تفسير البيضاوي: أنوار التنزيل و أسرار التأويل أبو سعيد عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشيرازي الفارسي، ناصر الدين، القاضي الشافعي (ت ٦٨٥ هـ ١٢٨٦ م) _________________________________ سورة الدخان سورة الدخان إلا قوله تعالى {إنا كاشفوا العذاب} الآية وهي سبع أو تسع وخمسون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم _________________________________ {حم} ٢ {والكتاب المبين} القرآن والواو للعطف إن كان حم مقسما به وإلا فللقسم والجواب قوله ٣ {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} ليلة القدر أو البراءة ابتدىء فيها إنزاله أو أنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا من اللوح المحفوظ ثم أنزل على الرسول صلى اللّه عليه وسلم نجوما وبركتها لذلك فإن نزول القرآن سبب للمنافع الدينية والدنيوية أو لما فيها من نزول الملائكة والرحمة وإجابة الدعوة وقسم النعمة وفصل الأقضية {إنا كنا منذرين} استئناف يبين المقتضى للإنزال وكذلك قوله ٤ {فيها يفرق كل أمر حكيم} فإن كونها مفرق الأمور المحكمة أو الملتبسة بالحكمة يستدعي أن ينزل فيها القرآن الذي هو من عظائمها ويجوز أن يكون صفة {ليلة مباركة} وما بينهما اعتراض وهو يدل على أن الليلة ليلة القدر لأنه صفتها لقوله {تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر} وقرىء يفرق بالتشديد و يفرق في كل أمر يفرقه اللّه ونفرق بالنون أمر من عندنا أي أعني بهذا الأمر ٥ {أمرا} حاصلا {من عندنا} على مقتضى حكمتنا وهو مزيد تفخيم للأمر ويجوز أن يكون حالا من كل أوامر أو ضميره المستكن في حكيم لأنه موصوف وأن يكون المراد به مقابل النهي وقع مصدرا لـ يفرق أو لفعله مضمرا من حيث أن الفرق به أو حالا من أحد ضميري أنزلناه بمعنى آمرين أو مأمورا {إنا كنا مرسلين} ٦ {رحمة من ربك} بدل من {إنا كنا منذرين} أي أنزلنا القرآن لأن من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى العباد لأجل الرحمة عليهم وضع الرب موضع الضمير للإشعار بأن الربوبية اقتضت ذلك فإنه أعظم أنواع التربية أو علة ب يفرق أو أمرا و رحمة مفعول به أي يفصل فيها كل أمر أو تصدر الأوامر {من عندنا} لأن من شأننا أن نرسل رحمتنا فإن فصل كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها وصدور الأوامر الإلهية من باب الرحمة وقرئ رحمة على تلك رحمة {إنه هو السميع العليم} يسمع أقوال العباد ويعلم أحوالهم وهو بما بعده تحقيق لربوبيته فإنها لا تحق إلا لمن هذه صفاته ٧ {رب السموات والأرض وما بينهما} خبر آخر أو استئناف وقرأ الكوفيون بالجر بدلا {من ربك} {إن كنتم موقنين} أي إن كنتم من أهل الإيقان في العلوم أو كنتم موقنين في إقراركم إذا سئلتم من خلقها فقلتم اللّه علمتم أن الأمر كما قلنا أو إن كنتم مريدين اليقين فاعلموا ذلك ٨ {لا إله إلا هو} إذ لا خالق سواه {يحيي ويميت} كما تشاهدون {ربكم ورب آبائكم الأولين} وقرئا بالجر بدلا {من ربك} ٩ {بل هم في شك يلعبون} رد لكونهم موقنين ١٠ {فارتقب} فانتظر لهم {يوم تأتي السماء بدخان مبين} يوم شدة ومجاعة فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان من ضعف بصره أو لأن الهواء يظلم عام القحط لقلة الأمطار وكثرة الغبار أو لأن العرب تسمي الشر الغالب دخانا وقد قحطوا حتى أكلوا جيف الكلاب وعظامها وإسناد الإتيان إلى السماء لأن ذلك يكفه عن الأمطار أو يوم ظهور الدخان المعدود في أشراط الساعة لما روي أنه صلى اللّه عليه وسلم لما قال أول الآيات الدخان ونزول عيسى عليه السلام ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر قيل وما الدخان فتلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الآية وقال يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكام وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره أو يوم القيامة والدخان يحتمل المعنيين ١١ {يغشى الناس} يحيط بهم صفة للدخان وقوله {هذا عذاب أليم} ١٢ {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} مقدر بقول وقع حالا و {إنا مؤمنون} وعد بالإيمان إن كشف العذاب عنهم ١٣ {أنى لهم الذكرى} من أين لهم وكيف يتذكرون بهذه الحالة {وقد جاءهم رسول مبين} بين لهم ما هو أعظم منها في إيجاب الادكار من الآيات والمعجزات ١٤ {ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون} أي قال بعضهم يعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف وقال آخرون إنه مجنون ١٥ {إنا كاشفوا العذاب} بدعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم فإنه لما دعا رفع القحط قليلا كشفا قليلا أو زمانا {قليلا} وهو ما بقي من أعمارهم {إنكم عائدون} إلى الكفر غب الكشف ومن فسر الدخان بما هو من الأشراط قال إذا جاء الدخان غوث الكفار بالدعاء فيكشفه اللّه عنهم بعد الأربعين فريثما يكشفه عنهم يرتدون ومن فسره بما في القيامة أوله بالشرط والتقدير ١٦ {يوم نبطش البطشة الكبرى} يوم القيامة أو يومبدر ظرف لفعل دل عليه {إنا منتقمون} لا لمنتقمون فإن إن تحجزه عنه أو بدل من {يوم تأتي} وقرئ نبطش أي نجعل البطشة الكبرى باطشة بهم أو نحمل الملائكة على بطشهم وهو التناول بصوله ١٧ {ولقد قتنا قبلهم قوم فرعون} امتحناهم بإرسال موسى عليه السلام إليهم أو أوقعناهم في الفتنة بالإمهال وتوسيع الرزق عليهم وقرئ بالتشديد للتأكيد أو لكثرة القوم {وجاءهم رسول كريم} على اللّه أو على المؤمنين أو في نفسه لشرف نسبه وفضل حسبه ١٨ {أن أدوا إلي عباد اللّه} بأن أدوهم إلي وأرسلوا معي أو بأن أدوا إلي حق اللّه من الإيمان وقبول الدعوة يا عباد اللّه ويجوز أن تكون أن مخففة ومفسرة لأن مجيء الرسول يكون برسالة ودعوة {إني لكم رسول أمين} غير متهم لدلالة المعجزات على صدقه أو لائتمان اللّه إياه على وحيه وهو علة الأمر ١٩ {وأن لا تعلوا على اللّه} ولا تتكبروا عليه بالاستهانة بوحيه ورسوله و أن كالأولى في وجهيها {إني آتيكم بسلطان مبين} علة للنهي ولذكر ال أمين مع الأداء والسلطان مع العلاء شأن لا يخفى ٢٠ {وإني عذت بربي وربكم} التجأت إليه وتوكلت عليه {أن ترجمون} أن تؤذوني ضربا أو شتما أو أن تقتلوني وقرئ عت بالإدغام فيه ٢١ {وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} فكونوا بمعزل مني لا علي ولا لي ولا تتعرضوا إلي بسوء فإنه ليس جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلا حكم ٢٢ {فدعا ربه} بعدما كذبوه {أن هؤلاء} بان هؤلاء {قوم مجرمون} وهو تعريض بالدعاء عليهم بذكر ما استوجبوه به ولذلك سماه دعاء وقرئ بالكسر على إضمار القول ٢٣ {فأسر بعبادي ليلا} أي فقال أسر أو قال إن كان الأمر كذلك فأسر وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير بوصل الهمزة من سرى {إنكم متبعون} يتبعكم فرعون وجنوده إذا علموا بخروجكم ٢٤ {واترك البحر رهوا} مفتوحا ذا فجوة واسعة أو ساكنا على هيئته بعد ما جاوزته ولا تضربه بعصاك ولا تغير منه شيئا ليدخله القبط {إنهم جند مغرقون} وقرئ بالفتح بمعنى لأنهم ٢٥ {كم تركوا} كثيرا تركوا {من جنات وعيون} ٢٦ {وزروع ومقام كريم} محافل مزينة ومنازل حسنة ٢٧ {ونعمة} تنعم {كانوا فيها فاكهين} متنعمين وقرئ فكهين كذلك مثل ذلك الإخراج أخرجناهم أو الأمر ٢٨ {كذلك وأورثناها} عطف على المقدر أو على تركوا {قوما أخرين} ليسوا منهم في شيء وهم بنو إسرائيل وقيل غيرهم لأنهم لم يعودوا إلى مصر ٢٩ {فما بكت عليهم السماء والأرض} مجاز من عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم كقولهم بكت عليهم السماء والأرض وكسفت لمهلكهم الشمس في نقيض ذلك ومنه ما روي في الأخبار إن المؤمن ليبكي عليه مصلاه و محل عبادته ومصعد عمله ومهبط رزقه وقيل تقديره فما بكت عليهم أهل السماء والأرض {وما كانوا منظرين} ممهلين إلى وقت آخر ٣٠ {ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين} من استعباد فرعون وقتله أبناءهم ٣١ {من فرعون} بدل من العذاب على حذف المضاف أو جعله عذابا لإفراطه في التعذيب أو حال من المهين بمعنى واقعا من جهته وقرئ {من فرعون} على الاستفهام تنكير له لنكر ما كان عليه من الشيطنة {إنه كان عاليا} متكبرا {من المسرفين} في العتو والشرارة وهو خبر ثان أي كان متكبرا مسرفا أو حال من الضمير في عاليا أي كان رفيع الطبقة من بينهم ٣٢ {ولقد اخترناهم} اخترنا بني إسرائيل {على علم} عالمين بأنهم أحقاء بذلك أو مع علم منا بأنهم يزيغون في بعض الأحوال {على العالمين} لكثرة الأنبياء فيهم أو على عالمي زمانهم ٣٣ {وآتيناهم من الآيات} كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى {ما فيه بلاء مبين} نعمة جلية أو اختبار ظاهر ٣٤ {إن هؤلاء} يعني كفار قريش لأن الكلام فيهم وقصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإصرار على الضلالة والإنذار عن مثل ما حل بهم {ليقولون} ٣٥ {إن هي إلا موتتنا الأولى} ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية ولا قصد فيه إلى إثبات ثانية كما في قولك حج زيد الحجة الأولى ومات وقيل لما قيل إنكم تموتون موتة يعقبها حياة كما تقدم منكم مودة كذلك قالوا إن هي إلا موتتنا الأولى أي ما الموتة التي من شأنها كذلك إلا الموتة الأولى {وما نحن بمنشرين} بمبعوثين ٣٦ {فائتوا بآياتنا} خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول والمؤمنين {إن كنتم صادقين} في وعدكم ليدل عليه ٣٧ {أهم خير} في القوة والمنعة {أم قوم تبع} تبع الحميري الذي سار بالجيوش وحير الحيرة وبني سمرقند وقيل هدمها وكان مؤمنا وقومه كافرين ولذلك ذمهم دونه وعنه صلى اللّه عليه وسلم ما أدري أكان تبع نبيا أم غير نبي وقيل لملوك اليمن التبابعة لأنهم يتبعون كما قيل لهم الأقيال لأنهم يتقيل ون {والذين من قبلهم} كعاد وثمود {أهلكناهم} استئناف بمال قوم تبع {والذين من قبلهم} هدد به كفار قريش أو حال بإضمار قد أو خبر من الموصول إن استؤنف به {إنهم كانوا مجرمين} بيان للجامع المقتضي للإهلاك ٣٨ {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما} وما بين الجنسين وقرىء وما بينهن {لاعبين} لا هين وهو دليل على صحة الحشر كما مر في الأنبياء وغيرها ٣٩ {ما خلقناهما إلا بالحق} إلا بسبب الحق الذي اقتضاه الدليل من الإيمان والطاعة أو البعث والجزاء {ولكن أكثرهم لا يعلمون} لقلة نظرهم ٤٠ {إن يوم الفصل} فصل الحق عن الباطل أو المحق عن المبطل بالجزاء أو فصل الرجل عن أقاربه وأحبائه {ميقاتهم} وقت موعدهم {أجمعين} وقرىء ميقاتهم بالنصب على أنه الاسم أي أن ميعاد جزائهم في {يوم الفصل} ٤١ {يوم لا يغني} بدل من {يوم الفصل} أو صفة ل ميقاتهم أو ظرف لما دل عليه الفصل لاله للفصل {مولى} من قرابة أو غيرها {عن مولى} أي مولى كان {شيئا} من الاغناء {ولا هم ينصرون} الضمير ل مولى الأول باعتبار المعنى لأنه عام ٤٢ {إلا من رحم اللّه} بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه ومحله الرفع على البدل من الواو والنصب على الاستثناء {إنه هو العزيز} لا ينصر منه من أراد تعذيبه {الرحيم} لمن أراد أن يرحمه ٤٣ {إن شجر الزقوم} وقرىء بكسر الشين ومعنى الزقوم سبق في الصافات ٤٤ {طعام الأثيم} الكثير الآثام والمراد به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه ٤٥ {كالمهل} وهو ما يمهل في النار حتى يذوب وقيل دردي الزيت {تغلي في البطون} وقرأ ابن كثير وحفص ورويس بالياء على أن الضمير لل طعام أو الزقزم لا للمهل إذ الأظهر أن الجملة حال من أحدهما ٤٦ {كغلي الحميم} غليانا مثل غليه ٤٧ {خذوه} على إرادة القول والمقول له الزبانية {فاعتلوه} فجروه والعتل الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر وقرأ الحجازيان وابن عامر ويعقوب بالضم وهما لغتان {إلى سواء الجحيم} وسطه ٤٨ {ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم} كان أصله يصب من فوق رؤوسهم الحميم فقيل يصب من فوق رؤوسهم عذاب هو الحميم للمبالغة ثم أضيف ال عذاب إلى الحميم للتخفيف وزيد من الدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع ٤٩ {ذق إنك أنت العزيز الكريم} أي وقولوا له ذلك استهزاء به وتفريعا على ما كان يزعمه وقرأ الكسائي أنك بالفتح أي ذق لأنك أو عذاب أنك ٥٠ {أن هذا} أن هذا ال عذاب {ما كنتم به تمترون} تشكون وتمارون فيه ٥١ {إن المتقين في مقام} في موضع إقامة وقرأ وابن نافع وابن عامر بضم الميم {أمين} يأمن صاحبه عن الآفة والانتقال ٥٢ {في جنات وعيون} بدل من مقام جيء به للدلالة على نزاهته واشتماله على ما يستلذ به من المآكل والمشارب ٥٣ {يلبسون من سندس وإستبرق} خبر ثان أو حال من الضمير في الجار أو استئناف والسندس ما رق من الحرير والاستبرق ما غلظ منه معرب استبره أو مشتق من البراقة {متقابلين} في مجالسهم ليستأنس بعضهم ببعض ٥٤ {كذلك} الأمر كذلك أو آتيناهم مثل ذلك {وزوجناهم بحور عين} قرناهم بهن ولذلك عدي بالباء والحوراء البيضاء والعيناء عظيمة العينين واختلف في أنهن نساء الدنيا أو غيرها ٥٥ {يدعون فيها بكل فاكهة} يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه لا يتخصص شيء منها بمكان ولا بزمان {آمنين} من الضرر ٥٦ {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} بل يحيون فيها دائما والاستثناء منقطع أو متصل والضمير للآخرة و الموت أول أحوالها أو الجنة والمؤمن يشارفها بالموت ويشاهدها عنده فكأنه فيها أو الاستثناء للمبالغة في تعميم النفي وامتناع الموت فكأنه قال {لا يذوقون فيها الموت} إلا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل {ووقاهم عذاب الجحيم} وقرئ ووقاهم على المبالغة ٥٧ {فضلا من ربك} أي أعطوا كل ذلك عطاء وتفضلا منه وقرئ بالرفع أي ذلك فضل {ذلك هو الفوز العظيم} لأنه خلاص عن المكارة وفوز بالمطالب ٥٨ {فإنما يسرناه بلسانك} سهلناه حيث أنزلناه بلغتك وهو فذلكة السورة {لعلهم يتذكرون} لعلهم يفهمونه فيتذكرون به ما لم يتذكروا ٥٩ {فارتقب} فانتظر ما يحل بهم {إنهم مرتقبون} منتظرون ما يحل بك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: من قرأ حم الدخان ليلة جمعة أصبح مغفورا له |
﴿ ٠ ﴾