تفسير البيضاوي: أنوار التنزيل و أسرار التأويل أبو سعيد عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي

البيضاوي الشيرازي الفارسي، ناصر الدين، القاضي الشافعي (ت ٦٨٥ هـ ١٢٨٦ م)

_________________________________

سورة فاطر

سورة فاطر مكية وآيها خمس واربعون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{الحمد للّه فاطر السماوات والأرض} مبدعهما من الفطر بمعنى الشق كأنه شق العدم بإخراجهما منه والاضافة محضة لانه بمعنى الماضي

{جاعل الملائكة رسلا} وسائط بين اللّه وبين انبيائه والصالحين من عباده يبلغون إليهم رسالاته بالوحي والالهام والرؤيا الصادقة أو بينه وبين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه

{أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع} ذوي اجنحة متعددة متفاوة بتفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون أو يسرعون بها نحو ما وكلهم اللّه عليه فيتصرفون فيه على أمرهم به ولعله لم يرد به خصوصية الأعداد ونفي ما زال عليها لما وري انه صلى اللّه عليه وسلم رأى جبريل ليلة المعراج وله ستمائة جناح

{يزيد في الخلق ما يشاء} استئناف للدلالة على أن تفاوتهم في ذلك بمقتضى مشيئته ومؤدة حكمته لا أمر تستدعيه ذواتهم لأن اختلاف الاصناف والانواع بالخواص والفصول إن كان لذواتهم المشتركة لزم تنافي لوازم الأمور المتفقة وهو محال والاية متناولة زيادات الصور والمعاني كملاحة الوجه وحسن الصوت وحصافة العقل وسماحة النفس

{إن اللّه على كل شيء قدير} وتخصيص بعض الاشياء بالتحصيل دون بعض إنما هو من جهة الارادة

٢

{ما يفتح اللّه للناس} ما يطلق لهم ويرسل وهو من تجوز السبب للمسبب

{من رحمة} كنعمة وأمن وصحة وعلم ونبوة

{فلا ممسك لها} يحبسها

{وما يمسك فلا مرسل له} يطلقه واختلاف الضميرين لان الموصول الأول مفسر بالرحمة والثاني مطلق بتناولها والغضب وفي ذلك إشعار بأن رحمه سبقت غضبه

{من بعده} من بعد امساكه

{وهو العزيز} الغالب على ما يشاء ليس أحد أن ينازعه فيه

{الحكيم} لا يفعل إلا بعلم واتقان ثم لما بين انه الموجد للملك والملوك والمتصرف فيهما على الإطلاق أمر الناس بشكر انعامه فقال

٣

{يا أيها الناس اذكروا نعمة اللّه عليكم} احفظوا بمعرفة حقها والاعتراف بها وطاقة موليها ثم انكر أن يكون لغيره في ذلك مدخل فيستحق أن يشرك به بقوله

{هل من خالق غير اللّه يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون} فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى اشراك غيره به ورفع غير للحمل على محل من خالق بأنه وصف أو بدل فإن الاستفهام بمعنى النفي أو لانه فاعل خالق وجره حمزة والكسائي حملا على لفظه وقد نصب على الاستثناء و يرزقكم صفة ل خالق أو استئناف مفسر له أو كلام مبتدأ وعلى الأخير يكون إطلاق هل من خالق مانعا من اطلاقه على غير اللّه

٤

{وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك} أي فتأس بهم في الصبر على تكذيبهم فوضع فقد كذبت موضعه استغناء بالسبب عن المسبب وتنكير رسل للتعظيم المقتضي زيادة التسلية والحث على المصابرة

{والى اللّه ترجع الأمور} فيجازيك واياهم على الصبر والتكذيب

٥

{يا أيها الناس إن وعد اللّه} بالحشر والجزاء

{حق} لا خلف فيه

{فلا تغرنكم الحياة الدنيا} فيذهلكم التمتع بها عن طلب الآخرة والسعي لها

{ولا يغرنكم باللّه الغر} الشيطان بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية فإنها وان امكنت لكن الذبن بهذا التوقع كتناول السم اعتمادا على دفع الطبيعة وقرئ بالضم وهو مصدر أو جمع كقعود

٦

{إن الشيطان لكم عدو} عداوة عامة قديمة

{فاتخذوه عدوا} في عقائدكم وافعالكم وكونوا على حذر منه في مجامع احوالكم

{إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} تقرير لعداوته وبيان لغرضه في دعوة شيعته إلى اتباع الهوى والركون إلى الدنيا

٧

{الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة واجر كبير} وعيد لمن اجاب دعاءه ووعد لنم خالفه وقطع للاماني الفارغة وبناء للامر كله على الإيمان والعمل الصالح وقوله

٨

{أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا} تقرير له أي افمن زين له سوء عمله بأن غلب وهمه وهواه على عقله حتى انتكس رأيه فرأى الباطل حقا والقبيح حسنا كمن لم يزين له بل وفق حتى عرف الحق واستحسن الأعمال واستقبحها على ما هي عليه فحذف الجواب لدلالة

{فإن اللّه يضل من يشاء ويهدي من يشاء} وقيل تقديره افمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة فحذف الجواب لدلالة فلا

{تذهب نفسك عليهم حسرات} عليه ومعناه فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيرهم واصرارهم على التذيب والفاءات الثلاث للسببية غير أن الاوليين دخلتا على السبب والثالثة دخلت على المسبب وجمع احلسرات للدلالة على تضاعف اغتمامه على أحوالهم أو كثرة مساوي افعالهم المقتضية للتأسف وعليهم ليس صلة لها لان صلة المصدر لا تتقدمه بل صلة تذهب أو بيان للمتحسر عليه

{إن اللّه عليم بما يصنعون} فيجازيهم عليه

٩

{واللّه الذي أرسل الرياح} وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح

{فتثير سحابا} على حكاية الحال الماضية استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة ولان المراد بيان احداثها بهذه الخاصية ولذلك اسنده إليها ويجوز أن يكون اختلاف الأفعال للدلالة على استمرار الأمر

{فسقناه إلى بلد ميت} وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بالتشديد

{فأحيينا به الأرض} بالمطر النازل منه وذكر السحاب كذكره أو بالسحاب فإنه سبب السبب أو الصائر مطرا

{بعد موتها} بعد يبسها والعدول فيهما من الغيبة إلى ما هو ادخل في الاختصاص لما فيهما من مزيد الصنع

{كذلك النشور} أي مثل أحياء الموات نشور الاموات في صحة المقدورية إذ ليس بينهما إلا احتمال اختلاف

المادة في المقيس عليه وذلك لا مدخل له فيها وقيل في كيفية الأحياء فإنه تعالى يرسل ماء من تحت العرش تنبت منه اجساد الخلق

١٠

{من كان يريد العزة} الشرف والمنعة

{فللّه العزة جميعا} أي فليطلبها من عنده فإن له كلها فاستغنى بالدليل عن المدلول

{إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} بيان لما يطلب به العزة وهو التوحيد والعمل الصالح وصعودهما إليه مجاز عن قبوله اياهما أو صعود الكتبة بصحيفتهما والمستكن في يرفعه ل العمل فإنه يحقق الإيمان ويقويه أو له وتخصيص العمل بهذا الشرف لما فيه من الكلفة وقرئ يصعد على البناءين والمعصد هو اللّه تعالى أو المتكلم به أو الملك وقيل {الكلم الطيب} يتناول الذكر والدعاء وقرأءة القرآن وعنه صلى اللّه عليه وسلم هو سبحان اللّه والحمد للّه ولا اله إلا اللّه واللّه اكبر فإذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن عمل صالح لم تقبل

{والذين يمكرون السيئات} المكرات السيئات يعني مكرات قريش للنبي صلى اللّه عليه وسلم في دار الندوة وتداورهم الرأي في إحدى ثلاث حبسه وقتله واجلائه

{لهم عذاب شديد} لا يؤبه دونه بما يمكرون به ومكر أولئك و يبور يفسد ولا ينفذ لأن الأمور مقدرة لا تتغير به كما دل عليه بقوله

١١

{واللّه خلقكم من تراب} بخلق آدم عليه السلام منه ثم من نفة بخلق ذريته منها

{ثم جعلكم ازواجا} ذكرانا واناثا

{وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} إلا معلومة له

{وما يعمر من معمر} وما يمد في عمر من مصيره إلى الكبر

{ولا ينقص من عمره} من عمر المعمر لغيره بأن يعطى له عمر ناقص من عمره أو لا ينقص من عمر المنقوص عمره بجعله ناقصا والضمير له وان لم يذكر لدلالة مقابلة عليه أو للعمر على التسامح فيه ثقة بفهم السامع كقولهم لا يثيب اللّه عبدا ولا يعاقبه إلا بحق وقيل الزيادة والنقصان في عمر واحد باعتبار اسباب مختلفة اثبتت في اللوح مثل أن يكون فيه أن حج عمرو فعمره ستون سنة وألا فأربعون وقيل المراد بالنقصان ما يمر من عمره وينقضي فإنه يكتب في صحيفة عمره يوما فيوما وعن يعقوب {ولا ينقص} على البناء للفاعل

{إلا في كتاب} هو علم اللّه تعالى أو اللوح المحفوظ أو الصحيفة

{أن ذلك على اللّه يسير} إشارة إلى الحفظ أو الزيادة أو النقص

١٢

{وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح اجاج} ضرب مثل للمؤمن والكافر والفرات الذي يكسر العطش والسائغ الذي يسهل انحداره والاجاج الذي يحرق بملوحته وقرئ سيغ بالتخفيف و ملح على فعل

{ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسوها} استطراد في صفة الحرين وما فيهما من النعم أو تمام التمثيل والمعنى كما أنهما وان اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات من الماء فإنه خالط أحدهما ما افسده وغيره عن كمال فطرته لا يستاوى المؤمن والكافر وان اتفق اشتراكهما في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لاختلافهما فيما هو الخاصية العظمى وهي بقاء أحدهما على الفطرة الاصلية دون الآخر أو تفضل للاجاج على الكافر بما يشارك فيه العذب من المنافع والمراد ب الحلية اللآلئ واليواقيت

{وترى الفلك فيه} في كل {مواخر} تشق الماء بجريها

{لتبتغوا من فضله} من فضل اللّه بالنقلة فيها واللام متعلقة ب مواخر ويجوز أن تتعلق بما دل عليه الأفعال المذكورة

{ولعلكم تشكرون} على ذلك وحرف الترجي باعتبار ما يقتضيه ظاهر الحال

١٣

يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى هي مدة دوره أو منتهاه أو يوم القيامة

{ذلكم اللّه ربكم له الملك} الاشارة إلى الفاعل لهذه الاشياء وفيها أشعار بأن فاعليته لها موجبة لثبوت الأخبار المترادفة ويحتمل أن يكون {له الملك} كلاما مبتدأ في قرآن

{والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير} للدلالة على تفرده بالالوهية والربوبية والقطمير لفافة النواة

١٤

{إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم} لانهم جماد

{ولو سمعوا} على سبيل الفرض

{ما استجابوا لكم} لعدم قدرتهم على الانفاع أو لتبرئهم منكم مما تدعون لهم

{ويوم القيامة يكفرون بشرككم} بإشراككم لهم يقرون ببطلانه أو يقولون {ما كنتم ايانا تعبدون} [يونس:٢٨]

{ولا ينبئك مثل خبير} ولا يخبرك بالأمر مخبر مثل خيبر به أخبرك وهو اللّه سبحانه وتعالى فإنه الخبير به على الحقيقة دون سائر المخبرين والمراد تحقيق ما اخبر به من حال آلهتهم ونفي ما يدعون لهم

١٥

{يا أيها الناس انتم الفقرأء إلى اللّه} في انفسكم وما يعن لكم وتعريف الفقرأء للمبالغة في فقرهم كأنهم لشدة افتقارهم وكثرة احتياجهم هم الفقرأء وان افتقار سائر الخلائق بالاضافة إلى فقرهم غير معتد به ولذلك قال {وخلق الإنسان ضعيفا} [النساء:٢٨]

{واللّه هو الغني الحميد} المستغني على الإطلاق المنعم على سائر الموجودات حتى استحق عليهم الحمد

١٦

{إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد} بوقم آخرين اطوع منكم أو بعالم آخر غير ما تعرفونه

١٧

{وما ذلك على اللّه بعزيز} بمتعذر أو متعسر

١٨

{ولا تزر وازرة وزر أخرى} ولا تحمل نفس آثمة اثم نفس أخرى واما قوله ليحملن اثقالهم واثقالا مع اثقالهم ففي الضالين المضلين فإنهم يحملون اثقال اضلالهم مع اثقال ضلالهم وكل ذلك اوزارهم وليس فيها شيء من اوزار غيره

{وإن تدع مثقلة} نفس اثقلها الاوزار

{إلى حملها} تحمل بعض اوزارها

{لا يحمل منه شيء} لم تجب لحمل شيء منه نفى أن يحمل عنها ذنبها كما نفى أن يحمل عليها ذنب غيرها

{ولو كان ذا قربى} ولو كان المدعو ذا قرابتها فأضمر المدعو لدلالة أن تدع عليه وقرئ ذو قربى على حذف الخبر وهو اولى من جعل كان التامة فإنها لا تلائم نظم الكلام

{إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب} غائبين عن عذابه أو عن الناس في خلواتهم أو غائبا عنهم عذابه

{واقاموا الصلاة} فإنهم المتفعون بالانذار لا غير واختلاف الفعلين لما مر من الاستمرار

{ومن تزكى} ومن تطهر من دنس المعاصي

{فإنما يتزكى لنفسه} إذ نفعه لها وقرئ ومن ازكى فإنما يزكي وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم واقامتهم الصلاة لانهما من جملة التزكي

{والى اللّه المصير} فيجازيهم على تزكيهم

١٩

{وما يستوي الأعمى والبصر} الكافر والمؤمن وقيل هما مثلان للصنم وللّه عز وجل

٢٠

{ولا الظلمات ولا النور} ولا الباطل ولا الحق

٢١

{ولا الظل ولا الحرور} ولا الثواب ولا العقاب ولا لتأكيد نفي الاستواء وتكريرها على الشقين لمزيد التأكيد و الحرور فعول من الحر غلب على السموم وقيل السموم ما يهب نهارا والحرور ما تهب ليلا

٢٢

{وما يستوي الأحياء ولا الاموات} تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين ابلغ من الأول ولذلك كرر الفعل وقيل للعلماء والجهلاء

{إن اللّه يسمع من يشاء} هدايته فيوفقه لفهم اياته والاتعاظ بعظاته

{وما أنت بمسمع من في القبور} ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالاموات ومبالغة في اقناطه عنهم

٢٣

{إن أنت إلا نذير} فما عليك إلا الانذار واما الاسماع فلا إليك ولا حيلة لك إليه في المطبوع على قلوبهم

٢٤

{إن ارسلناك بالحق} محقين أو محقا أو ارسالا مصحوبا بالحق ويجوز أن يكون صلة لقوله

{بشيرا ونذيرا} أي بشيرا بالوعد الحق ونذيرا بالوعيد الحق

{وإن من أمة} أهل عصر {إلا خلا} مضى

{فيها نذير} من نبي أو عالم ينذر عنه والاكتفاء بذكره للعلم بان النذارة قرينة البشارة سيما وقد قرن به من قبل أو لان الانذار هو الاههم المقصود من البعثة

٢٥

{وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات} بالمعجزات الشاهدة على نبوتهم

{وبالزبر} كصحف إبراهيم عليه السلام

{وبالكتاب المنير} كالتوراة والانجيل على إرادة التفصيل دون الجمع ويجوز أن يراد بهما واحد والعطف لتغاير الوصفين

٢٦

{ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير} أي انكار بالعقوبة

٢٧

{آلم تر أن اللّه انزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها} اجناسها واصنافها على أن كلا منها ذو أصناف مختلفة أو هيئاتها من الصفرة والخضرة ونحوهما

{ومن الجبال جدد} أي ذو جدد أي خطط وطرائق يقال جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره وقرئ جدد بالضم جمع جديدة بمعنى الجدة و جدد بفتحتين وهوالطريق الواضح

{بيض وحمر مختلف الوانها} بالشدة والضعف

{وغرابيب سود} عطف على بيض أو على جدد كأنه قيل ومن الجبال ذو جدد مختلفة اللون ومنها غرابيب متحدة اللون وهو تأكيد مضمر يفسره ما بعده فإن الغربيب تأكيد للاسود ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد ونظير ذلك في الصفة قول النابغة:

والمؤمن العائذات الطير يمسحها

وفي مثله مزيد تاكيد لما فيه من التكرير باعتبار الاضمار والاظهار

٢٨

{ومن الناس والدواب والانعام مختلف الوانه كذلك} كاختلاف الثمار والجبال

{إنما يخشى اللّه من عباده العلماء} إذ شرط الخشية معرفة المخشي والعلم بصفاته وافعاله فمن كان اعلم به كان أخشى منه ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم: أني اخشاكم للّه واتقاكم له ولذلك اتبعه بذكر افعاله الدالة على كمال قدرته وتقديم المفعول لان المقصود حصر الفاعلية ولو آخر انعكس الأمر وقرئ برفع اسم اللّه ونصب العلماء على أن الخشية مستعارة للتعظيم فإن المعظم يكون مهيبا

{إن اللّه عزيز غفور} تعليل لوجب الخشية لدلالته على انه معاقب للمصر على طغيانه غفور للتائب عن عصيانه

٢٩

{إن الذين يتلون كتاب اللّه} يداومون على قارئته أو متابعة ما فيه حتى صارت سمة لهم وعنوانا والمراد بكتاب اللّه القرآن أو جنس كتب اللّه فيكون ثناء على المصدقين من الأمم بعد اقتصاص حال المكذبين

{وأقاموا الصلاة وانفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية} كيف اتفق من غير قصد أليهما وقيل السر في المسنونة والعلانية في المفروضة

{يرجون تجارة} تحصيل ثوتب الطاعة وهو خبر إن

{لن تبور} لن تكسد ولن تهلك بالخسران صفة للتجارة وقوله

٣٠

{ليوفيهم اجورهم} علة لمدلوله أي ينتفي عنها الكساد وتنفق عند اللّه ليوفيهم بنفاقها أجور أعمالهم أو لمدلول ما عد من امثالهم نحو فعلوا ذلك ليوفيهم أو عاقبة ل يرجون

{ويزيدهم من فضله} على ما يقابل أعمالهم

{إنه غفور} لفرطاتهم {شكور} لطاعاتهم أي مجازيه عليها وهو علة للتوفية والزيادة أو خبر أن ويرجون حال من واو وانفقوا

٣١

{والذي اوحينا إليك من الكتاب} يعني القرآن و من للتبين أو الجنس و من للتبعيض

{هو الحق مصدقا لما بين يديه} أحقه مصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية حال مؤكدة لان حقيته تستلزم موافقته إياه في العقائد واصول الأحكام

{أن اللّه بعباده لخبير بصير} عالم بالبواطن والظواهر فلو كان في احوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب وتقديم الخبير للدلالة على أن العمدة في ذلك الأمور الروحانية

٣٢

{ثم اورثنا الكتاب} حكنا بتوريثه منك أو نورثه فعبر عنه بالماضي لتحققه أو اورثناه من الأمم السالفة والعطف على إن الذين يتلون} [فاطر:٢٩] والذي اوحينا إليك [فاطر:٣١] اعتراض لبيان كيفية التوريث

{الذين اصطفينا من عبادنا} يعني علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم أو الأمة باسرهم فإن اللّه اصطفاهم على سائر الأمم

{فمنهم ظالم لنفسه} بالتقصير في العمل به ومن هم مقتصد يعمل به في غالب الاوقات

{ومنهم سابق بالخيرات بإذن اللّه} بضم التعليم والارشاد إلى العمل وقيل الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم وقيل الظالم المجرم والمقتصد الذي خلط الصالح بالسيء ولسابق الذي ترجحت حسناته بحيث صارت سيئاته مكفرة وهو معى قوله صلى اللّه عليه وسلم:

أما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب

واما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا

واما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم يتلقاهم اللّه برحمته

وقيل الظالم الكافر على أن الضمير للعباد وتقديمه لكثرة الظالمين ولأن الظلم بمعنى الجهل و الركون إلى الهوى مقتضى الجبلة والاقتصاد والسبق عارضان

{ذلك هو الفضل الكبير} إشارة إلى التوريث أو الاصطفاء أو السبق

٣٣

{جنات عدن يدخلونها} مبتدأ وخبر والضمير للثلاثة أو ل الذين أو لل مقتصد وال سابق فإن المراد بهما الجنس وقرئ جنة عدن و {جنات عدن} منصوب بفعل يفسره الظاهر وقرأ أبو عمرو يدخلونها على البناء للمفعول

{يحلون فيها} خبر ثان أو حال مقدرة وقرئ يحلون من حليت المرأة فهي حالية

{من اساور من ذهب} من الأولى للتبعيض والثانية للتبيين

{ولؤلؤا} عطف على ذهب أي {من ذهب} مرصع باللؤلؤ أو {من ذهب} في صفا اللؤلؤ ونصبه نافع وعاصم رحمهما اللّه تعالى عطفا على محل {من أساور}

{ولباسهم فيها حرير}

٣٤

{وقالوا الحمد للّه الذي اذهب عنا الحزن} همهم من خوف العاقبة أو همهم من اجل المعاش وآفاته أو من وسوسة إبليس وغيرها وقرئ الحزن

{إن ربنا لغفور} للمذنبين {شكور} للمطيعين

٣٥

{الذي أحلنا دار المقامة} دار الاقامة

{من فضله} من انعامه وتفضله إذ لا واجب عليه

{لا يمسنا فيها نصب} تعب

{ولا يمسنا فيها لغوب} كلا إذ لا تكليف فيها ولا كذ اتبع نفي النصب نفي ما يتبعه مبالغة

٣٦

{والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم} لا يحكم عليهم بموت ثان

{فيموتوا} فيتسريحوا ونصبه بإضمار أن وقرئ فيموتون عطفا على يقضى فقوله تعالى {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} [المرسلات:٣٦]

{ولا يخفف عنهم من عذابها} بل كلما خبت زيد اسعارها

{كذلك} مثل ذلك الجزاء

{نجزي كل كفور} مبالغ في الكفر أو الكفران وقرأ أبو عمرو يجزى على بناء المفعول واسناده إلى كل وقرى يجازي

٣٧

{وهم يصطرخون فيها} يستغيثون يفتعلون من الصراخ وهو الصياح استعمل في الاستغاثة لجهر المستغيث صوته

{ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل} بإضمار القول وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غير الصالح والاعتراف به والاشعار بأن استخراجهم لتلافيه وانهم كانوا يحسبون انه صالح والان تحقق لهم خلافه

{أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير} جواب من اللّه وتوبيخ لهم و ما يتذكر فيه متناول كل عمر يمكن المكلف فيه من التفكر والتذكر وقيل ما بين العشرين إلى الستين وعنه صلى اللّه عليه وسلم: العمر الذي اعذر اللّه فيه إلى ابن آدم ستون سنة والعطف على معنى أو لم نعمركم فإنه للتقرير كأنه قال عمرناكم وجاءكم النذير وهو النبي صلى اللّه عليه وسلم أو الكتاب وقيل العقل أو الشيب أو موت الاقارب

{فذوقوا فما للظالمين من نصير} يدفع العذاب عنهم

٣٨

{إن اللّه عالم غيب السماوات والأرض} لا يخفى عليه خافية فلا يخفى عليه أحوالهم

{إنه عليم بذات الصدور} تعليل له لأنه إذا علم مضمرات اصدور وهي اخفى ما يكون كان اعلم بغيرها

٣٩

{هو الذي جعلكم خلائف في الأرض} ملقى اليكم مقاليد التصرف فيها وقيل خلفا بعد خلف جمع خليفة والخلفاء جمع خليف

{فمن كفر فعليه كفره} جزاء كفره

{ولا يزيد الكافرين كفهرم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا} بيان له والتكرير للدلالة على عن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين مستقل باقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه والمراد بالمقت وهو اشد البغض مقت اللّه وبالخسار خسار الآخرة

٤٠

{قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون اللّه} يعني آلهتهم والاضافة إليهم لانهم جعلوهم شركاء اللّه أو لانفسهم فيما يملكونه

{أروني ما ذا خلقوا من الأرض} بدل من أرأيتم بدل الاشتمال لانه بمعنى اخبروني كفأنه قال اخبروني عن هؤلاء الشركاء اروني أي جزء من الأرض استبدوا بخلقه

{أم لهم شرك في السماوات} أم لهم شركة مع اللّه في خلق السماوات فاستحقوا بذلك شركة في الألوهية ذاتية

{أم آتيناهم كتابا} ينطق على أنا اتخذناهم شركاء

{فهم على بينة منه} على حجة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية ويجوز أن يكون هم للمشركين كقوله أم انزلنا عليهم سلطانا [الرّوم:٣٥] وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب وأبو بكر والكسائي على بينات فيكون ايماء إلى أن الشرك خطير لا بد فيه من تعاضد الدلائل

{بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا} لما نفى أنواع الحجج في ذلك اضرب عنه بذكر ما حملهم عليه وهو تغرير الاسلاف الاخلاف أو الرساء الاتباع بأنهم شفعاء عند اللّه يشفعون لهم بالتقرب إليهم

٤١

{إن اللّه يمسك السماوات والأرض أن تزولا} كراهة أن تزولا فإن الممكن حال بقائه لا بد له من حافظ أو يمنعهما أن تزولا لان الامساك منع

{ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد} ما مسكهما

{من بعده} من بعد اللّه أو من بعد الزوال والجملة سادة مسد الجوابين ومن الأولى زائدة والثانية للابتداء

{إنه كان حليما غفورا} حيث امسكهما وكانتا جيدرتي بأن تهدا هدا كما قال تعالى تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض [الشورى:٥]

٤٢

{وأقسموا باللّه جهد ايمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم} وذلك أن قريشا لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا لعن اللّه اليهود والنصارى لو أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم أي من واحدة من الأمم اليهود والنصارى وغيرهم أو من الأمة التي يقال فيها هي أحدى الأمم تفضلا لها على غيرها في الهدى والاستقامة

{فلما جاءهم نذير} يعني محمد صلى اللّه عليه وسلم

{ما زادهم} أي النذير أو مجئيه على التسبب

{إلا نفورا} تباعدا عن الحق

٤٣

{استكبارا في الأرض} بدل من نفورا أو مفعول له

{ومكر السيئ} اصله وإن مكروا المكر السيء فحذف الموصوف استغناء بوصفه ثم بدل أن مع الفعل بالمصدر ثم اضيف وقرأ حمزة وحده بسكون الهمزة في الوصل

{ولا يحيق} ولا يحيط

{المكر السيء إلا بأهله} وهو الماكر وقد حاق بهم يوم بدر وقرئ ولا يحيق المكر أي ولا يحيق اللّه

{فهل ينظرون} ينتظرون {إلا سنت الأولين} سنة اللّه فيهم بتعذيب مكذبيهم

{فلن تجد لسنت اللّه تبديلا ولن تجد لسنت اللّه تحويلا} إذ لا يبدلها بجعله غير التعذيب تعذيبا ولا يحولها بأن ينقله من المكذبين إلى غيرهم وقوله

٤٤

{أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} اتشهاد علم بما يشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق من آثار الماضين

{وكانوا اشد منهم قوة وما كان اللّه لعيجزه من شيء} ليسبقه ويقوته

{في السماوات ولا في الأرض انه كان عليما} بالاشياء كلها

{قديرا} عليها

٤٥

{ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا} من المعاصي

{ما ترك على ظهرها} ظهر الأرض

{من دابة} من نسمة تدب عليها بشؤم معاصيهم وقيل المراد بالدابة الأنس وحده لقوله

{ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} هو يم القيامة

{فإذا جاء اجلهم فإن اللّه كان بعباده بصيرا} فيجازيهم على أعمالهم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم:

من قرأ سورة الملائكة دعته ثمانية أبواب الجنة أن ادخل من أي باب

﴿ ٠