تفسير البيضاوي: أنوار التنزيل و أسرار التأويل أبو سعيد عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي الشيرازي الفارسي، ناصر الدين، القاضي الشافعي (ت ٦٨٥ هـ ١٢٨٦ م) _________________________________ سورة نوح سورة نوح مكية وآيها تسع أو ثمان وعشرون آية بسم اللّه الرحمن الرحيم _________________________________ {إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر} أي بأن أنذر أي بالأنذار أو بأن قلنا له أنذر ويجوز أن تكون مفسرة لتضمن الإرسال معنى القول وقرىء بغير أن على إرادة القول {قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم} عذاب الآخرة أو الطوفان ٢ {قال يا قوم إني لكم نذير مبين} ٣ {أن اعبدوا اللّه واتقوه وأطيعون} مر في الشعراء نظيره وفي أن يحتمل الوجهان ٤ {يغفر لكم من ذنوبكم} يغفر لكم بعض ذنوبكم وهو ما سبق فإن الإسلام يجبه فلا يؤاخذكم به في الآخرة {ويؤخركم إلى أجل مسمى} هو أقصى ما قدر لكم بشرط الإيمان والطاعة {إن أجل اللّه} إن الأجل الذي قدره {إذا جاء} على الوجه المقدر به آجلا وقيل إذا جاء الأجل الأطول {لا يؤخر} فبادروا في أوقات الإمهال والتأخير {لو كنتم تعلمون} لو كنتم من أهل العلم والنظر لعلمتم ذلك وفيه أنهم لانهماكهم في حب الحياة كأنهم شاكون في الموت ٥ {قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا} أي دائما ٦ {فلم يزدهم دعائي إلا فرارا} عن الإيمان والطاعة وإسناد الزيادة إلى الدعاء على السببية كقوله {فزادتهم إيمانا} [التّوبة:١٢٣] ٧ {وإني كلما دعوتهم} إلى الإيمان اتغفر لهم بسببه {جعلوا أصابعهم في آذانهم} سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة {واستغشوا ثيابهم} تغطوا بها لئلا يروني كراهة النظر إلي من فرط كراهة دعوتي أو لئلا أعرفهم فأدعوهم والتعبير بصيغة الطلب للمبالغة {وأصروا} وأكبوا على الكفر والمعاصي مستعار من أصر الحمار على العانة إذا صر أذنيه وأقبل عليها {واستكبروا} عن اتباعي {استكبارا} عظيما ٨ {ثم إني دعوتهم جهارا} ٩ {ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا} أي دعوتهم مرة بعد أخرى وكرة بعد أولى على أي وجه أمكنني و ثم لتفاوت الوجوه فإن الجهار أغلظ من الإسرار والجمع بينهما أغلظ من الإفراد لتراخي بعضها عن بعض و جهارا نصب على المصدر لأنه أحد نوعي الدعاء أو صفة مصدر محذوف بمعنى دعاء جهارا أي مجاهرا به أو الحال فيكون بمعنى مجاهرا ١٠ {فقلت استغفروا ربكم} بالتوبة عن الكفر {إنه كان غفارا} للتائبين وكأنهم لما أمرهم بالعبادة قالوا إن كنا على حق فلا نتركه وإن كنا على باطل فكيف يقبلنا ويلطف بنا من عصيناه فأمرهم بما يجب معاصيهم ويجلب إليهم المنح ولذلك وعدهم عليه ما هو أوقع في قلبهم وقيل لما طالت دعوتهم وتمادى إصرارهم حبس اللّه عنهم القطر أربعين سنة وأعقم أرحام نسائهم فوعدهم بذلك على الاستغفار عما كانوا عليه بقوله ١١ {يرسل السماء عليكم مدرارا} ١٢ {ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا} ولذلك شرع الاستغفار في الاستسقاء و السماء تحتمل المظلة والسحاب والمدرار كثير الدرور ويستوي في هذا البناء المذكر والمؤنث والمراد بال جنات البساتين ١٣ {ما لكم لا ترجون للّه وقارا} لا تأملون له توقيرا أي تعظيما لمن عبده وأطاعه فتكونوا على حال تأملون فيها تعظيمها إياكم و للّه بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة ل وقارا أو لا تعتقدون له عظمة فتخافوا عصيانة وإنما عبر عن الاعتقاد بالرجاء التابع لأدنى الظن مبالغة ١٤ {وقد خلقككم أطوارا} حال مقررة للإنكار من حيث إنها موجبة للرجاء فإنه خلقهم أطوارا أي تارات إذ خلقهم أولا عناصر ثم مركبات تغذي الإنسان ثم أخلاطا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ولحوما ثم أنشأهم خلقا آخر فإنه يدل على أنه يمكن أن يعيدهم تارة أخرى فيعظمهم بالثواب وعلى أنه تعالى عظيم القدرة تام الحكمة ثم أتبع ذلك ما يؤيده من آيات الآفاق فقال ١٥ {ألم تروا كيف خلق اللّه سبع سموات طباقا} ١٦ {وجعل القمر فيهن نورا} أي في السموات وهو في السماء الدنيا وإنما نسب إليهن من الملابسة {وجعل الشمس سراجا} مثلها به لأنها تزيل ظلمة الليل عن وجه الأرض كما يزيلها السراج عما حوله ١٧ {واللّه أنبتكم من الأرض نباتا} أنشأكم منها فاستعير الإنبات للإنشاء لأنه أدل على الحدوث والتكون من الأرض وأصله {أنبتكم من الأرض} إنباتا فنبتم نباتا فاختصره اكتفاء بالدلالة الالتزامية ١٨ {ثم يعيدكم فيها} مقبورين {ويخرجكم إخراجا} بالحشر وأكده بالمصدر كما أكد به الأول دلالة على أن الإعادة محققة كالإ بداء وأنها تكون لا محالة ١٩ {واللّه جعل لكم الأرض بساطا} تتقلبون عليها ٢٠ {لتسلكوا منها سبلا فجاجا} واسعة جمع فج ومن لتضمن الفعل معنى الاتخاذ ٢١ {قال نوح رب إنهم عصوني} فيما أمرتهم به {واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا} واتبعوا رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترين بأولادهم بحيث صار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة وفيه أنهم إنما اتبعوهم لوجاهة حصلت لهم بالأموال والأولاد وأدت بهم إلى الخسار وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي والبصريان وولده ةبالضم والسكون على أنه لغة كالحزن والحزن أو جمع كالأسد ٢٢ {ومكروا} عطف على {لم يزده} والضمير لمن وجمعه للمعنى {مكرا كبارا} كبيرا في الغاية فإنه أبلغ من كبار وهو من كبير وذلك احتيالهم في الدين وتحريش الناس على أذى نوح عليه السلام ٢٣ {وقالوا لا تذرن آلهتكم} أي عبادتها {ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} {ولا تذرن} هؤلاء خصوصا قيل هي أسماء رجال صالحين كانوا بين آدم ونوح فلما ماتوا صوروا تبركا بهم فلما طال الزمان عبدوا وقد انتقلت إلى العرب فكان ود لكلب وسواع لهمدان ويغوث لمذحج ويعوق لمراد ونسر لحمير وقرأ نافع ودا بالضم وقرىء يغوثا ويعوقا للتناسب ومنع صرفهما للعلمية والعجمة ٢٤ {وقد أضلوا كثيرا} الضمير للرؤساء أو للأصنام كقوله {إنهن أضللن كثيرا} [ابراهيم:٣٦] {ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} عطف على {رب إنهم عصوني} [نوح:٢١] ل المطلوب هو الضلال في ترويج مكرهم ومصالح دنياهم لا في أمر دينهم أو الضياع والهلاك كقوله {إن المجرمين في ضلال وسعر} [القمر:٤٧] ٢٥ {مما خطيئاتهم} من أجل خطيئاتهم وما مزيدة للتأكيد والتفخيم وقرأ أبو عمرو مما خطاياهم {أغرقوا} بالطوفان {فأدخلوا نارا} المراد عذاب القبر أو عذاب الآخرة والتعقيب لعدم الاعتداد بما بين الإغراق والإدخال أو لأن المسبب كالمتعقب للسبب وإن تراخى عنه لفقد شرط أو وجود مانع وتنكير النار للتعظيم أو لأن المراد نوع من النيران {فلم يجدوا لهم من دون اللّه أنصارا} تعريض لهم باتخاذ آلهة من دون اللّه لا تقدر على نصرهم ٢٦ {وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديار} أي أحدا وهو مما يستعمل في النفي العام فيعال من الدار أو الدور وأصله ديوار ففعل به ما بأصل سيد الأفعال وإلا لكان دوارا ٢٧ {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} قال ذلك لما جربهم واستقرى أحوالهم ألف سنة إلا خمسين عاما فعرف شيمهم وطباعهم ٢٨ {رب اغفر لي ولوالدي} لملك بن متوشلخ وشمخا بنت أنوش وكانا مؤمنين {ولمن دخل بيتي} منزلي أو مسجدي أو سفينتي {مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات} إلى يوم القيامة {ولا تزد الظالمين إلا تبارا} هلاكا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح |
﴿ ٠ ﴾