تفسير البيضاوي: أنوار التنزيل و أسرار التأويل أبو سعيد عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي

البيضاوي الشيرازي الفارسي، ناصر الدين، القاضي الشافعي (ت ٦٨٥ هـ ١٢٨٦ م)

_________________________________

سورة الشورى

سورة الشورى مكية وهي ثلاث وخمسون آية وتسمى سورة الشورى بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{حم}

٢

{عسق} لعله اسمان للسورة ولذلك فصل بينهما وعدا آيتين وإن كانا اسما واحدا فالفصل ليطابق سائر الحواميم وقرىء حم سق

٣

{كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك اللّه العزيز الحكيم} أي مثل ما في هذه السورة من المعاني أو إيحاء مثل إيحائها أوحى اللّه إليك وإلى الرسل من قبلك وإنما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية للدلالة على استمرار الوحي وأن إيحاء مثله عادته وقرأ ابن كثير يوحى بالفتح على أن كذلك مبتدأ ويوحى خبره المسند إلى ضميره أو مصدر و يوحى مسند إلى إليك و اللّه مرتفع بما دل عليه يوحى و

{العزيز الحكيم} صفتان له مقررتان لعلو شأن الموحى به كما مر في السورة السابقة أو بالابتداء كما في قرأءة نوحي بالنون و العزيز وما بعده أخبار أو

{العزيز الحكيم} صفتان وقوله

٤

 {له ما في السموات وما في الأرض وهو العلي العظيم} خبران له وعلى الوجوه الأخر استئناف مقرر لعزته وحكمته

٥

{تكاد السموات} وقرأ نافع والكسائي بالياء

{يتفطرن} يتشققن من عظمة اللّه وقيل من ادعاء الولد له وقرأ البصريان وأبو بكر ينفطرن بالنون والأول أبلغ لأنه مطاوع فطر وهذا مطاوع فطر وقرىء تتفطرن بالتاء لتأكيد التأنيث وهو نادر

{من فوقهن} أي يبتدىء الانفطار من جهتهن الفوقانية وتخصيصها على الأول لأن أعظم الآيات وأدلها على علو شأنه من تلك الجهة وعلى الثاني ليدل على الانفطار من تحتهن بالطريق الأولى وقيل الضمير للأرض فإن المراد بها الجنس

{والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض} بالسعي فيما يستدعي مغفرتهم من الشفاعة والإلهام وإعداد الأسباب المقربة إلى الطاعة وذلك في الجملة يعم المؤمن والكافر بل لو فسر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقع عم الحيوان بل الجماد وحيث خص بالمؤمنين فالمراد به الشفاعة

{ألا إن اللّه هو الغفور الرحيم} إذ ما من مخلوق إلا وهو ذو حظ من رحمته والآية على الأول زيادة تقرير لعظمته وعلى الثاني دلالة على تقدسه عما نسب إليه وإن عدم معاجلتهم بالعقاب على تلك الكلمة الشنعاء باستغفار الملائكة وفرط غفران اللّه ورحمته

٦

{والذين اتخذوا من دونه أولياء} شركاء وأندادا

{اللّه حفيظ عليهم} رقيب على أحوالهم وأعمالهم فيجازيهم بها

{وما أنت} يا محمد {عليهم بوكيل} بموكل بهم أو بموكول إليك أمرهم

٧

{وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا} الإشارة إلى مصدر يوحي أو إلى معنى الآية المتقدمة فإنه مكرر في القرآن في مواضع جمة فتكون الكاف مفعولا به و

{قرآنا عربيا} حال منه {لتنذر أم القرى} أهل أم القرى وهي مكة شرفها اللّه تعالى

{ومن حولها} من العرب {وتنذر يوم الجمع} يوم القيامة يجمع فيه الخلائق أو الأرواح أو الأشباح أو العمال والأعمال وحذف ثاني مفعول الأول وأول مفعولي الثاني للتهويل وإبهام التعميم وقرىء لينذر بالياء والفعل للقرآن

{لا ريب فيه} اعتراض لا محل له من الإعراب

{فريق في الجنة وفريق في السعير} أي بعد جمعهم في الموقف يجمعون أولا ثم يفرقون والتقدير منهم فريق والضمير للمجموعين لدلالة الجمع عليه وقرئا منصوبين على الحال منهم أي وتنذر يوم جمعهم متفرقين بمعنى مشارفين للتفرق أو متفرقين في داري الثواب والعقاب

٨

{ولو شاء اللّه لجعلهم أمة واحدة} مهتدين أو ضالين

{ولكن يدخل من يشاء في رحمته} بالهداية والحمل على الطاعة

{والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير} أي يدعهم بغير ولي ولا نصير في عذابه ولعل تغيير المقابلة للمبالغة في الوعيد إذ الكلام في الإنذار

٩

{أم اتخذوا} بل اتخذوا {من دونه أولياء} كالأصنام

{فاللّه هو الولي} جواب لشرط محذوف مثل إن أرادوا أولياء بحق فاللّه هو الولي بالحق

{وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير} كالتقرير لكونه حقيقا بالولاية

١٠

{وما اختلفتم} أنتم والكفار {فيه من شيء} من أمر من أمور الدنيا أو الدين

{فحكمه إلى اللّه} مفوض إليه يميزالمحق من المبطل بالنصر أو بالإثابة والمعاقبة وقيل

{وما اختلفتم فيه} من تأويل متشابه فارجعوا فيه إلى المحكم من كتاب اللّه

{ذلكم اللّه ربي عليه توكلت} في مجامع الأمور

{وإليه أنيب} إليه أرجع في المعضلات

١١

{فاطر السموات والأرض} خبر آخر ل ذلكم أو مبتدأ خبره

{جعل لكم} وقرىء بالجر على البدل من الضمير أو الوصف لإلى اللّه

{من أنفسكم} من جنسكم أزواجا نساء

{ومن الأنعام أزواجا} أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجا أو خلق لكم من الأنعام أصنافا أو ذكورا وأناثا

{يذرؤكم} يكثركم من الذرء وهو البث وفي معناه الذر والذرو والضمير على الأول للناس و الأنعام على تغليب المخاطبين العقلاء فيه في هذا التدبير وهو جعل الناس والأنعام أزواجا يكون بينهم توالد فإنه كالمنبع للبث والتكثير

{ليس كمثله شيء} أي ليس مثله شيء يزاوجه ويناسبه والمراد من مثله ذاته كما في قولهم مثلك لا يفعل كذا على قصد المبالغة في نفيه عنه فإنه إذا نفى عمن يناسبه ويسد مسده كان نفيه عنه أولى ونظيره قول رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب ألا وفيهم الطيب الطاهر لذاتهومن قال الكاف فيه زائدة لعله عني أنه يعطى معنى ليس مثله غير أنه آكد لما ذكرناهوقيل مثله صفته أي ليس كصفته صفة

{وهو السميع البصير} لكل ما يسمع و يبصر

١٢

{له مقاليد السموات والأرض} خزائنها

{يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} يوسع ويضيق على وقف مشيئته

{إنه بكل شيء عليم} فيفعله على ما ينبغي

١٣

{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى} أي شرع لكم من الدين دين نوح ومحمد عليهما الصلاة والسلام ومن بينهما من أرباب الشرائع وهو الأصل المشترك فيما بينهم المفسر بقوله

{أن أقيموا الدين} وهو الإيمان بما يجب تصديقه والطاعة في أحكام اللّه ومحله النصب على البدل من مفعول شرع أو الرفع على الاستئناف كأنه جواب وما ذلك المشروع أو الجر على البدل من هاء به

{ولا تتفرقوا فيه} ولا تختلفوا في هذا الأصل أما فروع الشرائع فمختلفة كما قال {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا} [المائدة:٤٨]

{كبر على المشركين} عظم عليهم {ما تدعوهم إليه} من التوحيد

{اللّه يجتبي إليه من يشاء} يجتلب إليه والضمير لما تدعوهم أو للدين

{ويهدي إليه} بالإشارة والتوفيق {من ينيب} يقبل إليه

١٤

{وما تفرقوا} يعني الأمم السالفة وقيل أهل الكتاب لقوله {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب} [البيّنة:٤]

{إلا من بعد ما جاءهم} من {العلم} العلم أن التفرق ضلال متوعد عليه أو العلم بمبعث الرسل عليهم الصلاة والسلام أو أسباب العلم من الرسل والكتب وغيرهما فلم يلتفتوا إليها

{بغيا بينهم} عداوة أو طلبا للدنيا

{ولولا كلمة سبقت من ربك} بالإمهال

{إلى أجل مسمى} هو يوم القيامة أو آخر أعمارهم المقدرة

{لقضي بينهم} باستئصال المبطلين حين اقترفوا لعظم ما اقترفوا

{وإن الذين أورثو الكتاب من بعدهم} يعني أهل الكتاب الذين كانوا في عهد الرسول صلى اللّه عليه وسلم أو المشركين الذين أورثوا القرآن من بعد أهل الكتاب وقرىء ورثوا و ورثوا

{لفي شك منه} من كتابهم لا يعلمونه كما هو أو لا يؤمنون به حق الإيمان أو من القرآن

{مريب} مقلق أو مدخل في الريبة

١٥

{فلذلك} فلأجل ذلك التفرق أو الكتاب أو العلم الذي أوتيته

{فادع} إلى الاتفاق على الملة الحنفية أو الاتباع لما أوتيت وعلى هذا يجوز أن تكون اللام في موضع إلى لإفادة الصلة والتعليل

{واستقم كما أمرت} واستقم على الدعوة كما أمرك اللّه تعالى

{ولا تتبع أهواءهم} الباطلة

{وقل آمنت بما أنزل اللّه من كتاب} يعني جميع الكتب المنزلة لا كالكفار الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض

{وأمرت لأعدل بينكم} في تبليغ الشرائع والحكومات والأول إشارة إلى كمال القوة النظرية وهذا إشارة إلى كمال القوة العملية

{اللّه ربنا وربكم} خالق الكل ومتولي إمره

{لنا أعمالنا ولكم أعمالكم} وكل مجازى بعمله

{لا حجة بيننا وبينكم} لا حجاج بمعنى لا خصومة إذ الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة مجال ولا للخلاف مبدأ سوى العناد

{اللّه يجمع بيننا} يوم القيامة

{وإليه المصير} مرجع الكل لفصل القضاء وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأسا حتى تكون منسوخة بآية القتال

١٦

{والذبن يحاجون في اللّه} في دينه

{من بعد ما استجيب له} من بعد ما استجاب له الناس ودخلوا فيه أو من بعد ما استجاب اللّه لرسوله فأظهر دينه بنصرة يوم بدر أو من بعد ما استجاب له أهل الكتاب بأن أقروا بنبوته واستفتحوا به

{حجتهم داحضة عند ربهم} زائلة باطلة

{وعليهم غضب} لمعاندتهم {ولهم عذاب شديد} على كفرهم

١٧

{اللّه الذي أنزل الكتاب} جنس الكتاب

{بالحق} ملتبسا بعيدا من الباطل أو بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام

{والميزان} والشرع الذي توزن به الحقوق ويسوي بين الناس أو العدل بأن أنزل الأمر به أو آلة الوزن بأن أوحى بإعدادها

{وما يدريك لعل الساعة قريب} إتيانها فاتبع الكتاب واعمل بالشرع وواظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه أعمالك وتوفى جزاءك وقيل تذكير القريب لأنه بمعنى ذات قرب أو لأن الساعة بمعنى البعث

١٨

{يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها} استهزاء

{والذين آمنوا مشفقون منها} خائفون منها مع اغتيابها لتوقع الثواب

{ويعلمون أنها الحق} أي الكائن لا محالة

{إلا إن الذين يمارون في الساعة} يجادلون فيها من المرية أو من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لأن كلا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة

{لفي ضلال بعيد} عن الحق فإن البعث أشبه الغائبات إلى المحسوسات فمن لم يهتد لتجويزه فهو أبعد عن الاهتداء إلى ما وراءه

١٩

{اللّه لطيف بعباده} بر بهم بصنوف من البر لا تبلغها الأفهام

{يرزق من يشاء} أي يرزقه كما يشاء فيخص كلا من عباده بنوع من البر على ما اقتضته حكمته

{وهو القوي} الباهر القدرة {العزيز} المنيع الذي لا يغلب

٢٠

{من كان يريد حرث الآخرة} ثوابها شبهه بالزرع من حيث أنه فائدة تحصل بعمل ولذلك قيل الدنيا مزرعة الآخرة والحرث في الأصل إلقاء البذرفي الأرض ويقال للزرع الحاصل منه

{نزد له في حرثه} فنعطه بالواحد عشرا إلى سبعمائة فما فوقها

{ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها} شيئا منها على ما قسمنا له

{وما له في الآخرة من نصيب} إذ الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى

٢١

{أم لهم شركاء} بل ألهم شركاء والهمزة للتقرير والتقريع وشركاؤهم شياطينهم

{شرعوا لهم} بالتزيين {من الدين ما لم يأذن به اللّه} كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا وقيل شركاؤهم أوثانهم وإضافتها إليهم لأنهم متخذوها شركاء وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم بما تدينوا به أو صور من سنة لهم

{ولولا كلمة الفصل} أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء أو العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة

{لقضي بينهم} بين الكافرين والمؤمنين أو المشركين وشركائهم

{وإن الظالمين لهم عذاب أليم} وقرىء أن بالفتح عطفا على كلمة الفصل أي

{ولولا كلمة الفصل} وتقدير عذاب الظالمين في الآخرة لقضي بينهم في الدنيا فإن العذاب الأليم غالب في عذاب الآخرة

٢٢

{ترى الظالمين} في القيامة مشفقين خائفين

{مما كسبوا} من السيئات

{وهو واقع بهم} أي وباله لاحق بهم أشفقوا أو لم يشفقوا

{والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات} في أطيب بقاعها وأنزهها

{لهم ما يشاءون عند ربهم} أي ما يشتهونه ثابت لهم عند ربهم ذلك إشارة إلى المؤمنين

{هو الفضل الكبير} الذي يصغر دونه ما لغيرهم في الدنيا

٢٣

{ذلك الذي يبشر اللّه عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ذلك الثواب الذي يبشرهم اللّه به فحذف الجار ثم العائد أو ذلك التبشير الذي يبشره اللّه عباده وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي يبشر من بشره وقرىء يبشر من أبشره

{قل لا أسئلكم عليه} على ما أتعاطاه من التبليغ والبشارة

{أجرا} نفعا منكم {إلا المودة في القربى} أي تودوني لقرابتي منكم أو تودوا قرابتي وقيل الاستثناء منقطع والمعنى لا أسألكم أجرا قط ولكني أسالكم المودة و

{في القربى} حال منها أي {إلا المودة} ثابتة في ذوي القربى متمكنة في أهلها أو في حق القرابة ومن أجلها كما جاء في الحديث الحب في اللّه والبغض في اللّه روي أنها لما نزلت قيل يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم علينا قال علي وفاطمة وابناهما وقيل القربى التقرب إلى اللّه أي إلا تودوا اللّه ورسوله في تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح وقرىء إلا مودة في القربى

{ومن يقترف حسنة} ومن يكتسب طاعة سيما حب آل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقيل نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللّه تعالى عنه ومودته لهم

{نزد له فيها حسنا} في الحسنة بمضاعفة الثواب وقرىء يزد أي يزد اللّه وحسنى

{إن اللّه غفور} لمن أذنب

{شكور} لمن أطاع بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة

٢٤

{أم يقولون} بل أيقولون

{افترى على اللّه كذبا} افترى محمد بدعوى النبوة أو القرآن

{فإن يشإ اللّه يختم على قلبك} استبعاد للافتراء عن مثله بالإشعار على أنه إنما يجترىء عليه من كان مختوما على قلبه جاهلا بربه فأما من كان ذا بصيرة ومعرفة فلا وكأنه قال إن يشأ اللّه خذلانك يختم على قلبك لتجترىء بالافتراء عليه وقيل يختم على قلبك يمسك القرآن أو الوحي عنه أو يربط عليه بالصبر فلا يشق عليك أذاهم

{ويمح اللّه الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور} استئناف لنفي الافتراء عما يقوله بأنه لو كان مفترى لمحقه إذ من عادته تعالى محو الباطل وإثبات الحق بوحيه أو بقضائه أو بوعده بمحو باطلهم وإثبات حقه بالقرآن أو بقضائه الذي لا مرد له وسقوط الواو من يمح في بعض المصاحف لاتباع اللفظ كما في قوله تعالى {ويدع الإنسان بالشر} [الاسراء:١١]

٢٥

{وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} بالتجاوز عما تابوا عنه والقبول يعدى إلى مفعول ثان بمن وعن لتضمنه معنى الأخذ والإبانة وقد عرفت حقيقة التوبة وعن علي رضي اللّه تعالى عنه هي اسم يقع على ستة معان على الماضي من الذنوب الندامة ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته

{ويعفوا عن السيئات} صغيرها وكبيرها لمن يشاء

{ويعلم ما يفعلون} فيجازي ويتجاوز عن إتقان وحكمة وقرأ الكوفيون غير أبي بكر ما تفعلون بالتاء

٢٦

{ويستجب الذين آمنوا وعلموا الصالحات} أي يستجيب اللّه لهم فحذف اللام كما حذف في

{وإذا كالوهم} والمراد إجابة الدعاء أو الإثابة على الطاعة فإنها كدعاء وطلب لما يترتب عليها ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم أفضل الدعاء الحمد للّه أو يستجيبون للّه بالطاعة إذا دعاهم إليها

{ويزيدهم من فضله} على ما سألوا واستحقوا واستوجبوا له بالاستجابة

{والكافرون لهم عذاب شديد} بدل ما للمؤمنين من الثواب والتفضل

٢٧

{ولو بسط اللّه الرزق لعباده لبغوا في الأرض} لتكبروا وأفسدوا فيها بطرا أو لبغى بعضهم على بعض استيلاء واستعلاء وهذا على الغالب وأصل البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى كمية أو كيفية

{ولكن ينزل بقدر} بتقدير {ما يشاء} كما اقتضته مشيئته

{إنه بعباده خبير بصير} يعلم خفايا أمرهم وجلايا حالهم فيقدر لهم ما يناسب شأنهم روي أن أهل الصفة تمنوا الغنى فنزلت وقيل في العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا وإذا أجدبوا انتجعوا

٢٨

{وهو الذي ينزل الغيث} المطر الذي يغيثهم من الجدب ولذلك خص بالنافع وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ينزل بالتشديد

{من بعد ما قنطوا} أيسوا منه وقرئ بكسر النون

{وينشر رحمته} في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان

{وهو الولي} الذي يتولى عباده بإحسانه ونشر رحمته {الحميد} المستحق للحمد على ذلك

٢٩

{ومن آياته خلق السموات والأرض} فإنها بذاتها وصفاتها تدل على وجود صانع قادر حكيم

{وما بث فيهما} عطف على السموات أو ال خلق

{من دابة} من حي على إطلاق اسم المسبب على السبب أو مما يدب على الأرض وما يكون في أحد الشيئين يصدق أن فيها في الجملة

{وهو على جمعهم إذا يشاء} أي في أي وقت يشاء

{قدير} متمكن منه و إذا كما ادخل على الماضي تدخل على المضارع

٣٠

{وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} فبسبب معاصيكم والفاء لأن ما شرطية أو متضمنة معناه ولم يذكرها نافع وابن عامر استغناء بما في الباء من معنى السببية

{ويعفوا عن كثير} من الذنوب فلا يعاقب عليها والآية مخصوصة بالمجرمين فإن ما أصاب غيرهم فلأسباب أخر منها تعرضه للأجر العظيم بالصبر عليه

٣١

{وما أنتم بمعجزين في الأرض} فائتين ما قضى عليكم من المصائب

{وما لكم من دون اللّه من ولي} يحرصكم عنها

{ولا نصير} يدفعها عنكم

٣٢

{ومن آياته الجوار} السفن الجارية

{في البحر كالأعلام} كالجبال قالت الخنساء وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار

٣٣

{إن يشأ يسكن الريح} وقرئ الرياح

{فيظللن رواكد على ظهره} فيبقين ثوابت على ظهر البحر

{إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} لكل من كل همته وحبس نفسه على النظر في آيات اللّه والتفكر في آلائه أو لكل مؤمن كامل الإيمان فإن الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر

٣٤

{أو يوبقهن} أو يهلكهن بإرسال الريح العاصفة المغرقة والمراد إهلاك أهلها لقوله تعالى

{بما كسبوا} وأصله أو يرسلها فيوبقهن لأنه قسيم يسكن فاقتصر فيه على المقصود كما في قوله تعالى

{ويعف عن كثير} إذ المعنى أو يرسلها فيوبق ناسا بذنوبهم وينج ناسا على العفو منهم وقرئ ويعفو على الاستئناف

٣٥

{ويعلم الذين يجادلون في آياتنا} عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم ويعلم أو على الجزاء ونصب نصب الواقع جوابا للأشياء الستة لأنه أيضا غير واجب وقرأ نافع وابن عامر بالرفع على الاستئناف وقرئ بالجزم عطفا على يعف فيكون المعنى ويجمع بين إهلاك قوم وإنجاء قوم وتحذير آخرين

{ما لهم من محيص} محيد من العذاب والجملة معلق عنها الفعل

٣٦

{فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا} تمتعون به مدة حياتكم

{وما عند اللّه} من ثواب الآخرة

{خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} لخلوص نفعه ودوامه و ما الأولى موصولة تضمنت معنى الشرط من حيث أن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع بها في الحياة الدنيا فجاءت الفاء في جوابها بخلاف الثانية وعن علي رضي اللّه تعالى عنه تصدق أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه بماله كله فلامه جمع فنزلت

٣٧

{والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون} والذين بما بعده عطف على

{للذين آمنوا} أو مدح منصوب أو مرفوع وبناء يغفرون على ضميرهم خبرا للدلالة على أنهم الأخصاء بالمغفرة حال الغضب وقرأ حمزة والكسائي كبير الإثم

٣٨

{والذين استجابوا لربهم} نزلت في الأنصار دعاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الإيمان فاستجابوا له

{وأقاموا الصلوة وأمرهم شورى بينهم} ذو شورى بينهم لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا ويجتمعوا عليه وذلك من فرط تدبرهم وتيقظهم في الأمور وهي مصدر كالفتيا بمعنى التشاور

{ومما رزقناهم ينفقون} في سبيل اللّه الخير

٣٩

{والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} على ما جعله اللّه لهم كراهة التذلل وهو وصفهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر أمهات الفضائل وهو لا يخالف وصفهم بالغفران فإنه ينبئ عن عجز المغفور والانتصار عن مقاومة الخصم والحلم عن العاجز محمود وعن المتغلب مذموم لأنه إجراء وإغراء على البغي ثم عقب وصفهم بالانتصار للمنع عن التعدي

٤٠

{وجزاء سيئة سئية بمثلها} وسمي الثانية سيئة للازدواج أو لأنها تسوء من تنزل به

{فمن عفى وأصلح} بينه وبين عدوه

{فأجره على اللّه} عدة مبهمة تدل على عظم الموعود

{إنه لا يحب الظالمين} المبتدئين بالسيئة والمتجاوزين في الانتقام

٤١

{ولمن انتصر بعد ظلمه} بعد ما ظلم وقد قرىء به

{فأولئك ما عليهم من سبيل} بالمعاتبة والمعاقبة

٤٢

{إنما السبي على الذين يظلمون الناس} يبتدئونهم بالإضرار ويطلبون ما لا يستحقونه تجبرا عليهم

{ويبتغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم} على ظلمهم وبغيهم

٤٣

{ولمن صبر} على الأذى {وغفر} ولم ينتصر

{إن ذلك لمن عزم الأمور} أي إن ذلك منه فحذف كما حذف في قولهم السمن منوان بدرهم للعلم به

٤٤

{ومن يضلل اللّه فما له من ولي من بعده} من ناصر يتولاه من بعد خذلان اللّه إياه

{وترى الظالمين لما رأوا العذاب} حين يرونه فذكر بلفظ الماضي تحقيقا

{يقولون هل إلى مرد من سبيل} هل إلى رجعة إلى الدنيا

٤٥

{وتراهم يعرضون عليها} على النار ويدل عليه العذاب

{خاشعين من الذل} متذللين متقاصرين مما يلحقهم من الذل

{ينظرون من طرف خفي} أيبتدىء نظرهم إلى النار مع تحريك لأجفانهم ضعيف كالمصبور ينظر إلى السيف

{وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم} بالتعريض للعذاب المخلد

{يوم القيامة} ظرف ل خسروا والقول في الدنيا أو لقال أي يقولون إذا رأوهم على تلك الحال

{ألا إن الظالمين في عذاب مقيم} تمام كلامهم أو تصديق من اللّه لهم

٤٦

{وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون اللّه ومن يضلل اللّه فما له من سبيل} إلى الهدى أو النجاة

٤٧

{استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من اللّه} لا يرده اللّه بعدما حكم به و من صلة ل مرد وقيل صلة يأتي أي من قبل أن ياتي يوم من اللّه لا يمكن رده

{ما لكم من ملجأ} مفر {يومئذ وما لكم من نكير} إنكار لما اقترفتموه لأنه مدون في صحائف أعمالكم تشهد عليه ألسنتكم وجوارحكم

٤٨

{فإن أعرضوافما أرسلناك عليهم حفيظا} رقيبا أو محاسبا

{إن عليك إلا البلاغ} وقد بلغت

{وإنا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها} أراد بالإنسان الجنس لقوله

{وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور} بليغ الكفران ينسى النعمة رأسا ويذكر البلية ويعظمها ولا يتأمل سببها وهذا وإن اختص بالمجرمين جاز إسناده إلى الجنس لغلبتهم واندراجهم فيه وتصدير الشرطية الأولى ب إذا والثانية ب إن لأن إذاقة النعمة محققة من حيث أنها عادة مقتضاة بالذات بخلاف إصابة البلية وإقامة علة الجزاء مقامه ووضع الظاهر موضع المضمر في الثانية للدلالة على أن هذا الجنس مرسوم بكفران النعمة

٤٩

{للّه ملك السموات والأرض} فله أن يقسم النعمة والبلية كيف يشاء

{يخلق ما يشاء} من غير لزوم ومجال اعتراض

{يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور}

٥٠

{أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما} بدل من يخلق بدل البعض والمعنى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة فيهب لبعض إما صنفا واحدا من ذكر أو أنثى أو الصنفين جميعا ويعقم آخرين ولعل تقديم الإناث أكثر لتكثير النسل أو لأن مساق الآية للدلالة على أن الواقع ما يتعلق به مشيئة اللّه لا مشيئة الإنسان والإناث كذلك أو لأن الكلام في البلاء والعرب تعدهن بلاء أو لتطييب قلوب آبائهن أو للمحافظة على الفواصل ولذلك عرف الذكور أو لجبر التأخير وتغيير العاطف في الثلث لأنه قسيم المشترك بين القسمين ولم يحتج إليه الرابع لا فصاحة بأنه قسيم المشترك بين الأقسام المتقدمة

{إنه عليم قدير} فيفعل ما يفعل بحكمه واختيار

٥١

{وما كان لبشر} وما صح له

{أن يكلمه اللّه إلا وحيا} كلاما خفيا يدرك لأنه بسرعة تمثيل ليس في ذاته مركبا من حروف مقطعة تتوقف على تموجات متعاقبة وهو ما يعم المشافه به كما روي في حديث المعراج وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف به كما اتفق لموسى في طوى والطور ولكن عطف قوله

{أو من وراء حجاب} عليه يخصه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها وقيل المراد به الإلهام والإلقاء في الروع أو الوحي المنزل به الملك إلى الرسل فيكون المراد بقوله

{أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} أو يرسل إليه نبيا فيبلغ وحيه كما أمره وعلى الأول المراد بالرسول الملك الموحي إلى الرسل ووحيا بما عطف عليه منتصب بالمصدر لأن

{من وراء حجاب} ظرفا وقعت أحوالا وقرأ نافع {أو يرسل} برفع اللام

{إنه علي} عن صفات المخلوقين

{حكيم} يفعل ما تقتضيه حكمته فيكلم تارة بوسط وتارة بغير وسط إما عيانا وإما من وراء حجاب

٥٢

{وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} يعني ما أوحي إليه وسماه روحا لأن القلوب تحيا به وقيل جبريل والمعنى أرسلناه إليك بالوحي

{ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} أي قبل الوحي وهو دليل على أنه لم يكن متعبدا قبل النبوة بشرع وقيل المراد هو الإيمان بما لا طريق إليه إلا السمع

{ولكن جعلناه} أي الروح أو الكتاب أو الإيمان

{نورا نهدي به من نشاء من عبادنا} بالتوفيق للقبول والنظر فيه

{وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} هو الإسلام وقرىء لتهدي أي ليهديك اللّه

٥٣

{صراط اللّه} بدل من الأول الذي له ما في السموات و ما في الأرض خلقا وملكا

{ألا إلى اللّه تصير الأمور} بارتفاع الوسائط والتعلقات وفيه وعد ووعيد للمطيعين والمجرمين عن النبي صلى اللّه عليه وسلم:

من قرأ حم عسق كان ممن تصلي عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له

﴿ ٠