تفسير البيضاوي: أنوار التنزيل و أسرار التأويل أبو سعيد عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي

البيضاوي الشيرازي الفارسي، ناصر الدين، القاضي الشافعي (ت ٦٨٥ هـ ١٢٨٦ م)

_________________________________

سورة ص

{ص} مكية وآيها ست أو ثمان وثمانون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم ص وقرئ بالكسر لالتقاء الساكنين وقيل إنه أمر من المصاداة بمعنى المعارضة ومنه الصدى فإنه يعارض الصوت الأول أي عارض القرآن بعملك وبالفتح لذلك أو لحذف حرف القسم وإيصال فعله إليه أو إضماره والفتح في موضع الجر فإنها غير مصروفة لأنها علم السورة وبالجر والتنوين على تأويل الكتاب

{والقرآن ذي الذكر} الواو للقسم إن جعل ص اسما للحرف أو مذكور للتحدي أو للرمز بكلام مثل صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم أو للسورة خبر المحذوف أو لفظ الأمر وللعطف إن جعل مقسما به كقولهم اللّه لأفعلن بالجر والجواب محذوف دل عليه ما في ص من الدلالة على التحدي أو الأمر بالمعادلة أي إنه لمعجز أو لواجب العمل به أو إن محمدا صادق أو قوله

٢

{بل الذين كفروا} أي ما كفر به من كفر لخلل وجده فيه

{بل الذين كفروا} به {في عزة} أي استكبار عن الحق وشقاق خلاف للّه ورسوله ولذلك كفروا به وعلى الأولين الإضراب أيضا من الجواب المقدر ولكن من حيث إشعاره بذلك والمراد بالذكر العظة أو الشرف والشهرة أو ذكر ما يحتاج إليه في الدين من العقائد والشرائع والمواعيد والتنكير في

{عزة وشقاق} للدلالة على شدتهما وقرئ في غرة أي غفلة عما يجب عليهم النظر فيه

٣

{كم أهلكنا من قبلهم من قرن} وعيد لهم على كفرهم به استكبارا وشقاقا

{فنادوا} استغاثة أو توبة أو استغفار

{ولات حين مناص} أي ليس الحين حين مناص ولا هي المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد كما زيدت على رب وثم خصت بلزوم الأحيان وحذف أحد المعمولين وقيل هي النافية للجنس أي ولا حين مناص لهم وقيل للفعل والنصب بإضماره أي ولا أرى حين مناص وقرئ بالرفع على أنه اسم لا أو مبتدأ محذوف الخبر أي ليس حين مناص حاصلا لهم أو لا حين مناص كائن لهم وبالكسر كقوله طلبوا صلحنا ولات أوان فأجبنا أن لات حين بقاء إما لأن لات تجر الأحيان كما أن لولا تجر الضمائر في قوله لولاك هذا العام لم أحجج أو لأن أوان شبه بإذ لأنه مقطوع عن الإضافة إذ أصله أوان صلح ثم حمل عليه مناص تنزيلا لما أضيف إليه الظرف منزلته لما بينهما من الاتحاد إذ أصله يحن مناصهم ثم بني الحين لإضافته إلى غير متمكن ولات بالكسر كجير وتقف الكوفية عليها بالهاء كالأسماء والبصرية بالتاء كالأفعال وقيل إن التاء مزيدة على حين لاتصالها به في الإمام ولا يرد عليه أن خط المصحف خارج عن القياس إذ مثله لم يعهد فيه والأصل اعتباره إلا فيما خصه الدليل ولقوله العاطفون تحين لا من عاطف والمطعمون زمان ما من مطعم والمناص المنجا من ناصه ينوصه إذا فاته

٤

{وعجبوا أن جاءهم منذر منهم} بشر مثلهم أو أمي من عدادهم

{وقال الكافرون} وضع فيه الظاهر موضع الضمير غضبا عليهم وذما لهم وإشعارا بأن كفرهم جسرهم على هذا القول

{هذا ساحر} فيما يظهره معجزة {كذاب} فيما يقوله على اللّه تعالى

٥

{أجعل الآلهة إلها واحدا} بأن جعل الألوهية التي كانت لهم لواحد

{إن هذا لشيء عجاب} بليغ في العجب فإنه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا وما نشاهده من أن الواحد لا يفي علمه وقدرته بالأشياء الكثيرة وقرئ مشددا وهو أبلغ ككرام وكرام وروي أنه لما أسلم عمر رضي اللّه عنه شق ذلك على قريش فأتوا أبا طالب وقالوا أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا جئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك فاستحضر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل عليهم فقال صلى اللّه عليه وسلم ماذا يسألونني فقالوا ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك فقال أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أمعطي أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقالوا نعم وعشرا فقال قولوا لا إله إلا اللّه فقاموا وقالوا ذلك

٦

{وانطلق الملأ منهم} وانطلق أشراف قريش من مجلس أبي طالب بعدما بكتهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

{أن امشوا} قائلين بعضهم لبعض امشوا

{واصبروا} واثبتوا {على آلهتكم} على عبادتها فلا ينفعكم مكالمته و أن هي المفسرة لأن الانطلاق عن مجلس التقاول يشعر بالقول وقيل المراد بالانطلاق الاندفاع في القول وامشوا من مشت المرأة إذا كثرت أولادها ومنه الماشية أي اجتمعوا وقرئ بغير أن وقرئ يمشون أن اصبروا

{إن هذا لشيء يراد} إن هذا الأمر لشيء من ريب الزمان يراد بنا فلا مرد له أو أن هذا الذي يدعيه من التوحيد أو يقصده أو يقصده من الرئاسة والترفع على العرب والعجم لشيء يتمنى أو يريده كل أحد أو أن دينكم لشيء يطلب ليؤخذ منكم

٧

{ما سمعنا بهذا} بالذي يقوله

{في الملة الآخرة} في الملة التي أدركنا عليها آباءنا أو في ملة عيسى عليه الصلاة والسلام التي هي آخر الملل فإن النصارى يثلثون ويجوز أن يكون حالا من هذا أي سمعنا من أهل الكتاب ولا الكهان بالتوحيد كائنا في الملة المترقبة

{إن هذا إلا اختلاق} كذب اختلقه

٨

{أأنزل عليه الذكر من بيننا} إنكار لاختصاصه بالوحي وهو مثلهم أو أدون منهم في الشرف والرئاسة كقولهم {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزّخرف:٣١] وأمثال ذلك دليل على أن مبدأ تكذيبهم لم يكن إلا الحسد وقصور النظر على الحطام الدنيوي

{بل هم في شك من ذكري} من القرآن أو الوحي لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن الدليل وليس في عقيدتهم ما يبتون به من قولهم {هذا ساحر كذاب} [ص:٤] {إن هذا إلا اختلاق} [ص:٧]

{بل لما يذوقوا عذاب} بل لم يذوقوا عذابي بعد فإذا ذاقوه زال شكهم والمعنى أنهم لا يصدقون به حتى يمسهم العذاب فيلجئهم إلى تصديقه

٩

{أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب} بل أعندهم خزائن رحمته وفي تصرفهم حتى يصيبوا بها من شاؤوا ويصرفوها عمن شاؤوا فيتخير للنبوة بعض صناديدهم والمعنى أن النبوة عطية من اللّه يتفضل بها على من يشاء من عباده لا مانع له فإنه العزيز أي الغالب الذي لا يغلب الوهاب الذي له أن يهب كل ما يشاء لمن يشاء ثم رشح ذلك فقال

١٠

{أم لهم ملك السموات والأرض وما بينهما} كأنه لما أنكر عليهم التصرف في نبوته بأن ليس عندهم خزائن رحمته التي لا نهاية لها أردف ذلك بأنه ليس لهم مدخل في أمر هذا العالم الجسماني الذي هو جزء يسير من خزائنه فمن أين لهم أن يتصرفوا فيها

{فليرتقوا في الأسباب} جواب شرط محذوف أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في المعارج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم فينزلوا الوحي إلى من يستصوبون وهو غاية التهكم بهم والسبب في الأصل هو الوصلة وقيل المراد بالأسباب السموات لأنها أسباب الحوادث السفلية

١١

{جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب} أي هم جند ما من الكفار المتحزبين على الرسل مهزوم مكسور عما قريب فمن أين لهم التدابير الإلهية والتصرف في الأمور الربانية أو فلا تكترث بما يقولون و ما مزيدة للتقليل كقولك أكلت شيئا ما وقيل للتعظيم على الهزء وهو لا يلائم ما بعده وهنالك إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول

١٢

{كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد} ذو الملك الثابت بالأوتاد كقوله

ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة في ظل ملك ثابت الأوتاد

مأخوذ من ثبات البيت المطنب بأوتاده أو ذو الجموع الكثيرة سموا بذلك لأن بعضهم يشد بعضا كالوتد يشد البناء وقيل نصب أربع سوار وكان يمد يدي المعذب ورجليه إليها ويضرب عليها أوتادا ويتركه حتى يموت

١٣

{وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة} وأصحاب الغيضة وهم قوم شعيب وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر ليكة

{أولئك الأحزاب} يعني المتحزبين على الرسل الذين جعل الجند المهزوم منهم

١٤

{إن كل إلا كذب الرسل} بيان لما أسند إليهم من التكذيب على الإبهام مشتمل على أنواع من التأكيد ليكون تسجيلا على استحقاقهم للعذاب ولذلك رتب عليه

{فحق عقاب} وهو إما مقابلة الجمع بالجمع أو جعل تكذيب الواحد منهم تكذيب جميعهم

١٥

{وما ينظر هؤلاء} وما ينتظر قومك أو الأحزاب فإنهم كالحضور لاستحضارهم بالذكر أو حضورهم في علم اللّه تعالى

{إلا صيحة واحدة} هي النفخة الأولى

{ما لها من فواق} من توقف مقدار فواق وهو ما بين الحلبتين أو رجوع وترداد فإنه فيه يرجع اللبن إلى الضرع وقرأ حمزة والكسائي بالضم وهما لغتان

١٦

{وقالوا ربنا عجل لنا قطنا} قسطنا من العذاب الذي توعدنا به أو الجنة التي تعدها للمؤمنين وهو من قطه إذا قطعه وقيل لصحيفة الجائزة قط لأنها قطعة من القرطاس وقد فسر بها أي عجل لنا صحيفة أعمالنا للنظر فيها

{قبل يوم الحساب} استعجلوا ذلك استهزاء

١٧

{اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود} واذكر لهم قصته تعظيما للمعصية في أعينهم فإنه مع علو شأنه واختصاصه بعظائم النعم والمكرمات لما أتى صغيرة نزل عن منزلته ووبخه الملائكة بالتمثيل والتعريض حتى تفطن فاستغفر ربه وأناب فما الظن بالكفرة وأهل الطغيان أو تذكر قصته وصن نفسه أن تزل فيلقاك ما لقيه من المعاتبة على إهمال عنان نفسه أدنى إهمال

{ذا الأيد} ذا القوة يقال فلان أيد وذو أيد وآد وأياد بمعنى

{إنه أواب} رجاع إلى مرضاة اللّه تعالى وهو تعليل ل الأيد ودليل على أن المراد به القوة في الدين وكان يصوم يوما ويفطر يوما ويقوم نصف الليل

١٨

{إنا سخرنا الجبال معه يسبحن} قد مر تفسيره و يسبحن حال وضع موضع مسبحات لاستحضار الحال الماضية والدلالة على تجدد التسبيح حالا بعد حال

{بالعشي والإشراق} ووقت الإشراق وهو حين تشرق الشمس أي تضيء ويصفو شعاعها وهو وقت الضحى وأما شروقها فطلوعها يقال شرقت الشمس ولما تشرق وعن أم هانئ رضي اللّه عنها أنه صلى اللّه عليه وسلم صلى صلاة الضحى وقال: هذه صلاة الإشراق وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية

١٩

{والطير محشورة} إليه من كل جانب وإنما لم يراع المطابقة بين الحالين لأن

الحشر جملة أدل على القدرة منه مدرجا وقرئ والطير محشورة بالمبتدأ والخبر {كل له أواب} كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيحه رجاع إلى التسبيح والفرق بينه وبين ما قبله أنه يدل على الموافقة في التسبيح وهذا على المداومة عليها أو كل منهما ومن داود عليه الصلاة والسلام مرجع للّه التسبيح

٢٠

{وشددنا ملكه} وقويناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود وقرئ بالتشديد للمبالغة قيل إن رجلا ادعى بقرة على آخر وعجز عن البيان فأوحى إليه أن اقتل المدعى عليه فأعلمه فقال صدقت إني قتلت أباه وأخذت البقرة فعظمت بذلك هيبته

{وآتيناه الحكمة} النبوة أو كمال العلم واتقان العمل

{وفصل الخطاب} وفصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل أو الكلام المخلص الذي ينبه المخاطب على المقصود من غير التباس يراعى فيه مظان الفصل والوصل والعطف والاستئناف والإضمار والحذف والتكرار ونحوها وإنما سمي به أما بعد لأنه يفصل المقصود عما سبق مقدمة له من الحمد والصلاة وقيل هو الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخل ولا إشباع ممل كما جاء في وصف كلام الرسول صلى اللّه عليه وسلم فصل لا نزر ولا هذر

٢١

{وهل أتاك نبأ الخصم} استفهام معناه التعجيب والتشويق إلى استماعه والخصم في الأصل مصدر ولذلك أطلق على الجمع إذا تسوروا المحراب إذ تصعدوا سور الغرفة تفعل من السور كتسنم من السنام وإذ متعلق بمحذوف أي نبأ تحاكم الخصم

{إذ تسوروا} أو بالنبأ على أن المراد به الواقع في عهد داود عليه الصلاة والسلام وأن إسناد أتى إليه على حذف مضاف أي قصة نبأ الخصم لما فيه من معنى الفعل لا بأتى لأن إتيانه الرسول صلى اللّه عليه وسلم لم يكن حينئذ وإذ الثانية في

٢٢

{إذ دخلوا على داود} بدل من الأولى أو ظرف ل تسوروا

{ففزع منهم} نزلوا عليه من فوق في يوم الاحتجاب والحرس على الباب لا يتركون من يدخل عليه فإنه عليه الصلاة والسلام كان جزأ زمانه يوما للعبادة ويوما للقضاء ويوما للوعظ ويوما للاشتغال بخاصته فتسور عليه ملائكة على صورة الإنسان في يوم الخلوة

{قالوا لا تخف خصمان} نحن فوجان متخاصمان على تسمية مصاحب الخصم خصما

{بغى بعضنا على بعض} وهو على الفرض وقصد التعريض إن كانوا ملائكة وهو المشهور

{فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط} ولا تجر في الحكومة وقرئ ولا تشطط أي ولا تبعد عن الحق ولا تشطط ولا تشاط والكل من معنى الشطط وهو من مجاوزة الحد

{واهدنا إلى سواء الصراط} أي إلى وسطه وهو العدل

٢٣

{إن هذا أخي} بالدين أو بالصحبة

{له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة} هي الأنثى من الضان وقد يكنى بها عن المرأة والكناية والتمثيل فيما يساق للتعريض أبلغ في المقصود وقرئ تسع وتسعون بفتح التاء ونعجة بكسر النون وقرأ حفص بفتح ياء لي نعجة

{فقال أكفلنيها} ملكنيها وحقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي وقيل اجعلها كفلي أي نصيبي

{وعزني في الخطاب} وغلبني في مخاطبته إياي محاجة بأن جاء بحجاج لم أقدر على رده أو في مغالبته إياي في الخطبة يقال خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطابا حيث زوجها دوني وقرئ وعازني أي غالبني وعزني على تخفيف غريب

٢٤

{قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} جواب قسم محذوف قصد به المبالغة

في إنكار فعل خليطه وتهجين طمعه ولعله قال ذلك بعد اعترافه أو على تقدير صدق المدعي والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة

{وإن كثيرا من الخلطاء} الشركاء الذين خلطوا أموالهم جمع خليط

{ليبغي} ليتعدى {بعضهم على بعض} وقرئ بفتح الياء على تقدير النون الخفيفة وحذفها كقوله

اضرب عنك الهموم طارقها

وبحذف الياء اكتفاء بالكسرة

{إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم} أي وهم قليل و ما مزيدة للإبهام والتعجب من قلتهم

{وظن داود أنما فتناه} ابتليناه بالذنب أو امتحناه بتلك الحكومة هل يتنبه بها

{فاستغفر ربه} لذنبه {وخر راكعا} ساجدا على تسمية السجود ركوعا لأنه مبدؤه أو خر للسجود راكعا أي مصليا كأنه أحرم بركعتي الاستغفار و

{وأناب} ورجع إلى اللّه بالتوبة وأقصى ما في هذه القضية الإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام ود أن يكون له ما لغيره وكان له أمثاله فنبهه اللّه بهذه القصة فاستغفر وأناب عنه وما روي أن بصره وقع على امرأة فعشقها وسعى حتى تزوجها وولدت منه سليمان إن صح فلعله خطب مخطوبته

أو استنزله عن زوجته وكان ذلك معتادا فيما بينهم وقد واسى الأنصار المهاجرين بهذا المعنى وما قيل إنه أرسل أوريا إلى الجهاد مرارا وأمر أن يقدم حتى قتل فتزوجها هزء وافتراء ولذلك قال علي رضي اللّه عنه من حدث بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وقيل إن قوما قصدوا أن يقتلوه فتسوروا المحراب ودخلوا عليه فوجدوا عنده أقواما فتصنعوا بهذا التحاكم فعلم غرضهم وأراد أن ينتقم منهم فظن أن ذلك ابتلاء من اللّه له

{فاستغفر ربه} مما هم به وأناب

٢٥

{فغفرنا له ذلك} أي ما استغفر عنه

{وإن له عندنا لزلفى} لقربة بعد المغفرة

{وحسن مآب} مرجع في الجنة

٢٦

{يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض} استخلفناك على الملك فيها أو جعلناك خليفة ممن قبلك من الأنبياء القائمين بالحق

{فاحكم بين الناس بالحق} بحكم اللّه

{ولا تتبع الهوى} ما تهوى النفس وهو يؤيد ما قيل إن ذنبه المبادرة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مسألته

{فيضلك عن سبيل اللّه} دلائله التي نصبها على الحق

{إن الذين يضلون عن سبيل اللّه لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} بسبب نسيانهم وهو ضلالهم عن السبيل فإن تذكره يقتضي ملازمة الحق ومخالفة الهوى

٢٧

{وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا} لا حكمة فيه أو ذوي باطل بمعنى مبطلين عابثين كقوله وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين [الدّخان:٣٨] أو للباطل الذي هو متابعة الهوى بل للحق الذي هو مقتضى الدليل من التوحيد والتدرع بالشرع كقوله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:٥٦] على وضعه موضع المصدر مثل هنيئا

{ذلك ظن الذين كفروا} الإشارة إلى خلقها باطلا والظن بمعنى المظنون

{فويل للذين كفروا من النار} بسبب هذا الظن

٢٨

{أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض} أم منقطعة والاستفهام فيها لإنكار التسوية بين الحزبين التي هي من لوازم خلقها باطلا ليدل على نفيه وكذا التي في قوله

{أم نجعل المتقين كالفجار} كأنه أنكر التسوية أولا بين المؤمنين والكافرين ثم بين المتقين من المؤمنين والمجرمين منهم ويجوز أن يكون تكريرا للإنكار الأول باعتبار وصفين آخرين يمنعان التسوية من الحكيم الرحيم والآية تدل على صحة القول بالحشر فإن التفاضل بينهما إما أن يكون في الدنيا والغالب فيها عكس ما يقتضي الحكمة فيه أو في غيرها وذلك يستدعي أن يكون لهم حالة أخرى يجازون بها

٢٩

{كتاب أنزلناه إليك مبارك} نفاع وقرئ بالنصب على الحال

{ليدبروا آياته} ليتفكروا فيها فيعرفوا ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني المستنبطة وقرئ ليتدبروا على الأصل ولتدبروا أي أنت وعلماء أمتك

{وليتذكر أولوا الألباب} وليتعظ به ذوو العقول السليمة أو ليستحضروا ما هو كالمركوز في عقولهم من فرط تمكنهم من معرفته بما نصب عليه من الدلائل فإن الكتب الإلهية بيان لما لا يعرف إلا من الشرع وإرشاد إلى ما يستقل به العقل ولعل التدبر للمعلوم الأول والتذكر الثاني

٣٠

{ووهبنا لداود سليمان نعم العبد} أي نعم العبد سليمان إذ ما بعده تعليل للمدح وهو في حاله

{إنه أواب} رجاع إلى اللّه بالتوبة أو إلى التسبيح مرجع له

٣١

{إذ عرض عليه} ظرف ل أواب أو ل نعم والضمير ل سليمان عند الجمهور

{بالعشي} بعد الظهر {الصافنات} الصافن من الخيل الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل وهو من الصفات المحمودة في الخيل الذي لا يكاد يكون إلا في العراب الخلص

{الجياد} جمع جواد أو جود وهو الذي يسرع في جريه وقيل الذي يجود في الركض وقيل جمع جيد روي أنه عليه الصلاة والسلام غزا دمشق ونصيبين وأصاب ألف فرس وقيل أصابها أبوه من العمالقة فورثها منه فاستعرضها فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر أو عن ورد كان له فاغتم لما فاته فاستردها فعقرها تقربا للّه

٣٢

{فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي} أصل أحببت أن يعدى بعلى لأنه بمعنى آثرت لكن لما أنيب مناب أنبت مناب عدي تعديته وقيل هو بمعنى تقاعدت من قوله:

مثل بعير السوء إذا أحبا

أي برك و {حب الخير} مفعول له والخير المال الكثير والمراد به الخيل التي شغلته ويحتمل أنه سماها خيرا لتعلق الخير بها قال صلى اللّه عليه وسلم: الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة وقرأ ابن كثير ونافع أبو عمرو بفتح الياء

{حتى توارث بالحجاب} أي غربت الشمس شبه غروبها بتواري المخبأة بحجابها وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها

٣٣

{ردوها علي} الضمير ل الصافنات

{فطفق مسحا} فأخذ بمسح السيف مسحا

{بالسوق والأعناق} أي بسوقها وأعناقها يقطعها من قولهم مسح علاوته إذا ضرب عنقه وقيل جعل يمسح بيده أعناقها وسوقها حبالها وعن ابن كثير بالسؤق على همز الواو لضمة ما قبلها كمؤقن وعن أبي عمرو بالسؤوق وقرئ بالساق اكتفاء بالواحد عن الجمع لأمن الالباس

٣٤

{ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب} وأظهر ما قيل فيه ما روي مرفوعا:

أنه قال لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل اللّه ولم يقل إن شاء اللّه فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة جاءت بشق رجل فوالذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء اللّه لجاهدوا فرسانا

وقيل ولد له ابن فاجتمعت الشياطين على قتله فعلم ذلك فكان يغدوه في السحاب فما شعر به إلا أن ألقي على كرسيه ميتا فتنبه

على خطئه بأن لم يتوكل على اللّه وقيل إنه غزا صيدون من الجزائر فقتل ملكها وأصاب ابنته جرادة فأحبها وكان لا يرقأ دمعها جزعا على أبيها فأمر الشياطين فمثلوا لها صورته فكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه فأخبره آصف فكسر الصورة وضرب المرأة وخرج إلى الفلاة باكيا متضرعا وكانت له أم ولد اسمها أمينة إذا دخل للطهارة أعطاها خاتمه وكان ملكه فيه فأعطاها يوما فتمثل لها بصورته شيطان اسمه صخر وأخذ الخاتم وتختم به وجلس على كرسيه فاجتمع عليه الخلق ونفذ حكمه في كل شيء إلا في نسائه وغير سليمان عن هيئته فأتاها لطلب الخاتم فطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف حتى مضى أربعون يوما عدد ما عبدت الصورة في بيته فطار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فوقعت في يده فبقر بطنها فوجد الخاتم فتختم به وخر ساجدا وعاد إليه الملك فعلى هذا الجسد صخر سمي به وهو جسم لا روح فيه لأنه كان متمثلا بما لم يكن كذلك والخطيئة تغافله عن حال أهله لأن اتخاذ التماثيل كان جائزا حينئذ وسجود الصورة بغير علمه لا يضره

٣٥

{قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي} لا يتسهل له ولا يكون ليكون معجزة لي مناسبة لحالي أو لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعد هذه السلبة أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته كقولك لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال على إرادة وصف الملك بالعظمة لا أن لا يعطى أحد مثله فيكون منافسة وتقديم الاستغفار على الاستيهاب لمزيد اهتمامه بأمر الدين ووجوب تقديم ما يجعل للدعاء بصدد الإجابة وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء

{إنك أنت الوهاب} المعطي ما تشاء لمن تشاء

٣٦

{فسخرنا له الريح} فذللناها لطاعته إجابة لدعوته وقرئ الرياح

{تجري بأمره رخاء} لينة من الرخاوة لا تزعزع أو لا تخالف إرادته كالمأمور المنقاد

{حيث أصاب} أراد من قولهم أصاب الصواب فأخطأ الجواب

٣٧

{والشياطين} عطف على الريح {كل بناء وغواص} بدل منه

٣٨

{وآخرين مقرنين في الأصفاد} عطف على كل كأنه فصل الشيطان إلى عملة استعملهم في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص ومردة قرن بعضهم مع بعض في السلاسل ليكفوا عن الشر ولعل أجسامهم شفافة صلبة فلا ترى ويمكن تقييدها هذا والأقرب أن المراد تميل كفهم عن الشرور بالإقران في الصفد وهو القيد وسمي به العطاء لأنه يرتبط به المنعم عليه وفرقوا بين فعليهما فقالوا صفده قيده وأصفده أعطاه عكس وعد وأوعد وفي ذلك نكتة

٣٩

{هذا عطاؤنا} أي هذا الذي أعطيناك من الملك والبسطة والتسلط على ما لم يسلط به غيرك عطائنا

{فامنن أو أمسك} فاعط من شئت وامنع من شئت

{بغير حساب} حال من المستكن في الأمر أي غير محاسب على منه وإمساكه لتفويض التصرف فيه إليك أو من العطاء أو صلة له وما بينهما اعتراض والمعنى أنه عطاء جم لا يكاد يمكن حصره وقيل الإشارة إلى تسخير الشياطين والمراد بالمن والإمساك إطلاقهم وإبقاءهم في القيد

٤٠

{وإن له عندنا لزلفى} في الآخرة مع ما له من الملك العظيم في الدنيا {وحسن مآب} هو الجنة

٤١

{واذكر عبدنا أيوب} هو ابن عيص بن إسحاق وامرأته ليا بنت يعقوب صلوات اللّه عليه

{إذ نادى ربه} بدل من عبدنا و أيوب عطف بيان له

{أني مسني} بأن مسني وقرأ حمزة بإسكان الياء وإسقاطها في الوصل

{الشيطان بنصب} بتعب {وعذاب} ألم وهي حكاية لكلامه الذي ناداه به ولولا هي لقال إنه مسه والإسناد إلى الشيطان إما لأن اللّه مسه بذلك لما فعل بوسوسته كما قيل إنه أعجب بكثرة ماله أو استغاثة مظلوم فلم يغثه أو كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه أو لسؤاله امتحانا لصبره فيكون اعترافا بالذنب أو مراعاة للأدب أو لأنه وسوس إلى أتباعه حتى رفضوه وأخرجوه من ديارهم أو لأن المراد بالنصب والعذاب ما كان يوسوس إليه في مرضه من عظم البلاء والقنوط من الرحمة ويغريه على الجزع وقرأ يعقوب بفتح النون على المصدر وقرىء بفتحتين وهو لغة كالرشد والرشد وبضمتين للتثقيل

٤٢

{اركض برجلك} حكاية لما أجيب به أي اضرب برجلك الأرض {هذا مغتسل بارد وشراب} أي فضربها فنبعت عين فقيل هذا مغتسل أي ماء تغتسل به وتشرب منه فيبرأ باطنك وظاهرك وقيل نبعث عينان حارة وباردة فاغتسل من الحارة واشرب من الأخرى

٤٣

{ووهبنا له أهله} بأن جمعناهم عليه بعد تفرقهم أو أحييناهم بعد موتهم وقيل وهبنا له مثلهم

{ومثلهم معهم} حتى كان له ضعف ما كان

{رحمة منا} لرحمتنا عليه {وذكرى لأولي الألباب} وتذكيرا لهم لينتظروا الفرج بالصبر واللجأ إلى اللّه فيما يحيق بهم

٤٤

{وخذ بيدك ضغثا} عطف على اركض والضغث الحزمة الصغيرة من الحشيش ونحوه

{فاضرب به ولا تحنث} روي أن زوجته ليا بنت يعقوب وقيل رحمة بنت افراثيم بن يوسف ذهبت لحاجة فأبطأت فحلف إن برىء ضربها مائة ضربة فحلل اللّه يمينه بذلك وهي رخصة باقية في الحدود

{إنا وجدنا صابرا} فيما أصابه في النفس والأهل والمال ولا يخل به شكواه إلى اللّه من الشيطان فإنه لا يسمى جزعا كتمني العافية وطلب الشفاء مع أنه قال ذلك خيفة أن يفتنه أو قومه في الدين

{نعم العبد} أيوب {إنه أواب} مقبل بشراشره على اللّه تعالى

٤٥

{واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب} وقرأ ابن كثير عبدنا وضع الجنس موضع الجمع أو على أن إبراهيم وحده لمزيد شرفه عطف بيان له

{وإسحاق ويعقوب} عطف عليه

{أولي الأيدي والأبصار} أولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين أو أولي الأعمال الجليلة والعلوم الشريفة فعبر بالأيدي عن الأعمال لأن أكثرها بمباشرتها وبالأبصار عن المعارف لأنها أقوى مباديها وفيه تعريض بالبطلة الجهال أنهم كالزمنى والعماة

٤٦

{إنا أخلصناهم بخالصة} جعلناهم خالصين لنا بخصلة خالصة لا شوب فيها هي

{ذكرى الدار} تذكرهم الدار الآخرة دائما فإن خلوصهم في الطاعة بسببها وذلك لأن مطمح نظرهم فيما يأتون ويذرون جوار اللّه والفوز بلقائه وذلك في الآخرة وإطلاق الدار للبيان أو لأنه بمعنى الخلوص فأضيف إلى فاعله

٤٧

{وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} لمن المختارين من أمثالهم المصطفين عليهم في الخير جمع خير كشر وأشرار وقيل جمع خير أو خير على تخفيفه كأموات في جمع ميت أو ميت

٤٨

{واذكر إسمعيل واليسع} هو ابن أخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبىء واللام فيه كما في قوله رأيت الوليد بن اليزيد مباركا وقرأ حمزة والكسائي ولليسع تشبيها بالمنقول من ليسع من اللسع

{وذا الكفل} ابن عم يسع أو بشر بن أيوب واختلف في نبوته ولقبه فقيل فر إليه مائة نبي من بني إسرائيل من القتل فآواهم وكفلهم وقيل كفل بعمل رجل صالح كان يصلي كل يوم مائة صلاة

{وكل} أي وكلهم {من الأخبار}

٤٩

{هذا} إشارة إلى ما تقدم من أمورهم

{ذكر} شرف لهم أو نوع من الذكر وهو القرآن ثم شرع في بيان ما أعد لهم ولأمثالهم فقال

{وإن للمتقين لحسن مآب} مرجع

٥٠

{جنات عدن} عطف بيان {لحسن مآب} وهو من الأعلام الغالبة لقوله

{جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب} وانتصب عنها

{مفتحة لهم الأبواب} على الحال والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل وقرئتا مرفوعتين على الابتداء والخبر أو أنهما خبران لمحذوف

٥١

{متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب} حالان متعاقبان أو متداخلان من الضمير في لهم لا من المتقين للفصل والأظهر أن يدعون استئناف لبيان حالهم فيها ومتكئين حال من ضميره والاقتصار على الفاكهة للإشعار بان مطاعمهم لمحض التلذذ فإن التغذي للتحلل ولا تحلل ثمة

٥٢

{وعندهم قاصرات الطرف} لا ينظرون إلى غير أزواجهن {أتراب} لذات لهم فإن التحاب بين الأقرن ثبت أو بعضهن لبعض لا عجوز فيهن ولا صبية واشتقاقه من التراب فإنه يمسهن في وقت واحد

٥٣

{هذا ما توعدون ليوم الحساب} لآجاله فإن الحساب علة الوصول إلى الجزاء وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء ليوافق ما قبله

٥٤

{إن هذا لرزقنا ما له من نفاد} انقطاع هذا أي لأمر هذا أو هذا كما ذكر أو خذ

٥٥

{هذا وإن للطاغين لشر مآب}

٥٦

{جهنم} إعرابه ما سبق {يصلونها} حال من جهنم

{فبئس المهاد} المهد والمفترش مستعار من فراش النائم والمخصوص بالذم محذوف وهو جهنم لقوله لهم من جهنم مهادا

٥٧

{هذا فليذوقوه} أي ليذوقوا هذا فليذوقوه أو العذاب هذا فليذوقوه ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره

{حميم وغساق} وهو على الأولين خبر محذوف أي هو حميم والغساق ما يغسق من صديد أهل النار من غسقت العين إذا سال دمعها وقرأ حفص وحمزة والكسائي غساق بتشديد السين

٥٨

{وآخر} أي مذوق أو عذاب آخر وقرأ البصريان وأخرى أي ومذوقات أو أنواع عذاب أخر

{من شكله} من مثل هذا المذوق أو العذاب في الشدة وتوحيد الضمير على أنه لما ذكر أو للشراب الشامل للحميم والغساق أو للغساق وقرئ بالكسر وهو لغة

{أزواج} أجناس خبر ل آخر أو صفة له أو للثلاثة أو مرتفع بالجار والخبر محذوف مثل لهم

٥٩

{هذا فوج مقتحم معكم} حكاية ما يقال للرؤساء الطاغين إذا دخلوا النار واقتحمها معهم فوج تبعهم في الضلال والاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها

{لا مرحبا بهم} دعاء من المتبوعين على أتباعهم أو صفة ل فوج أو حال أي مقولا فيهم لا مرحبا أي ما أتوا بهم رحبا وسعة

{إنهم صالوا النار} داخلون النار بأعمالهم مثلنا

٦٠

{قالوا} أي الأتباع للرؤساء {بل أنتم لا مرحبا بكم} بل أنتم أحق بما قلتم أو قيل لنا لضلالكم وإضلالكم كما قالوا

{أنتم قدمتموه لنا} قدمتم العذاب أو الصلي لنا بإغوائنا وإغرائنا على ما قدمتموه من العقائد الزائغة والأعمال القبيحة

{فبئس القرار} فبئس المقر جهنم

٦١

{قالوا} أي الاتباع أيضا {ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار} مضاعفا أي ذا ضعف وذلك أن يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين كقوله {ربنا آتهم ضعفين من العذاب} [الاحزاب:٦٨]

٦٢

{وقالوا} أي الطاغوت

{ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار} يعنون فقرأء المسلمين الذين يسترذلون ويسخرون بهم

٦٣

{أتخذناهم سخريا} صفة أخرى ل رجالا وقرأ الحجازيان وابن عامر وعاصم بهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم وقرأ نافع وحمزة والكسائي سخريا بالضم وقد سبق مثله في المؤمنين

{أم زاغت} مالت {عنهم الأبصار} فلا نراهم أم معادلة ل

{ما لنا لا نرى} على أن المراد نفي رؤيتهم لغيبتهم كأنهم قالوا أليسوا ها هنا أم زاغت عنهم أبصارنا أو لاتخذناهم على القرأءة الثانية بمعنى أي الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم تحقيرهم فإن زيغ الأبصار كناية عنه على معنى إنكارهما على أنفسهم أو منقطعة والمراد الدلالة على أن استرذالهم والاستسخار منهم كان لزيغ أبصارهم وقصور أنظارهم على رثاثة حالهم

٦٤

{إن ذلك} الذي حكيناه عنهم

{لحق} لا بد أن يتكلموا به ثم بين ما هو فقال

{تخاصم أهل النار} وهو بدل من لحق أو خبر محذوف وقرئ بالنصب على البدل من ذلك

٦٥

{قل} يا محمد للمشركين {إنما أنا منذر} أنذركم عذاب اللّه

{وما من إله إلا اللّه الواحد} الذي لا يقبل الشركة والكثرة في ذاته

{القهار} لكل شيء يريد قهره

٦٦

{رب السموات والأرض وما بينهما} منه خلقها وإليه أمرها

{العزيز} الذي لا يغلب إذا عاقب

{الغفار} الذي يغفر ما يشاء من الذنوب لمن يشاء وفي هذه الأوصاف تقرير للتوحيد ووعد ووعيد للموحدين والمشركين وتثنية ما يشعر بالوعيد وتقديمه لأن المدعو به هو الإنذار

٦٧

{قل هو} أي ما أنبأتكم به من أني نذير من عقوبة من هذه صفته وأنه واحد في ألوهيته وقيل ما بعده من نبأ آدم

{نبأ عظيم}

٦٨

{أنتم عنه معرضون} لتمادي غفلتكم فإن العاقل لا يعرض عن مثله كيف وقد قامت عليه الحجج الواضحة أما على التوحيد فما مر وأما على النبوة فقوله

٦٩

{ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون} فإن إخباره عن تقاول الملائكة وما جرى بينهم على ما ورد في الكتب المتقدمة من غير سماع ومطالعة كتاب لا يتصور إلا بالوحي و إذ متعلق ب علم أو بمحذوف إذ التقرير من علم بكلام الملأ الأعلى

٧٠

{إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين} أي لأنما كأنه لما جوز أن الوحي يأتيه بين بذلك ما هو المقصود به تحقيقا لقوله

{إنما أنا منذر} ويجوز أن يرتفع بإسناد يوحى إليه وقرئ إنما بالكسر على الحكاية

٧١

{إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين} بدل من

{إذ يختصمون} مبين له فإن القصة التي دخلت إذ عليها مشتملة على تقاول الملائكة وإبليس في خلق آدم عليه السلام واستحقاقه للخلافة والسجود على ما مر في البقرة غير أنها اختصرت اكتفاء بذلك واقتصارا على ما هو المقصود منها وهو إنذار المشركين على استكبارهم على النبي صلى اللّه عليه وسلم بمثل ما حاق بإبليس على استكباره على آدم عليه السلام هذا ومن الجائز أن يكون مقاولة اللّه تعالى إياهم بواسطة ملك وأن يفسر الملأ الأعلى بما يعم اللّه تعالى والملائكة

٧٢

{فإذا سويته} عدلت خلقته {ونفخت فيه من روحي} وأحييته بنفخ الروح فيه وإضافته إلى نفسه وطهارته

{فقعوا له} فخروا له {ساجدين} تكرمة وتبجيلا له وقد مر من الكلام فيه في البقرة

٧٣

{فسجد الملائكة كلهم أجمعون}

٧٤

{إلا إبليس استكبر} تعظم {وكان} وصار

{من الكافرين} باستنكاره أمر اللّه تعالى واستكباره عن المطاوعة أو كان منهم في علم اللّه تعالى

٧٥

{قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} خلقته بنفسي من غير توسط كأب وأم والتثنية لما في خلقه من مزيد القدرة واختلاف الفعل وقرئ على التوحيد وترتيب الإنكار عليه للإشعار بأنه المستدعي للتعظيم أو بأنه الذي تشبث به في تركه وهو لا يصلح مانعا إذ للسيد أن يستخدم بعض عبيده لبعض سيما وله مزيد اختصاص

{أستكبرت أم كنت من العالين} تكبرت من غير استحقاق أو كنت ممن علا واستحق التفوق وقيل استكبرت الآن أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين وقرئ استكبرت بحذف الهمزة لدلالة أم عليها أو بمعنى الإخبار

٧٦

{قال أنا خير منه} إبداء للمانع وقوله

{خلقتني من نار وخلقته من طين} دليل عليه وقد سبق الكلام فيه

٧٧

{قال فاخرج منها} من الجنة أو من السماء أو من الصورة الملكية {فإنك رجيم} مطرود من الرحمة ومحل الكرامة

٧٨

{وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين}

٧٩

{قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون}

٨٠

{قال فإنك من المنظرين}

٨١

{إلى يوم الوقت المعلوم} مر بيانه في الحجر

٨٢

{قال فبعزتك} فبسلطانك وقهرك

{لأغوينهم أجمعين}

٨٣

{إلا عبادك منهم المخلصين} الذين أخلصهم اللّه لطاعته وعصمهم من الضلالة أو أخلصوا قلوبهم للّه على اختلاف القرأءتين

٨٤

{قال فالحق والحق أقول} أي فأحق الحق وأقوله وقيل الحق الأول اسم اللّه نصبه بحذف حرف القسم كقوله

إن عليك اللّه أن تبايعا

وجوابه:

٨٥

{لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} وما بينهما اعتراض وهو على الأول جواب محذوف والجملة تفسير ل الحق المقول وقرأ عاصم وحمزة برفع الأول على الابتداء أي الحق يميني أو قسمي أو الخبر أي أنا الحق وقرئا مرفوعين على حذف الضمير من أقول كقوله كله لم أصنع ومجرورين على إضمار حرف القسم في الأول وحكاية لفظ المقسم به في الثاني للتأكيد وهو سائغ فيه إذا شارك الأول وبرفع الأول وجره ونصب الثاني وتخريجه على ما ذكرناه والضمير في منهم للناس إذ الكلام فيهم والمراد بمنك من جنسك ليتناول الشياطين وقيل للثقلين وأجمعين تأكيد له أو للضميرين

٨٦

{قل ما أسألكم عليه من أجر} أي على القرآن أو تبليغ الوحي {وما أنا من المتكلفين} المتصفين بما ليسوا من أهله على ما عرفتم من حالي فأنتحل النبوة وأتقول القرآن

٨٧

{إن هو إلا ذكر} عظة {للعالمين} للثقلين

٨٨

{ولتعلمن نبأه} وهو ما فيه من الوعد والوعيد أو صدقه بإتيان ذلك

{بعد حين} بعد الموت أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وفيه تهديد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم:

من قرأ سورة ص كان له بوزن كل جبل سخره اللّه لداود عشر حسنات وعصمه اللّه أن يصر على ذنب صغير أو كبير

﴿ ٠