٢ الحمد للّه الحمد هو النعت بالجميل على الجميل اختياريا كان أو مبدأ له على وجه يشعر ذلك بتوجيهه الى المنعوت وبهذه الحيثية يمتاز عن المدح فإنه خال عنها يرشدك الى ذلك ما ترى بينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول في قولك حمدته ومدحته فإن تعلق الثاني بمفعوله على منهاج تعلق عامة الافعال بمفعولاتها وأما الأول فتعلقه بمفعوله منبىء عن معنى الإنهاء كما في قولك كلمته فإنه معرب عما يقيده لام التبليغ في قولك قلت له ونظيره وشكرته وعبدته وخدمته فإن تعلق كل منها منبىء عن المعنى المذكور وتحقيقه ان مفعول كل فعل في الحقيقة هو الحدث الصادر عن فاعله ولا يتصور في كيفية تعلق الفعل به أي فعل كان اختلاف اصلا وأما المفعول به الذي هو محله وموقعه فلما كان تعلقه به ووقوعه عليه على انحاء مختلفة حسبما يقتضيه خصوصيات الافعال بحسب معانيها المختلفة فإن بعضها يقتضي ان يلابسه ملابسة تامة مؤثرة فيه كعامة الافعال وبعضها يستدعي ان يلابسه ادنى ملابسة اما بالانتهاء اليه كالاعانة مثلا أو بالإبتداء منه كالإستعانة مثلا اعتبر في كل نحو من انحاء تعلقه به كيفية لائقة بذلك النحو مغايرة لما اعتبر في النحوين الأخيرين فنظم القسم الأول من التعلق في سلك التعلق بالمفعول الحقيقي مراعاة لقوة الملابسة وجعل كل واحد من القسمين الاخيرين من قبيل التعلق بواسطة الجار المناسب له فإن قولك اعنته مشعر بانتهاء الإعانة اليه وقولك استعنته بابتدائها منه وقد يكون لفعل واحد مفعولان يتعلق بأحدهما على الكيفية الأولى وبالاخر على الثانية أو الثالثة كما في قولك حدثني الحديث وسألني المال فإن التحديث مع كونه فعلا واحدا قد تعلق بك على الكيفية الثانية وبالحديث على الأولى وكذا السؤال فإنه فعل واحد وقد تعلق بك على الكيفية الثالثة وبالمال على الأولى ولا ريب في ان اختلاف هذه الكيفيات الثلاث وتباينها واختصاص كل من المفاعيل المذكورة بما نسب إليه منها مما لا يتصور فيه تردد ولا نكير وإن كان لا يتضح حق الاتضاح إلا عند الترجمة والتفسير وإن مدار ذلك الاختلاف ليس إلا اختلاف الفعل أو اختلاف المفعول وإذ لاختلاف في مفعول الحمد والمدح تعين أن اختلافهما في كيفية التعلق لاختلافهما في المعنى قطعا هذا وقد قيل المدح مطلق عن قيد الإختيار يقال مدحت زيدا على حسنه ورشاقة قدة وأياما كان فليس بينهما ترادف بل أخوة من جهة الاشتقاق الكبير وتناسب تام في المعنى كالنصر والتأييد فإنهما متناسبان معنى من غير ترادف لما ترى بينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول وإنما مرادف النصر الإعانة ومرادف التأييد التقوية فتدبر ثم إن ما ذكر من التفسير هو المشهور من معنى الحمد واللائق بالإدارة في مقام التعظيم وأما ما ذكر في كتب اللغة من معنى الرضى مطلقا كما في قوله تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وفي قولهم لهذا الأمر عاقبة حميدة وفي قول الأطباء بحران محمود مما لا يختص بالفاعل فضلا عن الإختيار فبمعزل عن استحقاق الإرادة ههنا استقلالا أو استتباعا بحمل الحمد على ما يعم المعنيين إذ ليس في إثباته له عز و جل فائدة يعتد بها وأما الشكر فهو مقابلة النعمة بالثناء وآداب الجوارح وعقد القلب على وصف المنعم بنعت الكمال كما قال من قال أفادتكم النعماء منى ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا فإذن هو أعم منهما من جهة وأخص من أخرى ونقيضة الكفران ولما كان الحمد من بين شعب الشكر أدخل في إشاعة النعمة والاعتداد بشأنها وأدل على مكانها لما في عمل القلب من الخفاء وفي أعمال الجوارح من الاحتمال جعل الحمد رأس الشكر وملاكا لأمره في قوله الحمد رأس الشكر ما شكر اللّه عبده لم يحمده وارتفاعة بالابتداء وخبره الظرف وأصله النصب كما هو شأن المصادر المنصوبة بأفعالها المضمرة التي لا تكاد تستعمل معها نحو شكرا وعجبا كأنه قيل نحمد اللّه حمدا بنون الحكاية ليوافق ما في قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين لاتحاد الفاعل في الكل وأما ما قيل من أنه بيان لحمدهم له تعالى كأنه قيل كيف تحمدون فقيل إياك نعبد فمع أنه لا حاجة إليه مما لا صحة له في نفسه فإن السؤال المقدر لا بد أن يكون بحيث يقتضيه انتظام الكلام وينساق إليه الأذهان والأفهام ولاريب في أن الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفية اللائقة لا يخطر ببال أحد أن يسأل عن كيفيته على أن ما قدر من السؤال غير مطابق للجواب فإنه مسوق لتعيين المعبود لا لبيان العبادة حتى يتوهم كونه بيانا لكيفية حمدهم والاعتذار بأن المعنى نخصك بالعبادة وبه يتبين كيفية الحمد تعكيس للأمر وتمحل لتوفيق المنزل المقرر بالموهوم المقدر وبعد اللينا والتي أن فرض السؤال من جهته عز و جل فأتت نكتت الإلتفات التي أجمع عليها السلف والخلف وإن فرض من جهة الغير يختل النظام لابتناء الجواب على خطابة تعالى وبهذا يتضح فساد ما قيل أنه استئناف جوابا لسؤال يقتضيه إجراء تلك الصفات العظام على الموصوف بها فكأنه قيل ما شأنكم معه وكيف توجهكم إليه فأجيب بحصر العبادة والاستعانة فيه فإن تناسى جانب السائل بالكلية وبناء الجواب على خطابة عز وعلا مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله والحق الذي لا محيد عنه أنه استئناف صدر عن الحامد بمحض ملاحظة اتصافه تعالى بما ذكر من النعوت الجليلة الموجبة للإقبال الكلي عليه من غير أن يتوسط هناك شيء آخر كما ستحيط به خبرا أو إيثار الرفع على النصب الذي هو الأصل للإيذان بأن ثبوت الحمد له تعالى لذاته لا لإثبات مثبت وأن ذلك أمر دائم مستمر لا حادث متجدد كما تفيده قراءة النصب وهو السر في كون تحية الخليل للملائكة عليهم التحية والسلام أحسن من تحيتهم له في قوله تعالى قالوا سلاما قال سلام وتعريفه للجنس ومعناه الإشارة إلى الحقيقة من حيث هي حاضرة في ذهن السامع والمراد تخصيص حقيقة الحمد به تعالى المستدعى لتخصيص جميع أفرادها به سبحانه على الطريق البرهاني لكن لا بناء على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى فتكون الأفراد الواقعة بمقابلة ما صدر عنهم من الأفعال الجميلة راجعة إليه تعالى بل بناء على تنزيل تلك الأفراد ودواعيها في المقام الخطابي منزلة العدم كيفا وكما وقد قيل للإستغراق الحاصل بالقصد إلى الحقيقة من حيث تحققها في ضمن جميع افرادها حسبما يقتضيه المقام وقرئ الحمد للّه بكسر الدال اتباعا لها باللام وبضم اللام اتباعا لها بالدال بناء على تنزيل الكلمتين لكثرة استعمالهما مقترنتين منزلة كلمة واحدة مثل المغيرة ومنحدر الجبل رب العالمين بالجر على أنه صفة للّه فإن إضافته حقيقية مفيدة للتعريف على كل حال ضرورة تعين إرادة الاستمرار وقرئ منصوبا على المدح أو بما دل عليه الجملة السابقة كأنه قيل نحمد اللّه رب العالمين ولا مساغ لنصبه بالحمد لقلة أعمال المصدر المحلى باللام وللزوم الفصل بين العامل والمعمول بالخبر والرب في الأصل مصدر بمعنى التربية وهي تبليغ الشئ إلى كماله شيئا فشيئا وصف به الفاعل مبالغة كالعدل وقيل صفة مشبهة من ربه يربه مثل نمه ينمه بعد جعله لازما بنقله إلى فعل بالضم كما هو المشهور سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيد كرب الدار ورب الدابة ومنه قوله تعالى فيسقى ربه خمرا وقوله تعالى أرجع إلى ربك وما في الصحيحين من أنه قال لا يقل أحدكم أطعم ربك وضئ ربك ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدى ومولاي فقد قيل إن النهى فيه للتنزيه وأما الأ رباب فحيث لم يكن إطلاقه على اللّه سبحانه جاز في أطلاقه الإطلاق والتقييد كما في قوله تعالى أأرباب متفرقون خير الآية والعالم اسم لما يعلم به كالخاتم والقالب غلب فيما يعلم به الصانع تعالى من المصنوعات أي في القدر المشترك بين أجناسها وبين مجموعها فإنه كما يطلق على كل جنس جنس منها في قولهم عالم الأفلاك وعالم العناصر وعالم النبات وعالم الحيوان إلى غير ذلك يطلق على المجموع أيضا كما في قولنا العالم بجميع أجزائه محدث وقيل هو اسم لأولى العلم من الملائكة والثقلين وتناوله لما سواهم بطريق الاستتباع وقيل أريد به الناس فقط فإن كل واحد منهم من حيث اشتماله على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم بما فيه عالم على حياله ولذلك أمر بالنظر في الأنفس كالنظر في الآفاق فقيل وفي أنفسكم أفلا تبصرون والأول هو الأحق الأظهر وإيثار صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع الأجناس والتعريف لاستغراق أفراد كل منها بأسرها إذ لو أفرد لربما توهم أن المقصود بالتعريف هو الحقيقة من حيث هي أو استغراق إفراد جنس واحد على الوجه الذي أشير إليه في تعريف الحمد وحيث صح ذلك بمساعدة التعريف نزل العالم وإن لم ينطلق على آحاد مدلولة منزلة الجمع حتى قيل أنه جمع لا واحد له من لفظه فكما أن الجمع المعرف يستغرق آحاد مفرده وإن لم يصدق عليها كما في مثل قوله تعالى واللّه يحب المحسنين أي كل محسن كذلك العالم يشمل أفراد الجنس المسمى به وإن لم ينطلق عليها كأنها آحاد مفرده التقديري ومن قضية هذا التنزيل تنزيل جمعه منزلة جمع الجمع فكما أن الأقاويل يتناول كل واحد من آحاد الأقوال يتناول لفظ العالمين كل واحد من آحاد الجناس التي لا تكاد تحصى روى عن وهب ابن منبه أنه قال للّه تعالى ثمانية عشر ألف عالم والدنيا عالم منها وإنما جمع بالواو والنون مع اختصاص ذلك بصفات العقلاء وما في حكمها من الاعلام لدلالته على معنى العلم مع اعتبار تغليب العقلاء على غيرهم واعلم ان عدم انطلاق اسم العالم على كل واحد من تلك الآحاد ليس الاباعتبار الغلبة والاصطلاح وأما باعتبارالاصل فلا ريب في صحة الاطلاق قطعا لتحقيق المصداق حتما فإنه كما يستدل على اللّه سبحانه بمجموع ما سواه وبكل جنس من اجناسه يستدل عليه تعالى بكل جزء من اجزاء ذلك المجموع وبكل فرد من افراد تلك الاجناس لتحقق الحاجة الى المؤثر الواجب لذاته في الكل فإن كل ما ظهر في المظاهر مما عزو هان وحضر في هذه المحاضر كائنا ما كان دليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح الى عالم التوحيد وأما شمول ربوبيته عز و جل للكل فما لا حاجة الى بيانه اذ لا شيء مما أحدق به نطاق الامكان والوجود من العلويات والسفليات والمجردات والماديات والروحانيات والجسمانيات الا وهو في حد ذاته بحيث لو فرض انقطاع آثار التربية عنه آنا واحدا لما استقر له القرار ولا اطمأنت به الدار الا في مطمورة العدم ومهاوى البوار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس في كل زمان يمضي وكل آن يمر وينقضي من فنون الفيوض المتعلقة بذاته ووجوده وصفاته وكمالاته ما لا يحيط به فلك التعبير ولا يعلمه الا العليم الخبير ضرورة انه كما لا يستحق شيء من الممكنات بذاته الوجود ابتداء لا يستحقه بقاء وانما ذلك من جناب المبدأ الأول عز وعلا فكما لا يتصور وجوده ابتداء ما لم ينسد عليه جميع انحاء عدمه الأصلى لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع انحاء عدمه الطارىء لما ان الدوام من خصائص الوجود الواجبي وظاهر ان ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التي هي عللّه وشرائطه وإن كانت متناهيه لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده وهي المعبر عنها بارتفاع الموانع ليست كذلك اذ لا استحالة في ان يكون لشيء واحد موانع غير متناهية يتوقف وجوده أو بقاؤه على ارتفاعها أي بقائها على العدم مع إمكان وجودها في نفسها فإبقاء تلك الموانع التي لا تتناهى على العدم تربية لذلك الشيء من وجوه غير متناهية وبالجملة فآثار تربيته عز و جل الفائضة على كل فرد من افراد الموجودات في كل آن من آنات الوجود غير متناهية فسبحانه سبحانه ما اعظم سلطانه لا تلاحظه العيون بأنظارها ولا تطالعه العقول بأفكارها شأنه لا يضاهي وإحسانه لا يتناهى ونحن في معرفته حائرون وفي إقامة مراسم شكره قاصرون نسألك اللّهم الهداية إلى مناهج معرفتك والتوفيق لأداء حقوق نعمتك لا نحصى ثناء عليك لا اله الا انت نستغفرك ونتوب اليك |
﴿ ٢ ﴾