تحسبين امرأ ونار توقد بالليل نارا {واللّه عزيز} يغلب أولياءه على أعدائه {حكيم} يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها كما أمر بالإثخان ومنع من الافتداء حين كانت الشوكة للمشركين وخير بينه وبين المن لما تحولت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين روي انه عليه السلام أتى يوم بدر بسبعين أسيرا فيهم العباس وعقيل بن أبي طالب فاستشار فيهم فقال أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه قومك وأهلك استبقهم لعل اللّه يتوب عليم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك وقال عمر رضي اللّه تعالى عنه اضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر وان اللّه أغناك عن الفداء مكني من فلان لنسيب له ومكن عليا وحمزة من أخويهما فنضرب أعناقهم فلم يهو ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال: إن اللّه ليلين قلوب رجال حتى تكون الين من اللين وان اللّه ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة وان مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: فمن تبغني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم [ابراهيم:٣٦] ومثلك يا عمر مثل نوح قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [الجن:٢٦] فخير أصحابه فأخذوا الفداء فنزلت فدخل عمر رضي اللّه تعالى عنه على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال يا رسول اللّه أخبرني فإن أجد بكاء بكيت وإلا تباكيت فقال: ابك على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة والاية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون وأنه قد يكون خطأ ولكن لا يقرون عليه ٦٨ {لولا كتاب من اللّه سبق} لولا حكم من اللّه سبق إثباته في اللوح المحفوظ وهو أن لا يعاقب المخطئ في اجتهاده أو أن لا يعذب أهل بدر أو قوما بما لم يصرح لهم بالنهي عنه أو أن الفدية التي أخذوها ستحل لهم {لمسكم} لنالكم {فيما أخذتم} من الفداء {عذاب عظيم} روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: لو نزل العذاب لما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ وذلك لأنه أيضا أشار بالإثخان ٦٩ {فكلوا مما غنمتم} من الفدية فإنها من جملة الغنائم وقيل امسكوا عن الغنائم فنزلت والفاء للتسبب والسبب محذوف تقديره أبحت لكم الغنائم فكلوا وبنحوه تشبث من زعم أن الأمر الوارد بعد الحظر للاباحة حلالا حال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلا {حلالا} وفائدته ازاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب تلك المعاتبة أو حرمتها على الأولين ولذلك وصفة بقوله {طيبا واتقوا اللّه} في مخالفته {إن اللّه غفور} غفر لكم ذنبكم {رحيم} أباح لكم ما أخذتم ٧٠ {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى} وقرأ أبو عمرو من {الأسارى إن يعلم اللّه في قلوبكم خيرا} ايمانا وإخلاصا {يؤتكم خيرا مما أخذ منكم} من الفداء روي أنها نزلت في العباس رضي اللّه عنه كلفه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يفدي نفسه وابني اخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فقال يا محمد تركتني اتكفف قريشا ما بقيت فقال أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك وقلت لها إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد اللّه وعبيد اللّه والفضل وقثم فقال العباس وما يدريك قال اخبرني به ربي تعالى قال فأشهد أنك صادق وأن لا إله إلا اللّه وأنك رسوله واللّه لم يطلع عليه أحد إلا اللّه ولقد دفعته إليها في سواد الليل قال العباس فأبدلني اللّه خيرا من ذلك لي الآن عشرون عبدا إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا انتظر المغفرة من ربكم يعني الموعود بقوله {ويغفر لكم واللّه غفور رحيم} ٧١ {وإن يريدوا} يعني الاسرى {خيانتك} نقض ما عاهدوك {فقد خانوا اللّه} بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ بالعقل {من قبل فأمكن منهم} أي فأمكنك منهم كما فعل يوم بدر فان اعادوا الخيانة فسيمكنك منهم {واللّه عليم حكيم} [التوبة: ١٥] ٧٢ {إن الذين آمنوا وهاجروا} هم المهاجرون هجروا اوطانهم حبا للّه ولرسوله {وجاهدوا بأموالهم} فصرفوها في الكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج {وأنفسهم في سبيل اللّه} بمباشرة القتال {والذين آووا ونصروا} هم الأنصار آووا المهاجرين إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم {أولئك بعضهم أولياء بعض} في الميراث وكان المهاجرين والانصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الاقارب حتى نسخ بقوله وأولوا الأرحام بعضهم أولياء ببعض [الانفال:٧٥] أو بالنصرة والمظاهرة {والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} أي من توليهم في الميراث وقرأ حمزة ولايتهم بالكسر تشبيها لها بالعمل والصناعة كالكتابة والامارة كأنه بتوليه صاحبه يزاول عملا {وان استنصروكم في الدين فعليكم النصر} فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين {إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} عهد فإنه لا ينقض عهدهم لنصرهم عليهم {واللّه بما تعملون بصير} ٧٣ {والذين كفروا بعضهم اولياء بعض} في الميراث أو المؤازرة وهو بمفهومه يدل على منع التوارث أو المؤازرة بينهم وبين المسلمين {إلا تفعلوه} إلا تفعلوا ما أمرتم به من التواصل بينكم وتولي بعضكم لبعض حتى في التوارث وقطع العلائق بينكم وبين الكفار {تكن فتنة في الأرض} تحصل فتنة فيها عظيمة وهي ضعف الإيمان وظهور الكفر {وفساد كبير} في الدين وقرئ كثير ٧٤ {والذين آمنوا وجاهدوا في سبيل اللّه والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا} لما قسم المؤمنين ثلاثة أقسام بين أن الكاملين في الإيمان منهم هم الذين حققوا ايمانهم بتحصيل مقتضاه من الهجرة وبذل المال ونصرة الحق ووعد لهم الموعد الكريم فقال {لهم مغفرة ورزق كريم} لا تبعة له ولا منة فيه ثم ألحق بهم في الأمرين من سيلحق بهن ويتسم بسمتهم فقال ٧٥ {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} في التوارث من الأجانب {في كتاب اللّه} في حكمه أو في اللوح أو في القرأن واستدل به على توريث ذوي الأرحام {إن اللّه بكل شيء عليم} من المواريث والحكمة في إناطتها بنسبة الإسلام والمظاهرة اولا واعتبار القرأبة ثانيا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: من قرأ سورة الانفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة وشاهد انه بريء من النفاق واعطي حسنات بعدد كل منافق ومنافقة وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته |
﴿ ٠ ﴾