تفسير البيضاوي: أنوار التنزيل و أسرار التأويل أبو سعيد عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي

البيضاوي الشيرازي الفارسي، ناصر الدين، القاضي الشافعي (ت ٦٨٥ هـ ١٢٨٦ م)

_________________________________

سورة الطور

سورة الطور مكية وآيها تسع أو ثمان وأربعون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{والطور} يريد طور سينين وهو جبل بمدين سمع فيه موسى عليه السلام كلام اللّه تعالى والطور الجبل بالسريانية أو ما طار من أوج الإيجاد إلى حضيض المواد أو من عالم الغيب إلى عالم الشهادة

٢

{وكتاب مسطور} مكتوب والسطر ترتيب الحروف المكتوبة والمراد به القرآن أو ما كتبه اللّه في اللوح المحفوظ أو ألواح موسى عليه السلام أو في قلوب أوليائه من المعارف والحكم أو ما تكتبه الحفظة

٣

{في رق منشور} الرق الجلد الذي يكتب فيه استعير لما كتب فيه الكتاب وتنكيرهما للتعظيم والإشعار بأنهما ليسا من المتعارف فيما بين الناس

٤

{والبيت المعمور} يعني الكعبة وعمارتها بالحجاج و المجاورين أو الضراح وهو في السماء الرابعة وعمرانه كثرة غاشيته من الملائكة أو قلب المؤمن وعمارته بالمعرفة والإخلاص

٥

{والسقف المرفوع} يعني السماء

٦

{والبحر المسجور} أي المملوء وهو المحيط أو الموقد من قوله إذا البحار سجرت روي أنه تعالى يجعل يوم القيامة البحار نارا يسجر بها نار جهنم أو المختلط من السجير وهو الخليط

٧

{إن عذاب ربك لواقع} لنازل

٨

{ما له من دافع} يدفعه ووجه دلالة هذه الأمور المقسم بها على ذلك أنها أمور تدل على كمال قدرة اللّه تعالى وحكمته وصدق أخباره وضبطه أعمال العباد للمجازاة

٩

{يوم تمور السماء مورا} تضطرب والمور تردد في المجيء والذهاب وقيل تحرك في تموج و يوم ظرف

١٠

{وتسير الجبال سيرا} أي تسير عن وجه الأرض فتصير هباء

١١

{فويل يومئذ للمكذبين} أي إذا وقع ذلك فويل لهم

١٢

{الذين هم في خوض يلعبون} أي في الخوض في الباطل

١٣

{يوم يدعون إلى نار جهنم دعا} يدفعون إليها دفعا بعنف وذلك بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار وقرىء يدعون من الدعاء فيكون دعا حالا بمعنى مدعوين و يوم بدل من

{يوم تمور} أو ظرف لقول مقدر محكية

١٤

{هذه النار التي كنتم بها تكذبون} أي يقال لهم ذلك

١٥

{أفسحر هذا} أي كنتم تقولون للوحي هذا سحر أفهذا المصداق أيضا سحر وتقديم الخبر لأنه المقصود بالإنكار والتوبيخ

{أم أنتم لا تبصرون} هذا أيضا كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ما يدل عليه وهو تقريع وتهكم أو أم سدت أبصاركم كما سدت في الدنيا على زعمكم حين قلتم

{إنما سكرت أبصارنا} [الحجر:١٥]

١٦

{اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا} أي ادخلوها على أي وجه شئتم من الصبر وعدمه فإنه لا محيص لكم عنها

{سواء عليكم} أي الأمران الصبر وعدمه

{إنما تجزون ما كنتم تعملون} تعليل للاستواء فإنه لما كان الجزاء واجب الوقوع كان الصبر وعدمه سيين في عدم النفع

١٧

{إن المتقين في جنات ونعيم} في أية جنات وأي نعيم أو في

{جنات ونعيم} مخصوصة بهم

١٨

{فاكهين} ناعمين متلدذين {بما آتاهم ربهم} وقرىء فكهين وفاكهون على أنه الخبر والظرف لغو

{ووقاهم ربهم عذاب الجحيم} عطف على آتاهم إن جعل ما مصدرية أو

{في جنات} أو حال بإضمار قد من المستكن في الظرف أو الحال أو من فاعل آتى أو مفعوله أو منهما

١٩

{كلوا واشربوا هنيئا} أي أكلا وشرابا هنيئا أو طعاما وشرابا هنيئا وهو الذي لا تنغيص فيه

{بما كنتم تعملون} بسببه أو بدله وقيل الباء زائدة وما فاعل هنيئا والمعنى هنأكم ما كنتم تعملون أي جزاؤه

٢٠

{متكئين على سرر مصفوفة} مصطفة

{وزوجناهم بحور عين} الباء لما في التزويج من معنى الوصل والإلصاق أو للسببية أذ المعنى صيرناهم أزواجا بسببهن أو لما في التزويج من معنى الإلصاق والقرن ولذلك عطف

٢١

{والذين آمنوا} على حور أي قرناهم بأزواج حور ورفقاء مؤمنين وقيل إنه مبتدأ {ألحقنا بهم} وقوله

{واتبعتهم ذريتهم بإيمان} اعتراض للتعليل وقرأ ابن عامر ويعقوب ذرياتهم بالجمع وضم التاء للمبالغة في كثرتهم والتصريح فإن الذرية تقع على الواحد والكثير وقرأ أبو عمرو و أتبعناهم ذرياتهم أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان وقيل بإيمان حال من الضمير أو الذرية أو منهما وتنكيره للتعظيم أو الإشعار بأنه يكفي للإلحاق المتابعة في أصل الإيمان

{ألحقنا بهم ذريتهم} في دخول الجنة أو الدرجة لما روي أنه صلى اللّه عليه وسلم قال: إن اللّه يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه لتقر بهم عينه ثم تلا هذه الآية وقرأ نافع وابن عامر والبصريان ذرياتهم

{وما ألتناهم} وما نقصناهم

{من عملهم من شيء} بهذا الإلحاق فإنه كان يحتمل أن يكون بنقص مرتبة الآباء أو بإعطاء الأبناء بعض مثوباتهم ويحتمل أن يكون بالتفصيل عليهم وهو اللائق بكمال لطفه وقرأ ابن كثير بكسر اللام من ألت يألت وعنه لتناهم من لات يليت وآلتناهم من آلت يولت و والتناهم من ولت يلت ومعنى الكل واحد

{كل امرىء بما كسب رهين} بعمله مرهون عند اللّه تعالى فإن عمل صالحا فكه وإلا أهلكه

٢٢

{وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون} أي وزدناهم وقتا بعد وقت ما يشتهون من أنواع التنعم

٢٣

{يتنازعون فيها} يتعاطون هو وجلساؤهم بتجاذب

{كأسا} خمرا سماها باسم محلها ولذلك أنت الضمير في قوله

{لا لغو فيها ولا تأثيم} أي لا يتكلمون بلغو الحديث في أثناء شربها ولا يفعلوا ما يؤثم به فاعله كما هو عادة الشاربين في الدنيا وذلك مثل قوله تعالى

{لا فيها غول} وقرأهما ابن كثير والبصريان بالفتح

٢٤

{ويطوف عليهم} أي بالكأس

{غلمان لهم} أي مماليك مخصوصون بهم وقيل هم أولادهم الذين سبقوهم

{كأنهم لؤلؤ مكنون} مصون في الصدف من بياضهم وصفائهم وعنه صلى اللّه عليه وسلم والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب

٢٥

{وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} يسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله

٢٦

{قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين} خائفين من عصيان اللّه معتنين بطاعته أو وجلين من العاقبة

٢٧

{فمن اللّه علينا} بالرحمة والتوفيق

{ووقانا عذاب السموم} عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم وقرىء ووقانا بالتشديد

٢٨

{إنا كنا من قبل} من قبل ذلك في الدنيا

{ندعوه} نعبده أو نسأله الوقاية

{إنه هو البر} المحسن وقرأ نافع والكسائي أنه بالفتح

{الرحيم} الكثير الرحمة

٢٩

{فذكر} فاثبت على التذكير ولا تكترث بقولهم

{فما أنت بنعمة ربك} بحمد اللّه وإنعامه

{بكاهن ولا مجنون} كما يقولون

٣٠

{أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون} ما يقلق النفوس من حوادث الدهر وقيل المنون الموت فعول من منه إذا قطعه

٣١

{قل تربصوا فإني معكم من المتربصين} أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي

٣٢

{أم تأمرهم أحلامهم} عقولهم

{بهذا} بهذا التناقض في القول فإن الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر والمجنون مغطى عقله والشاعر يكون ذا كلام موزون متسق مخيل ولا يتأتى ذلك من المجنون وأمر الأحلام به مجاز عن أدائها إليه

{أم هم قوم طاغون} مجاوزون الحد في العناد وقرىء بل هم

٣٣

{أم يقولون تقوله} اختلقه من تلقاء نفسه

{بل لا يؤمنون} فيرمونه بهذه المطاعن لكفرهم وعنادهم

٣٤

{فليأتوا بحديث مثله} مثل القرآن

{إن كانوا صادقين} في زعمهم إذ فيهم كثير ممن عدوا فصحاء فهو رد للأقوال المذكورة بالتحدي ويجوز أن يكون رد للتقول فإن سائر الأقسام ظاهر الفساد

٣٥

{أم خلقوا من غير شيء} أم أحدثوا وقدروا من غير محدث ومقدر فلذلك لا يعبدونه أو من أجل لا شيء من عبادة ومجازاة

{أم هم الخالقون} يؤيد الأول فإن معناه أم خلقوا أنفسهم ولذلك عقبه بقوله

٣٦

{أم خلقوا السموات والأرض} و أم في هذه الآيات منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار

{بل لا يوقنون} إذا سئلوا من خلقكم ومن خلق السموات والأرض قالوا اللّه إذ لو أيقنوا ذلك لما أعرضوا عن عبادته

٣٧

{أم عندهم خزائن ربك} خزائن رزقه حتى يرزقوا النبوة من شاؤوا أو خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختارته حكمته

{أم هم المصيطرون} الغالبون على الأشياء يدبرونها كيف شاؤوا وقرأ قنبل وحفص بخلاف عنه وهشام بالسين وحمزة بخلاف عن خلاد بين الصاد والزاي والباقون بالصاد خاصة

٣٨

{أم لهم سلم} مرتقى إلى السماء

{يستمعون فيه} صاعدين فيه إلى كلام الملائكة وما يوحي إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن

{فليأت مستمعهم بسلطان مبين} بحجة واضحة تصدق استماعة

٣٩

{أم له البنات ولكم البنون} فيه تسفيه لهم وإشعار بأن من هذا رأيه لا يعد من العقلاء فضلا أن يترقى بروحه إلى عالم الملكوت فيتطلع على الغيوب

٤٠

{أم تسألهم أجرا} على تبليغ الرسالة

{فهم من مغرم} من التزام غرم

{مثقلون} محملون الثقل فلذلك زهدوا في اتباعك

٤١

{ام عندهم الغيب} اللوح المحفوظ المثبت فيه المغيبات

{فهم يكتبون} منه

٤٢

{أم يريدون كيدا} وهو كيدهم في دار الندوة برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم

{فالذين كفروا} يحتمل العموم والخصوص فيكون وضعه موضع الضمير للتسجيل على كفرهم والدلالة على أنه الموجب للحكم المذكور

{هم المكيدون} هم الذين يحيق بهم الكيد أو يعود عليهم وبال كيدهم وهو قتلهم يوم بدر أو المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته

٤٣

{أم لهم إله غير اللّه} يعينهم ويحرسهم من عذابه

{سبحان اللّه عما يشركون} عن إشراكهم أو شركة ما يشركونه به

٤٤

{وإن يروا كسفا} قطعة

{من السماء ساقطا يقولوا} من فرط طغيانهم وعنادهم

{سحاب مركوم} هذا سحاب تراكم بعضه على بعض وهو جواب قولهم

{فأسقط علينا كسفا من السماء}

٤٥

{فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون} وهو عند النفخة الأولى وقرئ يلقوا وقرأ ابن عامر وعاصم يصعقون على المبني للمفعول من صعقه أو أصعقه

٤٦

{يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا} أي شيئا من الإغناء في رد العذاب

{ولا هم ينصرون} يمنعون من عذاب اللّه

٤٧

{وإن للذين ظلموا} يحتمل العموم والخصوص

{عذابا دون ذلك} أي دون عذاب الآخرة وهو عذاب القبر أوالمؤاخذة في الدنيا كقتلهم ببدر والقحط سبع سنين

{ولكن أكثرهم لا يعلمون} ذلك

٤٨

{واصبر لحكم ربك} بإمهالهم وإبقائك في عنائهم

{فإنك بأعيننا} في حفظنا بحيث نراك ونكلؤك وجمع العين لجمع الضمير والمبالغة بكثرة أسباب الحفظ

{وسبح بحمد ربك حين تقوم} من أي مكان قمت أو من منامك أو إلى الصلاة

٤٩

{ومن الليل فسبحه} فإن العبادة فيه أشق على النفس وإبعد من الرياء ولذلك أفرده بالذكر وقدمه على الفعل

{وإدبار النجوم} وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل وقرئ بالفتح أي في أعقابها إذا غربت أو خفيت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

من قرأ سورة والطور كان حقا على اللّه أن يؤمنه من عذابه وأن ينعمه في جنته

﴿ ٠