تفسير البيضاوي: أنوار التنزيل و أسرار التأويل أبو سعيد عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشيرازي الفارسي، ناصر الدين، القاضي الشافعي (ت ٦٨٥ هـ ١٢٨٦ م) _________________________________ سورة السجدة سورة السجدة مكية وآيها ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم _________________________________ {آلم} إن جعل اسما للسورة أو القرآن فمبتدأ خبره ٢ {تنزيل الكتاب} على أن التنزيل بمعنى المنزل وإن جعل تعديدا للحروف كان تنزيل خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره {لا ريب فيه} فيكون {من رب العالمين} حالا من الضمير في فيه لأن المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر ويجوز أن يكون خبرا ثانيا ولا ريب فيه حال من الكتاب أو اعتراض والضمير فيه لمضمون الجملة ويؤيده قوله ٣ {أم يقولون افتراه} فإنه إنكار لكونه من رب العالمين وقوله {بل هو الحق من ربك} فإنه تقرير له ونظم الكلام على هذا أنه أشار أولا إلى إعجازه ثم رتب عليه أن تنزيله من رب العالمين وقرر ذلك بنفي الريب عنه ثم أضرب عن ذلك إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك إنكارا له وتعجيبا منه فإن أم منقطعة ثم أضرب عنه إلى إثبات أنه الحق المنزل من اللّه وبين المقصود من تنزيله فقال {لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك} إذا كانوا أهل الفترة {لعلهم يهتدون} بإنذارك إياهم ٤ {اللّه الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش} مر بيانه في الأعراف {ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع} ما لكم إذا جاوزتم رضا اللّه أحد ينصركم ويشفع لكم أو ما لكم سواه ولي ولا شفيع بل هو الذي يتولى مصالحكم وينصركم في مواطن نصركم على أن الشفيع متجوز به للناصر فإذا خذلكم لم يبق لكم ولي ولا ناصر {أفلا تتذكرون} بمواعظ اللّه تعالى ٥ {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض} يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية كالملائكة وغيرها نازلة آثارها إلى الأرض {ثم يعرج إليه} ثم يصعد إليه ويثبت في عمله موجودا {في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} في برهة من الزمان متطاولة يعني بذلك استطالة ما بين التدبير والوقوع وقيل يدبر الأمر بإظهاره في اللوح فينزل به الملك ثم يعرج إليه في زمان هو كألف سنة لأن مسافة نزوله وعروجه مسيرة ألف سنة فإن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة وقيل يقضي قضاء ألف سنة فينزل به الملك ثم يعرج بعد الألف لألف آخر وقيل يدبر الأمر إلى قيام الساعة ثم يعرج إليه الأمر كله يوم القيامة وقيل يدبر المأمور به من الطاعات منزلا من السماء إلى الأرض بالوحي ثم لا يعرج إليه خالصا كما يرتضيه إلا في مدة متطاولة لقلة المخلصين والأعمال الخلص وقرئ يعرج و يعدون {} ٦ {ذلك عالم الغيب والشهادة} فيدبر أمرهما على وفق الحكمة {العزيز} الغالب على أمره {الرحيم} على العباد في تدبيره وفيه إيماء بأنه سبحانه يراعي المصالح تفضلا وإحسانا ٧ {الذي أحسن كل شيء خلقه} خلقة موفرا عليه ما يستعد له ويليق به على وفق الحكمة والمصلحة وخلقه بدل من كل بدل الاشتمال وقل علم كيف يخلقه من قولهم قيمة المرء ما يحسنه أي يحسن معرفته و خلقه مفعول ثان وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام على الوصف فالشيء على الأول مخصوص بمنفصل وعلى الثاني بمتصل {وبدأ خلق الإنسان} يعني آدم {من طين} ٨ {ثم جعل نسله} ذريته سميت بذلك لأنها تنسل منه أي تنفصل {من سلالة من ماء مهين} ممتهن ٩ {ثم سواه} قومه بتصوير أعضائه على ما ينبغي {ونفخ فيه من روحه} إضافة إلى نفسه تشريفا له وإشعارا بأنه خلق عجيب وأن له شأنا له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبية ولأجله قيل من عرف نفسه فقد عرف ربه وجعل {لكم السمع والأبصار والأفئدة} خصوصا لتسمعوا وتبصروا وتعلقوا {قليلا ما تشكرون} تشكرون شكرا قليلا ١٠ {وقالوا أئذا ضللنا في الأرض} أي صرنا ترابا مخلوط بتراب الأرض لا نتميز منه أو غبنا فيها وقرأ ضللنا بالكسر من ضل يضل و ضللنا من صل اللحم إذا أنتن وقرأ ابن عامر إذا على الخبر والعامل فيه ما دل عليه {أئنا لفي خلق جديد} وهو نبعث أو يجدد خلقنا وقرأ نافع والكسائي ويعقوب أنا على الخبر والقائل أبي بن خلف وإسناده إلى جميعهم لرضاهم به {بل هم بلقاء ربهم} بالبعث أو بتلقي ملك الموت وما بعده {كافرون} جاحدون ١١ {قل يتوفاكم} يستوفي نفوسكم لا يترك منها شيئا ولا يبقى منكم أحدا والتفعل والاستفعال يلتقيان كثيرا كتقصيته واستقصيته وتعجلته واستعجلته {ملك الموت الذي وكل بكم} بقبض أرواحكم وإحصاء آجالكم {ثم إلى ربكم ترجعون} للحساب والجزاء ١٢ {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم} من الحياء والخزي {ربنا} قائلين ربنا {أبصرنا} ما وعدتنا {وسمعنا} منك تصديق رسلك {فارجعنا} إلى الدنيا {نعمل صالحا إنا موقنون} إذ لم يبق لنا شك بما شاهدنا وجواب لو محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا ويجوز أن تكون للتمني والمضي فيها وفي إذا لأن الثابت في علم اللّه بمنزلة الواقع ولا يقدر ل ترى مفعول لأن المعنى لو يكون منك رؤية في هذا الوقت أو يقدر ما دل عليه صلة إذا والخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم أو لكل أحد ١٣ {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها} ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح بالتوفيق له {ولكن حق القول مني} ثبت قضائي وسبق وعيدي وهو {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} وذلك تصريح بعدم إيمانهم لعدم المشيئة المسبب عن سبق الحكم بأنهم من أهل النار ولا يدفعه جعل ذوق العذاب مسببا عن نسيانهم العاقبة وعدم تفكرهم فيها بقوله ١٤ {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا} فإنه من الوسائط والأسباب المقتضية له {إنا نسيناكم} تركناكم من الرحمة أو في العذاب ترك المنسي وفي استئنافه وبناء الفعل على أن واسمها تشديد في الانتقام منهم {وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون} كرر الأمر للتأكيد ولما نيط به من التصريح بمفعوله وتعليله بأفعالهم السيئة من التكذيب والمعاصي كما عللّه بتركهم تدبر أمر العاقبة والتفكير فيها دلالة على أن كلا منهما يقتضي ذلك ١٥ {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها} وعظوا بها {خروا سجدا} خوفا من عذاب اللّه {وسبحوا} نزهوه عما لا يليق به كالعجز عن البعث {بحمد ربهم} حامدين له شكرا على ما وفقهم للإسلام وآتاهم الهدى {وهم لا يستكبرون} عن الإيمان والطاعة كم يفعل من يصر متكبرا ١٦ {تتجافى جنوبهم} ترتفع وتتنحى {عن المضاجع} الفرش ومواضع النوم {يدعون ربهم} داعين إياه {خوفا} من سخطه {وطمعا} في رحمته وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم في تفسيرها: قيام العبد من الليل وعنه صلى اللّه عليه وسلم: إذا جمع اللّه الأولين والآخرين في صعيد واحد جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع فينادي ليقم الذين كانت تتجافي جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ثم يرجع فينادي ليقم الذين كانوا يحمدون اللّه في السراء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون جميعا إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس وقيل كان أناس من الصحابة يصلون من المغرب إلى العشاء فنزلت فيهم {ومما رزقناهم ينفقون} في وجوه الخير ١٧ {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم} لا ملك مقرب ولا نبي مرسل {من قرة أعين} مما تقربه عيونهم وعنه صلى اللّه عليه وسلم: يقول اللّه تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتهم عليه أقرؤوا فلا تعلم نفس ما أخفي لهم وقرأ حمزة ويعقوب {أخفي لهم} على أنه مضارع أخفيت وقروء نخفي وأخفي الفاعل للكل هو اللّه وقرأت أعين لاختلاف أنواعها والعلم بمعنى المعرفة و ما موصولة أو استفهامية معلق عنها الفعل {جزاء بما كانوا يعملون} أي جزوا جزاء أو أخفي للجزاء فإن إخفاءه لعلو شأنه وقيل هذا القوم أخفوا أعمالهم فأخفى اللّه ثوابهم ١٨ {أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا} خارجا عن الإيمان {لا يستوون} في الشرف والمثوبة تأكيد وتصريح والجمع للحمل على المعنى ١٩ {أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى} فإنها المأوى الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة وقيل المأوى جنة من الجنان {نزلا} سبق تفسيره في سورة آل عمران {بما كانوا يعملون} بسبب أعمالهم أو على أعمالهم ٢٠ {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار} مكان جنة المأوى للمؤمنين {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} عبارة عن خلودهم فيها {وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون} إهانة لهم وزيادة في غيظهم ٢١ {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى} عذاب الدنيا يريد ما محنوا به من السنة سبع سنين والقتل والأسر {دون العذاب الأكبر} عذاب الآخرة {لعلهم} لعل من بقي منهم {يرجعون} يتوبون عن الكفر روي أن الوليد بن عقبة فاخر عليا رضي اللّه عنه يوم بدر فنزلت هذه الآيات ٢٢ {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها} فلم يتفكر فيها و ثم لاستبعاد الإعراض عنها مع فرض وضوحها وإرشادها إلى أسباب السعادة بعد التذكير بها عقلا كما في بيت الحماسة ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها {إنا من المجرمين منتقمون} فكيف ممن كان أظلم من كل ظالم ٢٣ {ولقد آتينا موسى الكتاب} كما آتيناك {فلا تكن في مرية} في شك {من لقائه} من لقائك الكتاب كقوله إنك لتلقي القرآن [النمل:٦] فإنا آتيناك من الكتاب مثل ما آتيناه منه فليس ذلك ببدع لم يكن قط حتى ترتاب فيه أو من لقاء موسى للكتاب أو من لقائك موسى وعنه صلى اللّه عليه وسلم: رأيت ليلة أسري بي موسى صلى اللّه عليه وسلم رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة {وجعلناه} أي المنزل على موسى {هدى لبني إسرائيل} ٢٤ {وجعلنا منهم أئمة يهدون} الناس إلى ما فيه من الحكم والأحكام {بأمرنا} إياهم به أو بتوفيقنا له {لما صبروا} وقرأ حمزة والكسائي ورويس {لما صبروا} أي لصبرهم على الطاعة أو عن الدنيا {وكانوا بآياتنا يوقنون} لإمعانهم فيها النظر ٢٥ {إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة} يقضي فيميز الحق من الباطل بتمييز المحق من المبطل {فيما كانوا فيه يختلفون} من أمر الدين ٢٦ {أو لم يهد لهم} الواو للعطف على منوي من جنس المعطوف والفاعل ضمير ما دل عليه {كم أهلكنا من قبلهم من القرون} أي كثرة من أهلكناهم من القرون الماضية أو ضمير اللّه بدليل القرأءة بالنون {يمشون في مساكنهم} يعني أهل مكة يمرون في متاجرهم على ديارهم وقرئ يمشون بالتشديد {إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون} سماع تدبر واتعاظ ٢٧ {أول لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز} التي جرز نباتها أي قطع وأزيل لا التي لا تنبت لقوله {فنخرج به زرعا} وقيل اسم موضع باليمن {تأكل منه} من الزرع {أنعامهم} كالتين والورق {وأنفسهم} كالحب والثمر {أفلا يبصرون} فيستدلون به على كمال قدرته وفضله ٢٨ {ويقولون متى هذا الفتح} النصر أو الفصل بالحكومة من قوله {ربنا افتح بيننا} [الاعراف:٨٩] {إن كنتم صادقين} في الوعد به ٢٩ {قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون} وهو يوم القيامة فإنه يوم نصر المؤمنين على الكفرة والفصل بينهم وقيل يوم بدر أو يوم فتح مكة والمراد بالذين كفروا المقتولون منهم فيه فإنهم لا ينفعهم إيمانهم حال القتل ولا يمهلون وانطباقه جوابا على سؤالهم من حيث المعنى باعتبار ما عرف من غرضهم فإنهم لما أرادوا به الاستعجال تكذيبا واستهزاء أجيبوا بما يمنع الاستعجال ٣٠ {فأعرض عنهم} ولا تبال بتكذيبهم وقيل هو منسوخ بآية السيف وانتظر النصرة عليهم {إنهم منتظرون} الغلبة عليك وقرئ بالفتح على معنى أنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم أو أن الملائكة ينتظرونه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: من قرأ ألم تنزيل تبارك الذي بيده الملك أعطي من الأجر كأنما أحيا ليلة القدر وعنه: من قرأ ألم تنزيل في بيته لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام |
﴿ ٠ ﴾