تفسير البيضاوي: أنوار التنزيل و أسرار التأويل أبو سعيد عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي

البيضاوي الشيرازي الفارسي، ناصر الدين، القاضي الشافعي (ت ٦٨٥ هـ ١٢٨٦ م)

_________________________________

سورة الجاثية

سورة الجاثية بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{حم}

٢

{تنزيل الكتاب} إن جعلت حم مبتدأ خبره

{تنزيل الكتاب} احتجت إلى إضمار مثل تنزيل حم وإن جعلتها تعديدا للحروف كان تنزيل مبتدأ خبره

{من اللّه العزيز الحكيم} وقيل حم مقسم به و

{تنزيل الكتاب} صفته وجواب القسم

٣

{إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين} وهو يحتمل أن يكون على ظاهرة وأن يكون المعنى إن في خلق السموات لقوله

٤

{وفي خلقكم وما يبث من دابة} ولا يحسن عطف ما على الضمير المجرور بل عطفه على المضاف إليه بأحد الاحتمالين فإن بثه وتنوعه واستجماعه لما به يتم معاشه إلى غير ذلك دلائل على وجود الصانع المختار

{آيات لقوم يوقنون} محمول على محل إن واسمها وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب بالنصب حملا على الاسم

٥

{واختلاف الليل والنهار وما أنزل اللّه من السماء من رزق} من مطر وسماه رزقا لأنه سببه

{فأحيا به الأرض بعد موتها} يبسها

{وتصريف الرياح} باختلاف جهاتها وأحوالها وقرأ حمزة والكسائي وتصريف الريح

{آيات لقوم يعقلون} فيه القرأءتان ويلزمهما العطف على عاملين في والابتداء أو أن إلا أن يضمر في أو ينصب آيات على الاختصاص أو يرفع بإضمار هي ولعل اختلاف الفواصل الثلاث لاختلاف الآيات في الدقة والظهور

٦

{تلك آيات اللّه} أي تلك الآيات دلائله

{نتلوها عليك} حال عاملها معنى الإشارة

{بالحق} ملتبسين به أو ملتبسة به

{فبأي حديث بعد اللّه وآياته تؤمنون} أي بعد

{آيات اللّه} وتقديم اسم اللّه للمبالغة والتعظيم كما في قولك أعجبني زيد وكرمه أو بعد حديث اللّه وهو في القرآن كقوله تعالى

{اللّه نزل أحسن الحديث} و آياته دلائله المتلوة أو القرآن والعطف لتغاير الوصفين وقرأ الحجازيان وحفص وأبو عمرو وروح يؤمنون بالياء ليوافق ما قبله

٧

{ويل لكل أفاك} كذاب {أثيم} كثير الآثام

٨

{يسمع آيات اللّه تتلى عليه ثم يصر} يقيم على كفره

{مستكبرا} عن الإيمان بالآيات و ثم لاستبعاد الإصرار بعد سماع الآيات كقوله يرى غمرات ثم يزورها

{كأن لم يسمعها} أي كأنه فخففت وحذف ضمير الشأن والجملة في موضع الحال أي يصر مثل غير السامع

{فبشره بعذاب أليم} على إصراره والبشارة على الأصل أو التهكم

٩

{وإذا علم من آياتنا شيئا} وإذا بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها

{اتخذها هزوا} لذلك من غير أن يرى فيها ما يناسب الهزء والضمير ل آياتنا وفائدته الإشعار بأنه إذا سمع كلاما وعلم أنه من الآيات بادر إلى استهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على ما سمعه أو لشيء لأنه بمعنى الآية

{أولئك لهم عذاب مهين}

١٠

{من ورائهم جهنم} من قدامهم لأنهم متوجهون إليها أو من خلفهم لأنها بعد آجالهم

{ولا يغني عنهم} ولا يدفع عنهم

{ما كسبوا} من الأموال والأولاد

{شيئا} من عذاب اللّه

{ولا ما اتخذوا من دون اللّه أولياء} أي الأصنام

{ولهم عذاب عظيم} لا يتحملونه

١١

{هذا هدى} الإشارة إلى القرآن ويدل عليه قوله

{والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم} وقرأ ابن كثير ويعقوب وحفص برفع أليم وال رجز أشد العذاب

١٢

{اللّه الذي سخر لكم البحر} بأن جعله أملس السطح يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب ولا يمنع الغوص فيه

{لتجري الفلك فيه بأمره} بتسخيره وأنتم راكبوها

{ولتبتغوا من فضله} التجارة والغوص والصيد وغيرها

{ولعلكم تشكرون} هذه النعم

١٣

{وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا} بأن خلقها نافعة لكم منه حال من ما أي سخر هذه الأشياء كائنة منه أو خبر لمحذوف أي هي جميعا منه أو ل

{ما في السموات} {وسخر لكم} تكرير للتأكيد أو ل

{ما في الأرض} وقرئ منه على المفعول له ومنه على أنه فاعل سخر على الإسناد المجازي أو خبر محذوف

{إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} في صنائعه

١٤

{قل للذين آمنوا يغفروا} حذف المقول لدلالة الجواب عليه والمعنى قل لهم اغفروا يغفروا أي يعفوا ويصفحوا

{للذين لا يرجون أيام اللّه} لا يتوقعون وقائعه بأعدائه من قولهم أيام العرب لوقائعهم أو لا يأملون الأوقات التي وقتها اللّه لنصر المؤم نين وثوابهم ووعدهم بها والآية نزلت في عمر رضي اللّه عنه شتمه غفاري فهم أن يبطش به وقيل إنها منسوخة بآية القتال

{ليجزي قوما بما كانوا يكسبون} علة للأمر والقوم هم المؤمنون أو الكافرون أو كلاهما فيكون التنكير للتعظيم أو التحقير أو الشيوع والكسب المغفرة أو الإساءة أو ما يعمهما وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي لنجزي بالنون وقريء ليجزي قوم وليجزي قوما أي ليجزي الخير أو الشر أو الجزاء أعني ما يجزى به لا المصدر فإن الإسناد إليه سيما مع المفعول به ضعيف

١٥

{من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها} أي لها ثواب العمل وعليها عقابه

{ثم إلى ربكم ترجعون} فيجازيكم على أعمالكم

١٦

{ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب} التوراة

{والحكم} والحكمة النظرية والعملية أو فصل الخصومات

{والنبوة} إذ كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثروا في غيرهم

{ورزقناهم من الطيبات} مما أحل اللّه من اللذائذ

{وفضلناهم على العالمين} حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم

١٧

{وآتيناهم ببينات من الأمر} أدلة في أمر الدين ويندرج فيها المعجزات وقيل آيات من أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم مبينة لصدقة

{فما اختلفوا} في ذلك الأمر

{إلا من بعد ما جاءهم العلم} بحقيقة الحال

{بغيا بينهم} عداوة وحسدا

{إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} بالمؤاخذة والمجازاة

١٨

{ثم جعلناك على شريعة} طريقة

{من الأمر} من أمر الدين {فاتبعها} فاتبع شريعتك الثابتة بالحجج

{ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} آراء الجهال التابعة للشهوات وهم رؤساء قريش قالوا له ارجع إلى دين آبائك

١٩

{إنهم لن يغنوا عنك من اللّه شيئا} مما أراد بك

{وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض} إذ الجنسية علة الانضمام فلا توالهم باتباع أهوائهم

{واللّه ولي المتقين} فواله بالتقى واتباع الشريعة

٢٠

{هذا} أي القرآن أو اتباع الشريعة

{بصائر للناس} بينات تبصرهم وجه الفلاح

{وهدى} من الضلالة {ورحمة} ونعمة من اللّه

{لقوم يوقنون} يطلبون اليقين

٢١

{أم حسب الذين اجترحوا السيئات} أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان والاجتراح الاكتساب ومنه الجارحة

{أن نجعلهم} أن نصيرهم

{كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} مثلهم وهو ثاني مفعولي نجعل وقوله

{سواء محياهم ومماتهم} بدل منه إن كان الضمير للموصول الأول لأن المماثلة فيه إذ المعنى إنكار أن يكون حياتهم ومماتهم سيين في البهجة والكرامة كما هو للمؤمنين ويدل عليه قرأءة حمزة والكسائي وحفص سواء بالنصب على البدل أو الحال من الضمير في الكاف أو المفعولية والكاف حال وإن كان للثاني فحال منه أو استئناف يبين المقتضى للإنكار وإن كان لهما فبدل أو حال من الثاني وضمير الأول والمعنى إنكار أن يستووا بعد الممات في الكرامة أو ترك المؤاخذة كما استووا في الرزق والصحة في الحياة أو استئناف مقرر لتساوي محيا كل صنف ومماته في الهدى والضلال وقرىء مماتهم بالنصب على أن

{محياهم ومماتهم} ظرفان كمقدم الحاج

{ساء ما يحكمون} ساء حكمهم هذا أو بئس شيئا حكموا به ذلك

٢٢

{وخلق اللّه السموات والأرض بالحق} كأنه دليل على الحكم السابق من حيث أن خلق ذلك بالحق المقتضي للعدل يستدعي انتصار المظلوم من الظالم والتفاوت بين المسيء والمحسن وإذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات

{ولتجزي كل نفس بما كسبت} عطف على بالحق لأنه في معنى العلة أو على علة محذوفة مثل ليدل بها على قدرته أو ليعدل ولتجزي

{وهم لا يظلمون} بنقص ثواب وتضعيف عقاب وتسمية ذلك ظلما ولو فعله اللّه لم يكن منه ظلما لأنه لو فعله غيره لكان ظلما كالابتلاء والاختبار

٢٣

{أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} ترك متابعة الهدى إلى متابعة الهوى فكأنه يعبده وقرىء آلهة هواه لأنه كان أحدهم يستحسن حجرا فيعبده فإذا رأى أحسن منه رفضه إليه

{وأضله اللّه} وخذله {على علم} عالما بضلاله وفساد جوهر روحه

{وختم على سمعه وقلبه} فلا يبالي بالمواعظ ولا يتفكر في الآيات

{وجعل على بصره غشاوة} فلا ينظر بعين الاستبصار والاعتبار وقرأ حمزة والكسائي غشوة

{فمن يهديه من بعد اللّه} من بعد إضلاله

{أفلا تذكرون} وقرىء تتذكرون

٢٤

{وقالوا ما هي} ما الحياة أو الحال

{إلا حياتنا الدنيا} التي نحن فيها

{نموت ونحيا} أي نكون أمواتا نطفا وما قبلها ونحيا بعد ذلك أو نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا أو يموت بعضنا ويحيا بعضنا أو يصيبنا الموت والحياة فيها وليس وراء ذلك حياة ويحتمل أنهم أرادوا به التناسخ فإنه عقيدة أكثر عبدة الأوثان

{وما يهلكنا إلا الدهر} إلا مرور الزمان وهو في الأصل مدة بقاء العالم من دهره إذا غلبه

{وما لهم بذلك من علم} يعني نسبة الحوادث إلى حركات الأفلاك وما يتعلق بها على الاستقلال أو إنكار

البعث أو كليهما

{إن هم إلا يظنون} إذ لا دليل لهم عليه وإنما قالوه بناء على التقليد والإنكار لما لم يحسوا به

٢٥

{وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات} واضحات الدلالة على ما يخالف معتقدهم أو مبينات له

{ما كان حجتهم} ما كان لهم متشبث يعارضونها به

{إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} وإنما سماه حجة على حسبانهم ومساقهم أو على أسلوب قولهم تحية بينهم ضرب وجيع فإنه لا يلزم من عدم حصول الشيء حالا امتناعه مطلقا

٢٦

{قل اللّه يحييكم ثم يميتكم} على ما دلت عليه الحجج

{ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه} فإن من قدر على الابتداء قدر على الإعادة والحكمة اقتضت الجمع للمجازاة على ما قرر مرارا والوعد المصدق بالآيات دل على وقوعها وإذا كان كذلك أمكن الإتيان بآبائهم لكن الحكمة اقتضت أن يعادوه يوم الجمع للجزاء

{ولكن أكثر الناس لا يعلمون} لقلة تفكرهم وقصور نظرهم على ما يحسونه

٢٧

{وللّه ملك السموات والأرض} تعميم للقدرة بعد تخصيصها

{ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون} أي ويخسر يوم تقوم و يومئذ بدل منه

٢٨

{وترى كل أمة جاثية} مجتمعة من الجثوة وهي الجماعة أو باركة مستوفزة على الركب وقرئ جاذيه أي جالسة على أطراف الأصابع لاستيفازهم

{كل أمة تدعى إلى كتابها} صحيفة أعمالها وقرأ يعقوب كل على أنه بدل من الأول وتدعى صفة أو مفعول ثان

{اليوم تجزون ما كنتم تعملون} محمول على القول

٢٩

{هذا كتابنا} أضاف صحائف أعمالهم إلى نفسه لأنه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم

{ينطق عليكم بالحق} يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة ولا نقصان

{إنا كنا نستنسخ} نستكتب الملائكة

{ما كنتم تعملون} أعمالكم

٣٠

{فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته} التي من جملتها

الجنة {ذلك هو الفوز المبين} الظاهر لخلوصه عن الشوائب

٣١

{وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم} أي فيقال لهم ألم يكن يأتكم رسلي

{أفلم تكن آياتي تتلى عليكم} فحذف القول والمعطوف عليه اكتفاء بالمقصود واستغناء بالقرينة فاستكبرتم عن الإيمان بها

{وكنتم قوما مجرمين} عادتكم الإجرام

٣٢

{وإذا قيل إن وعد اللّه} يحتمل الموعود به والمصدر حق كائن هو أو متعلقة لا محالة

{والساعة لا ريب فيها} إفراد للمقصود وقرأ حمزة بالنصب عطفا على اسم إن

{قلتم ما ندري ما الساعة} أي شيء الساعة استغرابا لها

{إن نظن إلا ظنا} أصله نظن ظنا فأدخل حرفا النفي والاستثناء لإثبات الظن ونفي ما عداه كأنه قال ما نحن نظن ظنا أو لنفي ظنهم فيما سوى ذلك مبالغة ثم أكده بقوله

{وما نحن بمستيقنين} إي لإمكانه ولعل ذلك قول بعضهم تحيروا بين ما سمعوا من آبائهم وما تليت عليهم من الآيات في أمر الساعة

٣٣

{وبدا لهم} ظهر لهم {سيئات ما عملوا} على ما كانت عليه بأن عرفوا قبحها وعاينوا وخامة عاقبتها أو جزاءها

{وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} وهو الجزاء

٣٤

{وقيل اليوم ننساكم} نترككم في العذاب ترك ما ينسى

{كما نسيتم لقاء يومكم هذا} كما تركتم عدته ولم تبالوا به وإضافة لقاء إلى يوم إضافة المصدر إلى ظرفه

{ومأواكم النار وما لكم من ناصرين} يخلصونكم منها

٣٥

{ذلكم بأنكم اتخذتم آيات اللّه هزوا} استهزأتم بها ولم تتفكروا فيها

{وغرتكم الحياة الدنيا} فحسبتم أن لا حياة سواها

{فاليوم لا يخرجون منها} وقرأ حمزة والكسائي بفتح الياء وضم الراء

{ولا هم يستعتبون} لا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم أي يرضوه لفوات أوانه

٣٦

{فللّه الحمد رب السماوات رب الأرض ورب العالمين} إذ الكل نعمة منه ودال على كمال قدرته

٣٧

{وله الكبرياء في السموات والأرض} إذ ظهر فيها آثارها

{وهو العزيز} الذي لا يغلب

{الحكيم} فيما قدر وقضى فأحمدوه وكبروه وأطيعوا له عن النبي صلى اللّه عليه وسلم:

من قرأ حم الجاثية ستر اللّه عورته وسكن روعته يوم الحساب

﴿ ٠