تفسير البيضاوي: أنوار التنزيل و أسرار التأويل أبو سعيد عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي

البيضاوي الشيرازي الفارسي، ناصر الدين، القاضي الشافعي (ت ٦٨٥ هـ ١٢٨٦ م)

_________________________________

سورة الحشر

سورة الحشر مدنية وآيها أربع وعشرون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

{سبح للّه ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم} روي أنه صلى اللّه عليه وسلم لما قدم المدينة صالح بني النضير على أن لا يكونوا له ولا عليه فلما ظهر يوم بدر قالوا إنه النبي المنعوت في التوراة بالنصرة فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا وخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة وحالفوا أبا سفيان فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخا كعب من الرضاعة فقتله غيلة ثم صبحهم بالكتائب وحاصرهم حتى صالحوا على الجلاء فجلا أكثرهم إلى الشام ولحقت طائفة بخيبر والحيرة فأنزل اللّه تعالى سبح للّه إلى قوله واللّه على كل شيء قدير

٢

{هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر} أي في أول حشرهم من جزيرة العرب إذ لم يصبهمهذا الذل قبل ذلك أو في أول حشرهم للقتال أو الجلاء إلى الشام وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي اللّه تعالى عنه إياهم من خيبر إليه أو في أول حشر الناس إلى الشام وآخر حشرهم أنهم يحشرون إليه عند قيام الساعة فيدركهم هناك أو أن نارا تخرج من المشرق فتحشرهم إلى المغرب والحشر إخراج جمع من مكان إلى آخر

{ما ظننتم أن يخرجوا} لشدة بأسهم ومنعتهم

{وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من اللّه} أي أن حصونهم تمنعهم من بأس اللّه وتغيير النظم وتقديم الخبر وإسناد الجملة إلى ضميرهم للدلالة على فرط وثوقهم بحصانتها واعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة بسببها ويجوز أن تكون حصونهم فاعلا ل مانعتهم

{فأتاهم اللّه} أي عذابه وهو الرعب والاضطرار إلى الجلاء وقيل الضمير ل المؤمنين أي فأتاهم نصر اللّه وقرىء فآتاهم اللّه أي العذاب أو النصر

{من حيث لم يحتسبوا} لقوة وثوقهم

{وقذف في قلوبهم الرعب} وأثبت فيها الخوف الذي يرعبها أ يملؤها

{يخربون بيوتهم بأيديهم} ضنا بها على المسلمين وإخراجا لما استحسنوا من آلاتها

{وأيدي المؤمنين} فإنهم أيضا كانوا يخربون ظواهرها نكاية وتوسيعا لمجال القتال وعطفها على أيديهم من حيث أن تخريب المؤمنين مسبب عن نقضهم فكأنهم استعملوهم فيه والجملة حال أو تفسير ل الرعب وقرأ أبو عمرو يخربون بالتشديد وهو أبلغ لما فيه من التكثير وقيل الإخراب التعطيل أو ترك الشيء خرابا والتخريب الهدم

{فاعتبروا يا أولي الأبصار} فاتعظوا بحالهم فلا تغدروا ولا تعتمدوا على غير اللّه واستدل به على أن القياس حجة من حيث أنه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال وحملها عليها في حكم لما بينهما من المشاركة المقتضية له على ما قررناه في الكتب الأصولية

٣

{ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء} الخروج من أوطانهم {لعذبهم في الدنيا} بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة

{ولهم في الآخرة عذاب النار} استئناف معناه أنهم إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة

٤

{ذلك بأنهم شاقوا اللّه ورسوله ومن يشاق اللّه فإن اللّه شديد العقاب} الإشارة إلى ما ذكر مما حاق بهم وما كانوا بصدده وما هو معد لهم أو إلى الأخير

٥

{ما قطعتم من لينة} أي شيء قطعتم من نخلة فعلة من اللون ويجمع على ألوان وقيل من اللين ومعناها النخلة الكريمة وجمعها أليان

{أو تركتموها} الضمير لما وتأنيثه لأنه مفسر باللينة

{قائمة على أصولها} وقرىء أصلها اكتفاء بالضمة عن الواو أو على أنه كرهن

{فبإذن اللّه} فبأمره {وليخزي الفاسقين} علة لمحذوف أي وفعلتم أو وأذن لكم في القطع ليجزيهم على فسقهم بما غاظهم منه روي أنه صلى اللّه عليه وسلم لما أمر بقطع نخيلهم قالوا قد كنت يا محمد تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها فنزلت واستدل به على جواز هدم ديار الكفار وقطع أشجارهم زيادة لغيظهم

٦

{وما أفاء اللّه على رسوله} وما أعاده عليه بمعنى صيره له أو رده عليه فإنه كان حقيقا بأن يكون له لأنه تعالى خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق لهم ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين

{منهم} من بني النضير أو من الكفرة

{فما أوجفتم عليه} فما أجريتم على تحصيله من الوجيف وهو سرعة السير

{من خيل ولا ركاب} ما يركب من الإبل غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه وذلك إن كان المراد فيء بني النضير فلأن قراهم كانت على ميلين من المدينة فمشوا إليها رجالا غير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فإنه ركب جملا أو حمارا ولم يجر مزيد قتال ولذلك لم يعط الأنصار منه شيئا إلا ثلاثة كانت بهم حاجة

{ولكن اللّه يسلط رسله على من يشاء} بقذف الرعب في قلوبهم

{واللّه على كل شيء قدير} فيفعل ما يريد تارة بالوسائط الظاهرة وتارة بغيرها

٧

{ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى} بيان للأول ولذلك لم يعطف عليه

{فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} اختلف في قسم الفيء فقيل يسدس لظاهر الآية ويصرف سهم اللّه في عمارة الكعبة وسائر المساجد وقيل يخمس لأن ذكر اللّه للتعظيم ويصرف الآن سهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم إلى الإمام على قول وإلى العساكر والثغور على قول وإلى مصالح المسلمين على قول وقيل يخمس خمسه كالغنيمة فإنه صلى اللّه عليه وسلم كان يقسم الخمس كذلك ويصرف الأخماس الأربعة كما يشاء والآن على الخلاف المذكور

{كيلا يكون} أي الفيء الذي حقه أن يكون للفقرأء وقرأ هشام في رواية بالتاء

{دولة بين الأغنياء منكم} الدولة ما يتداوله الأغنياء ويدور بينهم كما كان في الجاهلية وقرىء دولة بمعنى كيلا يكون الفيء ذا تداول بينهم أو أخذه غلبة تكون بينهم وقرأ هشام دولة بالرفع على كان التامة أي كيلا يقع دولة جاهلية

{وما آتاكم الرسول} وما أعطاكم من الفيء أو من الأمر

{فخذوه} لأنه حلال لكم أو فتمسكوا به لأنه واجب الطاعة

{وما نهاكم عنه} عن أخذه منه أو عن إتيانه

{فانتهوا} عنه {واتقوا اللّه} في مخالفة رسوله

{إن اللّه شديد العقاب} لمن خالفه

٨

{للفقرأء المهاجرين} بدل من لذي القربى و ما عطف عليه فإن الرسول لا يسمى فقيرا ومن أعطى أغنياء ذوي القربى خصص الإبدال بما بعده والفيء بفيء بني النضير

{الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم} فإن كفار مكة أخرجوهم وأخذوا أموالهم

{يبتغون فضلا من اللّه ورضوانا} حال مقيدة لإخراجهم بما يوجب تفخيم شأنهم

{وينصرون اللّه ورسوله} بأنفسهم وأموالهم

{أولئك هم الصادقون} في إيمانهم

٩

{والذين تبوءوا الدار والإيمان} عطف على المهاجرين والمراد بهم الأنصار الذين ظهر صدقهم فإنهم لزموا المدينة والإيمان وتمكنوا فيهما وقيل المعنى تبوءوا دار الهجرة ودار الإيمان فحذف المضاف من الثاني والمضاف إليه من الأول وعوض عنه اللام أو تبوءوا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله

علفتها تبنا وماء باردا

وقيل سمى المدينة بالإيمان لأنها مظهره ومصيره

{من قبلهم} من قبل هجرة المهاجرين وقيل تقدير الكلام والذين تبوءوا الدار من قبلهم والإيمان

{يحبون من هاجر إليهم} ولا يثقل عليهم

{ولا يجدون في صدورهم} في أنفسهم

{حاجة} ما تحمل عليه الحاجة كالطلب والحزازة والحسد والغيظ

{مما أوتوا} مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره

{ويؤثرون على أنفسهم} ويقدمون المهاجرين على أنفسهم حتى إن كان عنده مرأتان نزل عن واحدة وزوجها من أحدهم

{ولو كان بهم خصاصة} حاجة من خصاص البناء وهي فرجه

{ومن يوق شح نفسه} حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق

{فأولئك هم المفلحون} الفائزون بالثناء العاجل والثواب الآجل

١٠

{والذين جاؤوا من بعدهم} هم الذين هاجروا حين قوي الإسلام أو التابعون بإحسان وهم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة ولذلك قيل أن الآية قد استوعبت جميع المؤمنين

{يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} أي لإخواننا في الدين

{ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا} حقدا لهم

{ربنا إنك رؤوف رحيم} فحقيق بأن تجيب دعاءنا

١١

{ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب} يريد الذين بينهم وبينهم أخوة الكفر أو الصداقة والموالاة

{لئن أخرجتم} من دياركم

{لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم} في قتالكم أو خذلانكم

{أحدا أبدا} أي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين

{وإن قوتلتم لننصرنكم لنعاوننكم واللّه يشهد إنهم لكاذبون} لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك كما قال

١٢

{لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم} وكان كذلك فإن ابن أبي وأصحابه راسلوا بني النضير بذلك ثم أخلفوهم وفيه دليل على صحة النبوة وإعجاز القرآن

{ولئن نصروهم} على الفرض والتقدير

{ليولن الأدبار} انهزاما

{ثم لا ينصرون} بعد بل يخذلهم اللّه ولا ينفعهم نصرة المنافقين أو نفاقهم إذ ضمير الفعلين يحتمل أن يكون لليهود وأن يكون للمنافقين

١٣

{لأنتم أشد رهبة} أي أشد مرهوبية مصدر للفعل المبني للمفعول

{في صدورهم} فإنهم كانوا يضمرون مخافتهم من المؤمنين

{من اللّه} على ما يظهرونه نفاقا فإن استبطان رهبتكم سبب لإظهار مرهبة اللّه

{ذلك بأنهم قوم لا يفقهون} لا يعلمون عظمة اللّه حتى يخشوه حق خشيته ويعلموا أنه الحقيق بأن يخشى

١٤

{لا يقاتلونكم} اليهود والمنافقون

{جميعا} مجتمعين متفقين

{إلا في قرى محصنة} بالدروب والخنادق

{أو من وراء جدر} لفرط رهبتهم وقرأ ابن كثير وأبو عمر جدار وأمال أبو عمرو فتحة الدال

{بأسهم بينهم شديد} أي وليس ذلك لضعفهم وجبنهم فإنه يشتد بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا بل لقذف اللّه الرعب في قلوبهم ولأن الشجاع يجبن والعزيز يذل إذا حارب اللّه ورسوله

{تحسبهم جميعا} مجتمعين متفقين

{وقلوبهم شتى} متفرقة لافتراق عقائدهم واختلاف مقاصدهم

{ذلك بأنهم قوم لا يعقلون} ما فيه صلاحهم وإن تشتت القلوب يوهن قواهم

١٥

{كمثل الذين من قبلهم} أي مثل اليهود كمثل أهل بدر أو بني قينقاع إن صح أنهم أخرجوا قبل النضير أو المهلكين من الأمم الماضية

{قريبا} في زمان قريب وانتصابه بمثل إذ التقدير كوجود مثل

{ذاقوا وبال أمرهم} سوء عاقبة كفرهم في الدنيا

{ولهم عذاب أليم} {في الآخرة}

١٦

{كمثل الشيطان} أي مثل المنافقين في إغراء اليهود على القتال كمثل الشيطان

{إذ قال للإنسان أكفر} أغراه على الكفر إغراء الآمر المأمور

{فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف اللّه رب العالمين} تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ولم ينفعه ذلك كما قال

١٧

{فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين} والمراد من الإنسان الجنس قيل أبو جهل قال له إبليس يوم بدر لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم الآية وقيل راهب حمله على الفجور والارتداد وقرىء عاقبتهما و خالدان على أن خبر إن و في النار لغو

١٨

{يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه ولتنظر نفس ما قدمت لغد} ليوم القيامة سماه به لدنوه أو لأن الدنيا كيوم والآخرة كغده وتنكيره للتعظيم وأما تنكير النفس فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدمن للآخرة كأنه قال فلتنظر نفس واحدة في ذلك

{واتقوا اللّه} تكرير للتأكيد أو الأول في أداء الواجبات لأنه مقرون بالعمل والثاني في ترك المحارم لاقترانه بقوله

{إن اللّه خبير بما تعملون} وهو كالوعيد على المعاصي

١٩

{ولا تكونوا كالذين نسوا اللّه} نسوا حقه

{فأنساهم أنفسهم} فجعلهم ناسين لها حتى لم يسمعوا ما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلصها أو أراهم يوم القيامة من الهول ما أنساهم أنفسهم

{أولئك هم الفاسقون} الكاملون في الفسوق

٢٠

{لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} الذين استكملوا نفوسهم فاستأهلوا الجنة والذين استمهنوها فاستحقوا النار واحتج به أصحابنا على أن المسلم لا يقتل بالكافر

{أصحاب الجنة هم الفائزون} بالنعيم المقيم

٢١

{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية اللّه} تمثيل وتخييل كما مر في قوله إنا عرضنا الأمانة ولذلك عقبه بقوله

{وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} فإن الإشارة إليه وإلى أمثاله والمراد توبيخ الإنسان على عدم تخشعه عند تلاوة القرآن لقساوة قلبه وقلة تدبره والتصدع التشقق وقرىء مصدعا على الإدغام

٢٢

{هو للّه الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة} ما غاب عن الحس من الجواهر القدسية وأحوالها وما حضر له من الأجرام وأعراضها وتقديم الغيب لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به أو المعدوم والموجود أو السر و العلانية وقيل الدنيا والآخرة

{هو الرحمن الرحيم}

٢٣

{هو اللّه الذي لا إله إلا هو الملك القدوس} البالغ في النزاهة عما يوجب نقصانا وقرىء بالفتح وهو لغة فيه

{السلام} ذو السلامة من كل نقص وآفة مصدر وصف به للمبالغة

{المؤمن} واهب الأمن وقرىء بالفتح بمعنى المؤمن به على حذف الجار

{المهيمن} الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن قلبت همزته هاء

{العزيز الجبار} الذي جبر خلقه على ما أراده أو جبر حالهم بمعنى أصلحه

{المتكبر} الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا

{سبحان اللّه عما يشركون} إذ لا يشركه في شيء من ذلك

٢٤

{هو اللّه الخالق} المقدر للأشياء على مقتضى حكمته

{البارىء} الموجد لها بريئا من التفاوت

{المصور} الموجد لصورها وكيفياتها كما أراد ومن أراد الإطناب في شرح هذه الأسماء وأخواتها فعليه بكتابي المسمى بمنتهى المنى

{له الأسماء الحسنى} لأنها دالة على محاسن المعاني

{يسبح له ما في السموات والأرض} لتنزهه عن النقائص كلها

{وهو العزيز الحكيم} الجامع للكمالات بأسرها فإنها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم:

من قرأ سورة الحشر غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر

﴿ ٠