ÓõæÑóÉõ ÇáúÈóÞóÑóÉö ãóÏóäöíøóÉñ

æóåöíó ãöÇÆóÊóÇäö æóÓöÊøñ æóËóãóÇäõæäó ÂíóÉð

سورة البقرة

سورة البقرة مدنية وهي مائتان وسبع وثمانون آيه

_________________________________

١

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الم الالفاظ التي يعبر بها عن حروف المعجم التي من جملتها المقطعات المرقومة في فواتح السور الكريمة اسماء لها لا ندراجها تحت حد الاسم ويشهد به ما يعتريها من التعريف والتنكير والجمع والتصغير وغير ذلك من خصائص الاسم وقد نص على ذلك اساطين ائمة العربية وما وقع في عبارات المتقديمن من التصريح بحرفيتها محمول على المسامحة

وأما ما روى عن ابن مسعود رضي اللّه عنه من انه قال من قرأ حرفا من كتاب اللّه فله حسنة والحسنة بعشر امثالها لا اقول الم حرف بل الف حرف ولام حرف وميم حرف وفي رواية الترمذي والدارمي لا اقول الم حرف وذلك الكتاب حرف ولكن الالف حرف واللام حرف والميم حرف والذال حرف والكاف حرف فلا تعلق له بما نحن فيه قطعا فإن اطلاق الحرف على ما يقابل الاسم والفعل عرف جديد اخترعه ائمة الصناعة وإنما الحرف عند الاوائل ما يتركب منه الكلم من الحروف المبسوطة وربما يطلق على الكلمة ايضا تجوزا فأريد بالحديث الشريف دفع توهم التجوز وزيادة تعيين ارادة المعنى الحقيقي ليتبين بذلك أن الحسنة الموعودة ليست بعدد الكلمات القرآنية بل بعدد حروفها المكتوبة في المصاحف كما يلوح به ذكر كتاب اللّه دون كلام اللّه أو القرآن وليس هذا من تسمية الشيء بأسم مدلوله في شيء كما قيل كيف لا والمحكوم عليه بالحرفية واستتباع الحسنة انما هي المسميات البسيطة الواقعة في كتاب اللّه عز و جل سواء عبر عنها بأسمائها أو بأنفسها كما في قولك السين مهملة والشين معجمة مثلثة وغير ذلك مما لا يصدق المحمول الا على ذات الموضوع لا اسماؤها المؤلفة كما إذا قلت الالف مؤلف من ثلاثة احرف فكما أن الحسنات في قراءة قوله تعالى ذلك الكتاب بمقابلة حروفه البسيطة وموافقة لعددها كذلك في قراءة قوله تعالى الم بمقابلة حروفه الثلاثة المكتوبة وموافقة لعددها لا بمقابلة أسمائها الملفوظة وإلالفات الموافقة في العدد إذا لحكم بأن كلا منها حرف واحد مستلزم للحكم بأنه مستتبع لحسنة واحدة فالعبرة في ذلك بالمعبر عنه دون المعبربه ولعل السر فيه ان استتباع الحسنة منوط بإفادة المعنى المراد بالكلمات القرآنية فكما أن سائر الكلمات الشريفة لا تفيد معانيها الا بتلفظ حروفها بأنفسها كذلك الفواتح المكتوبة لا تفيد المعاني المقصودة بها الا بالتعبير عنها بأسمائها فجعل ذلك تلفظا بالمسميات كالقسم للأول من غير فرق بينهما إلا يرى إلى ما في الرواية الأخيرة من قوله والذال حرف والكاف حرف كيف عبر عن طرفي ذلك باسميها مع كونهما ملفوظين بأنفسهما ولقد روعيت في هذه التسمية نكتة رائعة حيث جعل كل مسمى لكونه من قبيل الألفاظ صدرا لاسمه ليكون هو المفهوم منه أثر ذي أثير خلا أن الالف حيث تعذر الابتداء بها استعيرت مكانها الهمزة وهي معربة إذ لا مناسبة بينها وبين مبنى الأصل لكنها مالم تلها العوامل ساكنة الأعجاز على الوقف كأسماء الأعداد وغيرها حين خلت عن العوامل ولذلك قيل صاد وقاف مجموعا فيهما بين الساكنين ولم يعامل معاملة أين وكيف وهؤلاء وإن وليها عامل مسها الإعراب وقصر ما آخره ألف عند التهجى لابتغاء الخفة لا لأن وزانه وزان لا تقصر تارة فتكون حرفا وتمد أخرى فيكون اسما لها كما في قول حسان رضي اللّه عنه ...

ما قال لا قط إلا في تشهده ...

لولا التشهد لم تسمع له لاء ...

هذا وقد تكلم

وا في شان هذه الفواتح الكريمة وما أريد بها فقيل إنها من العلوم المستورة والأسرار المحجوبة

روى عن الصديق رضي اللّه عنه أنه قال في كل كتاب سر وسر القرآن أوائل السور وعن علي رضي اللّه عنه أن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجى وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال عجزت العلماء عن إدراكها وسئل الشعبي عنها فقال سر اللّه عز و جل فلا تطلبوه

وقيل أنها أسماء اللّه تعالى

وقيل كل حرف منها إشارة إلى اسم من أسماء اللّه تعالى أو صفة من صفاته تعالى

وقيل إنها صفات الأفعال الألف آلاؤء واللام لطفه والميم مجده وملكه قاله محمد بن كعب القرظي

وقيل إنها من قبيل الحساب

وقيل الألف من اللّه واللام من جبريل والميم من محمد أي أنزل اللّه الكتاب بواسطة جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام

وقيل هي أقسام من اللّه تعالى بهذه الحروف المعجمة لشرفها من حيث أنها أصول اللغات ومبادئ كتبه المنزلة ومباني أسمائه الكريمة

وقيل إشارة إلى انتهاء كلام وابتداء كلام آخر

وقيل ولكن الذي عليه التعويل إما كونها أسماء للسور المصدرة بها وعليه إجماع الأكثر وإليه ذهب الخليل وسيبويه قالوا سميت بها إيذانا بانها كلمات عربية معروفة التركيب من مسميات هذه الألفاظ فيكون فيه إيماء إلى الإعجاز والتحدي على سبيل الإيقاظ فلولا أنه وحى من اللّه عز و جل لما عجزوا عن معارضته ويقرب منه ما قاله الكلبي والسدي وقتادة من أنها أسماء للقرآن والتسمية بثلاثة أسماء فصاعدا إنما تستنكر في لغة العرب إذا ركبت وجعلت أسما واحدا كما في حضرموت فإما إذا كانت منثورة فلا استنكار فيها والمسمى هو المجموع لا الفاتحة فقط حتى يلزم اتحاد الاسم والمسمى غاية الأمر دخول الاسم في المسمى ولا محذور فيه كما لا محذور في عكسه حسبما تحققته آنفا وإنما كتبت في المصاحف صور المسميات دون صور الأسماء لأنه أدل على كيفية التلفظ بها وهي أن يكون على نهج التهجي دون التركيب ولأن فيه سلامة من التطويل لا سيما في الفواتح الخماسية على أن خط المصحف مما لا يناقش فيه بمخالفة القياس

وأما كونها مسرودة على نمط التعديد وإليه جنح أهل التحقيق قالوا إنما وردت هكذا ليكون إيقاظا بمن تحدى بالقرآن وتنبيها لهم على أنه منتظم من عين ما ينظمون منه كلامهم فلولا أنه خارج عن طوق البشر نازل من عند خلاق القوى والقدر لما تضاءلت قوتهم ولا تساقطت قدرتهم وهم فرسان حلبة الحوار وأمراء الكلام في نادي الفخار دون الإتيان بما يدانيه فضلا عن المعارضة بما يساويه مع تظاهرهم في المضادة والمضارة وتهالكهم على المعازة والمعارة أو ليكون مطلع ما يتلى عليهم مستقلا بضرب من الغرابة أنموذجا لما في الباقي من فنون الإعجاز فإن النطق بأنفس الحروف في تضاعيف الكلام وأن كان على طرف الثمام يتناوله الخواص والعوام من الأعراب والأعجام لكن التلفظ بأسمائها إنما يتأتى ممن درس وخط

وأما ممن لم يحم حول ذلك قط فأعز من بيض الأنوق وأبعد من مناط العيوق لا سيما إذا كان على نمط عجيب وأسلوب غريب منبئ عن سر سرى مبنى على نهج عبقري بحيث يحار في فهمه أرباب العقول ويعجز عن إدراكه الباب الفحول كيف لا وقد وردت تلك الفواتح في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم مشتملة على نصفها تقريبا بحيث ينطوى على انصاف اصنافها تحقيقا أو تقريبا كما يتضح عند الفحص والتنقير حسبما فصله بعض أفاضل أئمة التفسير فسبحان من دقت حكمته من أن يطالعها النظار وجلت قدرته عن أن ينالها أيدى الأفكار وايراد بعضها فرادى وبعضها ثنائية إلى الخماسية جرى على عادة الافتتان مع مراعاة أبنية الكلم وتفريقها على السور دون إيراد كلها مرة لذلك ولما في التكرير والإعارة من زيادة إفادة وتخصيص كل منها بسورتها مما لا سبيل إلى المطالبة بوجهه وعد بعضها آية دون بعض مبنى على التوقيف البحت أما الم فآية حيثما وقعت

وقيل في آل عمران ليست بآية والمص آية والمر لم تعد آية والر ليست بآية في شئ من سورها الخمس وطسم آية في سورتيها وطه ويس آيتان وطس ليست بآية وحم آية في سورها كلها وكهيعص آية وحم عسق آيتان وص وق ون لم تعد واحدة منها آية هذا على رأي الكوفيين وقد قيل إن جميع الفواتح آيات عندهم في السور كلها بلا فرق بينها

وأما من عداهم فلم يعدوا شيئا منها آية ثم إنها على تقدير كونها مسرودة علىنمط التعديد لا تشم رائحة الإعراب ويوقف عليها وقف التمام وعلى تقدير كونها أسماء للسور أو للقرآن كان لها حظ منه أما الرفع على الإبتداء أو على الخبرية

وأما النصب بفعل مضمر كا ذكر أو بتقدير فعل القسم على طريقة اللّه لأفعلن

وأما الجر بتقدير حرفة حسبما يتقتضيه المقام ويستدعيه النظام ولا وقف فيما عدا الرفع على الخبرية والتلفظ بالكل على وجه الحكاية ساكنة الأعجاز إلا أن ما كانت منها مفردة مثل ص وق ون يتأتى فيها الإعراب اللفظي أيضا وقد قرئت بالنصب على إضمار فعل أي اذكر أو اقرأ صاد وقاف ونون وإنما لم تنون لامتناع الصرف وكذا ما كانت منها موازنة لمفرد نحو حم ويس وطس الموازنة لقابيل وهابيل حيث أجاز سيبويه فيها مثل ذلك قال باب أسماء السور من كتابه وقد قرأ بعضهم ياسين والقرآن وقاف والقرآن فكأنه جعله اسما أعجميا ثم قال اذكر ياسين انتهى وحكى السير افي أيضا عن بعضهم قراءة ياسين ويجوز ان يكون ذلك في الكل تحريكا لالتقاء الساكنين ولا مساغ لنصب بإضمار فعل القسم لأن ما بعدها من القرآن والقلم محلوف بهما وقد استكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم عليه واحد قبل انقضاء الأول وهو السر في جعل ما عدا الواو الأولى في قوله تعالى والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى عاطفة ولا مجال للعطف ههنا للمخالفة بين الأول والثاني في الإعراب نعم يجوز ذلك بجعل الأول مجرورا بإضمار الباء القسمية مفتوحا لكونه غير منصوف وقرئ ص وق بالكسر علىالتحريك لا لتقاء الساكنين ويجوز في طاسين ميم أن تفتح نونها وتجعل من قبيل دارا بجرد ذكره سيبويه في كتابه

وأما ما عدا ذلك من الفواتح فليس فيها إلا الحكاية وسيجيء تفاصيل سائر أحكام كل منها مشروحة في مواقعها بإذن اللّه عز سلطانه أما هذه الفاتحة الشريفة فإن جعلت اسما للسورة أو القرآن فمحلها الرفع إما على أنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير هذا الم أي مسمى به وإنما صحت الإشارة إلى القرآن بعضا أو كلا مع عدم سبق ذكره لأنه باعتبار كونه بصدد الذكر صار في حكم الحاضر المشاهد كما يقال هذا ما اشترى فلان

وأما على انه مبتدأ أي المسمى به والأول هو الأظهر لأن ما يجعل عنوان الموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه عند المخاطب وإذ لا علم بالتسمية قبل فحقها الإخبار بها وادعاء شهرتها يأباه التردد في أن المسمى هي السورة أو كل القرآن

٢

ذلك ذا اسم إشارة واللام عماد جيء به للدلالة على بعد المشار إليه والكاف للخطاب والمشار إليه هو المسمى فإنه منزل منزلة المشاهد بالحس البصري وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو شانه وكونه في الغاية القاصية من الفضل والشرف أثر تنويهه بذكر اسمه وما قيل من انه باعتبار التقصى أو باعتبار الوصول من المرسل إلى المرسل إليه في حكم المتباعد وإن كان مصححا لا يراده لكنه بمعزل من ترجيحه على إيراد ما وضع للإشارة إلى القريب وتذكيره على تقدير كون المسمى هي السورة لأن المشار إليه هو المسمى بالأسم المذكور من حيث هو مسمى به لا من حيث هو مسمى بالسورة ولئن ادعى اعتبار الحيثية الثانية في الأول بناء على أن التسمية لتمييز السور بعضها من بعض فذلك لتذكير ما بعده وهو على الوجه الأول مبتدأ على حدة وعلى الوجه الثاني مبتدأ ثان و قوله عز وعلا

الكتاب إما خبر له أو صفة أما إذا كان خبرا له فالجملة على الوجه الأول مستأنفة مؤكدة لما أفادته الجملة الأولى من نباهة شأن المسمى لا محل لها من الإعراب وعلى الوجه الثاني في محل الرفع علىأنها خبر للمبتدأ الأول واسم الإشارة مغن عن الضمير الرابط والكتاب أما مصدر سمى به المفعول مبالغة كالخلق والتصوير للمخلوق والمصور

وأما فعال بني للمفعول كاللباس من الكتب الذي هو ضم الحروف بعضها إلى بعض وأصله الجمع والضم في الأمور البادية للحس البصري ومنه الكتيبة للعسكر كما أن أصل القراءة الجمع والضم في الأشياء الخافية عليه وإطلاق الكتاب على المنظوم عبارة لما أن مآله الكتابه والمراد به على تقدير كون المسمى هي السورة جميع القرآن الكريم وإن لم يتم نزوله عند نزول السورة إما باعتبار تحققه في علم اللّه عز و جل أو باعتبار ثبوته في اللوح أو اعتبار نزوله جملة إلى السماء الدنيا حسبما ذكر في فاتحة الكتاب واللام للعهد والمعنى أن هذه السورة هو الكتاب أي العمدة القصوى منه كأنه في إحراز الفضل كل الكتاب المعهود الغنى عن الوصف بالكمال لاشتهاره به فيما بين الكتب على طريقة قوله الحج عرفة وعلى تقدير كون المسمى كل القرآن فالمراد بالكتاب الجنس واللام الحقيقة والمعنى أن ذلك هو الكتاب الكامل الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب لغاية تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس كأن ما عداه من الكتب السماوية خارج منه بالنسبة إليه كما يقال هو الرجل أي الكامل في الرجولية الجامع لما يكون في الرجال من مراضى الخصال وعليه قول من قال ... هم القوم كل القوم يا أم خالد ... فالمدح كما ترى من جهة حصر كمال الجنس في فرد من افراده وفي الصورة الأولى من جهة حصر كمال الكل في الجزء ولا مساغ هناك لحمل الكتاب على الجنس لما أن فرده المعهود هو مجموع القرآن المقابل لسائر أفراده من الكتب السماوية لا بعضه الذي ينطلق عليه اسم الكتاب باعتبار كونه جزأ لهذا الفرد لا باعتبار كونه جزئيا للجنس على حياله ولأن حصر الكمال في السورة مشعر بنقصان سائر السور وإن لم يكن الحصر بالنسبة إليها لتحقيق المغايرة بينهما هذا على تقدير كون الكتاب خبرا لذلك

وأما إذا كان صفة له فذلك الكتاب على تقدير كون ألم خبر مبتدأ محذوف و إما خبر ثان أو بدل من الخبر الأول أو مبتدأ مستقل خبره ما بعده وعلى تقدير كونه مبتدأ إما خبر له أو مبتدأ ثان خبره ما بعده والجملة خبر للمبتدأ الأول والمشار إليه على كلا التقديرين هو المسمى سواء كان هي السورة أو القرآن ومعنى البعد ما ذكر من الإشعار بعلو شأنه والمعنى ذلك الكتاب العجيب الشأن البالغ أقصى مراتب الكمال

وقيل المشار إليه هو الكتاب الموعود فمعنى البعد حينئذ ظاهر خلا أنه إن كان المسمى هي السورة ينبغي ان يراد بالوعد ما في قوله تعالى إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا كما قيل وإن كان هو القرآن فهو ما في التوراة والإنجيل هذا على تقدير كون الم اسما للسورة أو القرآن

وأما على تقدير كونها مسرودة على نمط التعديد فذلك مبتدأ والكتاب إما خبره أو صفته والخبر ما بعده على نحو ما سلف أو يقدر مبتدأ أي المولف من هذه الحروف ذلك الكتاب وقرئ الم تنزيل الكتاب وقوله تعالى

لا ريب فيه إما في محل الرفع على أنه خبر لذلك الكتاب على الصور الثلاث المذكورة أو على أنه خبر ثان لا لم أو لذلك على تقدير كون الكتاب خبره أو للمبتدأ المقدر آخرا على رأي من يجوز كون الخبر الثاني جملة كما في قوله تعالى فإذا هي حية تسعى

وأما في محل النصب على الحالية من ذلك أو من الكتاب والعامل معنى الإشارة

وأما جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مؤكدة لما قبلها وكلمة لا نافية للجنس مفيدة للاستغراق عاملة عمل إن بحملها عليها لكونها نقيضا لها ولازمه للاسم لزومها واسمها مبنى على الفتح لكونه مفردا نكرة لا مضافا ولا شبيها به

وأما ما ذكره الزجاج من أنه معرب وإنما حذف التنوين للتخفيف فمما لا تعويل عليه وسبب بنائه تضمنة لمعنى من الاستغراقية لا أنه مركب معها تركيب خمسة عشر كما توهم وخبرها محذوف أي لا ريب موجود أو نحوه كما في قوله تعالى لا عاصم اليوم من أمر اللّه والظرف صفة لاسمها ومعناه نفي الكون المطلق وسلبه عن الريب المفروض في الكتاب أو الخبر هو الظرف ومعناه سلب الكون فيه عن الريب المطلق وقد جعل الخبر المحذوف ظرفا وجعل المذكور خبرا لما بعده وقرئ لا ريب فيه على أن لا بمعنى ليس والفرق بينه وبين الأول أن ذلك موجب للاستغراق وهذا مجوز له والريب في الأصل مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة وحقيقتها قلق النفس واضطرابها ثم استعمل في معنى الشك مطلقا أو مع تهمة لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة وفي الحديث دع ما يريبك إلى مالا يريبك ومعنى نفيه عن الكتاب أنه في علو الشأن وسطوع البرهان بحيث ليس فيه مظنة أن يرتاب في حقيقته وكونه وحيا منزلا من عند اللّه تعالى لا انه لا يرتاب فيه أحد أصلا ألا يرى كيف جوز ذلك في قوله تعالى وإن كنتم في ريب مما نزلنا الخ فإنه في قوة أن يقال وإن كان لكم ريب فيما نزلنا أو إن أرتبتم فيما نزلنا الخ إلا أنه خولف في الأسلوب حيث فرض كونهم في الريب لا كون الريب فيه لزيادة تنزيه ساحة التنزيل عنه مع نوع أشعار بأن ذلك من جهتهم لا من جهته العالية ولم يقصد ههنا ذلك الإشعار كما لم يقصد الإشعار بثبوت الريب في سائر الكتب ليقتضي المقام تقديم الظرف كما في قوله تعالى لا فيها غول

هدى مصدر من هداه كالسرى والبكى وهو الدلالة بلطف على ما يوصل إلى البغيه أي ما من شأنه ذلك

وقيل هي الدلالة الموصله اليها بليل وقوع الضلاله في مقابلته في قوله تعالى اولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى وقوله تعالى وانا أو اياكم لعلى هدى أو فِي ضلال مبين ولا شك في ان عدم الوصول معتبر في مفهوم الضلال فيعتبر الوصول في مفهوم مقابلة ومن ضرورة اعتباره فيه اعبتاره في مفهوم الهدى المتعدىإذ لا فرق بيهما إلا من حيث التأثير والتأثر ومحصله أن الهدى هو التوجية الموصل لأن اللازم هو التوجه الموصل بدليل أن مقابلة الذي هو الضلال توجه غير موصل قطعا وهذا كما ترى مبنى على امرين اعتبار الوصول وجوبا في مفهوم اللازم واعتبار وجود اللازم وجوبا في مفهوم المتعدي وكلا الأمرين بمعزل من الثبوت

أما الأول فلان مدار التقابل بين الهدىوالضلال ليس هو الوصول وعدمه على الإطلاق بل هما معتبران في مفهوميهما على وجه مخصوص به ليتحقق التقابل بينهما وتوضيحه أن الهدى لا بد فيه من اعتبار توجه عن علم إلى ما من شأنه الإيصال إلى البغية كما أن الضلال لا بد فيه توجه عن علم إلى ما من شانه الإيصال إلى البغية كما أن الضلال لا بد فيه من اعتبار الجور عن القصد إلى ما ليس من شأنه الإيصال قطعا وهذه المرتبة من الاعتبار مسلمة بين الفريقين ومحققة للتقابل بينهما وإنما النزاع في أن إمكان الوصول إلى البغية هل هو كاف في تحصل مفهوم الهدى أو لا بد فيه من خروج الوصول من القوة إلى الفعل كما أن عدم الوصول بالفعل معتبر في مفهوم الضلال قطعا إذا تقرر هذا فنقول إن أريد باعتبار الوصول بالفعل في مفهوم الهدى اعتباره مقارنا له في الوجود زمانا حسب اعتبار عدمه في مفهوم مقابلة فذلك بين البطلان لأن الوصول غاية للتوجه المذكور فينتهى به قطعا لاستحالة التوجه إلى تحصيل الحاصل وما يبقى بعد ذلك فهو إما توجه إلى الثبات عليه

وأما توجه إلى زيادته ولأن التوجه إلى المقصد تدريجي والوصول إليه دفعى فيستحيل اجتماعهما في الوجود ضرورة

وأما عدم الوصول فحيث كان أمرا مستمرا مثل ما يقتضيه من الضلال وجب مقارنته له في جميع أزمنة وجوده إذ لو فارقه في آن من آنات تلك الأزمنة لقارنه في ذلك الآن مقابلة ال ٤ ذي هو الوصول فما فرضناه ضلالا لا يكون ضلالها وإن أريد اعتباره من حيث أنه غاية له واجبة الترتب عليه لزم أن يكون التوجه المقارن لغاية الجد في السلوك إلى ما من شانه الوصول عند تخلفه عنه لمانع خارجي كاخترام المنية مثلا من غير تقصير ولا جور من قبل المتوجه ولا خلل من جهة المسلك ضلالا إذ لا واسطة بينهما مع أنه لاجور فيه عن القصد أصلا فبطل اعتبار وجوب الوصول في مفهوم اللازم قطعا وتبين منه عدم اعتباره في مفهوم المتعدى حتما

وأما اعتبار وجود اللازم فيه وجوبا وهو الأمر الثاني فبيانه مبنى على تمهيد أصل وهو ان فعل الفاعل حقيقة هو الذي يصدر عنه ويتم من قبله لكن لما لم يكن له في تحققه في نفسه بد من تعلقه بمفعوله اعتبر ذلك في مدلول اسمه قطعا ثم لما كان له باعتبار كيفية صدوره عن فاعله وكيفية تعلقه بمفعوله وغير ذلك آثار شتى مترتبة عليه متمايزة في أنفسها مستقلة بأحكام مقتضية لإفرادها بأسماء خاصة وعرض له بالقياس إلى كل اثر من تلك الآثار إضافة خاصة ممتازة عما عداها من الإضافات العارضة له بالقياس إلى سائرها وكانت تلك الآثار تابعة له في التحقق غير منفكة عنه أصلا إذ لا مؤثر لها سوى فاعله عدت من متمماته واعتبرت الإضافة العارضة له بحسبها داخلة في مدلوله كالاعتماد المتعلق بالجسم مثلا وضع له باعتبار الإضافة العارضة له من انكسار ذلك الجسم الذي هو أثر خاص لذلك الاعتماد اسم الكسر وباعتيار الإضافة العارضة له من انقطاعه الذي هو أثر آخر له اسم القطع إلى غير ذلك من الإضافات العارضة له بالقياس إلى آثاره اللازمة له وهذا أمر مطرد في آثاره الطبيعية

وأما الآثار التي له مدخل في وجودها في الجملة من غير إيجاب لها تترتب عليه تارة وتفارقه أخرى بحسب وجود أسبابها الموجبة لها وعدمها كالاثار الاختيارية الصادرة عن مؤثراتها بواسطة كونه داعيا إليها فحيث كانت تلك الآثار مستقلة في أنفسها مستندة إلى مؤثراتها غير لازمة له لزوم الاثار الطبيعية التابعة له لم تعد من متمماته ولم تعتبر الإضافة العارضة له بحسبها داخله في مدلولة كالإضافة العارضة للأمر بحسب امتثال المأمور والإضافة العارضة للدعوة بحسب إجابة المدعو فإن الامتثال والإجابة وإن عدا من آثار الأمر والدعوة باعتبار ترتبهما عليهما غالبا لكنهما حيث كانا فعلين اختياريين للمأمور والمدعو مستقلين في أنفسهما غير لازمين للأمر والدعوة لم يعدا من متمماتهما ولم يعتبر الإضافة العارضة لهما بحسبهما داخلة في مدلول اسم الأمر والدعوة بل جعلا عبارة عن نفس الطلب المتعلق بالمأمور والمدعو سواء وجد الامتثال والإجابة أولا إذا تمهد هذا فنقول كما ان الامتثال والإجابة فعلان مستقلان في أنفسهما صادران عن المدعو والمأمور باختيارهما غير لازمين للأمر والدعوة لزوم الآثار الطبيعية التابعة للأفعال الموجبة لها وإن كانا مترتبين عليهما في الجملة كذلك هدى المهدى أي توجهه إلى ما ذكر من المسلك فعل مستقل له صادر عنه باختياره غير لازم للّهداية أعنى التوجيه إليه لزوم ما ذكر من الآثار الطبيعية وأن كان مترتبا عليها في الجملة فلما لم يعدا من متممات الأمر والدعوة ولم يعتبر الإضافة العارضة لهما بحسبهما داخلة في مدلولهما علم أنه لم يعد الهدى اللازم من متممات الهداية ولم يعتبر الإضافة العارضة لها بحسبه داخلة في مدلولها إن قيل ليس الهدى بالنسبة إلى الهداية كالامتثال والإجابة بالقياس إلى أصليهما فإن تعلق الأمر والدعوة بالمأمور والمدعو لا يقتضى إلا اتصافهما بكونهما مأمورا ومدعوا وليس من ضرورته أتصافهما بالامتثال والإجابة إذ لا تلازم بينهما وبين الأولين أصلا بخلاف الهدى بالنسبة إلى الهداية فإن تعلقها بالمهدى يقتضى اتصافه به لأن تعلق الفعل المتعدى المبنى للفاعل بمفعوله يدل على اتصافه بمصدره المأخوذ من المبني للمفعول قطعا وهو مستلزم لاتصافه بمصدر الفعل اللازم وهل هو الاعتبار وجود اللازم في مدلول المتعدى حتما قلنا كما أن تعلق الأمر والدعوة بالمأمور والمدعو لا يستدعى الااتصافهما بما ذكر من غير تعرض للامتثال والإجابة إيجابا وسلبا كذلك تعلق الهداية التي هي عبارة عن الدلالة المذكورة بالمهدى لا يستدعى الااتصافه بالمدلولية التي هي عبارة عن المصدر المأخوذ من المبني للمفعول من غير تعرض لقبول تلك الدلالة كما هو معنى الهدى اللازم ولا لعدم قبوله بل الهداية عين الدعوة إلى طريق الحق والاهتداء عين الإجابة فكيف يؤخذ في مدلولها واستلزام الاتصاف بمصدر الفعل المتعدى المبنى للمفعول للاتصاف بمصدر الفعل اللازم مطلقا إنما هو في الأفعال الطبيعية كالمكسورية والانكسار والمقطوعية والانقطاع

وأما الأفعال الاختيارية فليست كذلك كما تحققته فيما سلف إن قيل التعلم من قبيل الأفعال الاختيارية مع أنه معتبر في مدلول التعليم قطعا فليكن الهدى مع الهداية كذلك قلنا ليس ذلك لكونه فعلا اختياريا على الإطلاق ولا لكون التعليم عبارة عن تحصيل العلم للمتعلم كما قيل فإن المعلم ليس بمستقل في ذلك ففي إسناده إليه ضرب تجوز بل لأن كلا منهما مفتقر في تحققه وتحصله إلى الآخر فإن التعليم عبارة عن إلقاء المبادئ العلمية على المتعلم وسوقها إلى ذهنه شيئا فشيئا على ترتيب يقتضيه الحال بحيث لا يساق إليه بعض منها الا بعد تلقيه لبعض آخر فكل منهما متمم للآخر معتبر في مدلوله

وأما الهدى الذي هو عبارة عن التوجه المذكور ففعل اختياري يستقل به فاعله لادخل للّهداية فيه سوى كونها داعية إلى ايجاده باختياره فلم يكن من متمماتها ولا معتبرا في مدلولها إن قيل التعليم نوع من أنواع الهداية والتعلم نوع من أنواع الاهتداء فيكون اعتباره في مدلول التعليم اعتبارا للّهدى في مدلول الهداية قلنا إطلاق الهداية على التعليم إنما هو عند وضوح المسلك واستبداد المتعلم بسلوكه من غير دخل للتعليم فيه سوى كونه داعيا إليه وقد عرفت جلية الأمر على ذلك التقدير إن قيل أليس تخلف الهدى عن الهداية كتخلف التعلم عن التعليم فحيث لم يكن ذلك تعليما في الحقيقة فليكن الهداية أيضا كذلك وليحمل تسمية مالا يستتبع الهدى بها على التجوز قلنا شتان بين التخلفين فإن تخلف التعلم عن التعليم يكون لقصور فيه كما أن تخلف الانكسار عن الضرب الضعيف لذلك

وأما تخلف الهدى عن الهداية فليس لشائبة قصور من جهتها بل إنما هو لفقد سببه الموجب له من جهة المهدى بعد تكامل ما يتم من قبل الهادي وبهذا التحرير اتضح طريق الهداية وتبين أنها عبارة عن مطلق الدلالة على ما من شانه الإيصال إلى البغية بتعريف معالمه وتبيين مسالكه من غير أن يشترط في مدلولها الوصول ولا القبول وأن الدلالة المقارنة لهما أو لأحدهما والمفارقة عنهما كل ذلك مع قطع النظر عن قيد المقارنة وعدمها افراد حقيقة لها وأن ما في قوله تعالى أنك لاتهدى من أحببت وقوله تعالى ولو شاء لهداكم ونحو ذلك مما اعتبر فيه الوصول من قبيل المجاز وانكشف أن الدلالات التكوينية المنصوبة في الأنفس والآفاق والبيانات التشريعية الواردة في الكتب السماوية على الإطلاق بالنسبة إلى كافة البرية برها وفاجرها هدايات حقيقة فائضة من عند اللّه سبحانه والحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا اللّه

للمتقين أي المتصفين بالتقوى حالا أو مآ لا وتخصيص الهدى بهم لما أنهم المقتبسون من انواره المنتفعون بآنارة وإن كان ذلك شاملا لكل ناظرمن مؤمن وكافر وبذلك الاعتبار قال اللّه هدى للناس والمتقى اسم فاعل من باب الافتعال من الوقاية وهي فرط الصيانة والتقوى في عرف الشرع عبارة عن كمال التوقى عما يضره في الآخرة قال عليه السلام جماع التقوى في قوله تعالى أن اللّه يأمر بالعدل والإحسان الآية وعن عمر بن عبد العزيز أنه ترك ما حرم اللّه وإداء ما فرض اللّه وعن شهر بن حوشب المتقى من يترك مالا بأس به حذرا من الوقوع فيما فيه بأس وعن أبي يزيد أن التقوى هو التورع عن كل ما فيه شبهة وعن محمد بن حنيف أنه مجانبة كل ما يبعدك عن اللّه تعالى وعن سهل المتقى من تبرأ عن حوله وقدرته

وقيل التقوىأن لا يراك اللّه حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك وعن ميمون بن مهران لا يكون الرجل تقيا حتى يكون أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح والسلطان الجائر وعن أبي تراب بين يدى التقوى خمس عقبات لا يناله من لا يجاوزهن إيثار الشدة على النعمة وإيثار الضعف علىالقوة وإيثار الذل على العزة وإيثار الجهد على الراحة وإيثار الموت على الحياة وعن بعض الحكماء أنه لا يبلغ الرجل سنام التقوى الا أن يكون بحيث لوجعل ما في قلبه في طبق فطيف به في السوق لم يستحى ممن ينظر إليه

وقيل التقوى أن تزين سرك للحق كما تزين علانيتك للخلق والتحقيق أن للتقوى ثلاث مراتب

الأولى التوقىعن العذاب المخلد بالتبرؤ عن الكفر وعليه قوله تعالى وألزمهم كلمة التقوى

والثانية التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف بالتقوى في الشرع وهو المعنى بقوله تعالى ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا

والثالثة أن يتنزه عن كل ما يشغل سره عن الحق عز و جل ويتبتل إليه بكليته وهو التقوى الحقيقي المأمور به في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه حق تقاته ولهذه المرتبة عرض عريض يتفاوت فيه طبقات أصحابها حسب تفاوت درجات استعداداتهم الفائضة عليهم بموجب المشيئة الإلهية المبنية على الحكم الأبية أقصاها ما انتهى إليه همم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث جمعوا بذلك بين رياستي النبوة والولاية وما عاقهم التعلق بعالم الأشباح عن العروج الى معالم الأرواح ولم يصدهم الملابسة بمصالح الخلق عن الاستغراق في شئون الحق لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيدة بالقوة القدسية وهداية الكتاب المبين شاملة لأرباب هذه المراتب أجمعين فإن أريد بكونه هدى للمتقين إرشاده إياهم إلى تحصيل المرتبة الأولى ونيلها فالمراد بهم المشارفون للتقوى مجازا لاستحالة تحصيل الحاصل إيثاره على العبارة المعربة عن ذلك للإيجاز وتصدير السورة الكريمة بذكر أوليائه تعالى وتفخيم شأنهم وإن أريد به ارشاده الى تحصيل إحدى المرتبتين الأخيرتين فإن عني بالمتقين أصحاب الطبقة الأولى تعينت الحقيقة وإن عني بهم أصحاب إحدى الطبقتين الأخيرتين تعين المجاز لأن الوصول إليهما إنما يتحقق بهدايته المترقبة وكذا الحال فيما بين المرتبة الثانية والثالثة فإنه إن أريد بالهدى الإرشاد إلى تحصيل المرتبة الثالثة فإن عني بالمتقين أصحاب المرتبة الثانية تعينت الحقيقة وإن عني بهم أصحاب المرتبة الثالثة تعين المجاز و لفظ الهداية حقيقة في جميع الصور

وأما إن أريد بكونه هدى لهم تثبيتهم على ماهم عليه أو إرشادهم إلى الزيادة فيه على أن يكون مفهومها داخلا في المعنى المستعمل فيه فهو مجاز لا محالة ولفظ المتقين حقيقة على كل حال واللام متعلقة بهدى أو بمحذوف وقع صفة له أو حالا منه ومحل هدى الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو هدى أو خبر مع لاريب فيه لذلك الكتاب أو مبتدأ خبره الظرف المقدم كما أشير إليه أو النصب على الحالية من ذلك أو من الكتاب والعامل معنى الإشارة أو من الضمير في فيه والعامل ما في الجار والمجرور من معنى الفعل المنفي كأنه قيل لم يحصل فيه الريب حال كونه هاديا على أنه قيد للنفي لا للمنفي وحاصله انتفى الريب فيه حال كونه هاديا وتنكيره للتفخيم وحمله على الكتاب إما للمبالغة كأنه نفس الهدى أو لجعل المصدر بمعنى الفاعل هذا والذي يستدعيه جزالة التنزيل في شأن ترتيب هذه الجمل أن تكون متناسقة تقرر اللاحقة منها السابقة ولذلك لم يتخلل بينها عاطف فالم جملة برأسها على أنها خبر لمبتدأ مضمر أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها دالة على أن المتحدي به هو المؤلف من جنس ما يؤلفون منه كلامهم وذلك الكتاب جملة ثانية مقررة لجهة التحدي لما دلت عليه من كونه منعوتا بالكمال الفائق ثم سجل على غاية فضله بنفي الريب فيه إذ لا فضل أعلى مما للحق واليقين وهدى للمتقين مع ما يقدر له من المبتدأ جملة مؤكدة لكونه حقا لا يحوم حوله شائبة شك ما ودالة على تكميله بعد كماله أو يستتبع السابقة منها اللاحقة استتباع الدليل للمدلول فإنه لما نبه أولا على إعجاز المتحدي به من حيث أنه من جنس كلامهم وقد عجزوا عن معارضته بالمرة ظهر أنه الكتاب البالغ أقصى مراتب الكمال وذلك مستلزم لكونه في غاية النزاهة عن مظنة الريب إذ لا أنقص مما يعتريه الشك وما كان كذلك كان لا محالة هدى للمتقين وفي كل منها من النكت الرائقة والمزايا الفائقة مالا يخفى جلالة شأنه حسبما تحققته

٣

الذين يؤمنون بالغيب إما موصول بالمتقين ومحله الجر على أنه صفة مقيدة له إن فسر التقوى بترك المعاصي فقط مترتبة عليه ترتب التحلية على التخلية وموضحة إن فسر بما هو المتعارف شرعا والمتبادر عرفا من فعل الطاعات وترك السيئات معا لأنها حينئذ تكون تفصيلا لما انطوى عليه اسم الموصوف إجمالا وذلك لأنها مشتملة على ماهو عماد الأعمال وأساس الحسنات من الإيمان والصلاة والصدقة فإنها أمهات الأعمال النفسانية والعبادات البدنية والمالية المستتبعة لسائر القرب الداعية إلى التجنب عن المعاصي غالبا ألا يرى إلى قوله تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقوله عليه السلام الصلاة عماد الدين والزكاة قنطرة الإسلام أو مادحة للموصوفين بالتقوى المفسر بما مر من فعل الطاعات وترك السيئات وتخصيص ماذكر من الخصال الثلاث بالذكر لإظهار شرفها وإنافتها على سائر ما انطوى تحت اسم التقوى من الحسنات أو النصب على المدح بتقدير أعني أو الرفع عليه بتقدير هم

وأما مفصول عنه مرفوع بالابتداء خبره الجملة المصدرة باسم الإشارة كما سيأتي بيانه فالوقف على المتقين حينئذ وقف تام لأنه وقف على مستقبل مابعده أيضا مستقبل

وأما على الوجوه الأول فحسن لاستقلال الموقوف عليه غير تام لتعلق مابعده به وتبعيته له أما على تقدير الجر على الوصفية فظاهر

وأما على تقدير النصب أو الرفع على المدح فلما تقرر من أن المنصوب والمرفوع مدحا وإن خرجا عن التبعية لما قبلها صورة حيث لم يتبعاه في الاعراب وبذلك سميا قطعا لكنهما تابعان له حقيقة ألا يرى كيف التزموا حذف الفعل والمبتدأ في النصب والرفع روما لتصوير كل منهما بصورة متعلق من متعلقات ماقبله وتنبيها على شدة الاتصال بينهما قال أبو على إذا ذكرت صفات للمدح وخولف في بعضها الإعراب فقد خولف للافتنان أي للتفنن الموجب لإيقاظ السامع وتحريكه إلى الجد في الإصغاء فإن تغيير الكلام المسوق لمعنى من المعاني وصرفه عن سننه المسلوك ينبئ عن اهتمام جديد بشأنه من المتكلم ويستجلب مزيد رغبة فيه من المخاطب إن قيل لا ريب في أن حال الموصول عند كونه خبرا لمبتدأ محذوف كحاله عند كونه مبتدأ خبره أولئك على هدى في أنه ينسبك به جملة اسمية مفيدة لاتصاف المتقين بالصفات الفاضلة ضرورة أن كلا من الضمير المحذوف والموصول عبارة عن المتقين وإن كلا من اتصافهم بالإيمان وفروعه وإحرازهم للّهدى والفلاح من النعوت الجليلية فما السر في أنه جعل ذلك في الصورة الأولى من توابع المتقين وعد الوقف غير تام وفي الثانية مقتطعا عنه وعد الوقف تاما قلنا السر في ذلك أن المبتدأ في الصورتين وإن كان عبارة عن المتقين لكن الخبر في الأولى لما كان تفصيلا لما تضمنه المبتدأ إجمالا حسبما تحققته معلوم الثبوت له بلا اشتباه غير مفيد للسامع سوى فائدة التفصيل والتوضيح نظم ذلك في سلك الصفات مراعاة لجانب المعنى وإن سمى قطعا مراعاة لجانب كيف لا وقد اشتهر في الفن أن الخبر إذا كان معلوم الانتساب إلى المخبر عنه حقه أن يكون وصفا له كما أن الوصف إذا لم يكن معلوم الانتساب إلى الموصوف حقه أن يكون خبرا له حتى قالوا إن الصفات قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها صفات

وأما الخبر في الثانية فحيث لم يكن كذلك بل كان مشتملا على مالا ينبئ عنه المبتدأ من المعاني اللائقة كما ستحيط به خبرا مفيدا للمخاطب فوائد رائقة جعل ذلك مقتطعا عما قبله محافظة على الصورة والمعنى جميعا والإيمان إفعال من الأمن المتعدى إلى واحد يقال آمنته وبالنقل تعدى إلى أثنين يقال آمننيه غيرى ثم استعمل في التصديق لأن المصدق يؤمن المصدق أي يجعله أمينا من التكذيب والمخالفة واستعماله بالباء لتضمينه معنى الاعتراف وقد يطلق على الوثوق فإن الواثق يصير ذا أمن وطمأنينة ومنه ما حكى عن العرب ما آمنت أن أجد صحابه أي ما صرت ذا أمن وسكون وكلا الوجهين حسن ههنا وهو في الشرع لا يتحقق بدون التصديق بما علم ضرورة أنه من دين نبينا عليه الصلاة و السلام كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء ونظائرها وهل هو كاف في ذلك أو لابد من انضمام الإقرار إليه للمتمكن منه

والأول رأي الشيخ الأشعري ومن شايعه فإن الإقرار عنده منشأ لاجراء الأحكام

والثاني مذهب أبي حنيفة ومن تابعه وهو الحق فإنه جعلهما جزأين له خلا أن الإقرار ركن محتمل للسقوط بعذر كما عند الإكراه وهو مجموع ثلاثة أمور اعتقاد الحق والإقرار به والعمل بموجبه عند جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق ومن أخل بالإقرار فهو كافر ومن أخل بالعمل فهو فاسق اتفاقا وكافر عند الخوارج وخارج عن الايمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة وقرئ يومنون بغير همزة والغيب إما مصدر وصف به الغائب مبالغة كالشهادة في قوله تعالى عالم الغيب والشهادة أو فيعل خفف كقيل في قيل وهين في هين وميت في ميت لكن لم يستعمل فيه الأصل كما استعمل في نظائره وأيا ما كان فهو ما غاب عن الحس والعقل غيبة كاملة بحيث لا يدرك بواحد منهما ابتداء بطريق البداهة وهو قسمان قسم لا دليل عليه وهو الذي أريد بقوله سبحانه وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها ألا هو وقسم نصب عليه دليل كالمصانع وصفاته والنبوات وما يتعلق بها من الأحكام والشرائع واليوم الآخر وأحواله من البعث والنشور والحساب والجزاء وهو المراد ههنا فالباء صلة للإيمان أما بتضمينه معنى الاعتراف أو يجعله مجازا من الوثوق وهو واقع موقع المفعول به

وأما مصدر على حالة كالغيبة متعلقة بمحذوف وقع حالا من الفاعل كما في قوله تعالى الذين يخشون ربهم بالغيب وقوله تعالى ليعلم أني لم أخنه بالغيب أي يؤمنون متلبسين بالغيبة اما عن المؤمن به أي غائبين عن النبي صلى اللّه عليه و سلم غير مشاهدين لما فيه من شواهد النبوة لما روى أن أصحاب ابن مسعود رضي اللّه عنه ذكروا أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وإيمانهم فقال رضي اللّه عنه أن أمر محمد عليه الصلاة و السلام كان بينا لمن رآه والذي لا اله غيره ما آمن مؤمن أفضل من الإيمان بغيب ثم تلا هذه الآية وأما عن الناس أي غائبين عن المؤمنين لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا أنا معكم

وقيل المراد بالغيب القلب لأنه مستور والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كالذين يقولون بأفواههم ماليس في قلوبهم فالباء حينئذ للآلة وترك ذكر المؤمن به على التقادير الثلاثة إما للقصد إلى أحداث نفس الفعل كما في قولهم فلان يعطى ويمنع أي يفعلون الإيمان

وأما للاكتفاء بما سيجيء فإن الكتب الإلهية ناطقة بتفاصيل ما يجب الايمان به

ويقيمون الصلاة إقامتها عبارة عن تعديل أركانها وحفظها من أن يقع في شئ من فرائضها وسننها وآدابها زيغ من أقام العود إذا قومه وعدله

وقيل عن المواظبة عليها مأخوذ من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلهتا نافقة فإنها إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يرغب فيه

وقيل عن التشمر لأدائها عن غير فتور ولاتوان من قولهم قام بالأمر وأقامةإذا جد فيه واجتهد

وقيل عن أدائها عبر عنه بالإقامة لاشتماله على القيام كما عبر عنه بالقنوت الذي هو القيام وبالركوع والسجود والتسبيح والأول هو الأظهر لأنه أشهر وإلى الحقيقة أقرب والصلاة فعلة من صلى إذا دعا كالزكاة من زكى وإنما كتبتا بالواو مراعاة للفظ المفخم وإنما سمى الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء

وقيل أصل صلى حرك الصلوين وهما العظمان الناتئان في أعلى الفخذين لأن المصلى يفعله في ركوعه وسجوده واشتهار اللفظ في المعنى الثاني دون الأول لا يقدح في نقله عنه وإنما سمى الداعي مصليا تشبيها له في تخشعه بالراكع والساجد

ومما رزقناهم ينفقون الرزق في اللغة العطاء ويطلق على الحظ المعطي نحو ذبح ورعي للمذبوح والمرعي

وقيل هو بالفتح مصدر وبالكسر اسم وفي العرف ما ينتفع به الحيوان والمعتزلة لما أحالوا تمكين اللّه تعالى من الحرام لأنه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه قالوا الرزق لا يتناول الحرام ألا يرى أنه تعالى أسند الرزق إلى ذاته إيذانا بأنهم ينفقون من الحلال الصرف فإن إنفاق الحرام بمعزل من إيجاب المدح وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم اللّه تعالى بقوله قل أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا وأصحابنا جعلوا الاسناد المذكور للتعظيم والتحريض على الانفاق والذم لتحريم مالم يحرم واختصاص ما رزقناهم بالحلال للقرينة وتمسكوا لشمول الرزق لهما بما روى عنه عليه السلام في حديث عمرو بن قرة حين أتاه فقال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إن اللّه كتب علي الشقوة فلا أرى أرزق إلا من دفى بكفي فأذن لي في الغناء من غير فاحشة من أنه قال عليه السلام لا إذن لك ولا كرامة ولا تعمة كذبت أي عدو اللّه واللّه لقد رزقك اللّه حلالا طيبا فاخترت ما حرم اللّه عليك من رزقه مكان ما أحل اللّه لك من حلاله وبأنه لولم يكن الحرام رزقا لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقا وقد قال اللّه تعالى وما من دابة في الارض إلا على اللّه رزقها والانفاق والانفاد أخوان خلا أن في الثاني معنى الإذهاب بالكلية دون الأول والمراد بهذا الانفاق الصرف إلى سبيل الخير فرضا كان أو نفلا ومن فسر بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقها والجملة معطوفة على ماقبلها من الصلة وتقديم المفعول للاهتمام والمحافظة على رءوس الآي وإدخال من التبعيضية عليه للكف عن التبذير هذا وقد جوز ان يراد به الأنفاق من جميع المعاون التي منحهم اللّه تعالى من النعم الظاهرة والباطنه ويؤيده قوله عليه السلام ان علما لا ينال به ككنز لا ينفق منه واليه ذهب من قال ومما خصصناهم من انوار المعرفه يفيضون

٤

والذين يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك معطوف على الموصول الأول على تقديري وصله بما قبله وفصله عنه مندرج معه في زمرة المتقين من حيث الصورة والمعنى معا أو من حيث المعنى فقط اندراج خاصين تحت عام اذ المراد بالأولين الذين آمنوا بعد الشرك والغفله عن جميع الشرائع كما يؤذن به التعبير عن المؤمن به بالغيب وبالآخرين الذين آمنوا بالقرآن بعد الإيمان بالكتب المنزله قبل كعبد اللّه بن سلام واضرابه أو على المتقين على ان يراد بهم الأولون خاصة ويكون تخصيصهم بوصف الأتقاء للايذان بتنزههم عن حالتهم الأولى بالكليه لما فيها من كمال القباحة والمباينة للشرائع كلها الموجبه للاتقاء عنها بخلاف الآخرين فأنهم غير تاركين لما كانوا عليه بالمرة بل متمسكون بأصول الشرائع التي لا تكاد تختلف باختلاف الأعصار ويجوز ان يجعل كلا الموصلين عبارة عن الكل مندرجا تحت المتقين ولا يكون توسيط العاطف بينمها لا ختلاف الذوات بل لاختلاف الصفات كما في قوله ... الى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتبيه في المزدحم ... وقوله ... يالهف زيابه للحارث الصابح فالغانم فالآيب ... للإيذان بأن كل واحد من الأيمان بما اشير اليه من الأمور الغائبه و الأيمان بما يشهد بثبوتها من الكتب السماوية نعت جليل على حيالة له شأن خطير مستتبع لأحكام جمة حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل ولا يجعل أحدهما تتمة للآخر وقد شفع الأول بأداء الصلاة والصدقة اللتين هما من جملة الشرائع المندرجة تحت تلك الأمور المؤمن بها تكملة له فإن كمال العلم العمل وقرن الثاني بالإيقان بالآخرة مع كونه منطويا تحت الأول تنبيها على كمال صحته وتعريضا بما في اعتقاد أهل الكتابين من الخلل كما سيأتي هذا على تقدير تعلق الباء بالأيمان وقس عليه الحال عند تعلقها بالمحذوف فإن كلا من الإيمان الغيبي المشفوع بما يصدقه من العبادتين مع قطع النظر عن المؤمن به والإيمان بالكتب المنزلة الشارحة لتفاصيل الأمور التي يجب الإيمان بها مقرونا بما قرن فظيلة باهرة مستدعية لما ذكر و اللّه تعالى أعلم وقد حمل ذلك على معنى أنهم الجامعون بين الإيمان بما يدركه العقل جملة والإتيان بما يصدقه من العبادات البدنية و المالية و بين الإيمان بما لا طريق إليه غير السمع وتكرير الموصول للتنبيه على تغاير القبيلين وتباين السبيلين فليتأمل وأن يراد بالموصول الثاني بعد أندراج الكل في الأول فريق خاص منهم وهم مؤمنو أهل الكتاب بأن يخصوا بالذكر تخصيص جبريل وميكائيل به إثر جريان ذكر الملائكة عليهم السلام تعظيما لشأنهم وترغيبا لأمثالهم وأقرانهم في تحصيل مالهم من الكمال والإنزال النقل من الأعلى إلى الأسفل وتعلقه بالمعانى إنما هو بتوسط تعلقه بالأعيان المستتبة لها فنزول ما عدا الصحف من الكتب الآلهية إلى الرسل عليهم السلام واللّه تعالى أعلم بأن يتلقاها الملك من جنابه عز و جل تلقيا روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ فينزل بها إلى الرسل فيلقيها عليهم عليهم السلام والمراد بما أنزل إليك هو القرآن بأسره والشريعة عن آخرها والتعبير عن إنزاله بالماضي مع كون بعضه مترقبا حينئذ لتغليب المحقق على المقدار أو لتنزيل ما في شرف الوقوع لتحققه منزلة الواقع كما في قوله تعالى انا سمعنا كتابا انزل من بعد موسى مع ان الجن ما كانوا سمعوا الكتاب جميعا ولا كان الجميع اذ ذاك نازلا وبما انزل من قبلك التوراة والإنجيل وسائر الكتب السالفه وعدم التعريض لذكر من انزل اليه من الأنبياء عليهم السلام لقصد الإيجاز مع عدم تعلق الغرض بالتفصيل حسب تعلقه به في قوله تعالى قولوا آمنا باللّه وما انزل إلينا وما انزل الى إبراهيم واسماعيل الآية والإيمان بالكل جمله فرض وبالقرآن تفصيلا من حيث انا متعبدون بتفاصيله فرض كفايه فإن في وجوبه على الكل عينا حرجا بينا وإخلالا بأمر المعاش وبناء الفعلين للمفعول للإيذان تعين الفاعل والجري على شأن الكبرياء وقد قرئا على البناء للفاعل

   وبالآخرة هم يوقنون الإيقان إتقان العلم بالشيء بنفي الشك والشبهة عنه ولذلك لا يسمى علمه تعالى يقينا أي يعلمون علما قطعيا مزيحا لما كان اهل الكتاب عليه من الشكوك والأوهام التي من جملتها زعمهم ان الجنة لا يدخلها الآ من كان هودا أو نصارى وإن النار لن تمسهم الآ اياما معدودات واختلافهم في ان نعيم الجنه هل هو من قبيل نعيم الدنيا أو لا وهل هو دائم أو لا وفي تقديم الصلة وبناء يوقنون على الضمير تعريض بمن عداهم من اهل الكتاب فإن اعتقادهم في امور الآخرة بمعزل من الصحة فضلا عن الوصول إلى مرتبة اليقين والآخرة تأنيث الآخر كما ان الدنيا تأنيث الأدنى غلبتا على الدارين فجرتا مجرى الأسماء وقرئ بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وقرئ يوقنون بقلب الواو همزة إجراء لضم ما قبلها مجرى ضمها في وجوه ووقتت ونظيره ما في قوله ... لحب المؤقدان إلى مؤسى ... وجعدة إذ أضاءهما الوقود ... وقوله تعالى

٥

اولئك اشارة الى الذين حكيت خصالهم الحميدة من حيث اتصافهم بها وفيه دلالة على انهم متميزون بذلك اكمل تميز منتطمون بسببه في سلك الامور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل وهو مبتدأ و قوله عز وعلا

على هدى خبرة وما فيه من الإبهام المفهوم من التنكير لكمال تفخيمه كأنه قيل على أي هدى هدى لا يبلغ كنهه ولا يقادر قدرة وايراد كلمة الاستعلاء بناء على تمثيل حالهم في ملابستهم بالهدى بحال من يعتلي الشيء ويستولى عليه بحيث يتصرف فيه كيفما يريد أو على استعارتها لتمسكهم بالهدى استعارة تبعية متفرعة على تشبيهه باعتلاء الراكب واستوائه على مركوبه أو على جعلها قرينة للاستعارة بالكناية بين الهدى والمركوب للإيذان بقوة تمكنهم منه وكمال رسوخهم فيه وقوله تعالى

من ربهم متعلق بمحذوف وقع صفة له مبينة لفخامته الاضافية اثر بيان فخامته الذاتية مؤكدة لها أي على هدى كائن من عنده تعالى و هو شامل لجميع أنواع هدايته تعالى وفنون توفيقه والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لغاية تفخيم الموصوف والمضاف إليهم وتشريفهما ولزيادة تحقيق مضمون الجملة وتقريره ببيان ما يوجبه ويقتضيه وقد ادمغت النون في الراء بغنة أو بغير غنة والجملة على تقدير كون الموصولين موصولين بالمتقين مستقلة لا محل لها من الاعراب مقررة لمضمون قوله تعالى هدى للمتقين مع زيادة تأكيد له وتحقيق كيف لا و كون الكتاب هدى لهم فن من فنون ما منحوه و أستقروا عليه من الهدى حسبما تحققته لا سيما مع ملاحظة ما يستتبعه من الفوز والفلاح

وقيل هي واقعة موقع الجواب عن سؤال ربما ينشأ مما سبق كأنه قيل ما للمنعوتين بما ذكر من النعوت أختصوا بهداية ذلك الكتاب العظيم الشأن وهل هم أحقاء بتلك الأثرة فأجيب بأنهم بسبب اتصافهم بذلك ما لكون لزمام أصل الهدى الجامع لفنونه المستتبع للفوز والفلاح فأى ريب في أستحقاقهم لما هو فرع من فروعه ولقد جار عن سنن الصواب من قال في تقرير الجواب إن أولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا وبالفلاح آجلا

وأما على تقدير كونهما مفصولين عنه فهي في محل الرفع على أنها خبر للمبتدأ الذي هو الموصول الأول والثاني معطوف عليه وهذه الجملة استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق إليه الذهن من تخصيص ما ذكر بالمتقين قبل بيان مبادى استحقاقهم لذلك كأنه قيل ما بال المتقين مخصوصين به فأجيب بشرح ما أنطوى عليه أسمهم إجمالا من نعوت الكمال وبيان ما يستدعيه من النتيجة أي الذين هذه شئؤنهم أحقاء بما هو أعظم عن ذلك كقولك أحب الأنصار الذين قارعوا دون رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم زبذلوا مهجتهم في سبيل اللّه أولئك سواد عيني وسويداء قلبي واعلم أن هذا المسلك يسلك تارة بإعاد أسم من أستؤنف عنه الحديث كقولك أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان وأخرى بإعادة صفته كقولك أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك ولا ريب في أن هذا أبلغ من الأول لما فيه من بيان الموجب للحكم وإيراد اسم الأشارة بمنزلة أعادة الموصوف بصفاته المذكورة مع ما فيه من الإشعار بكمال تميزه بها وانتظامه بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة والإيماء إلى بعد منزلته كما مر هذا وقد جوز أن يكون الموصول

الأول مجرى على المتقين حسبما فصل

والثاني مبتدأ وأولئك الخ خبره ويجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضا بغير المؤمنين من أهل الكتاب حيث كانوا يزعمون انهم على الهدى ويطمعون في نيل الفلاح

وأولئك هم المفلحون تكرير أسم الأشارة لاضهار مزيد العناية بشأن المشار إليهم وللتنبيه على أن اتصافهم بتلك الصفات يقتضي نيل كل واحدة من تينك الأثرتين وأن كلا منهما كاف في تمييزهم بها عمن عداهم ويؤيده توسيط العاطف بين الجملتين بخلاف ما في قوله تعالى أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون فإن التسجيل عليهم بكمال الغفلة عبارة عما يفيده تشبيههم بالبهائم فتكون الجملة الثانية مقررة للأولى و أما الإفلاح الذي هو عبارة عن الفوز بالمطلوب فلما كان مغايرا للّهدى نتيجة له وكان كل منهما في نفسه أعز مرام يتنافس فيه المتنافسون فعل ما فعل وهم ضمير فصل يفصل الخبر عن الصفة ويؤكد النسبة ويفيد أختصاص المسند بالمسند إليه أو مبتدأ خبره المفلحون والجملة خبر لأولئك وتعريف المفلحين للدلالة على أن المتقين هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة أو إشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصائصهم هذا وفي بيان اختصاص المتقين نبيل هذه المراتب الفائقة على فنون من الاعتبارات الرائقة حسبما أشير إليه في تضاعيف تفسير الآية الكريمة من الترغيب في افتفاء أثرهم والارشاد إلى اقتداء سيرهم ما لا يخفى مكانه واللّه ولى الهداية والتوفيق

٦

إن الذين كفروا كلام مستأنف سيق لشرح أحوال الكفرة الغواة المردة العتاة إثر بيان أحوال أضدادهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمباغيهم في الحال والمآل وإنما ترك العاطف بينهما ولم يسلك به مسلك قوله تعالى أن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم لما بينهما من التنافي في الأسلوب والتباين في الغرض

فإن الأولى مسوقة لبيان رفعة شأن الكتاب في باب الهداية والإرشاد

وأما التعرض لأحوال المهتدين به فانما هو بطريق الاستطراد سواء جعل الموصول موصولا بما قبله أو مفصولا عنه فإن الاستئناف مبنى على سؤال نشأ من الكلام المتقدم فهو من مستتبعاته لا محالة

وأما الثانية فمسوقة لبيان أحوال الكفرة أصالة وترامي أمرهم في الغواية والضلال إلى حيث لا يجديهم الإنذار والتبشير ولا يؤثر فيهم العظة والتذكير فهم ناكبون في تيه الغي والفساد عن منهاج العقول وراكبون في مسلك المكابرة والعناد متن كل صعب وذلول وإنما أوثرت هذه الطريقة ولم يؤسس الكلام على بيان أن الكتاب هاد للأولين وغير مجد للآخرين لأن العنوان الأخير ليس مما يورثه كمالا حتى يتعرض له في أثناء تعداد كمالاته وإن من الحروف التي تشابه الفعل في عدد الحروف والبناء على الفتح ولزوم الأسماء ودخول نون الوقاية عليها كأنني ولعلني ونظائرهما وإعطاء معانيه والمتعدى خاصة في الدخول على اسمين ولذلك أعملت عمله الفرعى وهو نصب الأول ورفع الثاني إيذانا بكونه فرعا في العمل دخيلا فيه وعند الكوفيين لا عمل لها في الخبر بل هو باق على حالة بقضية الاستصحاب وأجيب بأن ارتفاع الخبر مشروط بالتجرد عن العوامل وألا لما انتصب خبر كان وقد زال بدخولها فتعين إعمال الحرف وأثرها تأكيد النسبة وتحقيقها ولذلك يتلقى بها القسم ويصدر بها الأجوبة ويؤتى بها في مواقع الشك والإنكار لدفعه ورده قال المبرد قولك عبداللّه قائم أخبار عن قيامة وإن عبد اللّه قائم جواب سائل عن قيامه شاك فيه وإن عبد اللّه القائم جواب منكر لقيامه وتعريف الموصول إما للعهد والمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم وأحبار اليهود أو للجنس وقد خص منه غير المصرين بما أسند إليه من قوله تعالى سواء عليهم الخ والكفر في اللغة ستر النعمة وأصله الكفر بالفتح أي الستر ومنه قيل للزراع والليل كافر قال تعالى كمثل غيث اعجب الكفار نباته وعليه قول لبيد ... في ليلة كفر النجوم غمامها ... ومنه المتكفر بسلاحة وهو الشاكي الذي غطى السلاح بدنه وفي الشريعة أنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به وإنما عد لبس الغيار وشد الزنار بغير اضطرار ونظائرهما كفرا لدلالته على التكذيب فإن من صدق النبي لا يكاد يجترئ على أمثال ذلك إذ لا داعي إليه كالزنى وشرب الخمر واحتجت المعتزلة على حدوث القرآن بما جاء فيه بلفظ الماضي على وجه الأخبار فإنه يستدعى سابقة المخبر عنه لا محالة واجيب بأنه من مقتضيات التعلق وحدوثه لا يستدعي حدوث الكلام كما أن حدوث تعلق العلم بالمعلوم لا يستدعي حدوث العلم

سواء هو اسم بمعنى الاستواء نعت به كما ينعت بالمصادر مبالغة قال تعالى تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم وقوله تعالى

عليهم متعلق به معناه عندهم وارتفاعه على أنه خبر لأن وقوله تعالى

أأنذرتهم أم لم تنذرهم مرتفع به على الفاعلية لأن الهمزة وام مجردتان عن معنى الاستفهام لتحقيق الاستواء بين مدخوليهما كما جرد الأمر والنهى لذلك عن معنييهما في قوله تعالى استغفر لهم أو لا تستغفر لهم وحرف النداء في قولك اللّهم أغفر لنا أيتها العصابة عن معنى الطلب المجرد التخصيص كأنه قيل إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه كقولك إن زيدا مختصم أخوة وابن عمه أو مبتدأ وسواء عليهم خبر قدم عليه اعتناء بشأنه والجملة خبر لأن والفعل إنما يمتنع الإخبار عنه بقائه على حقيقته أما لو أريد به اللفظ أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على طريقة الاتساع فهو كالاسم في الإضافة والإسناد إليه كما في قوله تعالى هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم وقوله تعالى وإذا قيل لهم لا تفسدوا وفي قولهم بالمعيدي خير من أن تراه كأنه قيل إنذارك وعدمه سيان عليهم والعدول إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدد والتوصل إلى إدخال الهمزة ومعادلها عليه لإفادة تقرير معنى الاستواء وتأكيده كما أشير إليه

وقيل سواء مبتدأ ومابعده خبره وليس بذاك لأن مقتضى المقام بيان كون الإنذار وعدمه سواء لا بيان كون المستوى الإنذار وعدمه والإنذار إعلام المخوف للاحتراز عنه إفعال من نذر بالشئ إذا علمه فحذرة والمراد ههنا التخويف من عذاب اللّه وعقابة على المعاصي والاقتصار عليه لما أنهم ليسوا بأهل للبشارة أصلا ولأن الإنذار أوقع في القلوب واشد تأثيرا في النفوس فإن دفع المضار أهم من جلب المنافع فحيث لم يتأثروا به فلأن لايرفعوا للبشارة راسا أولى وقرئ بتوسيط ألف بين الهمزتين مع تحقيقهما وبتوسيطها والثانية بين بين وبتخفيف الثانية بين بين بلا توسيط وبحذف حرف الاستفهام وبحذفه وإلقاء حركته على الساكن قبله كما قرئ قد أفلح وقرئ بقلب الثانية ألفا وقد نسب ذلك إلى اللحن

لايؤمنون جملة مستقلة مؤكدة لما قبلها مبينة لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء فلا محل لها من الإعراب أو حال مؤكدة له أو بدل منه أو خبر لأن وما قبلها اعتراض بما هو علة للحكم أو خبر ثان على راي من يجوزه عند كونه جملة والآية الكريمة مما استدل به على جواز التكليف بما لا يطاق فإنه تعالى قد اخبر عنهم بأنهم لايؤمنون فظهر استحالة إيمانهم لاستلزامه المستحيل الذي هو عدم مطابقة أخباره تعالى للواقع مع كونهم مأمورين بالإيمان باقين على التكليف ولأن من جملة ما كلفوه الإيمان بعدم إيمانهم المستمر والحق أن التكليف بالمتنع لذاته وإن جاز عقلا من حيث أن الأحكام لا تستدعى أغراضا لا سيما الامتثال لكنه غير واقع للاستقراء والإخبار بوقوع الشئ أو بعدمه لا ينفي القدرة عليه كإخباره تعالى عما يفعله هو أو العبد باختياره وليس ما كلفوه الإيمان بتفاصيل ما نطق به القرآن حتى يلزم أن يكلفوا الإيمان بعدم إيمانهم المستمر بل هو الإيمان بجميع ما جاء به النبي إجمالا على ان كون الموصول عبارة عنهم ليس معلوما لهم وفائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا يفيد إلزام الحجة وإحراز الرسول فضل الإبلاغ ولذلك قيل سواء عليهم ولم يقل عليك كما قيل لعبدة الأصنام سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون وفي الآية الكريمة إخبار بالغيب على ما هو به إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم فهي من المعجزات الباهرة

٧

ختم اللّه على قلوبهم استئناف تعليلي لما سبق من الحكم وبيان لما يقتضيه أو بيان وتأكيد له والمراد بالقلب محل القوة العاقلة من الفؤاد والختم على الشئ الاستيثاق منه بضرب الخاتم عليه صيانة له أو لما فيه من التعرض له كما في البيت الفارغ والكيس المملوء والأول هو الأنسب بالمقام إذ ليس المراد به صيانة ما في قلوبهم بل إحداث حالة تجعلهما بسبب تماديهم في الغى وانهماكهم في التقليد وإعراضهم عن منهاج النظر الصحيح بحيث لا يؤثر فيها الإنذار ولا ينفذ فيها الحق أصلا إما على طريقة الاستعارة التبعية بأن يشبه ذلك بضرب الخاتم على نحو أبواب المنازل الخالية المبنية للسكنى تشبيه معقول بمحسوس بجامع عقلى هو الاشتمال على منع القابل عما من شانه وحقه أن يقبله ويستعار له الختم ثم يشتق منه صيغة الماضي

وأما على طريقة التمثيل بأن يشبه الهيئة المنتزعة من قلوبهم وقد فعل بها ما فعل من إحداث تلك الحالة المانعة من أن يصل إليها ما خلقت هي لأجلة من الأمور الدينية النافعة وحيل بينها وبينه بالمرة بهيئة منتزعة من محال معدة لحلول ما يحلها حلولا مستتبعا لمصالح مهمة وقد منع من ذلك بالختم عليها وحيل بينها وبين ما أعدت لأجله بالكلية ثم يستعار لها ما يدل على الهيئة المشبه بها فيكون كل من طرفي التشبيه مركبا من أمور عدة قد اقتصر من جانب المشبه به على ما عليه يدور الأمر في تصوير تلك الهيئة وانتزاعها وهو الختم والباقي منوى مراد قصدا بألفاظ متخيلة بها يتحقق التركيب وتلك الألفاظ وإن كان لها مدخل في تحقيق وجه الشبه الذي هو أمر عقلي منتزع منها وهو امتناع الانتفاع بما أعد له بسبب مانع قوي لكن ليس في شيء منها على الانفراد تجوز باعتبار هذا المجاز بل هي باقية على حالها من كونها حقيقة أو مجازا أو كناية وإنما التجوز في المجموع وحيث كان معنى المجموع مجموع معاني تلك الألفاظ التي ليس فيها التجوز المعهود ولم تكن الهيئة المنتزعة منها مدلولا وضعيا لها ليكون مادل على الهيئة المشبه بها عند استعماله في الهيئة المشبهة مستعملا في غير ما وضع له فيندرج تحت الاستعارة التي هي قسم من المجاز اللغوي الذي هو عبارة عن الكلمة المستعملة في غير ما وضع له ذهب قدماء المحققين كالشيخ عبد القاهر وأضرابه إلى جعل التمثيل قسما برأسه ومن رام تقليل الأقسام عد تلك الهيئة المشبه بها من قبيل المدلولات الوضعية وجعل الكلام المفيد لها عند استعماله فيما يشبه بها من هيئة أخرى منتزعة من أمور أخر من قبيل الاستعارة وسماه استعارة تمثيلية وإسناد إحداث تلك الحالة في قلوبهم إلى اللّه تعالى لاستناد جميع الحوادث عندنا من حيث الخلق إليه سبحانه وتعالى وورود الآية الكريمة ناعية عليهم سوء صنيعهم ووخامة عاقبتهم لكون أفعالهم من حيث الكسب مستندة إليهم فإن خلقها منه سبحانه ليس بطريق الجبر بل بطريق الترتيب على ما اقترفوه من القبائح كما يعرب عنه قوله تعالى بل طبع اللّه عليها بكفرهم ونحو ذلك

وأما المعتزلة فقد سلكوا مسلك التأويل وذكروا في ذلك عدة من الأقاويل منها أن القوم لما أعرضوا عن الحق وتمكن ذلك في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم شبه بالوصف الخلقي المجبول عليه ومنها أن المراد به تمثيل قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها اللّه تعالى خالية عن الفطن أو بقلوب قدر ختم اللّه تعالى عليها كما في سال به الوادي إذا هلك وطارت به العنقاء إذا طالت غيبته ومنها أن ذلك فعل الشيطان أو الكافر وإسناده تعالى باعتبار كونه بإقداره تعالى وتمكينه ومنها أن أعراقهم لما رسخت في الكفر واستحكمت بحيث لم يبق إلى تحصيل إيمانهم طريق سوى الإلجاء والقسر ثم لم يفعل ذلك محافظة على حكمة التكليف عبر عن ذلك بالختم لأنه سد لطريق إيمانهم بالكلية وفيه إشعار بترامي أمرهم في الغي والعناد وتناهي انهماكهم في الشر والفساد ومنها أن ذلك حكاية لما كانت الكفرة يقولونه مثل قولهم قلوبنا في أكنة مما تدعونا اليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب تهكما بهم ومنها أن ذلك في الآخرة وإنما أخبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه ويعضده قوله تعالى ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما ومنها أن المراد بالختم وسم قلوبهم بسمة يعرفها الملائكة فيبغضونهم ويتنفرون عنهم

وعلى سمعهم عطف على ما قبله داخل في حكم الختم لقوله عز و جل وختم على سمعه وقلبه وللوفاق على الوقف عليه لا على قلوبهم ولاشتراكهما في الإدراك من جميع الجوانب وإعادة الجار للتأكيد والإشعار بتغاير الختمين وتقديم ختم قلوبهم للإيذان بأنها الأصل في عدم الإيمان وللإشعار بأن ختمها ليس بطريق التبعية بختم سمعهم بناء على أنه طريق إليها فالختم عليه ختم عليها بل هي مختومة بختم على حدة لو فرض عدم الختم على سمعهم فهو باق على حاله حسبما يفصح عنه قوله تعالى ولو علم اللّه فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون والسمع إدراك القوة السامعة وقد يطلق عليها وعلى العضو الحامل لها وهو المراد ههنا إذ هو المختوم عليه أصالة وتقديم حاله على حال أبصارهم للاشتراك بينه وبين قلوبهم في تلك الحال أو لأن جنايتهم من حيث السمع الذي به يتلقى الأحكام الشرعية وبه يتحقق الإنذار أعظم منها من حيث البصر الذي به يشاهد الأحوال الدالة على التوحيد فبيانها أحق بالتقديم وأنسب بالمقام قالوا السمع أفضل من البصر لأنه عز وعلا حيث ذكرهما قدم السمع على البصر ولأن السمع شرط النبوة ولذلك ما بعث اللّه رسولا أصم ولأن السمع وسيلة إلى استكمال العقل بالمعارف التي تتلقف من أصحابها وتوحيده للأمن عن اللبس واعتبار الأصل أو لتقدير المضاف أي وعلى حواس سمعهم والكلام في إيقاع الختم على ذلك كما مر من قبل

وعلى أبصارهم غشاوة الأبصار جمع بصر والكلام فيه كما سمعته في السمع والغشاوة فعالة من التغشية أي التغطية بنيت لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة وتنكيرها للتفخيم والتهويل وهي على رأي سيبويه مبتدأ خبره الظرف المقدم والجملة معطوفة على ما قبلها وإيثار الاسمية للإيذان بدوام مضمونها فإن ما يدرك بالقوة الباصرة من الآيات المنصوبة في الآفاق والأنفس حيث كانت مستمرة كان تعامهم من ذلك أيضا كذلك

وأما الآيات التي تتلقى بالقوة السامعة فلما كان وصولها إليها حينا فحينا أوثر في بيان الختم عليها وعلى ما هي أحد طريقي معرفته أعني القلب الجملة الفعلية وعلى رأي الأخفش مرتفع على الفاعلية مما تعلق به الجار وقرئ بالنصب على تقدير فعل ناصب أي وجعل على أبصارهم غشاوة

وقيل على حذف الجار وإيصال الختم إليه والمعنى وختم على أبصارهم بغشاوة وقرئ بالضم والرفع وبالفتح والنصب وهما لغتان فيها وغشوة بالكسر مرفوعة وبالفتح مرفوعة ومنصوبة وعشاوة بالعين غير المعجمة والرفع

ولهم عذاب عظيم وعيد وبيان لما يستحقونه في الآخرة والعذاب كالنكال بناء ومعنى يقال أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه ومنه الماء العذب لما أنه يقمع العطش ويردعه ولذلك يسمى نقاخا لأنه ينقخ العطش ويكسره وفراتا لأنه يفرته على القلب ويكسره ثم اتسع فيه فأطلق على كل ألم فادح وإن لم يكن عقابا يراد به ردع الجاني عن المعاودة

وقيل اشتقاقه من التعذيب الذي هو إزالة العذاب كالتقذية والتمريض والعظيم نقيض الحقير والكبير نقيض الصغير فمن ضرورة كون الحقير دون الصغير كون العظيم فوق الكبير ويستعملان في الجثث والأحداث تقول رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره ووصف العذاب به لتأكيد ما يفيده التنكير من التفخيم والهويل والمبالغة في ذلك والمعنى أن على أبصارهم ضربا من الغشاوة خارجا مما يتعارفه الناس وهي غشاوة التعامي عن الآيات ولهم من الآلام العظام نوع عظيم لا يبلغ كنهه ولا يدرك غايته اللّهم إنا نعوذ بك من ذلك كله يا أرحم الراحمين

٨

ومن الناس شروع في بيان أن بعض من حكيت أحوالهم السالفة ليسوا بمقتصرين على ما ذكر من محض الإصرار على الكفر والعناد بل يضمون اليه فنونا أخر من الشر والفساد وتعديد لجناياتهم الشنيعة المستتبعة لأحوال هائلة عاجلة وآجلة وأصل ناس أناس كما يشهد له انسان وأناسى وأنس حذفت همزته تخفيفا كما قيل لوقة في ألوقه وعوض عنها حرف التعريف ولذلك لا يكاد يجمع بينهما

وأما ما في قوله ... إن المنايا يطلعن على الاناس الآمنينا ... فشاذ سموا بذلك لظهورهم وتعلق الاناس بهم كما سمى الجن جنا لاجتنانهم وذهب بعضهم إلى أن أصله النوس وهو الحركة انقلبت واوه ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وبعضهم الى أنه مأخوذ من نسى نقلت لامه الى موضع العين فصار نيسا ثم قلبت الفا سموا بذلك لنسيانهم ويروى عن ابن عباس أنه قال سمى الانسان انسانا لأنه عهد اليه فنسى واللام فيه اما للعهد أو للجنس المقصور على المصرين حسبما ذكر في الموصول كأنه قيل ومنهم أو من اولئك والعدول الى الناس للإيذان بكثرتهم كما ينبئ عنه التبعيض ومحل الظرف الرفع على انه مبتدأ باعتبار مضمونه أو نعت لمبتدأ كما في قوله عز و جل ومنا دون ذلك أي وجمع منا الخ ومن في قوله تعالى

من يقول موصولة أو موصوفة ومحلها الرفع على الخبرية والمعنى وبعض الناس أو وبعض من الناس الذي يقول كقوله تعالى ومنهم الذين يؤذون النبي الآية أو فريق يقول كقوله تعالى من المؤمنين رجال الخ على أن يكون مناط الإفادة والمقصود بالأصالة اتصافهم بما في حيز الصلة أو الصفة وما يتعلق به من الصفات جميعا لاكونهم ذوات أولئك المذكورين

وأما جعل الظرف خبرا كما هو الشائع في موارد الاستعمال فيأباه جزالة المعنى لأن كونهم من الناس ظاهر فالإخبار به عار عن الفائدة كما قيل فإن مباه توهم كون المراد بالناس الجنس مطلقا وكذا مدار الجواب عنه بأن الفائدة هو التنبيه على أن الصفات المدكورة تنافي الإنسانية فحق من يتصف بها أن لا يعلم كونه من الناس فيخبر به ويتعجب منه وأنت خبير بأن الناس عبارة عن المعهودين أو عن الجنس المقصور على المصرين وأيا ما كان فالفائدة ظاهرة بل لأن خبرية الظرف تستدعي أن يكون اتصاف هؤلاء بتلك الصفات القبيحة المفصلة في ثلاث عشرة آية عنوان للموضوع مفروغا عنه غير مقصود بالذات ويكون مناط الإفادة كونهم من اولئك المذكورين ولا ريب لأحد في أنه يجب حمل النظم الجليل على أجزل المعاني وأكملها وتوحيد الضمير في يقول باعتبار لفظة من وجمعه في قوله

آمنا باللّه وباليوم الآخر وما بعده باعتبار معناها والمراد باليوم الآخر من وقت الحشر الى مالا يتناهى أو إلى ان يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار إذ لا حد وراءه وتخصيصهم للإيمان بهما بالذكر مع تكرير الباء لادعاء انهم قد حازوا الإيمان من قطريه وأحاطوا به من طرفيه وأنهم قد آمنوا بكل منهما على الأصالة والاستحكام وقد دسوا تحته ماهم عليه من العقائد الفاسدة حيث لم يكن إيمانهم بواحد منهما إيمانا في الحقيقة إذ كانوا مشركين باللّه بقولهم عزيز ابن اللّه وجاحدين باليوم الآخر بقولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ونحوذلك وحكاية عبارتهم لبيان كمال خبثهم ودعارتهم فإن ما قالوا لو صدر عنهم لا على وجه الخداع والنفاق وعقيدتهم عقيدتهم لم يكن ذلك إيمانا فكيف وهم يقولونه تمويها على المؤمنين واستهزاء بهم

وما هم بمؤمنين رد لما ادعوه ونفى لما انتحلوه وما حجازية فإن جواز دخول الباء في خبرها لتأكيد النفي اتفاقي بخلاف التميمية وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية الموافقة لدعواهم المردودة للمبالغة في الرد بإفادة انتفاء الإيمان عنهم في جميع الأزمنة لا في الماضي فقط كما يفيده الفعلية ولا يتوهمن ان الجملة الاسمية الإيجابية تفيد دوام الثبوت فعند دخول النفي عليها يتعين الدلالة على نفي الدوام فإنها بمعونة المقام تدل على دوام النفي قطعا كما أن المضارع الخالي عن حرف الامتناع يدل على استمرار الوجود وعند دخول حرف الامتناع عليه يدل على استمرار الامتناع لا على امتناع الاستمرار كما في قوله عز و جل ولو يعجل اللّه للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى اليهم اجلهم فإن عدم قضاء الأجل لاستمرار عدم التعجيل لا لعدم استمرار التعجيل واطلاق الإيمان عما قيدوه به الإيذان بأنهم ليسوا من جنس الإيمان في شيء أصلا فضلا عن الإيمان بما ذكروا وقد جوز ان يكون المراد ذلك ويكون الاطلاق للظهور ومدلول الآية الكريمة أن من أظهر الإيمان واعتقاده بخلافه لا يكون مؤمنا فلا حجة فيها على الكرامية القائلين بأن من تفوه بكلمتي الشهادة فارغ القلب عما يوافقه أو ينافيه مؤمن

٩

يخادعون اللّه والذين آمنوا بيان ليقول وتوضيح لما هو غرضهم مما يقولون أو استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق اليه الذهن كأنه قيل مالهم يقولون ذلك وهم غير مؤمنين فقيل يخادعون اللّه الخ أي يخدعون وقد قرئ كذلك وايثار صيغة المفاعلة لإفادة المبالغة في الكيفية فإن الفعل متى غولب فيه بولغ فيه قطعا أو في الكمية كما في الممارسة والمزاولة فإنهم كانوا مداومين على الخدع والخدع أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروء ليوقعه فيه من حيث لا يحتسب أو يوهمه المساعدة على ما يريد هو به ليغتر بذلك فينجوا منه بسهولة من قولهم ضب خادع وخدع وهو الذي إذا أمر الحارش يده على باب جحره يوهمه الإقبال عليه فيخرج من بابه الآخر وكلا المعنيين مناسب للمقام فإنهم كانوا يريدون بما صنعوا أن يطلعوا على أسرار المؤمنين فيذيعوها إلى المنابذين وأن يدفعوا عن أنفسهم ما يصيب سائر

الكفرة واياما كان فنسبته إلى اللّه سبحانه أما على طريق الاستعارة والتمثيل لإفادة كمال شناعة جنايتهم أي يعاملون معاملة الخادعين

وأما على طريقة المجاز العقلي بأن ينسب إليه تعالى ما حقه أن ينسب إلى الرسول أبانة لمكانته عنده تعالى كما ينبئ عنه قوله تعال أن الذين يبايعونك أنما يبايعون اللّه يد اللّه فوق أيديهم وقوله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع اللّه مع أفادة كمال الشناعة كما مر

وأما لمجرد التوطئة والتمهيد لما بعده من نسبته إلى الذين آمنوا والإيذان بقوة أختصاصهم به تعالى كما في قوله تعالى واللّه ورسوله أحق أن يرضوه وقوله تعالى أن الذين يؤذون اللّه ورسوله وأبقاء صيغة المخادعة على معناها الحقيقي بناء على زعمهم الفاسد وترجمة عن أعتقادهم الباطل كأنه قيل يزعمون أنهم يخدعون اللّه واللّه يخدعهم أو على جعلها أستعارة تبعية أو تمثيلا لما أن صورة صنعهم مع اللّه تعالى والمؤمنين وصنعه تعالى معهم بإجراء أحكام الأسلام عليهم وهم عنده أخبث الكفرة وأهل الدرك الأسفل من النار أستدراجا لهم وأمتثال الرسول والمؤمنين بأمر اللّه تعالى في ذلك مجازاة لهم بمثل صنيعهم صورة صنيع المتخادعين كما قيل مما لا يرتضيه الذوق السليم

أما الأول فلأن المنافقين لو أعتقدوا أن اللّه تعالى يخدعهم بمقابلة خدعهم له لم يتصور منهم التصدي للخدع

وأما الثاني فلأن مقتضى المقام إيراد حالهم خاصة وتصويرها بما يليق بها من الصورة المستهجنة وبيان غائلتها آيلة إليهم من حيث لا يحتسبون كما يعرب عنه قوله عز و جل

وما يخدعون إلا أنفسهم فالتعرض لحال الجانب الآخر مما يخل بتوفية المقام حقه وهو حال من ضمير يخادعون أي يفعلون ما يفعلون والحال أنهم ما يضرون بذلك إلا أنفسهم فإن دائرة فعلهم مقصورة عليهم أو ما يخدعون حقيقة إلا أنفسهم حيث يغرونها بالأكاذيب فيلقونها في مهاوي الردى وقرئ وما يخادعون والمعنى هو المعنى ومن حافظ على الصيغة فيما قبل قال وما يعلمون تلك المعاملة الشبيهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم لأن ضررها لا يحيق إلا بهم أو ما يخادعون حقيقة إلا أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل وهي أيضا تغرهم وتمنيهم الأماني الفارغة وقرئ وما يخادعون من التخديع وما يخدعون أي يختدعون ويخدعون ويخادعون على البناء للمفعول ونصب انفسهم بنزع الخافض والنفس ذات الشيء وحقيقته وقد يقال للروح لأن نفس الحي به وللقلب أيضا لانه محل الروح أو متعلقة وللدم ايضا لأن قوامها به وللماء أيضا لشدة حاجتها إليه والمراد هنا هو المعنى الأول لأن المقصود بيان إن ضرر مخادعتهم راجع إليهم لا يتخطاهم إلى غيرهم وقوله تعالى

وما يشعرون حال من ضمير ما يخدعون أي يقتصرون على خدع أنفسهم والحال إنهم ما يشعرون أي ما يحسون بذلك لتماديهم في الغواية وحذف المفعول إما لظهوره أو لعمومه أي ما يشعرون بشيء أصلا جعل لحوق وبال ما صنعوا بهم في الظهور بمنزلة الأمر المحسوس الذي لا يخفى إلا على مؤوف الحواس مختل المشاعر

١٠

في قلوبهم مرض المرض عبارة عما يعرض للبدن فيخرجه عن الإعتدال اللائق به ويوجب الخلل في أفاعيله ويؤدي الى الموت أستعير ههنا لما في قلوبهم من الجهل وسوء العقيدة وعداوة النبي

وغير ذلك من فنون الكفر المؤدي إلى الهلاك الروحاني والتنكير للدلالة على كونه نوعا مبهما غير ما يتعارفه الناس من الأمراض والجملة مقررة لما يفيده قوله تعالى وما هم بمؤمنين من استمرارعدم إيمانهم أو تعليل له كأنه قيل ما لهم لا يؤمنون فقيل في قلوبهم مرض يمنعه

فزادهم اللّه مرضا بأن طبع على قلوبهم لعلمه تعالى بأنه لا يؤثر فيها التذكير والإنذار والجملة معطوفة على ما قبلها والفاء للدلالة على ترتيب مضمونها عليه وبه اتضح كونهم من الكفرة المختوم على قلوبهم مع زيادة بيان السبب

وقيل زادهم كفرا بزيادة التكاليف الشرعية لأنهم كانوا كلما ازداد التكاليف بنزول الوحي يزدادون كفرا ويجوز ان يكون المرض مستعارا لما تداخل قلوبهم من الضعف والجبن والخور عند مشاهدتهم لعزة المسلمين فزيادته تعالى اياهم مرضا ما فعل بهم من إلقاء الروع وقذف الرعب في قلوبهم عند إعزاز الدين بإمداد النبي بإنزال الملائكة وتأييده بفنون النصر والتمكين فقوله تعالى في قلوبهم مرض الخ حينئذ استئناف تعليلي لقوله تعالى يخادعون اللّه الخ كأنه قيل ما لهم يخادعون ويداهنون ولم لا يجاهرون بما في قلوبهم من الكفر فقيل في قلوبهم ضعف مضاعف هذه حالهم في الدنيا

ولهم عذاب أليم أي مؤلم يقال ألم وهو أليم كوجع وهو وجيع وصف به العذاب للمبالغة كما في قوله ... تحية بينهم ضرب وجيع ... على طريقة جد جده فإن الألم والوجع حقيقة للمؤلم والمضروب كما أن الجد للجاد

وقيل هو بمعنى المؤلم كالسميع بمعنى المسمع وليس ذلك بثبت كما سيجيء في قوله تعالى بديع السماوات والأرض بما كانوا يكذبون الباء للسببية أو للمقابلة وما مصدرية داخلة في الحقيقة على يكذبون وكلمة كانوا مقحمة لإفادة دوام كذبهم وتجدده أي بسبب كذبهم أو بمقابلة كذبهم المتجدد المستمر الذي هو قولهم آمنا باللّه وباليوم الآخر وهم غير مؤمنين فإنه اخبار بإحداثهم الإيمان فيما مضى لا إنشاء للإيمان ولو سلم فهو متضمن للإخبار بصدوره عنهم وليس كذلك لعدم التصديق القلبي بمعنى الإذعان والقبول قطعا ويجوزأن يكون محمولا على الظاهر بناء على رأي من يجوز أن يكون لكان الناقصة مصدر كما صرح به في قول الشاعر

... ببذل وحلم وساد في قومه الفتى وكونك إياه عليك يسير ...

أي لهم عذاب أليم بسبب كونهم يكذبون على الإستمرار وترتيب العذاب عليه من بين سائر موجباته القوية إما لأن المراد بيان العذاب الخاص بالمنافقين بناء على ظهور شركتهم للمجاهرين فيما ذكر من العذاب العظيم حسب اشتراكهم فيما يوجبه من الإصرار على الكفر كما ينبئ عنه قوله تعالى ومن الناس الخ

وأما للإيذان بأن لهم بمقابلة سائر جناياتهم العظيمة من العذاب مالا يوصف

وأما للرمز إلى كمال سماجة الكذب نظرا إلى ظاهر العبارة المخيلة لانفراده بالسببية مع إحاطة علم السامع بان لحوق العذاب بهم من جهات شتى وإن الاقتصار عليه للإشعار بنهاية قبحة والتنفير عنه عن الصديق رضي اللّه عنه ويروى مرفوعا أيضا إلى النبي أياكم والكذب فإنه مجانب للإيمان وما روى أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات فالمراد به التعريض وإنما سمى به لشبهه به صورة

وقيل ما موصولة والعائد محذوف اي بالذي يكذبونه وقرىء يكذبون والمفعول محذوف وهو إما للنبي أو القرآن وما مصدرية أي سبب تكذيبهم إياه عليه السلام أو القرآن أو موصولة أي بالذي يكذبونه على أن العائد محذوف ويجوز أن يكون صيغة التفعيل للمبالغة كما في بين بان وقلص في قلص أو لتكثير كما في موتت البهائم وبركت الإبل وأن يكون من قولهم كذب الوحشى إذا جرى شوطا ثم وقف لينظر ما وراءه فإن المنافق متوقف في أمره متردد في رأيه ولذلك قيل له مذبذب

١١

وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض شروع في تعديد بعض من قبائحهم المتفرعة على ما حكى عنهم من الكفر والنفاق وإذا ظرف زمن مستقبل ويلزمها معنى الشرط غالبا ولا تدخل إلا في الأمر المحقق أو المرجح وقوعه واللام متعلقة بقيل ومعناها الانهاء والتبليغ والقائم مقام فاعله جملة لا تفسدوا على أن المراد بها اللفظ

وقيل هو مضمر يفسره المذكور والفساد خروج الشيء عن الحالة اللائقة به والصلاح مقابلة والفساد في الأرض هيج الحروب والفتن المستتبعة لزوال الاستقامة عن احوال العباد واختلال امر المعاش والمعاد والمراد بما نهوا عنه ما يؤدي الى ذلك من افشاء اسرار المؤمنين الى الكفار واغرائهم عليهم وغير ذلك من فنون الشرور كما يقال للرجل لا تقتل نفسك بيدك ولا تلق نفسك في النار اذا اقدم على ما تلك عافيته وهو اما معطوف على يقول فإن جعلت كلمة من موصولة فلا محل له من الإعراب ولا بأس بتخلل البيان أو الاستئناف وما يتعلق بهما بين اجزاء الصلة فإن ذلك ليس توسيطا بالاجنبي وان جعلت موصوفه فمحله الرفع والمعنى ومن الناس من اذا نهوا من جهة المؤمنين عما هم عليه من الإفساد في الارض

قالوا اراءة للناهين ان ذلك غير صادر عنهم مع ان مقصودهم الاصلى انكار كون ذلك افسادا وادعاء كونه اصلاحا محضا كما سيأتي توضيحه

إنما نحن مصلحون اى مقصورون على الاصلاح المحض بحيث لا يتعلق به شائبة الافساد والفساد مشيرين بكلمة انما الى ان ذلك من الوضوح بحيث لا ينبغي ان يرتاب فيه

وأما كلام مستأنف سيق لتعديد شنائعهم

وأما عطفه على يكذبون بمعنى ولهم عذاب اليم بكذبهم وبقولهم حين نهوا عن الافساد انما نحن مصلحون كما قيل فيأباه ان هذا النحو من التعليل حقه ان يكون بأوصاف ظاهرة العلية مسلمة الثبوت للموصوف غنية عن البيان لشهرة الاتصاف بها عند السامع أو لسبق ذكره صريحا كما في قوله تعالى بما كانوا يكذبون فإن مضمونه عبارة عما حكى عنهم من قولهم آمنا باللّه وباليوم الآخر أو لذكر ما يستلزمه استلزاما ظاهرا كما في قوله عز و جل ان الذين يضلون عن سبيل اللّه لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب فإن ما ذكر من الضلال عن سبيل اللّه مما يوجب حتما نسيان جانب الآخرة التي من جملتها يوم الحساب وما لم يكن كذلك فحقه ان يخبر بعليته قصدا كما في قوله تعالى ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار الآية وقوله ذلك بأن اللّه نزل الكتاب بالحق الآية الى غير ذلك ولا ريب في ان هذه الشرطية وما بعدها من الشرطيتين المعطوفتين عليها ليس مضمون شيء منها معلوم الانتساب اليهم عند السامعين بوجه من الوجوه المذكورة حتى تستحق الانتظام في سلك التعليل المذكور فإذن حقها ان تكون مسوقة على سنن تعديد قبائحهم على احد الوجهين مفيدة لا تصافهم بكل واحد من تلك الاوصاف قصدا واستقلالا كيف لا وقوله عز و جل

١٢

الا انهم هم المفسدون ينادى بذلك نداء

جليا فإنه رد من جهته تعالى لدعواهم المحكية ابلغ رد وادلة على سخط عظيم حيث سلك فيه مسلك الاستئناف المؤدى الى زيادة تمكن الحكم في ذهن السامع وصدرت الجملة بحر في التأكيد الا المنبهة على تحقق ما بعدها فإن الهمزة الإنكارية الداخلة على النفي تفيد تحقيق الإثبات قطعا كما في قوله تعالى اليس اللّه بكاف عبده ولذلك لا يكاد يقع ما بعدها من الجملة الا مصدرة بما يلتقي به القسم واختها التي هي اما من طلائع القسم

وقيل هما حرفان بسيطان موضوعان للتنبيه والاستفتاح وان المقررة للنسبة وعرف الخبر ووسط ضمير الفصل لرد ما في قصر انفسهم على الاصلاح من التعريض بالمؤمنين ثم استدرك بقوله تعالى

ولكن لا يشعرون للإيذان بأن كونهم مفسدين من الأمور المحسوسة لكن لا حس لهم حتى يدركوه وهكذا الكلام في الشرطيتين الآتيتين وما بعدهما من رد مضمونهما ولولا ان المراد تفصيل جناياتهم وتعديد خبائثهم وهناتهم ثم اظهار فسادها وإبانة بطلانها لما فتح هذا الباب واللّه اعلم بالصواب

١٣

وإذا قيل لهم من قبل المؤمنين بطريق الأمر بالمعروف إثر نهيهم عن المنكر اتماما للنصح وإكمالا للإرشاد

آمنوا حذف المؤمن به لظهوره أو اريد افعلوا الإيمان

كما آمن الناس الكاف في محل النصب على انه نعت لمصدر مؤكد محذوف أي آمنوا إيمانا مماثلا لإيمانهم فما مصدرية أو كافة كما في ربما فإنها تكف الحرف عن العمل وتصحح دخولها على الجملة وتكون للتشبيه بين مضمونى الجملتين اى حققوا إيمانكم كما تحقق ايمانهم واللام للجنس والمراد بالناس الكاملون في الانسانية العاملون بقضية العقل فإن اسم الجنس كما يستعمل في مسماه يستعمل فيما يكون جامعا للمعاني الخاصة به المقصودة منه ولذلك يسلب عما ليس كذلك فيقال هو ليس بإنسان وقد جمعهما من قال

 ... إذ الناس ناس والزمان زمان ...

أو للعهد والمراد به الرسول ومن معه أو من آمن من أهل جلدتهم كابن سلام واضرابه والمعنى آمنوا ايمانا مقرونا بالإخلاص متمحضا عن شوائب النفاق مماثلا لإيمانهم قالوا مقابلين للأمر بالمعروف والانكار المنكر واصفين للمراجيح الرزان بضد أوصافهم الحسان

أنؤمن كما آمن السفهاء مشيرين باللام إلى من أشير اليهم في الناس من الكاملين أو المعهودين أو إلى الجنس بأسره وهم مندرجون فيه على زعمهم الفاسد والسفه خفة وسخافة رأي يورثهما قصور العقل ويقابله الحلم والاناة وانما نسبوهم اليه مع انهم في الغاية القاصية من الرشد والرزانة والوقار لكمال انهماك انفسهم في السفاهة وتماديهم في الغواية وكونهم ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا فمن حسب الضلال هدى يسمى الهدى لامحالة ضلال أو لتحقير شأنهم فإن كثيرا من المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موال كصهيب وبلال أو للتجلد وعدم المبالاة بمن آمن منهم على تقدير كون المراد بالناس عبد اللّه بن سلام وأمثاله وأياما كان فالذي يقتضيه جزالة التنزيل ويستدعيه فخامة شأنه الجليل أن يكون صدور هذا القول عنهم بمحضر من المؤمنين الناصحين لهم جوابا عن نصيحتهم و حيث كان فحواه تسفيه أولئك المشاهير الأعلام والقدح في إيمانهم لزم كونهم مجاهرين لامنافقين وذلك مما لا يكاد يساعده السباق والسياق وعن هذا قالوا ينبغي أن يكون ذلك فيما بينهم لا على وجه المؤمنين قال الإمام الواحدي أنهم كانوا يظهرون هذا القول فيما بينهم لا عند المؤمنين فأخبر اللّه تعالى نبي عليه السلام والمؤمنين بذلك عنهم وأنت خبير بأن ابراز ما صدر عن أحد المتحاورين في الخلاء في معرض ما جرى بينهما في مقام المحاورة مما لا عهد به في الكلام فضلا عما هو في منصب الاعجاز فالحق الذي لا محيد عنه ان قولهم هذا وان صدر عنهم بمحضر من الناصحين لا يقتضي كونهم مجاهرين فإنه ضرب من الكفر أنيق وفن في النفاق عريق مصنوع على شاكلة قولهم واسمع غير مسمع فكما أنه كلام ذو وجهين مثلهم محتمل للشر بأن يحمل على معنى اسمع منا غير مسمع كلاما ترضاه ونحوه وللخير بأن يحمل على معنى اسمع غير مسمع مكروها كانوا يخاطبون به رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم استهزأ به مظهرين إرادة المعنى الاخير وهم مضمرون في انفسهم المعنى الأول مطمئنون به ولذلك نهوا عنه كذلك هذا الكلام محتمل للشر كما ذكر في تفسيره وللخير بأن يحمل على ادعاء الايمان كإيمان الناس وانكار ما اتهموا به من النفاق على معنى أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك قد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير وهم معولون على الأول فرد عليهم ذلك بقوله عز قائلا

ألا انهم هم السفهاء و لكن لايعلمون ابلغ رد وجهلوا اشنع تجهيل حيث صدرت الجملة بحر في التأكيد حسبما اشير اليه فيما سلف وجعلت السفاهة مقصورة عليهم وبالغة إلى حيث لايدرون أنهم سفهاء ومن هذا اتضح سر ما مر في تفسير قوله تعالى انما نحن مصلحون فإن حمله على المعنى الأخير كما هو رأي الجمهور مناف لحالهم ضرورة ان مشافهتهم للناصحين بادعاء كون ما نهوا عنه من الافساد إصلاحا كما مر اظهار منهم للشقاق وبروز اشخاصهم من نفق النفاق والاعتذار بأن المراد بما نهوا عنه مداراتهم للمشركين كما ذكر في بعض التفاسير وبالاصلاح الذي يدعونه اصلاح ما بينهم وبين المؤمنين ان معنى قوله تعالى الآ انهم هم المفسدون انهم في تلك المعاملة مفسدون لمصالح المؤمنين لأشعارها باعطاء الدنية وإنبائها عن ضعفهم الملجئ الى توسيط من يتصدى لأصلاح ذات البين فضلا عن كونهم مصلحين مما لا سبيل اليه قطعا فإن قوله تعالى ولكن لا يشعرون ناطق بفساده كيف لا وانه يقتضى ان يكون المنافقون في تلك الدعوى صادقين قاصدين للأصلاح ويأتيهم الإفساد من حيث لا يشعرون ولا ريب في انهم فيها كاذبون لا يعاشرونهم الآ مضارة للدين وخيانة للمؤمنين فأذن طريق حل الإشكال ليس الآ ما اشير اليه فإن قولهم انما نحن مصلحون محتمل للحمل على الكذب وانكار صدور الإفساد المنسوب اليهم عنهم على معنى انما نحن مصلحون لا يصدر عنا ما تنهوننا عنه من الإفساد وقد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم واراءة لأرادة هذا المعنى وهم معرجون على المعنى الأول فرد عليهم بقوله تعالى الآ انهم هم المفسدون الآية واللّه سبحانه اعلم بما اودعه في تضاعيف كتابه المكنون من السر المخزون نسأله العصمة والتوفيق والهداية الى سواء الطريق وتفصيل هذة الآية الكريمه بلا يعلمون لما انه اكثر طباقا لذكر السفه الذى هو فن من فنون الجهل ولأن الوقوف على ان المؤمنين ثابتون على الحق وهم على الباطل منوط بالتمييز بين الحق والباطل وذلك مما لا يتسنى الا بالنظر والاستدلال وأما النفاق وما فيه من الفتنة والافساد وما يترتب عليه من كون من يتصف به مفسدا فأمر بديهي يقف عليه من له شعور ولذلك فصلت الآيه الكريمة السابقة بلا يشعرون

١٤

 وإذا لقو الذين آمنوا قالوا آمنا بيان لتباين احوالهم وتناقض أقوالهم في اثناء المعاملة والمخاطبة حسب تباين المخاطبين ومساق ما صدرت به قصتهم لتحرير مذهبهم والترجمة عن نفاقهم ولذلك لم يتعرض ههنا لمتعلق الإيمان فليس فيه شائبة التكرير روى ان عبد اللّه بن ابي واصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من الصحابة فقال ابن ابي انظروا كيف ارد هؤلاء السفهاء عنكم فلما دنوا منهم اخذ بيد ابي بكر رضي اللّه عنه فقال مرحبا بالصديق سيد بني تميم وشيخ الاسلام وثاني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في الغار الباذل نفسه وما له لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم اخذ بيد عمر رضي اللّه عنه فقال مرحبا بسيد بني عدي الفاروق القوي في دينه الباذل نفسه وماله لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم اخذ بيد علي كرم اللّه وجهه فقال مرحبا بابن عم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وختنه وسيد بني هاشم ما خلا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ص - فنزلت

وقيل قال له علي رضي اللّه عنه يا عبد اللّه اتق اللّه ولا تنافق فإن المنافقين شر خلق اللّه تعالى فقال له مهلا يا ابا الحسن افي تقول هذا واللّه إن ايماننا كإيمانكم وتصديقنا كتصديقكم ثم افترقوا فقال ابن ابي لاصحابه كيف رأيتموني فعلت فإذا رأيتموهم فافعلوا مثل ما فعلت فأثنوا عليه خيرا وقالوا ما نزال بخير ما عشت فينا فرجع المسلمون الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم واخبروه بذلك فنزلت واللقاء المصادفة يقال لقيته ولاقيته أي صادفته واستقبلته وقرئ اذا لاقوا

 واذا خلوا من خلوت الى فلان أي انفردت معه وقد يستعمل بالباء أو من خلا بمعنى مضى ومنه القرون الخالية وقولهم خلاك ذم أي جاوزك ومضى عنك وقد جوز كونه من خلوت به اذا سخرت منه على ان تعديته بإلى في قوله تعالى

الى شياطينهم لتضمنه معنى الانهاء أي واذا انهوا اليهم السخرية الخ وانت خبير بأن تقييد قولهم المحكى بذلك الإنهاء مما لا وجه له والمراد بشياطينهم المماثلون منهم للشيطان في التمرد والعناد المظهرون لكفرهم وإضافتهم اليهم للمشاركة في الكفر أو كبار المنافقين والقائلون صغارهم وجعل سيبويه نون الشيطان تارة اصلية فوزنه فيعال على انه من شطن اذا بعد فإنه بعيد من الخير والرحمة ويشهد له قولهم تشيطن واخرى زائدة فوزنه فعلان على انه من شاط أي هلك أو بطل ومن اسمائه الباطل

وقيل معناه هاج واحترق قالوا انا معكم أي في الدين والاعتقاد لا نفارقكم في حال من الاحوال وانما خاطبوهم بالجملة الاسمية المؤكدة لان مدعاهم عندهم تحقيق الثبات على ما كانوا عليه من الدين والتأكيد للإنباء عن صدق رغبتهم ووفور نشاطهم لا لإنكار الشياطين بخلاف معاملتهم مع المؤمنين فإنهم انما يدعون عندهم احداث الإيمان لجزمهم بعد رواج ادعاء الكمال فيه أو الثبات عليه انما نحن أي في إظهار الإيمان عند المؤمنين مستهزءون بهم من غير ان يخطر ببالنا الإيمان حقيقة وهو استئناف مبني على سؤال ناشئ من ادعاء المعية كأنه قيل لهم عند قولهم

 انا معكم فما بالكم توافقون المؤمنين في الإتيان بكلمة الإيمان فقالوا انما نحن مستهزءون بهم فلا يقدح ذلك في كوننا معكم بل يؤكده وقد ضمنوا جوابهم أنهم يهينون المؤمنين ويعدون ذلك نصرة لدينهم أو تأكيد لما قبله فإن المستهزئ بالشيء مصر على خلافه أو بدل منه لأن من حقر الاسلام فقد عظم الكفر والإستهزاء بالشيء السخرية منه يقال هزأت واستهزأت بمعنى وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع وهزأ يهزأ مات على مكانه وتهزأ به ناقته أي تسرع به وتخف

١٥

 اللّه يستهزئ بهم أي يجازيهم على استهزائهم سمى جزاؤه باسمه كما سمى جزاء السيئة سيئة اما للمشاكلة في اللفظ أو المقارنة في الوجود أو يرجع وبال الاستهزاء عليهم فيكون كالمستهزئ بهم أو ينزل بهم الحقارة والهوان الذي هو لازم الاستهزاء أو يعاملهم معاملة المستهزئ بهم أما في الدنيا فبإجراء احكام المسلمين عليهم واستدراجهم بالامهال والزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان

وأما في الآخرة فبما يروى انه يفتح لهم باب الى الجنة فيسرعون نحوه فإذا صاروا اليه سد عليهم الباب وذلك قوله تعالى فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون وانما استؤنف للإيذان بأنهم قد بلغوا في المبالغة في استهزاء المؤمنين الى غاية ظهرت شناعته عند السامعين وتعاظم ذلك عليهم حتى اضطرهم الى ان يقولوا ما مصير امر هؤلاء وما عاقبة حالهم وفيه انه تعالى هو الذي يتولى أمرهم ولا يحوجهم الى المعارضة بالمثل ويستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم عنده من باب الاستهزاء حيث ينزل بهم من النكال ويحل عليهم من الذل والهوان ما لا يوصف وايثار صيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار كما يعرب عنه قوله عز قائلا أو لا يرون انهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين وما كانوا خالين في أكثر الاوقات من تهتك استار وتكشف اسرار ونزول في شأنهم واستشعار حذر من ذلك كما أنبأ عنه قوله عز و جل يحذر المنافقون ان تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا ان اللّه مخرج ما تحذرون

 ويمدهم أي يزيدهم ويقويهم من مد الجيش وأمده إذا زاده وقواه ومنه مددت الدواة والسراج إذا اصلحتهما بالحبر والزيت وإيثاره على يزيدهم للرمز إلى أن ذلك منوط بسوء اختيارهم لما أنه إنما يتحقق عند الاستمداد وما يجري مجراه من الحاجة الداعية إليه كما في الأمثلة المذكورة وقرئ يمدهم من الامداد وهو صريح في ان القراءة المشهورة ليست من المد في العمر على انه يستعمل في اللام كالإملاء قال تعالى ونمد له من العذاب مدا وحذف الجار وايصال الفعل الى الضمير خلاف الاصل لا يصار اليه الا بدليل

 في طغيانهم متعلق بيمدهم والطغيان مجاوزة الحد في كل أمر والمراد افراطهم في العتو وغلوهم في الكفر وقرئ بكسر الطاء وهي لغة فيه كلقيان لغة في لقيان وفي اضافته اليهم إيذان باختصاصه بهم وتأييد لما اشير إليه من ترتب المد على سوء اختيارهم

 يعمهون حال من الضمير المنصوب أو المجرور لكون المضاف مصدرا فهو مرفوع حكما والعمه في البصيرة كالعمى في البصر وهو التحير والتردد بحيث لايدري اين يتوجه واسناد هذا المد الى اللّه تعالى مع اسناده في قوله تعالى واخوانهم يمدونهم في الغي محقق لقاعدة أهل الحق من أن جميع الأشياء مستند من حيث الخلق اليه سبحانه وان كانت أفعال العباد من حيث الكسب مستندة اليهم والمعتزلة لما تعذر عليهم اجراء النظم الكريم على مسلكه نكبوا إلى شعاب التأويل فأجابوا أولا بأنهم لما اصروا على كفرهم خذلهم اللّه تعالى ومنعهم ألطافه فتزايد الرين في قلوبهم فسمى ذلك مددا في الطغيان فأسند إيلاؤه إليه تعالى ففي السند مجاز لغوي وفي الاسناد مجاز عقلي لأنه إسناد للفعل إلى المسبب له وفاعله الحقيقي هم الكفرة وثانيا بأنه أريد بالمد في الطغيان ترك القسر والإلحاد إلى الإيمان كما في قوله تعالى ونذرهم في طغيانهم يعمهون فالمجاز في المسند فقط وثالثا بأن المراد معناه الحقيقي وهو فعل الشيطان لكنه أسند إليه سبحانه مجازا لأنه بتمكينه تعالى وإقداره

١٦

 أولئك إشارة إلى المذكورين بإعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات الشنيعة المميزة لهم عمن عداهم أكمل تمييز بحيث صاروا كأنهم حضار مشاهدون على ما هم عليه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر وسوء الحال ومحله الرفع على الأبتداء خبره قوله تعالى

الذين إشتروا الضلالة بالهدى والجملة مسوقة لتقرير ما قبلها وبيان لكمال جهالتهم فيما حكى عنهم من الأقوال والأفعال بإظهار غاية سماجتها وتصويرها بصورة مالا يكاد يتعاطاه من له أدنى تمييز فضلا عن العقلاء والضلالة الجور عن القصد والهدى التوجه إليه وقد استعير

الأول للعدول عن الصواب في الدين

والثاني للإستقامة عليه والإشتراء استبدال السلعة بالثمن أي أخذها به لا بذله لتحصيلها كما قيل وإن كان مستلزما له فإن المعتبر في عقد الشراء ومفهومه هو الجلب دون السلب الذي هو المعتبر في عقد البيع ثم استعير لأخذ شيء بإعطاء ما في يده عينا كان كل منهما أو معنى لا للإعراض عما في يده محصلا به غيره كما قيل وإن استلزمه لما مر سره ومنه قوله

 ... أخذت بالجمة رأسا أزعرا ... وبالثنايا الواضحات الدردرا

... وبالطويل العمر عمرا جيدرا ... كما اشترى المسلم إذ تنصرا ...

فاشتراء الضلالة بالهدى مستعار لأخذها بدلا منه أخذا منوطا بالرغبة فيها والإعراض عنه ولما اقتضى ذلك ان يكون ما يجري مجرى الثمن حاصلا للكفرة قبل العقد وما يجري مجرى المبيع غير حاصل لهم إذ ذاك حسبما هو في البيت ولا ريب في أنهم بمعزل من الهدى مستمرون على الضلالة استدعى الحال تحقيق ما جرى مجرى العوضين فنقول وباللّه التوفيق ليس المراد بما تعلق به الأشتراء ههنا جنس الضلالة الشاملة لجميع أصناف الكفرة حتى تكون حاصلة لهم من قبل بل هو فردها الكامل الخاص بهؤلاء على أن اللام للعهد وهو عمههم المقرون بالمد في الطغيان المترتب على ما حكى عنهم من القبائح وذلك إنما يحصل لهم عند اليأس من اهتدائهم والختم على قلوبهم وكذا ليس المراد بما في حيز الثمن نفس الهدى بل هو التمكن التام منه بتعاضد الأسباب ونأخذ المقدمات المستتبعة له بطريق الإستعارة كأنه نفس الهدى بجامع المشاركة في استتباع الجدوى ولا مرية في ان هذه المرتبة من التمكن كانت حاصلة لهم بما شاهدوه من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة من جهة الرسول وبما سمعوه من نصائح المؤمنين التي من جملتها ما حكى من النهي عن الإفساد في الأرض والأمر بالإيمان الصحيح وقد نبذوها وراء ظهورهم وأخذوا بدلها الضلالة الهائلة التي هي العمه في تيه الطغيان وحمل الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أن إضاعتها غير مختصة بهؤلاء ولئن حملت على الإضاعة التامة الواصلة إلى حد الختم على القلوب المختصة بهم فليس في إضاعتها فقط من الشناعة ما في إضاعتها مع مؤيدها من المؤيدات العقلية والنقلية على أن ذلك يقضي إلى كون ذكر ما فصل من أول السورة إلى هنا ضائعا وأبعد منه حمل اشتراء الضلالة بالهدى على مجرد اختيارها عليه من غير اعتبار كونه في ايديهم بناء على أنه يستعمل اتساعا في ايثار أحد الشيئين الكائنين في شرف الوقوع على الآخر فإنه مع خلوه عن المزايا المذكورة بالمرة مخل برونق الترشيح الآتي هذا على تقدير جعل الاشتراء المذكور عبارة عن معاملتهم السابقة المحكية وهو الانسب بتجاوب اطراف النظم الكريم

وأما إذا جعل ترجمة عن جناية أخرى من جناياتهم فالمراد بالهدى ما كانوا عليه من معرفة صحة نبوة النبي وحقيقة دينه بما كانوا يشاهدونه من نعوته عليه الصلاة و السلام في التوراة وقد كانوا على يقين منه حتى كانوا يستفتحون به على المشركين ويقولون اللّهم أنصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة ويقولون لهم قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وأرم فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به كما سيأتي ولا مساغ لحمل الهدى على ما كانوا يظهرونه عند لقاء المؤمنين فإنها ضلالة مضاعفة

 فما ربحت تجارتهم عطف على الصلة داخل في حيزها والفاء للدلالة على ترتب مضمونه عليها والتجارة صناعة التجار وهو التصدى للبيع والشراء لتحصيل الربح وهو الفضل على رأس المال يقال ربح فلان في تجارته أي أستشف فيها وأصاب الربح وأسناد عدمه الذي هو عبارة عن الخسران إليها وهو لأربابها بناء على التوسع المبني على ما بينهما من الملابسة و فائدته المبالغة في تخسيرهم لما فيه من الأشعار بكثرة الخسار وعمومه المستتبع لسرايته إلى ما يلابسهم وأيرادهما اثر الأشتراء المستعار للأستبدال المذكور ترشيح للأستعارة وتصوير لما فاتهم من فوائد الهدى بصورة خسار التجارة الذي يتحاشا عنه كل أحد للأشباع في التخسير والتحسير ولا ينافي ذلك أن التجارة في نفسها أستعارة لانهماكهم فيما هم عليه من إيثار الضلالة على الهدى وتمرنهم عليه معربة عن كون ذلك صناعة لهم راسخة إذ ليس من ضروريات الترشيح أن يكون باقيا على الحقيقة تابعا للأستعارة لا يقصد به إلا تقويتها كما في قولك رأيت أسد وافي البراثن فإنك لا تريد به ألا زيادة تصوير للشجاع وأنه أسد كامل من غير أن تريد بلفظ البراثن معنى آخر بل قد يكون مستعار من ملائم المستعار منه لملائم المستعار له ومع ذلك يكون ترشيحا لأصل الأستعارة كما في قوله

 ... فلما رأيت النسر عز ابن دأية ... وعشش في وكريه جاش له صدرى ...

فإن لفظ الوكرين مع كونه مستعارا من معناه الحقيقي الذي هو موضع يتخذه الطائر للتفريخ للرأس واللحية أو للفودين أعنى جانبي الرأس ترشيح باعتبار معناه الأصلي لأستعارة لفظ النسر للشيب ولفظ أبن داية للشعر الأسود وكذا لفظ التعشيش مع كونه مستعارا للحلول و النزول المستمرين ترشيح لتينك الأستعارتين بالأعتبار المذكور وقرىء تجارتهم وتعددها لتعدد المضاف إليهم و ما كان مهتدين أي ألى طرق التجارة فإن المقصود منها سلامة رأس المال مع حصول الربح ولئن فات الربح في صفقة فربما يتدارك في صفقة أخرى لبقاء الأصل

وأما إتلاف الكل بالمرة فليس من باب التجارة قطعا فهؤلاء الذين كان رأس مالهم الهدى قد استبدلوا بها الضلالة فأضاعوا كلتا الطلبتين فبقوا خائبين خاسرين نائين عن طريق التجارة بألف منزل فالجملة راجعة إلى الترشيح معطوفة على ما قبلها مشاركة له في الترتيب على الاشتراء المذكور والأولى عطفها على اشتروا الخ

١٧

 مثلهم زيادة كشف لحالهم وتصوير لها غب تصويرها بصورة ما يؤدي إلى الخساربحسب المآل بصورة ما يفضي إلى الخسار من حيث النفس تهويلا لها وإبانة لفظاعتها فإن التمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل واستنزاله من مقام الاستعصاء عليه وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبي وقمع سورة الجامع الأبي كيف لا وهو رفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية وأبراز لها في معرض المحسوسات الجلية وإبداء للمنكر في صورة المعروف وإظهار للوحشى في هيئة المألوف والمثل في الأصل بمعنى المثل والنظير يقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ثم أطلق على القول السائر الذي يمثل مضربه بمورده وحيث لم يكن ذلك إلا قولا بديعا فيه غرابة صيرته جديرا بالتسيير في البلاد وخليقا بالقبول فيما بين كل حاضر وباد استعير لكل حال أو صفة أو قصة لها شأن عجيب وخطر غريب من غير أن يلاحظ بينها وبين شيء آخر تشبيه ومنه قوله عز و جل وللّه المثل الاعلى أي الوصف الذي له شأن عظيم وخطر جليل وقوله تعالى مثل الجنة التي وعد المتقون أي قصتها العجيبة الشأن

 كمثل الذي أي الذين كما في قوله تعالى وخضتم كالذي خاضوا خلا أنه وحد الضمير في قوله تعالى

 استوقد نارا نظرا إلى الصورة وإنما جاز ذلك مع عدم جواز وضع القائم مقام القائمين لأن المقصود بالوصف هي الجملة الواقعة صلة له دون نفسه بل إنما هو وصلة لوصف المعارف بها ولأنه حقيق بالتخفيف لإستطالته بصلته ولذلك بولغ فيه فحذف ياؤه ثم كسرته ثم اقتصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين ولأنه ليس باسم تام بل هو كجزئه فحقه ان لايجمع ويستوي فيه الواحد والمتعدد كما هو شأن أخواته وليس الذين جمعه المصحح بل النون فيه مزيدة للدلالة على زيادة المعنى ولذلك جاء بالياء أبدا على اللغة الفصيحة أو قصد به جنس المستوقد أو الفوج أو الفريق المستوقد والنار جوهر لطيف مضيء حار محرق واشتقاقها من نارينور إذا نفر لأن فيها حركة واضطرابا واستيقادها طلب وقودها أي سطوعها وارتفاع لهبها وتنكيرها للتفخيم

 فلما أضاءت ما حوله الإضاءة فرط الانارة كما يعرب عنه قوله تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وتجيء متعدية ولازمة والفاء للدلالة على ترتبها على الاستيقاد أي فلما أضاءت النار ما حول المستوقد أو فلما أضاء ما حوله والتأنيث لكونه عبارة عن الاماكن والأشياء أو أضاءت النار نفسها فيما حوله على أن ذلك ظرف لإشراق النار المنزل منزلتها لا لنفسها أو ما مزيدة وحوله ظرف وتأليف الحول للدوران

وقيل للعام حول لأنه يدور

 ذهب اللّه بنورهم النور ضوء كل نير واشتقاقه من النار والضمير للذي والجمع باعتبار المعنى أي أطفأ اللّه نارهم التي هي مدار نورهم وإنما علق الإذهاب بالنور دون نفس النار لأنه المقصود بالإستيقاد لاالاستدفاء ونحوه كما ينبئ عنه قوله تعالى فلما أضاءت حيث لم يقل فلما شب ضرامها أو نحو ذلك وهو جواب لما أو استئناف أجيب به عن سؤال سائل يقول ما بالهم اشبهت حالهم حال مستوقد انطفأت ناره أو بدله من جملة التمثيل على وجه البيان والضمير على الوجهين للمنافقين والجواب محذوف كما في قوله تعالى فلما ذهبوا به للإيجاز والأمن من الإلباس كأنه قيل فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا في الظلمات خابطين متحيرين خائبين بعد الكدح في إحيائها واسناد الإذهاب الى اللّه تعالى إما لأن الكل بخلقه تعالى

وأما لأن الانطفاء حصل بسبب خفى أو امر سماوى كريح أو مطر

وأما للمبالغة كما يؤذن به تعدية الفعل بالباء دون الهمزة لما فيه من معنى الاستصحاب والامساك يقال ذهب السلطان بما له اذا اخذه وما اخذه اللّه عز و جل فأمسكه فلا مرسل له من بعده ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى الظاهر الى النور لأن ذهاب الضوء قد يجامع بقاء النور في الجملة لعدم استلزام عدم القوى لعدم الضعيف والمراد إزالته بالكلية كما يفصح عنه قوله تعالى

وتركهم في ظلمات لا يبصرون فإن الظلمة التي هي عدم النور وانطماسه بالمرة لا سيما اذا كانت متضاعفة متراكمة متراكبا بعضها على بعض كما يفيده الجمع والتنكير التفخيمي وما بعدها من قوله تعالى لا يبصرون لا يتحقق الا بعد ان لا يبقى من النور عين ولا اثر

وأما لان المراد بالنور مالا يرضى به اللّه تعالى من النار المجازية التي هينار الفتنة والفساد كما في قوله تعالى كلما اوقدوا نارا للحرب اطفأها اللّه ووصفها بإضاءة ما حول المستوقد من باب الترشيح أو النار الحقيقة التي يوقدها الغواة ليتوصلوا بها الى بعض المعاصي ويهتدوا بها في طرق العيث والفساد فأطفأها اللّه تعالى وخيب آمالهم وترك في الأصل بمعنى طرح وخلى وله مفعول واحد فضمن معنى التصيير فجرى مجرى افعال القلوب قال

 ... فتركته جزر السباع ينشنه ... يقضمن حسن بنانه والمعصم ...

والظلمة مأخوذة من قولهم ما ظلمك ان تفعل كذا أي ما منعك لأنها تسد البصر وتمنعه من الرؤية وقرئ في ظلمات بسكون اللام وفي ظلمة بالتوحيد ومفعول لا يبصرون من قبيل المطروح كأن الفعل غير متعد والمعنى ان حالهم العجيبة التي هي اشتراؤهم الضلالة التي هي عبارة عن ظلمتي الكفر والنفاق المستتبعين لظلمة سخط اللّه تعالى وظلمة يوم القيامة يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين ايديهم وبأيمانهم وظلمة العقاب السرمدي بالهدى الذي هو النور الفطري المؤيد بما شاهدوه من دلائل الحق أو بالهدى الذي كانوا حصلوه من التوراة حسبما ذكر كحال من استوقد نارا عظيمة حتى يكاد ينتفع بها فأطفاها اللّه تعالى وتركه في ظلمات هائلة لا يتسنى فيها الإبصار

١٨

 صم بكم عمى اخبار لمبتدأ محذوف هو ضمير المنافقين أو خبر واحد بالتأويل المشهور كما في قولهم هذا حلو حامض والصمم آفة مانعة من السماع واصله الصلابة واكتناز الاجزاء ومنه الحجر الاصم والقناة الصماء وصمام القارورة سدادها سمى به فقدان حاسة السمع لما ان سببه اكتناز باطن الصماخ وانسداد منافذه بحيث لا يكاد يدخله هواء يحصل الصوت بتموجه والبكم الخرس والعمي عدم البصر عما من شأنه ان يبصر وصفوا بذلك مع سلامة مشاعرهم المعدودة لما انهم حيث سدوا مسامعهم عن الإصاخة لما يتلى عليهم من الآيات والذكر الحكيم وابوا ان يتلقوها بالقبول وينطقوا بها السنتهم ولم يجتلوا ما شاهدوا من المعجزات الظاهرة على يدي رسول اللّه ولم ينظروا الى آيات التوحيد المنصوبة في الآفاق والأنفس بعين التدبر واصروا على ذلك بحيث لم يبق لهم احتمال الأرعواء عنه صاروا كفاقدي تلك المشاعر بالكلية وهذا عند مفلقي سحرة البيان من باب التمثيل البليغ المؤسس على تناسي التشبيه كما في قول من قال

 ... ويصعد حتى يظن الجهول ... بان له حاجة في السماء ...

لما ان المقدر في النظم في حكم الملفوظ لا من قبيل الأستعارة التي يطوي فيها ذكر المستعار له بالكلية حتى لو لم يكن هناك قرينة لحمل على المعنى الحقيقي كما في قول زهير ... لدي اسد شاكي السلاح مقذف ... له لبد اظفاره لم تقلم ...

 فهم لا ير جعون الفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها أي هم بسبب اتصافهم بالصفات المذكورة لا يعودون الى الهدى الذي تركوه وضيعوه أو عن الضلالة التي اخذوها والآية نتيجة للتمثيل مفيدة لزيادة تهويل وتفظيع فإن قصارى امر التمثيل بقاؤهم في ظلمات هائلة من غير تعرض لمشعرى السمع والنطق ولاختلال مشعر الابصار

وقيل الضمير المقدر وما بعده للموصول باعتبار المعنى كالضمائر المتقدمة فالايةالكريمة تتمة للتمثيل وتكميل له بأن ما أصابهم ليس مجرد انطفاء نارهم وبقائهم في ظلمات كثيفة هائلة مع بقاء حاسة البصر بحالها بل اختلت مشاعرهم جميعا واتصفوا بتلك الصفات على طريقة التشبيه أو الحقيقة فبقوا جامدين في مكاناتهم لا يرجعون ولا يدرون أيتقدمون ام يتأخرون وكيف يرجعون الى ما ابتدأوا منه والعدول الى الجملة الاسمية للدلالة على استمرار تلك الحالة فيهم وقرئ صما بكما عميا اما على الذم كما في قوله تعالى حمالة الحطب والمخصوص بالذم هم المنافقون أو المستوقدون

وأما على الحالية من الضمير المنصوب في تركهم أو المرفوع في لا يبصرون

وأما على المفعولية لتركهم فالضميران للمستوقدين أو كصيب تمثيل لحالهم اثر تمثيل ليعم البيان منها كل دقيق وجليل ويوفي حقها من التفظيع والتهويل فإن تفننهم في فنون الكفر والضلال وتنقلهم فيها من حال الى حال حقيق بأن يضرب في شأنه الامثال ويرخي في حلبته اعنة المقال ويمد لشرحه اطناب الاطناب ويعقد لأجله فصول وابواب لما ان كل كلام له حظ من البلاغة وقسط من الجزالة والبراعة لا بد ان يوفي فيه حق كل من مقامي الإطناب والإيجاز فما ظنك بما في ذروة الإعجاز من التنزيل الجليل ولقد نعى عليهم في هذا التمثيل تفاصيل جناياتهم وهو عطف على الأول على حذف المضاف لما سيأتي من الضمائر المستدعية لذلك أي كمثل ذوي صيب وكلمة أو للإيذان بتساوي القصتين في الاستقلال بوجه التشبيه وبصحة التمثيل بكل واحدة منهما وبهما معا والصيب فيعل من الصوب وهو النزول الذي له وقع وتأثير يطلق على المطر وعلى السحاب قال الشماخ

... عفا آيه نسج الجنوب مع الصبا ... واسحم دان صادق الوعد صيب ...

ولعل الأول هو المراد ههنا لاستلزامه

الثاني وتنكيره لما انه اريد به نوع منه شديد هائل كالنار في التمثيل الأول وامد به ما فيه من المبالغات من جهة مادة الأولى التي هي الصاد المستعلية والياء المشددة والباء الشديدة ومادته الثانية اعنى الصوب المنبئ عن شدة الانسكاب ومن جهة بنائه الدال على الثبات وقرئ

١٩

 أو كصائب من السماء متعلق بصيب أو بمحذوف وقع صفة له والمراد بالسماء هذه المظلة وهي في الاصل كل ما علاك من سقف ونحوه وعن الحسن انها موج مكفوف أي ممنوع بقدرة اللّه عز و جل من السيلان وتعريفها للإيذان بإن انبعاث الصيب ليس من افق واحد فإن كل افق من آفاقها أي كل ما يحيط به كل افق منها سماء على حدة قال ومن بعد ارض بيننا وسماء كما ان كل طبقة من طباقها سماء قال تعالى واوحى في كل سماء امرها والمعنى انه صيب عام نازل من غمام مطبق آخذ بالآفاق

وقيل المراد بالسماء السحاب واللام لتعريف الماهية

 فيه ظلمات أي انواع منها وهي ظلمة تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر وظلمة إظلال ما يلزمه من الغمام الأسحم المطبق الآخذ بالآفاق مع ظلمة الليل وجعله محلا لها مع ان بعضها لغيره كظلمتي الغمام والليل لما انهما جعلتا من توابع ظلمته مبالغة في شدته وتهويلا لأمره وإيذانا بأنه من الشدة والهول بحيث تغمر ظلمته ظلمات الليل والغمام وهو السر في عدم جعل الظلمات هو الاصل المستتبع للبواقي مع ظهور ظرفيتها للكل اذ لو قيل أو كظلمات فيها صيب الخ لما افاد ان للصيب ظلمة خاصة به فضلا عن كونها غالبة على غيرها

 ورعد وهو صوت يسمع من السحاب والمشهور انه يحدث من اصطكاك اجرام السحاب بعضها ببعض أو من انقلاع بعضها عن بعض عند اضطرابها بسوق الرياح اياه سوقا عنيفا

وبرق وهو ما يلمع من السحاب من برق الشيء بريقا أي لمع وكلاهما في الاصل مصدر ولذلك لم يجمعا وكونهما في الصيب باعتبار كونهما في اعلاه ومصبه ووصول اثرهما اليه وكونهما في الظلمات الكائنة فيه والتنوين في الكل للتفخيم والتهويل كأنه قيل فيه ظلمات شديدة داجية ورعد قاصف وبرق خاطف وارتفاع الجميع بالظرف على الفاعلية لتحقق شرط العمل بالاتفاق

وقيل بالابتداء والجملة اما صفة لصيب أو حال منه لتخصصه بالصفة أو بالعمل فيما بعده من الجار أو من المستكن في الظرف الأول على تقدير كونه صفة لصيب والضمائر في قوله عز و جل

 يجعلون أصابعهم في آذانهم للمضاف الذي أقيم مقامه المضاف إليه فإن معناه باق وإن حذف لفظه تعويلا على الدليل كما في قوله تعالى وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فإن الضمير للأهل المدلول عليه بما قام مقامه من القرية قال حسان رضي اللّه عنه

 ... يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل ...

فإن تذكير الضمير المستكن في يصفق لرجوعه إلى الماء المضاف إلى بردى وإلا لأنث حتما وإيثارا لجعل المنبئ عن دوام الملابسة واستمرار الاستقرار على الإدخال المفيد لمجرد الانتقال من الخارج إلى الداخل للمبالغة في بيان سد المسامع باعتبار الزمان كما أن إيراد الاصابع بدل الانامل للإشباع في بيان سدها باعتبار الذات كأنهم سدوها بحملتها لا بأناملها فحسب كما هو المعتاد ويجوز أن يكون هذا إيماء إلى كمال حيرتهم وفرط دهشتهم وبلوغهم إلى حيث لا يهتدون إلى استعمال الجوارح على النهج المعتاد وكذا الحال في عدم تعيين الإصبع المعتاد أعني السبابة

وقيل ذلك لرعاية الأدب والجملة استئناف لامحل لها من الاعراب مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل عند بيان أحوالهم الهائلة فماذا يصنعون في تضاعيف تلك الشدة فقيل يجعلون الخ وقوله تعالى

من الصواعق متعلق بيجعلون أي من أجل الصواعق المقارنة للرعد من قولهم سقاه من العيمة والصاعقة قصفة رعد هائل تنقض معها بثقة نار لا تمر بشيء الا اتت عليه من الصعق وهو شدة الصوت وبناؤها اما ان يكون صفة لقصفه الرعد أو للرعد والتاء للمبالغة كما في الرواية أو مصدرا كالعافية وقد تطلق على كل هائل مسموع أو مشاهد يقال صعقته الصاعقة اذا اهلكته بالإحراق أو بشدة الصوت ولاالآذان انما يفيد على التقدير الثاني دون الأول وقرئ من الصواقع وليس ذلك بقلب من الصواعق لاستواء كلا البناءين في التصرف يقال صقع الديك وخطيب مصقع أي مجهر بخطبته حذر الموت منصوب بيجعلون على العلة وان كان معرفة بالإضافة كقوله

 ... واغفر عوراء الكريم ادخاره ... واصفح عن شتم اللئيم تكرما ...

ولا ضير في تعدد المفعول له فإن الفعل يعلل بعلل شتى

وقيل هو نصب على المصدرية أي يحذرون حذرا مثل

 حذر الموت والحذر والحذار هو شدة الخوف وقرئ حذار الموت والموت زوال الحياة

وقيل عرض يضادها لقوله تعالى خلق الموت والحياة ورد بأن الخلق بمعنى التقدير والأعدام مقدرة

واللّه محيط بالكافرين أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط شبه شمول قدرته تعالى لهم وانطواء ملكوته عليهم بإحاطة المحيط بما احاط به في استحالة الفوت أو شبه الهيئة المنتزعة من شئونه تعالى معهم بالهيئة المنتزعة من احوال المحيط مع المحاط فالاستعارة المبنية على التشبيه الأول استعارة تبعية في الصفة متفرعة على ما في مصدرها من الاستعارة والمبنية على الثاني تمثيلية قد اقتصر من طرف المشبه به على ما هو العمدة في انتزاع الهيئة المشبه بها اعنى الإحاطة والباقي منوى بألفاظ متخيلة بها يحصل التركيب المعتبر في التمثيل كما مر تحريره في قوله عز و جل ختم اللّه على قلوبهم والجملة اعتراضية منبهة على ان ما صنعوا من سد الآذان بالأصابع لا يغنى عنهم شيئا فإن القدر لا يدافعه الحذر والحيل لا ترد بأس اللّه عز و جل وفائدة وضع الكافرين موضع الضمير الراجع الى اصحاب الصيب الإيذان بأن ما دهمهم من الأمور الهائلة المحكية بسبب كفرهم على منهاج قوله تعالى كمثل ريح فيها صر اصابت حرث قوم ظلموا انفسهم فأهلكته فإن الإهلاك الناشيء من السخط اشد

وقيل هذا الاعتراض من جملة احوال المشبه على ان المراد بالكافرين المنافقون قد دل به على انه لا مدافع لهم من عذاب اللّه تعالى في الدنيا والآخرة وإنما وسط بين احوال المشبه مع ان القياس تقديمه أو تأخيره لإظهار كمال العناية وفرط الاهتمام بشأن المشبه

٢٠

 يكاد البرق استئناف آخر وقع جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل فكيف حالهم مع ذلك البرق فقيل يكاد ذلك

 يخطف ابصارهم أي يختلسها ويستلها بسرعة وكاد من افعال المقاربة وضعت لمقاربه الخبر من الوجود لتآخذ اسبابه وتعاضد مباديه لكنه لم يوجد بعد لفقد شرط أو لعروض مانع ولا يكون خبرها إلامضارعا عاريا عن كلمة ان وشذ مجيئه اسما صريحا كما في قوله

 ... فأبت الى فهم وما كدت آيبا ...

وكذا مجيئه مع ان حملا لها على عسى كما في قول رؤبة

 ... قد كاد من طول البلى ان يمحصا ...

كما تحمل هي عليها بالحذف لما بينهما من المقارنة في اصل المقاربة وليس فيها شائبة الإنشائيه كما في عسى وقرئ يخطف بكسر الطاء ويختطف بفتح الياء والخاء بنقل فتحة التاء الى الخاء وادغامها في الطاء ويخطف بكسرهما على اتباع الياء والخاء ويخطف من صيغة التفعيل ويتخطف من قوله تعالى ويتخطف الناس من حولهم

كلما اضاءلهم كل ظرف وما مصدرية والزمان محذوف أي كل زمان اضاءة

وقيل ما نكرة موصوفة معناها الوقت والعائد محذوف أي كل وقت اضاء لهم فيه والعامل في كلما جوابها وهو استئناف ثالث كأنه قيل ما يفعلون في اثناء ذلك الهول ايفعلون بأبصارهم ما فعلوا بآذانهم ام لا فقيل كلما نور البرق لهم ممشى ومسلكا على ان اضاء متعد والمفعول محذوف أو كلما لمع لهم على انه لازم ويؤيد قراءة كلما اضاء

 مشوا فيه أي في ذلك المسلك أو في مطرح نوره خطوات يسيره مع خوف ان يخطف ابصارهم وايثار المشي على ما فوقه من السعي والعدو للإشعار بعدم استطاعتهم لهما

واذا اظلم عليهم أي خفى البرق واستتر والمظلم وان كان غيره لكن لما كان الإظلام دائرا على استتارة اسند اليه مجازا تحقيقا لما اريد من المبالغة في موجبات تخبطهم وقد جوز ان يكون متعديا منقولا من ظلم الليل ومنه ما جاء في قول ابي تمام

 ... هما اظلما حالى ثمت اجليا ... ظلاميهما عن وجه امرد اشيب ...

ويعضده قراءة اظلم على البناء للمفعول

 قاموا أي وقفوا في اماكنهم على ما كانوا عليه من الهيئة متحيرين مترصدين لخفقةأخرى عسى يتسنى لهم الوصول إلى المقصد أو الالتجاء إلى ملجأ يعصمهم وإيراد كلما مع الإضاءة وإذ مع الظلام للإيذان بانهم حراص على المشى مترقيون لما يصححه فكلما وجدوا فرصة انتهزوها ولا كذلك الوقوف وفيه من الدلالة على كمال التحير وتطاير اللب مالا يوصف

 ولو شاء اللّه لذهب بسمعهم وأبصارهم كلمة لو لتعليق حصول أمر ماض هو الجزاء بحصول أمر مفروض فيه هو الشرط لما بينهما ن الدوران حقيقة أو ادعاء ومن قضية مفروضية الشرط دلالتها على انتفائه قطعا والمنازع فيه مكابر

وأما دلالتها على انتفاء الجزاء فقد قيل والحق الذي لا محيد عنه أنه أن كان ما بينهما من الدوران كليا أو جزئيا قد بنى الحكم على اعتباره فهى دالة عليه بواسطة مدلولها الوضعي لا محالة ضرورة استلزام انتفاء العلة لا نتفاء المعلول أما في مادة الدوران الكلى كما في قوله عز و جل ولو شاء لهداكم أجمعين وقولك لو جئتنى لأكرمتك فظاهر لأن وجود المشيئة علة لوجود الهداية حقيقة ووجود المجئ علة لوجود الإكرام ادعاء وقد انتفيا بحكم المفروضية فانتفى معلولاهما حتما ثم أنه قد يساق الكلام لتعليل انتفاء الجزاء بانتفاءالشرط كما في المثالين المذكورين وهو الاستعمال الشائع لكلمة لو ولذلك قيل هي لامتناع الثاني لامتناع الأول وقد يساق للاستدلال بانتفاء الثاني لكونه ظاهرا أو مسلما على ابتغاء الأول لكونه خفيا أو متنازعا فيه كما في قوله سبحانه لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا وفي قوله تعالى لو كان خيرا ماسبقونا إليه فإن فسادهما لازم لتعدد الآلهة حقيقة وعدم سبق المؤمنين إلى الإيمان لازم لخيريته في زعم الكفرة ولاريب في انتفاء اللازمين انتفاء الملزومين حقيقة في الأول وادعاء باطلا في الثاني ضرورة استلزام انتفاء اللازم لانتفاء الملزوم لكن لا بطريق السببية الخارجية كما في المثالين الأولين بل بطريق الدلالة العقلية الراجعة إلى سببية العلم بانتفاء الثاني للعلم بانتفاء الأول ومن لم يتنبه له زعم أنه لانتفاء الأول لانتفاء الثاني

وأما في مادة الدوران الجزئي كما في قولك لو طلعت الشمس لوجد الضوء فلأن الجزاء المنوط بالشرط الذي هو طلوعها ليس وجود أي ضوء كان كضوء القمر المجامع لعدم الطلوع مثلا بل إنما وجود الضوء الخاص الناشئ من الطلوع ولا ريب في انتفائه بانتفاء الطلوع هذا إذا بني الحكم على اعتبار الدوران

وأما إذا بني على عدمه فإما أن يعتبر هناك تحقق مدار آخر له أولا فإن اعتبر فالدلالة تابعة لحال المدار فإن كان بينه وبين انتفاء الأول منافاة تعين الدلالة كما إذا قلت لو لم تطلع الشمس يوجد الضوء فإن وجود الوضوء وإن علق صورة بعدم الطلوع لكنه في الحقيقة بسبب آخر له ضرورة أن عدم الطلوع من حيث هو هو ليس مدارا لوجود الضوء قي الحقيقة وإنما وضع موضع المدار لكونه كاشفا عن تحقق مدار آخر له فكانه قيل لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء بسبب آخر كالقمر مثلا ولا ريب في أن هذا الجزاء منتف عند انتفاء الشرط لاستحالة وجود الضوء القمري عند طلوع الشمس وإن لم يكن بينهما منافاة تعين عدم الدلالة كما في قوله في بنت أبي سلمة لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي من الرضاعة فإن المدار المعتبر في ضمن الشرط أعنى كونها ابنة أخيه عليه السلام من الرضاعة غير مناف لانتفائه لانتفائه الذي هو كونها كونها ربيبته عليه السلام بل مجامع له ومن ضرورته مجامعه أثريهما أعنى الحرمة الناشئة من كونها ربيبته عليه السلام والحرمة الناشئة من كونها ابنة أخيه من الرضاعة وإن لم يعتبر هناك تحقق مدار آخر بل بنى الحكم على اعتبار عدمه فلا دلالة لها على ذلك أصلا كيف لا ومساق الكلام حينئذ لبيان ثبوت الجزاء على كل حال يتعليقه بما ينافيه ليعلم ثبوته عند وقوع مالا ينافيه بالطريق الأولى كما في قوله عز و جل قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي أذا لامسكتم وقوله عليه السلام لو كان الإيمان في الثريا لناله رجال من فارس وقول علي رضي اللّه عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا فإن الأجزية المذكورة قد نيطت بما ينافيها ويستدعى نقائضها إيذانا بأنها في أنفسها بحيث يجب ثبوتها مع فرض انتفاء أسبابها أو تحقق أسباب انتفائها فكيف إذا لم يكن كذلك على طريقة لو الوصلية في مثل قوله تعالى يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه نار ولها تفاصيل وتفاريع حررناها في تفسير قوله تعالى أو لو كنا كارهين وقول عمر رضي اللّه عنه نعم العبد صهيب لو لم يخف اللّه لم يعصه إن حمل على تعليق عدم العصيان في ضمن عدم الخوف بمدار آخر نحو الحياء والإجلال وغيرهما مما يجامع الخوف كان من قبيل حديث ابنه أبي سلمة وإن حمل على بيان استحالة عصيانه مبالغة كان من هذا القبيل والآية الكريمة واردة على الاستعمال الشائع مفيدة لكمال فظاعة حالهم وغاية هول ما دهمهم من المشاق وأنها قد بلغت من الشدة إلى حيث لو تعلقت مشيئة اللّه تعالى بإزالة مشاعرهم لزالت لتحقق ما يقتضية اقتضاء تاما

وقيل كلمة لو فيها لربط جزائها بشرطها مجردة عن الدلالة على انتفاء أحدهما لانتفاء الآخر بمنزلة كلمة أن ومفعول المشيئة محذوف جريا على القاعدة المستمرة فانها إذا وقعت شرطا وكان مفعولها مضمونا للجزاء فلا يكاد يذكر إلا أن يكون شيئا مستغربا كما في قوله

 ... فلو شئت أن أبكى دما لبكيته ...

عليه ولكن ساحة الصبر أوسع أي لو شاء أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لفعل ولكن لم يشأ لما يقتضيه من الحكم والمصالح وقرئ لأذهب بأسماعهم على زيادة الباء كما في قوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة والإفراد في المشهورة لأن السمع مصدر في الأصل والجملة الشرطية معطوفة على ما قبلها من الجمل الاستئنافية

وقيل على كلما أضاء الخ وقوله عز و جل

إن اللّه على كل شئ قدير تعليل للشرطية وتقرير لمضمونها الناطق بقدرته تعالى على ازالة مشاعرهم بالطريق البرهاني والشيء بحسب مفهومه اللغوي يقع على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه كائنا ما كان على أنه في الأصل مصدر شاء اطلق على المفعول واكتفى في ذلك باعتبار تعلق المشيئة به من حيث العلم والإخبار عنه فقط وقد خص ههنا بالممكن موجودا كان أو معدوما بقضية اختصاص تعلق القدرة به لما انها عبارة عن التمكن من الإيجاد والإعدام الخاصين به

وقيل هي صفة تقتضي ذلك التمكن والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل والقدير هو الفعال لكل ما يشاء كما يشاء ولذلك لم يوصف به غير الباري جل جلاله ومعنى قدرته تعالى على الممكن الموجود حال وجوده إنه إن شاء إبقاءه على الوجود أبقاه عليه فإن علة الوجود هي علة البقاء وقد مر تحقيقة في تفسير قوله تعالى رب العالمين وإن شاء إعدامه أعدمه ومعنى قدرته على المعدوم حال عدمه أنه أن شاء إيجاده أوجده وإن لم يشأ لم يوجده

وقيل قدرة الإنسان هيئة بها يتمكن من الفعل والترك وقدرة اللّه تعالى عبارة عن نفي العجز واشتقاق القدرة من القدر لأن القادر يوقع الفعل بقدر ما تقتضيه إرادته أو بقدر قوته وفيه دليل على أن مقدور العبد مقدور للّه تعالى حقيقة لأنه شئ وكل شئ مقدور له تعالى واعلم أن كل واحد من التمثيلين وإن احتمل أن يكون من قبيل التمثيل المفرق كما في قوله

... كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي ...

بأن يشبه المنافقون في التمثيل الأول بالمستوقدين وهداهم الفطري بالنار وتأييدهم أياه بما شاهدوه من الدلائل باستيقادها وتمكنهم التام من الانتفاع به بإضاءتها ما حولهم وإزالته بإذهاب النور الناري واخذ الضلالة بمقابلته بملابستهم الظلمات الكثيفة وبقائهم فيها ويشبهوا في التمثيل الثاني بالسابلة والقرآن وما فيه من العلوم والمعارف التي هي مدار الحياة الأبدية بالصيب الذي هو سبب الحياة الأرضية وما عرض لهم بنزوله من الغموم والأحزان وانكساف البال بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق وتصامهم عما يقرع أسماعهم من الوعيد بحال من يهوله الرعد والبرق فيخاف صواعقه فيسد أذنه عنها ولاخلاص له منها واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه أو رفد يحرزونه بمشيهم في مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم وتحيرهم في أمرهم حين عن لهم مصيبة بوقوفهم إذا أظلم عليهم لكن الحمل على التمثيل المركب الذي لا يعتبر فيه تشبيه كل واحد من المفردات الواقعه في أحد الجانبين بواحد من المفردات الواقعة في الجانب الآخر على وجه التفصيل بل ينتزع فيه من المفردات الواقعة في جانب المشبه هيئة فتشبه بهيئة أخرى منتزعة من المفردات الواقعة في جانب المشبة به بأن ينتزع من المنافقين وأحوالهم المفصلة في كل واحد من التمثيلين هيئة على حدة وينتزع من كل واحد من المستوقدين وأصحاب الصيب وأحوالهم المحكية هيئة بحيالها فتشبية كل واحده من الأوليين بما يضاهيها من الأخريين هو الذي يقتضيه جزالة التنزيل ويستدعيه فخامة شأنه الجليل لاشتماله على التشبيه الأول إجمالا مع أمر زائد هو تشبيه الهيئة وإيذانه بأن اجتماع تلك المفردات مستتبع لهيئة عجيبة حقيقة بأن تكون مثلا في الغرابة

٢١

يا أيها الناس أعبدوا ربكم إثر ما ذكر اللّه تعالى علو طبقة كتابه الكريم وتخزب الناس في شأنه إلى ثلاث فرق مؤمنة به محافظة على ما فيه من الشرائع والأحكام وكافرة قد نبذته وراء ظهرها بالمجاهرة والشقاق واخرى مذبذبة بينهما بالمخادعة والنفاق ونعت كل فرقة منها بما لها من النعوت والأحوال وبين مالهم من المصير والمآل أقبل عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزأ لهم إلى الإصغاء وتوجيها لقوبهم نحو التلقى وجبرا لما في العبادة من الكلفة بلذة الخطاب فأمرهم كافة بعبادته ونهاهم عن الإشراك به ويا حرف وضع لنداء البعيد وقد ينادى به القريب تنزيلا له منزلة البعيد إما إجلالا كما في قول الداعي يا اللّه ويا رب وهو أقرب إليه من حبل الوريد استقصارا لنفسه واستبعادا لها من محافل الزلفى ومنازل المقربين

وأما تنبيها على غفلته وسوء فهمه وقد يقصد به التنبيه على أن ما يعقبه أمر خطير يعتنى بشأنه وأي اسم مبهم جعل وصلة إلى نداء المعروف باللام لا على أنه المنادى أصالة بل على أنه صفة موضحة له مزيلة لإبهامه والتزام رفعه مع انتصاب موصوفه محلا إشعارا بأنه المقصود بالنداء واقحمت بينهما كلمة التنبيه تأكيدا لمعنى النداء وتعويضا عما يستحقه أي من المضاف إليه ولما ترى من استقلال هذه الطريقة بضروب من أسباب المبالغة والتأكيد كثر سلوكها في التنزيل المجيد كيف لا وكل ما ورد في تضاعيفه على العباد من الأحكام والشرائع وغير ذلك خطوب جليلة حقيقة بأن تقشعر منها الجلود وتطمئن بها القلوب الآبية ويتلقوها بآذان واعية وأكثرهم عنها غافلون فاقتضى الحال المبالغة والتأكيد في الإيقاظ والتنبيه والمراد بالناس كافة المكلفين الموجودين في ذلك العصر لما أن الجموع واسماءها المحلاة باللام للعموم بدليل صحة الاستثناء منها والتأكيد بما يفيد العموم كما في قوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون واستدلال الصحابة رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين بعمومها شائعا ذائعا

وأما من عداهم ممن سيوجد منهم فغير داخلين في خطاب المشافهة وأنما دخولهم تحت حكمة لما تواتر من دينه ضرورة أن مقتضى خطابه وأحكامه شامل للموجودين من المكلفين ولمن سيوجد منهم إلى قيام الساعة ولا يقدح في العموم ما روى عن علقمة والحسن البصري من أن كل ما نزل فيه يا ايها الناس فهو مكى إذ ليس من ضرورة نزوله بمكة شرفها اللّه تعالى اختصاص حكمة بأهلها ولا من قضية اختصاصه بهم اختصاصه بالكفار إذ لم يكن كل أهلها حئينئذ كفرة ولا ضير في تحقق العبادة في بعض المكلفين قبل ورود هذا الأمر لما أن المأمور به القدر المشترك الشامل لإنشاء العبادة والثبات عليها والزيادة فيها مع أنها متكررة حسب تكرر أسبابها ولا في انتفاء شرطها في الآخرين منهم أعنى الإيمان لأن الأمر بها منتظم للأمر بما لا تم الا به وقد علم من الدين ضرورة اشتراطها به فإن أمر المحدث بالصلاة مستتبع للأمر بالتوضى لا محالة

وقد قيل المراد بالعبادة ما يعم أفعال القلب أيضا لما أنها عبارة عن غاية التذلل والخضوع وروى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن كل ما ورد في القرآن من العبادات فمعناها التوحيد

وقيل معنى اعبدوا وحدوا وأطيعوا ولا في كون بعض من الفرقتين الأخيرتين ممن لا يجدى فيهم الإنذار بموجب النص القاطع لما أن الأمر لقطع الأعذار

ليس فيه تكليفهم بما ليس في وسعهم من الإيمان بعدم إيمانهم أصلا إذ لاقطع لأحد منهم بدخوله في حكم النص قطعا وورود النص بذلك لكونهم في أنفسهم بسوء اختيارهم كذلك لا إن كونهم كذلك لورود النص بذلك فلا جبر أصلا نعم لتخصيص الخطاب بالمشركين وجه لطيف ستقف عليه عند قوله تعالى وأنتم تعلمون وإيراده تعالى بعنوان الربوبية مع الاضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد موجب الامر بالاشعار بعليتها للعبادة

 الذي خلقكم صفة اجريت عليه سبحانه للتبجيل والتعليل اثر التعليل وقد جوز كونها للتقييد والتوضيح بناء على تخصيص الخطاب بالمشركين وحمل الرب على ما هو اعم من الرب الحقيقي والآلهة التي يسمونها اربابا والخلق ايجاد الشيء على تقدير واستواء واصله التقدير يقال خلق النعل أي قدرها وسواها بالمقياس وقرئ خلقكم بإدغام القاف في الكاف

 والذين من قبلكم عطف على الضمير المنصوب ومتمم لما قصد من التعظيم والتعليل فإن خلق اصولهم من موجبات العبادة كخلق انفسهم ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف أي كانوا من زمان قبل زمانكم

وقيل خلقهم من قبل خلقكم فحذف الخلق واقيم الضمير مكانه والمراد بهم من تقدمهم من الأمم السالفة كافة ومن ضرورة عموم الخطاب بيان شمول خلقه تعالى للكل وتخصيصه بالمشركين يؤدي إلى عدم التعرض لخلق من عاداهم من معاصريهم واخراج الجملة مخرج الصلة التي حقها أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصول عندهم أيضا مع أنهم غير معترفين بغاية الخلق وان اعترفوا بنفسه كما ينطق به قوله تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن اللّه للإيذان بأن خلقهم التقوى من الظهور بحيث لايتأتى لأحد إنكاره وقرئ وخلق من قبلكم وقرئ والذين من قبلكم بإقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته توكيدا كإقحام اللام بين المضافين في لاأبالك أو بجعله موصوفا بالظرف خبرا لمبتدأ محذوف أي الذين هم أناس كائنون من قبلكم

 لعلكم تتقون المعنى الوضعي لكلمة لعل هو إنشاء توقع أمر متردد بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول

وأما محبوب فيسمى ترجيا أو مكروه فيسمى إشفاقا وذلك المعنى قد يعتبر تحققه بالفعل أما من جهة المتكلم كما في قولك لعل اللّه يرحمني وهو الأصل الشائع في الاستعمال لأن معاني الانشاءات قائمة به

وأما من جهة المخاطب تنزيلا له منزلة المتكلم في التلبس التام بالكلام الجاري بينهما كما في قوله سبحانه فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وقد يعتبر تحققه بالقوة بضرب من التجوز إيذانا بأن ذلك الأمر في نفسه مئنة للتوقع متصف بحيثية مصححة له من غير أن يعتبر هناك توقع الفعل من توقع أصلا فإن روعيت في الآية الكريمة جهة المتكلم يستحيل إرادة ذلك المعنى لإمتناع التوقع من علام الغيوب عز و جل فيصار أما إلى الاستعارة بأن يشبه طلبه تعالى من عباده التقوى مع كونهم مئنة لها لتعاضد أسبابها برجاء الراجي من المرجو منه أمرا هين الحصول في كون متعلق كل منهما مترددا بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول فيستعار له كلمة لعل استعارة تبعية حرفية للمبالغة في الدلالة على قوة الطلب وقرب المطلوب من الوقوع

وأما إلى التمثيل بأن يلاحظ خلقه تعالى إياهم مستعدين للتقوى وطلبه إياها منه وهم متمكنون منها جامعون لأسبابها وينتزع من ذلك هيئة فتشبه بهيئة منتزعة من الراجي ورجائه من المرجو منه شيئا سهل المنال فيستعمل في الهيئة الأولى ما حقه أن يستعمل في الثانية فيكون هناك استعارة تمثيلية قد صرح من ألفاظها بما هو العمدة في انتزاع الهيئة المشبه بها أعني كلمة الترجي والباقي منوى بألفاظ متخيلة بها

يحصل التركيب المعتبر في التمثيل كما مر مرارا

وأما جعل المشبه إرادته تعالى في الاستعارة والتمثيل فأمر مؤسس على قاعدة الأعتزال القائلة بجواز تخلف المراد عن إرادته تعالى فالجملة حال إما من فاعل خلقكم طالبا منكم التقوى أو من مفعوله وما عطف عليه بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين لأنهم المأمورون بالعبادة أي خلقكم وإياهم مطلوبا منكم التقوى أو عله له فإن خلقهم على تلك الحال في معنى خلقهم لأجل التقوى كانه قيل خلقكم لتتقوا أو كي تتقوا أما بناء على تجويز تعليل افعاله تعالى باغراض راجعه إلى العباد كما ذهب إليه كثير من أهل السنة

وأما تنزيلا لترتب الغاية على ما هي ثمرة له منزلة ترتب الغرض على ما هو غرض له فإن استتباع أفعاله تعالى لغايات ومصالح متقنة جليلة من غير أن تكون هي علة غائية لها بحيث لولاها لما أقدم عليها مما لا نزاع فيه وتقييد خلقهم بما ذكر من الحال أو العلة لتكميل عليته للمأمور به وتأكيدها فإن إتيانهم بما خلقوا له أدخل في الوجوب وإيثار تتقون على تعبدون مع موافقته لقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس الا لعبدون للمبالغة في إيجاب العبادة والتشديد في الزامها لما أن التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده فإذا لزمتهم التقوى كان ما هو أدنى منها ألزم والإتيان به أهون وأن روعيت جهة المخاطب فلعل في معناها الحقيقي والجملة حال من ضمير اعبدوا كانه قيل اعبدوا ربكم راجين للانتظام في زمرة المتقين الفائزين بالهدى والفلاح على أن المراد بالتقوى مرتبتها الثالثة التي هي التبتل إلى اللّه عز و جل بالكلية والتنزه عن كل ما يشغل سره عن مراقبته وهي أقصى غايات العبادة التي يتنافس فيها المتنافسون وبالأنتظام القدر المشترك بين انشائه والثبات عليه ليرتجيه ارباب هذه المرتبه وما دونها من مترتبتي التوقي عن العذاب المخلد والتجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك كما مر في تفسير المتقين ولعل توسيط الحال من الفاعل بين وصفي المفعول لما في التقديم من فوات الاشعار بكون الوصف الأول معظم احكام الربوبيه وكونه عريقا في ايجاب العبادة وفي التاخيرمن زيادة طول الكلام هذا على تقدير اعتبار تحقق التوقع بالفعل فأما أن اعتبر تحققه بالقوة فالجملة حال من مفعول خلقكم وما عطف عليه على الطريقة المذكورة أي خلقكم وأياهم حال كونكم جميعا بحيث يرجو منكم كل راج أن تتقوا فإنه سبحانه وتعالى لما براهم مستعدين للتقوى جامعين لمباديها الآفاقية والآنفسية كان حالهم بحيث يرجو منهم كل راج أن يتقوا لا محالة وهذه الحالة مقارنة لخلقهم وأن لم يتحقق الرجاء قطعا واعلم أن الآية الكريمة مع كونها بعبارتها ناطقة بوجوب توحيده تعالى وتحتم عبادته على كافه الناس مرشدة لهم بإشارتها إلى أن مطالعة الآيات التكوينية المنصوبه في الأنفس والآفاق ومما يقضي بذلك قضاء متقنا وقد بين فيها أولا من تلك الايات ما يتعلق بأنفسهم من خلقهم وخلق أسلافهم لما أنه أقوى شهادة وأظهر دلالة ثم عقب بما يتعلق بمعاشهم فقيل

٢٢

 الذي جعل لكم الأرض فراشا وهو في محل النصب على أنه صفة ثانية لربكم موضحة أو مادحة أو على تقدير أخص أو أمدح أو في محل الرفع على المدح والتعظيم بتقدير المبتدأ قال أبن مالك التزم حذف الفعل في المنصوب على المدح اشعارا بأنه إنشاء كما في المنادى وحذف المبتدأ في المرفوع اجراء للوجهين على سنن واحد

وأما كونه مبتدأ خبره فلا تجعلوا كما قيل فيستدعى ان يكون مناط النهي ما في حيز الصلة فقط من غير ان يكون لما سلف من خلقهم وخلق من قبلهم مدخل في ذلك مع كونه اعظم شأنا وجعل بمعنى صير والمنصوبان بعده مفعولاه

وقيل هو بمعنى خلق وانتصاب الثاني على الحالية والظرف متعلق به على التقديرين وتقديمه على المفعول الصريح لتعجيل المسرة ببيان كون ما يعقبه من منافع المخاطبين وللتشويق اليه لان النفس عند تأخير ما حقه التقديم لا سيما بعد الإشعار بمنفعته مترقبة له فيتمكن لديها عند وروده عليها فضل تمكن أو لما في المؤخر وما عطف عليه من نوع طول فلو قدم لفات تجاوب اطراف النظم الكريم ومعنى جعلها فراشا جعل بعضها بارزا من الماء مع اقتضاء طبعها الرسوب وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين صالحة للقعود عليها والنوم فيها كالبساط المفروش وليس من ضرورة ذلك كونها سطحا حقيقيا فإن كرية شكلها مع عظم جرمها مصححة لافتراشها وقرئ بساطا ومهادا

والسماء بناء عطف على المفعولين السابقين وتقديم حال الارض لما ان احتياجهم اليها وانتفاعهم بها اكثر واظهر أي جعلها قبة مضروبة عليكم والسماء اسم جنس يطلق على الواحد والمتعدد أو جمع سماوة أو سماءة والبناء في الاصل مصدرسمى به المبنى بيتا كان أو قبة أو خباء ومنه قولهم بنى على امراته لما انهم كانوا إذا تزوجوا امراة ضربوا عليها خباء جديدا

 وأنزل من السماء ماء عطف على جعل أي انزل من جهتها أو منها الى السحاب ومن السحاب الى الارض كما روى ذلك عنه عليه الصلاة و السلام أو المراد بالسماء جهة العلو كما بنبئ عنه الإظهار في موضع الإضمار وهو على الأولين لزيادة التقرير ومن لإبتداء الغاية متعلقة بأنزل أو بمحذوف وقع حالا من المفعول أي كائنا من السماء قدم عليه لكونه نكرة

وأما تقديم الظرف على الوجه الأول مع ان حقه التأخير عن المفعول الصريح فإما لان السماء اصله ومبدؤه

وأما لما مر من التشويق اليه مع ما فيه من مزيد انتظام بينه وبين قوله تعالى

فأخرج به أي بسبب الماء

 من الثمرات رزقالكم وذلك بأن اودع في الماء قوة فاعلة وفي الارض قوة منفعلة فتولد من تفاعلهما اصناف الثمار أو بأن اجرى عادته بإفاضة صور الثمار وكيفيتها المتخالفة على المادة الممتزجة منها وان كان المؤثر في الحقيقة قدرته تعالى ومشيئته فإنه تعالى قادر على ان يوجد جميع الاشياء بلا مباد ومواد كما ابدع نفوس المبادي والاسباب لكن له عز و جل في إنشائها متقلبة في الاحوال ومتبدلة في الاطوار من بدائع حكم باهرة تجدد لاولى الابصار عبرا ومزيد طمأنينه الى عظيم قدرته ولطيف حكمته ما ليس في ابداعها بغتة ومن للتبعيض لقوله تعالى فأخرجنا به ثمرات ولوقوعها بين منكرين اعني ماء ورزقا كأنه قيل وانزل من السماء بعض الماء فأخرج به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم وهكذا الواقع اذ لم ينزل من السماء كل الماء ولا اخرج من الارض كل الثمرات ولا جعل كل المرزوق ثمارا أو للتبيين ورزقا مفعول بمعنى المرزوق ومن الثمرات بيان له أو حال منه كقولك انفقت من الدراهم الفا ويجوز ان يكون من الثمرات مفعولا ورزقا حالا منه أو مصدرا من أخرج لانه بمعنى رزق وانما شاع ورود الثمرات دون الثمار مع ان الموضع موضع كثرة لأنه اريد بالثمرات جماعة الثمرة في قولك ادركت ثمرة بستانه ويؤيده القراءة على التوحيد أو لأن الجموع يقع بعضها موقع بعض كقوله تعالى كم تركوا من جنات وعيون وقوله تعالى ثلاثة قروء أو لأنها محلاة باللام خارجه عن حد القلة واللام متعلقة بمحذوف وقع صفة لرزقا على تقدير كونه المرزوق أي رزقا كائنا لكم أو دعامة لتقوية عمل رزقا على تقدير كونه مصدرا كأنه قيل رزقا اياكم

فلا تجعلوا للّه اندادا اما متعلق بالامر السابق مترتب عليه كأنه قيل اذا امرتم بعبادة من هذا شأنه من التفرد بهذه النعوت الجليلة والأفعال الجميلة فلا تجعلوا له شريكا وإنما قيل اندادا باعتبار الواقع لا لان مدار النهي هو الجمعية وقرئ ندا وايقاع الاسم الجليل موقع الضمير لتعيين المعبود بالذات اثر تعيينه بالصفات وتعليل الحكم بوصف الألوهية التي عليها يدور امر الوحدانية واستحالة الشركة والإيذان باستتباعها لسائر الصفات

وأما معطوف عليه كما في قوله تعالى اعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئا والفاء للإشعار بعلية ما قبلها من الصفات المجراة عليه تعالى للنهى أو الانتهاء أو لأن مآل النهى هو الأمر بتخصيص العبادة به تعالى المترتب على اصلها كأنه قيل اعبدوه فخصوها به والإظهار في موضع الإضمار لما مر آنفا

وقيل هو نفى منصوب بإضمار ان جوابا للأمر ويأباه ان ذلك فيما يكون الأول سببا للثاني ولا ريب في ان العبادة لا تكون سببا للتوحيد الذي هو اصلها ومبناها

وقيل هو منصوب بلعل نصب فأطلع في قوله تعالى لَعَلِّى ابلغ الاسباب اسباب السموات فاطلع الى اله موسى أي خلقكم لتتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه وحيث كان مدار هذا النصب تشبيه لعل في بعد المرجو بليت كان فيه تنبيه على تقصيرهم بجعلهم المرجو القريب بمنزلة المتمنى البعيد

وقيل هو متعلق بقوله تعالى الذي جعل الخ على تقدير رفعة على المدح أي هو الذي حفكم بهذه الآيات العظام والدلائل النيرة فلا تتخذوا له شركاء وفيه ما مر من لزوم كون خلقهم وخلق اسلافهم بمعزل من مناطية النهى مع عراقتهما فيها

وقيل هو خبر للموصول بتأويل مقول في حقه وقد عرفت ما فيه مع لزوم المصير الى مذهب الاخفش في تنزيل الاسم الظاهر منزلة الضمير كما في قولك زيد قام ابو عبد اللّه اذا كان ذلك كنيته والند المثل المساوى من ند ندودا اذا نفر وناددته خالفته خص بالمخالف المماثل بالذات كما خص المساوى بالمماثل في المقدار وتسمية ما يعبده المشركون من دون اللّه اندادا والحال انهم ما زعموا انها تماثله تعالى في صفاته ولا انها تخالفه في افعاله لما انهم لما تركوا عبادته تعالى الى عبادتها وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد انها ذوات واجبة بالذات قادرة على ان تدفع عنهم بأس اللّه عز و جل وتمنحهم ما لم يرد اللّه تعالى بهم من خير فتهكم بهم وشنع عليهم ان جعلوا اندادا لمن يستحيل ان يكون له ند واحد وفي ذلك قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل

 ... اربا واحدا ام الف رب ... ادين اذا تقسمت الامور

 ... تركت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الرجل البصير ...

وقوله تعالى وانتم تعلمون حال من ضمير لا تجعلوا بصرف التقييد الى ما افاده النهى من قبح المنهى عنه ووجوب الاجتناب عنه ومفعول تعلمون مطروح بالكلية كأنه قيل لا تجعلوا ذلك فإنه قبيح واجب الاجتناب عنه والحال انكم من اهل العلم بدقائق الامور واصابة الراى أو مقدر حسبما يقتضيه المقام نحو وانتم تعلمون بطلان ذلك أو تعلمون انه لا يماثله شئ أو تعلمون ما بينه وبينها من التفاوت أو علمون انها لا تفعل مثل افعاله كما في قوله تعالى هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شئ أو غير ذلك وحاصله تنشيط المخاطبين وحثهم على الانتهاء عما نهوا عنه هذا الذي يستدعيه عموم الخطاب في النهي بجعل المنهى عنه القدر المشترك المنتظم لإنشاء الانتهاء كما هو المطلوب من الكفرة وللثبات عليه كما هو شأن المؤمنين حسبما مر مثله في الامر

وأما صرف التقييد الى نفس النهى فيستدعى تخصيص الخطاب بالكفرة لا محالة اذ لا يتسنى ذلك بطريق قصر النهى على حالة العلم ضرورة شمول التكليف للعالم والجاهل المتمكن من العلم بل انما يتأتى بطريق المبالغة في التوبيخ والتقريع بناء على ان تعاطى القبائح من العالمين بقبحها اقبح وذلك انما يتصور في حق الكفرة فمن صرف التقييد الى نفس النهى مع تعميم الخطاب للمؤمنين ايضا فقد ناى عن التحقيق ان قلت اليس في تخصيصه بالكفرة في الامر والنهى خلاص من امثال ما مر من التكلفات وحسن انتظام بين السباق والسياق اذ لا محيد في آية التحدى من تجريد الخطاب وتخصيصه بالكفرة لا محالة مع ما فيه من رباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن جبر الانتظام في سلك الكفرة والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة حسبما مر في صدر السورة الكريمة مستغنون في ذلك عن الامر والنهى قلت بلى إنه وجه سرى ونهج سوى لا يضل من ذهب اليه ولا يزل من ثبت قدمه عليه فتأمل

٢٣

 وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا شروع في تحقيق أن الكتاب الكريم الذي من جملته ما تلى من الآيتين الكريمتين الناطقتين بوجوب العبادة والتوحيد منزل من عند اللّه عز و جل على رسوله كما ان ما ذكر فيهما من الآيات التكوينية الدالة على ذلك صادرة عنه تعالى لتوضيح اتصافه بما ذكر في مطلع السورة الشريفة من النعوت الجليلة التي من جملتها نزاهته عن أن يعتريه ريب ما والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب مع انهم جازمون بكونه من كلام البشر كما يعرب عنه قوله تعالى ان كنتم صادقين إما للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم وإن كانوا في غاية ما يكون من المكابرة والعناد هو الارتياب في شأنه

وأما الجزم المذكور فخارج من دائرة الاحتمال كما أن تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقه أن يكون ضعيفا مشكوك الوقوع

وأما للتنبيه على أن جزمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الأعجاز ونهاية قوتها وإنما لم يقل وإن ارتبتم فما نزلنا الخ لما اشير اليه فيما سلف من المبالغة في تنزيه ساحة التنزيل عن شائبه وقوع الريب فيه حسبما نطق به قوله تعالى لا ريب فيه والإشعار بأن ذلك ان وقع فمن جهتهم لا من جهته العالية واعتبار استقرارهم فيه وإحاطته بهم لا ينافى اعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته ومن في مما ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع صفة لريب وحملها على السببية ربما يوهم كونه محلا للريب في الجملة وحاشاه ذلك وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن الكتاب الكريم لا عن القدر المشترك بينه وبين ابعاضه ليس معنى كونهم في ريب منه ارتيابهم في استقامة معانيه وصحة احكامه بل في نفس كونه وحيا منزلا من عند اللّه عز و جل وإيثار التنزيل المنبئ عن التدريج على مطلق الإنزال لتذكير منشأ ارتيابهم وبناء التحدى عليه إرخاء للعنان وتوسيعا للميدان فإنهم كانوا اتخذوا نزوله منجما وسيلة الى انكاره فجعل ذلك من مبادى الاعتراف به كأنه قيل إن ارتبتم في شأن ما نزلناه على مهل وتدريج فهاتوا انتم مثل نوبة فذة من نوبه ونجم فرد من نجومه فإنه ايسر عليكم من أن ينزل جملة واحدة ويتحدى بالكل وهذا كما ترى غاية ما يكون في التبكيت وإزاحة العلل وفي ذكره بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف والتنوية والتنبيه على اختصاصه به عز و جل وانقيادة لأوامره تعالى مالا يخفى وقرئ على عبادنا والمراد هو وأمته أو جميع الأنبياء عليهم السلام ففيه إيذان بان الارتياب فيه ارتياب فيما أنزل من قبله لكونه مصدقا له ومهيمنا عليه والأمر في قوله تعالى

 فأتوا بسورة من باب التعجيز وإلقام الحجر كما في قوله تعالى فإت بها من المغرب والفاء للجواب وسببيه الارتياب للأمر أو الإتيان بالمأمور به لما أشير إليه من أنه عبارة عن جزمهم المذكور فإنه سبب للأول مطلقا وللثاني على تقدير الصدق كأنه قيل إن كان الأمر كما زعمتم من كونه كلام البشر فأتوا بمثله لأنكم تقدرون على ما عليه سائر بني نوعكم والسورة الطائفة من القرآن العظيم المترجمة وأقلها ثلاث آيات وواوها أصلية منقولة من سور البلد لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة محوزة على حيالها أو محتوية على فنون رائقة من العلوم احتواء سور المدينة على مافيها أو من السورة التي هي الرتبة قال

 ... ولرهط حراب وقذ سورة ... في المجد ليس غرابها بمطار ...

فإن سور القرآن مع كونها في أنفسها رتبا من حيث الفضل والشرف أو من حيث الطول والقصر فهى من حيث أنتظامها مع أخواتها في المصحف مراتب برتقى إليها القارئ شيئا فشيئا

وقيل واوها مبدلة من الهمزة فمعناها البقية من الشئ ولا يخفى ما فيه ومن في قوله

من مثله بيانيه متعلقة بمحذوف وقع صفة لسورة والضمير لما نزلنا أي بسورة كائنة من مثله في علو الرتبة وسمو الطبقة والنظم الرائق والبيان البديع وحيازة سائر نعوت الإعجاز وجعلها تبعيضية يوهم أن له مثلا محققا قد أريد تعجيزهم عن الإتيان ببعضه كأنه قيل فأتوا ببعض ما هو مثل له يفهم منه كون المماثلة من تتمة المعجوز عنه فضلا عن كونها مدارا للعجز مع أنه المراد وبناء الأمر على المجاراة معهم بحسب حسبانهم حيث كانوا يقولون لو نشاء لقلنا مثل هذا أو على التهكم بهم يأباه ما سبق من تنزيله منزلة الريب فإن مبنى التهكم على تسليم ذلك منهم وتسويفه ولو بغير جد

وقيل هي زائدة على ما هو رأي الأخفش بدليل قوله تعالى فأتوا بسورة مثله . بعشر سور مثله

وقيل هي ابتدائية فالضمير حينئذ للمنزل عليه حتما لما أن رجوعه إلى المنزل يوهم أن له مثلا محققا قد ورد الأمر التعجيزي بالإتيان بشئ منه وقد عرفت ما فيه بخلاف رجوعه إلى المنزل عليه فإن تحقق مثله عليه السلام في البشرية والعربية والأمية يهون الخطب في الجملة خلا أن تخصيص التحدى يفرد يشاركه عليه السلام فيما ذكر من الصفات المنافية للإيتان بالمأمور به لا يدل على عجز من ليس كذلك من علمائهم بل ربما يوهم قدرتهم على ذلك في الجملة فرادى أو مجتمعين مع انه يستدعي عراء المنزل عما فصل من النعوت الموجبة لاستحالة وجود مثله فأين هذا من تحدى أمة جمة وأمرهم بأن يحتشدوا في حلبة المعارضة بخيلهم ورجلهم حسبما ينطق به

 قوله تعالى وادعوا شهداءكم من دون اللّه ويتعاونوا على الإتيان بقدر يسسير مماثل في صفات الكمال لما أتى بجملته واحد من أبناء جنسهم والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة أو الناصر ومعنى دون أدنى مكان من شيء يقال هذا دون ذاك إذا كان أحط منه قليلا ثم استعير للتفاوت في الأحوال والرتب فقيل زيد دون عمرو أي في الفضل والرتبه ثم اتسع فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد وتخطى حكم إلى حكم من غير ملاحظة انحطاط أحدهما عن الآخر فجرى مجرى أداة الاستثناء وكلمة من إما متعلقة بادعوا فتكون لابتداء الغاية والظرف مستقر والمعنى ادعوا متجاوزين اللّه تعالى للاستظهار من حضركم كائنا من كان أو الحاضرين في مشاهدكم ومحاضركم من رؤسائكم وأشرافكم الذين تفزعون إليهم في الملمات وتعولون عليهم في المهمات أو القائمين بشهاداتكم الجارية فيما بينكم من إمنائكم المتولين لاستخلاص الحقوق بتنفيذ القول عند الولاة أو القائمين بنصرتكم حقيقة أو زعما من الإنس والجن ليعينوكم وإخراجه سبحانه وتعالى من حكم الدعاء في الأول مع اندراجه في الحضور لتأكيد تناوله لجميع ما عداه لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه

وأما في سائر الوجوه فللتصريح من أول الأمر ببراءتهم منه تعالى وكونهم في عدوة المحادة والمشاقة له قاصرين استظهارهم على ما سواه والاتفات لإدخال الروعة وتربية المهابة

وقيل المعنى ادعوا من دون أولياء اللّه شهداءكم الذين هم وجوه الناس وفرسان المقالة والمناقلة ليشهدوا لكم أن ما اتيتم به مثله إيذانا يأنهم يأبون أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحة ما هو بين الفساد وجلي الاستحالة وفيه أنه يؤذن بعدم شمول التحدي لأولئك الرؤساء

وقيل المعنى ادعوا شهداءكم فصححوا بهم دعواكم ولا تستشهدوا باللّه تعالى قائلين اللّه يشهد أن ما ندعيه حق فإن ذلك ديدن المحجوج وفيه أنه إن أريد بما يدعون حقية ما هم عليه من الدين الباطل فلا مساس له بمقام التحدي وإن أريد مثلية ما أتوا به للمتحدى به فمع عدم ملاءمته لابتداء التحدي يوهم أنهم قد تصدوا للمعارضة وأتوا بشيء مشتبه الحال متردد بين المثلية وعدمها وأنهم ادعواها مستشهدين في ذلك باللّه سبحانه وتعالى إذ عند ذلك تمس الحاجة ألى الأمر بالاستشهاد بالناس والنهي عن الأستشهاد به تعالى وأنى لهم ذلك وما نبض لهم عرق ولا نبسوا ببنت شفة

وأما متعلقة بشهداءكم والمراد بهم الأصنام ودون بمعنى التجاوز على أنها ظرف مستقر وقع حالا من ضمير المخاطبين والعامل ما دل عليه شهداءكم أي أدعوا اصنامكم الذين أتخذتوهم آلهة متجاوزين اللّه تعالى في أتخاذها كذلك وكلمة من ابتدائيته فان الأتخاذ ابتداء من التجاوز والتعبير عن الاصنام بالشهداء لتعيين مدار الاستظهار بها بتذكير ما زعموا من انها بمكان من اللّه تعالى وانها تنفعهم بشهادتها لهم أنهم على الحق فأن ما هذا شانه يجب أن يكون ملاذا لهم في كل أمر مهم وملجأ يأوون إليه في كل خطب ملم كأنه قيل أولئك عدتكم فادعوهم لهذه الداهية التي دهمتكم فوجه الالتفات الايذان بكمال سخافة عقولهم حيث اثروا على عبادة من له الألوهية الجامعة لجميع صفات الكمال ما لا احقر منه

وقيل لفظه دون مستعار من معناها الوضعي الذي هو ادنى مكان من شيء لقدامه كما في قول الاعشى

 ... تريك القذى من دونها وهي دونه ...

أي تريك القذى قدامها وهي قدام القذى فتكون ظرفا لغوا معمولا لشهدائكم لكفاية رائحة الفعل فيه من غير حاجة إلى اعتماد ولا إلى تقدير يشهدون أي أدعوا شهداءكم الذين يشهدون لكم بين يدى اللّه تعالى ليعينوكم في المعارضة وإيرادها بهذا العنوان لما مر من الإشعار بمناط الاستعانة بها ووجه الالتفات تربية المهابة وترشيح ذلك المعنى فإن ما يقوم بهذا الأمر في ذلك المقام الخطير حقه أن يستعان له في كل مرام وفي أمرهم على الوجهين بإن يستظهروا في معارضة القرآن الذي أخرس كل منطيق بالجماد من التهكم بهم مالا يوصف وكلمة من ههنا تبعيضية لما أنهم يقولون جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما طرفان للفعل ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل إنما يقع في بعض تينك الجهتين كما تقول جئته من الليل تريد بعض الليل وقد يقال كلمة من الداخلة على دون في جميع المواقع بمعنى في كما في سائر الظروف التي لا تتصرف وتكون منصوبة على الظرفية أبدا ولا تنجر إلا بمن خاصة

وقيل المراد بالشهداء مداره لقوم ووجوه المحافل والمحاضر ودون ظرف مستقر ومن ابتدائية أي ادعوا الذين يشهدون لكم أن ما أتيتم به مثله متجاوزين في ذلك أولياء اللّه ومحصلة شهداء مغايرين لهم إيذانا بأنهم أيضا لا يشهدون بذلك وإنما قدر المضاف إلى اللّه تعالى رعاية للمقابلة فإن أولياء اللّه تعالى يقابلون أولياء الأصنام كما أن ذكر اللّه تعالى يقابل ذكر الأصنام بهذا الأمر إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت كأنه قيل تركنا إلزامكم بشهداء لا ميل لهم إلى أحد الجانبين كما هو المعتاد واكتفينا بشهدائكم المعروفين بالذب عنكم فإنهم أيضا لا يشهدون لكم حذرا من اللائمة وأنفة من الشهداة البينة البطلان كيف لا وأمر الإعجاز قد بلغ من الظهور إلى حيث لم يبق إلى إنكاره سبيل قطعا وفيه ما مر من عدم الملاءمة لابتداء التحدى وعدم تناوله لأولئك الشهداء وإبهام أنهم تعرضوا لمعارضة وأتوا بشىء احتاجوا في إثبات مثليته للمتحدى به إلى الشهادة وشتان بينهم وبين ذلك

إن كنتم صادقين أي في زعمكم أنه من كلامه عليه السلام وهو شرط حذف جوابه لدلالة ما سبق عليه أي إن كنتم صادقين فأتوا بسورة من مثله الخ واستلزام المقدم للتالي من حيث أن صدقهم في ذلك الزعم يستدعى قدرتهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتهم له عليه السلام في البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والأشعار وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام لاسيما عند المظاهرة والتعاون ولا ريب في أن القدرة على الشئ من موجبات الإتيان به ودواعى الأمر به

٢٤

فإن لم تفعلوا أي ما أمرتم به من الإتيان بالمثل بعد ما بذلتم في السعى غاية المجهود وجاوزتم في الحد كل حد معهود متشبثين بالذيول راكبين متن كل صعب وذلول وإنما لم يصرح به إيذانا بعدم الحاجة إليه بناء على كمال ظهور تهالكهم على ذلك وإنما أورد في حيز الشرط مطلق لفعل وجعل مصدر الفعل المأمور به مفعولا له للإيجاز البديع المغنى عن التطويل والتكرير مع سر سري استقل به المقام وهو الإيذان بالمقصود بالتكليف هو أيقاع نفس الفعل المأمور به لإظهار عجزهم عنه لا لتحصيل المفعول أي المأتى به ضرورة استحالته وأن مناط الجواب في الشرطية اعنى الأمر باتقاء النار هو عجزهم عن أيقاعه لا فوت حصول المفعول فإن مدلول لفظ الفعل هو انفس الأفعال الخاصة لازمة كانت أو متعدية من غير اعتبار تعلقاتها بمفعولاتها الخاصة فإذا علق بفعل خاص متعد فإنما يقصد به أيقاع نفس الفعل وإخراجه من القوة إلى الفعل

وأما تعلقه بمفعوله المخصوص فهو خارج عن مدلول الفعل المطلق وإنما يستفاد ذلك من الفعل الخاص ولذلك تراهم يتوسلون بذلك إلى تجريد الأفعال المتعدية عن مفعولاتها وتنزيلها منزلة الأفعال اللازمة فيقولون مثلا معنى فلان يعطى ويمنع يفعل الإعطاء والمنع يرشدك إلى هذا قوله تعالى فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون بعد قوله تعالى ائتوني بأخ لكم من أبيكم فإنه لما كان مقصود يوسف عليه السلام بالأمر ومرمى غرضه بالتكليف منه استحضار بنيامين لم يكتف في الشرطية الداعية لهم إلى الجد في الامتثال والسعى في تحقيق المأمور به بالاشارة الاجمالية إلى الفعل الذي ورد به الامر بأن يقول فإن لم تفعلوا بل أعاده بعينه متعلقا بمفعوله تحقيقا لمطلبه وإعرابا عن مقصده هذا

وقد قيل أطلق الفعل وأريد به الإتيان مع ما يتعلق به أما على طريقة التعبير عن الاسماء الظاهرة بالضمائر الراجعة إليها حذرا من التكرار أو على طريقة ذكر اللازم وإرادة الملزوم لما بينهما من التلازم المصحح للإنتقال بمعونة قرائن الحال فتدبروا إيثار كلمة إن المفيدة للشك على إذا مع تحقق الجزم بعدم فعلهم مجاراة معهم بحسب حسبانهم قبل التجربة أو التهكم بهم

ولن تفعلوا كلمة لن لنفي المستقبل كلا خلا إن في لن زيادة تأكيد وتشديد وأصلها عند الخليل لاإن وعند الفراء لا أبدلت ألفها نونا وعند سيبويه حرف مقتضب للمعنى المذكور وهي إحدى الروايتين عن الخليل والجملة إعتراض بين جزأى الشرطية مقرر لمضمون مقدمها ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها وهذه معجزة باهرة حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به عز و جل وقد وقع الأمر كذلك كيف لا ولو عارضوه بشيء يدانيه في الجملة لتناقله الرواة خلفا عن سلف

فاتقوا النار جواب للشرط على إن اتقاء النار كناية عن الاعتراز من العناد إذ بذلك يتحقق تسببه عنه وترتبه عليه كأنه قيل فإذا عجزتم عن الاتيان بمثله كما هو المقرر فاحترزوا من انكار كونه منزلا من عند اللّه سبحانه فإنه مستوجب للعقاب بالنار لكن أوثر عليه الكناية المذكورة المبنية على تصوير العناد بصورة النار وجعل الاتصاف به عين الملابسة بها للمبالغة في تهويل شأنه وتفظيع أمره وإظهار كمال العناية بتحذير المخاطبين منه وتنفيرهم عنه وحثهم على الجد في تحقيق المكنى عنه وفيه من الإيجاز البديع مالا يخفى حيث كان الاصل فإن لم تفعلوا فقد صح صدقه عندكم وإذا صح ذلك كان لزومكم العناد وترككم الايمان به سببا لاستحقاكم العقاب بالنار فاحتزروا منه واتقوا النار

التي وقودها الناس والحجارة صفة للنار مورثة لها زيادة هول وفظاعة أعاذنا اللّه من ذلك والوقود ما يوقد به النار وترفع من الحطب وقرئ بضم الواو وهو مصدر سمى به المفعول مبالغة كما يقال فلان فخر قومه وزين بلده والمعنى أنها من الشدة بحيث لاتمس شيئا من رطب أو يابس إلا أحرقته لا كنيران الدنيا تفتقرفي الالتهاب إلى وقود من حطب أو حشيش وإنما جعل هذا الوصف صلة للموصول مقتضيه لكون انتسابها إلى ما نسبت هي إليه معلوم للمخاطب بناء على أنهم سموه من أهل الكتاب قبل ذلك أو من الرسول أو سمعوا قبل هذه الآية المدنية قوله تعالى نارا وقودها الناس والحجارة فأشير ههنا إلى ما سمعوه أولا وكون سورة التحريم مدنية لا يستلزم كون جميع آياتها كذلك كما هو المشهور

وأما إن الصفة أيضا يجب أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف عند المخاطب فالخطب فيه هين لما أن المخاطب هناك المؤمنون وظاهر إنهم سمعوا ذلك من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم والمراد بالحجارة الاصنام وبالناس أنفسهم حسبما ورد في قوله تعالى إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم الآية

أعدت للكافرين أي هيئت للذين كفروا بما نزلناه وجعلت عدة لعذابهم والمراد اما جنس الكفار والمخاطبون داخلون فيهم دخولا أوليا

وأما هم خاصة ووضع الكافرين موضع ضميرهم لذمهم وتعليل الحكم بكفرهم وقرئ اعتدت من العتاد بمعنى العدة وفيه دلالة على أن النار مخلوقة موجودة الآن والجملة استئناف لامحل لها من الاعراب مقررة لمضمون ما قبلها ومؤكدة لإيجاب العمل به ومبينة لمن أريد بالناس دافعة لإحتمال العموم

وقيل حال بإضمار قد من النار لا من ضميرها في وقودها لما في ذلك من الفصل بينهما بالخبر

وقيل صلة بعد صلة أو عطف على الصلة بترك العاطف

٢٥

وبشر الذين آمنوا أي بأنه منزل من عند اللّه عز و جل وهو معطوف على الجملة السابقة لكن لا على أن المقصود عطف نفس الأمر حتى يطلب له مشاكل يصح عطفه عليه بل على أنه عطف قصة المؤمنين بالقرآن ووصف ثوابهم على قصة الكافرين به وكيفية عقابهم جريا على السنة الإلهية من شفع الترغيب بالترهيب والوعد بالوعيد وكان تغيير السبك لتخييل كمال التباين بين حال الفريقين وقرئ وبشر على صيغة الفعل مبنيا للمفعول عطفا على أعدت فيكون استئنافا وتعليق التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الايمان والعمل الصالح لكن لا لذاتهما فإنها لا يكافئان النعم السابقة فضلا من أن يقتضيا ثوابا فيما يستقبل بل بجعل الشارع ومقتضى وعده وجعل صلته فعلا مفيدا للحدوث بعد إيراد الكفار بصيغة الفاعل لحث المخاطبين بالإتقاء على أحداث الإيمان وتحذيرهم من الاستمرار على الكفر والخطاب للنبي

وقيل لكل من يتأتى منه التبشير كما في قوله عليه السلام بشر المشائين إلى المساجد في ظلم الليالي بالنور التام يوم القيامة فإنه عليه السلام لم يأمر بذلك واحدا بعينه بل كل أحد ممن يتأتى منه ذلك وفيه رمز إلى أن الأمر لعظمه وفخامة شأنه حقيق بأن يتولى التبشير به كل من يقدر عليه والبشارة الخبر السار الذي يظهر به أثر السرور في البشرة وتباشير الصبح أوائل ضوئه

وعملوا الصالحات الصالحة كالحسنة في الجريان مجرى الاسم وهي كل ما استقام من الاعمال بدليل العقل والنقل واللام للجنس والجمع لإفادة ان المراد بها جملة من الأعمال الصالحة التي أشير إلى أمهاتها في مطلع السورة الكريمة وطائفة منها متفاوتة حسب تفاوت حال المكلفين في مواجب التكليف وفي عطف العمل على الإيمان دلالة على تغايرهما وإشعار بأن مدار استحقاق البشارة مجموع الأمرين فإن الإيمان أساس والعمل الصالح كالبناء عليه ولا غناء بأساس لا بناء به

إن لهم جنات منصوب بنزع الخافض وإفضاء الفعل إليه أو مجرور بإضماره مثل اللّه لأفعلن والجنة هي المرة من مصدر جنة إذا ستره تطلق على النخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه قال زهير

 ... كأن عيني في غربى مقتله ... من النواضح تسقى جنة سحقا ...

أي نخلا طوالا كأنها لفرط تكاثفها والتفافها وتغطيتها لما تحتها بالمرة نفس السترة وعلى الأرض ذات الشجر قال الفراء الجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم فحق المصدر حينئذ أن يكون مأخوذا من الفعل المبني للمفعول وإنما سميت دار الثواب بها مع أن فيها مالا يوصف من الغرفات والقصور لما أنها مناط نعيمها ومعظم ملاذها وجمعها مع التنكير لأنها سبع على ما ذكره ابن عباس رضي اللّه عنهما جنة الفردوس وجنة عدن وجنة النعيم ودار الخلد وجنة المأوى ودار السلام وعليون وفي كل واحد منها مراتب ودرجات متفاوته بحسب تفاوت الأعمال وأصحابها

تجرى من تحتها الأنهار في حيز النصب على انه صفة جنات فإن أريد بها الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فلا بد من تقدير مضاف أي من تحت أشجارها وإن أريد بها مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق اسم الجنة على الكل عن مسروق إن أنهار الجنة تجرى في غير أخدود واللام في الأنهار للجنس كما في قولك لفلان بستان فيه الماء الجاري والتين والعنب أو عوض عن المضاف إليه كما في قوله تعالى واشتعل الرأس شيبا أو للعهد والإشارة إلى ما ذكر في قوله عز وعلا أنهار من ماء غير آسن الآية والنهر بفتح الهاء وسكونها المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر كالنيل والفرات والتركيب للسعه والمراد بها ماؤها على الإضمار أو على المجاز اللغوي أو المجاري أنفسها وقد اسند إليها الجريان مجازا عقليا كما في سال الميزاب

كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل صفة أخرى لجنات أخرت عن الأولى لأن جريان الأنهار من تحتها وصف لها باعتبار ذاتها وهذا وصف لها باعتبارأهلها المتنعمين بها أو خبر مبتدأ محذوف أو جملة مستأنفة كأنه حين وصفت الجنات بما ذكر من الصفة وقع في ذهن السامع أثمارها كثمار جنات الدنيا أولا فبين حالها وكلما نصب على الظرفية ورزقا مفعول به ومن الأولى والثانية للإبتداء واقعتان موقع الحال كإنه قيل كل وقت رزقوا مرزوقا مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة على ان الرزق مقيد بكونه مبتدأ من الجنات وأبتداؤه منها مقيد بكونه مبتدأ من ثمرة فصاحب الحال الأولى رزقا وصاحب الثانية ضميره المستكن في الحال ويجوز كون من ثمرة بيانا قدم على المبين كما في قولك رأيت منك أسدا وهذا إشارة إلى ما رزقوا وإن وقعت على فرد معين منه كقولك مشيرا إلى نهر جار هذا الماء لا ينقطع فإنك إن أشرت إلى ما تعاينه بحسب الظاهر لكنك أنما تعني بذلك النوع المعلوم المستمر فالمعنى هذا مثل الذي رزقناه من قبل أي من قبل هذا في الدنيا ولكن لما استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته وإنما جعل ثمر الجنة كثمار الدنيا لتميل النفس إليه حين تراه فإن الطباع مائلة إلى المألوف متنفره عن غير معروف وليتبين لها مزيته وكنه النعمه فيه إذ لو كان جنسا غير معهود لظن أنه لا يكون إلا كذلك أو مثل الذي رزقناه من قبل في الجنة لأن طعامها متشابه الصور كما يحكى عن الحسن رضي اللّه عنه إن أحدهم يؤتى الصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك فيقول الملك كل فاللون واحد والطعم مختلف أو كما روى أنه قال والذي نفسي بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدل اللّه تعالى مكانها مثلها والأول أنسب لمحافظة عموم كلما فإنه يدل على ترديدهم هذه المقالة كل مرة رزقوا لافيما عدا المرة الأولى يظهرون التبجح وفرط الاستغراب لما بينهما من التفاوت العظيم من حيث اللذة مع اتحادهما في الشكل واللون كأنهم قالوا هذا عين مارزقناه في الدنيا فمن أين له هذه الرتبة من اللذةوالطيب ولا يقدح فيه ما روى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما من أنه ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الاسم فإن ذلك لبيان كمال التفاوت بينهما من حيث اللذة والحسن لا لبيان ان لا تشابه بينهما أصلا كيف لا وإطلاق الأسماء منوط بالاتحاد النوعى قطعا هذا وقد فسرت الآية الكريمة بأن مستلذات أهل الجنة بمقابلة مارزقوه في الدنيا من المعارف والطاعات متفاوته الحال فيجوز ان يريدوا هذا ثواب الذي رزقناه في الدنيا من الطاعات ولا يساعده تخصيص ذلك بالثمرات فإن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من قبيل الثواب

وأتوا به متشابها اعتراض مقرر لما قبله والضمير المجرور على الأول راجع إلى ما دل عليه فحوى الكلام مما رزقوا في الدارين كما في قوله تعالى أن يكن غنيا أو فقيرا فاللّه أولى بهما أي بجنسى الغنى والفقير وعلى الثاني إلى الرزق

ولهم فيها أزواج مطهرة أي مما في نساء الدنيا من الأحوال المستقذرة كالحيض والدرن ودنس الطبع وسوء الخلق فإن التطهر يستعمل في الأجسام والأخلاق والأفعال وقرئ مطهرات وهما لغتان فصيحتان يقال النساء فعلت وفعلن وهن فاعلة وفواعل قال

 ... وإذا العذارى بالدخان تقنعت ... واستعجلت نصب القدور فملت ...

فالجمع على اللفظ والإفراد على تأويل الجماعة وقرئ مطهرة بتشديد الطاء وكسر الهاء بمعنى متطهرة ومطهرة أبلغ من طاهرة ومتطهرة للإشعار بأن مطهرا طهرهن وما هو إلا اللّه سبحانه وتعالى

وأما التطهر فيحتمل أن يكون من قبل أنفسهن كما عند اغتسالهن والزوج يطلق على الذكر والأنثى وهو في الأصل اسم لماله قرين من جنسه وليس في مفهومه اعتبار التوالد الذي هو مدار بقاء النوع حتى لا يصح إطلاقه على أزواج أهل الجنة لخلودهم فيها واستغنائهم عن الأولاد كما أن الدارية لبقاء الفرد ليست بمعتبرة في مفهوم اسم الرزق حتى يخل ذلك بإطلاقه على ثمارالجنة

وهم فيها خالدون أي دائمون والخلود في الأصل الثبات المديد دام أو لم يدم ولذلك قيل للأثافي والأحجار الخوالد وللجزء الذي يبقى من الإنسان على حاله خلد ولو كان وضعه الدوام لما قيد بالتأبيد في  قوله عز وعلا خالدين فيها أبدا ولما استعمل حيث لا دوام فيه لكن المراد ههنا الدوام قطعا لما يفضى به من الايات والسنن وما قيل من أن الأبدان مؤلفة من الأجزاء المتضادة في الكيفية معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانحلال والانفكاك مداره قياس ذلك العالم الكامل بما يشاهد في عالم الكون والفساد علىأنه يجوز أن يعيدها الخالق تعالى بحيث لا يعتورها الاستحالة ولا يعتريها الانحلال قطعا بأن تجعل أجزاؤها متفاوته في الكيفيات متعادلة في القوى بحيث لا يقوى شئ منها عند التفاعل على إحالة الآخر متعانقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض وتبقى هذه النسبة منخفظة فيما بينها أبدا يعتريها التغيير بالأكل والشرب والحركات وغير ذلك واعلم أن معظم اللذات الحسية لما كان مقصورا على المساكن والمطاعم والمناكح حسبما يقتضى به الاستقراء وكان ملاك جميع ذلك الدوام والثبات إذ كل نعمة وإن جلت حيت كانت في شرف الزوال ومعرض الاضمحلال فإنها منغصة غير صافية من شوائب الألم بشر المؤمنين بها وبدوامها تكميلا للبهجة والسرور اللّهم وفقنا لمراضيك وثبتنا على ما يؤدى إليها من العقد والعمل

٢٦

 إنا اللّه لا يستحي ان يضرب مثلا ما بعوضة شروع في تنزيه ساحة التنزيل عن تعلق ريب خاص اعتراهم من جهة ما وقع فيه من ضرب الأمثال وبيان لحكمته وتحقيق للحق اثر تنزيهها عما اعتراهم من مطلق الريب بالتحدي والقام الحجر وافحام كافة البلغاء من اهل المدر والوبر روى ابو صالح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما ان المنافقون طعنوا في ضرب الأمثال بالنار والظلمات والرعد والبرق وقالوا اللّه أجل وأعلى من ضرب الأمثال وروى عطاء رضي اللّه عنه ان هذا الطعن كان من المشركين وروى عنه ايضا انه لما نزل قوله تعالى يا ايها الناس ضرب مثل فاستمعوا له الآيه وقوله تعالى مثل الذين اتخذوا من دون اللّه اولياء الآيه قالت اليهود اى قدر للذباب والعنكبوت حتى يضرب اللّه تعالى بهما الأمثال وجعلوا ذلك ذريعة الى انكار كونه من عند اللّه تعالى مع انه لا يخفى على احد ممن له تمييز انه ليس مما يتصور فيه التردد فضلا عن النكير بل هو اوضح ادله كونه خارجا عن طوق البشر نازلا من عند خلاق القوى والقدر كيف لا وان التمثيل كما مر ليس الآ ابراز المعنى المقصود في معرض الأمر المشهود وتحلية المعقول بحلية المحسوس وتصوير اوابد المعاني بهيئه المأنوس لاستماله الوهم واستنزاله عن معارضته للعقل واستعصائه عليه في ادراك الحقائق الخفيه وفهم الدقائق الأبيه كي يتابعه فيما يقتضيه ويشايعه الى ما يرتضيه ولذلك شاعت الأمثال في الكتب الألهيه والكلمات النبوية وذاعت في عبارات البلغاء واشارات الحكماء ومن قضية وجوب التماثل بين الممثل والممثل به في مناط التمثيل تمثيل العظيم بالعظيم والحقير بالحقير وقد مثل بالإنجيل غل الصدر بالنخاله ومعارضة السفهاء بإثارة الزنابير وجاء في عبارات البلغاء اجمع من ذره وأجرأ من الذباب واسمع من قراد واضعف من بعوضه الى غير ذلك ما لا يكاد يحصر والحياء تغير النفس وانقباضها عما يعاب به أو يذم عليه يقال حي الرجل وهو حي واشتقاقه من الحياة اشتقاق شظى وحشى ونسى من الشظى والنسى والحشى يقال شظى الفرس ونسى وحشى اذا اعتلت منه تلك الأعضاء كأن من يعتريه الحيا تعتل قوته الحيوانيه وتنتقص واستحيا بمعناه خلا انه يتعدى بنفسه وبحرف الجر يقال استحييته واستحييت منه والأول لا يتعدى الآ بحرف الجر وقد يحذف منه احدى اليائين ومنه قوله

 ... الآ يستحي منا الملوك ويتقي ... محارمنا لا يبوء الدم بالدم ...

وقوله

 ... اذا ما استحين الماء يعرض نفسه ... كرعن بسبت في اناء من الورد ...

فكما انه اذا اسند اليه سبحانه بطريق الأيجاب في مثل قوله ان اللّه يستحي من ذي الشيبه المسلم ان يعذبه وقوله عليه السلام ان اللّه حي كريم يستحي اذا رفع اليه العبد يده ان يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا يراد به الترك الخاص على طريقة التمثيل حيث مثل فيه الحديثين الكريمين تركه تعذيب ذي الشيبة وتخييب العبد من عطائه بترك من يتركهما حياء كذلك إذا نفى عنه تعالى في المواد الخاصة كما في هذه الآية الشريفة وفي قوله تعالى واللّه لا يستحي من الحق يراد به سلب ذلك الترك الخاص المضاهي لترك المستحي عنه لاسلب وصف الحياء عنه تعالى رأسا كما في قولك إن اللّه لا يوصف بالحياء لأن تخصيص السلب ببعض المواد يوهم كون الإيجاب من شأنه تعالى في الجملة فالمراد ههنا عدم ترك ضرب المثل المماثل لترك من يستحي من ضربه وفيه رمز إلى تعاضد الدواعي إلى ضربه وتآخذ البواعث إليه إذ الاستحياء إنما يتصور في الأفعال المقبولة للنفس المرضية عندها ويجوز أن يكون وروده على طريقة المشاكلة فإنهم كانوا يقولون أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلا بالأشياء المحقرة كما في قول من قال

 ... من مبلغ أفناء يعرب كلها ... أني بنيت الجار قبل المنزل ...

وضرب المثل استعماله في مضربه وتطبيقه به لا صنعه وإنشاؤه في نفسه والا لكان إنشاء الأمثال السائرة في مواردها ضربا لها دون استعمالها بعد ذلك في مضاربها لفقدان الإنشاء هناك والأمثال الواردة في التنزيل وأن كان استعالها في مضاربها عين أنشائها في أنفسها لكن التعبير عنه بالضرب ليس بهذا الإعتبار بل بالإعتبار الأول قطعا وهوما وهو مأخوذإما من ضرب الخاتم بجامع التطبيق فكما أن ضربه تطبيقه بقالبه كذلك استعمال الأمثال في مضاربها تطبيقها بها كأن المضارب قوالب تضرب الأمثال على شاكلتها لكن لا بمعنى أنها تنشأ بحسبها بعد أن لم تكن كذلك بل بمعنى أنها تورد منطبقة عليها سواء كان إنشاؤها حينئذ كعامة الأمثال التنزيلية فإن مضاربها قوالبها أو قبل ذلك كسائر الأمثال السائرة فإنها وإن كانت مصنوعة من قبل إلا أن تطبيقها أي إيرادها منطبقة على مضاربها إنما يحصل عند الضرب

وأما من ضرب الطين عى الجدار ليلتزق به بجامع الإلصاق كأن من يستعملها يلصقها بمضاربها ويجعلها ضربة لازب لا تنفك عنها لشدة تعلقها بها ومحل أن يضرب على تقدير تعدية يستحي بنفسه النصب على المفعولية

وأما على تقدير تعديته بالجار فعند الخليل الخفض بإضمار من وعند سيبويه النصب بافضاء الفعل إليه بعد حذفها ومثلا مفعول ليضرب وما اسمية إبهامية تزيد ما تقارنه من الأسم المنكر إبهاما وشياعا كما في قولك أعطني كتابا ما كأنه قيل مثلا ما من الأمثال أي مثل كان فهى صفة لما قبلها أو حرفية مزيدة لتقوية النسبة وتوكيدها كما في قوله تعالى فبما رحمة من اللّه وبعوضة بدل من مثلا أو عطف بيان عند من يجوز في النكرات أو مفعول ليضرب ومثلا حال تقدمت عليها لكونها نكرة أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل والتصيير وقرئ بالرفع على انه خبر مبتدأ محذوف أي هو بعوضة والجملة علىتقدير كون ما موصوله صلة لها محذوفة الصدر كما في قوله تعالى تماما على الذي أحسن على قراءة الرفع وعلى تقدير كونها موصوفة صفة لها كذلك ومحل ما على الوجهين النصب على أنه بدل من مثلا أو على انه مفعول ليضرب وعلى تقدير كونها إبهامية صفة لمثلا كذلك

وأما على تقدير كونها استفهامية فهي خبر لها كأنه لما ورد استبعادهم ضرب المثل قيل ما بعوضة وأي مانع فيها حتى لا يضرب بها المثل بل له تعالى أن يمثل بما هو أصغر منها وأحقر كجناحها على ما وقع في قوله لوكانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ماسقى الكافر منها شربة ماء والبعوض فعول من البعض وهو القطع كالبضع والعضب غلب على هذا النوع كالخموش في لغة هذيل من الخمش وهو الخدش

فما فوقها عطف على بعوضة على تقدير نصبها علىالوجوه المذكورة وما موصولة أو موصوفة صلتها الظرف

وأما على تقدير رفعها فهو عطف على ما الأولى على تقدير كونها موصولة أو موصوفة

وأما على تقدير كونها استفهامية فهو عطف على خبرها اعنى بعوضة لا على نفسها كما قيل والمعنى ما بعوضة فالذي فوقها أو فشئ فوقها حتى لا يضرب بها المثل وكذا على تقدير كونها صفة للنكرة أو زائدة وبعوضة خبر للمضمر وذكر البعوضة فما فوقها من بين افراد المثل إنما هو بطريق التمثيل دون التعيين والتخصيص فلا يخل بالشيوع بل يقرره ويؤكده بطريق الاولوية والمراد بالفوقية إما الزيادة في المعنى الذي اريد بالتمثيل اعنى الصغر والحقارة

وأما الزيادة في الحجم والجثة لكن لا بالغا ما بلغ بل في الجملة كالذباب والعنكبوت وعلى التقدير الأول يجوز ان يكون ما الثانية خاصة استفهامية إنكارية والمعنى ان اللّه لا يستحيى ان يضرب مثلا ما بعوضة فأي شئ فوقها في الصغر والحقارة فإذن له تعالى ان يمثل بكل ما يريد ونظيره في احتمال الأمرين ما روى ان رجلا بمنى خر على طنب فسطاط فقالت عائشة رضي اللّه عنها حين ذكر لها ذلك سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها الا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة فإنه يحتمل ما يجاوز الشوكة في القلة كنخبة النملة بقوله عليه السلام ما اصاب المؤمن من مكروه فهو كفارة لخطاياه حتى نخبة النملة وما تجاوزها من الألم كأمثال ما حكى من الحرور

فأما الذين آمنوا شروع في تفصيل ما يترتب على ضرب المثل من الحكم اثر تحقيق حقية صدوره عنه تعالى والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يدل عليه ما قبلها كأنه قيل فيضربه فأما الذين الخ وتقديم بيان حال المؤمنين على ما حكى من الكفرة مما لا يفتقر الى بيان السبب وفي تصدير الجملتين بأما من احماد امر المؤمنين وذم الكفرة مالا يخفى وهو حرف متضمن لمعنى اسم الشرط وفعله بمنزلة مهما يكن من شئ ولذلك يجاب بالفاء وفائدته توكيد ما صدر به وتفصيل ما في نفس المتكلم من الاقسام فقد تذكر جميعا وقد يقتصر على واحد منها كما في قوله عز و جل من قائل فأما الذين في قلوبهم زيغ الخ قال سيبويه أما زيد فذاهب معناه مهما يكن من شئ فهو ذاهب لا محالة وانه منه عزيمة وكان الاصل دخول الفاء على الجملة لأنها الجزاء لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوها الخبر وعوض المبتدأ عن الشرط لفظا والمراد بالموصول فريق المؤمنين المعهودين كما ان المراد بالموصول الآتي فريق الكفرة لا من يؤمن بضرب المثل ومن يكفر به لاختلال المعنى أي فأما المؤمنون فيعلمون انه الحق من ربهم كسائر ما ورد منه تعالى والحق هو الثابت الذي يحق ثبوته لا محالة بحيث لا سبيل للعقل إلى إنكاره لا الثابت مطلقا واللام للدلالة على أنه مشهود له بالحقية وأن له حكما ومصالح ومن لابتداء الغاية المجازية وعاملها محذوف وقع حالا من الضمير المستكن في الحق أو من الضمير العائد إلى المثل أو إلى ضربه أي كائنا وصادرا من ربهم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم وللإيذان بأن ضرب المثل تربية لهم وإرشاد إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم والجملة سادة مسد مفعولى يعلمون عند الجمهور ومسد مفعوله الأول والثاني محذوف عند الأخفش أي

 فيعلمون حقيته ثابتة ولعل الاكتفاء بحكاية علمهم المذكور عن حكاية اعترافهم بموجبة كما في قوله تعالى والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا للإشعار بقوة ما بينهما من التلازم وظهوره المغنى عن الذكر

وأما الذين كفروا ممن حكيت أقوالهم واحوالهم

 فيقولون ماذا أراد اللّه بهذا مثلا أوثر يقولون على لا يعلمون حسبما يقتضيه ظاهر قرينه دلالة على كمال غلوهم في الكفر وترامي أمرهم في العتو فإن مجرد عدم العلم بحقيته ليس بمثابة إنكارها والاستهزاء به صريحا وتمهيدا لتعداد ما نعي عليهم في تضاعيف الجواب من الضلال والفسق ونقض العهد وغير ذلك من شنائعهم المترتبة على قولهم المذكور على أن عدم العلم بحقيته لا يعم جميعهم فإن منهم من يعلم بها وإنما يقول ما يقول مكابرة وعنادا وحمله على عدم الإذعان والقبول الشامل للجهل والعناد تعسف ظاهر هذا وقد قيل كان من حقه

وأما الذين كفروا فلا يعلمون ليطابق قرينه ويقابل قسيمه لكن لما كان قولهم هذا دليلا واضحا على جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية ليكون كالبرهان عليه فتأمل وكن على الحق المبين وماذا إما مؤلفة من كلمة أستفهام وقعت مبتدأ خبره ذا بمعنى الذي وصلته ما بعده والعائد محذوف فالأحسن أن يجيء جوابه مرفوعا

وأما منزلة منزلة أسم واحد بمعنى أي شيء فالأحسن في جوابه النصب والإرادة نزوع النفس وميلها إلى الفعل بحيث يحملها إليه أو القوة التي هي مبدوؤة والأول مع الفعل والثاني قبله وكلاهما مما لا يتصور في حقه تعالى ولذلك اختلفوا في إرادته عز و جل فقيل إرادته تعالى لأفعاله كونه غير ساة فيه ولامكره ولأفعال غيره أمره بها فلا تكون المعاصي بإرادته تعالى

وقيل هي علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل والوجه الأصلح فإنه يدعو القادر إلى تحصيله والحق أنها عبارة عن ترجيح أحد طرفي المقدور على الآخر وتخصيصه بوجه دون وجه أو معنى يوجبه وهي أعم من الاختيار فإنه ترجيح مع تفضيل وفي كلمة هذا تحقير للمشار إليه واستر ذال له ومثلا نصب على التمييز أو على الحال كما في قوله تعالى ناقة اللّه لكم آية وليس مرادهم بهذه العظيمة استفهام الحكمة في ضرب المثل ولا القدح في اشتماله على الفائدة مع اعترافهم بصدوره عنه جل وعلا بل غرضهم التنبيه بادعاء أنه من الدناءة والحقارة بحيث لا يليق بأن يتعلق به أمر من الأمور الداخلية تحت إرادته تعالى على استحالة أن يكون ضرب المثل به عنده سبحانه فقوله عز من قائل

يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا جواب عن تلك المقالة الباطلة ورد لها ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة وغاية جميلة هي كونه ذريعة إلى هداية المستعدين للّهداية وإضلال المنهمكين في الغواية فوضع الفعلان موضع الفعل الواقع في الاستفهام مبالغة في الدلالة على تحقيقهما فإن إرادتهما دون وقوعهما بالفعل وتجافيا عن نظم الإضلال مع الهداية في سلك الإرادة لأبهامه تساويهما في تعلقهما وليس كذلك فإن المراد بالذات من ضرب المثل هو التذكر والاهتداء كما ينبئ عنه قوله تعالى وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ونظائره

وأما الإضلال فهو أمر عارض مترتب على سوء اختيارهم وأوثر صيغة الاستقبال إيذانا بالتجددد والاستمرار

وقيل وضع الفعلان موضع مصدريهما كأنه قيل أراد إضلال كثير وهداية كثير وقدم الإضلال على الهداية مع تقدم حال المهتدين على حال الضالين فيما قبله ليكون أول ما يقرع أسماعهم من الجواب أمرا فظيعا يسوءهم ويفت في أعضادهم وهو السر في تخصيص هذه الفائدة بالذكر

وقيل هو بيان للجملتين المصدرتين بأما وتسجيل بأن العلم بكونه حقا هدى وأن الجهل بوجه إيراده والإنكار لحسن مورده ضلال وفسوق وكثرة كل فريق إنما هي بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابلهم فلا يقدح في

ذلك أقيلة أهل الهدى بالنسبة إلى أهل الضلال حسبما نطق به قوله تعالى وقليل من عبادى الشكور ونحو ذلك واعتبار كثرتهم الذاتية دون قلتهم الإضافة لتكميل فائدة ضرب المثل وتكثيرها ويجوز أن يراد في الأولين الكثرة من حيث العدد وفي الآخرين من حيث الفضل والشرف كما في قول من قال

 ... إن الكرام كثير في البلاد ... وأن قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا ...

وإسناد الإضلال أي خلق الضلال إليه سبحانه مبني على أن جميع الشياء مخلوقة له تعالى وإن كان أفعال العباد من حيث الكسب مستندة إليهم وجعله من قبيل إسناد الفعل إلى سببه يأباه التصريح بالسبب وقرئ يضل به كثير ويهدي به كثير على البناء للمفعول وتكرير به مع جواز الاكتفاء بالأول لزيادة تقرير السببية وتأكيدها

وما يضل به أي بالمثل أو بضربه

إلا الفاسقين عطف على ما قبله وتكلمة للجواب والرد وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالا ابتدائيا بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه وقرئ وما يضل به إلا الفاسقون على البناء للمفعول والفسق في اللغة الخروج يقال فسقت الرطبة عن قشرها والفأرة من جحرها أي خرجت قال رؤية

 ... يذهبن في نجد وغورا غائرا ... فواسقا عن قصدها جوائرا ...

وفي الشريعة الخروج عن طاعة اللّه عز و جل بارتكاب الكبيرة التي من جملتها الإصرار على الصغيرة وله طبقات ثلاث

الأولى التغابي وهو ارتكابها أحيانا مستقبحا لها

والثانية الانهماك في تعاطيها

والثالثة المثابرة عليها مع جحود قبحها وهذه الطبقة من مراتب الكفر فما لم يبلغها الفاسق لا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق الذي عليه يدور الايمان ولقوله تعالى وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا والمعتزلة لما ذهبوا إلى أن الايمان عبارة عن مجموعة تصديق والإقرار والعمل والكفر عن تكذيب الحق وجحوده ولم يتسن لهم ادخال الفاسق في أحدهما فجعلوه قسما بين قسمى المؤمن والكافر لمشاركة كل واحد منهما في بعض أحكامه والمراد بالفاسقين ههنا العاتون الماردون في الكفر الخارجون عن حدوده ممن حكى عنهم ما حكى من انكار كلام اللّه تعالى والاستهزاء به وتخصيص الاضلال بهم مترتبا على صفة الفسق وما أجرى عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر في حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروه وقالوا فيه ما قالوا

٢٧

الذين ينقضون عهد اللّه صفة للفاسقين للذم وتقرير ماهم عليه من الفسق والنقض فسخ التركيب من المركبات الحسية كالحبل والغزل ونحوهما واستعماله في ابطال العهد من حيث استعارة الحبل له لما فيه من ارتباط أحد كلامي المتعاهدين بالآخر فإن شفع بالحبل وأريد به العهد كان ترشيحا للمجاز وإن قرن بالعهد كان رمزا إلى ما هو من روادفه وتنبيها على مكانه وإن المذكور قد استعير له كما يقال شجاع يفترس أقرانه  وعالم يغترف منه الناس تنبيها على أنه أسد في شجاعته وبحر في إفاضته والعهد الموثق يقال عهد إليه كذا إذا وصاه به ووثقه عليه والمراد ههنا أما العهد المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عبادة الدالة على وجوده ووحدته وصدق رسوله عليه السلام وبه أول قوله تعالى وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى أو المعنى الظاهر منه أو المأخوذ من جهة الرسل عليهم السلام على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره وذكره في الكتب المتقدمة ولم يخالفوا حكمه كما ينبئ عنه قوله عز و جل وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه ونظائره

وقيل عهود اللّه تعالى ثلاثة

الأول ما أخذه على جميع ذرية آدم عليه السلام بأن يقروا على ربوبيته

والثاني ما أخذه على الأنبياء عليهم السلام بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه

والثالث ما أخذه على العلماء بأن يبينوا الحق ولا يكتموه

من بعد ميثاقه الميثاق أما اسم لما يقع به الوثاقة والاحكام

وأما مصدر بمعنى التوثقة كالميعاد بمعنى الوعد فعلى الأول إن رجع الضمير إلى العهد كان المراد بالميثاق ما وثقوه به من القبول والالتزام وان رجع إلى لفظ الجلالة يراد به آياته وكتبه وانذار رسله عليهم السلام والمضاف محذوف على الوجهين أي من بعد تحقق ميثاقه وعلى الثاني إن رجع الضمير إلى العهد والميثاق مصدر من المبني للفاعل فالمعنى من بعد ان وثقوه بالقبول والالتزام أو من بعد أن وثقه اللّه عز و جل بإنزال الكتب وإنذار الرسل وإن كان مصدر من المبني للمفعول فالمعنى من بعد كونه موثقا إما بتوثيقهم إياه بالقبول وأما بتوثيقه تعالى إياه بإنزال الكتب وإنذار الرسل

ويقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل يحتمل كل قطيعة لا يرضى بها اللّه سبحانه وتعالى كقطع الرحم وموالاة المؤمنين والتفرقة بين الأنبياء عليهم السلام والكتب في التصديق وترك الجماعات المفروضة وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شر فإنه يقطع مابين اللّه تعالى وبين العبد من الوصلة التي هي المقصودة بالذات من كل وصل وفصل والأمر هو القول الطالب للفعل مع العلو

وقيل بالاستعلاء وبه سمى الأمر الذي هو واحد الأمور تسمية للمفعول بالمصدر فإنه مما يؤمر به كما يقال له شأن وهو القصد والطلب لما أنه أثر للشأن وكذا يقال له شيء وهو مصدر شاء لما أنه أثر للمشيئة ومحل أن يوصل أما النصب على أنه بدل من الموصول أو من ضميره

والثاني أولى لفظا ومعنى

ويفسدون في الأرض بالمنع عن الايمان والاستهزاء بالحق وقطع الوصل التي عليها يدور فلك نظام العالم وصلاحه

أولئك اشارة إلى الفاسقين باعتبار اتصافهم بما فصل من الصفات القبيحة وفيه ايذان بأنهم متميزون بها أكمل تميز ومنتظمون بسبب ذلك في سلك الأمور المحسوسة وما فيه من معنى البعد للدلالة على بعد منزلتهم في الفساد

هم الخاسرون الذين خسروا بإهمال العقل عن النظر واقتناص ما يفيدهم الحياة الأبدية واستبدال الانكار والطعن في الآيات بالإيمان بها والتأمل في حقائقها والاقتباس من أنوارها واشتراء النقض بالوفاء والفساد بالصلاح والقطيعة بالصلة والعقاب بالثواب

٢٨

كيف تكفرون باللّه التفات إلى خطاب المذكورين مبني على ايراد ما عدد من قبائحهم السابقة لتزايد السخط الموجب للمشافهة بالتوبيخ والتقريع والاستفهام إنكاري لا بمعنى انكار الوقوع كما في قوله تعالى كيف يكون للمشركين عهد عند اللّه وعند رسوله الخ بل بمعنى انكار الواقع واستبعاده والتعجيب منه وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الانكار الى نفس الكفر بأن يقال اتكفرون لأن كل موجود يجب ان يكون وجوده على حال من الاحوال قطعا فإذا انتفى جميع احوال وجوده فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني وقوله عز و جل

وكنتم امواتا الى آخر الآية حال من ضمير الخطاب في تكفرون مؤكدة للإنكار والاستبعاد بما عدد فيها من الشئون العظيمة الداعية الى الإيمان الرادعة عن الكفر من حيث كونها نعمة عامه ومن حيث دلالتها على قدرة تامة كقوله تعالى وقد خلقكم اطوارا وكيف منصوبة على التشبيه بالظرف عند سيبويه وبالحال عند الاخفش أي في أي حال أو على أي حال تكفرون به تعالى والحال انكم كنتم امواتا أي اجساما لا حياة لها عناصر واغذية ونطفا ومضغا مخلقة وغير مخلقة والاموات جمع ميت كأقوال جمع قيل وإطلاقها على تلك الاجسام باعتبار عدم الحياة مطلقا كما في قوله تعالى بلدة ميتا وقوله تعالى وآية لهم الارض الميتة

فأحياكم بنفخ الارواح فيكم والفاء للدلالة على التعقيب فإن الاحياء حاصل اثر كونهم امواتا وإن توارد عليهم في تلك الحالة اطوار مترتبة بعضها متراخ عن بعض كما اشير اليه آنفا

ثم يميتكم أي عند انقضاء آجالكم وكون الإماتة من دلائل القدرة ظاهر

وأما كونها من النعم فلكونها وسيلة الى الحياة الثانية التي هي الحيوان والنعمة العظمى والتراخي المستفاد من كلمة ثم بالنسبة الى زمان الإحياء دون زمان الحياة فإن زمان الإماتة غير متراخ عنه

ثم يحييكم بالنشور يوم ينفخ في الصور أو للسؤال في القبور واياما كان فهو متراخ من زمان الإماتة وإن كان اثر زمان الموت المستمر

ثم اليه ترجعون بعد الحشر لا الى غيره فيجازيكم بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر واليه تنشرون من قبوركم للحساب وهذه الافعال وإن كان بعضها ماضيا وبعضها مستقبلا لا يتسنى مقارنة شئ منها لما هو حال منه في الزمان لكن الحال في الحقيقة هو العلم المتعلق بها كأنه قيل كيف تكفرون باللّه وانتم عالمون بهذه الاحوال المانعة منه ومآله التعجيب من وقوعه مع تحقق ما ينفيه وإنما نظم ما ينكرونه من الإحياء الأخير والرجع في سلك ما يعترفون به من الإحياء الأول والإماتة تنزيلا لتمكنهم من العلم لما عاينوه من الدلائل القاطعة منزلة العلم بذلك بالفعل في ازاحة العلل والأعذار والحياة حقيقة في القوة الحساسة أو ما يقتضيها وبها سمى الحيوان حيوانا مجاز في القوة النامية لكونها من طلائعها وكذا فبما يخص الإنسان من العقل والعلم والإيمان من حيث انه كمالها وغايتها والموت بإزائها يطلق على ما يقابل كل مرتبة من تلك المراتب قال تعالى قل اللّه يحييكم ثم يميتكم وقال تعالى اعلموا ان اللّه يحيي الارض بعد موتها وقال تعالى أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس وعند وصفة تعالى بها يراد صحة اتصافه تعالى بالعلم والقدرة اللازمة لهذه القوة فينا أو معنى قائم بذاته تعالى مقتض لذلك وقرئ ترجعون بفتح التاء والأول هو الاليق بالمقام

٢٩

هو لكم الذي خلق ما في الارض جميعا تقرير للإنكار وتأكيد له من الحيثيتين المذكورتين غير سبكه عن سبك ما قبله مع اتحادهما في المقصود إبانة لما بينهما من التفاوت فإن ما يتعلق بذواتهم من الإحياء والإمانة والحشر أدخل في الحث على الإيمان والكف عن الكفر مما يتعلق بمعايشهم وما يجرى مجراها وفي الضمير مبتدأ والموصول خبرا من الدلالة على الجلالة مالا يخفى وتقديم الظرف على المفعول الصريح لتعجيل المسرة ببيان كونه نافعا للمخاطبين وللتشويق إليه كما سلف أي خلق لأجلكم جميع ما في الارض من الموجودات لتنتفعوا بها في امور دنياكم بالذات أو بالواسطة وامور دينكم بالاستدلال بها على شئون الصانع تعالى شأنه والاستشهاد بكل واحد منها على ما يلائمه من لذات الآخرة وآلامها وما يعم جميع ما في الارض لا نفسها الا ان يراد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو نعم يعم كل جزء من اجزائها فإنه من جملة ما فيها ضرورة وجود الجزء في الكل وجميعا حال من الموصول الثاني مؤكدة لما فيه من العموم فإن كل فرد من افراد ما في الارض بل كل جزء من اجزاء العالم له مدخل في استمراره على ما هو عليه من النظام اللائق الذي عليه يدور انتظام مصالح الناس اما من جهة المعاش فظاهر

وأما من جهة الدين فلما انه ليس في العالم شئ مما يتعلق به النظر وما لا يتعلق به الا وهو دليل على القادر الحكيم جل جلاله كما مر في تفسير قوله تعالى رب العالمين وإن لم يستدل به احد بالفعل

ثم استوى الى السماء أي قصد اليها بإرادته ومشيئته قصدا سويا بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من ارادة خلق شئ آخر في تضاعيف خلقها أو غير ذلك مأخوذ من قولهم استوى اليه كالسهم المرسل وتخصيصه بالذكر ههنا إما لعدم تحققه في خلق السفليات لما روى من تخلل خلق السموات بين خلق الارض ودحوها عن الحسن رضي اللّه عنه خلق اللّه تعالى الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان يلتزق بها ثم اصعد الدخان وخلق منه السموات وامسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرضين وذلك قوله تعالى كانتا رتقا ففتقناهما

وأما لإظهار كمال العناية بإبداع العلويات

وقيل استوى استولى وملك والأول هو الظاهر وكلمة ثم للإيذان بما فيه من المزية والفضل على خلق السفليات لا للتراخى الزماني فإن تقدمه على خلق ما في الارض المتأخر عن دحوها مما لا مرية فيه لقوله تعالى والارض بعد ذلك دحاها ولما روى عن الحسن والمراد بالسماء إما الأجرام العلوية فإن القصداليها بالإرادة لا يستدعي سابقة الوجود

وأما جهات العلو

فسواهن أي اتمهن وقومهن وخلقهن ابتداء مصونة عن العوج والفطور لا انه تعالى سواهن بعد ان لم يكن كذلك ولا يخفى ما في مقارنة التسويه والاستواء من حسن الموقع وفيه اشارة الى ان لا تغيير فيهن بالنمو والذبول كما في السفليات والضمير على الوجه الأول للسماء فإنها في معنى الجنس

وقيل هي جمع سماءة أو سماوة وعلى الوجه الثاني منهم يفسره قوله تعالى

سبع سموات كما في قولهم ربه رجلا وهو على الوجه الأول بدل من الضمير وتأخير ذكر هذا الصنع البديع عن ذكر خلق ما في الارض مع كونه اقوى منه في الدلالة على كمال القدرة القاهرة كما نبه عليه لما ان المنافع المنوطة بما في الارض اكثر وتعلق مصالح الناس بذلك اظهر وان كان في ابداع العلويات ايضا من المنافع الدينية والدنيوية مالا يحصى هذا ما قالوا وسيأتي في حم السجدة مزيد تحقيق وتفصيل بإذن اللّه تعالى

وهو بكل شئ عليم اعتراض تذييلى مقرر لما قبله من خلق السموات والارض وما فيها على هذا النمط البديع المنطوى على الحكم الفائقة والمصالح اللائقة فإن علمه عز و جل بجميع الاشياء ظاهرها وباطنها بارزها وكامنها وما يليق بكل واحد منها يستدعي ان يخلق كل ما يخلقه على الوجه الرائق وقرئ وهو بسكون الهاء تشبيها له بعضد

٣٠

وإذ قال ربك بيان لأمر آخر من جنس الامور المتقدمة المؤكدة للإنكار والاستبعاد فإن خلق آدم عليه السلام وما خصه به من الكرامات السنية المحكية من اجل النعم الداعية لذريته الى الشكر والإيمان الناهية عن الكفر والعصيان وتقرير لمضمون ما قبله من قوله تعالى خلق لكم ما في الارض جميعا وتوضيح لكيفية التصرف والانتفاع بما فيها وتلوين الخطاب بتوجيهه الى النبي خاصة للإيذان بأن فحوى الكلام ليس مما يهتدى اليه بأدلة العقل كالأمور المشاهدة التي نبه عليها الكفرة بطريق الخطاب بل انما طريقة الوحى الخاص به عليه السلام وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبيلغ الى الكمال مع الضافة الى ضميره عليه السلام من الإنباء عن تشريفه عليه السلام ما لا يخفى واذ ظرف موضوع لزمان نسبة ماضية وقع فيه نسبة اخرى مثلها كما ان اذا موضوع لزمان نسبة مستقبلة يقع فيه اخرى مثلها ولذلك يجب اضافتهما الى الجمل وانتصابه بمضمر صرح بمثله في قوله عز و جل واذكروا اذ كنتم قليلا فكثركم وقوله تعالى واذكروا اذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وتوجيه الامر بالذكر الى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع انها المقصودة بالذات للمبالغة في ايجاب ذكرها لما ان ايجاب ذكر الوقت ايجاب لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني ولان الوقت مشتمل عليها فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها كأنها مشاهدة عيانا

وقيل ليس انتصابه علىالمفعوليه بل على تأويل اذكر الحادث فيه بحذف المظروف وإقامة الظرف مقامه وأياما كان فهو معطوف على مضمر آخر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل له عليه السلام غب ماأوحى إليه ما خوطب به الكفرة من الوحى الناطق بتفاصيل الأمور السابقة الزاجرة عن الكفر به تعالى ذكرهم بذلك واذكر لهم هذه النعمة ليتنبهوا بذلك لبطلان ما هم فيه وينتهوا عنه

وأما ما قيل من أن المقدر هو اشكر النعمة في خلق السموات والأرض أو تدبر ذلك فغير سديد ضرورةأن مقتضى المقام تذكير المخلين بمواجب الشكر وتنبيههم على ما يقتضيه وأين ذاك من مقامه الجليل

وقيل انتصابه بقوله تعالى قالوا ويأباه أنه يقتضى أن يكون هو المقصود بالذات دون سائر القصة

وقيل بما سبق من قوله تعالى وبشر الذين آمنوا ولا يخفى بعده

وقيل بمضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة مثل وبدأ خلقكم إذ قال الخ ولا ريب في أنه لا فائدة في تقييد بدء الخلق بذلك الوقت

وقيل بخلقكم أو بأحياكم مضمرا وفيه ما فيه

وقيل إذ زائدة ويعزى ذلك إلى أبي عبيد ومعمر

وقيل أنه بمعنى قد واللام في قوله عز قائلا

للملائكة للتبليغ وتقديم الجاروالمجرور في هذا الباب مطرد لما في المقول من الطول غالبا مع ما فيه من الاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما اخر كما مر مرارا أو الملائكة جمع ملك باعتبار أصله الذي هو ملأك على أن الهمزة مزيدة كالشمائل في جمع شمأل والتاء لتأكيد تأنيث الجماعة واشتقاقه من ملك لما فيه من معنى الشدة والقوة

وقيل على أنه مقلوب من مألك من الألوكة وهي الرسالة أي موضع الرسالة أو مرسل على أنه مصدر بمعنى المفعول فإنهم وسائط بين اللّه تعالى وبين الناس فهم رسله عز و جل أو بمنزلة رسله عليهم السلام واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بانفسها فذهب أكثر المتكلمين إلى أنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة مستدلين بأن الرسل كانوا يرونهم كذلك عليهم السلام وذهب الحكماء إلى أنها جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة وأنها أكمل منها قوة وأكثر علما تجرى منها مجرىالشمس من الأضواء منقسمة إلى قسمين قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق والتنزة عن الاشتغال بغيره كما نعتهم اللّه عز و جل بقوله يسبحون الليل والنهار لا يفترون وهم العليون المقربون وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض حسبما جرى عليه قلم القضاء والقدر وهم المدبرات أمرا فمنهم سماوية ومنهم أرضية وقالت طائفة من النصارى هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان ونقل في شرح كثرتهم أنه عليه السلام قال أطت السماء وحق لها ان تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع

وروى أن بني آدم عشر الجن وهما عشر حيوانات البر والكل عشر الطيور والكل عشر حيوانات البحار وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الدنيا وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة ثم كل أولئك في مقابلة ملائكة الكرسى نزر قليل ثم جميع هؤلاء عشر ملائكة سرادق واحد من سرادقات العرش التي عددها ستمائة ألف طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرض وما فيهما وما بينهما لا يكون لها عنده قدر محسوس وما منه من مقدار شبر إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم لهم زجل بالتسبيح والتقديس ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر ثم ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل عليه السلام والملائكة الذين هم جنود جبريل عليه السلام لا يحصى أجناسهم ولا مدة اعمارهم ولا كيفيات عباداتهم إلا بارئهم العليم الخبير على ما قال تعالى وما يعلم جنود ربك إلا هو

وروى أنه عليه السلام حين عرج به إلى السماء رأى ملائكة في موضع بمنزلة شرف يمشى بعضهم تجاه بعض فسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم جبريل عليه السلام الى اين يذهبون فقال جبريل لا ادري الا اني اراهم منذ خلقت ولا ارى واحدا منهم قد رأيته قبل ذلك ثم سألا واحدا منهم منذ كم خلقت فقال لا ادري غير ان اللّه عز و جل يخلق في كل اربعمائة الف سنة كوكبا وقد خلق منذ خلقني اربعمائة الف كوكب فسبحانه من اله ما اعظم قدرة وما اوسع ملكوته

واختلف في الملائكة الذين قيل لهم ما قيل فقيل هم ملائكة الارض

وروى الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنهم المختارون مع إبليس حين بعثه اللّه عز و جل لمحاربة الجن حيث كانوا سكان الأرض فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء فقتلوهم إلا قليلا قد أخرجوهم من الأرض وألحقوهم بجزائر البحار وقلل الجبال وسكنوا الأرض وخفف اللّه تعالى عنهم البابدة وأعطى إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانه الجنة فكان يعبد اللّه تعالى تارة في الأرض وتارة في السماء وأخرى في الجنة فأخذه العجب فكان من امره ما كان وقال اكثر الصحابة والتابعين رضوان اللّه تعالى عليهم في أنهم كل الملائكة لعموم اللفظ وعدم المخصص وقوله تعالى

إني جاعل في الأرض خليفة في حيز النصب علىأنه مقول قال وصيغة الفاعل بمعنى المستقبل ولذلك عملت عمله وفيها ماليس في صيغة المضارع من الدلالة على انه فاعل ذلك لا محالة وهي من الجعل بمعنى التصيير المتعدى إلى مفعولين فقيل أولهما خليفة وثانيهما الظرف المتقدم على ما هو مقتضى فإن مفعولى التصيير في الحقيقة اسم صار وخبره أولهما الأول وثانيهما الثاني وهما مبتدأ وخبر والأصل في الأرض خليفة ثم قيل صار في الأرض خليفة ثم قيل صار في الأرض خليفة ثم مصير في الأرض خليفة فمعناه بعد اللتيا والتي إني جاعل خليفة من الخلائف أو خليفة بعينه كائنا في الأرض فإن خبر صار في الحقيقة هو الكون المقدر العامل في الظروف ولا ريب في ان ذلك ليس مما يقتضيه المقام اصلا وانما الذي يقتضيه هو الإخبار بجعل آدم خليفة فيها كما يعرب عنه جواب الملائكة عليهم السلام فإذن قوله تعالى خليفة مفعول ثان والظرف متعلق بجاعل قدم على المفعول الصريح لما مر من التشويق الى ما اخر أو بمحذوف وقع حالا مما بعده لكونه نكرة

وأما المفعول الأول فمحذوف تعويلا على القرينة الدالة عليه كما في قوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء اموالكم التي جعل اللّه لكم قياما حذف فيه المفعول الأول وهوضمير الاموال لدلالة الحال عليه وكذا في قوله تعالى ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيرا لهم حيث حذف فيه المفعول الأول لدلالة يبخلون عليه أي لا يحسبن البخلاء بخلهم هو خيرا لهم ولا ريب في تحقيق القرينة ههنا اما ان حمل على الحذف عند وقوع المحكى فهي واضحة لوقوعه في اثناء ذكره عليه السلام على ما سنفصله كأنه قيل اني خالق بشرا من طين و جاعل في الأرض خليفة

وأما ان حمل على انه لم يحذف هناك بل قيل مثلا وجاعل اياه خليفة في الارض لكنه حذف عند الحكاية فالقرينة ما ذكر من جواب الملائكة عليهم السلام قال العلامة الزمخشري في تفسير قوله تعالى واذ قال ربك للملائكة اني خالق بشرا من طين ان قلت كيف صح ان يقول لهم بشرا وما عرفوا ما البشر ولا عهدوا به قلت وجهه ان يكون قد قال لهم اني خالق خلقا من صفته كيت وكيت ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم انتهى فحيث جاز الاكتفاء عند الحكاية عن ذلك التفصيل بمجرد الاسم من غير قرينة تدل عليه فما ظنك بما نحن فيه ومعه قرينة ظاهرة ويجوز ان يكون من الجعل بمعنى الخلق المتعدى الى مفعول واحد هو خليفة وحال الظرف في التعلق والتقديم كما مر فحينئذلا يكون ما سيأتي من كلام الملائكة مترتبا عليه بالذات بل بالواسطة فإنه روى انه تعالى لما قال لهم اني جاعل في الارض خليفة قالوا ربنا وما يكون ذلك الخليفة قال تعالى يكون له ذرية يفسدون في الارض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا فعند ذلك قالوا ما قالوا واللّه تعالى اعلم والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه فعيل بمعنى الفاعل والتاء للمبالغة والمراد به اما آدم عليه السلام وبنوه وانما اقتصر عليه استغناء بذكره عن ذكرهم كما يستغنى عن ذكر القبيلة بذكر ابيها كمضر وهاشم ومنه الخلافة في قريش

وأما من يخلف أو خلف يخلف فيعمه عليه السلام وغيره من خلفاء ذريته والمراد بالخلافة إما الخلافة من جهته سبحانه في اجراء احكامه وتنفيذ اوامره بين الناس وسياسة الخلق لكن لا لحاجة به تعالى الى ذلك بل لقصور استعداد المستخلف عليهم وعدم لياقتهم لقبول الفيض بالذات فتختص بالخواص من بنية

وأما الخلافة ممن كان في الارض قبل ذلك فتعم حينئذ الجميع

قالوا استئناف وقع جوابا عما ينساق اليه الاذهان كأنه قيل فماذا قالت الملائكة حينئذ فقيل قالوا

اتجعل فيها من يفسد فيها وهو ايضا من الجعل المتعدى الى اثنين فقيل فيهما ما قيل في الأول والظاهر ان الأول كلمة من والثاني محذوف ثقة بما ذكر في الكلام السابق كما حذف الأول ثمة تعويلا على ما ذكر هنا قال قائلهم

 ... لا تخلنا على عزائك انا ... طالما قد وشى بنا الاعداء ...

بحذف المفعول الثاني أي لا تخلنا جازعين على عزائك والمعنى اتجعل فيها من يفسد فيها خليفة والظرف الأول متعلق بتجعل وتقديمه لما مر مرارا والثاني بيفسد وفائدته تأكيد الاستبعاد لما ان في استخلاف المفسد في محل افساده من البعد ما ليس في استخلافه في غيره هذا وقد جوز كونه من الجعل بمعنى الخلق المتعدى الى المفعول واحد هو كلمة من وانت خبير بأن مدار تعجبهم ليس خلق من يفسد في الارض كيف لا وان ما يعقبه من الجملة الحالية الناطقة بدعوى احقيتهم منه يقضي ببطلانه حتما اذ لا صحة لدعوى الاحقية منه بالخلق وهم مخلوقون بل مداره ان يستخلف لعمارة الارض وإصلاحها بإجراء احكام اللّه تعالى واوامره أو يستخلف مكان المطبوعين على الطاعة من من شأن بني نوعه الإفساد وسفك الدماء وهو عليه السلام وإن كان منزها عن ذلك الا ان استخلافه مستتبع لاستخلاف ذريته التي لا تخلو عنه غالبا وانما اظهروا تعجبهم استكشافا عما خفى عليهم من الحكم التي بدت على تلك المفاسد والغتها واستخبارا عما يزيح شبهتهم ويرشدهم إلى معرفة ما فيه عليه السلام من الفضائل التي جعلته اهلا لذلك كسؤال المتعلم عما ينقدح في ذهنه لا أعتراضا على فعل اللّه سبحانه ولا شكا في أشتماله على الحكمة والمصلحة أجمالا ولا طعنا فيه عليه السلام ولا في ذريته على وجه الغيبة فإن منصبهم اجل من ان يظن بهم امثال ذلك قال تعالى بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمرهم يعملون وإنما عرفوا ما قالوا إما بإخبار من اللّه تعالى حسبما نقل من قبل أو بتلق من اللوح أو باستنباط عما أرتكز في عقولهم في أختصاص العصمة بهم أو بقياس لأحد الثقلين على الآخر

 ويسفك الدماء السفك والسفح والسبك والسكب انواع من الصب والأ ولان مختصان بالدم بل لا يستعمل أولهما إلا في الدم المحرم إي يقتل النفوس المحرمة بغير حق والتعبير عنه بسفك الدماء لما أنه اقبح أنواع القتل وأفظعه وقرئ يسفك بضم الفاء ويسفك ويسفك من أسفك وسفك وقرئ يسفك على البناء للمفعول وحذف الراجع إلى من موصوله أو موصوفة أي يسفك الدماء فيهم

ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك جملة حالي مقررة للتعجب السابق ومؤكدة له على طريقة قول من يجد في خدمة مولاه وهو يأمر بها غيره أتستخدم العصاة وأنا مجتهد فيها كانه قيل أتستخلف من من شأن ذريته الفساد مع وجود من ليس من شانه ذلك أصلا والمقصود عرض أحقيتهم منهم بالخلافة واستفسار عما رجحهم عليهم مع ما هو متوقع منهم من الموانع لا العجب والتفاخر فكأنهم شعروا بما فيهم من القوة الشهوية التي رذيلتها الإفراطية الفساد في الأرض والقوة الغضبية التي رذيلتها الإفراطية سفك الدماء فقالوا ما قالوا وذهلوا عما إذا سخر تهما القوة العقلية ومرنتهما على الخير يحصل ذلك من علو الدرجة ما يقصر عن البلوغ رتبة القوة العقلية عند أنفرادها فيب أفاعيلها كالإحاطة بتفاصيل أحوال الجزئيات واستنباط الصناعات واستخراج منافع الكائنات من القوة إلى الفعل وغير ذلك مما نيط به أمر الخلافة والتسبيح تنزيه اللّه تعالى وتبعيده اعتقادا وقولا وعملا عما لا يليق بجنابه سبحانه من سبح في الأرض والماء إذا أبعد وأمعن ومنه فرس سبوح أي واسع الجرى وكذلك تقديسه تعالى من قدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد ويقال قدسه أي طهره فإن مطهر الشئ مبعده عن القذار والباء في بحمدك متعلقة بمحذوف وقع حالا من الضمير أي ننزهك عن كل ما لا يليق بشأنك ملتبسين بحمدك على ما أنعمت به علينا من فنون النعم التي من جملتها توفيقنا لهذه العبادة فالتسبيح لإظهار صفات الجلال والحمد لتذكير صفات الإنعام واللام في لك إما مزيده والمعنى نقدسك

وأما صلة للفعل كما في سجدت للّه

وأما للبيان كما في سقيالك فتكون متعلقة بمحذوف أي نقدس تقديسا لك أي نصفك بما يليق بك من العلو والعزة وننزهك عما لا يليق بك

وقيل المعنى نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك كأنهم قابلوا الفساد الذي أعظمه الإشراك بالتسبيح وسفك الدماء الذي هو تلويث النفس بأقبح الجرائم بتطهير النفس عن الآثام لا تمدحا بذلك ولا إظهار للمنة بل بيانا للواقع

قال استئناف كما سبق

إني أعلم ما لا تعملون ليس المراد بيان أنه تعالى يعلم مالا يعلمونه من الأشياء كائنا ما كان فإن ذلك مما لا شبهة لهم فيه حتى يفتقروا إلى التنبيه عليه لاسيما بطريق التوكيد بل بيان أن فيه عليه الصلاة و السلام معاني مستدعية لاستخلافه إذ هو الذي خفى عليهم وبنوا عليه ما بنوا من التعجب والاستبعاد فما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن تلك المعاني والمعنى إني أعلم ما لا تعلمونه من دواعي الخلافة فيه وإنما لم يقتصر على بيان تحققها فيه عليه السلام بأن قيل مثلا إن فيه ما يقتضيه من غير تعرض لإحاطته تعالى به وغفلتهم عنه تفخيما لشأنه وإيذانا بابتناء أمره تعالى على العلم الرصين والحكمة المتقنة وصدور قولهم عن الغفلة

وقيل معناه إني أعلم من المصالح في استخلافة ما هو خفى عليكم وأن هذا إرشاد للملائكة إلى العلم بأن أفعاله تعالى كلها حسنة وحكمة وإن خفى عليهم وجه الحسن والحكمة وأنت خبير بأنه مشعر بكونهم غير عالمين بذلك من قبل ويكون تعجبهم مبنيا على ترددهم في اشتمال هذا الفعل لحكمة ما وذلك مما لا يليق بشأنهم فإنهم عالمون بان ذلك متضمن لحكمة ما ولكنهم مترددون في أنها ماذا هل هو امر راجع إلى محض حكم اللّه عز و جل أو إلى فضيله من جهة المستخلف فبين سبحانه وتعالى لهم اولا على وجه الإجمال والإبهام أن فيه فضائل غائبة عنهم ليستشرفوا إليها ثم أبرز لهم طرفا منها ليعاينوه جهرة ويظهر لهم بديع صنعه وحكمته وينزاح شبهتهم بالكلية وعلم آدم الأسماء كلها شروع في تفصيل ما جرى بعد الجواب الإجمالي تحقيقا لمضمونه وتفسيرا لإبهامه وهو عطف على قال والابتداء بحكاية التعليم يدل بظاهرة على ان ما مر من المقاولة المحكية إنما جرت بعد خلقه عليه السلام بمحضر منه وهو الأنسب بوقوف الملائكة على أحواله عليه السلام بأن قيل إثر نفخ الروح فيه إني جاعل إياه خليفة فقيل ما قيل كما أشير إليه وإيراده عليه السلام باسمه العلمى لزيادة تعيين المراد بالخليفة ولأن ذكره بعنوان الخلافة لا يلائم مقام تمهيد مباديها وهو اسم أعجمي والأقرب أن وزنه فاعل كشالخ وعاذر وعابر وفالغ لا أفعل والتصدى لا شتقاقه من الأذمة أو الأدمة بالفتح بمعنى الأسوة أو من اديم الأرض بناء على ما روى عنه من أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها فخلق منها آدم ولذلك اختلفت ألوان ذريته أو من الأدم والأدمة بمعنى الألفة تعسف كاشتقاق إدريس من الدرس ويعقوب من العقب وإبليس من الإبلاس والاسم باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشئ ودليلا يرفعه إلى الذهن من الألفاظ و الصفات والأفعال واستعماله عرفا في اللفظ الموضوع لمعنى مفردا كان أو مركبا مخبرا عنه أو خبرا أو رابطة بينهما واصطلاحا في المفرد الدال على معنى في نفسه غير مقترن بالزمان والمراد ههنا أما الأول أو الثاني وهو مستلزم للأول إذ العلم بالألفاظ من حيث الدلالة على المعاني مسبوق بالعلم بها والتعليم حقيقة عبارة عن فعل يترتب عليه العلم بلا تخلف عنه ولا يحصل ذلك بمجرد إضافة المعلم بل يتوقف على استعداد المتعلم لقبول الفيض وتلقيه من جهته كما مر في تفسير الهدى وهو السر في إيثاره على الإعلام والإنباء فإنهما إنما يتوقفان على سماع الخبر الذي يشترك فيه البشر والملك وبه يظهر احقيته بالخلافة منهم عليهم السلام لما ان جباتهم غير مستعدة للإحاطة بتفاصيل احوال الجزئيات الجسمانية خبرا فمعنى تعليمه تعالى اياه ان يخلق فيه اذ ذاك بموجب استعداده علما ضروريا تفصيليا بأسماء جميع المسميات واحوالها وخواصها اللائقة بكل منها أو يلقى في روعة تفصيلا ان هذا فرس وشأنه كيت وكيت وذاك بعير وحاله ذيت وذيت الى غير ذلك من احوال الموجودات فيتلقاها عليه السلام حسبما يقتضيه استعداده ويستدعيه قابليته المتفرعة على فطرته المنطوية على طبائع متباينة وقوى متخالفة وعناصر متغايرة قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومجاهد وابن جبير رضي اللّه عنهم علمه اسماء جميع الأشياء حتى القصعة والقصيعة وحتى الجفنة والمحلب وانحى منفعة كل شئ الى جنسه

وقيل اسماء ما كان وما سيكون الى يوم القيامة

وقيل معنى

٣١

قوله تعالى وعلم آدم الاسماء خلقه من اجزاء مختلفة وقوى متباينة مستعدا لإدراك انواع المدركات من المعقولات والمحسوسات والمتخيلات والموهومات والهمه معرفة ذوات الأشياء واسمائها وخواصها ومعارفها واصول العلم وقوانين الصناعات وتفاصيل آلاتها وكيفيات استعمالاتها فيكون ما مر من المقاولة قبل خلقه عليه السلام

وقيل التعليم على ظاهره ولكن هناك جملا مطوية عطف عليهاالمدلول المدكور أي فخلقه فسواه ونفخ فيه الروح وعلمه الخ

 ثم عرضهم على الملائكة الضمير للمسميات المدلول عليها بالأسماء كما في قوله تعالى واشتعل الراس شيبا والتذكير لتغليب العقلاء على غيرهم وقرئ عرضهن وعرضها أي عرض مسمياتهن أو مسمياتها في الحديث انه تعالى عرضهم امثال الذر ولعله عز و جل عرض عليهم من افراد كل نوع ما يصلح ان يكون انموذجا يتعرف منه احوال البقية واحكامها

فقال انبئوني باسماء هؤلاء تبكيتا لهم واظهارا لعجزهم عن اقامة ما علقوا به رجاءهم من امر الخلافة فإن التصرف والتدبير واقامة المعدلة بغير وقوف على مراتب الاستعدادات ومقادير الحقوق مما لا يكاد يمكن والإنباء اخبار فيه اعلام ولذلك يجرى مجرى كل منهما والمراد ههنا ما خلا عنه وايثاره على الإخبار للإيذان برفعة شأن الأسماء وعظم خطرها فإن النبأ إنما يطلق على الخبر الخطير والأمر العظيم

إن كنتم صادقين أي في زعمكم انكم احقاء بالخلافة ممن استخلفته كما ينبئ عنه مقالكم والتصديق كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه قد يتطرق إليه باعتبار ما يلزمه من الأخبار فإن أدني مراتب الاستحقاق هو الوقوف على أسماء ما في الأرض

وأما ما قيل من أن المعنى في زعمكم أني استخلف في الأرض مفسدين سفاكين للدماء فليس مما يقتضيه المقام وإن أول بأن يقال في زعمكم أني استخلف من غالب أمره الإفساد وسفك الدماء من غير أن يكون له مزية من جهة أخرى إذ لا تعلق له بأمرهم بالإنباء وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه

٣٢

قالوا استئناف واقع موقع الجواب كأنه قيل فماذا قالوا حينئذ هل خرجوا عن عهده ماكلفوه أولا فقيل قالوا

سبحانك قيل هو علم للتسبيح ولا يكاد يستعمل الا مضافا وقد جاء غير مضاف على الشذوذ غير منصرف للتعريف والألف والنون المزيدتين كما في قوله

 ... سبحان من علقمة الفاخر ...

وأما ما في قوله

 ... سبحانه ثم سبحانا نعوذ به ...

فقيل صرفه للضرورة

وقيل إنه مصدر منكر كغفران لا اسم مصدر ومعناه على الأول نسبحك عما لا يليق بشأنك الأقدس من الأمور التي من جملتها خلو أفعالك من الحكم والمصالح وعنوا بذلك تسبيحا ناشئا عن كمال طمأنينة النفس والإيقان باشتمال استخلاف آدم عليه السلام على الحكم البالغة وعلى الثاني تنزهت عن ذلك تنزها ناشئا عن ذاتك وأراد به انهم قالوه عن إذعان لما عملوا إجمالا بأنه عليه السلام يكلف ما كلفوه وأنه يقدر على ما قد عجزوا عنه مما يتوقف عليه الخلافة و قوله عز وعلا

لا علم لنا إلا ما علمتنا اعتراف منهم بالعجز عما كلفوه إذ معناه لا علم لنا إلا ما عملتناه بحسب فابليتنا من العلوم المناسبة لعالمنا ولا قدرة بنا على ما هو خارج عن دائرة استعدادنا حتى لو كنا مستعدين لذلك لأفضته علينا وما في ما علمتنا موصولة حذف من صلتها عائدها أو مصدرية ولقد نفوا عنهم العلم بالأسماء على وجه المبالغة حيث لم يقتصروا على بيان عدمه بأن قالوا مثلا لا علم لنا بها بل جعلوه من جملة مالا يعلمونه وأشعروا بأن كونه من تلك الجملة غنى عن البيان

إنك أنت العليم الذي لا يخفى عليه خافية وهذا إشارة إلى تحقيقهم لقوله تعالى إني أعلم مالا تعلمون

الحكيم أي المحكم لمصنوعاته الفاعل لها حسبما يقتضيه الحكمة والمصلحة وهو خبر بعد خبر أو صفة للأول وانت ضمير الفصل لا محل له من الإعراب أو له محل منه مشارك لما قبله كما قاله الفراء أو لما بعده كما قاله الكسائي

وقيل تأكيد للكاف كما في قولك مررت بك أنت

وقيل مبتدأ خبره ما بعده والجملة خبرأن وتلك الجملة تعليل لما سبق من قصر علمهم بما علمهم اللّه تعالى وما يفهم من ذلك من علم آدم عليه السلام بما خفى عليهم فكأنهم قالوا أنت العالم بكل المعلومات التي من جملتها استعداد آدم عليه السلام لما نحن بمعزل من الاستعداد له من العلوم الخفية المتعلقه بما في الأرض من انواع المخلوقات التي عليها يدور فلك خلافة الحكيم الذي لا يفعل ألا ما تقتضيه الحكمة ومن جملته تعليم آدم عليه السلام ما هو قابل من العلوم الكلية والمعارف الجزئية المتعلقة بالأحكام الواردة على ما في الأرض وبناء امر الخلافة

٣٣

 قال استئناف كما سلف

يا آدم أنبئهم أي أعلمهم أوثر على أنبئى كما وقع في أمر الملائكة مع حصول المراد معه أيضا وهو ظهور فضل آدم عليهم عليهم السلام إبانة لما بين الأمرين من التفاوت الجلى وإيذانا بأن علمه عليه السلام بها أمر واضح غير محتاج إلى ما يجرى مجرى الامتحان وأنه عليه السلام حقيق بأن يعلمها وغيره وقرئ بقلب الهمزة ياء وبحذفها أيضا والهاء مكسورة فيهما

بأسمائهم التي عجزوا عن علمها واعترفوا بتقاصر هممهم عن بلوغ مرتبتها

فلما أنباهم بأسمائهم الفاء فصيحة عاطفة للجملة الشرطية على محذوف يقتضيه المقام وينسحب عليه الكلام للإيذان بتقروة وغناه عن الذكر وللإشعار بتحققه في اسرع ما يكون كما في قوله عز و جل فلما رآه مستقرا عنده بعد قوله سبحانه انا آتيك به قبل ان يرتد اليك طرفك واظهار الاسماء في موقع الإضمار لإظهار كمال العناية بشأنها والايذان بأنه عليه السلام انبأهم بها على وجه التفصيل دون الإجمال والمعنى فأنبأهم بأسمائهم مفصلة وبين لهم احوال كل منهم وخواصه واحكامه المتعلقة بالمعاش والمعاد فعلموا ذلك لما راوا انه عليه السلام لم يتلعثم في شئ من التفاصيل التي ذكرها مع مساعدة ما بين الاسماء والمسميات من المناسبات والمشاكلات وغير ذلك من القرائن الموجبة لصدق مقالاته عليه السلام فلما انبأهم بذلك

قال عز و جل تقريرا لما مر من الجواب الاجمالي واستحضارا له

الم اقل لكم اني اعلم غيب السموات والارض لكن لا لتقرير نفسه كما في قوله تعالى الم يعدكم ربكم وعدا حسنا ونظائره بل لتقرير ما يفيده من تحقق دواعي الخلافة في آدم عليه السلام لظهور مصداقه وايراد ما لا يعلمون بعنوان الغيب مضافا الى السموات والارض للمبالغة في بيان كمال شمول علمه المحيط وغاية سعته مع الإيذان بأن ما ظهر من عجزهم وعلم آدم عليه السلام من الامور المتعلقة بأهل السموات واهل الارض وهذا دليل واضح على ان المراد بما لا تعلمون فيما سبق ما اشير اليه هناك كأنه قيل الم اقل لكم اني اعلم فيه من دواعي الخلافة مالا تعلمونه فيه هو هذا الذي عاينتموه وقوله تعالى

واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون عطف على جملة الم اقل لكم لا على اعلم اذهوا غير داخل تحت القول وما في الموضعين موصولة حذف عائدها أي اعلم ما تبدونه وما تكتمونه وتغيير الأسلوب للإيذان باستمرار كتمهم قيل المراد بما يبدون قولهم اتجعل الخ وبما يكتمون استبطانهم انهم احقاء بالخلافة وانه تعالى لا يخلق خلقا افضل منهم روى انه تعالى لما خلق آدم عليه السلام رات الملائكة فطرته العجيبة وقالوا ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقا الا كنا اكرم عليه منه

وقيل هو ما اسره ابليس في نفسه من الكبر وترك السجود فإسناد الكتمان حينئذ الى الجميع من قبيل قولهم بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد من بينهم قالوا في الآية الكريمة دلالة على شرف الانسان ومزية العلم وفضله على العبادة وأن ذلك هو المناط للخلافة وأن التعليم يصح إطلاقه على اللّه تعالى وإن لم يصح إطلاق المعلم عليه لاختصاصه عادة بمن يحترف به وأن اللغات توقيفية إذ الأسماء تدل على الألفاظ بخصوص أو بعموم وتعليمها ظاهر في إلقائها على المتعلم مبينا له معانيها وذلك يستدعي سابقة وضع وما هو إلا من اللّه تعالى وأن مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم والإلزام التكرار وأن علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة والحكماء منعوا ذلك في الطبقة العليا منهم وحملوا على ذلك قوله تعالى وما منا إلا له مقام معلوم وأن آدم أفضل من هؤلاء الملائكة لأنه عليه السلام أعلم منهم وأنه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها

٣٤

وإذ قلنا للملائكة عطف على الظرف الأول منصوب بما نصبه من المضمر أو بناصب مستقل معطوف على ناصبه عطف القصة على القصة أي واذكر وقت قولنا لهم

وقيل بفعل دل عليه الكلام أي أطاعوا وقت قولنا الخ وقد عرفت ما في أمثاله وتخصيص هذا القول بالذكر مع كون مقتضى الظاهر إيراده على منهاج ما قبله من الأقوال المحكية المتصلة به للإيذان بأن مافي حيزه نعمة جليلة مستقلة حقيقة بالذكر والتذكير على حيالها والالتفات إلى التكلم لإظهار الجلالة وتربية المهابة مع ما فيه من تأكيد الاستقلال وكذا إظهار الملائكة في موضع الإضمار والكلام في اللام وتقديمها مع مجرورها على المفعول كما مر وقرئ بضم تاء الملائكة اتباعا لضم الجيم في قوله تعالى

 اسجدوا لآدم كما قرئ بكسر الدال في قوله تعالى الحمد للّه اتباعا لكسر اللام وهي لغة ضعيفة والسجود في اللغة الخضوع والتطامن وفي الشرع وضع الجبهة على الأرض على قصد العبادة فقيل أمروا بالسجود له عليه السلام على وجه التحية والتكرمة تعظيما له واعترافا بفضله وأداء لحق التعليم واعتذارا عما وقع منهم في شأنه

وقيل أمروا بالسجود له تعالى وإنما كان آدم قبلة لسجودهم تفخيما لشأنه أو سببا لوجوبه فكأنه تعالى لما برأه أنموذجا للمبدعات كلها ونسخة منطوية على تعلق العالم الروحاني بالعالم الجسماني وامتزاجها على نمط بديع أمرهم بالسجود له تعالى لما عاينوا من عظيم قدرته فاللام فيه كما في قول حسان رضي اللّه عنه

 ... أليس أول من صلى لقبلتكم ... وأعرف الناس بالقرآن والسنن ...

أو في قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس والأول هو الأظهر وقوله عز و جل

فسجدوا عطف على قلنا والفاء لإفادة مسارعتهم إلى الامتثال وعدم تلعثمهم في ذلك روى عن وهب أن أول من سجد جبريل ثم ميكائيل ثم اسرافيل ثم عزرائيل ثم سائر الملائكة عليهم السلام وقوله تعالى

إلا إبليس استثناء متصل لما أنه كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة متصفا بصفاتهم فغلبوا عليه في فسجدوا ثم استثنى استثناء واحد منهم أو لأن من الملائكة جنسا يتوالدون يقال لهم الجن كما روى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما وهو منهم أو لأن الجن أيضا كانوا مأمورين بالسجود له لكن استغنى بذكر الملائكة عن ذكرهم أو منقطع وهو اسم أعجمي ولذلك لم ينصرف ومن جعله مشتقا من الإبلاس وهو إلباس قال إنه مشبه بالعجمة حيث لم يسم به أحد فكان كالاسم الأعجمي واعلم أن الذي تقتضيه هذه الآية الكريمة والتي في سورة الأعراف من قوله تعالى ثم قلنا للملائكة إسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس الآية والتي في سورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه من قوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا الآية أن سجود الملائكة إنما ترتب على الأمر التنجيزي الوارد بعد خلقه وتسويته ونفخ الروح فيه البته كما يلوح به حكايةامتثالهم بعبارة السجود دون الوقوع الذي به ورد الأمر التعليقي ولكن ما في سورة الحجر من  قوله عز وعلا وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون وما في سورة ص من قوله تعالى إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين إلى آخر الآية يستدعيان بظاهرهما ترتبه على ما فيهما من الأمر التعليقي من غير أن يتوسط بينهما شئ غير ما تفصح عنه الفاء الفصيحة من الخلق والتسوية ونفخ الروح فيه عليه السلام وقد روى عن وهب أنه كان السجود كما نفخ فيه الروح بلا تأخير وتأويل الايات السابقة يحمل ما فيها من الأمر على حكاية الأمر التلعيقي بعد تحقق المعلق به إجمالا فإنه حينئذ يكون في حكم التنجيز يأباه ما في سورة الأعراف من كلمة ثم المنادية بتأخر ورود الأمر عن التصوير المتأخر عن الخلق المتأخر عن الأمر التعليقي والاعتذار بحمل التراخي على الرتبى أو التراخي في الإخبار أو بأن الأمر التعليقي قبل تحقق المعلق به لما كان في عدم إيجاب المأمور به بمنزلة العدم جعل كأنه إنما حدث بعد تحققه فحكى على صورة التجيز يؤدى بعد اللتيا واللتي إلى أن ما جرى بينه وبينهم عليهم السلام في شأن الخلافة وما قالوا فيه وما سمعوا إنما جرى بعد السجود المسبوق بمعرفة جلالة منزلته عليه السلام وخروج إبليس من البين باللعن الؤبد لعناده وبعد مشاهدتهم لذلك كله عيانا وهل هو إلا خرق لقضية العقل والنقل والالتجاء في التفصى عنه إلى تأويل نفخ الروح بحمله على ما يعم إفاضة ما به حياة النفوس التي من جملتها تعليم السماء تعسف ينبئ عن ضيق المجال فالذي يقتضيه التحقيق ويستدعيه النظر الأنيق بعد التصفح في مستودعات الكتاب المكنون والتفحص عما فيه من السر المخزون أن سجودهم له عليه السلام إنما ترتب على الأمر التنجيزي المتفرع على ظهور فضله عليه السلام المبنى على المجاورة المسبوقة بالإخبار بخلافته المنتظم جميع ذلك في سلك ما نيط به الأمر التعليقي من التسوية ونفخ الروح إذ ليس من قضيته وجوب السجود عقيب نفخ الروح فيه فإن الفاء الجزائية ليست بنص في وجوب وقوع مضمون الجزاء عقيب وجود الشرط من غير تراخ للقطع بعدم وجوب السعى عقيب النداء لقوله تعالى إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الآية وبعدم وجوب إقامة الصلاة غب الاطمئنان لقوله تعالى فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة بل إنما الوجوب عند دخول الوقت كيف لا والحكمة الداعية إلى ورود ما نحن فيه من الأمر التعليقي أثر ذي أثير إنما هي حمل الملائكة عليهم السلام على التأمل في شأنه عليه السلام لتدبروا في أحواله طرا ويحيطوا بما لديه خبرا و يستفهموا ما عسى يستبهم عليهم في أمره عليه السلام لابتنائه على حكم أبيه وأسرار خفية طويت عن علومهم ويقفوا على جلية الحال قبل ورود الأمر التنجيزي وتحتم الامتثال وقد قالوا بحسب ذلك ما قالوا وعاينوا ما عاينوا وعدم نظم الأمر التنجيزي في سلك الأمور المذكورة في السورتين عند الحكاية لا يستلزم عدم انتظامه فيه عند وقوع المحكى كما أن عدم ذكر الأمر التعليقي عند حكاية الأمر التنجيزي في السورة الكريمة المذكورة لا يوجب عدم مسبوقيته به فإن حكاية كلام واحد على أساليب مختلفة حسبما يقتضيه المقام ويستدعيه حسن الانتظام ليست بعزيزة في الكتاب العزيز وناهيك بما نقل في توجيه قوله تعالى بشرا مع عدم سبق معرفة الملائكة عليهم السلام بذلك وحيث صير إليه مع أنه لم يرد به نقل فما ظنك بما قد وقع التصريح به في مواضع عديدة فلعله قد ألقى إليهم ابتداء جميع ما يتوقف عليه الأمر التنجيزي إجمالا بأن قيل مثلا إني خالق بشرا من كذا وكذا وجاعل أياه خليفة في الأرض فإذا سويته ونفخت فيه من روحي وتبين لكم شأنه فقعوا له ساجدين فخلقه فسواه ونفخ فيه الروح فقالوا عند ذلك ما قالوا أو ألقى إليهم خبر الخلافة بعد تحقق الشرائط المعدودة بأن قيل أثر نفخ الروح فيه إني جاعل هذا خليفة في الأرض فهناك ذكروا في حقه عليه السلام ما ذكروا فأيده اللّه عز و جل بتعليم الأسماء فشاهدوا منه ما شاهدوا فعند ذلك ورد الأمر التنجيزي اعتناء بشأن المأمور به وتعيينا لوقته وقد حكى بعض الأمور في بعض المواطن وبعضها في بعضها اكتفاء بما ذكر في كل موطن عما ترك في موطن آخر والذي يحسم مادة الاشتباه أن ما في سورة ص من قوله تعالى إذ قال ربك للملائكة الخ بدل من قول تعالى إذ يختصمون فيما قبله من قوله تعالى ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون أي بكلامهم عند اختصامهم والمراد بالملأ الأعلى وآدم عليهم السلام وإبليس حسبما أطبق عليه جمهور الأمة وباختصامهم ما جرى بينهم في شأن خلافة آدم عليه السلام من التقاول الذي من جملته ما صدر عنه عليه السلام من الإنباء بالأسماء ومن قضية البدلية وقوع الاختصام المذكور في تضاعيف ما ذكر فيه تفصيلا من الأمر التعليقي وما علق به من الخلق والتسوية ونفخ الروح فيه وما ترتب عليه من سجود الملائكة عليهم السلام وعناد إبليس وما تبعه من لعنه وإخراجه من بين الملائكة وما جرى بعده من الأفعال والأقوال وإذ ليس تمام الاختصام بعد سجود الملائكة ومكابرة أبليس بالأسماء حينئذ فهو إذن بعد نفخ الروح وقبل السجود حتما بأحد الطريقين واللّه سبحانه أعلم بحقيقة الأمر

أبي واستكبر استئناف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء وأنه لم يكن للتردد أو للتأمل والإباء الامتناع بالاختيار والتكبر أن يرى نفسه أكبر من غيره والاستكبار طلب ذلك بالتشبع أي امتنع عما أمر به واستكبر من ان يعظمه أو يتخذه وصله في عبادة ربه وتقديم الإباء على الاستكبار مع كونه مسببا عنه لظهوره ووضوح أثره واقتصر في سورة ص على ذكر الاستكبار اكتفاء به وفي سورة الحجر على ذكر الإباء حيث قيل أبي أن يكون مع الساجدين

و كان من الكافرين أي في علم اللّه تعالى إذ كان أصله من كفره الجن فلذلك ارتكب ما ارتكبه على ما أفصح عنه قوله تعالى كان من الجن ففسق عن أمر ربه فالجملة اعتراضية مقررة لما سبق من الإباء والاستكبار أو صار منهم باستقباح أمره تعالى أياه بالسجود لآدم عليه السلام زعما منه أنه أفضل منه والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالخضوع للمفضول كما يفصح عنه قوله أنا خير منه حين قيل له ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين لا بترك الواجب وحده فالجملة معطوفة على ما قبلها وإيثار الواو على الفاء للدلالة على أن محض الإباء والاستكبار كفر لا أنهما سببان له كما تفيد الفاء

٣٥

وقلنا شروع في حكاية ما جرى بينه تعالى وبين آدم عليه السلام بعد تمام ما جرى بينه تعالى وبين الملائكة وإبليس من الاقوال والافعال وقد تركت حكاية توبيخ ابليس وجوابه ولعنه واستظهاره وانظاره اجتزاء بما فصل في سائر السور الكريمة وهو عطف على قلنا للملائكة ولا يقدح في ذلك اختلاف وقتيهما فإن المراد بالزمان المدلول عليه بكلمة اذ زمان ممتد واسع للقولين

وقيل هو عطف على اذ قلنا بإضمار اذ وهذا تذكير لنعمة اخرى موجبة للشكر مانعة من الكفر وتصدير الكلام بالنداء في قوله تعالى

يا آدم اسكن انت وزوجك الجنة للتنبيه على الاهتمام بتلقي المأمور به وتخصيص اصل الخطاب به عليه السلام للإيذان بأصالته في مباشرة المأمور به واسكن من السكنى وهو اللبث والإقامة والاستقرار دون السكون الذي هو ضد الحركة وانت ضميرأ كد به المستكن ليصح العطف عليه

واختلف في وقت خلق زوجه فذكر السدى عن ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة رضوان اللّه تعالى عليهم اجمعين ان اللّه تعالى لما اخرج ابليس من الجنة واسكنها آدم بقي فيها وحده وما كان معه من يستأنس به فألقى اللّه تعالى عليه النوم ثم اخذ ضلعا من جانبه الايسر ووضع مكانه لحما وخلق حواء منه فلما استيقظ وجدها عند رأسه قاعدة فسألها ما انت قالت امرأة قال ولم خلقت قالت لتسكن الى فقالت الملائكة تجربة لعلمه من هذه قال امرأة قالوا لم سميت امرأة قال لانها من المرء اخذت فقالوا ما اسمها قال حواء قالوا لم سميت حواء قال لانها خلقت من شئ حي

وروى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال بعث اللّه تعالى جندا من الملائكة فحملوا آدم وحواء على سرير من ذهب كما يحمل الملوك ولباسهما النور حتى ادخلوهما الجنة وهذا كما ترى يدل على خلقها قبل دخول الجنة والمراد بها دار الثواب لانها المعهودة

وقيل هي جنة بأرض فلسطين أو بين فارس وكرمان خلقها اللّه تعالى امتحانا لآدم عليه السلام وحمل الإهباط على النقل منها الى ارض الهند كما في قوله تعالى اهبطوا مصرا لما ان خلقه عليه السلام كان في الارض بلا خلاف ولم يذكر في هذه القصة رفعه الى السماء ولو وقع ذلك لكان اولى بالذكر والتذكير لما انه من اعظم النعم ولأنها لو كانت دار الخلد لما دخلها إبليس

وقيل إنها كانت في السماء السابعة بدليل اهبطوا ثم إن الاهباط

الأول كان منها الى السماء الدنيا

والثاني منها الى الارض

وقيل الكل ممكن والأدلة النقلية متعارضة فوجب التوقف وترك القطع

وكلا منها أي من ثمارها وانما وجه الخطاب اليهما تعميما للتشريف والترفيه ومبالغة في ازالة العلل والاعذار وايذانا بتساويهما في مباشرة المأمور به فإن حواء اسوة له عليه السلام في الاكل بخلاف السكن فإنها تابعة له في

رغدا صفة للمصدر المؤكد أي اكلا واسعا رافها

حيث شئتما أي أي مكان اردتما منها وهذا كما ترى اطلاق كلي حيث ابيح لهما الاكل منها على وجه التوسعة البالغة المزيحة للعلل ولم يحضر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات حتى لايبقى لهما عذر في تناول ما منعا منه بقوله تعالى

 ولا تقربا بفتح الراء من قربت الشيء بالكسر أقربه بالفتح إذ التيست به وتعرضت له وقال الجوهري قرب بالضم يقرب قربا إذا دنا وقربته بالكسر قربانا دنوت منه

هذه الشجرة نصب على أنه بدل من اسم الاشارة أو نعت له بتأويلها بمشتق أي هذه الحاضرة من الشجرة أي لاتأكلا منها وانما علق النهي بالقربان منها مبالغة في تحريم الأكل ووجوب الاجتناب عنه والمراد بها الحنطة أو العنبة أو التينة

وقيل هي شجرة من اكل منها احدث والأولى عدم تعيينها من غير قاطع وقرئ هذا بالياء وبكسر شين الشجرة وتاء تقربا وقرئ الشيرة بكسر الشين وفتح الياء

فتكونا من الظالمين مجزوم على أنه معطوف على تقربا أو منصوب على أنه جواب للنهي واياما كان فالقرب أي الاكل منها سبب لكونهما من الظالمين أي الذين ظلموا انفسهم بارتكاب المعصية أو نقصوا حظوظهم بمباشرة ما يخل بالكرامة والنعيم أو تعدوا حدود اللّه تعالى

٣٦

فأزلهما الشيطان عنها أي اصدر زلتهما أي زلقهما وحملهما على الزلة بسببها ونظيره عن هذا ما في قوله تعالى وما فعلته عن امري أو أزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما وابعدهما عنها يقال زل عني كذا إذا ذهب عنك ويعضده قراءة أزالهما وهما متقاربان في المعنى فإن الإزلال أي الإزلاق يقتضي زوال الزال عن موضعه البتة وازلاله قوله لهما هل ادلكم على شجرة الخلد وملك لا يبلى وقوله ما نهاكما ربكما عن الشجرة إلا ان تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ومقاسمته لهما أني لكما لمن الناصحين وهذه الآيات مشعرة بأنه عليه السلام لم يؤمر بسكنى الجنة على وجه الخلود بل على وجه التكرمة والتشريف لما قلد من خلافة الأرض إلى حين البعث إليها

واختلف في كيفية توصله إليهما بعد ما قيل له اخرج منها فإنك رجيم فقيل إنه إنما منع من الدخول على وجه التكرمة كما يدخلها الملائكة عليهم السلام ولم يمنع من الدخول للوسوسة ابتلاء لآدم وحواء

وقيل قام عند الباب فناداهما

وقيل تمثل بصورة دابة فدخل ولم يعرفه الخزنة

وقيل دخل في فم الحية فدخل معها

وقيل أرسل بعض أتباعه فأزلهما والعلم عند اللّه سبحانه

 فأخرجهما مما كانا فيه أي من الجنة إن كان ضمير عنها للشجرة والتعبير عنها بذلك للإيذان بفخامتها وجلالتها وملابستهما له أي من المكان العظيم الذي كانا مستقرين فيه أو من الكرامة والنعيم إن كان الضمير للجنة

وقلنا اهبطوا الخطاب لآدم وحواء عليهما السلام بدليل قوله تعالى اهبطا منها جميعا وجمع الضمير لأنهما أصل الجنس فكأنهما الجنس كلهم

وقيل لهما وللحية وابليس على انه اخرج منها ثانية بعد ما كان يدخلها للوسوسة أو يدخلها مسارقة أو اهبط من السماء وقرئ بضم الباء

بعضكم لبعض عدو حال استغنى فيها عن الواو بالضمير أي متعادين يبغى بعضكم على بعض بتضليله أو استئناف لا محل له من الاعراب وافراد العدو إما للنظر إلى لفظ البعض

وأما لأن وزانة وازن المصدر كالقبول

ولكم في الارض التي هي محل الاهباط والظرف متعلق بما تعلق به الخبر اعني لكم من

الاستقرار

مستقر أي استقرار أو موضع استقرار

ومتاع أي تمتع بالعيش وانتفاع به

الى حين هو حين الموت على أن المغيا تمتع كل فرد من المخاطبين أو القيامة على أنه تمتع الجنس في ضمن بعض الأفراد والجملة كما قبلها في كونها حالا أي مستحقين للإستقرار والتمتع أو استئنافا

٣٧

فتلقى آدم من ربه كلمات أي استقبلها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها ووفق لها وقرئ بنصب آدم ورفع كلمات دلالة على أنها استقبلته بلغته وهي قوله تعالى ربنا ظلمنا أنفسنا الآية

وقيل سبحانك اللّهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك لا اله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي انه لا يغفر الذنوب إلا أنت وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال يا رب ألم تخلقني بيدك قال بلى قال يا رب ألم تنفخ في من روحك قال بلى قال يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك قال بلى قال الم تسكني جنتك قال بلى قال يا رب اني تبت واصلحت أراجعي انت الى الجنة قال نعم والفاء للدلالة على أن التوبة حصلت عقيب الأمر بالهبوط قبل تحقق المأمور به والتعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة اليه عليه السلام للتشريف والإيذان بعليته لإلقاء الكلمات المدلول عليه بتلقيها

فتاب عليه أي رجع عليه بالرحمة وقبول التوبة والفاء للدلالة على ترتبه على تلقي الكلمات المتضمن لمعنى التوبة التي هي عبارة عن الاعتراف بالذنب والندم عليه والعزم على عدم العود اليه واكتفى بذكر شأن آدم عليه السلام لما أن حواء تبع له في الحكم ولذلك طوى ذكر النساء في أكثر مواقع الكتاب والسنة

انه هو التواب أي الرجاع على عباده بالمغفرة أو الذي يكثر اعانتهم على التوبة واصل التوب الرجوع فإذا وصف به العبد كان رجوعا عن المعصية وإذا وصف به الباري عز وعلا اريد به الرجوع عن العقاب إلى المغفرة

الرحيم المبالغ في الرحمة وفي الجمع بين الوصفين وعد بليغ للتائب بالإحسان مع العفو والغفران والجملة تعليل لقوله تعالى فتاب عليه

٣٨

قلنا استئناف مبني على سؤال ينسحب عليه الكلام كأنه قيل فماذا وقع بعد قبول توبته فقيل قلنا

اهبطوا منها جميعا كرر الأمر بالهبوط إيذانا بتحتم مقتضاه وتحققه لا محالة ودفعا لما عسى يقع في امنيته عليه السلام من استتباع قبول التوبة للعفو عن ذلك واظهار لنوع رأفة به عليه السلام لما بين الأمرين من الفرق النير كيف لا

والأول مشوب بضرب سخط مذيل ببيان أن مهبطهم دار بلية وتعاد لا يخلدون فيها

والثاني مقرون بوعد ايتاء الهدى المؤدي الى النجاة والنجاح

وأما ما فيه من وعيد العقاب فليس بمقصود من التكليف قصدا أوليا بل انما هو دائر على سوء اختيار المكلفين قيل وفيه تنبيه على أن الحازم يكفيه بالردع عن مخالفة حكم اللّه تعالى مخافة الاهباط المقترن بأحد هذين الأمرين فكيف بالمقترن بهما فتأمل

وقيل الأول من الجنة إلى السماء الدنيا

والثاني منها الى الأرض ويأباه التعرض لإستقرارهم في الأرض في الأول ورجوع الضمير إلى الجنة في الثاني وجميعا حال في اللفظ وتأكيد في المعنى كأنه قيل اهبطوا أنتم أجمعون ولذلك لا يستدعى الاجتماع على الهبوط في زمان واحد كما في قولك جاءوا جميعا بخلاف قولك جاءوا معا

فإما يأتينكم منى هدى الفاء لترتيب ما بعدها على الهبوط المفهوم من الأمر به

وأما مركبه من أن الشرطية وما المزيدة المؤكدة لمعناها والفعل في محل الجزم بالشرط لأنه مبنى لاتصاله بنون التأكيد

وقيل معرب مطلقا

وقيل مبنى مطلقا والصحيح التفصيل إن باشرته النون بنى وإلا أعرب نحو هل يقومان وتقديم الظرف على الفاعل لما مر غير مرة والمعنى إن يأتينكم منى هدى برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم وجواب الشرط قوله تعالى

فمن تبع هداى فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون كما في قولك إن جئتنى فإن قدرت أحسنت إليك وإيراد كلمة الشك مع تحقيق الإتيان لا محالة للإيذان بأن الإيمان باللّه والتوحيد لا يشترط فيه بعثه الرسل وإنزال الكتب بل يكفى في وجوبه إفاضة العقل ونصب الأدلة الآفاقية والأنفسية والتمكين من النظر والاستدلال أو للجرى على سنن العظماء في إيراد عسى ولعل في مواقع القطع والجزم والمعنى أن من تبع هداى منكم فلا خوف عليهم في الدارين من لحوق مكروه ولا هم يحزنون من فوات مطلوب أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم نفس الخوف والحزن أصلا بل يستمرون على السرور والنشاط كيف لا واستشعار الخوف والخشية استعظاما لجلال اللّه سبحانه وهيبته واستقصارا للجد والسعى في إقامة حقوق العبودية من خصائص الخواص والمقربين والمراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامها كما يتوهم من كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا لما تقرر في موضعه أن النفى وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام وإظهار الهدى مضافا إلى ضمير الجلالة لتعظيمه وتأكيد وجوب اتباعه أو لأن المراد بالثاني ما هو أعم من الهدايات التشريعية وما ذكر من إفاضة العقل ونصب الأدلة الافاقية والأنفسية كما قيل وقرئ هدى على لغة هذيل ولا خوف بالفتح

٣٩

والذين كفروا وكذبوا بآياتنا عطف على من تبع الخ قسيم له كأنه قيل ومن لم يتبعه وإنما أوثر عليه ما ذكر تفظيعا لحال الضلالة وإظهار لكمال قبحها وإيراد الموصول بصيغة الجمع للأشعار بكثرة الكفرة والجمع بين الكفر والتكذيب للإيذان بتنوع الهدى إلى ما ذكر من النوعين وإيراد نون العظمة لتربية المهابة وإدخال الروعة وإضافة الآيات إليها لإظهار كمال قبح التكذيب بها أي والذين كفروا برسلنا المرسلة إليهم وكذبوا بآياتنا المنزلة عليهم

وقيل المعنى كفروا باللّه وكذبوا بآياته التي أنزلها على الأنبياء عليهم السلام أو أظهرها بأيديهم من المعجزات

وقيل كفروا بالآيات جنانا وكذبوا بها لسانا فيكون كلا الفعلين متوجها إلى الجار والمجرور والأية في الأصل العلامة الظاهرة قال النابغة

 ... توهمت آيات لها فعرفتها ... لستة أعوام وذا العام سابع ...

ويقال للمصنوعات من حيث دلالتها على الصانع تعالى وعلمه وقدرته ولكل طائفة من كلمات القرآن المتميزة عن غيرها بفصل لأنها علامة لانفصال ما قبلها مما بعدها

وقيل لأنها تجمع كلمات منه فيكون من قولهم خرج فلان بآيتهم أي بجماعتهم قال ... خرجنا من البيتين لاحى مثلنا

 ... بآيتنا نزجى النعاج المطافلا ...

واشتقاقها من أي لأنها تبين أيا من أي أو أوى إليه أي رجع وأصلها أوية أو أية فأبدلت عينها ألفا على غير قياس أو أوية أو أبيه كرمكه فأعلت أو آتية كقائلة فحذفت الهمزة تخفيفا

أولئك إشارة إلى الموصوف باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتكذيب وفيه إشعار بتميزهم بذلك الوصف تميزا مصححا للإشارة الحسية وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم فيه وهو مبتدأ وقوله عز و جل

أصحاب النار أي ملازموها وملابسوها بحيث لا يفارقونها خبرة والجملة خبر للموصول أو أسم الإشارة بدل من الموصول أو عطف بيان له واصحاب النار خبر له وقوله تعالى

هم فيها خالدون في حيز النصب على الحالية لورود التصريح به في قوله تعالى أصحاب النار خالدين فيها وقد جوز كونه حالا من النار لإشتماله على ضميرها والعامل معنى الاضافة أو اللام المقدرة أو في محل الرفع على أنه خبر آخر لألئك على رأي من جوز وقوع الجملة خبرا ثانيا وفيها متعلق بخالدون والخلود في الأصل المكث الطويل وقد انعقد الاجماع على أن المراد به الدوام

٤٠

يا بني اسرائيل تلوين للخطاب وتوجيه له الى طائفة خاصة من الكفرة المعاصرين للنبي لتذكيرهم بفنون النعم الفائضة عليهم بعد توجيهه الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وأمره بتذكير كلهم بالنعمة العامة لبني آدم قاطبة بقوله تعالى وإذا قال ربك الخ وإذ قلنا للملائكة الخ لأن المعنى كما أشير اليه بلغهم كلامي واذكر لهم إذ جعلنا أباهم خليفة في الأرض ومسجودا للملائكة عليهم السلام وشرفناه بتعليم الأسماء وقبلنا توبته والابن من البناء لأنه مبنى أبيه ولذلك ينسب المصنوع الى صانعه فيقال أبو الحرب وبنت فكر واسرائيل لقب يعقوب عليه السلام ومعناه بالعبرية صفوة اللّه

وقيل عبد اللّه وقرئ اسرائيل بحذف الياء واسرال بحذفهما واسرائيل بقلب الهمزة ياء واسرائيل بهمزة مفتوحة واسرائيل بهمزة مكسورة بين الراء واللام وتخصيص هذه الطائفة بالذكر والتذكير لما أنهم اوفر الناس نعمة واكثرهم كفرا بها

اذكروا نعمتي التي انعمت عليكم بالتفكر فيها والقيام بشكرها وفيه اشعار بأنهم قد نسوها بالكلية ولم يخطروها بالبال لا أنهم اهملوا شكرها فقط وإضافة النعمة الى ضمير الجلالة لتشريفها وإيجاب تخصيص شكرها به تعالى وتقييد النعمة بهم لما أن الإنسان مجبول على حب النعمة فإذا نظر إلى ما فاض عليه من النعم حمله ذلك على الرضا والشكر قيل أريد بها ما أنعم به على آبائهم من النعم التي سيجيء تفصيلها وعليهم من فنون النعم التي أجلها إدراك عصر النبي عليه السلام وقرئ اذكروا من الافتعال ونعمتي بإسكان الياء واسقاطها في الدرج وهو مذهب من لا يحرك الياء المكسور ما قبلها

وأوفوا بعهدي بالإيمان والطاعة

اوفوا بعهدكم بحسن الإثابة والعهد يضاف إلى كل واحد ممن يتولى طرفيه ولعل الأول مضاف إلى الفاعل والثاني إلى المفعول فإنه تعالى عهد اليهم بالإيمان والعمل الصالح بنصب الدلائل وارسال الرسل وانزال الكتب ووعد لهم بالثواب على حسناتهم وللوفاء بهما عرض عريض فأول مراتبه منا هو الإتيان بكلمتي الشهادة ومن اللّه تعالى حقن الدماء والاموال وآخرها منا الاستغراق في بحر التوحيد بحيث نغفل عن انفسنا فضلا عن غيرنا ومن اللّه تعالى الفوز باللقاء الدائم

وأما ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما اوفوا بعهدي في اتباع محمد اوف بعهدكم في رفع الآصار والأغلال وعن غيره اوفوا بأداء الفرائض وترك الكبائر اوف بالمغفرة والثواب أو اوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم اوف بالكرامة والنعيم المقيم فبالنظر الى الوسائط

وقيل كلاهما مضاف الى المفعول والمعنى اوفوا بما عاهدتموني من الإيمان والتزام الطاعة اوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة وتفصيل العهدين قوله تعالى ولقد اخذ اللّه ميثاق بني اسرائيل الى قوله ولأدخلنكم جنات الخ وقرئ اوف بالتشديد للمبالغة والتأكيد

وإياي فارهبون فيما تأتون وما تذرون خصوصا في نقض العهد وهو آكد في إفادة التخصيص من إياك نعبد لما فيه مع التقديم من تكرير المفعول والفاء الجزائية الدالة على تضمن الكلام معنى الشرط كأنه قيل ان كنتم راهبين شيئا فارهبوني والرهبة خوف معه تحر زو الآية متضمنة للوعد والوعيد ودالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد وان المؤمن ينبغي ان لا يخاف الا اللّه تعالى

٤١

وآمنوا بما انزلت افرد الإيمان بالقرآن بالأمر به لما انه العمدة القصوى في شأن الوفاء بالعهود

مصدقا لما معكم من التوراة والتعبير عنها بذلك للإيذان بعلمهم بتصديقه لها فإن المعية مئنة لتكرر المراجعة اليها والوقوف على ما في تضاعيفها المؤدى الى العلم بكونه مصدقا لها ومعنى تصديقه للتوراة انه نازل حسبما نعت فيها أو من حيث انه موافق لها في القصص والمواعيد والدعوة الى التوحيد والعدل بين الناس والنهى عن المعاصي والفواحش

وأما ما يتراءى من مخالفته لها في بعض جزئيات الاحكام المتفاوته بسبب تفاوت الاعصار فليست بمخالفة في الحقيقة بل هي موافقة لها من حيث ان كلا منها حق بالإضافة الى عصره وزمانه متضمن للحكم التي عليها يدور فلك التشريع وليس في التوراة دلالة على ابدية احكامها المنسوخة حتى يخالفها ما ينسخها وإنما تدل على مشروعيتها مطلقا من غير تعرض لبقائها وزوالها بل نقول هي ناطقة بنسخ تلك الاحكام فان نطقها بصحة القرآن الناسخ لها نطق بنسخها فإذن مناط المخالفة في الاحكام المنسوخة انما هو اختلاف العصر حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم قطعا ولذلك قال عليه السلام لو كان موسى حيا لما وسعه الا اتباعي وتقييد المنزل بكونه مصدقا لما معهم لتأكيد وجوب الامتثال بالامر فإن ايمانهم بما معهم مما يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعا

ولا تكونوا اول كافر به أي لاتسارعوا الى الكفر به فإن وظيفتكم ان تكونوا اول من آمن به لما انكم تعرفون شانه وحقيته بطريق التلقي مما معكم من الكتب الإلهية كما تعرفون ابناءكم وقد كنتم تستفتحون به وتبشرونبزمانه كما سيجيء فلا تضعوا موضع ما يتوقع منكم ويجب عليكم مالا يتوهم صدوره عنكم من كونكم أول كافر به ووقوع أول كافر به خبرا من ضمير الجمع بتأويل أول فريق أو فوج أوبتأويل لا يكن كل واحد منكم أو كافر به كقولك كسانا حلة ونهيهم عن التقدم في الكفر به مع أن مشركي العرب أقدم منهم لما أن المراد به التعريض لا الدلالة على ما نطق به الظاهر كقولك أما أنا فلست بجاهل لأن المراد نهيهم عن كونهم أو كافر من أهل الكتاب أو ممن كفر بما عنده فإن من كفر بالقرآن فقد كفر بما يصدقه أو مثل من كفر من مشركي مكة وأول أفعل لا فعل له

وقيل أصله أوأل من وأل إليه إذا نجا وخلص فأبدلت الهمزة واوا تخفيفا غير قياسي أو أأول من آل فقلبت همزته واوا وادغمت

ولا تشتروا بآياتي أي لا تأخذوا لأنفسكم بدلا منها

ثمنا قليلا من الحظوظ الدنيوية فإنها وإن جلت قليلة مسترذلة بالنسبة إلى ما فات عنهم من حظوظ الآخرة بترك الإيمان قيل كانت لهم رياسة في قومهم ورسوم وهدايا فخافوا عليها لو اتبعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فاختاروها على الإيمان وإنما عبر عن المشترى الذي هو العمدة في عقود المعاوضة والمقصود فيها بالثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة فيها وقرنت الايات التي حقها أن يتنافس فيها المتنافسون بالباء التي تصحب الوسائل إيذانا بتعكيسهم حيث جعلوا ما هو المقصد الأصلي وسيلة والوسيلة مقصدا

وإياي فاتقون بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن حطام الدنيا ولما كانت الآية السابقة مشتملة على ما هو كالمبادى لما في الآية الثانية فصلت بالرهبة التي هي من مقدمات التقوى أو لأن الخطاب بها لما عم العالم والمقلد أمر فيها بالرهبة المتناولة للفريقين

وأما الخطاب بالثانية فحيث خص بالعلماء أمر فيها بالتقوى الذي هو المنتهى

٤٢

ولا تلبسوا الحق بالباطل عطف على ما قبله واللبس الخلط وقد يلزمه الاشتباه بين المختلطين والمعنى لا تخلطوا الحق المنزل بالباطل الذي تخترعونه وتكتبونه حتى يشتبه أحدهما بالآخر أو لا تجعلوا الحق ملتبسا بسب الباطل الذي تكتبونه في تضاعيفة أو تذكرونه في تأويله

وتكتموا الحق مجزوم داخل تحت حكم النهى كأنهم أمروا بالإيمان وترك الضلال ونهوا عن الإضلال بالتلبيس على من سمع الحق والإخفاء عمن لم يسمعه أو منصوب بإضمار أن على أن الواو للجمع أي لا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وبين كتمانه ويعضده أنه في مصحف ابن مسعود وتكتمون أي وأنتم تكتمون أي كاتمين وفيه إشعار بأن الستقباح اللبس لما يصحبه من كتمان الحق وتكرير الحق إما لأن المراد بالأخير ليس عين الأول بل هو نعت النبي الذي كتموه وكتبوا مكانه غيره كما سيجيء في قوله تعالى فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم

وأما لزيادة تقبيح المنهى عنه إذ في التصريح باسم الحق ما ليس في ضميره

وأنتم تعلمون أي كونكم عالمين بأنكم لابسون كاتمون أو وأنتم تعلمون أنه حق أو وأنتم من أهل العلم وليس إيراد الحال لتقييد النهى به كما في قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى بل لزيادة تقبيح حالهم إذ الجاهل عسى يعذر

٤٣

وأقيموا الصلاة وآتوا الزكوة أي صلاة المسلمين وزكاتهم فإن غيرهما بمعزل من كونه صلاة وزكاة أمرهم اللّه تعالى بفروع السلام بعد الأمر بأصوله

واركعوا مع الراكعين أي في جماعتهم فإن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة لما فيها من تظاهر النفوس في المناجاة وعبر عن الصلاة بالركوع احترازا عن صلاة اليهود

وقيل الركوع الخضوع والانقياد لما يلزمهم الشارع قال الضبط بن قريع السعدي

 ... لا تحقرن الضعيف علك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه ...

٤٤

أتأمرون الناس بالبر تجريد للخطاب وتوجيه له إلى بعضهم بعد توجيه إلى الكل والهمزة فيها تقرير مع توبيخ وتعجيب والبر التوسع في الخير من البر الذي هو الفضاء الواسع يتناول جميع أصناف الخيرات ولذلك قيل البر ثلاثة بر في عبادة اللّه تعالى وبر في مراعاة الأقارب وبر في معاملة الأجانب

وتنسون أنفسكم أي تتركونها من البر كالمنسيات عن ابن عباس رضي اللع عنهما أنها نزلت في أحبار المدينة كانوا يأمرون سرا من نصحوه باتباع النبي ولا يتبعونه طمعا في الهدايا والصلات التي كانت تصل إليهم من أتباعهم

وقيل كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون وقال السدي إنهم كانوا يامرون الناس بطاعة اللّه تعالى وينهونهم عن معصيته وهم يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية وقال ابن جريج كانوا يأمرون الناس بالصلاة والزكاة وهم يتركونهما ومدار الإنكار والتوبيخ هي الجملة المعطوفة دون ما عطفت هي عليه

وأنتم تتلون الكتاب تبكيت لهم وتقريح كقوله تعالى وأنتم تعلمون أي والحال أنكم تتلون التوراة الناطقة بنعوته الآمرة بالإيمان به أو بالوعد بفعل الخير والوعيد على الفساد والعناد وترك البر ومخالفة القول العمل

أفلا تعقلون أي أتتلونه فلا تعقلون ما فيه أو قبح ما تصنعون حتى ترتدعوا عنه فالإنكار متوجه إلى عدم العقل بعد تحقق ما يوجبه فالمبالغة من حيث الكيف أو ألا تتأملون فلا تعقلون فالإنكار متوجه إلى كلا الأمرين والمبالغة حينئذ من حيث الكم والعقل في الأصل المنع والإمساك ومنه العقال الذي يشد به وظيف البعير إلى ذراعه لحبسه عن الحراك سمى به النور الروحاني الذي به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية لأنه يحسبه عن تعاطى ما يقبح ويعقله على ما يحسن والاية كما ترى ناعية على كل من يعظ غيره ولا يتعظ بسوء صنيعه وعدم تأثره وإن فعله الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل والمراد بها كما أشير إليه حثه على تزكية النفس والإقبال عليها بالتكميل لتقوم بالحق فتقيم غيرها لا منع الفاسق عن الوعظ يروى أنه كان عالم من العلماء مؤثر الكلام قوى التصرف في القلوب وكان كثيرا ما يموت من أهل مجلسه واحدا أو أثنان من شدة تأثير وعظه وكان في بلده عجوز لها ابن صالح رقيق القلب سريع الانفعال وكانت تحترز عليه وتمنعه من حضور مجلس الواعظ فحضره يوما على حين غفلة منها فوقع من أمر اللّه تعالى ما وقع ثم أن العجوز لقيت الواعظ يوما في الطريق فقالت

 ... لتهتدى الأنام ولا تهتدى ... ألا إن ذلك لا ينفع ... فيا حجر الشحذ حتى متى ...

تسن الحديد ولا تقطع فلما سمعه الواعظ شهق شهقة فخر من فرسه مفشيا عليه فحلموه إلى بيته فتوفي إلى رحمة اللّه سبحانه

٤٥

واستعينوا بالصبر والصلاة متصل بما قبله كأنهم لما كلفوا ما فيه من ترك الرياسه والإعراض عن المال عولجوا بذلك والمعنى استعينوا على حوائجكم بانتظار النجح والفرج توكلا على اللّه تعالى أو بالصوم الذي هو الصبر عن المفطرات لما فيه من كسر الشهوة وتصفية النفس والتوسل في الصلاة والاتجاء إليها فإنها جامعة لأنواع العبادات النفسانية والبدنية من الطهارة وستر العورة وصرف المال فيهما والتوجه الى الكعبة والعكوف على العبادة واظهار الخشوع بالجوارح واخلاص النية بالقلب ومجاهدة الشيطان ومناجاة الحق وقراءة القرآن والتكلم بالشهادة وكف النفس عن الأطيبين حتى تجابوا الى تحصيل المآرب وجبر المصائب روى أنه عليه السلام كان إذا حزبه امر فزع الى الصلاة ويجوز أن يراد بها الدعاء

وإنها أي الاستعانة بهما أو الصلاة وتخصيصها برد الضمير اليها لعظم شأنها واشتمالها على ضروب من الصبر كما في قوله تعالى وإذا روا تجارة أو لهوا انفضوا اليها أو جملة ما أمروا بها ونهوا عنها

لكبيرة لثقيلة شاقة كقوله تعالى كبر على المشركين ما تدعوهم اليه

إلا على الخاشعين الخشوع الإخبات ومنه الخشعة للرملة المتطامنة والخضوع اللين والإنقياد ولذلك يقال الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب وإنما لم تثقل عليهم لأنهم يتوقعون ما أعد لهم بمقابلتها فتهون عليهم ولأنهم يستغرقون في مناجاة ربهم فلا يدركون ما يجري عليهم من المشاق والمتاعب ولذلك قال عليه السلام وقرة عيني في الصلاة والجملة حالية أو اعتراض تذييلي

٤٦

الذين يظنون إنهم ملاقوا ربهم وإنهم اليه راجعون أي يتوقعون لقاءه تعالى ونيل ما عنده من المثوبات والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليهم للإيذان بفيضان احسانه اليهم أو يتيقنون أنهم يحشرون اليه للجزاء فيعملون على حسب ذلك رغبة ورهبة

وأما الذين لا يوقنون بالجزاء ولا يرجون الثواب ولا يخافون العقاب كانت عليهم مشقة خالصة فتثقل عليهم كالمنافقين والمرائين فالتعرض للعنوان المذكور للإشعار بعلية الربوبية والمالكية للحكم ويؤيده ان في مصحف ابن مسعود رضي اللّه عنه يعملون وكان الظن لما شابه العلم في الرجحان اطلق عليه لتضمين معنى التوقع قال

 ... فأرسلته مستيقن الظن إنه ... مخالط ما بين الشراسيف جائف ...

وجعل خبر أن في الموضعين اسما للدلالة على تحقيق اللقاء والرجوع وتقررهما عندهم

٤٧

يا بني اسرائيل اذكروا نعمتي التي انعمت عليكم كرر التذكير للتأكيد ولربط ما بعده من الوعيد الشديد به

وأني فضلتكم عطف على نعمتي عطف الخاص على العام لكماله أي فضلت آباءكم

على العالمين أي عالمي زمانهم بما منحتهم من العلم والإيمان والعمل الصالح وجعلتهم أنبياء وملوكا مقسطين وهم آباءهم

الذين كانوا في في عصر موسى عليه السلام وبعده قبل أن يغيروا

٤٨

واتقوا يوما أي حساب يوم أو عذاب يوم

لا تجزى نفس عن نفس شيئا أي لا تقضي عنها شيئا من الحقوق فانتصاب شيئا على المفعولية أو شيئا من الجزاء فيكون نصبه على المصدرية وقرئ لا تجتزئ أي لا تغني عنها فيتعين النصب على المصدرية وإيراده منكرا مع تنكير النفس للتعميم والإقناط الكلي والجملة صفة يوما والعائد منها محذوف أي لا تجزي فيه ومن لم يجوز الحذف قال اتسع فيه فحذف الجار وأجرى المجرور مجرى المفعول به ثم حذف كما حذف في قول من قال

 ... فما أدرى أغيرهم تناء ... وطول العهد أم مال أصابوا ... أي أصابوه

ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل أي من النفس الثانية العاصية أو من الأولى والشفاعة من الشفع كأن المشفوع له كان فردا فجعله الشفيع شفعا والعدل الفدية

 وقيل البدل وأصله التسوية سمى به الفدية لأنها تساوي المفدى وتجزى مجزاه

ولا هم ينصرون أي يمنعون من عذاب اللّه عز و جل والضمير لما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي من النفوس الكثيرة والتذكير لكونها عبارة عن العباد والأناسى والنصرة ههنا أخص من المعونة لاختصاصها بدفع الضرر وكأنه أريد بالآية نفي أن يدفع العذاب أحد عن أحد من كل وجه محتمل فإنه إما أن يكون قهرا أولا والأول النصرة والثاني إما أن يكون مجانا أولا والأول الشفاعة والثاني إما أن يكون بأداء عين ما كان عليه وهو أن يجزي عنه أو بأداء غيره وهو أن يعطي عنه عدلا وقد تمسكت المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة لأهل الكبائر والجواب أنها خاصة بالكفار للآيات الواردة في الشفاعة والأحاديث المروية فيها ويؤيده أن الخطاب معهم ولردهم عما كانوا عليه من اعتقاد أن أباءهم الأنبياء يشفعون لهم

٤٩

وإذ نجينا كم من آل فرعون تذكير لتفاصيل ما أجمل في قوله تعالى نعمتي التي أنعمت عليكم من فنون النعماء وصنوف الآلاء أي واذكروا وقت تنجيتنا إياكم أي آباءكم فإن تنجيتهم تنجية لأعقابهم وقرئ أنجيتكم وأصل آل أهل لأن تصغيره أهيل وخص بالإضافة إلى أولى الأخطار كالأنبياء عليهم السلام والملوك وفرعون لقب لمن ملك العمالقة ككسرى لملك الفرس وقيصر لملك الروم وخاقان لملك الترك ولعتوه اشتق منه تفر عن الرجل إذا عتا وتمرد وكان فرعون موسى عليه السلام مصعب بن ريان

وقيل ابنه وليدا من بقايا عاد

وقيل إنه كان عطارا أصفهانيا ركبته الديون فأفلس فاضطر الى الخروج فلحق بالشام فلم يتسن له المقام به فدخل مصر فرأى في ظاهره حملا من البطيخ بدرهم وفي نفسه بطيخة بدرهم فقال في نفسه إن تيسر لي أداء الدين فهذا طريقه فخرج إلى السواد فاشترى حملا

بدرهم فتوجه به الى السوق فكل من لقيه من المكاسين أخذوا منه بطيخا فدخل البلد وما معه إلا بطيخة فذة باعها بدرهم ومضى لوجهه ورأى أهل البلد متروكين سدى لا يتعاطى أحد سياستهم وكان قد وقع بهم وباء عظيم فتوجه نحو المقابر فرأى ميتا يدفن فتعرض لأوليائه فقال أنا المقابر فلا أدعكم تدفنونه حتى تعطوني خمسة دراهم فدفعوها إليه ومضى لآخر وآخر حتى جمع في مقدار ثلاثة أشهر مالا عظيما ولم يتعرض له أحد قط إلى أن تعرض يوما لأولياء ميت فطلب منهم ما كان يطلب من غيرهم فأبوا ذلك فقالوا من نصبك هذا المنصب فذهبوا به إلى فرعون فقال من أنت ومن أقامك بهذا المقام قال لم يقمنى أحد وإنما فعلت ما فعلت ليحضرني أحد إلى مجلسك فأنبهك على اختلال قومك وقد جمعت بهذا الطريق هذا المقدار من المال فأحضره ودفعه إلى فرعون فقال ولنى أمورك ترني أمينا كافيا فولاه إياها فسار بهم سيرة حسنة فانتظمت مصالح العسكر واستقامت أحوال الرعية ولبث فبهم دهرا طويلا وترامى أمره في العدل والصلاح فلما مات فرعون أقاموه مقامه فكان من امره ما كان وكان فرعون يوسف ريان وكان بينهما أكثر من أربعمائة سنة

يسومونكم أي يبغونكم من سامة خسفا إذا أولاه ظلما وأصله الذهاب في طلب الشئ

سوء العذاب أي أفظعه وأقبحه بالنسبة إلى سائره والسوء مصدر من ساء يسوء ونصبه على المفعوليه ليسومونكم والجلمة حال من الضمير في نجيانكم أو من آل فرعون أو منهما جميعا لاشتمالها على ضميريهما

يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم بيان ليسومونكم ولذلك ترك العطف بينهما وقرئ يذبحون بالتخفيف وإنما فعلوا بهم ما فعلوا لما أن فرعون راى في المنام أو أخبره الكهنة أنه سيولد منهم من يذهب بملكة فلم يرد اجتهادهم من قضاء اللّه عز و جل شيئا قيل قتلوا بتلك الطريقة تسعمائة ألف مولود وتسعين الفا وقد أعطى اللّه عز و جل نفس موسى عليه السلام من القوة على التصرف ما كان يعطيه أولئك المقتولين لو كانوا أحياء ولذلك كانت معجزاته ظاهرة باهرة

وفي ذلكم إشارة إلى ما ذكر من التذبيح والاستحياء أو إلى الإنجاء منه وجمع الضمير للمخاطبين فعلى الأول معنى قوله تعالى

بلاء محنة وبلية وكون استحياء نسائهم أي استبقائهن على الحياة محنة مع أنه عفو وترك للعذاب لما أن ذلك كان للاستعمال في الأعمال الشاقة وعلى الثاني نعمة وأصل البلاء الاختبار ولكن لما كان ذلك في حقه سبحانه محالا وكان ما يجرى مجرى الاختبار لعباده تارة بالمحنة وأخرى بالمنحنة أطلق عليهما

وقيل يجوز أن يشار بذلكم إلى الجملة ويرلد بالبلاء القدر المشترك الشامل لهما

عظيم صفة لبلاء وتنكيرهما للتفخيم وفي الآية الكريمة تنبيه على أن ما يصيب العبد من السراء والضراء من قبيل الأختبار فعليه الشكر في المسار والصبر على المضار

٥٠

وإذ فرقنا بكم البحر بيان لسبب التنجيه وتصوير لكيفيتها إثر تذكيرها وبيان عظمها وهو لها وقد بين في تضاعيف ذلك نعمة جليلة أخرى هي الإنجاء من الغرق أي وأذكروا إذ فلقناه بسلوككم أو متلبسا بكم كقوله تعالى تنبت بالدهن أو بسبب إنجائكم وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت مسالك وقرئ

بالتشديد للتكثير لأن المسالك كانت اثنى عشر بعدد الأسباط

فأنجيناكم أي من الغرق بإخراجكم إلى الساحل كما يلوح به العدول إلى صيغة الأفعال بعد إيراد التخليص من فرعون بصيغة التفعيل وكذا قوله تعالى

وأغرقنا آل فرعون أريد فرعون وقومه وإنما اقتصر على ذكرهم للعلم بأنه أولى به منهم

وقيل شخصه كما روى أن الحسن رضى اللّه عنه كان يقول اللّهم صل على آل محمد أي شخصه واستغنى بذكره عن ذكر قومه

وأنتم تنظرون ذلك أوغرقهم وإطباق البحر عليهم أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذللة أوجثثهم التي قذفها البحر إلى الساحل أو ينظر بعضكم بعضا روى أنه تعالى أمر موسى عليه السلام أن يسرى ببني إسرائيل فخرج بهم فصبحهم فرعون وجنوده وصادفوهم على شاطئ البحر فأوحى اللّه تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه بها فظهر فيه اثنا عشر طريقا يابسا فسلكوها فقالوا نخاف أن يغرق بعض أصحابنا فلا نعلم ففتح اللّه تعالى فيها كوى فتراءوا وتسامعوا حتى عبروا البحر فلما وصل إليه فرعون فرآه منفلقا اقتحمه هو وجنوده فغشيهم ما غشيهم واعلم أن هذه الواقعة كما أنها لموسى معجزة عظيمة تخر لها أطم الجبال ونعمة عظيمة لأوائل بني إسرائيل موجبة عليهم شكرها كذلك اقصاصها على ماهي عليه من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم معجزة جليلة تطمئن بها القلوب الأبية وتنقاد لها النفوس الغبية موجبة لأعقابهم أن يتلقوها بالإذعان فلا تأثرت أوائلهم بمشاهدتها ورؤيتها ولا تذكرت أو اخرهم بتذكيرهاوروايتها فيالها من عصابة ما أعصاها وطائفة ما أطغاها

٥١

وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة لما عادوا إلى مصر بعد مهلك فرعون وعد اللّه موسى عليه السلام أن يعطيه التوراة وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذي الحج

وقيل وعد عليه السلام بنى إسرائيل وهو بمصر إن أهلك اللّه عدوهم أتاهم بكتاب من عند اللّه تعالى فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب فامره بصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة ثم زاد عشرا من ذي الحجة وعبر عنها بالليالي لأنها غرر الشهور وصيغة المفاعلة بمعنى الثلاثي

وقيل على أصلها تنزيلا لقبول موسى عليه السلام منزلة الوعد وأربعين ليلة مفعول ثان لواعدنا على حذف المضاف أي بمقام أربعين ليلة وقرئ وعدنا

ثم اتخذتم العجل بتسويل السامري الها ومعبودا وثم للتراخي الرتبي

من بعده أي من بعد مضية الى الميقات على حذف المضاف

وانتم ظالمون بإشراككم ووضعكم للشئ في غير موضعه وهو حال من ضمير اتخذتم أو اعتراض تذييلي أي وانتم قوم عادتكم الظلم

٥٢

ثم عفونا عنكم حين تبتم والعفو محو الجريمة من عفاة درسه وقد يجيء لازما قال

... عرفت المنزل الخالي ... عفا من بعد احوال

... عفاه كل هتان ... كثير الوبل هطال ...

وقوله تعالى

من بعد ذلك أي من بعد الاتخاذ الذي هو متناه في القبح للإيذان بكمال بعد العفو بعد تلك المرتبة من الظلم

لعلكم تشكرون لكي تشكروا نعمة العفو وتستمروا بعد ذلك على الطاعة

٥٣

واذا آتينا موسى الكتاب والفرقان أي التوراة الجامعة بين كونها كتابا وحجة تفرق بين الحق والباطل

وقيل اريد بالفرقان معجزاته الفارقة بين المحق والمبطل في الدعوى أو بين الكفر والإيمان

وقيل الشرع الفارق بين الحلال والحرام أو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه كقوله تعالى يوم الفرقان يريد به يوم بدر

لعلكم تهتدون لكي تهتدوا بالتدبر فيه والعمل بما يحويه

٥٤

واذ قال موسى لقومه بيان لكيفية وقوع العفو المذكور

باقوم انكم ظلمتم انفسكم باتخاذكم العجل أي معبودا

فتوبوا أي فاعزموا على التوبة

الى بارئكم أي الى من خلقكم بريئا من العيوب والنقصان والتفاوت وميز بعضكم من بعض بصور وهيئات مختلفة واصل التركيب الخلوص عن الغير اما بطريق التفصى كما في برئ المريض أو بطريق الإنشاء كما في برأ اللّه آدم من الطين والتعرض لعنوان البارئية للإشعار بأنهم بلغوا من الجهالة أقصاها ومن الغواية منتهاها حيث تركوا عبادة العليم الحكيم الذي خلقهم بلطيف حكمته بريئا من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر الذي هو مثل في الغباوة وأن من لم بعرف حقوق منعمه حقيق بأن تسترد هي منه ولذلك أمروا بالقتل وفك التركيب

فأقتلوا أنفسكم تماما لتوبتكم بالبخع أو بقطع الشهوات

وقيل أمروا أن يقتل بعضهم بعضا

وقيل أمر من لم يعبد العجل بقتل من عبده يروى أن الرجل كان يرى قريبه فلم يقدر على المضي لأمر اللّه تعالى فأرسل اللّه ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون بها فأخذوا يقتلون من الغداة إلى العشى حتى دعا موسى وهارون عليهما السلام فكشفت السحابة ونزلت التوبة وكانت القتلى سبعين ألفا والفاء الأولى للتسبيب والثانية للتعقيب

ذلكم إشارة إلى ما ذكر من التوب والقتل

خير لكم عند بارئكم لما أنه طهرة عن الشرك ووصلة إلى الحياة الأبدية والبهجة السرمدية

فتاب عليكم عطف على محذوف على أنه خطاب منه سبحانه على نهج الالتفات من التكلم الذي يقتضيه سباق النظم الكريم وسياقه فإن مبنى الجميع على التكلم إلى الغيبة ليكون ذريعة إلى إسناد الفعل إلى ضمير بارئكم المستتبع للإيذان بعلية عنوان البارئية والخلق والإحياء لقبول التوبة التى هي عبارة عن العفو عن القتل تقديره فعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارئكم وإنما لم يقل فتاب عليهم على أن الضمير للقوم لما أن ذلك نعمة أريد التذكير بها للمخاطبين لا لأسلافهم هذا وقد جوز أن يكون فتاب عليكم متعلقا بمحذوف على أنه من كلام موسى عليه السلام لقومه تقديره إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم ولا يخفىأنه بمعزل من اللياقة بجلالة شأن التنزيل كيف لا وهو حينئذ حكاية لوعد موسى عليه السلام قومه بقبول التوبة منه تعالى لا لقبوله تعالى حتما وقد عرفت أن الآية الكريمة تفصيل لكيفية القبول المحكى فيما قبل وأن المراد تذكير المخاطبين بتلك النعمة

أنه هو التواب الرحيم تعليل لما قبله أي أن الذي يكثر توفيق المذنبين لتوبة ويبالغ في قبولها منهم وفي الانعام عليهم

٥٥

وأذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك تذكير لنعمة اخرى عليهم بعد ما صدر عنهم ما صدر من الجناية العظيمة التي هي اتخاذ العجل أي لن نؤمن لأجل قولك ودعوتك أو لن نقر لك والمؤمن به أعطاء اللّه أياه التوراة أو تكليمه أياه أو أنه نبي أو انه تعالى جعل توبتهم بقتلهم أنفسهم

حتى نرى اللّه جهرة أي عيانا وهي في الاصل مصدر قولك جهرت بالقراءة استعيرت للمعاينة لما بينهما من الاتحاد في الوضوح والانكشاف الا ان الأول في المسموعات والثاني في المبصرات ونصبها على المصدرية لأنها نوع من الرؤية أو حال من الفاعل أو المفعول وقرئ بفتح الهاء على أنها مصدر كالغلبة أو جمع كالكتبة فيكون حالا من الفاعل لا غير والقائلون هم السبعون المختارون لميقات التوبة عن عبادة العجل روى أنهم لما ندموا على ما فعلوا وقالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين أمر اللّه موسى عليه السلام أن يجمع سبعين رجلا ويحضر معهم الطور يظهرون فيه تلك التوبة فلما خرجوا إلى الطور وقع عليه عمود من الغمام وتغشاه كله فكلم اللّه موسى عليه السلام يأمره وينهاه وكان كلما كلمه تعالى أوفع على جبهته نورا ساطعا لا يستطيع أحد من السبعين النظر إليه وسمعوا كلامه تعالى مع موسى عليه السلام افعل ولا تفعل فعند ذلك طمعوا في الرؤية فقالوا ما قالوا كما سيأتي في سورة الأعراف إن شاء اللّه تعالى

وقيل عشرة آلاف من قومه

فأخذتكم الصاعقة لفرط العناد والتعنت وطلب المستحيل فإنهم ظنوا أنه سبحانه وتعالى مما يشبه الأجسام وتتعلق به الرؤية تعلقها بها على طريق المقابلة في الجهات والأحياز ولا ريب في استحالته إنما الممكن في شأنه تعالى الرؤية المنزهة عن الكيفيات بالكلية وذلك للمؤمن ين في الآخرة وللأفراد من الأنبياء الذين بلغوا في صفاء الجوهر إلى حيث تراهم كأنهم وهم في جلابيب من أبدانهم قد نضوها وتجردوا عنها إلى عالم القدس في بعض الأحوال في الدنيا قيل جاءت نار من السماء فأحرقتهم

وقيل صيحة

وقيل جنود سمعوا بحسيسها فخروا صعقين ميتين يوما وليلة وعن وهب أنهم لم يموتوا بل لما رأوا تلك الهيئة الهائلة أخذتهم الرعدة ورجفوا حتى كادت تبين مفاصلهم وتنقض ظهورهم وأشرفوا على الهلاك فعند ذلك بكى موسى عليه السلام ودعا ربه فكشف اللّه عز و جل عنهم ذلك فرجعت إليهم عقولهم ومشاعرهم ولم تكن صعقة موسى عليه السلام موتا بل غشية لقوله تعالى فلما أفاق

وأنتم تنظرون أى ما أصابكم بنفسه أوبآثاره

٥٦

ثم بعثناكم من بعد موتكم بتلك الصاعقة قيد البعث به لما أنه قد يكون من الإغماء وقد يكون من النوم كما في قوله تعالى ثم بعثناهم لنعلم الخ

لعلكم تشكرون أى نعمة البعث أو ما كفرتموه بما رأيتم من بأس اللّه تعالى

٥٧

وظللنا عليكم الغمام أى جعلناها بحيث تلقى عليكم ظلها وذلك أنه تعالى سخر

لهم السحاب يسير بسيرهم وهم في التيه يظلهم من الشمس وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه وثيابهم لا تتسخ ولا تبلى

وأنزلنا عليكم المن والسلوى أي الترنجبين والسماني

وقيل كان ينزل عليهم المن مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان صاع وتبعث الجنوب عليهم السماني فيذبح الرجل منه ما يكفيه

كلوا على إرادة القول أي قائلين لهم أو قيل لهم كلوا

من طيبات ما رزقناكم من مستلذاته وما موصولة كانت أوموصوفة عبارة عن المن والسلوى

وما ظلمونا كلام عدل به عن نهج الخطاب السابق للإيذان باقتضاء جنايات المخاطبين للإعراض عنهم وتعداد قبائحهم عند غيرهم على طريق المباثة معطوف على مضمر قد حذف للإيجار والإشعار بأنه أمر محقق غنى عن التصريح به أي فظلموا بأن كفروا تلك النعم الجليلة وما ظلمونا بذلك

ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بالكفران إذ لا يتخطاهم ضرورة وتقديم المفعول للدلالة على القصر الذي يقتضيه النفى السابق وفيه ضرب تهكم بهم والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على تماديهم في الظلم واستمرارهم على الكفر

٥٨

وإذ قلنا تذكير لنعمة أخرى من جنابه تعالى وكفرة أخرى لأسلافهم أي واذكروا وقت قولنا لآبائكم أثر ما أنقذناهم من التيه

ادخلوا هذه القرية منصوبة على الظرفيه عند سيبوية وعلى المفعولية عند الأخفش وهي بيت المقدس

وقيل أريحا

فكلوا منها حيث شئتم رغدا أي واسعا هنيئا ونصبه على المصدرية أو الحالية من ضمير المخاطبين وفيه دلالة على أن المأمور به الدخول على وجه الإقامة والسكنى فيؤول إلى ما في سورة الأعراف من قوله تعالى اسكنوا هذه القرية

وادخلوا الباب أي باب القرية على ما روى من أنهم دخلوا أريحاء في زمن موسى عليه السلام كما سيجيء في سورة المائدة أو باب القبة التي كانوا يصلون إليها فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام

سجدا أي متطامنين مخبتين أو ساجدين للّه شكرا على إخراجهم من التيه

وقولوا حطة أي مسألتنا أو أمرك حطة وهي فعله من الحط كالجلسة وقرئ بالنصب على الأصل بمعنى حط عنا ذنوبنا حطةأو على أنها مفعول قولوا أي قولوا هذه الكلمة

وقيل معناه أرنا حطة أي أن نحط رحالنا في هذة القرية ونقيم بها

نغفر لكم خطاياكم لما تفعلون من السجود والدعاء وقرئ بالياء والتاء على البناء للمفعول وأصل خطايا خطايىء كخضايع فعند سيبوية أبدلت الياء الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف واجتمعت همزتان وابدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفا وكانت الهمزة بين ألفين فأبدلت ياء وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بها ما ذكر

وسنزيد المحسنين ثوابا جعل الامتثال توبة للمسئ وسببا لزيادة الثواب للمحسن وأخرج ذلك عن صورة الجواب إلى الوعد إيذانا بأن المحسن بصدد ذلك وإن لم يفعله فكيف إذا فعله وأنه يفعله لا محالة

٥٩

فبدل الذين ظلموا بما امروا به من التوبة والاستغفار بأن اعرضوا عنه واوردوا مكانه

قولا آخر مما لا خير فيه روى انهم قالوا مكان حطة حنطة

وقيل قالوا بالنبطية حطا سمقاثا يعنون حنطة حمراء استخفافا بأمر اللّه عز و جل

غير الذي قيل لهم نعت لقولا وانما صرح به مع استحالة تحقق التبديل بلا مغايرة تحقيقا لمخالفتهم وتنصيصا على المغايرة من كل وجه

فأنزلنا أي عقيب ذلك

على الذين ظلموا بما ذكر من التبديل وانما وضع الموصول موضع الضمير العائد الى الموصول الأول للتعليل والمبالغة في الذم والتقريع وللتصريح بأنهم بما فعلوا قد ظلموا انفسهم بتعريضها لسخط اللّه تعالى

رجزا من السماء أي عذابا مقدرا منها والتنوين للتهويل والتفخيم

بما كانوا يفسقون بسبب فسقهم المستمر حسبما يفيده الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل وتعليل إنزال الرجز به بعد الإشعار بتعليله بظلمهم للإيذان بأن ذلك فسق وخروج عن الطاعة وغلو في الظلم وأن تعذيبهم بجميع ما ارتكبوه من القبائح لا بعدم توبتهم فقط كما يشعر به ترتيبه على ذلك بالفاء والرجز في الاصل ما يعاف عنه وكذلك الرجس وقرئ بالضم وهو لغة فيه والمراد به الطاعون روى انه مات به في ساعة واحدة اربعة وعشرون الفا

٦٠

واذا استسقى موسى لقومه تذكير لنعمة اخرى كفروها وكان ذلك في التيه حين استولى عليهم العطش الشديد وتغيير الترتيب لما اشير اليه مرارا من قصد ابراز كل من الامور المعدودة في معرض امر مستقل واجب التذكير والتذكر ولو روعى الترتيب الوقوعى لفهم ان الكل امر واحد امر بذكره واللام متعلقة بالفعل أي استسقى لأجل قومه

فقلنا اضرب بعصاك الحجر روى انه كان حجرا طوريا مكعبا حمله معه وكان ينبع من كل وجه منه ثلاث اعين يسيل كل عين في جدول الى سبط وكانوا ستمائة الف وسعة المعسكر اثنى عشر ميلا أو كان حجرا اهبطه اللّه تعالى مع آدم عليه السلام من الجنة ووقع الى شعيب عليه السلام فأعطاه موسى عليه السلام مع العصا أو كان هو الحجر الذي فر بثوبه حين وضعه عليه ليغتسل وبراه اللّه تعالى به عما رموه به من الأدرة فأشار اليه جبريل عليه السلام ان يحمله أو كان حجرا من الحجارة وهو الأظهر في الحجة قيل لم يؤمر عليه السلام بضرب حجر بعينه ولكن لما قالوا كيف بنا لو افضينا الى ارض لا حجارة بها حمل حجرا في مخلاته وكان يضربه بعصاه اذا نزل فيتفجر ويضربه اذا ارتحل فييبس فقالوا ان فقد موسى عصاه متنا عطشا فأوحى اللّه تعالى اليه ان لا تقرع الحجر وكلمه يطعك لعلهم يعتبرون

وقيل كان الحجر من رخام حجمه ذراع في ذراع والعصا عشرة اذرع على طوله عليه السلام من آس الجنة ولها شعبتان تتقدان في الظلمة

فانفجرت عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام قد حذف للدلالة على كمال سرعة تحقق الانفجار كأنه حصل عقيب الأمر بالضرب أي فضرب فانفجرت

منه اثنتا عشرة عينا

وأما تعلق الفاء بمحذوف أي فإن ضربت فقد أنفجرت فغير حقيق بجلالة شأن النظم الكريم كما لا يخفى على أحد وقرئ عشرة بكسر الشين وفتحها وهما أيضا لغتان

قد علم كل أناس كل سبط

مشربهم عينهم الخاصة بهم

كلوا واشربوا على إرادة القول

من رزق اللّه هو مارزقهم من المن والسلوى والماء

وقيل هو الماء وحده لأنه يؤكل ما ينبت به من الزروع والثمار ويأباه أن المأمور به أكل النعمة العتيدة لا ما سيطلبونه وإضافته إليه تعالى مع استناد الكل إليه خلقا وملكا إما للتشريف

وأما لظهوره بغير سبب عادى وإنما لم يقل من رزقنا كما يقتضيه قوله تعالى فقلنا الخ إيذانا بأن الأمر بالأكل والشرب لم يكن بطريق الخطاب بل بواسطة موسى عليه السلام

ولا تعثوا في الأرض العثى أشد الفساد فقيل لهم لاتتمادوا في الفساد حال كونكم

مفسدين وقيل إنما قيد به لأن العثى في الأصل مطلق التعدى وإن غلب في الفساد وقد يكون في غير الفساد كما في مقابلة الظالم المعتدى بفعله وقد يكون فيه صلاح راجح كقتل الخضر عليه السلام للغلام وخرقه للسفينة ونظيره العبث خلا أنه غالب فيما يدرك حسا

٦١

وإذ قلتم تذكير لجناية أخرى لأسلافهم وكفرانهم لنعمة اللّه عز و جل وإخلادهم إلى ما كانوا فيه من الدناءة والخساسة وإسناد القول المحكى إلى أخلاقهم وتوجيه التوبيخ إليهم لما بينهم من الاتحاد

يا موسى لن نصبر على طعام واحد لعلهم لم يريدوا بذلك جمع ما طلبوا مع ما كان لهم من النعمة ولا زوالها وحصول ما طلبوا مكانها إذ يأباه التعرض لوحدة بل أرادوا أن يكون هذا تارة وذاك اخرى روى أنهم كانوا فلاحة فنزعوا إلى عكرهم فأجمعوا ما كانوا فيه من النعمة العتيدة لوحدتها النوعية واطرادها وتاقت أنفسهم إلى الشقاء

فادع لنا ربك أي سله لأجلنا بدعائك أياه والفاء لسببيه عدم الصبر للدعاء والتعرض لعنوان الربوبية لتمهيد مبادى الإجابة

يخرج لنا أي يظهر لنا ويوجد والجزم لجواب الأمر

مما تنبت الأرض إسناد مجازي بإقامة القابل مقام الفاعل ومن تبعيضيه والتي في قوله تعالى

من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها بيانية واقعة موقع الحال أي كائنا من بقلها الخ

وقيل بدل بإعادة الجار والبقل ما تنبت الأرض من الخضر والمراد أطايبه التي تؤكل كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها والفوم الحنطة

وقيل الثوم وقرئ قثائها بضم القاف وهو لغة فيه

قال أي اللّه تعالى أوموسى عليه السلام

إنكارا عليهم وهو استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قال لهم فقيل قال

أتستبدلون أي أتأخذون لأنفسكم وتختارون

الذي هو أدنى أي اقرب منزلة وأدون قدرا سهل المنال وهين الحصول لعدم كونه مرغوبا فيه وكونه تافها مرذولا قليل القيمة وأصل الدنو القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد للشرف والرفعة فقيل بعيد المحل وبعيد الهمة وقرئ أدنأ من الدناءة وقد حملت المشهورة على أن ألفها مبدلة من الهمزة

بالذي هو خير أى بمقابلة ما هو خير فإن الباء تصحب الذاهب الزائل دون دون الاتي الحاصل كما في التبديل في مثل قوله عز و جل ومن يتبدل الكفر بالإيمان وقوله وبدلناهم بجنيتهم جنتين ذواتي أكل خمط وليس فيه ما يدل قطعا على أنهم أرادوا زوال المن والسلوى بالمرة وحصول ما طلبوا مكانه كتحقيق الاستبدال فيما مر من صورة المناوبة

اهبطوا مصرا أمروا به بيانا لدناءة مطلبهم أو إسعافا لمرامهم أي انحدروا إليه من التيه يقال هبط الوادي وقرئ بضم الباء والمصر البلد العظيم وأصله الحد بين الشيئين

وقيل أريد به العلم وإنما صرف لسكون وسطه أو لتأويله بالبلد دون المدينة ويؤيده أنه في مصحف ابن مسعود رضي اللّه عنه غير منون

وقيل أصله مصراييم فعرب

فإن لكم ما سألتم تعليل للأمر بالهبوط أي فإن لكم فيه ما سألتموه ولعل التعبير عن الأشياء المسئولة بما للاستهجان بذكرها كأنه قيل فإنه كثير فيه مبتذل يناله كل أحد بغير مشقة

وضربت عليهم الذلة والمسكنة أي جعلتا محيطتين بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه أو ألصقتا بهم وجعلتا ضربة لازب لا تنفكان عنهم مجازاة لهم على كفرانهم من ضرب الطين على الحائط بطريق الاستعارة بالكناية واليهود في غالب الامر اذلاء مساكين إما على الحقيقة

وأما لخوف أن تضاعف جزيتهم

وباءوا أي رجعوا

بغضب عظيم وقوله تعالى

من اللّه متعلق بمحذوف هو صفة لغضب مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الاضافية أي بغضب كائن من اللّه تعالى أو صاروا أحقاء به من قولهم باء فلان بفلان أي صار حقيقا بأن يقتل بمقابلته ومنه قول من قال بؤ بشسع نعل كليب وأصل البوء المساواة

ذلك إشارة إلى ما سلف من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم

بأنهم بسبب إنهم

كانوا يكفرون على الاستمرار

بآيات اللّه الباهرة التي هي المعجزات الساطعة الظاهرة على يد موسى عليه السلام مماعد وما لا يعد

ويقتلون النبيين بغير حق كشعيا وزكريا ويحيى عليهم السلام وفائدة التقييد مع أن قتل الأنبياء يستحيل أن يكون بحق الإيذان بأن ذلك عندهم أيضا بغير الحق إذ لم يكن أحد معتقدا بحقية قتل أحد منهم عليهم السلام وانما حملهم على ذلك حب الدنيا واتباع الهوى والغلو في العصيان والاعتداء كما يفصح عنه قوله تعالى

ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون أي جرهم العصيان والتمادي في العدوان الى ما ذكر من الكفر وقتل الأنبياء عليهم السلام فإن صغار الذنوب إذا دووم عليها أدت الى كبارها كما ان مداومة صغار الطاعات مؤدية الى تحري كبارها

وقيل كررت الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما أنه بسبب الكفر والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود اللّه تعالى

وقيل الاشارة الى الكفر والقتل والباء بمعنى مع ويجوز الاشارة الى المتعدد بالمفرد بتأويل ما ذكر أو تقدم كما في قول رؤبة بن العجاج

 ... فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق ...

أي كان ما ذكر والذي حسن ذلك في المضمرات والمبهمات أن تثنيتها وجمعها ليسا على الحقيقة ولذلك جاء الذي بمعنى الذين

٦٢

إن الذين آمنوا أي بألسنتهم فقط وهم المنافقون بقرينه انتظامهم في سلك الكفرة والتعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق للتصريح بأن تلك المرتبة وإن عبر عنها بالإيمان لا تجديهم نفعا أصلا ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا

والذين هادوا أي تهودوا من هاد إذا دخل في اليهودية ويهود إما عربي من هاد إذا تاب سموا بذلك حين تابوا من عبادة العجل وخصوا به لما كانت توبتهم هائلة

وأما معرب يهوذا كأنهم سموا باسم اكبر أولاد يعقوب عليه الصلاة و السلام

والنصارى جمع نصران كندامى جمع ندمان يقال رجل نصران وامرأة نصرانة والياء في نصراني للمبالغة كما في أحمري سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح عليه السلام أو لأنهم كانوا معه في قرية يقال لها نصران فسموا باسمها أو نسبوا اليها والياء للنسبة وقال الخليل واحد النصارى نصرى كمهري ومهاري

والصابئين هم قوم بين النصارى والمجوس

وقيل أصل دينهم دين نوح عليه السلام وقيل هم عبدة الملائكة

وقيل عبدة الكواكب فهو إن كان عربيا فمن صبا إذا خرج من دين الى آخر وقرئ بالياء إما للتخفيف

وأما لأنه من صبأ إذا مال لما أنهم مالوا من سائر الأديان الى ماهم فيه أو من الحق الى الباطل

من آمن باللّه واليوم الآخر أي من أحدث من هذه الطوائف ايمانا خالصا بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق

وعمل عملا

صالحا حسبما يقتضيه الإيمان بما ذكر

فلهم بمقابلة ذلك

أجرهم الموعود لهم

عند ربهم أي مالك امرهم ومبلغهم الى كمالهم اللائق فمن اما في محل الرفع على الابتداء خبره جملة فلهم أجرهم والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط كما في قوله تعالى إن الذين فتنوا المؤمنين الآية وجمع الضمائر الثلاثة باعتبار معنى الموصول كما أن إفراد ما في الصلة باعتبار لفظه والجملة كما هي خبر إن والعائد الى اسمها محذوف أي من آمن الخ

وأما في محل النصب على البدلية من اسم إن وما عطف عليه وخبرها فلهم اجرهم وعند متعلق بما تعلق به لهم من معنى الثبوت وفي إضافته الى الرب المضاف الى ضميرهم مزيد لطف بهم وإيذان بأن أجرهم متيقن الثبوت مأمون من الفوات

ولا خوف عليهم عطف على جملة فلهم اجرهم أي لاخوف عليهم حين يخاف الكفار العقاب

ولا هم يحزنون حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب والمراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما كما يوهمه كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا لما مر من ان النفي وان دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام هذا وقد قيل المراد بالذين آمنوا المتدينون بدين الاسلام المخلصون منهم والمنافقون فحينئذ لا بد من تفسير من آمن بمن اتصف منهم بالايمان الخالص بالمبدأ والمعاد على الاطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه كإيمان المخلصين أو بطريق إحداثه وانشائه كإيمان من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف وفائدة التعميم للمخلصين مزيد ترغيب الباقين في الايمان ببيان ان تأخيرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأ ولئك الأقدمين في استحقاق الأجر وما يتبعه من الأ من الدائم

وأما ما قيل في تفسيره من كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملا بمقتضى شرعه فمما لا سبيل إليه أصلا لأن مقتضى المقام هو الترغيب في دين الإسلام

وأما بيان حال من مضى على دين آخر قبل انتساخه فلا ملابسه له بالمقام قطعا بل ربما يخل بمقتضاه من حيث دلالته على حقيته في زمانه في الجملة على أن المنافقين والصابئين لا يتسنى في حقهم ما ذكروا أما المنافقون فإن كانوا من أهل الشرك فالأمر بين وإن كانوا من أهل الكتاب فمن مضى منهم قبل النسخ ليسوا بمنافقين

وأما الصابئون فليس لهم دين يجوز رعايته في وقت من الأوقات ولو سلم أنه كان لهم دين سماوي ثم خرجوا عنه فمن مضى من أهل ذلك الدين قبل خروجهم منه فليسوا من الصابئين فكيف يمكن ارجاع الضمير الرابط بين اسم وإن وخبرها إليهم أو إلى المنافقين وارتكاب إرجاعه إلى مجموعة الطوائف من حيث هو مجموع لا إلى كل واحدة منها قصدا إلى درج الفريق المذكور فيه ضرورة أن من كان من أهل الكتاب عاملا بمقتضى شرعه قبل نسخه من مجموع الطوائف بحكم اشتماله على اليهود والنصارى وإن لم يكن من المنافقين والصابئين مما يجب خبرها عين ولا أثر فتأمل وكن على الحق المبين

٦٣

وإذ أخذنا ميثاقكم تذكير لجناية أخرى لأسلافهم أي واذكروا وقت أخذنا لميثاقكم بالمحافظة على ما في التوراة

ورفعنا فوقكم الطور عطف على قوله أخذنا أو حال أي أي وقد رفعنا فوقكم الطور كأنه ظلة روى أن موسى عليه السلام لما جاءهم بالتوراة فرأوا ما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم فأبوا قبولها فأمر جبريل عليه السلام فقلع الطور فظللّه عليهم حتى قبلوا

خذوا على إرادة القول

ما آتيناكم من الكتاب

بقوة بجد وعزيمة

واذكروا ما فيه أي احفظوه ولا تنسوه أو تتفكروا فيه فإنه ذكر بالقلب أو اعملوا به

لعلكم تتقون لكي تتقوا المعاصي أو لتنجوا من هلاك الدارين أو رجاء منكم أن تنتظموا في سلك المتقين أو طلبا لذلك وقد مر تحقيقه

٦٤

ثم توليتم أي أعرضتم عن الوفاء بالميثاق

من بعد ذلك من بعد أخذ ذلك الميثاق المؤكد

فلو لا فضل اللّه عليكم ورحمته بتوفيقكم لتوبة أو بمحمد حيث يدعوكم إلى الحق ويهديكم إليه

لكنتم من الخاسرين أي المغبونين بالانهمالك في المعاصي والخبط في مهاوى الضلال عند الفترة

وقيل لولا فضل تعالى عليكم بالإمهال وتأخير العذاب لكنتم من الهالكين وهو الأنسب بما بعده وكلمة لولا إما بسيطة أو مركبة من لو الامتناعية وحرف النفي ومعناها امتناع الشئ لوجود غيره كما أن لو لامتناعه لامتناع غيره والاسم الواقع بعدها عند سيبويه مبتدأ خبره محذوف وجوبا لدلالة الحال عليه وسد الجواب

مسدة والتقدير لولا فضل اللّه حاصل وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف أى لولا ثبت فضل اللّه تعالى عليكم

٦٥

ولقد علمتم أي عرفتم

الذين اعتدوا منكم في السبت روى أنهم أمروا بأن يتمحضوا يوم السبت للعبادة ويتجردوا لها ويتركوا الصيد فاعتدى فيه أناس منهم في زمن داود عليه السلام فاشتغلوا بالصيد وكانوا يسكنون قرية بساحل البحر يقال لها أيلة فإذا كان يوم السبت لم يبق في البحر حوت إلا برز وأخرج خرطومه فإذا مضى تفرقت فحفروا حياضا وشرعوا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصطادونها يوم الأحد فالمعنى وباللّه لقد علمتموهم حين فعلوا من قبيل جناياتكم ما فعلوا فلم نمهلهم ولم نؤخر عقوبتهم بل عجلناها

فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين أى جامعين بين صورة القردة والخسوء وهو الطرد والصغار على أن حاسئين نعت لقردة

وقيل حال من أسم كونوا عند من يجيز عمل كان في الظروف والحال

وقيل من الضمير المستكن في قردة لأنه في معنى ممسوخين وقال مجاهد ما مسخت صورهم ولكن فلوبهم فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى كمثل الحمار يحمل أسفارا والمراد بالأمر بيان سرعة التكوين وأنهم صاروا كذلك كما أراده عز و جل وقرىء قردة بفتح القاف وكسر الراء وخاسين بغير همز

٦٦

فجعلناها أي المسخة والعقوبة

نكالا عبرة تنكل المعتبر بها أي تمنعه وتردعه ومنه النكل للقيد

لما بين يديها وما خلفها لما قبلها وما بعدها من الأمم إذ ذكرت حالهم في زبر الأولين واشتهرت قصصهم في الآخرين أو لمعاصريهم ومن بعدهم أو لما بحضرتها من القرى وما تباعد عنها أو لأهل تلك القرية وما حواليها أو لأجل ما تقدم عليها من ذنوبهم وما تأخر منها

وموعظة للمتقين من قومهم أو لكل متق سمعها

٦٧

وإذ قال موسى لقومه توبيخ آخر لإخلاف بني إسرائيل بتذكير بعض جنايات صدرت عن أسلافهم أى واذكروا وقت قول موسى عليه السلام لأجدادكم

إن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة وسببه أنه كان في بني إسرائيل شيخ موسر فقتله بنو عمه طمعا في ميراثه فطرحوه على باب المدينة ثم جاءوا يطالبون بديته فأمرهم اللّه تعالى أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها فيحيا فيخبرهم بقاتله

قالوا إستئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الكلام كأنه قيل فماذا صنعوا هل سارعوا إلى الامتثال أو لا فقيل قالوا

أتتخذنا هزوا بضم الزاء وقلب الهمزة واوا وقرئ بالهمزة مع الضم والسكون أي أتجعلنا مكان هزؤ أو أهل هزؤ أو مهزوء ا بنا أو الهزؤ نفسه استبعادا لما قاله واستخفافا به

قال إستئناف كما سبق

أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين لأن الهزؤ في أثناء تبليغ امر اللّه سبحانه جهل وسفه نفى عنه عليه السلام ما توهموه من قبله على أبلغ وجه وآكده بإخراجه مخرج مالا مكروه وراءه بالاستعاذة منه استفظاعا له واستعظاما لما أقدموا عليه من العظيمة التي شافهوه عليه السلام بها

٦٨

قالوا إستئناف كما مر كأنه قيل فماذا قالوا بعد ذلك فقيل توجهوا نحو الامتثال وقالوا

ادع لنا أي لأجلنا

ربك يبين لنا ما هي ما مبتدأ وهي خبره والجملة في حيز النصب يبين أي يبين لنا جواب هذا السؤال وقد سألوا عن حالها وصفتها لما قرع أسماعهم ما لم يعهدوه من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا فإن ما وإن شاعت في طلب مفهوم الاسم والحقيقة كما في ما الشارحة والحقيقة لكنها قد يطلب بها الصفة والحال تقول ما زيد فيقال طبيب أو عالم

وقيل كان حقه ان يستفحم بأي لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حالة مغايرة لما عليه الجنس أخرجوه عن الحقيقة فجعلوه جنسا على حياله

قال أي موسى عليه السلام بعدما دعا ربه عز و جل بالبيان وأتاه الوحي

إنه تعالى

يقول إنها أي البقرة المأمور بذبحها

بقرة لا فارض ولا بكر أي لا مسنة ولا فتيه يقال فرضت البقرة فروضا أي أسنت من الفرض بمعنى القطع كأنها قطعت سنها وبلغت آخرها وتركيب البكر للأولية ومنه البكرة والباكورة

عوان أي نصف لا قحم ولا ضرع قال

 ... طوال مثل أعناق الهوادي ...

نواعم بين أبكار وعون

بين ذلك إشارة إلى ما ذكر من الفارض والبكر ولذلك اضيف إليه بين لاختصاصه بالإضافة إلى المتعدد

فافعلوا أمر من جهة موسى عليه السلام متفرع على ما قبله من بيان صفة المأمور به

ما تؤمرون أي ما تؤمرونه بمعنى تؤمرون به كما في قوله

 ... أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ...

فإن حذف الجار قد شاع في هذا الفعل حتى لحق بالأفعال المتعدية إلى مفعولين وهذا الأمر منه عليه السلام لحثهم على الامتثال وزجرهم عن المراجعة ومع ذلك لم يقتنعوا به وقوله تعالى

٦٩

قالوا إستئناف كما مر كأنه قيل ماذا صنعوا بعد هذا البيان الشافي والأمر المكرر فقيل قالوا

ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها حتى يتبين لنا البقرة المأمور بها

قال اى موسى عليه السلام بعد المناجاة إلى اللّه تعالى ومجيء البيان

إنه تعالى

يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها إسناد البيان في كل مرة إلى اللّه عز و جل لإظهار كمال المساعدة في إجابة مسئولهم بقولهم يبين لنا وصيغة الاستقبال لإستحضار الصورة والفقوع نصوع الصفرة وخلوصها ولذلك يؤكد به ويقال اصفر فاقع كما يقال اسود حالك واحمر قانئ وفي اسناده الى اللون مع كونه من احوال الملون لملابسته به مالا يخفى من فضل تأكيد كأنه قيل صفراء شديد الصفرة صفرتها كما في جد جده وعن الحسن رضي اللّه عنه سوداء شديدة السواد وبه فسر قوله تعالى جمالة صفر قيل ولعل التعبير عن السواد بالصفر لما انها من مقدماته

وأما لأن سواد الإبل يعلوه صفرة ويأباه وصفها بقوله تعالى

تسر الناظرين كما يأباه وصفها بفقوع اللون والسرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه من السر عن علي رضي اللّه عنه من لبس نعلا صفراء قل همه

٧٠

قالوا استئناف كنظائره

ادع لنا ربك يبين لنا ما هي زيادة استكشاف عن حالها كأنهم سألوا بيان حقيقتها بحيث تمتاز عن جميع ما عداها مما تشاركها في الاوصاف المذكورة والاحوال المشروحة في اثناء البيان ولذلك عللوه بقولهم

ان البقر تشابه علينا يعنون ان الاوصاف المعدودة يشترك فيها كثير من البقر ولا نهتدي بها الى تشخيص ما هو المأمور بها بل صادقة على سائر افراد الجنس وقرئ ان الباقر وهو اسم لجماعة البقر والاباقر والبواقر ويتشابه بالياء والتاء ويشابه بطرح التاء والادغام على التذكير والتانيث وتشابهت مخففا ومشددا وتشبه بمعنى تتشبه وتشبه بالتذكير ومتشابه ومتشابهة ومتشبه ومتشبهة وفيه دلالة على انهم ميزوها عن بعض ما عداها في الجملة وإنما بقي اشتباه بشرف الزوال كما ينبئ عنه قولهم

وإنا إن شاء اللّه لمهتدون مؤكدا بوجوه من التوكيد أي لمهتدون بما سألنا من البيان الى الأمور بذبحها وفي الحديث لولم يستثنوا لما بينت لهم آخر الأبد

٧١

 قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقى الحرث أي لم تذلل للكراب وسقى الحرث ولا ذلول صفة لبقرة بمعنى غير ذلول ولا الثانية لتأكيد الأولى والفعلان صفتا ذلول كأنه قيل لا ذلول مثيرة وساقية وقرئ لا ذلول بالفتح أي حيث هي كقولك مررت برجل لا بخيل ولا جبان أي حيث هو وقرئ تسقى من اسقى

مسلمة أي سلمها اللّه تعالى من العيوب أو اهلها من العمل أو خلص لها لونها من سلم له كذا اذا خلص له ويؤيده قوله تعالى

لا شية فيها أي لا لون فيها يخالف لون جلدها حتى قرنها وظلفها وهي في الاصل مصدر وشاه وشيا وشية اذا خلط بلونه لونا آخر

قالوا عند ما سمعوا هذه النعوت

الآن جئت بالحق أي بحقيقة وصف البقرة بحيث ميزتها عن جميع ما عداها ولم يبق لنا في شانها اشتباه اصلا بخلاف المرتين الاوليين فإن ما جئت به فيهما لم يكن في التعيين بهذه المرتبة ولعلهم كانوا قبل ذلك قد رأوها ووجدوها جامعة لجميع ما فصل من الاوصاف المشروحة في المرات الثلاث من غير مشارك لها فيما عد في المرة الاخيرة والا فمن اين عرفوا اختصاص النعوت الاخيرة بها دون غيرها وقرئ آلآن بالمد على الاستفهام والآن بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام

فذبحوها الفاء فصيحة كما في فانفجرت أي فحصلوا البقرة فذبحوها

وما كادوا يفعلون كاد

من افعال المقاربة وضع لدنو الخبر من الحصول والجملة حال من ضمير ذبحوا أي فذبحوها والحال انهم كانوا قبل ذلك بمعزل منه أو اعتراض تذييلي ومآله استثقال استعصائهم واستبطاء لهم وانهم لفرط تطويلهم وكثرة مراجعاتهم ما كاد ينتهي خيط اسهابهم فيها قيل مضى من اول الامر الى الامتثال اربعون سنة

وقيل وما كادوا يفعلون ذلك لغلاء ثمنها روى انه كان في بني اسرائيل شيخ صالح له عجلة فأني بها الغيضة وقال اللّهم اني استودعتكها لا بني حتى يكبر وكان برا بوالديه فتوفي الشيخ وشبت العجلة فكانت من احسن البقر وأسمنها فساوموها اليتيم وامه حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا لما كانت وحيدة بالصفات المذكورة وكانت البقرة اذ ذاك بثلاثة دنانير واعلم انه لا خلاف في ان مدلول ظاهر النظم الكريم بقرة مطلقة مبهمة وأن الامتثال في آخر الأمر إنما وقع بذبح بقرة معينة حتى لو ذبحوا غيرها ما خرجوا عن عهدة الأمر لكن اختلف في أن المراد المأمور به اثر ذي اثير هل هي المعينة وقد أخر البيان عن وقت الخطاب أو المبهمة ثم لحقها التغيير الى المعينة بسبب تثاقلهم في الامتثال وتماديهم في التعمق والاستكشاف فذهب بعضهم الى الأول تمسكا بأن الضمائر في الأجوبة اعنى انها بقرة الى آخر للمعينة قطعا ومن قضيته ان يكون في السؤال ايضا كذلك ولا ريب في ان السؤال إنما هو عن البقرة المأمور بذبحها فتكون هي المعينة وهو مدفوع بأنهم لما تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا ظنوها معينة خارجه عما عليه الجنس من الصفات والخواص فسألوا عنها فرجعت الضمائر الى المعينة في زعمهم واعتقادهم فعينها اللّه تعالى تشديدا عليهم وإن لم يكن المراد من اول الامر هي المعينة والحق انها كانت في اول الامر مبهمة بحيث لوذبحوا أية بقرة كانت لحصل الامتثال بدلالة ظاهر النظم الكريم وتكرير الأمر قبل بيان اللون وما بعده من كونها مسلمة الخ وقد قال صلى اللّه عليه و سلم لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم وروى مثله عن رئيس المفسرين عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما ثم رجع الحكم الأول منسوخا بالثاني والثاني بالثالث تشديدا عليهم لكن لا على وجه ارتفاع حكم المطلق بالكلية وانتقاله إلى المعين بل على طريقة تقييده وتخصصه به شيئا فشيئا كيف لا ولو لم يكن كذلك لما عدت مراجعاتهم المحكية من قبيل الجنايات بل من قبيل العبادة فإن الامتثال بالأمر بدون الوقوف على المأمور به مما لا يكاد يتسنى فتكون سؤالاتهم من باب الاهتمام بالامتثال

٧٢

واذ قتلتم نفسا منصوب بمضمر كما مرت نظائره والخطاب لليهود المعاصرين لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وإسناد القتل والتدارؤ اليهم لما مر من نسبة جنايات الاسلاف الى الأخلاف توبيخا وتقريعا وتخصيصهما بالإسناد دون ما مر من هناتهم لظهور قبح القتل وإسناده إلى الغير أي اذكروا وقت قتلكم نفسا محرمة فادر أتم فيها أي تخاصمتم في شأنها إذ كل واحد من الخصماء يدافع الآخر أو تدافعتم بأن طرح كل واحد قتلها الى آخر وأصله ئداراتم فأدغمت التاء في الدال واجتلبت لها همزة الوصل

واللّه مخرج ما كنتم تكتمون أي مظهر لما تكتمونه لا محالة والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار وإنما اعمل مخرج لانه حكاية حال ماضية

٧٣

فقلنا اضربوه عطف على فادار اتم وما بينهما اعتراض والالتفات لتربية المهابة والضمير للنفس والتذكير باعتبار انها عبارة عن الرجل أو بتأويل الشخص أو القتيل

ببعضها أي ببعض البقرة أي بعض كان

وقيل بأصغريها

وقيل بلسانها

وقيل بفخذها اليمنى

وقيل بأذنها

وقيل بعجبها

وقيل بالعظم الذي يلي الغضروف وهذا اول القصة كما ينبئ عنه الضمير الراجع الى البقرة كأنه قيل واذ قتلتم نفسا فادار اتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة فاضربوه ببعضها وإنما غير الترتيب عند الحكاية لتكرير التوبيخ وتثنية التقريع فإن كل واحد من قتل النفس المحرمة والاستهزاء برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم والافتيات على امره وترك المسارعة الى الامتثال به جناية عظيمة حقيقة بأن تنعى عليهم بحيالها ولو حكيت القصة على ترتيب الوقوع لما علم استقلال كل منها بما يخص بها من التوبيخ وإنما حكى الأمر بالذبح عن موسى عليه السلام مع انه من اللّه عز و جل كالأمر بالضرب لما ان جناياتهم كانت بمراجعتهم اليه عليه السلام والافتيات على رأيه

كذلك يحيى اللّه الموتى على ارادة قول معطوف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي فضربوه فحيى وقلنا كذلك يحيى الخ فحذفت الفاء الفصيحة في فحيى مع ما عطف بها وما عطف هو عليه لدلالة كذلك على ذلك فالخطاب في كذلك حينئذ للحاضرين عند حياة القتيل ويجوز ان يكون ذلك للحاضرين عند نزول الآية الكريمة فلا حاجة حينئذ الى تقدير القول بل تنتهي الحكاية عند قوله تعالى ببعضها مع ما قدر بعده فالجملة معترضة أي مثل ذلك الإحياء العجيب يحيي اللّه الموتى يوم القيامه

ويريكم آياته ودلائله الدالة على أنه تعالى على كل شئ قدير ويجوز أن يراد بالآيات هذا الإحياء والتعبير عنه بالجمع لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على عضو ميت وأخباره بقاتله وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادة

لعلكم تعقلون أي لكي تكمل عقولكم وتعلموا أن من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس كلها أو تعلم على قضية عقولكم ولعل الحكمة في اشتراط ما اشترط في الأحياء مع ظهور كمال قدرته على أحيائه ابتداء بلا واسطة اصلا اشتماله على التقرب الى اللّه تعالى وأداء الواجب ونفع اليتيم والتنبيه على بركة التوكل على اللّه تعالى والشفقة على الأولاد ونفع بر الوالدين وأن من حق الطالب أن يقدم قربة ومن حق المتقرب أن يتحرى الأحسن ويغالي بثمنه كما يروى عن عمر رضي اللّه عنه أنه ضحى بنجيبة اشتراها بثلثمائه دينار وأن المؤثر هو اللّه تعالى وأنما الأسباب أمارات لا تأثير لها وأن من رام أن يعرف أعدى عدوه الساعي في أماتته الموت الحقيقي فطريقة أن يذبح بقرة نفسه التي هي قوته الشهوية حين زال عنها شره الصبا ولم يلحقها ضعف الكبر وكانت معجبة رائقة المنظر غير مذللة في طلب الدنيا مسلمة عن دنسها لا سمة بها من قبائحها بحيث يتصل أثره إلى نفسه فيحيا بها حياة طيبة ويعرب عما به ينكشف الحال ويرتفع ما بين العقل والوهم من التدارؤ والجدال

٧٤

ثم قست قلوبكم الخطاب لمعاصري النبي والقسوة عبارة عن الغلظ والجفاء والصلابة كما في الحجر استعيرت لنبو قلوبهم عن التأثر بالعظات والقوارع التي تميع منها الجبال وتلين بها الصخور وايراد الفعل المفيد لحدوث القساوة مع أن قلوبهم لم تزل قاسية لما أن المراد بيان بلوغهم الى مرتبة مخصوصة من مراتب القساوة حادثة

وأما لأن الاستمرار على سئ بعد ورود ما يوجب الاقلاع عنه أمر جديد وصنع حادث وثم لاستبعاد القسوة بعد مشاهدة ما يزيلها كقوله تعالى ثم الذين كفروا بربهم يعدلون

من بعد ذلك اشارة الى ما ذكر من إحياء القتيل أو إلى جميع ما عدد من الآيات الموجبة للين القلوب وتوجيهها نحو الحق أي من بعد سماع ذلك وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته وعلو طبقته وتوحيد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين إما بتأويل الفريق أو لأن المراد مجرد الخطاب لا تعيين المخاطب كما هو المشهور

فهي كالحجارة في القساوة

أو أشد منها

قسوة أي هي في القسوة مثل الحجارة أو زائدة عليها فيها أو أنها مثلها أو مثل ما هو اشد منها قسوة كالحديد وحذف المضاف واقيم المضاف اليه مقامه ويعضده القراءة بالجر عطفا على الحجارة وايراد الجملة اسمية مع كون ما سبق فعلية للدلالة على استمرار قساوة قلوبهم والفاء اما لتفريع مشابهتها لها على ما ذكر من القساوة تفريع التشبيه على بيان وجه الشبه في قولك أحمر خده فهو كالورد

وأما للتعليل كما في قولك اعبد ربك فالعبادة حق له وانما لم يقل أو اقسى منها لما في التصريح بالشدة من زيادة مبالغة ودلالة ظاهرة على اشتراك القسوتين في الشدة واشتمال المفضل على زيادة واو للتخيير أو للترديد بمعنى ان من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو اقسى أو من عرفها شبهها بالحجارة أو قال هي اقسى من الحجارة وترك ضمير المفضل عليه للأمن من الإلتباس

وان من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار بيان لأشدية قلوبهم من الحجارة في القساوة وعدم التأثر واستحالة صدور الخير منها يعني أن الحجارة ربما تتأثر حيث يكون منها ما يتفجر منه المياه العظيمة

وإن منها لما يشقق أي يتشقق

فيخرج منه الماء أي العيون

وان منها لما يهبط من خشية اللّه أي يتردى من الاعلى الى الاسفل بقضية ما أودعه اللّه عز و جل فيها من الثقل الداعي الى المركز وهو مجاز من الانقياد لأمره تعالى والمعنى أن الحجارة ليس منها فرد الا وهو منقاد لأمره عز وعلا آت بما خلق له من غير استعصاء وقلوبهم ليست كذلك فتكون اشد منها قسوة لا محالة واللام في لما لام الابتداء دخلت على اسم إن لتقدم الخبر وقرئ أن على أنها مخففة من الثقيلة واللام فارقة وقرئ يهبط بالضم

وما اللّه بغافل عما تعملون عن متعلقة بغافل وما موصلة والعائد محذوف أو مصدرية وهو وعيد شديد على ما هم عليه من قساوة القلوب وما يترتب عليها من الاعمال السيئة وقرئ بالياء على الالتفات وقوله تعالى

٧٥

أفتطمعون تلوين للخطاب وصرف له عن اليهود أثر ما عدت هناتهم ونعيت عليهم جناياتهم الى النبي ومن معه من المؤمنين والهمزة لإنكار الواقع واستبعاده كما في قولك أتضرب اباك لا لإنكار الوقوع كما في قوله أأضرب أبي والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه نظام الكلام لكن لا على قصد توجيه الإنكار الى المعطوفين معا كما في أفلا تبصرون على تقدير المعطوف عليه منفيا أي ألا تنظرون فلا تبصرون فالمنكر كلا الأمرين بل الى ترتب الثاني على الأول مع وجوب ان يترتب عليه نقيضه كما إذا قدر الأول مثبتا أي اتنظرون فلا تبصرون فالمنكر ترتب الثاني على الأول مع وجوب ان يترتب عليه نقيضه أي اتسمعون أخبارهم وتعلمون أحوالهم فتطمعون ومآل المعنى أبعد ان علمتم تفاصيل شؤونهم المؤيسة عنهم تطمعون

أن يؤمنوا فإنهم متماثلون في شدة الشكيمة والأخلاق الذميمة لا يتأتى من أخلاقهم الا مثل ما أتى من أسلافهم وأن مصدرية حذف عنها الجار والأصل في أن يؤمنوا وهي مع ما في حيزها في محل النصب أو الجر على الخلاف المعروف واللام في لكم لتضمين معنى الاستجابة كما في قوله عز و جل فآمن له لوط أي في إيمانهم مستجيبين

 لكم أو للتعليل أي في أن يحدثوا الايمان لأجل دعوتكم وصلة الايمان محذوفة لظهور ان المراد به معناه الشرعي وستقف على ما فيه من المزية بإذن اللّه تعالى

وقد كان فريق منهم الفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه كالرهط والقوم والجار والمجرور في محل الرفع أي فريق كائن منهم وقوله تعالى

يسمعون كلام اللّه خبر كان وقرئ كلم اللّه والجملة حالية مؤكدة للإنكار حاسمة لمادة الطمع مثل احوالهم الشنيعة المحكية فيما سلف على منهاج قوله وهم لكم عدو بعد قوله تعالى أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني أي والحال ان طائفة منهم قال ابن عباس رضي اللّه عنهما هم قوم من السبعين المختارين للميقات كانوا يسمعون كلامه تعالى حين كلم موسى عليه السلام بالطور وما أمر به ونهى عنه

ثم يحرفونه عن مواضعه لا لقصور فهمهم عن الاحاطة بتفاصيله على ما ينبغي لإستيلاء الدهشة والمهابة حسبما يقتضيه مقام الكبرياء بل

من بعد ما عقلوه أي فهموه وضبطوه بعقولهم ولم تبق لهم في مضمونه ولا في كونه كلام رب العزة ريبة أصلا فلما رجعوا الى قومهم اداه الصادقون اليهم كما سمعوا وهؤلاء قالوا سمعنا اللّه تعالى يقول في آخر كلامه إن استطعتم ان تفعلوا هذه الاشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس فثم للتراخي زمانا أو رتبة وقال القفال سمعوا كلام اللّه وعقلوا مراده تعالى منه فأولوه تأويلا فاسدا

وقيل هم رؤساء اسلافهم الذين تولوا تحريف التوراة بعد ما أحاطوا بما فيها علما

وقيل هم الذين غيروا نعت النبي في عصره وبدلوا آية الرجم ويأباه الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل الدال على وقوع السماع والتحريف فيما سلف الاأن يحمل ذلك على تقدمه على زمان نزول الآية الكريمة لا على تقدمه على عهده عليه الصلاة و السلام هذا والأول هو الأنسب بالسماع والكلام إذ التوراة وأن كانت كلام اللّه عز وعلا لكنها باسم الكتاب أشهر وأثر التحريف فيه أظهر ووصف اليهود بتلاوتها أكثر لا سيما رؤساؤهم المباشرون للتحريف فإن وظيفتهم التلاوة دون السماع فكان الأنسب حينئذ أن يقال يتلون كتاب اللّه تعالى فالمعنى أفتطمعون في أن يؤمن هؤلاء بواسطتكم ويستجيبوا لكم والحال أن أسلافهم الموافقين لهم في خلال السوء كانوا يسمعون كلام اللّه بلا واسطة ثم يحرفونه من بعد ما علموه يقينا ولا يستجيبون له هيهات ومن ههنا ظهر ما في إيثار لكم على باللّه من الفخامة والجزالة وقوله عز و جل

وهم يعلمون جملة حالية من فاعل يحرفونه مفيدة لكمال قباحة حالهم مؤذنة بأن تحريفهم ذلك لم يكن بناء على نسيان ما عقلوه أو على الخطأ في بعض مقدماته بل كان ذلك حال كونهم عالمين مستحضرين له اووهم يعلمون أنهم كاذبون ومفترون

٧٦

وإذا لقوا جملة مستأنفة سيقت إثر بيان ما صدر عن أشباههم لبيان ما صدر عنهم بالذات من الشنائع المؤيسة عن إيمانهم من نفاق بعض وعتاب آخرين عليهم أو معطوفة على ما سبق من الجلمة الحالية والضمير لليهود لما ستقف على سره لالمنافقيهم خاصة كما قيل تحريا لاتحاد الفاعل في فعلى الشرط والجزاء حقيقة

الذين آمنوا من أصحاب النبي

قالوا أي الاقون لكن لا بطريق تصدى الكل للقول حقيقة بل بمباشرة منافقهم وسكوت الباقين كما يقال بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم وهذا أدخل في تقبيح حال الساكتين أولا العاتبين ثانيا لما فيه من الدلالة على نفاقهم واخلاف أحوالهم وتناقض آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصة بتقدير المضاف أي قال منافقوهم

آمنا لم يقتصروا على ذلك بل عللوه بأنهم وجدوا نعت النبي في التوراة وعلموا أنه النبي المبشر به وإنما لم يصرح به تعويلا على شهادة التوبيخ الآتي

وإذا خلا بعضهم أي بعض المذكورين وهم الساكتون منهم أي إذا فرغوا من الاشتغال بالمؤمنين متوجهين ومنضمين

إلى بعض آخر منهم وهم منافقوهم بحيث لم يبق معهم غيرهم وهذا نص على اشتراك الساكتين في لقاء المؤمنين كما أشير إليه آنفا إذ الخلو إنما يكون بعد الاشتغال ولأن عتابهم معلق بمحض الخلو ولولا أنهم حاضرون عند المقاولة لوجب أن يجعل سماعهم لها من تمام الشرط ولأن فيه زيادة تشنيع لهم على ما أتوا من السكوت ثم العتاب

قالوا أي الساكتون موبخين لمنافقيهم على ما صنعوا

أتحدثونهم يعنون المؤمنين

بما فتح اللّه عليكم ما موصولة والعائد محذوف أي بينه لكم خاصة في التوراة من نعت النبي والتعبير عنه بالفتح للإيذان بأنه سر مكنون وباب مغلق لا يقف عليه أحد وتجويز كون هذا التوبيخ من جهة المنافقين لأعقابهم إراءة للتصلب في دينهم كما ذهب إليه عصابة مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل واللام في قوله عز و جل

ليحاجوكم به متعلقة بالتحديث دون الفتح والمراد تأكيد النكير وتشديد التوبيخ فإن التحديث بذلك وإن كان منكرا في نفسه لكن التحديث به لأجل هذا الغرض

مما لا يكاد يصدر عن العاقل أي اتحدثونهم بذلك ليحتجوا عليكم فيبكتوكم والمحدثون به وإن لم يحوموا حول ذلك الغرض لكن فعلهم ذلك لما كان مستتبعا له البتة جعلوا فاعلين للغرض المذكور وإظهارا لكمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم

عند ربكم أي في حكمة وكتابه كما يقال هو عند اللّه كذا إى في يدفعه إذ هم عالمون بأنهم محجوجون يومئذ حدثوا به أو لم يحدثوا والاعتذار إلزام المؤمنين كتابه وشرعه

وقيل عند ربكم يوم القيامه ورد عليه بأن الإخفاء لا إياهم وتبكيتهم بأن يقولوا لهم ألم تحدثونا بما فى كتابكم في الدنيا من حقية ديننا وصدق نبينا أفحش فيجوز أن يكون المحذور عندهم هذا الإلزام بإرجاع الضمير في به إلى التحديث دون المحدث به ولا ريب في أنه مدفوع بالإخفاء لا تسادعه الآية الكريمة الايتة كما ستقف عليه بإذن اللّه عز و جل

أفلا تعقلون من تمام التوبيخ والعتاب والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي ألا تلاحظون فلا تعقلون هذا الخطأ الفاحش أو شيئا من الأشياء التي من جملتها هذا فالمنكر عدم التعقل ابتداء أو أتفعلون ذلك فلا تعقلون بطلانه مع وضوحة حتى تحتاجون إلى التنبيه عليه فالمنكر حينئذ عدم التعقل بعد الفعل هذا

وأما ما قيل من أنه خطاب من جهة اللّه سبحانه للمؤمنين متصل بقوله تعالى أفتطمعون والمعنى أفلا تعقلون حالهم وأن لا مطمع لكم في إيمانهم فيأباه قوله تعالى

٧٧

أولا يعلمون فإنه إلى آخره تجهيل لهم من من جهته تعالى فيما حكى عنهم فيكون إيراد خطاب المؤمنين في أثنائه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه علىأن في تخصيص الخطاب بالمؤمنين من التعسف وفي تعميمه للنبي أيضا كما في أفتطمعون من سوء الأدب مالا يخفى والهمزة للإنكار والتوبيخ كما قبلها والواو للعطف على مقدر ينساق إليه الذهن والضمير للموبخين أي أيلومونهم على التحديث المذكور مخافة المحاجة ولا يعلمون

أن اللّه يعلم ما يسرون أي يسرونه فيما بينهم من المؤمنين أو ما يضمرونه في قلوبهم فيثبت الحكم في ذلك بالطريق الأولى وما يعلنون أي يظهرونه للمؤمنين لأصحابهم حسبما سبق فحينئذ يظهر اللّه تعالى ما أرادوا إخفاءه بواسطة الوحى إلى النبي فتحصل المحاجة ويقع التبكيت كما وقع في آية الرجم وتحريم بعض المحرمات عليهم فأى فائدة في اللوم والعتاب ومن ههنا تبين أن المحذور عندهم هو المحاجة بما فتح اللّه عليهم وهي حاصلة في الدارين حدثوا به أم لا لا بالتحديث به حتى يندفع بالإخفاء

وقيل الضمير للمنافقين فقط أولهم وللموبخين أو لآبائهم المحرفين أي أيفعلون ما يفعلون ولا يعلمون أن اللّه يعلم جميع ما يسرون وما يعلنون ومن جملته إسرارهم الكفر وإظهارهم الإيمان وإخفاء ما فتح اللّه عليهم وإظهار غيره وكتم أمر اللّه وإظهار ما أظهروه افتراء وإنما قدم الإسرار على الإعلان للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر والمبالغة في بيان شمول علمه المحيط لجميع المعلومات كأن علمه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه مع كونهما في الحقيقة على السوية فإن علمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول صورها بل وجود كل شئ في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفي

هذا المعنى لا يختلف الحال بين الشياء البارزة والكامنة ونظيره  قوله عز وعلا قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه اللّه حيث قدم فيه الإخفاء على الإبداء لما ذكر من السر على عكس ما وقع في قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه فإن الأصل في تعلق المحاسبة به هو الأمور البادية دون الخافية ويجوز أن يكون ذلك باعتبار أن مرتبه السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شئ يعلن إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في القلب يتعلق به الإسرار غالبا فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية

٧٨

ومنهم أميون وقرئ بتخفيف الياء جمع أمي وهو من لا يقدر على الكتابة والقراءة واختلف في نسبته فقيل إلى الأم بمعنى أنه شبيه بها في الجهل بالكتابة والقراءة فإنهما ليستا من شئوون النساء بل من خلال الرجال أو بمعنى أنه على الحالة التي ولدته أمه في الخلو عن العلم والكتابة

وقيل إلى الأمة بمعنى أنه باق على سذاجتها خال عن معرفة الأشياء كقولهم عامى أي على عادة العامة روى عن عكرمة والضحاك أن المراد بهم نصارى العرب

وقيل هم قوم من أهل الكتاب رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها فصاروا أميين وعن علي رضي اللّه تعالى عنه هم المجوس والحق الذي لا محيد عنه أنهم جهلة اليهود والجملة مستأنفة مسوقة لبيان قبائحهم إثر بيان شنائع الطوائف السالفة

وقيل هي معطوفة على الجملة الحالية وما بعدها فإن الجهل بالكتاب في منافاة الإيمان ليس بمثابة تحريف كلام اللّه بعد سماعة والعلم بمعانيه كما وقع من الأولين أو النفاق والنهى عن إظهار ما في التوراة كما وقع من الفرقتين الآخريين أي ومنهم طائفة جهلة غير قادرين على الكتابة والتلاوة

لا يعلمون الكتاب أي لا يعرفون التوراة ليطالعوها ويتحققوا ما في تضاعيفها من دلائل النبوة فيؤمنوا وحمل الكتاب على الكتابة يأباه سباق النظم الكريم وسياقه

إلا أماني بالتشديد وقرئ بالتخفيف جمع امنية أصلها أمنوية أفعولة من منى قدر أو بمعنى تلا كتمنى في قوله

 ... تمنى كتاب اللّه أو ليله ...

فأعلت إعلال سيد وميت ومعناها على الأول ما يقدره الإنسان في نفسه ويتمناه وعلى الثاني ما يتلوه وعلى التقديرين فالاستثناء منقطع إذ ليس ما يتمنى وما يتلى من جنس علم الكتاب أي لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون أماني حسبما منتهم احبارهم من ان اللّه سبحانه يعفو عنهم وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم وغير ذلك من أمانيهم الفارغة المستندة إلى الكتاب على زعم رؤسائهم أو لا يعلمون الكتاب لكن يتلقونه قدر ما يتلى عليهم فيقبلونه من غير أن يتمكنوا من التدبر فيه

وأما حمل الأماني على الأكاذيب المختلفة على الإطلاق من غير أن يكون لها ملابسة بالكتاب فلا يساعده النظم الكريم

وإن هم إلا يظنون ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يصلوا إلى رتبة العلم فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين ولما بين حال هؤلاء في تمسكهم بحبال الأماني واتباع الظن عقب ببيان حال الذين أو قعوهم في تلك الورطة وبكشف كيفية إضلالهم وتعيين مرجع بالآخر فقيل على وجه الدعاء

عليهم

٧٩

فويل هو وأمثاله من ويح وويس وويب وويه وويك وعول من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها لا يجوز إظهارها البتة فإن اضيف نصب نحو ويلك وويحك عن الإضافة رفع نحو ويل له ومعنى الويل شدة الشر قاله الخليل وقال الأصمعي الويل التفجع والويح الترحم وقال سيبويه ويل لمن وقع في الهلكة وويح زجر لمن اشرف على الهلاك

وقيل الويل الحزن وهل ويح وويب وويس بذلك المعنى أو بينه وبينها فرق

وقيل ويل في الدعاء عليه وويح وما بعده في الترحم عليه وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما الويل العذاب الأليم وعن سفيان الثورى انه صديد اهل جهنم وروى ابو سعيد الخدرى رضي اللّه تعالى عنه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر اربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره وقال سعيد ابن المسيب أنه واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لماعت من شدة حره وقال ابن بريدة جبل قيح ودم

وقيل صهريج في جهنم وحكى الزهراوي انه باب من ابواب جهنم وعلى كل حال فهو مبتدأ خبره  قوله عز وعلا

للذين يكتبون الكتاب أي المحرف أو ما كتبوه من التأويلات الزائغة

بأيديهم تأكيد لدفع توهم المجاز كقولك كتبته بيميني

ثم يقولون هذا أي جميعا على الأول وبخصوصه على الثاني

من عند اللّه روى ان احبار اليهود خافوا ذهاب مآكلهم وزوال رياستهم حين قدم النبي المدينة فاحتالوا في تعويق اسافل اليهود عن الإيمان فعمدوا الى صفة النبي في التوراة وكانت هي فيها حسن الوجه حسن الشعر اكحل العينيين ربعة فغيروها وكتبوا مكانها طوال ازرق سبط الشعر فإذا سألهم سفلتهم عن ذلك قرءوا عليهم ما كتبوا فيجدونه مخالف لصفته عليه السلام فيكذبونه وثم للتراخي الرتبي فإن نسبة المحرف والتأويل الزايغ الى اللّه سبحانه صريحا اشد شناعة من نفس التحريف والتأويل

ليشتروا به أي يأخذوا لأنفسهم بمقابلته

ثمنا هو ما اخذوه من الرشى بمقابلة ما فعلوا من التحريف والتأويل وإنما عبر عن المشتري الذي هو المقصود بالذات في عقد المعاوضة بالثمن الذي هو وسيلة فيه إيذانا بتعكيسهم حيث جعلوا المقصود بالذات وسيلة والوسيلة بالذات

قليلا لا يعبأ به فإن ذلك وإن جل في نفسه فهو أقل قليلا عندما استوجبوا به من العذاب الخالد

فويل لهم تكرير لما سبق للتأكيد وتصريح بتعليله بما قدمت أيديهم بعد الإشعار به فيما سلف بإيراد بعضه في حيز الصلة وبعضه في معرض الغرض والفاء للإيذان بترتبه عليه ومن في قوله عز و جل

مما كتبت أيديهم تعليلية متعلقة بويل أو بالإستقرار في الخبر وما موصولة اسمية والعائد محذوف أي كتبته أو مصدرية والأول أدخل في الزجر عن تعاطي المحرف والثاني في الزجر عن التحريف

وويل لهم مما يكسبون الكلام فيه كالذي فيما قبله والتكرير لما مر من التأكيد والتشديد إلى التعليل بكل من الجانبين وعدم التعرض لقولهم هذا من عند اللّه لما أنه من مبادي ترويج ما كتبت أيديهم فهو داخل في التعليل به

٨٠

وقالوا بيان لبعض آخر من جناياتهم وفصله عما قبله مشعر بكونه من الأكاذيب التي اختلفوها ولم يكتبوها في الكتاب

لن تمسنا النار في الاخرة

إلا أياما معدودة قليلة محصورة عدد أيام عبادتهم العجل أربعين يوما مدة غيبة موسى عليه السلام عنهم وحكى الأصمعي عن بعض اليهود أن عدد أيام عبادتهم العجل سبعة وروى عن ابن عباس ومجاهد أن اليهود قالوا عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما واحدا وروى الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن اليهود زعمت أنهم وجدوا في التوراة أن ما بين طرفى جهنم مسيرة أربعين سنة إلى ان ينتهوا إلى شجرة الزقوم وأنهم يقطعون في كل مسيرة سنة فيكملونها

قل تبكيتا لهم وتوبيخا

أتخذتم بإسقاط الهمزة المجتلبه لوقوعها في الدرج وبإظاهر الذال وقرئ بإدغامها في التاء

عند اللّه عهدا خبرا أو وعدا بما تزعمون فإن ما تدعون لا يكون إلا بناء على وعد قوى ولذلك عبر عنه بالعهد

فلن يخلف اللّه عهده الفاء فصيحة معربة عن شرط محذوف كما في قول من قال

 ... قالوا خراسان اقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسان ...

أي أن كان الأمر كذلك فلن يخلفه والجملة اعتراضية وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم فإن عدم الإخلاف من قضية الألوهية وإظهار العهد مضافا إلى ضميره عز و جل لكا ذكر أو لأن المراد به جميع عهدوه لعمومه بالإضافة فيدخل فيه العهد المعهود دخولا أوليا وفيه تجاف عن التصريح بتحقق مضمون كلامهم وإن كان معلقا بما لم يكد يشم رائحة الوجود قطعا اعنى اتخاذ العهد

أم تقولون مفترين

على اللّه مالا تعلمون وقوعه وإنما علق التوبيخ بإسنادهم إليه سبحانه مالا يعلمون وقوعه مع أن ما أسندوه إليه تعالى من قبيل ما يعلمون عدم وقوعه للمبالغة في التوبيخ والتنكير فإن التوبيخ على الأدنى مستلزم للتوبيخ على الأعلى بالطريق الأولى وقولهم المحكى وإن لم يكن تصريحا بالافتراء عليه سبحانه لكنه مستلزم له لأن ذلك الجزم لا يكون إلا بإسناد سببه إليه تعالى وام متصلة والاستفهام للتقرير المؤدى إلى التبكيت لتحقق العلم بالشق الأخير كأنه قيل أم لم تتخذوه بل تتقولون عليه تعالى

وأما منقطعة والاستفهام لإنكار الاتخاذ ونفيه ومعنى بل فيها الاضراب والانتقال من التوبيخ بالإنكار على اتخاذ العهد إلى ما تفيد همزتها من التوبيخ على التقول على اللّه سبحانه كما في قوله عز و جل قل اللّه أذن لكم أم على اللّه تفترون

٨١

بلى إلى آخره جواب عن قولهم المحكى وأبطال له من جهته تعالى وبيان لحقيقة الحال تفصيلا في ضمن تشريع كلى شامل لهم ولسائر الكفرة بعد إظهار كذبهم إجمالا وتفويض ذلك إلى النبي لما ان المحاجة والإلزام من وظائفة عليه السلام مع ما فيه من الإشعار بأنه أمر هين لايتوقف على التوقيف وبلى حرف إيجاب مختص بجواب النفى خبرا واستفهاما

من كسب سيئة فاحشة من السيئات أي كبيرة من الكبائر كدأب هؤلاء الكفرة والكسب استجلاب النفع وتعليقه بالسيئة على طريقة فبشرهم بعذاب أليم

وأحاطت به من جميع جوانبه بحيث لم يبق له جانب من قلبه ولسانه وجوارحه إلا وقد اشتملت واستولت عليه

خطيئته التي كسبها وصارت خاصة من خواصه كما تنبئ عنه الإضافة إليه وهذا إنما يتحقق في الكافر ولذلك فسرها السلف بالكفر حسبما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وأبي هريرة رضي اللّه عنهم وابن جرير عن أبي وائل ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع

وقيل السيئة الكفر والخطيئة الكبيرة

وقيل بالعكس

وقيل الفرق بينهما أن الأولى قد تطلق على ما يقصد بالذات والثانية تغلب على ما يقصد بالعرض لأنها من الخطأ وقرئ خطيته وخطياته على القلب والإدغام فيهما وخطيئاته وخطاياه وفي ذلك إيذان بكثرة فنون كفرهم

فأولئك مبتدأ

أصحاب النار خبره والجملة خبر للمبتدأ والفاء لتضمنه معنى الشرط وإيراد اسم الإشارة المنبئ عن استحضار المشار إليه بماله من الأوصاف للإشعار بعليتها لصاحبيه النار وما فيه من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتهم في الكفر والخطايا وإنما أشير إليهم بعنوان الجمعية مراعاة لجانب المعنى في كلمة من بعد مراعاة جانب اللفظ في الضمائر الثلاثة لما أن ذلك هو المناسب لما أسند إليهم في تينك الحالتين فإن كسب السيئة وأحاطت خطيئته به في حالة الانفراد وصاحية النار في حالة الاجتماع أي أولئك الموصوفون بما ذكر من كسب السيئات وإحاطة خطاياهم بهم أصحاب النار أي ملازموها في الآخرة حسب ملازمتهم في الدنيا لما يستوجبها من الأسباب التي من جملتها ما هم عليه من تكذيب آيات اللّه تعالى وتحريف كلامه والافتراء عليه وغير ذلك وإنما لم يخص الجواب بحالهم بأن يقال مثلا بلى أنهم أصحاب النار الخ لما في التعميم من التهويل وبيان حالهم بالبرهان والدليل مع مامر من قصد الإشعار بالتعليل

هم فيها خالدون دائما أبدأ فأنى لهم التفصى عنها بعد سبعة أيام أو أربعين كما زعموا فلا حجة في الآية الكريمة على خلود صاحب الكبيرة لما عرفت من اختصاصها بالكافر ولا حاجة إلى حمل الخلود على اللبث الطويل على أن فيه تهوين الخطب في مقام التهويل

٨٢

والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون جرت السنة الإلهية على شفع الوعد بالوعيد مراعاة لما تقتضيه الحكمة في إرشاد العباد من الترغيب تارة والترهيب أخرى والتبشير مرة والإنذار أخرى

٨٣

وإذ أخذنا ميثاق بنى إسرائيل شروع

في تعداد بعض آخر من قبائح أسلاف اليهود مما ينادى بعدم إيمان أخلافهم وكلمة إذ نصب بإضمار فعل خوطب به النبي والمؤمنون ليؤديهم التأمل في أحوالهم إلى قطع الطمع عن إيمانهم أو اليهود الموجودون في عهد النبوة توبيخا لهم بسوء صنيع أسلافهم أي أذكروا إذ أخذنا ميثاقهم

لا تعبدون إلا اللّه على إرادة القول أي قلنا أو قائلين لا تعبدون الخ وهو إخبار في معنى النهى كقوله تعالى ولا يضار كاتب ولا شهيد وكما يقول تذهب إلى فلان وتقول كيت وكيت وهو أبلغ من صريح النهى لما فيه من إيهام أن المنهى حقه أن يسارع الى الانتهاء عما نهى عنه فكأنه انتهى عنه فيخبر به الناهي ويؤيده قراءة لا تعبدوا وعطف قولوا عليه وقيل تقديره أن لا تعبدوا الخ فحذف الناصب ورفع الفعل كما في قوله

 ... الا ايهذا الزاجري أحضر الوغى ...

وأن اشهد اللذات هل أنت مخلدي ...

ويعضده قراءة أن لا تعبدوا فيكون بدلا من الميثاق أو معمولا له بحذف الجار وقيل أنه جواب قسم دل عليه المعنى كأنه قيل وحلفناهم لا تعبدون الا اللّه وقرئ بالياء لأنهم غيب

وبالوالدين احسانا متعلق بمضمر أي وتحسنون أو احسنوا

وذي القربي واليتامى والمساكين عطف على الوالدين ويتامى جمع يتيم كندمي جمع نديم وهو قليل ومسكين مغعيل من السكون كأن الفقر اسكنه من الحراك واثخنه عن التقلب

وقولوا للناس حسنا أي قولا حسنا سماه حسنا مبالغة وقرئ كذلك وحسنا بضمتين وهي لغة أهل الحجاز وحسني كبشرى والمراد به ما فيه تخلق وارشاد

واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة هما ما فرض عليهم في شريعتهم

ثم توليتم أن جعل ناصب الظرف خطابا للنبي والمؤمنين فهذا التفات إلى خطاب بنى أسرائيل جميعا بتغليب أخلافهم على أسلافهم لجريان ذكرى كلهم حينئذ على نهج الغيبة فإن الخطابات السابقة لأسلافهم محكية داخلة في حيز القول المقدر قبل لاتعبدون كأنهم استحضروا عند ذكر جناياتهم منعيت هي عليهم وأن جعل خطابا لليهود المعاصرين للرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم والمؤمنين فهذا تعميم للخطاب بتنزيل الاسلاف منزلة الأخلاف كما أنه تعميم للتولى بتنزيل الأخلاف منزلة الأسلاف للتشديد في التوبيخ أي اعرضتم عن المضى على مقتضي الميثاق ورفضتموه

إلا قليلا منكم وهم من الأسلاف من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ ومن الأخلاف من أسلم كعبد اللّه بن سلام وأضرابه

وأنتم معرضون جملة تذييليه أي وأنتم قوم عادتكم الاعراض عن الطاعة ومراعاة حقوق الميثاق أصل الأعراض الذهاب عن المواجهة والأقبال إلى جانب العرض

٨٤

وإذ أخذنا ميثاقكم منصوب بفعل مضمر خوطب به اليهود قاطبة على ما ذكر من التغليب ونعى عليهم أخلالهم بمواجب الميثاق المأخوذ منهم في حقوق العباد على طريقة النهى أثر بيان ما فعلوا بالميثاق المأخوذ منهم في حقوق اللّه سبحانه وما يجرى مجراها على سبيل الأمر فإن المقصود الأصلي من النهي عن عبادة غير اللّه تعالى هو الأمر بتخصيص العبادة به تعالى أي وأذكروا وقت أخذنا ميثاقكم في التوراة وقوله تعالى

لاتسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم كما قبله أخبار في معنى النهى غير السبك إليه لما ذكر من نكته المبالغة والمراد به النهى الشديد عن تعرض بعض بنى أسرئيل لبعض بالقتل والإجلاء والتعبير عن ذلك بسفك دماء أنفسهم وإخراجها من ديارهم بناء على جريان كل واحد منهم مجرى أنفسهم لما بينهم من الاتصال القوى نسبا ودينا للمبالغة في في الحمل على مراعاة حقوق الميثاق بتصوير المنهى عنه بصورة تكرهها كل نفس وتنفر عنه كل طبيعة فضمير أنفسكم للمخاطبين حتما إذ به يتحقق تنزيل المخرجين منزلتهم كما إن ضمير دياركم للمخرجين قطعا إذ المحذور أنما هو أخراجهم من ديارهم لا من ديار المخاطبين من حيث أنهم مخاطبون كما يفصح عنه ما سيأتي من قوله تعالى من ديارهم وأنما الخطاب ههنا باعتبار تنزيل ديارهم منزلة ديار المخاطبين بناء على تنزيل أنفسهم منزلتهم لتأكيد المبالغة وتشديد التشنيع

وأما ضمير دماءكم فمحتمل لوجهين مفاد الأول كون كون المسفوك دماء ا دعايئة للمخاطبين حقيقة و مفاد الثاني كونه دماء حقيقية للمخاطبين ادعاء وهما متقاربان في افادة المبالغة فتدبر

وأما ما قيل من أن المعنى لا تباشروا ما يؤدى إلى قتل أنفسكم قصاصا أو ما يبيح سفك دمائكم وأخراجكم من دياركم أو لا تفعلوا ما يرديكم ويصرفكم عن الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة ولا تقترفوا ما تحرمون به عن الجنة التي هي داركم فإنه الجلاء الحقيقي فمما لا يساعده سياق النظم الكريم بل هو نص فيما قلناه كما ستقف عليه

ثم أقررتم أي بالميثاق وبوجوب المحافظة عليه

وأنتم تشهدون توكيد للإقرار كقولك أقر فلان شاهدا على نفسه وأنتم أيها الحاضرون تشهدون اليوم على أقرار اسلافكم بهذا الميثاق

٨٥

ثم أنتم هؤلاء خطاب خاص في الحاضرين فيه توبيخ شديد واستبعاد قوى لما ارتكبوه بعد ما كان من الميثاق به والشهداة عليه فأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره ومناط الإفادة اختلاف الصفات المنزل منزلة اختلاف الذات والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون الناقضون المتناقضون حسبما تعرب عنه الجمل الآتية فإن قوله عز وجل

تقتلون أنفسكم الخ بيان له وتفصيل لأحوالهم المنكرة المندرجة تحت الاشارة ضمنا كأنهم قالوا كيف نحن فقيل تقتلون أنفسكم أي الجارين مجرى أنفسكم كما أسير اليه وقرئ تقتلون بالتشديد للتكثير

تخرجون فريقا منكم الضمير أما للمخاطبين والمضاف محذوف أي من أنفسكم

وأما للمقتولين والخطاب باعتبار أنهم جعلوا أنفس المخاطبين والا فلا يتحقق التكافؤ بين المقتولين والمخرجين في ذلك العنوان الذي عليه يدور فلك المبالغة في تأكيد الميثاق حسبما نص عليه ولا يظهر كمال قباحة

جناياتهم في نقضه

من ديارهم الضمير للفريق وايثار الغيبة مع جواز الخطاب ايضا بناء على اعتبار العنوان المذكور كما مر في الميثاق للإحتراز عن توهم كون المراد اخراجهم من ديار المخاطبين من حيث هي ديارهم لا من حيث هي ديار المخرجين

وقيل هؤلاء موصول والجملتان في حيز الصلة والمجموع هو الخبر لأنتم

تظاهرون عليهم بحذف احدى التاءين وقرئ باثباتهما وبالادغام وتظهرون بطرح احدى التاءين من تتظهرون ومعنى الكل تتعاونون وهي حال من فاعل تخرجون أو من مفعوله أو منهما جميعا مبنية لكيفية الإخراج دافعه لتوهم اختصاص الحرمة بالإخراج بطريق الأصالة والاستقلال دون المظاهرة والمعاونة

بالإثم متعلق بتظاهرون حال من فاعله أي ملتبسين بالإثم وهو الفعل الذي يستحق فاعله الذم واللوم

وقيل هو ما ينفر عنه النفس ولا يطمئن إليه القلب

والعدوان وهو التجاوز في الظلم

وإن يأتوكم أسارى جمع أسير وهو من يؤخذ قهرا فعيل بمعنى مفعول من الأسر أي الشد أو جمع أسرى وهو جمع أسير كجرحى وجريح وقد قرئ أسرى ومحلة النصب على الحالية

تفادوهم أي تخرجوهم من الأسر بإعطاء الفداء وقرئ تفدوهم قال السدى أن اللّه تعالى أخذ على بنى إسرائيل في التوراة الميثاق أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد أو امة وجدتموه من بنى إسرائيل فاشتروه واعتقوه وكانت قريظة حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج حين كان بينهما ما كان من العداوة والشنآن فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم منها ثم إذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له مالا فيفدونه فعيرتهم العرب وقالت كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم فيقولون أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكن نستحي أن ندل حلفاء نا فذ مهم اللّه تعالى على المناقضة

وهو محرم عليكم إخراجهم هو ضمير الشأن وقع مبتدأ ومحرم فيه ضمير قائم مقام الفاعل وقع خبرا من إخراجهم والجملة خبر لضمير الشأن

وقيل محرم خبر لضمير الشأن وإخراجهم مرفوع على انه مفعول مالم يسم فاعلة

وقيل الضمير مهم يفسره إخراجهم أو راجع إلى ما يدل عليه تخرجون من المصدر وإخراجهم تأكيدا وبيان والجملة حال من الضمير في تخرجون أو من فريقا أو منهما كما مر بعد اعتبار القيد بالحال السابقة وتخصيص بيان الحرمة ههنا بالإخراج مع كونه قرينا للقتل عند أخذ الميثاق لكونه مظنة للمساهلة في أمره بسبب قلة خطرة بالنسبة إلى القتل ولأن مساق الكلام لذمهم وتوبيخهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم معا وذلك مختص بصورة الإجراج حيث لم ينقل عنهم تدارك القتلى بشئ من دية أو قصاص هو السر في تخصيص التظاهر به فيما سبق

وأما تأخيره من الشرطية المعترضة مع أن حقه التقديم كما ذكره الواحدى فلأن نظم افاعيلهم المتناقضة في سمط واحد من الذكر أدخل في إظهار بطلانها

أفتؤمنون ببعض الكتاب أي التوراة التي أخذ فيها الميثاق المذكور والهمزة للإنكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام أي أتفعلون ذلك فتؤمنون ببعض الكتاب وهو المفاداة

وتكفرون ببعض وهو حرمة القتال والإخراج مع ان من قضية الإيمان ببعضه الإيمان بالباقي لكون الكل من عند اللّه تعالى داخلا في الميثاق فمناط التوبيخ كفرهم بالبعض مع إيمانهم بالبعض حسبما يفيده ترتيب النظم الكريم فإن التقديم يستدعى في المقام الخطابي أصالة المقدم وتقدمه بوجه من الوجوه حتما وإذ ليس ذلك ههنا باعتبار الإنكار والتوبيخ عليه وهو باعتبار الوقوع قطعا لا إيمانهم بالبعض مع كفرهم بالبعض كما هو المفهوم لوقيل أفتكفرون ببعض الكتاب وتؤمنون ببعض ولا مجرد كفرهم بالبعض وإيمانهم بالبعض كما يفيده أن يقال أفتجمعون بين الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض أو بالعكس

فما جزاء من يفعل ذلك ما نافية ومن إن جعلت موصولة فلا محل ليفعل من الإعراب وإن جعلت موصوفة فمحلة الجر على أنه صفتها وذلك إشارة إلى الكفر ببعض الكتاب مع الإيمان ببعض أو إلى ما فعلوا من القتل والإجلاء مع مفاداة الأسارى

منكم حال من فاعل يفعل

إلا خزى استثناء مفرغ وقع خبرا للمبتدأ والخزى الذل والهوان مع الفضيحة والتكير للتفخيم وهو قتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير إلى أذرعات وأريحا ء من الشام

وقيل الجزية

في الحياة الدنيا في حيز الرفع على أنه صفة خزى أي خزى كائن في الحياة الدنيا أو في حيز النصب على أنه ظرف لنفس الخزى ولعل بيان جزائهم بطريق القصر على ما ذكر لقطع أطماعهم الفارغة من ثمرات إيمانهم ببعض الكتاب وإظهار أنه لا أثر له أصلا مع الكفر ببعض

ويوم القيامة يردون وقرئ بالتاء أوثر صيغة الجمع نظرا إلى معنى من بعد ما أوثر الإفراد نظرا إلى لفظها لما ان الرد إنما يكون بالاجتماع

إلى اشد العذاب لما أن معصيتهم أشد المعاصي

وقيل أشد العذاب بالنسبة إلى ما لهم في الدنيا من الخزى والصغار وإنما غير سبك النظم الكريم حيث لم يقل مثلا وأشد العذاب يوم القيامة للإيذان بكمال التنافي بين جزاءى النشأتين وتقديم يوم القيامة على ما ذكر ما يقع فيه لتهويل الخطب وتفظيع الحال من اول الأمر

وما اللّه بغافل عما تعملون من القبائح التي من جملتها هذا المنكر وقرئ بالياء على نهج يردون وهو تأكيد الموعيد

٨٦

أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة وهو مبتدأ خبره قوله تعالى

الذين اشتروا أي آثروا

الحياة الدنيا واستبدلوها

بالآخرة واعرضوا عنها مع تمكنهم من تحصيلها فإن ما ذكر من الكفر ببعض أحكام الكتاب إنما كان لمراعاة جانب حلفائهم لما يعود إليهم منهم من بعض المنافع الدنية الدنيوية

فلا يخفف عنهم العذاب دنيويا كان أو أخرويا

ولا هم ينصرون بدفعه عنهم شفاعة أو جبرا والجملة معطوفة على ما قبلها عطف الإسمية على الفعلية أو ينصرون مفسر لمحذوف قبل الضمير فيكون من عطف الفعلية على مثلها

٨٧

ولقد آتينا موسى الكتاب شروع في بيان بعض آخر من جناياتهم وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به والمراد بالكتاب التوراة عن ابن عباس رضى اللّه تعالى عنهما أن التوراة لما نزلت جملة واحدة أمر اللّه تعالى موسى عليه السلام بحملها فلم يطق بذلك فبعث اللّه بكل حرف منها ملكا فلم يطيقوا بحملها فخففها اللّه تعالى لموسى عليه السلام فحملها

وقفينا من بعده بالرسل يقال قفاه به إذا

أتبعه إياه أي أرسلناهم على أثره كقوله تعالى ثم أرسلنا رسلنا تترى وهم يوشع وأشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل والياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم الصلاة والسلام

وآتينا عيسى ابن مريم البينات المعجزات الواضحات من إحياء الموتى وابراء الاكمه والابرص والإخبار بالمغيبات أو الانجيل وعيسى بالسرناية أيشوع ومعناه المبارك ومريم بمعنى الخادم وهو بالعبرية من النساء كالزير من الرجال وبه فسر قول رؤبة

 ... قلت لزير لم تصله مريمه ... ضليل أهواء الصبا تندمه ...

ووزنه مفعل إذ لم يثبت فعيل

وأيدناه أي قويناه وقرئ وآيدناه

بروح القدس بضم الدال وقرئ بسكونها أي بالروح المقدسة وهي روح عيسى عليه السلام كقولك حاتم الجود ورجل صدق وانما وصفت بالقدس لكرامته أو لأنه عليه السلام لم تضمه الاصلاب ولا أرحام الطوامث

وقيل بجبريل عليه السلام

وقيل بالانجيل كما قيل في القرآن روحا من أمرنا

وقيل باسم اللّه الاعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره وتخصيصه من بين الرسل عليهم السلام بالذكر ووصفه بما ذكر من ايتاء البينات والتأييد بروح القدس لما أن بعثتهم كانت لتنفيذ أحكام التوراة وتقريرها

وأما عيسى عليه السلام فقد نسخ بشرعه كثير من أحكامها ولحسم مادة اعتقادهم الباطل في حقه عليه السلام ببيان حقيته واظهار كمال قبح ما فعلوا به عليه السلام

أفكلما جاءكم رسول من أولئك الرسل

بما لا تهوى أنفسكم من الحق الذي لا محيد عنه أي لا تحبه من هوى كفرح إذا أحب والتعبير عنه بذلك للإيذان بأن مدار الرد والقبول عندهم هو المخالفة لأهواء أنفسهم والموافقة لها لا شيء آخر وتوسيط الهمزة بين الفاء وما تعلقت به من الافعال السابقة لتوبيخهم على تعقيبهم ذلك بهذا وللتعجيب من شأنهم ويجوز كون الفاء للعطف على مقدر يناسب المقام أي ألم تطيعوهم فكلما جاءكم رسول منهم بما لا تهوى أنفسكم

استكبرتم عن الاتباع له والايمان بما جاء به من عند اللّه تعالى

ففريقا منهم

كذبتم من غير أن تتعرضوا لهم بشيء آخر من المضار والفاء للسببية أو للتعقيب

وفريقا آخر منهم

تقتلون غير مكتفين بتكذيبهم كزكريا ويحيى وغيرهما عليهم السلام وتقديم فريقا في الموضعين للاهتمام وتشويق السامع الى ما فعلوا بهم لا للقصر وايثار صيغة الاستقبال في القتل لاستحضار صورته الهائلة أو للإيماء الى أنهم بعد على تلك النية حيث هموا مما لم ينالوه من جهته عليه السلام وسحروه وسمموا له الشاة حتى قال ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري

٨٨

وقالوا بيان لفن آخر من قبائحهم على طريق الالتفات الى الغيبة اشعارا بإبعادهم عن رتبة الخطاب لما فصل من مخازيهم الموجبة للاعراض عنهم وحكاية نظائرها لكل من يفهم بطلانها وقباحتها من أهل الحق والقائلون هم الموجودون في عصر النبي عليه الصلاة و السلام

قلوبنا غلف جمع أغلف مستعار من الاغلف الذي لم يختن أي مغشاة بأغشية جبلية لا يكاد يصل اليها ما جاء به محمد ولا تفقه كقولهم قلوبنا في أكنة مما تدعوننا اليه

وقيل هو تخفيف غلف جمع غلاف ويؤيده ما روى عن ابي عمرو من القراءة بضمتين يعنون ان قلوبنا أوعية للعلوم فنحن مستغنون بماعندنا عن غيره قاله ابن عباس وعطاء وقال الكلبي يعنون أن قلوبنا لا يصل إليها حديث إلا وعته ولو كان في حديثك خير لوعته أيضا

بل لعنهم اللّه بكفرهم رد لما قالوه وتكذيب لهم في ذلك والمعنى على الأول بل أبعدهم اللّه سبحانه عن رحمته بأن خذلهم وخلاهم وشأنهم بسبب كفرهم العارض وإبطالهم لاستعدادهم بسوء اختيارهم بالمرة وكونهم بحيث لا تنفعهم الألطاف أصلا بعد أن خلقهم على الفطرة والتمكن من قبول الحق وعلى الثاني بل أبعدهم من رحمته فأني لهم ادعاء العلم الذي هو أجل آثارها وعلى الثالث بل أبعدهم من رحمته فلذلك لا يقبلون الحق المؤدي إليها

فقليلا ما يؤمنون ما مزيدة للمبالغة أي فإيمانا قليلا يؤمنون وهو إيمانهم ببعض الكتاب

وقيل فزمانا قليلا يؤمنون وهو ما قالوا آمنوا بالذي انزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره وكلاهما ليس بإيمان حقيقة

وقيل أريد بالقلة العدم والفاء لسببية اللعن لعدم الإيمان

٨٩

ولما جاءهم كتاب هو القرآن وتنكيره للتفخيم ووصفه بقوله عز و جل

من عند اللّه أي كائن من عنده تعالى للتشريف

مصدق لما معهم من التوراة عبر عنها بذلك لما ان المعية من موجبات الوقوف على ما في تضاعيفها المؤدى إلى العلم بكونه مصدقا لها وقرئ مصدقا على أنه حال من كتاب لتخصيصه بالوصف

وكانوا من قبل أي من قبل مجيئه

يستفتحون على الذين كفروا أي وقد كانوا قبل مجيئه يستفتحون به على المشركين ويقولون اللّهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة ويقولون لهم قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم وقال ابن عباس وقتادة والسدى نزلت في بنى قريظة والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قبل مبعثه

وقيل معنى يستفتحون يفتتحون عليهم ويعرفونهم بأن نبيا يبعث منهم قد قرب أوانه والسين للمبالغة كما في استعجب أي يسألون من أنفسهم الفتح عليهم أو يسأل بعضهم بعضا أن يفتح عليهم وعلى التقديرين فالجملة حالية مفيدة لكمال مكابرتهم وعنادهم و قوله عز وعلا

فلما جاءهم تكرير للأول لطول العهد بتوسط الجملة الحالية وقوله تعالى

ما عرفوا عبارة عما سلف من الكتاب لأن معرفة من أنزل هو عليه معرفة له والاستفتاح به استفتاح به وإيراد الموصول دون الاكتفاء بالإضمار لبيان كمال مكابرتهم فإن معرفة ما جاءهم من مبادى الإيمان به ودواعيه لا محالة والفاء للدلالة على تعقيب مجيئه للاستفتاح به من غير أن يتخلل بينهما مدة منسية له وقوله تعالى

كفروا به جواب لما الأولى كما هو رأي المبرد أو جوابهما معا كما قاله أبو البقاء

وقيل جواب الأولى محذوف لدلالة المذكور عليه فيكون قوله تعالى وكانوا الخ جملة معطوفة على الشرطية عطف القصة على القصة والمراد بما عرفوا النبي كما هو المراد بما كانوا يستفتحون به فالمعنى ولما جاءهم كتاب مصدق لكتابهم كذبوه وكانوا من قبل مجيئه يستفتحون بمن أنزل عليه ذلك الكتاب فلما جاءهم النبي الذي عرفوه كفروا به

فلعنة اللّه على الكافرين اللام للعهد

أي عليهم ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرهم كما ان الفاء للإيذان بترتبها عليه أو للجنس وهم داخلون في الحكم دخولا أولياء إذ الكلام فيهم وأياما كان فهو محقق لمضمون قوله تعالى بل لعنهم اللّه بكفرهم

٩٠

بئسما اشتروا به أنفسهم ما نكرة بمعنى شئ منصوبة مفسرة لفاعل بئس واشتروا صفته أي بئس شيئا باعوا به أنفسهم

وقيل اشتروها به في زعمهم حيث يعتقدون أنهم بما فعلوا خلصوها من العقاب ويأباه أنه لا بد أن يكون المذموم ما كان حاصلا لهم لا ما كان زائلا عنهم والمخصوص بالذم قوله تعالى

أن يكفروا بما انزل اللّه أي بالكتاب المصدق لما معهم بعد الوقوف على حقيقته وتبديل الإنزال بالمجيء للإيذان به

بغيا حسدا وطلبا لما ليس لهم وهو علة لأن يكفروا حتما دون اشتروا لما قيل بما هو أجنبي بالنسبة إليه وإن لم يكن أجنبيا بالنسبة إلى فعل الذم وفاعلة ولأن البغى مما لا تعلق له بعنوان البيع قطعا لاسيما وهو معلل بما سيأتي من تنزيل اللّه تعالى من فضله على من يشاؤه وإنما الذي بينه وبينه علاقة هو كفرهم بما أنزل اللّه والمعنى بئس شيئا باعوا به أنفسهم كفرهم المعلل بالبغي الكائن لأجل

أن ينزل اللّه من فضله الذي هو الوحى

على من يشاء أي يشاؤه ويصطفيه

من عباده المستأهلين لتحمل أعباء الرسالة ومآله تعليل كفرهم بالمنزل بحسدهم للمنزل عليه وإيثار صيغة التفعيل ههنا للإيذان بتجدد بغيهم حسب تجدد الإنزال وتكثره حسب تكثره

فباؤا بغضب على غضب أي رجعوا ملتبسين بغضب كائن على غضب مستحقين له حسب ما اقترفوا من كفر على كفر فإنهم كفروا بنبي الحق وبغوا عليه

وقيل كفروا بمحمد عليه الصلاة و السلام بعد عيسى

وقيل بعد قولهم عزيزا ابن اللّه وقولهم يد اللّه مغلولة وغير ذلك من فنون كفرهم

وللكافرين أي لهم والإظهار في موقع الإضمار للإشعار بعلية كفرهم لما حاق بهم

عذاب مهين يراد به إهانتهم وإذلالهم لما أن كفرهم بما أنزل اللّه تعالى كان مبنيا على الحسد المبنى على طمع المنزول عليهم وادعاء الفضل على الناس والاستهانة بمن أنزل عليه عليه السلام

٩١

وإذا قيل من جانب المؤمنين

لهم أي اليهود وتقديم الجار والمجرور وقد مر وجهة لاسيما في لام التبليغ

آمنوا بما انزل اللّه من الكتب الإلهية جميعا والمراد به الأمر بالإيمان بالقرآن لكن سلك مسلك التعميم إيذانا بتحتم الامتثال من حيث مشاركته لما آمنوا به فيما في حيز الصلة وموافقته له في المضمون وتنبيها على أن الإيمان بما عداه من غير إيمان به ليس بإيمان بما أنزل اللّه

قالوا نؤمن أي نستمر على الإيمان

بما انزل علينا يعنون به التوراة وما نزل على

انبياء بنى إسرائيل لتقرير حكمها ويدسون فيه أن ما عدا ذلك غير منزل عليهم ومرادهم بضمير المتكلم إما أنفسهم فمعنى الإنزال عليهم تكليفهم بما في المنزل من الأحكام

وأما أنبياء بنى إسرائيل وهو الظاهر لاشتماله على مزية الإيذان بأن عدم إيمانهم بالفرقان لما مر من بغيهم وحسدهم على نزوله على من ليس منهم ولأن مرادهم بالموصول وإن كان هو التوراة وما في حكمها خاصة لكن إيرادها بعنوان الإنزال عليهم مبنى على ادعاء أن ما عداها ليس كذلك على وجه التعريض كما أشير إليه فلو أريد بالإنزال عليهم ما ذكر من تكليفهم يلزم من مغايرة القرآن لما أنزل عليهم حسبما يعرب عنه قوله عز و جل

ويكفرون بما وراءه عدم كونهم مكلفين بما فيه كما يلزم عدم كونه نازلا على واحد من بنى إسرائيل على الوجه الأخير وتجريد الموصول عند الإضمار عما عرضوا به تعسف لا يخفى والوراء في الأصل مصدر جعل ظرفا ويضاف إلى الفاعل فيراد به ما يتوارى به وهو خلفه وإلى المفعول فيراد به ما يواريه وهو أمامه والجملة حال من ضمير قالوا بتقدير مبتدأ أي ما قالوا وهم يكفرون بما عداه وليس المراد مجرد بيان ان إفراد إيمانهم بما أنزل عليهم بالذكر لنفى إيمانهم بما وراء بل بيان أن ما يدعون من الإيمان ليس بإيمان بما أنزل عليهم حقيقة فإن قوله عز اسمه

وهو الحق أي المعروف بالحقية الحقيق بأن يخص به اسم الحق على الإطلاق حال من فاعل يكفرون وقوله تعالى

مصدقا حال مؤكدة لمضمون الجملة صاحبها إما ضمير الحق وعاملها ما فيه من معنى الفعل قاله أبو البقاء

وأما ضمير دل عليه الكلام وعاملها فعل مضمر أي أحقه مصدقا

لما معهم من التوراة والمعنى قالوا نؤمن بما أنزل علينا وهم يكفرون بالقرآن والحال أنه حق مصدق لما آمنوا به فيلزمهم الكفر بما آمنوا به ومآله أنهم ادعوا الإيمان بالتوراة والحال أنهم يكفرون بما يلزم من الكفر بها

قل تبكيتا لهم من جهة اللّه عز من قائل ببيان التناقض بين اقوالهم

فلم أصله لما حذفت عنه الألف فرقا بين الاستفهامية والخبرية

تقتلون أنبياء اللّه من قبل الخطاب للحاضرين من اليهود والماضين على طريق التغليب وحيث كانوا مشاركين في العقد والعمل كان الاعتراض على أسلافهم اعتراضا على أخلافهم وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية وهو جواب شرط محذوف أي قل لهم إن كنتم مؤمنين بالتوراة كما تزعمون فلأي شيء كنتم تقتلون انبياء اللّه من قبل وهو فيها حرام وقرئ أنبياء اللّه مهموزا وقوله تعالى

أن كنتم مؤمنين تكرير للاعتراض لتأكيد الإلزام وتشديد التهديد أي أن كنتم مؤمنين فلم تقتلون وقد حذف من كل واحدة من الشرطيتين ما حذف ثقة بما أثبت في الأخرى

وقيل لا حذف فيه بل تقديم الجواب على الشرط وذلك لا يتأتى إلا على رأى الكوفيين وأبي زيد

وقيل إن نافية ما كنتم مؤمنين وإلا لما قتلتموهم

٩٢

ولقد جاءكم موسى بالبينات من تمام التبكيت والتوبيخ داخل تحت الأمر لا تكرير لما قص في تضاعيف تعداد النعم التي من جملتها العفو عن عبادة العجل واللام للقسم أي وباللّه لقد جاءكم موسى ملتبسا بالمعجزات الظاهرة التي هي العصا واليد والسنون ونقص الثمرات والدم والطوفان والجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقد عد منها التوراة وليس بواضح فإن المجيء

بها بعد قصة العجل

ثم أتخذتم العجل أي إلها

من بعده أي من بعد مجيئة بها

وقيل من بعد ذهابه إلى الطور فتكون التورارة حينئذ من جملة البينات وثم للتراخي في الرتبة والدلالة على نهاية قبح ما صنعوا

وأنتم ظالمون حال من ضمير اتخذتم بمعنى اتخذتم العجل ظالمين بعبادته واضعين لها في غير موضعها أو بإخلال بحقوق آيات اللّه تعالى أو غير اعتراض أي وأنتم قوم عادتكم الظلم

٩٣

وإذ أخذنا ميثاقكم توبيخ من جهة اللّه تعالى وتكذيب لهم في ادعائهم إلإيمان بما أنزل عليهم بتذكير جناياتهم الناطقة بكذبهم أي واذكروا حين أخذنا ميثاقكم

ورفعنا فوقكم الطور قائلين

خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا أي خذوا بما أمرتم به في التوراة واسمعوا ما فيها سمع طاعة وقبول

قالوا استئناف مبنى على سؤال سائل كأنه قيل فماذا قالوا فقيل قالوا

سمعنا قولك

وعصينا امرك فإذا قابل أسلافهم مثل ذلك الخطاب المؤكد مع مشاهدتهم مثل تلك المعجزة الباهرة بمثل هذه العظيمة الشنعاء وكفروا بما في تضاعيف التوبة فكيف يتصور من أخلافهم الإيمان بما فيها

وأشربوا في قلوبهم العجل على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه للمبالغة أي تداخلهم حبة ورسخ في قلوبهم صورته لفرط شغفهم به وحرصهم على عبادته كما يتداخل الصبغ الثوب والشراب أعماق البدن وفي قلوبهم بيان لمكان الإشراب كما في قوله تعالى إنما يأكلون في بطونهم نارا والجملة حال من ضمير قالوا بتقديم قد

بكفرهم بسبب كفرهم السابق الموجب لذلك قيل كانوا مجسمة أو حلولية ولم يروا جسما أعجب منه فتمكن في قلوبهم ما سول لهم السامري

قل توبيخا لحاضري اليهود إثر ما تبين من أحوال رؤسائهم الذين بهم يقتدون في كل ما يأتون وما يذرون

بئسما يأمركم به إيمانكم بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدعون والمخصوص بالذم محذوف أي ما ذكر من قولهم سمعنا وعصينا وعبادتهم العجل وفي إسناد الأمر إلى الإيمان تهكم بهم وإضافة الإيمان إليهم للإيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة كما ينبئ عنه قوله تعالى

إن كنتم كؤمنين فإنه قدح في دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم من التزراة وإبطال لها وتقريره إن كنتم مؤمنين بها عاملين فيما ذكر من القول والعمل بما فيها فبئسما يامركم به إيمانكم بها وإذ لايسوغ الإيمان بها مثل تلك القبائح فلستم بمؤمنين بها قطعا وجواب الشرط كما ترى محذوف لدلالة ما سبق عليه

٩٤

قل كرر الأمر مع قرب العهد بالأمر السابق لما أنه أمر بتبكيتهم وإظهار كذبهم في فن آخر من أباطيلهم لكنه لم يحك عنهم قبل الأمر بإبطاله بل اكتفى بالإشارة إليه في تضاعيف الكلام حيث قيل

إن كانت لكم الدار الآخرة أي الجنة أو نعيم الدار

الآخرة

عند اللّه خالصة أي سالمة لكم خاصة بكم كما تدعون أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ونصبها على الحالية من الدار وعند ظرف للاستقرار في الخبر أعنى لكم وقوله تعالى

من دون الناس في محل النصب بخالصة يقال خلص لي كذا من كذا واللام للجنس أي الناس كافة أو للعهد أي المسلمين

فتمنوا الموت فإن من أيقن بدخول الجنة اشتاق إلى التخلص إليها من دار البوار وقرارة الأكدار لاسيما إذا كانت خالصة له كما قال على كرم اللّه وجهه لا ابالي أسقطت على الموت أو سقط الموت على وقال عمار بن ياسر بصفين

 ... الآن ألاقي الأحبة ... محمدا وحزبه ...

وقال حذيفة بن اليمان حين احتصر وقد كان يتمنى الموت قبل

 ... جاء حبيب على فاقة ... فلا أفلح اليوم من قد ندم ...

أي على التمنى وقوله تعالى

إن كنتم صادقين تكرير للكلام لتشديد الإلزام وللتنبيه على أن ترتب الجواب ليس على تحقق الشرط في نفس الأمر فقط بل في اعتقادهم أيضا وأنهم قدادعوا ذلك والجواب محذوف ثقة بدلالة ما سبق عليه أي أن كنتم صادقين فتمنوه وقوله تعالى

٩٥

ولن يتمنوه أبدا كلام مستأنف غير داخل تحت الأمر سيق من جهته سبحانه لبيان ما يكون منهم من الإحجام عما دعوا إليه الدال على كذبهم في دعواهم

بما قدمت أيديهم بسبب ما عملوا من المعاصي الموجبة لدخول النار كالكفر بالنبي عليه السلام والقرآن وتحريف التوراة ولما كانت اليد من بين جوارح الإنسان مناط عامة صنائعة ومدار أكثر منافعة عبر بها تارة عن النفس وأخرى عن القدرة

واللّه عليم بالظالمين أي بهم وإيثار الإظهار على الإضمار لذمهم والتسجيل عليهم بأنهم ظالمون في جميع الأمور التي من جملتها ادعاء ما ليس لهم ونفيه من عيرهم والجملة تذييل لما قبلها مقررة لمضمونه أي عليم بهم وبما صدر عنهم من فنون الظلم والمعاصي المفضية إلى أفانين العذاب وبما سيكون منهم من الاحتراز عما يؤدى إلى ذلك فوقع الأمر كما ذكر فلم يتمن منهم موته أحد إذ لو وقع ذلك لنقل واشتهر وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقى يهودى على وجه الأرض

٩٦

ولتجدنهم أحرص الناس من الوجدان العقلي وهو جار مجرى العلم خلا أنه مختص بما يقع بعد التجربة ونحوهما ومفعولاه الضمير وأحرص والتنكير في قوله تعالى

على حياة للإيذان بان مرادهم نوع خاص منها وهي الحياة المتطاولة وقرئ بالتعريف

ومن الذين أشركوا عطف على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل أحرص من الناس ومن الذين أشركوا وإفرادهم بالذكر مع دخولهم في الناس للإيذان بامتيازهم من بينهم بشدة الحرص للمبالغة في توبيخ اليهود فإن حرصهم وهم معترفون بالجزاء لما كان أشد من حرص المشركين المنكرين له دل ذلك على جزمهم بمصيرهم إلى النار ويجوز أن يحمل على حذف المعطوف ثقة بأنباء المعطوف عليه عنه أي وأحرص من الذين أشركوا فقوله تعالى

يود أحدهم بيان لزيادة حرصهم على طريقة الاستئناف ويجوز أن يكون في حيز الرفع صفة لمبتدأ محذوف خبره الظرف المتقدم على أن يكون المراد بالمشركين اليهود لقولهم عزيز بن اللّه أي ومنهم طائفة يود أحدهم أيهم كان أي كل واحد منهم

لو يعمر ألف سنة وهو حكاية لودادتهم كانه قيل ليتني أعمر وإنما أجري على الغيبة لقوله تعالى يود كما تقول ليفعلن ومحله النصب على أنه مفعول يود إجراء له مجرى القول لأنه فعل قلبي

وما هو بمزحزحه من العذاب ما حجازية والضمير العائد على احدهم اسمها وبمزحزحه خبرها والباء زائدة

أن يعمر فاعل مزحزحه أي وما أحدهم بمن يزحزحه أي يبعده وينجيه من العذاب تعميره

وقيل الضمير لما دل عليه يعمر من المصدر وأن يعمر بدل منه

وقيل هو مبهم وأن يعمر مفسرة والجملة حال من أحدهم والعامل يود لا يعمر على أنها حال من ضميره لفساد المعنى أو اعتراض واصل سنة سنوة لقولهم سنوات وسنية

وقيل سنهة كجبهة لقولهم سانهته وسنيهة وتسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون

واللّه بصير بما يعملون البصير في كلام العرب العالم بكنه الشي الخبير به ومنه قولهم فلان بصير بالفقة أي عليم بخفيات اعمالهم فهو مجازيهم بها لا محالة وقرئ بتاء الخطاب التفاتا وفيه تشديد للوعيد

٩٧

قل من كان عدوا لجبريل نزل في عبد اللّه بن صوريا من اخبار فدك حاج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وسأله عمن نزل عليه الوحى فقال عليه السلام جبريل عليه السلام فقال هو عدونا لو كان غيره لآمنا بك وفي بعض الروايات ورسولنا وميكائيل فلو كان هو الذي يأتيك لآمنا بك وقد عادانا مرارا وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بخت نصر فبعثنا من يقتله فلقيه ببابل غلاما مسكينا فدفع عنه جبريل عليه السلام وقال أن كان ربكم أمره بهلا ككم فإنه لا يسلطكم عليه وإلا فبأي حق تقتلونه

وقيل أمره اللّه تعالى أن يجعل النبوه فينا فجعلها في غيرنا وروى أنه كان لعمر رضي اللّه عنه أرض بأعلى المدينة وكان ممره على مدارس اليهود فكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم فقالوا يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك فقال واللّه ما أجيئكم ولا سألكم لشك في ديني وإنما ادخل عليكم لازداد بصيرة في أمر محمد وأرى آثاره في كتابكم ثم سألهم عن جبريل عليه السلام فقالوا ذاك هو عدونا يطلع محمدا على أسرارنا وهو صاحب كل خسف وعذاب وميكائيل يجيء بالخصب والسلام فقال لهم وما منزلتهما عند اللّه تعالى قالوا جبريل أقرب منزلة هو عن يمينه وميكائيل عن يساره وهما متعاديان فقال عمر رضي اللّه عنه إن كانا كما تقولون فما هما بعدوين ولأنتم أكفر من الحمير ومن كان عدو الأحدهما فهو عدو للآخر ومن كان عدوا لهما كان عدوا للّه سبحانه ثم رجع عمر فوجد جبرئيل عليه السلام قد سبقه بالوحى فقال النبي لقد وافقك ربك يا عمر فقال عمر رضي اللّه عنه لقد رأيتني في ديني بعد ذلك أصلب من الحجر وقرئ جبرئيل كسلسبيل وجبريل كجحمرش وجبريل وجبرئل وجبرائيل كجبراعيل وجبرائل كجبراعل ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة

وقيل معناه عبد اللّه

فإنه نزلة تعليل لجواب الشرط قائم مقامه والبارز

الأول لجبريل عليه السلام

والثاني للقرآن أضمر من غير ذكر إيذانا بفخامة شأنه واستغنائه عن الذكر لكمال شهرته ونباهته لاسيما عند ذكر شئ من صفاته

على قلبك زيادة تقرير للتنزيل ببيان محل الوحى فإنه القائل الأول له ومدار الفهم والحفظ وإيثار الخطاب على التكلم المبنى على حكاية كلام اللّه تعالى بعينه كما في قوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لما في النقل بالعبارة من زيادة تقرير لمضمون المقالة

 

بإذن اللّه بأمره وتيسيره مستعار من تسهيل الحجاب وفيه تلويح بكمال توجه جبريل عليه السلام إلى تنزيله وصدق عزيمته عليه السلام وهو حال من فاعل نزله وقوله تعالى

مصدقا لما بين يديه أي من الكتب الإلهية التي معظمها التوراة حال من مفعوله وكذا قوله تعالى

وهدى وبشرى للمؤمنين والعامل في الكل نزله والمعنى من عادى جبريل من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته بل يجب عليه محبته فإنه نزل عليك كتابا مصدقا لكتبهم أو فالسبب في عداوته تنزيله لكتاب مصدق لكتابهم موافق له وهم له كارهون ولذلك حرفوا كتابهم وجحدوا موافقته له لأن الاعتراف بها يوجب الإيمان به وذلك يستدعى التكاس احوالهم وزوال رياستهم

وقيل إن الجواب فقد خلع ربقة الإنصاف أو فقد كفر بما معه من الكتب أو فليمت غيظا أو فهو عدو لى وأنا عدو له

٩٨

من كان عدوا للّه أريد بعداوته تعالى مخالفة أمره عنادا والخروج عن طاعته مكابرة أوعداوة خواصه ومقربيه لكن صدر الكلام بذكره الجليل تفخيما لشأنهم وإيذانا بان عداوته عز وعلا كما في قوله عز و جل واللّه ورسوله أحق أن يرضوه ثم صرح بالمرام فقيل

وملائكته ورسله وجبريل وميكال وإنما أفردا بالذكر مع أنهما أول من يشمله عنوان الملكية والرسالة لإظهار فضلهما كأنهما عليهما السلام من جنس آخر أشرف مما ذكر تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الجنس وللتنبيه على ان عداوة أحدهما عداوة للآخر حسما لمادة اعتقادهم الباطل في حقهما حيث زعموا أنهما متعاديان وللإشارة إلى أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر واستتباع العدواة من جهة اللّه سبحانه وأن من عادى أحدهم فكأنما عادى الجميع وقوله تعالى

فإن اللّه عدو للكافرين أي لهم جواب الشرط والمعنى من عاداهم عاداه اللّه وعاقبه أشد العقاب وإيثار الاسمية للدلالة على التحقق والثبات ووضع الكافرين موضع المضمر للإيذان بأن عداوة المذكورين كفر وأن ذلك بين لا يحتاج إلى الإخبار بة وأن مدار عداوته تعالى لهم وسخطه المستوجب لأشد العقوبة والعذاب وهو كفرهم المذكور وقرئ ميكائيل كميكاعل وميكائيل كميكاعيل وميكئل كميكعل وميكئيل كميكعيل

٩٩

ولقد أنزلنا إليك آيات بينات واضحات الدلالة على معانيها وعلى كونها من عند اللّه عز و جل

وما يكفر بها الا الفاسقون أي المتمردون في الكفر الخارجون عن حدوده فإن من ليس على تلك الصفة من الكفرة لايجترئ على الكفر بمثل هاتيك البينات قال الحسن إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم أفراد ذلك النوع من كفر أو غيره وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال قال ابن صوريا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما جئتنا بشئ نعرفه وما انزل عليك من آية فنتبعك لها فنزلت واللام للعهد أي الفاسقون المعهودون وهم أهل الكتاب المحرفون لكتابهم الخارجون عن دينهم أو للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا

١٠٠

أو كلما عاهدوا عهدا الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي اكفروا بها وهي غاية الوضوح وكلما عاهدوا عهدا ومن جملة ذلك ما أشير إليه في قوله تعالى وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا من قولهم للمشركين قد أظل زمان نبى يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم وقرئ بسكون الواو على أن تقدير النظم الكريم وما يكفر بها إلا الذين فسقوا أو نقضوا عهودهم مرارا كثيرة وقرئ عوهدوا وعهدوا وقوله تعالى عهدا إما مصدر مؤكد لعاهدوا من غير لفظه أو مفعول له على أنه بمعنى أعطوا العهد

نبذه فريق منهم أى راموا بالزمام ورفضوه وقرئ نقضه وإسناد النبذ إلى فريق منهم لأن منهم من لم ينبذه

بل اكثرهم لا يؤمنون أى بالتوراة وهذا دفع لما يتوهم من أن النابذين هم الأقلون وان من لم ينبذ جهارا فهم يؤمنون بها سرا

١٠١

ولما جاءهم رسول هو النبى ولتنكير للتفخيم

من عند اللّه متعلق بحاء أو بمحذوف وقع صفة لرسول لإفادة مزيد تعظيمه بتأكيد ما افاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية

مصدق لما معهم من التوراة من حيث أنه قرر صحتها وحقق حقية نبوة موسى عليه الصلاة و السلام بما انزل عليه أو من حيث انه عليه السلام جاء على وفق ما نعت فيها

نبذ فريق من الذين أوتو الكتاب اى التوراة وهم اليهود الذين كانوا في عهد النبى ممن كانوا يستفتحون به قبل ذلك لا الذين كانو في عهد سليمان عليه السلام كما قيل لأن النبذ عند مجيء النبى لا يتصور منهم وإفراد هذا النبذ بالذكر مع اندراجه تحت قوله عز و جل أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم لأنه معظم جناياتهم ولأنه تمهيد لذكر اتباعهم لما تتلو الشياطين وايثارهم له عليه والمراد بإيتائها اما إيتاء علمها بالدراسة والحفظ والوقوف على ما فيها فالموصول عبارة عن علمائهم

وأما مجرد إنزالها عليهم فهو عبارة عن الكل وعلى التقديرين فوضعة موضع الضمير لللإ يذان بكمال التنافى بين ما اثبت لهم فى حيز الصلة وبين ما صدر عنهم من النبذ

كتاب اللّه اي الذى اوتوه قال السدى لما جاءهم محمد عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراة والفرقان فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن فهذا قوله تعالى ولما جاءهم رسول من عند اللّه الخ وانما عبر عنها بكتاب اللّه تشريفا لها وتعظيما لحقها عليهم وتهويلا لما اجترؤا عليه من الكفر بها

وقيل كتاب اللّه القرآن نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول لاسيما بعد ما كانوا يستفتحون به من قبل فإن ذلك قبول له وتمسك به فيكون الكفر به عند مجيئه نبذا له كأنه قيل كتاب اللّه الذي جاء به فإن مجيء الرسول معرب عن مجيء الكتاب

وراء ظهورهم مثل لتركهم وإعراضهم عنه بالكلية مثل بما يرمى به وراء الظهر استغناء عنه وقلة التفات إليه

كأنهم لا يعلمون جملة حالية أي نبذوه وراء ظهورهم مشبهين بمن لا يعلمه فإن أريد بهم أحبارهم فالمعنى كأنهم لايعلمونه على وجه الإيقان ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته عليه الصلاة و السلام ففيه إيذان بإن علمهم به رصين لكنهم يتجاهلون أو كأنهم لا يعلمون أنه كتاب اللّه أو لا يعلمونه أصلا كما أذا أريد بهم الكل وفي هذين الوجهين زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة هذا وإن أريد بما نبذوه من كتاب اللّه القرآن فالمراد بالعلم النفي في قوله تعالى كأنهم لايعلمون هو العلم بأنه كتاب اللّه ففيه ما في الوجه الأول من الإشعار بانهم متيقنون في ذلك وإنما يكفرون به مكابرة وعنادا قيل إن جيل اليهود أربع فرق ففرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب وهم الأقلون المشار إليهم بقوله عز و جل بل أكثرهم لا يؤمنون وفرقة جاهروا بنبذ العهود وتعدى الحدود تمردا وفسوقا وهم المعنيون بقوله تعالى نبذه فريق منهم وفرقة لم يجاهروا بنبذها ولكن نبذوها لجهلهم بها وهم الأكثرون وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها خفية وهم المتجاهلون

١٠٢

واتبعوا ما تتلوا الشياطين عطف على جواب لما أي نبذوا كتاب اللّه واتبعوا كتب السحرة التي كانت تقرأها الشياطين وهم المتمردون من الجن وتتلو حكاية حال ماضية والمراد بالاتباع التوغل والتمحض فيه والإقبال عليه بالكلية وإلا فأصل الاتياع كان حاصلا قبل مجئ الرسول فلا يتسنى عطفه على جواب لما ولذلك قيل هو معطوف على الجملة

وقيل على أشربوا

على ملك سليمان أي في عهد ملكه قيل كانت الشياطين يسترقون السمع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة وهم يدونونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك في عهد سليمان عليه السلام حتى قيل إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون هذا علم سليمان وما تم له ملكه إلا بهذا العلم وبه سخر الإنس والجن والطير والريح التى تجرى بامره

وقيل إن سليمان عليه السلام كان قد دفن كثيرا من العلوم التي خصه اللّه تعالى بها تحت سرير ملكه فلما مضت على ذلك مدة توصل إليها قوم من المنافقين فكتبوا في خلال ذلك أشياء من فنون السحر تناسب تلك الأشياء المدفونة من بعض الوجوه ثم بعد موته وإطلاع الناس على تلك الكتب أو هموهم أنه من عمل سليمان عليه السلام وأنه ما بلغ هذا المبلغ إلا بسبب هذه الأشياء

وما كفر سليمان تنزيه لساحته عليه السلام عن السحر وتكذيب لمن افترى عليه بانه كان يعتقده ويعمل به والتعرض لكونه كفرا للمبالغة في إظهار نزاهته عليه لسلام وكذب باهتيه بذلك

ولكن الشياطين وقرئ بتخفيف لكن ورفع الشياطين والواو عاطفة للجملة الاستدراكية على ما قبلها وكون المخففة عند الجمهور للعطف إنما هو عند عدم الواو وكون ما بعدها مفردا

كفروا باستعمال السحر وتدوينه

يعلمون الناس السحر إغواء وإضلالا والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير كفروا أو من الشياطين فإن ما في لكن من رائحة الفعل كاف في العمل في الحال أو في محل الرفع على انه خبر ثان للكن أو بدل من الخبر الأول وصيغة الاستقبال للدلالة على استمرار التعليم وتجدده أو جملة مستأنفة هذا على تقدير كون الضمير للشياطين

وأما على تقدير رجوعه إلى فاعل اتبعوا فهى إما حال منه

وأما استئنافية فحسب واعلم أن السحر أنواع منها سحر الكلدانيين الذين كانوا في قديم الدهر وهم قوم يعبدون الكواكب ويزعمون انها هي المدبرة لهذا العالم ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة ويستحدثون الخوارق بواسطة تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية وهم الذين بعث اللّه تعالى إبراهيم عليه الصلاة و السلام لإبطال مقالتهم وهم ثلاث فرق ففرقة منهم يزعمون أن الأفلاك والنجوم واجبة الوجود لذواتها وهم الصائبة وفرقة يقولون بإلهية الأفلاك ويتخذون لكل واحد منها هيكلا ويشتغلون بخدمتها وهم عبدة الأوثان وفرقة أثبتوا للأفلاك وللكواكب فاعلا مختارا لكنهم قالوا إنه أعطاها قوة عالية نافذة في هذا العالم وفوض تدبيره إليها ومنها سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية فإنهم يزعمون أن الإنسان تبلغ روحه بالتصفية في القوة والتأثير إلى حيث يقدر على الإيجاد والإعدام والإحياء وتغيير البنية والشكل ومنها سحر من يستعين بالأرواح الأرضية وهو المسمى بالعزائم وتسخير الجن ومنها التخييلات الآخذة بالعيون وتسمى الشعوذة ولا خلاف بين الأمة في أن من اعتقد الأول فقد كفر وكذا من اعتقد الثاني وهو سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية

وأما من اعتقد أن الإنسان يبلغ بالتصفية وقراءة العزائم والرقى إلى حيث يخلق اللّه سبحانه وتعالى عقيب ذلك على سبيل جريان العادة بعض الخوارق فالمعتزلة اتفقوا على أنه كافر لأنه لا يمكنه بهذا الاعتقاد معرفة صدق الأنبياء والرسل بخلاف غيرهم ولعل التحقيق ان ذلك الإنسان إن كان خيرا متشرعا ف يكل مايأتى ويذر وكان من يستعين به من الأرواح الخيرة وكانت عزائمة ورقاه غير مخالفة لأحكام الشريعة الشريفة ولم يكن فيما ظهر في يده من الخوارق ضرر شرعى لأحد فليس ذلك من قبيل السحر وإن كان شريرا غير متمسك بالشريعة الشريفة فظاهر أن من يستعين به من الأرواح الخبيثة الشريرة لا محالة ضرورة امتناع تحقق التضام والتعاون بينهما من غير اشتراك في الخبث والشرارة فيكون كافرا قطعا

وأما الشعوذة وما يجرى مجراها من إظهار الأمور العجيبة بواسطة ترتيب الآلات الهندسية وخفة اليدو الاستعانة بخواص الأدوية والأحجار فإطلاق السحر عليها بطريق التجوز أو لما فيها

من الدقة لأنه في الأصل عبارة عن كل ما لطف مأخذه وخفي سببه أو من الصرف عن الجهة المعتادة لما انه في أصل اللغة الصرف على ما حكاه الأزهري عن الفراء ويونس

وما أنزل على الملكين عطف على السحر أي ويعلمونهم ما أنزل عليهما والمراد بهما واحد والعطف لتغاير الأعتبار أو هو نوع أقوى منه أو على ما تتلو وما بينهما اعتراض أي واتبعوا ما أنزل الخ وهما ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من اللّه للناس كما ابتلى قوم طالوت بالنهر أو تمييزا بينه وبين المعجزة لئلا يغتر به الناس أو لأن السحرة كثرت في ذلك الزمان واستنبطت أبوابا غريبة من السحر وكانوا يدعون النبوة فبعث اللّه تعالى هذين الملكين ليعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الكذابين وإظهار أمرهم على الناس

وأما ما يحكى من أن الملائكة عليهم السلام لما رأوا ما يصعد من ذنوب بني آدم عيروهم وقالوا للّه سبحانه هؤلاء الذين اخترتهم لخلافة الأرض يعصونك فيها فقال عز و جل لو ركبت فيكم ما ركبت فيهم لعصيتموني قالوا سبحانك ما ينبغي لنا أن نعصيك قال تعالى فاختاروا من خياركم ملكين فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلحهم وأعبدهم فأهبطا إلى الأرض بعد ما ركب فيهما ما ركب في البشر من الشهوة وغيرها من القوى ليقضيا بين الناس نهارا ويعرجا إلى السماء مساء وقد نهيا عن الإشراك والقتل بغير الحق وشرب الخمر والزنا وكانا يقضيان بينهم نهارا فإذا أمسيا ذكرا اسم اللّه الأعظم فصعدا إلى السماء فاختصمت إليهما ذات يوم إمرأة من أجمل النساء تسمى زهرة وكانت من لخم

وقيل كانت من اهل فارس ملكة في بلدها وكانت خصومتها مع زوجها فلما رأياها افتتنا بها فراوداها عن نفسها فأبت فألحا عليها فقالت لا إلا أن تقضيا لي على خصمي ففعلا ثم سألاها ما سألا فقالت لا إلا أن تقتلاه ففعلا ثم سألاها ما سألا فقالت لا إلا أن تشربا الخمر وتسجدا للصنم ففعلا كلا من ذلك بعد اللتيا والتي ثم سالاها ما سألا فقالت لا إلا ان تعلماني ما تصعدان به إلى السماء فعلماها الأسم الأعظم فدعت به وصعدت إلى السماء فمسخها اللّه سبحانه كوكبا فهما بالعروج حسب عادتهما فلم تطعهما أجنحتهما فعلما ما حل بهما وكان في عهد إدريس عليه السلام فالتجآ إليه ليشفع لهما ففعل فخيرهما اللّه تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا الأول لانقطاعه عما قليل فهما معذبان ببابل قيل معلقان بشعورهما

وقيل منكوسان يضربان بسياط الحديد إلى قيام الساعة فمما لا تعويل عليه لما أن مداره رواية اليهود مع ما فيه من المخالفة لأدلة العقل والنقل ولعله من مقولة الأمثال والرموز التي قصد بها إرشاد اللبيب الأريب بالترغيب والترهيب

وقيل هما رجلان سميا ملكين لصلاحهما ويعضده قراءة الملكين بالكسر

ببابل الباء بمعنى في وهي متعلقة بانزل أو بمحذوف وقع حالا من الملكين أو من الضمير في انزل وهي بابل العراق وقال ابن مسعود رضي اللّه عنه بابل أرض الكوفة

وقيل جبل دماوند ومنع الصرف للعجمة والعلمية أو للتأنيث والعلمية

هاروت وماروت عطف بيان للملكين علمان لهما ومنع صرفهما للعجمية والعلمية ولو كانا من الهرت والمرت بمعنى الكسر لانصرفا

وأما من قرأ الملكين بكسر اللام أو قال كانا رجلين صالحين فقال هما اسمان لهما

وقيل هما اسما قبيلتين من الجن هما المراد من الملكين بالكسر وقرئ بالرفع على هما هاروت وماروت

وما يعلمان من أحد من مزيدة في المفعول به لإفادة تأكيد الأستغراق الذي يفيده أحد لا لإفادة نفس الأستغراق كما في قولك

ما جاءني من رجل وقرئ يعلمان من الإعلام

حتى يقولا إنما نحن فتنة الفتنة الأختبار والإمتحان وإفرادها مع تعددهما لكونهما مصدرا وحملها عليهما مواطأة للمبالغة كأنهما نفس الفتنة والقصر لبيان أنه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأن سواها لينصرف الناس عن تعلمه أي وما يعلمان ما انزل عليهما من السحر احدا من طالبيه حتى ينصحاه قبل التعليم ويقولا له إنما نحن فتنة وابتلاء من اللّه عز و جل فمن عمل بما تعلم منا واعتقد حقيته كفر ومن توقى عن العمل به أو اتخذه ذريعة للأتقاء عن الأغترار بمثله بقي على الأيمان

فلا تكفر باعتقاد حقيته وجواز العمل به والظاهر أن غاية النفي ليست هذه المقالة فقط بل من جملتها التزام المخاطب بموجب النهي لكن لم يذكر لظهوره وكون الكلام في بيان اعتناء الملكين بشأن النصح والأرشاد والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير يعلمون لا معطوفة عليه كما قيل أي ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ويحملونهم على العمل به إغواء وإضلالا والحال أنهما ما يعلمان أحدا حتى ينهياه عن العمل به والكفر بسببه

وأما ما قيل من أن ما في قوله تعالى وما أنزل الخ نافية والجملة معطوفة على قوله تعالى وما كفر سليمان جئ بها لتكذيب اليهود في القصة أي لم ينزل على الملكين إباحة السحر وأن هاروت وماروت بدل من الشياطين على أنهما قبيلتان من الجن خصتا بالذكر لأصالتهما وكون باقي الشياطين أتباعا لهما وان المعنى ما يعلمان أحدا حتى يقولا أنما نحن فتنة فلا تكفر فتكون مثلنا فيأباه أن مقام وصف الشيطان بالكفر وإضلال الناس مما لا يلائمه وصف رؤسائهم بما ذكر من النهي عن الكفر مع ما فيه من الإخلال بنظام الكلام فإن الإبدال في حكم تنحية المبدل منه

فيتعلمون منهما عطف على الجملة المنفية فإنها في قوة المثبتة كأنه قيل يعلمانهم بعد قولهما أنما نحن الخ والضمير لأحد حملا على المعنى كما في قوله تعالى فما منكم من أحد عنه حاجزين

ما يفرقون به أي بسببه وباستعماله

بين المرء وقرئ بضم الميم وكسرها مع الهمزة وتشديد الراء بلا همزة

وزوجه بأن يحدث اللّه تعالى بينهما التباغض والفرك والنشوز عند ما فعلوا ما فعلوا من السحر على حسب جري العادة الإلهية من خلق المسببيات عقيب حصول الأسباب العادية إبتلاء لا أن السحر هو المؤثر في ذلك

وقيل فيتعلمون منهما ما يعملون به فيراه الناس ويعتقدون أنه حق فيكفرون فتبين أزواجهم

وما هم بضارين به أي بما تعلموه واستعملوه من السحر

من أحد أي أحدا ومن مزيدة لما ذكر في قوله تعالى وما يعلمان من احد والمعهود وإن كان زيادتها في معمول فعل منفي إلا أنه حملت الأسمية في ذلك على الفعلية كأنه قيل وما يضرون به من احد

إلا بإذن اللّه لأنه وغيره من الأسباب بمعزل من التأثير بالذات وإنما هو بأمره تعالى فقد يحدث عند استعمالهم السحر فعلا من أفعاله ابتلاء وقد لا يحدثه والإستثناء مفرغ والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير ضارين أو من مفعوله وإن كان نكرة لاعتمادها على النفي أو الضمير المجرور في به أي وما يضرون به أحدا إلا مقرونا بإذن اللّه تعالى وقرئ بضاري على الإضافة بجعل الجار جزءا من المجرور وفصل ما بين المضافين بالظرف

ويتعلمون ما يضرهم لأنهم يقصدون به العمل أو لأن العلم يجر الى العمل غالبا

ولا ينفعهم صرح بذلك إيذانا بانه ليس من الامور المشوبة بالنفع والضرر بل هو شر بحت وضرر محض لأنهم لا يقصدون به التخلص عن الأغترار بأكاذيب من يدعي النبوة مثلا من السحرة أو تخليص الناس منه حتى يكون فيه نفع في الجملة وفيه أن الإجتناب عما لا يؤمن غوائله خير كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية وإن قال من قال

 ... عرفت الشر لا للشر ... رولكن لتوقيه

 ... ومن لا يعرف الشر ... من الناس يقع فيه ...

ولقد علموا أي اليهود الذين حكيت جناياتهم

لمن اشتراه أي استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب اللّه عز و جل واللام الأولى جواب قسم محذوف والثانية لام ابتداء علق به علموا عن العمل ومن موصولة في حيز الرفع بالأبتداء واشتراه صلتها وقوله تعالى

ما له في الآخرة من خلاق أي من نصيب جملة من مبتدأ وخبر ومن مزيدة في المبتدأ وفي الآخرة متعلق بمحذوف وقع حالا منه ولو أخر عنه لكان صفة له والتقدير ماله خلاق في الآخرة وهذه الجملة في محل الرفع على انها خبر للموصول والجملة في حيز النصب سادة مسد مفعولي علموا إن جعل متعديا إلى اثنين أو مفعوله الواحد إن جعل متعديا الى واحد فجملة ولقد علموا الخ مقسم عليها دون جملة لمن اشتراه الخ هذا ما عليه الجمهور وهو مذهب سيبويه وقال الفراء وتبعه ابو البقاء أن اللام الأخيرة موطئة للقسم ومن شرطية مرفوعة بالأبتداء واشتراه خبرها وماله في الآخرة من خلاق جواب القسم وجواب الشرط محذوف أكتفاء عنه بجواب القسم لأنه إذا اجتمع الشرط والقسم يجاب سابقهما غالبا فحينئذ يكون الجملتان مقسما عليهما

ولبئس ما شروا به أنفسهم أي باعوها واللام جواب قسم محذوف والمخصوص بالذم محذوف أي وباللّه لبئسما باعوا به أنفسهم السحر أو الكفر وفيه إيذان بأنهم حيث نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم فقد عرضوا انفسهم للّهلكة وباعوها بما لا يزيدهم إلا تبارا وتجويز كون الشراء بمعنى الاشتراء مما لا سبيل إليه لأن المشترى متعين وهو ما تتلوا الشياطين ولأن متعلق الذم هو المأخوذ لا المنبوذ كما أشير إليه في تفسيره قوله سبحانه بئسما اشتروا به أنفسهم ان يكفروا بما أنزل اللّه

لو كانوا يعلمون أي يعملون بعلمهم جعلوا غير عالمين لعدم عملهم بموجب علمهم أو لو كانوا يتفكرون فيه أو يعلمون قبحه على اليقين أو حقيقة ما يتبعه من العذاب عليه على أن المثبت لهم أو لا على التوكيد القسمى العقل الغريزي أو العلم الإجمالى بقبح الفعل أو ترتب العقاب من غير تحقيق وجواب لو محذوف أي لما فعلوا ما فعلوا

١٠٣

ولو أنهم آمنوا أي بالرسول المومى إليه في قوله تعالى ولما جاءهم رسول من عند اللّه الخ أو بما أنزل إليه من الايات المذكورة في قوله تعالى ولقد انزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون أو بالتوراة التي أريدت بقوله تعالى نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب اللّه وراء ظهورهم فإن الكفر بالقرآن والرسول عليه السلام كفر بها

واتقوا المعاصي المحكية عنهم

لمثوبة من عبد اللّه خير جواب لو وأصله لأيثبوا مثوبة من عند اللّه خيرا مما شروا به أنفسهم فحذف الفعل وغير السبك إلى ما عليه النظم الكريم دلالة على ثبات المثوبة لهم والجزم بخيريتها وحذف المفضل عليه إجلا لا للمفضل من ان ينسب إليه وتنكير المثوبة للتقليل ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة تشريفية لمثوبة أي لشئ ما من المثوبة كائنة من عنده تعالى خير

وقيل جواب لو محذوف أي لأثيبوا وما بعده جملة مستأنفة فإن وقوع الجملة الابتدائة جوابا للوغير معهود في كلام العرب

وقيل لو للتمنى ومعناه أنهم من فظاعه الحال بحيث يتمنى العارف إيمانهم واتقاءهم تلهفا عليهم وقرئ لمثوبة وإنما سمى الجزاء ثوابا ومثوبة لأن المحسن يثوب إليه

لو كانوا يعلمون ان ثواب اللّه خير نسبوا إلى الجهل لعدم العمل بموجب العلم

١٠٤

يأيها الذين آمنوا خطاب للمؤمنين فيه إرشاد لهم إلى الخير وإشارة إلى بعض آخر من جنايات اليهود

لا تقولوا راعنا المراعاة المبالغة في الرعى وهو حفظ الغير وتدبير أموره وتدارك مصالحة وكان المسلمون إذا ألقى عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شيئا من العلم يقولون راعنا يارسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أي راقبنا وانتظرنا وتأن بنا حتى نفهم كلامك ونحفظه وكانت لليهود كلمة عبرانية أو سريانية يتسابون بها فيما بينهم وهي راعينا قيل معناها اسمع لا سمعت فلما سمعوا بقول المؤمنين ذلك افترضوه واتخذوه ذريعة إلى مقصدهم فجعلوا يخاطبون به النبى يعنون به تلك المسبة أو نسبته إلى الرعن وهو الحمق والهوج روى أن سعد بن عبادة رضي اللّه عنه سمعها منهم فقال يا أعداء اللّه عليكم لعنة اللّه والذي نفسى بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لأضربن عنقه قالوا أو لستم تقولونها فنزلت الآية ونهى فيها المؤمنون عن ذلك قطعا لألسنة اليهود عن التدليس وأمروا بما في معناها ولا يقبل التلبيس فقيل

وقولوا انظرنا أي انظر إلينا بالحذف والإيصال أو انتظرنا على أنه من نظرة إذا انتظره وقرئ أنظرنا من النظرة أي أمهلنا حتى نحفظ وقرئ راعونا على صيغة الجمع للتوقير وراعنا على صيغة الفاعل أي قولا ذا رعن كدارع ولابن لأنه لما أشبه قولهم راعينا وكان سببا للسبب بالرعن اتصف به

واسمعوا وأحسنوا سماع ما يكلمكم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ويلقى عليكم من لمسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لاتحتاجوا إلى الاستعاذة وطلب المراعاة أو واسمعوا ما كلفتموه من النهى والأمر بجد واعتناء حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه أو واسمعوا سماع طاعة وقبول ولا يكن سماعكم مثل سماع اليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا

وللكافرين أي اليهود الذين توسلوا بقولكم المذكور إلى كفرياتهم وجعلوه سببا للتهاون برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وقالوا له ما قالوا

عذاب اليم لما اجترءوا عليه من العظيمة وهو تذييل لما سبق فيه وعيد شديد لهم ونوع تحذير للنخاطبين عما نهوا عنه

١٠٥

 ما يود الذين كفروا الود حب الشئ مع تمنيه ولذلك يستعمل في كل منهما ونفيه كناية عن الكراهة ووضع الموصول موضع الضمير للإشعار بعلية ما في حيز الصلة لعدم ودهم ولعل تعلقه بما قبله من حيث أن القول المنهى عنه كثيرا ما كان يقع عند تنزيل الوحى المعبر عنه في هذه الآية بالخير فكأنه أشير إلى أن سبب تحريفهم له إلى ما حكى عنهم لوقوعه في أثناء حصول ما يكرهونه من تنزيل الخير

وقيل كان فريق من اليهود يظهرون للمؤمنين محبة ويزعمون أنهم يودون لهم الخير فنزلت تكذيبا لهم في ذلك ومن في

قوله تعالى

من أهل الكتاب ولا المشركين للتبيين كما في  قوله عز وعلا لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ولا مزيدة لما ستعرفه

أن ينزل عليكم في حيز النصب على أنه مفعول يود وبناء الفعل للمفعول للثقة بتعين الفاعل والتصريح الآتي في قوله تعالى

من خير هو القائم مقام فاعلة ومن مزيدة للاستغراق والنفي وإن لم يباشره ظاهرا لكنه منسحب عليه معنى والخير الوحى وحمله على ما يعمه وغيره من العلم والنصرة كما قيل يأباه وصفة فيما سيأتي بالاختصاص وتقديم الظرف عليه مع أن حقه التأخير عنه لآظهار كمال العناية به لأنه المدار لعدم ودهم ومن في قوله تعالى

من ربكم ابتدائية والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعليته لتنزيل الخير والإضافة إلى ضمير المخاطبين لتشريفهم وليست كراهتهم لتنزيله على المخاطبين من حيث تعبدهم بما قبله وتعرضهم بذلك لسعادة الدارين كيف لا وهم من تلك الحيثية من جملة من نزل عليهم الخير بل من حيث وقوع ذلك التنزيل على النبي وصيغة الجمع للإيذان بان مدار كراهتهم ليس معنى خاصا بالنبى بل وصف مشترك بين الكل وهو الخلو عن الدراسة عند اليهود وعن الرياسة عند المشركين والمعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم ويكرهون فيحسدونكم أن ينزل عليكم شئ من الوحى أما اليهود فبناء على أنهم أهل الكتاب وأبناء الأنبياء الناشئون في مهابط الوحى وأنتم اميون

وأما المشركون فإدلالا بما كان لهم من الجاه والمال زعما منهم أن رياسة الرسالة كسائر الرياسات الدنيوية منوطة بالأسباب الظاهرة ولذلك قالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ولما كانت اليهود بهذا الداء أشهر لاسيما في أثناء ذكر ابتلائهم به لم يلزم من نفي ودادتهم لما ذكر نفى ودادة المشركين له فزيدت كلمة لا لتأكيد النفى

واللّه يختص برحمته جملة ابتدائية سيقت لتقرير ما سبق من تنزيل الخير والتنبيه على حكمته وإرغام الكارهين له والمراد برحمته الوحى كما في قوله سبحانه أهم يقسمون رحمة ربك عبر عنه باعتبار نزوله على المؤمنين بالخير وباعتبار إضافته إليه تعالى بالرحمة قال علي رضي اللّه عنه بنبوته خص بها محمدا فالفعل متعد وصيغته الافتعال للإنباء عن الاصطفاء وإيثاره على التنزيل المناسب للسياق الموافق لقوله تعالى أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء لزيادة تشريفه وإقناطهم مما علقوا به أطماعهم الفارغة والباء داخلة على المقصود أي يؤتى رحمته

من يشاء من عباده ويجعلها مقصورة عليه لاستحقاقه الذاتي الفائض عليه بحسب إرادته عز وعلا تفضلا لا تتعداه إلى غيره

وقيل الفعل لازم ومن فاعله والضمير العائد إلى من محذوف على التقديرين وقوله تعالى

واللّه ذو الفضل العظيم تذييل لما سبق مقرر لمضمونه وفيه إيذان بأن إيتاء النبوة من فضله العظيم كقوله تعالى إن فضله كان عليك كبيرا وإن حرمان من حرم ذلك ليس لضيق ساحة فضله بل لمشيئته الجارية على سنن الحكمة البالغة وتصدير الجملتين بالاسم الجليل للإيذان بفخامة مضمونيهما وكون كل منهما مستقلة بشأنها فإن الإضمار في الثانية منبئ عن توقفها على الأولى

١٠٦

ما ننسخ من آية أو ننسها كلام مستأنف مسوق لبيان سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحى وإبطال مقالة الطاعنين فيه أثر تحقيق

حقيقة الوحى ورد كلام الكارهين له رأسا قيل نزلت حين قال المشركون أو اليهود ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بامر ثم ينهاهم عنه ويامر بخلافه والنسخ في اللغة الإزالة والنقل يقال نسخت الريح الأثر أي أزالته ونسخت الكتاب أي نقلته ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أوبهما جميعا وإنساؤها إذهابها من القلوب وما شرطية جازمة لننسخ منتصبة به على المفعولية وقرئ ننسخ من أنسخ أي نأمرك أو جبريل بنسخها أو نجدها منسوخة وننسأها من النسء أي نؤخرها وننسها بالتشديد وتنسها وتنسها على خطاب الرسول مبنيا للفاعل وللمفعول وقرئ ما ننسخ من آية أو ننسكها وقرئ ما ننسك من آية أو ننسخها والمعنى أن كل آية نذهب بها على ماتقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا إلى بدل أو إلى غير بدل

نأت بخير منها أي نوع آخر هو خير للعباد يحسب الحال في النفع والثواب من الذاهبة وقرئ بقلب الهمزة ألفا

أو مثلها أي فيما ذكر من النفع والثواب وهذا الحكم غير مختص بنسخ الآية التامة فما فوقها بل جار في مادونها أيضا وتخصيصها بالذكر باعتبار الغالب والنص كما ترى دال على جواز النسخ كيف لا وتنزيل الآيات التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية إنما هو بحسب ما يقتضيه من الحكم والمصالح وذلك يختلف باختلاف الأحوال ويتبدل حسب تبدل الأشخاص والأعصار كأحوال المعاش فرب حكم تقتضيه الحكمة في حال تقتضى في حال أخرى نقيضه فلو لم يجز النسخ لاختل ما بين الحكمة والأحكام من النظام

ألم تعلم الهمزة للتقرير كما في قوله سبحانه أليس اللّه بكاف عبده وقوله تعالى ألم نشرح لك صدرك والخطاب للنبي عليه الصلاة و السلام وقوله تعالى

إن اللّه على كل شئ قدير ساد مسد مفعولى تعلم عند الجمهور ومسد مفعوله الأول والثاني محذوف عند الأخفش والمراد بهذا التقرير الاستشهاد بعلمه بما ذكر على قدرته تعالى على النسخ وعلى الإيتان بما هو خير من المنسوخ وبما هو مثله لأن ذلك من جملة الأشياء المقهورة تحت قدرته سبحانه فمن علم شمول قدرته تعالى لجميع الأشياء علم قدرته على ذلك قطعا والالتفات بوضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة والإشعار بمناط الحكم فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من الأحكام الألوهية وكذا الحال في قوله عز سلطانه

١٠٧

ألم تعلم أن اللّه له ملك السموات والأرض فإن عنوان الألوهية مدار أحكام ملكوتهما والجار والمجرور خبر مقدم وملك السموات والأرض مبتدأ والجملة خبر لأن إيثاره على أن يقال أن للّه ملك السموات والأرض للقصد إلى تقوى الحكم بتكرر الإسناد وهو إما تكرير للتقرير وإعادة للاستشهاد على ما ذكر وإنما لم يعطف أن مع ما في حيزها على ما سبق من مثلها روما لزيادة التأكيد وإشعارا باستقلال العلم بكل منهما وكفايته في الوقوف على ما هو المقصود

وأما تقرير مستقل للاستشهاد على قدرته تعالى على جميع الأشياء أي ألم تعلم أن اللّه له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلى فيهما إيجادا وإعداما وأمرا ونهيا حسبما تقتضيه مشيئته لا معارض لأمره ولا معقب لحكمه فمن هذا شأنه كيف يخرج عن قدرته شئ من الأشياء وقوله تعالى

وما لكم من دون اللّه من وليولا نصير معطوف على الجملة الواقعة خبرا لأن داخل معها تحت تعلق العلم المقرر وفيه إشارة إلى تناول الخطابين السابقين للأمة أيضا وإنما افراده عليه السلام بهما لما أن علومهم مستندة إلى علمه عليه السلام ووضع الاسم الجليل موضع الضمير الراجع إلى اسم أن لتربية المهابة والإيذان بمقارنة الولاية والنصرة للقوة والعزة والمراد به الاستشهاد بما تعلق به من العلم على تعلق إرادته تعالى بما ذكر من الإتيان بما هو خير من المنسوخ أو بمثله فإن مجرد قدرته تعالى على ذلك لا يستدعى حصوله البته وإنما الذي يستدعيه كونه تعالى مع ذلك وليا ونصيرا لهم فمن علم أنه تعالى وليه ونصيره على الاستقلال يعلم قطعا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له فيفوض امره إليه تعالى ولا يخطر بباله ريبة في امر النسخ وغيره أصلا والفرق بين الولى والنصير ان الولى قد يضعف عن النصرة والنصير قد يكون أجنبيا من المنصور وما إما تميمية لاعمل لها ولكم خبر مقدم ومن ولى مبتدأ مؤخر زيدت فيه كلمة من للاستغراق

وأما حجازية ولكم خبرها المنصوب عند من يجيز تقديمه واسمها من ولى ومن مزيدة لما ذكر ومن دون اللّه في حيز النصب على الحالية من اسمها لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالا ومعناه سوى اللّه والمعنى أن قضية العلم بما ذكر من الأمور الثلاثة هو الجزم والإيقان بانه تعالى لا يفعل بهم في أمر من أمور دينهم أو دنياهم إلا ما هو خير لهم والعمل بموجبه من الثقة به والتوكل عليه وتفويض الأمر إليه من غير إصغاء إلى أقاويل الكفرة وتشكيكاتهم التي من جملتها ماقالوا في أمر النسخ وقوله تعالى

١٠٨

ام تريدون تجريد للخطاب عن النبى وتخصيص له بالمؤمنين وأم منقطعة ومعنى بل فيها الإضراب والانتقال من حملهم على العمل بموجب علمهم بما ذكر عند ظهور بعض مخابل المساهلة منهم في ذلك وأمارات التأثر من أقاويل الكفرة إلى التحذير من ذلك ومعنى الهمزة إنكار وقوع الإرادة منهم واستبعاده لما أن قضية الإيمان وازعة عنها وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها للمبالغة في أنكاره واستبعاده ببيان انه مما لايصدر عن العاقل إرادته فضلا عن صدور نفسه والمعنى بل أتريدون

أن تسألوا وأنتم مؤمنون

رسولكم وهو في تلك الرتبة من علو الشأن وتقترحوا عليه ماتشتهون غير واثقين في اموركم بفضل اللّه تعالى حسبما يوجبه قضية علمكم بشئونه سبحانه قيل لعلهم كانوا يطلبون منه عليه الصلاة و السلام بيان تفاصيل الحكم الداعية إلى النسخ

وقيل سأله عليه السلام قوم من المسلمين أن يجعل لهم ذات أنواط كما كانت للمشركين وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها المأكول والمشروب وقوله تعالى

كما سئل موسى مصدر تشبيهى أي نعت لمصدر مؤكد محذوف وما مصدرية أي سؤال مشبها بسؤال موسى عليه السلام حيث قيل له أجعل لنا إلها وأرنا اللّه جهرة وغير ذلك ومقتضى الظاهر أن يقال كما سألوا موسى لأن المشبه هو المصدر من المبنى للفاعل أعنى سائلية المخاطبين لا من المبنى للمفعول أعنى مسئولية

الرسول حتى يشبه بمسئولية موسى عليه السلام فلعله اريد التشبيه فيهما معا ولكنه أوجز النظم فذكر في جانب المشبه السائلية وفي جانب المشبه به المسئولية واكتفى بما ذكر في كل موضع عما ترك في الموضع الآخر كما ذكر في قوله تعالى وإن يمسسك اللّه بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله وقد جوز ان تكون ما موصولة على أن العائد محذوف أي كالسؤال الذي سئله موسى عليه السلام وقوله تعالى

من قبل متعلق بسئل جيء به للتأكيد وقرئ سيل بالياء وكسر السين وبتسهيل الهمزة بين بين

ومن يتبدل الكفر أي يختر ويأخذه لنفسه

بالإيمان بمقابلته بدلا منه وقرئ ومن يبدل من أبدل وكان مقتضى الظاهر أن يقال ومن يفعل ذلك أي السؤال المذكور أو إرادته وحاصله ومن يترك الثقة بالآيات البينة المنزلة بحسب المصالح التي من جملتها الآيات الناسخة التي هي خير محض وحق بحت واقترح غيرها

فقد ضل سواء السبيل أي عدل وجار من حيث لا يدري عن الطريق المستقيم الموصل إلى معالم الحق والهدى وتاه في تية الهوى وتردى في مهاوى الردى وإنما أوثر على ذلك ما عليه النظم الكريم للتصريح من اول الأمر بأنه كفر وارتداد وأن كونه كذلك أمر واضح غني عن الإخبارية بأن يقال ومن يفعل ذلك يكفر حقيق بأن يعد من المسلمات ويجعل مقدما للشرطية روما للمبالغة في الزجر والإفراط في الردع وسواء السبيل من باب إضافة الوصف الى الموصوف لقصد المبالغة في بيان قوة الاتصاف كأنه نفس السواء على منهاج حصول الصورة في الصورة الحاصلة

وقيل الخطاب لليهود حين سألوا أن ينزل اللّه عليهم كتابا من السماء

وقيل للمشركين حين قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا الخ فإضافة الرسول إليهم على القولين باعتبار أنهم من أمة الدعوة ومعنى تبدل الكفر بالإيمان وهم بمعزل من الإيمان ترك صرف قدرتهم إليه مع تمكنهم من ذلك وإيثارهم للكفر عليه

١٠٩

ود كثير من أهل الكتاب هم رهط من أحبار اليهود روى ان فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر رضي اللّه عنهما بعد وقعة أحد ألم تروا ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلا فقال عمار كيف نقض العهد فيكم قالوا شديد قال فإنى عاهدت أن لا أكفر بمحمد عليه الصلاة و السلام ما عشت فقالت اليهود أما هذا فقد صبأ وقال حذيفة أما أنا فقد رضيت باللّه ربا وبمحمد نبيا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا ثم أتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وأخبراه فقال اصبتما خيرا وأفلحتما فنزلت

لو يردونكم حكاية لو دادتهم ولو في معنى التمني وصيغة الغيبة كما في قوله حلف ليفعلن

وقيل هي بمنزلة أن الناصبة فلا يكون لها جواب وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا لودوا التقدير ودوا ردكم

وقيل هي على حقيقتها وجوابها محذوف تقديره لويردونكم كفارا لسروا بذلك و

من بعد إيمانكم

متعلق بيردونكم وقوله تعالى

كفارا مفعول ثان له على تضمين الرد معنى التصيير أي يصيرونكم كفارا كما في قوله

... رمى الحدثان نسوة آل سعد ... بمقدار سمدن له سمودا

... فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا ...

وقيل هو حال من مفعوله والأول أدخل لما فيه من الدلالة صريحا على كون الكفر المفروض بطريق القسر وايراد الظرف مع عدم الحاجة اليه ضرورة كون المخاطبين مؤمنين واستحالة تحقق الرد الى الكفر بدون سبق الايمان مع توسيطه بين المفعولين لإظهار كمال شناعة ما أرادوه وغاية بعده من الوقوع اما لزيادة قبحه الصارف للعاقل عن مباشرته

وأما لممانعة الايمان له كأنه قيل من بعد ايمانكم الراسخ وفيه من تثبيت المؤمنين مالا يخفى

حسدا علة لود أو حال أريد به نعت الجمع أي حاسدين لكم والحسد الأسف على من له خير بخيره

من عند أنفسهم متعلق بود أي ودوا ذلك من أجل تشهيهم وحظوظ أنفسهم لا من قبل التدين والميل مع الحق ولو على زعمهم أو بحسد أي حسدا منبعثا من أصل نفوسهم بالغا أقصى مراتبه

من بعد ما تبين لهم الحق بالمعجزات الساطعة وبما عاينوا في التوراة من الدلائل وعلموا أنكم متمسكون به وهم منهمكون في الباطل

فاعفوا واصفحوا العفو ترك المؤاخذة والعقوبة والصفح ترك التثريب والتأنيب

حتى يأتي اللّه بأمره الذي هو قتل بني قريظة واجلاء بني النضير واذ لا لهم بضرب الجزية عليهم أو الإذن في القتال وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه منسوخ بآية السيف ولا يقدح في ذلك ضرب الغاية لأنها لا تعلم الا شرعا ولا يخرج الوارد بذلك من أن يكون ناسخا كأنه قيل فاعفوا واصفحوا الى ورورد الناسخ

ان اللّه على كل شيء قدير فينتقم منهم اذا حان حينه وآن أوانه فهو تعليل لما دل عليه ما قبله

١١٠

وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة عطف على فاعفوا أمروا بالصبر والمداراة واللجأ الى اللّه تعالى بالعبادة البدنية والمالية

وما تقدموا لأنفسكم من خير كصلاة أو صدقة أو غير ذلك أي أي شيء من الخيرات تقدموه لمصلحة أنفسكم

تجدوه عند اللّه أي تجدوا ثوابه وقرئ تقدموا من أقدم

ان اللّه بما تعملون بصير فلا يضيع عنده عمل فهو وعد للمؤمنين وقرئ بالياء فهو وعيد للكافرين

١١١

وقالوا عطف على ود والضمير لأهل الكتابين جميعا

لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى أي قالت اليهود لن يدخل الجنة الا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة الا من كان نصارى فلف بين القولين ثقة أن السامع يرد كلا منهما الى قائله ونحوه وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا وليس مرادهم بأولئك من أقام اليهودية والنصرانية قبل النسخ والتحريف على وجهها بل أنفسهم على ماهم عليه لأنهم انما يقولونه لإضلال المؤمنين وردهم الى الكفر والهود جمع هائد كعوذ جمع عائذ وبزل جمع بازل والافراد في كان باعتبار لفظ من والجمع في خبره باعتبار معناه وقرئ الا من كان يهوديا أو نصرانيا

تلك أمانيهم الاماني جميع أمنية وهي ما يتمنى كالأعجوبة والأضحوكة والجملة معترضة مبنية لبطلان ما قالوا وتلك اشارة اليه والجمع باعتبار صدوره عن الجميع

وقيل فيه حذف مضاف أي أمثال تلك الامنية أمانيهم

وقيل تلك اشارة اليه والى ما قبله من أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأن يردهم كفارا ويرده قوله تعالى

قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين فإنهما ليسا مما يطلب له البرهان ولا مما يحتمل الصدق والكذب قيل هاتوا أصله آتوا قلبت الهمزة هاء أي أحضروا حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة ان كنتم صادقين في دعواكم هذا ما يقتضيه المقام بحسب النظر الجليل والذي يستدعيه اعجاز التنزيل ان يحمل الامر التبكيتي على طلب البرهان على أصل الدخول الذي يتضمنه دعوى الاختصاص به فإن قوله تعالى

١١٢

بلى الخ اثبات من جهته تعالى لما نفوه مستلزم لنفي ما أثبتوه واذ ليس الثابت به مجرد دخول غيرهم الجنة ولو معهم ليكون المنفي مجرد اختصاصهم به مع بقاء أصل الدخول على حاله بل هو اختصاص غيرهم بالدخول كما ستعرفه بإذن اللّه تعالى ظهر أن المنفي اصل دخولهم ومن ضرورته أن يكون هو الذي كلفوا اقامة البرهان عليه لا اختصاصهم به ليتحد مورد الاثبات والنفي وانما عدل عن ابطال ما ادعوه وسلك هذا المسلك ابانة لغاية حرمانهم مما علقوا به اطماعهم واظهار لكمال عجزهم عن اثبات مدعاهم لأن حرمانهم من الاختصاص بالدخول وعجزهم عن اقامة البرهان عليه لا يقتضيان حرمانهم من اصل الدخول وعجزهم عن اثباته

وأما نفس الدخول فحيث ثبت حرمانهم منه وعجزهم عن اثباته فهم من الاختصاص به أبعد وعن اثباته اعجز وانما الفائز به من انتظمه قوله سبحانه

من اسلم وجهه للّه أي اخلص نفسه له تعالى لا يشرك به شيئا عبر عنها بالوجه لأنه أشرف الاعضاء ومجمع المشاعر وموضع السجود ومظهر آثار الخضوع الذي هو من أخص خصائص الاخلاص أو توجهه وقصده بحبث لا يلوي عزيمته الى شيء غيره

وهو محسن حال من ضمير أسلم أي والحال أنه محسن في جميع اعماله التي من جملتها الاسلام المذكور وحقيقة الاحسان الاتيان بالعمل على الوجه اللائق وهو حسنه الوصفي التابع لحسنه الذاتي وقد فسره بقوله أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك

فله أجره الذي وعده له على عمله وهو عبارة عن دخول الجنة أو عما يدخل هو فيه دخولا أوليا واياما كان فتصويره بصورة الاجر للإيذان بقوة ارتباطه بالعمل واستحالة نيله بدونه وقوله تعالى

عند ربه حال من أجره والعامل فيه معنى الاستقرار في الظرف والعندية للتشريف ووضع اسم الرب مضافا الى ضمير من اسلم موضع ضمير الجلالة لإظهار مزيد اللطف به وتقرير مضمون الجملة أي فله أجره عتد مالكة ومدبر أموره ومبلغه إلى كماله والجملة جواب من إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء لتضمنها معنى الشرط فيكون الرد بقوله تعالى بلى وحده ويجوز أن يكون من فاعلا لفعل مقدر أي بلى يدخلها من أسلم وقوله تعالى فله أجره معطوف على ذلك المقدر وأيا ما كان فتعلق ثبوت الأجر بما ذكر من الإسلام والإحسان المختصين بأهل الإيمان قاض بأن أولئك المدعين من دخول الجنة بمعزل ومن الاختصاص به بألف معزل

ولا خوف عليهم في الدارين من لحوق مكروه

ولاهم يحزنون من فوات مطلوب أي لايعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لايخافون ولايحزنون والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ

١١٣

وقالت اليهود ليست النصارى على شئ بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه إثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم نزلت لما قدم وفد نجران على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وأتاهم أحبار اليهود فتناظروا فارتفعت أصواتهم فقالوا لهم لستم على شئ أي أمر يعتد به من الدين أو على شئ ما منه أصلا مبالغة في ذلك كما قالوا أقل من لاشئ وكفروا بعيسى والإنجيل

وقالت النصارى ليست اليهود على شئ على الوجه المذكور وكفروا بموسى والتوراة لا أنهم قالوا ذلك بناء للأمر على منسوخية التوراة

وهم يتلون الكتاب الواو للحال واللام للجنس أي قالوا ما قالوا والحال أن كل فريق منهم من أهل العلم والكتاب أي كان حق كل منهم أن يعترف بحقية دين صاحبه حسبما ينطق به كتابه فإن كتب اللّه تعالى متصادقة

كذلك أي مثل ذلك الذي سمعت به والكاف في محل النصب إما على أنها نعت لمصدر محذوف قدم على عاملة لإفادة القصر أي قولا مثل ذلك القول بعينه لاقولا مغايرا له

قال الذين لا يعلمون من عبدة الأصنام والمعطلة ونحوهم من الجهلة أي قالوا لأهل كل دين ليسوا على شئ

وأما على أنها حال من المصدر المضمر المعرف الدال عليه قال أي قال القول الذين لايعلمون حال كونه مثل ذلك القول الذي سمعت به

مثل قولهم إما بدل من محل الكاف

وأما مفعول للفعل المنفى قبله أي مثل ذلك القول قال الجاهلون بمثل مقالة اليهود والنصارى وهذا توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم أصلا

فاللّه يحكم بينهم أي بين اليهود والنصارى فإن مساق النظم لبيان حالهم وإنما التعرض لمقالة غيرهم لإظهار كمال بطلان مقالهم ولأن المحاجة المحوجة إلى الحكم إنما وقعت بينهم

يوم القيامة متعلق بيحكم وكذا ماقبله وما بعده ولاضير فيه لاختلاف المعنى

فيما كانوا فيه يختلفون بما يقسم لكل فريق مايليق به من العقاب

وقيل حكمه بينهم أن يكذبهم وبدخلهم النار والظرف الأخير متعلق بيختلفون قدم عليه للمحافظة على رءوس الآى لا بكانوا

١١٤

ومن أظلم ممن منع مساجد اللّه إنكار واستبعاد لأن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أومساويا له وإن لم يكن سبك التركيب متعرضا لإنكار المساواة ونفيها يشهد به العرف الفاشي والاستعمال المطرد فإذا قيل من أكرم من فلان أولا أفضل من فلان فالمراد به حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وهذا الحكم عام لكل من فعل ذلك في أي مسجد كان وإن كان سبب النزول فعل طائفة معينة في مسجد مخصوص روى أن النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه وأن الروم غزوا أهله فخربوه وأحرقوا التوراة وقتلوا وسبوا وقد نقل عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن طيطيوس الرومي ملك النصارى وأصحابه غزوا بنى إسرئيل وقتلوا مقاتلتهم وسبوا ذراريهم وأحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير ولم يزل خرابا حتى بناه المسلمون في عهد عمر رضي اللّه عنه وإنما أوقع المنع على المساجد وإن كان الممنوع هو الناس لما ان فعلهم من طرح الأذى والتخريب ونحوهما متعلق بالمسجد لا بالناس مع كونه على حاله وتعلق الآية الكريمة بما قبلها من حيث انها مبطلة لدعوى النصارى اختصاصهم بدخول الجنة

وقيل هو منع المشركين من جملة الجاهلين القائلين لكل من عداهم ليسوا على شئ

ان يذكر فيها اسمه ثانى مفعولى منع كقوله تعالى وما منع الناس أن يؤمنوا وقوله تعالى وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ويجوز ان يكون ذلك بحذف الجار مع أن وأن يكون ذلك مفعولا له أي يذكر فيها اسمه

وسعى في خرابها بالهدم أو التعطيل بانقطاع الذكر

أولئك المانعون الظالمون الساعون في خرابها

ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين أي ما كان ينبغى لهم أن يدخلوها إلا بخشية وخضوع فضلا عن الاجتراء على تخريبها أوتعطيلها أوما كان الحق أن يدخلوها إلا على حال التهيب وارتعاد الفرائص من جهة المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوهم منها أو ما كان لهم في علم اللّه تعالى وقضائه بالآخرة إلا ذلك فيكون وعدا للمؤمنين بالنصرة واستخلاص ما استولوا عليه منهم وقد أنجز الوعد وللّه الحمد روى أنه لايدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكرا مسارقة

وقيل معناه النهى عن تمكينهم من الدخول في المسجد واختلف الأئمة في ذلك فجوزه أبو حنيفة مطلقا ومنعه مالك مطلقا وفرق الشافعي بين المسجد الحرام وغيره

ولهم أي لأولئك المذكورين

في الدنيا خزى أي خزى فظيع لا يوصف بالقتل والسبى والإذلال بضرب الجزية عليهم

ولهم في الآخرة عذاب عظيم وهو عذاب النار لما ان سببه أيضا وهو ما حكى من ظلمهم كذلك في العظم وتقديم الظرف في الموضعين لتشويق إلى ما يذكر بعده من الخزى والعذاب لما مر من أن تأخير ما حقه التقديم موجب لتوجه النفس إليه فيتمكن فيها عند وروده فضل تمكن كما في

قوله تعالى ألم نشرح لك صدرك وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أرواج إلى غير ذلك

١١٥

وللّه المشرق والمغرب أي له كل الأرض التي هي عبارة عن ناحيتي المشرق والمغرب لا يختص به من حيث الملك والتصرف ومن حيث المحلية لعبادته مكان منها دون مكان فإن منعتم من إقامة العبادة في المسجد الأقصى أو المسجد الحرام

فأينما تولوا أي ففي أي مكان فعلتم توليه وجوهكم شطر القبلة

فثم وجه اللّه ثم أسم إشارة للمكان البعيد خاصة مبنى على الفتح ولا يتصرف سوى الجر بمن وهو خبر مقدم ووجه اللّه مبتدأ والجملة في محل الجزم على أنها جواب الشرط أي هناك جهته التي أمر بها فإن إمكان التولية غير مختص بمسجد دون مسجد أو مكان دون آخر أو فثم ذاته بمعنى الحضور العلمي أي فهو عالم بما يفعل فيه ومثيب لكم على ذلك وقرئ بفتح التاء واللأم أي فأينما توجهوا القبلة

إن اللّه واسع بإحاطته بالإشياء أو برحمته يريد التوسعة على عباده

عليم بمصالحهم وأعمالهم في الأماكن كلها والجملة تعليل لمضمون الشرطية وعن ابن عمر رضي اللّه عنهما نزلت في صلاة المسافرين على الراحلة أينما توجهوا

وقيل في قوم عميت عليهم القبلة فصلوا إلى أنحاء مختلفة فلما أصبحوا تبينوا خطأهم وعلى هذا لو أخطأ المجتهد ثم تبين له الخطأ لم يلزمه التدارك

وقيل هي توطئة لنسخ القبلة وتنزيه للمعبود عن أن يكون في جهة

١١٦

وقالوا اتخذ اللّه ولدا حكاية لطرف آخر من مقالاتهم الباطلة المحكية فيما سلف معطوفة على ما قبلها من قوله تعالى وقالت الخ لا على صلة من لما بينهما من الجمل الكثيرة الأجنبية والضمير لليهود والنصارى ومن شاركهم فيما قالوا من الذين لا يعلمون وقرئ بغير واو على الاستئناف نزلت حين قالت اليهود عزيز ابن اللّه والنصارى المسيح ابن اللّه ومشركو العرب الملائكة بنات اللّه والاتخاذ إما بمعنى الصنع والعمل فلا يتعدى إلا إلى واحد

وأما بمعنى التصيير والمفعول الأول محذوف أي صير بعض مخلوقاته ولدا

سبحانه تنزيه وتبرئة له تعالى عما قالوا وسبحان علم للتسبيح كعثمان للرجل وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبة أي أسبح سبحانة أي أنزهه تنزيها لائقا به وفيه من التنزيه البليغ من حيث الاشتقاق من السبح الذي هو الذهاب والإبعاد في الأرض ومن جهة النقل إلى التفعيل ومن جهة العدول إلى المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة لاسيما العلم المشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن ومن جهة إقامته مقام المصدر مع الفعل مالا يخفى

وقيل هو مصدر كغفران بمعنى التنزه أي تنزه بذاته تنزها حقيقا به ففيه مبالغة من حيث إسناد البراءة إلى الذات المقدسة وإن كان التنزيه اعتقاد نزاهته تعالى عما لا يليق به لا إثباتها له تعالى وقوله تعالى

بل له ما في السموات والأرض رد لما زعموا وتنبيه على بطلانه وكلمة بل للإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من مجانسته سبحانه وتعالى لشئ من المخلوقات ومن سرعة فنائه المحوجة إلى اتخاذ ما يقوم مقامه فإن مجرد الإمكان والفناء لا يوجب ذلك ألا يرى أن الأجرام الفلكية مع إمكانها وفنائها بالآخرة مستغنية بدوامها وطول بقائها عما يجرى مجرى الولد من الحيوان أي ليس الأمر كما زعموا بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها عزيز والمسيح والملائكة

كل التنوين عوض عن المضاف إليه أي كل ما فيهما كائنا ما كان من أولى العلم وغيرهم

له قانتون منقادون لا يستعصى شئ منهم على تكوينه وتقديره ومشيئته ومن كان هذا شأنه لم يتصور مجانسته لشئ ومن حق الولد أن يكون من جنس الوالد وإنما جيء بما المختصة بغير أولى العلم تحقيرا لشأنهم وإيذانا بكمال بعدهم عما نسبوا إلى بعض منهم وصيغة جمع العقلاء في قانتون للتغليب أو كل من جعلوه للّه تعالى ولدا له قانتون أي مطيعون عابدون له معترفون بربوبيته تعالى كقوله تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة

١١٧

بديع السموات والرض أي مبدعهما ومخترعهما بلا مثال يحتذيه ولا قانون ينتجه فإن البديع كما يطلق على المبتدع يطلق على المبدع نص عليه أساطين أهل اللغة وقد جاء بدعه كمنعه بمعنى أنشأه كابتدعه كما ذكر في القاموس وغيره ونظيره السميع بمعنى المسمع في قوله أمن ريحانة الداعي السميع

وقيل هو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها للتخفيف بعد نصبه على تشبيهها باسم الفاعل كما هو المشهور أي بديع سمواته من بدع إذا كان على شكل فائق وحسن رائق وهو حجة أخرى لإبطال مقالتهم الشنعاء تقريرها أن الوالد عنصر الولد المنفعل بانفصال مادته عنه واللّه سبحانه مبدع الأشياء كلها على الإطلاق منزه عن الانفعال فلا يكون والدا ورفعه على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو بديع الخ وقرئ بالنصب على المدح وبالجر على انه بدل من الضمير في له على رأي من يجوز الإبدال من الضمير المجرور كما في قوله

 ... على جوده لضن بالماء حاتم ...

وإذا قضى أمرا أي أراد شيئا كقوله تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا وأصل القضاء الأحكام أطلق على الإرادة الإلهية المتعلقة بوجود الشئ لإيجابها إياه البتة

وقيل الأمر ومنه قوله تعالى وقضى ربك الخ

فإنما يقول له كن فيكون كلاهما من الكون التام أي أحدث فيحدث وليس المراد به حقيقة الأمر والامتثال وإنما هو تمثيل لسهولة تأتي المقدورات بحسب تعلق مشيئته تعالى وتصوير لسرعة حدوثها بما هو علم في الباب من طاعة المأمور المطيع للآمر المطاع وفيه تقرير لمعنى الإبداع وتلويح لحجة أخرى لإبطال ما زعموه بأن اتخاذ الولد شأن من يفتقر في تحصيل مراده إلى مباد يستدعى ترتيبها مرور زمان وتبدل أطوار وفعله تعالى متعال عن ذلك

١١٨

وقال الذين لا يعلمون حكاية لنوع آخر من قبائحهم وهو قدحهم في أمر النبوة بعد حكاية قدحهم في شأن التوحيد بنسبة الولد إليه سبحانه وتعالى واختلف في هؤلاء القائلين فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما اليهود وقال مجاهد هم النصارى ووصفهم بعدم العلم لعدم علمهم بالتوحيد والنبوة كما ينبغىأو لعدم علمهم بموجب عملهم أو لأن ما يحكى عنهم لا يصدر عمن له شائبة علم أصلا وقال قتادة وأكثر أهل التفسير هم مشركو العرب لقوله تعالى فليأتنا بآية كما أرسل الأولون وقالوا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا

لولا يكلمنا اللّه أي هلا يكلمنا بلا واسطة أمرا أو نهيا كما يكلم الملائكة أو هلا يكلمنا نتصيصا على نبوتك

أو تأتينا آية حجة تدل على صدقك بلغوا من العتو والاستكبار إلى حيث أملوا نيل مرتبة المفاوضة الإلهية من غير توسط الرسول والملك ومن العناد والمكابرة إلى حيث لم يعدوا ما آتاهم من البينات الباهرة التي تخر لها صم الجبال من قبيل الآيات قاتلهم اللّه أني يؤفكون

كذلك مثل ذلك القول الشنيع الصادر عن العناد والفساد

قال الذين من قبلهم من الأمم الماضية

مثل قولهم هذا الباطل الشنيع فقالوا أرنا اللّه جهرة قالوا لن نصبر على طعام واحد الآية وقالوا هل يستطيع ربك الخ قالوا اجعل لنا إلها الخ

تشابهت قلوبهم أي قلوب هؤلاء وأولئك في العمى والعناد وإلا لما تشابهت أقاويلهم الباطلة

قد بينا الآيات أي نزلناها بينة بان جعلناها كذلك في أنفسها كما في قولهم سبحان من صغر البغوض وكبر الفيل لا أنا بيناها بعد أن لم تكن بينه

لقوم يوقنون أي يطلبون اليقين ويوقنون بالحقائق لا يعتريهم شبهة ولا ريبة وهذا رد لطلبهم الآية وفي تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين المفصح عن كمال التوضيح مكان الإتيان الذي طلبوه ما لا يخفى من الجزالة والمعنى أنهم اقترحوا آية فذة ونحن قد بينا الآيات العظام لقوم يطلبون الحق واليقين وإنما لم يتعرض لرد قولهم لولا يكلمنا اللّه إيذانا بأنه من ظهور البطلان بحيث لا حاجة إلى الرد والجواب

١١٩

إنا أرسلناك بالحق أي متلبسا بالقرآن كما في قوله تعالى كذبوا بالحق لما جاءهم أو بالصدق كما في قوله تعالى أحق هو وقوله تعالى

بشيرا ونذيرا حال من مفعول باعتبار تقييده بالحال الأولى أي أرسلناك متلبسا بالقرآن حال كونك بشيرا لمن آمن بما أنزل عليك وعمل به ونذيرا لمن كفر به أو أرسلناك صادقا حال كونك بشيرا لمن صدقك بالثواب ونذيرا لمن كذبك بالعذاب ليختاروا لأنفسهم ما أحبوا لا قاسر لهم على الإيمان فلا عليك إن أصروا وكابروا

ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ما لهم لم يؤمنوا بعد ما بلغت ما أرسلت به وقرئ لن تسأل وما تسأل وقرئ لا تسأل على صيغة النهى إيذانا بكمال شدة عقوبة الكفار وتهويلا لها كأنها لغاية فظاعتها لا يقدر المخبر على إجرائها على لسانه أو لا يستطيع السامع ان يسمع خبرها وحمله على نهى النبي عن السؤال عن حال أبويه مما لايساعده النظم الكريم والجحيم المتأجج من النار وفي التعبير عنهم بصاحبية الجحيم دون الكفر والتكذيب ونحوهما وعيد شديد لهم وإيذان بأنهم مطبوع عليهم لا يرجى منهم الإيمان قطعا وقوله تعالى

١٢٠

ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم بيان لكمال شدة شكيمة هاتين الطائفتين خاصة إثر بيان ما يعمهما والمشركين من الإصرار على ما هم عليه إلى الموت وإيراد لا

النافية بين المعطوفين لتأكيد النفي لما مر من أن تصلب اليهود في أمثال هذه العظائم أشد من النصارى والإشعار بأن رضى كل منهما مباين لرضى الأخرى أي لن ترضي عنك اليهود ولو خليتهم وشأنهم حتى تتبع ملتهم ولا النصارى ولو تركتم ودينهم حتى تتبع ملتهم فأوجز النظم ثقة بظهور المراد وفيه من المبالغة في إقناطه من اسلامهم ما لا غاية وراءه فإنهم حيث لم يرضوا عنه عليه السلام ولو خلاهم يفعلون ما يفعلون بل أملوا منه مالا يكاد يدخل تحت الإمكان من اتباعه عليه السلام لملتهم فكيف يتوهم اتباعهم لملته عليه السلام وهذه حالتهم في أنفسهم ومقالتهم فيما بينهم

وأما إنهم أظهروها للنبي وشافهوه بذلك وقالوا لن نرضى عنك وإن بالغت في طلب رضانا حتى تتبع ملتنا كما قيل فلا يساعده النظم الكريم بل فيه ما يدل على خلافه فإن قوله عز و جل

قل إن هدى اللّه هو الهدى صريح في أن ما وقع هذا جوابا عنه ليس عين تلك العبارة بل ما يستلزم مضمونها أو يلزمه من الدعوة الى اليهودية والنصرانية وادعاء أن الاهتداء فيهما كقوله عز و جل حكاية عنهم كونوا هودا أو نصارى تهتدوا أي قل ردا عليهم إن هدى اللّه الذي هو الاسلام هو الهدى بالحق والذي يحق ويصح ان يسمى هدى وهو الهدى كله ليس وراءه هدى وما تدعون اليه ليس بهدى بل هو هوى كما يعرب عنه قوله تعالى

ولئن اتبعت أهواءهم أي آراءهم الزائغة الصادرة عنهم بقضية شهوات أنفسهم وهي التي عبر عنها فيما قبل بملتهم إذ هي التي ينتمون اليها

وأما ما شرعه اللّه تعالى لهم من الشريعة على لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو المعني الحقيقي للملة فقد غيروها تغييرا

بعد الذي جاءك من العلم أي الوحي أو الدين المعلوم صحته

مالك من اللّه من جهته العزيزة

من ولي يلي أمرك عموما

ولا نصير يدفع عنك عقابه وحيث لم يستلزم نفي الولي نفي النصير وسط لا بين المعطوفين لتأكيد النفي وهذا باب التهييج والإلهاب والا فأني يتوهم إمكان اتباعه عليه السلام لملتهم وهو جواب للقسم الذي وطأه اللام واكتفى به عن جواب الشرط

١٢١

الذين آتيناهم الكتاب هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام وأضرابه

يتلونه حق تلاوته بمراعاة لفظه عن التحريف وبالتدبر في معانيه والعمل بما فيه وهو حال مقدرة والخبر ما بعده أو خبر وما بعده مقرر له

أولئك إشارة الى الموصوفين بإيتاء الكتاب وتلاوته كما هو حقه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل

يؤمنون به أي بكتابهم دون المحرفين فإنهم بمعزل من الإيمان به فإنه لا يجامع الكفر ببعض منه

ومن يكفر به بالتحريف والكفر بما يصدقه

فأولئك هم الخاسرون حيث اشتروا الكفر بالإيمان

١٢٢

يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ومن جملتها التوراة وذكر النعمة إنما يكون بشكرها وشكرها الإيمان بجميع ما فيها ومن جملته نعت النبي ومن ضرورة الإيمان بها الإيمان به عليه الصلاة و السلام

واني فضلتكم على العالمين أفردت هذه النعمة بالذكر مع كونها مندرجة تحت النعمة السالفة لإنافتها فيما بين فنون النعم

١٢٣

واتقوا إن لم تؤمنوا

يوما لا تجزي في ذلك اليوم

نفس من النفوس

عن نفس أخرى

شيئا من الأشياء أو شيئا من الجزاء

ولا يقبل منها عدل أي فدية

ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون وتخصيصهم بتكرير التذكير وإعادة التحذير للمبالغة في النصح وللإيذان بأن ذلك فذلكة القضية والمقصود من القصة لما أن نعم اللّه عز و جل عليهم أعظم وكفرهم بها أشد وأقبح

١٢٤

وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات شروع في تحقيق أن هدى اللّه هو ما عليه النبي من التوحيد والاسلام الذي هو ملة ابراهيم عليه السلام وأن ما عليه أهل الكتابين أهواء زائغة وأن ما يدعونه من أنهم على ملته عليه الصلاة و السلام فرية بلا مرية ببيان ما صدر عن إبراهيم وأبنائه الأنبياء عليهم السلام من الأقاويل والأفاعيل الناطقة بحقية التوحيد والإسلام وبطلان الشرك وبصحة نبوة النبي وبكونه ذلك النبي الذي استدعاه إبراهيم واسمعيل عليهما الصلاة والسلام بقولهما ربنا وابعث فيهم رسولا منهم الآية فإذ منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبي بطريق التلوين أي واذكر لهم وقت ابتلائه عليه السلام ليتذكروا بما وقع فيه من الأمور الداعية الى التوحيد الوازعة عن الشرك فيقبلوا الحق ويتركوا ماهم فيه من الباطل وتوجيه الأمر بالذكر الى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات قد مر وجهه في أثناء تفسير قوله عز و جل وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة

وقيل على الظرفية بمضمر مؤخر أي وإذ ابتلاه كان كيت وكيت

وقيل بما سيجيء من قوله تعالى قال الخ والأول هو اللائق بجزالة التنزيل ولا يبعد أن ينتصب بمضمر معطوف على اذكروا خوطب به بنو إسرائيل ليتأملوا فيما يحكى عمن ينتمون الى ملته من ابراهيم وأبنائه عليهم السلام من الأفعال والأقوال فيقتدوا بهم ويسيروا سيرتهم والابتلاء في الأصل الاختبار أي تطلب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه غالبا فعله أو تركه وذلك إنما يتصور حقيقة ممن لا وقوف له على عواقب الأمور

وأما من العليم الخبير فلا يكون الا مجازا من تمكينه للعبد من اختيار أحد الأمرين قبل أن يرتب عليه شيئا هو من مباديه العادية كمن يختبر عبده ليتعرف حاله من الكياسة فيأمره بما يليق بحاله من مصالحه وإبراهيم اسم أعجمي قال السهيلي كثيرا ما يقع الاتفاق أو التقارب بين

السرياني والعربي الا يرى أن إبراهيم تفسيره أب راحم ولذلك جعل هو وزوجته سارة كافلين لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغارا الى يوم القيامة على ما روى البخاري في حديث الرؤيا أن النبي رأى في الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس وهو مفعول مقدم لإضافة فاعله الى ضميره والتعرض لعنوان الربوبية تشريف له عليه السلام وإيذان بأن ذلك الابتلاء تربية له وترشيح لأمر خطير والمعنى عامله سبحانه معاملة المختبر حيث كلفه أوامر ونواهي يظهر بحسن قيامه بحقوقها قدرته على الخروج عن عهدة الإمامة العظمى وتحمل أعباء الرسالة وهذه المعاملة وتذكيرها للناس لإرشادهم الى طريق إتقان الأمور ببنائها على التجربة وللإيذان بأن بعثة النبي أيضا مبنية على تلك القاعدة الرصينة واقعة بعد ظهور استحقاقه عليه السلام للنبوة العاملة كيف لا وهي التي أجيب بها دعوة إبراهيم عليه السلام كما سيأتي واختلف في الكلمات فقال مجاهد هي المذكورة بعدها ورد بأنه يأباه الفاء في فأتمهن ثم الاستئناف وقال طاوس عن ابن عباس رضي اللّه عنهما هي عشر خصال كانت فرضا في شرعه وهن سنة في شرعنا خمس في الرأس المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس وقص الشارب والسواك وخمس في البدن الختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء وفي الخبر أن إبراهيم عليه السلام أول من قص الشارب وأول من اختتن وأول من قلم الأظفار وقال عكرمة عن ابن عباس لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم ابتلاه اللّه تعالى بثلاثين خصلة من خصال الإسلام عشر منها في سورة براءة التائبون الخ وعشر في الأحزاب إن المسلمين والمسلمات الخ وعشر في المؤمنون وسأل سائل الى قوله عز و جل والذين هم على صلاتهم يحافظون

وقيل ابتلاه اللّه سبحانه بسبعة أشياء بالشمس والقمر والنجوم والاختتان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة فوفى بالكل

وقيل هن محاجته قومه والصلاة والزكاة والصوم والضيافة والصبر عليها

وقيل هي مناسك كالطواف والسعي والرمي والإحرام والتعريف وغيرهن

وقيل هي قوله عليه السلام الذي خلقني فهو يهدين الآيات ثم قيل إنما وقع هذا الابتلاء قبل النبوة وهو الظاهر

وقيل بعدها لأنه يقتضي سابقة الوحي وأجيب بأن مطلق الوحي لا يستلزم البعثة إلى الخلق وقرئ برفع ابراهيم ونصب ربه أي دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه اليهن أولا

فأتمهن أي قام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوان كما في قوله تعالى وإبراهيم الذي وفى وعلى القراءة الأخيرة فأعطاه اللّه تعالى ما سأله من غير نقص ويعضده ما روى عن مقاتل أنه فسر الكلمات بما سأل ابراهيم ربه بقوله رب اجعل الآيات وقوله عز و جل

قال على تقدير انتصاب إذ بمضمر جملة مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الكلام فإن الابتلاء تمهيد لأمر معظم وظهور فضيلة المبتلي من دواعي الإحسان اليه فبعد حكايتها تترقب النفس الى ما وقع بعدهما كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك فقيل قال

اني جاعلك للناس إماما أو بيان لقوله تعالى ابتلى على رأي من جعل الكلمات عبارة عما ذكر أثره من الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده وغير ذلك وعلى تقدير انتصاب إذ بقال فالجملة معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة والواو في المعنى داخلة على قال أي وقال ابتلى الخ والجعل بمعنى التصيير أحد مفعوليه الضمير والثاني إماما واسم الفاعل بمعنى المضارع وأوكد منه لدلالته على انه جاعل له البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه وللناس متعلق بحاعلك أي لأجل الناس أو بمحذوف وقع حالا من إماما إذ لو تأخر عنه لكان صفة له والإمام اسم لمن يؤتم به وكل نبي إمام لأمته وإمامته عليه السلام عامة مؤبدة إذ لم يبعث بعده نبى إلا كان من ذريته مأمورا باتباع ملته

قال استئناف مبنى على سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قال إبراهيم عليه السلام عنده فقيل قال ومن ذريتى عطف على الكاف ومن تبعيضية متعلقة بجاعل أي وجاعل بعض ذريتى كما تقول وزيدا لمن يقول سأكرمك أو بمحذوف أي واجعل فريقا من ذريتى إماما وتخصيص البعض بذلك لبداهة استحالة إمامه الكل وإن كانوا على الحق

وقيل التقدير وماذا يكون من ذرتيى والذرية نسل الرجل فعولة من ذروت أو ذريت والأصل ذرووة أو ذروية فاجتمع في الأولى واوان زائدة وأصلية فقلبت الأصلية ياء فصارت كالثانية فاجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فصارت ذرية أو فعلية منهما والأصل في الولى ذريوة فقلبت الواو ياء لما سبق من اجتماعهما وسبق إحداهما بالسكون فصارت ذريية كالثانية فأدغمت الياء في مثلها فصارت ذرية أو فعيله من الذرء يمعنى الخلق والأصل ذريئة فخففت الهمزة بإبدالها ياء كهمزة خطيئة ثم أدغمت الياء الزائدة في المبدلة أو فعيلة من الذر بمعنى التفريق والأصل ذريرة قلبت الراء الأخيرة ياء لتوالى الأمثال كما في تسرى وتفضى وتظنى فأدغمت الياء في الياء كما مر أو فعولة منه والأصل ذرورة فقلبت الراء الأخيرة ياء فجاء الإدغام وقرئ بكسر الذال وهي لغة فيها وقرأ أبو جعفر المدني بالفتح وهي أيضا لغة فيها استئناف مبنى على سؤال ينساق إليه الذهن كما سبق

لاينال عهدى الظالمين ليس هذا ردا لدعوته عليه السلام بل إجابة خفية لها وعدة إجمالية منه تعالى بتشريف بعض ذريته عليه السلام بنيل عهد الإمامة حسبما وقع في استدعائه عليه السلام من غير تعيين لهم بوصف مميز لهم عن جميع من عداهم فإن التنصيص على حرمان الظالمين منه بمعزل من ذلك التمييز إذ ليس معناه أنه ينال كل من ليس بظالم منهم ضرورة استحالة ذلك كما أشير إليه ولعل إيثار هذه الطريقة على تعيين الجامعين لمبادئ الإمامة من ذريته إجمالا أو تفصيلا وإرسال الباقين لئلا ينتظم المقتدون بالأئمة من الأمة في سلك المحرومين وفي تفصيل كل فرقة من الإطناب مالا يخفى مع ما في هذه الطريقة من تخييب الكفرة الذين كانوا يتمنون النبوة وقطع أطماعهم الفارغة من نيلها وإنما أوثر النيل على الجعل إيماء إلى أن إمامة الأنبياء عليهم السلام من ذريته عليه السلام كإسماعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان وأيوب ويونس وزكريا ويحيى وعيسى وسيدنا محمد تسليما كثيرا ليست بجعل مستقل بل هي حاصلة في ضمن إمامة إبراهيم عليه السلام تنال كلا منهم في وقت قدر اللّه عز و جل وقرئ الظالمون على أن عهدى مفعول قدم على الفاعل اهتماما ورعاية للفواصل وفيه دليل على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر على الإطلاق وعدم صلاحية الظالم للإمامة وقوله تعالى

١٢٥

وإذ جعلنا البيت أي الكعبة المعظمة غلب عليها غلبة النجم على الثريا معطوف

على إذ ابتلى على أن العامل فيه هو العامل فيه أو مضمر مستقل معطوف على المضمر الأول والجعل إما بمعنى التصيير فقوله عز و جل

مثابة أي مرجعا يثوب إليه الزوار بعد ما تفرقوا عنه أو أمثالهم أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره مفعولة الثاني وأما بمعنى الإبداع فهو حال من مفعول واللام في قوله تعالى

للناس متعلقة بمحذوف وقع صفة لمثابة أي كائنة للناس أو بجعلنا أي جعلناه لأجل الناس وقرئ مثابات باعتبار تعدد الثائبين

وأمنا أي آمنا كما في قوله تعالى حرما آمنا على إيقاع المصدر موقع اسم الفاعل للمبالغة أو على تقدير المضاف أي ذا أمن أو على الإسناد المجازي أي آمنا من حجه من عذاب الآخرة من حيث إن الحج يجب ما قبله أو من دخله من التعرض له بالعقوبة وإن كان جانيا حتى يخرج على ما هو رأى أبي حنفية ويجوز أن يعتبر الأمن بالقياس إلى كل شئ كائنا ما كان ويدخل فيه أمن الناس دخولا أوليا وقد اعتيد فيه أمن الصيد حتى إن الكلب كان يهم بالصيد خارج الحرم فيفر منه وهو يتبعه فإذا دخل الصيد الحرم لم يتبعه الكلب

واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى على إرادة قول هو عطف على جعلنا أو حال من فاعله أي وقلنا أو قائلين لهم اتخذوا الخ

وقيل هو بنفسه معطوف على الأمر الذي يتضمنه قوله عز و جل مثابة للناس كأنه قيل ثوبوا إليه واتخذوا الخ

وقيل على المضمر العامل في إذ

وقيل هي جملة مستأنفة والخطاب على الوجوه الأخيرة له عليه السلام ولأمته والأول هو الأليق بجزالة النظم الكريم والأمر صريحا كان أو مفهوما من الحكاية للاستحباب ومن تبعيضه والمقام اسم مكان وهو الحجر الذي عليه أثر قدمه عليه السلام والموضع الذي كان عليه حين قام ودعا الناس إلى الحج أوحين رفع قواعد البيت وهو موضعه اليوم والمراد بالمصلى إما موضع الصلاة أو موضع الدعاء روى أنه أخذ بيد عمر رضي اللّه عنه فقال هذا مقام إبراهيم فقال رضي اللّه عنه أفلا نتخذه مصلى فقال لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت وقيل المراد به الأمر بركعتى الطواف لما روى جابر رضي اللّه عنه أنه عليه السلام لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفة ركعتين وقرأ واتخذوا على صيغة الماضي عطفا على جعلنا أي واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبله يصلون إليها

وعهدنا إلى إبراهيم وإسمعيل أي أمرناهما أمرا مؤكدا

أن طهرا بيتى بأن طهراه على أن أن المصدرية حذف عنها الجار حذفا مطردا لجواز كون صلتها أمرا ونهيا كما في قوله عز و جل وأن أقم وجهك للدين حنيفا لأن مدار جواز كونها فعلا إنما هو دلالته على المصدر وهي متحققة فيهما ووجوب كونها خبرية في صلة الموصول الاسمى إنما هو لتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهي لا يوصف بها إلا إذا كانت خبرية

وأما الموصول الحرفي فليس كذلك ولما كان الخبر والإنشاء في الدلالة على المصدر سواء ساغ وقوع الأمر والنهى صلة حسب وقوع الفعل فيتجرد عند ذلك معنى الأمر والنهى نحو تجرد الصلة الفعلية عن معنى المضى والاستقبال أو أي طهراه على أن أن مفسرة لتضمين العهد معنى القول وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة للتشريف وتوجيه الأمر بالتطهير ههنا اليهما عليهما السلام لا ينافي سورة الحج من تخصيصه بإبراهيم عليه السلام فإن ذلك واقع قبل بناء البيت كما يفصح عنه قوله تعالى وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت وكان إسماعيل عليه السلام حينئذ بمعزل من مثابة الخطاب وظاهر أن هذا بعد بلوغه مبلغ الأمر والنهى وتمام الباء بمباشرته كما ينبئ عنه إيراده أثر حكاية جعله مثابة للناس الخ والمراد تطهيره من الأوثان والأنجاس وطواف الجنب والحائض وغير ذلك مما لا يليق به

للطائفين حوله

والعاكفين المجاورين المقيمين عنده أو المعتكفين أو القائمين في الصلاة كما في  قوله عز وعلا للطائفين والقائمين

والركع السجود جمع راكع وساجد أي للطائفين والمصلين لأن القيام والركوع والسجود من هيئات المصلى ولتقارب الأخيرين ذاتا وزمانا ترك العاطف بين موصوفيهما أو أخلصاه لهؤلاء لئلا يغشاه غيرهم وفيه إيماء إلى أن ملابسة غيرهم به وإن كانت مع مقارنة أمر مباح من قبيل تلويثه وتدنيسه

١٢٦

وإذ قال إبراهيم عطف على ما قبله من قوله وإذ جعلنا الخ إما بالذات أو بعامله المضمر كما مر

رب اجعل هذا بلدا آمنا ذا أمن كعيشة راضية أو آمنا أهله كليله نائم أي اجعل هذا الوادي من البلاد الامنة وكان ذلك أول ما قدم عليه السلام مكة كما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه عليه الصلاة و السلام لما أسكن إسماعيل وهاجر هناك وعاد متوجها إلى الشام تبعته هاجر تقول إلى من تكلنا في هذا البلقع وهو لا يرد عليهما جوابا حتى قالت آللّه أمرك بهذا فقال نعم قالت إذن لا يضيعنا فرضيت ومضى حتى إذا استوى على ثنية كداء أقبل على الوادى فقال ربنا إني أسكنت الآية وتعريف البلد مع جعله صفة لهذا في سورة إبراهيم إن حمل على تعدد السؤال لما أنه عليه السلام سأل اولا كلا الأمرين البلدية والأمن فاستجيب له في أحدهما وتأخر الآخر إلى وقته المقدر له لما تقتضيه الحكمة الباهرة ثم كرر السؤال حسبما هو المعتاد في الدعاء والابتهال أو كان المسئول أولا البلدية ومجرد الأمن المصحح للسكنى كما في سائر البلاد وقد أجيب إلى ذلك وثانيا الأمن المعهود أو كان هو المسئول أولا أيضا وقد أجيب إليه لكن السؤال الثاني لاستدامته والاقتصار على سؤاله مع جعل البلد صفة لهذا لأنه المقصد الأصلي أو لأن المعتاد في البلدية الاستمرار بعد التحقق بخلاف الأمن وإن حمل على وحدة السؤال وتكرر الحكاية كما هو المتبادر فالظاهر أن المسئول كلا الأمرين وقد حكى ذلك ههنا واقتصر هناك على حكاية سؤال الأمن اكتفاء عن حكاية سؤال البلدية بحكاية سؤال جعل أفئدة الناس تهوى إليه كما سيأتي تفصيله هناك بإذن اللّه عز و جل

وارزق أهله من الثمرات من أنواعها بأن تجعل بقرب منه قرى يحصل فيها ذلك أو يجبى إليه من الأقطار الشاسعة وقد حصل كلاهما حتى إنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد روى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن الطائف كانت من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيم عليه الصلاة و السلام بهذه الدعوة رفعها اللّه تعالى فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم وعن الزهري أنه تعالى نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم عليه الصلاة و السلام

من آمن منهم باللّه واليوم الآخر بدل من أهله بدل البعض خصهم بالدعاء إظهارا لشرف الإيمان وإبانة لخطره واهتماما بشان أهله ومراعاة لحسن الأدب وفيه ترغيب لقومه في الإيمان وزجر عن الكفر كما أن في حكايته ترغيبا وترهيبا لقريش وغيرهم من أهل الكتاب

قال استئناف مبنى على السؤال كما مر مرارا وقوله تعالى

ومن كفر عطف على مفعول فعل محذوف تقديره أرزق من آمن ومن كفر وقوله تعالى

فأمتعه معطوف على ذلك الفعل أو في محل رفع بالابتداء قوله تعالى فأمتعه خبره أي فأنا أمتعه وإنما دخلته الفاء تشبيها له بالشرط والكفر وإن لم يكن سببا للتمتيع المطلق لكنه يصلح سببا لتقليله وكونه موصولا بعذاب النار

وقيل هو عطف على من آمن عطف تلقين كأنه قيل قل وارزق من كفر فإنه أيضا مجاب كأنه عليه السلام قاس الرزق على الإمامة فنبهه تعالى على أنه رحمة دنيوية شاملة للبر والفاجر بخلاف الإمامة الحاصلة بالخواص وقرئ فأمتعه من أمتع وقرئ فنمتعه

قليلا تمتيعا قليلا أوزمانا قليلا

ثم أضطره إلى عذاب النار أي ألزه إليه لز المضطر لكفره وتضييعه ما متعه به من النعم وقرئ ثم نضطره على وفق قراءة فنمتعه وقرئ فأمتعه قليلا ثم اضطره بلفظ الأمر فيهما على أنهما من دعاء إبراهيم عليه السلام وفي قال ضميره وإنما فصله عما قبله لكونه دعاء على الكفرة وتغيير سبكه للإيذان بأن الكفر سبب لاضطرارهم إلى عذاب النار

وأما رزق من آمن فإنما هو على طريقة التفضيل والإحسان وقرئ بكسر الهمزة على لغة من يكسر حرف المضارعة وأطره بإدغام الضاد في الطاء وهي لغة مرذولة فإن حروف ضم شفر يدغم فيها ما يجاورها بلا عكس

وبئس المصير المخصوص بالذم محذوف أي بئس المصير النار أو عذابها

١٢٧

وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت عطف على ما قبله من قوله عز و جلا وإذ قال إبراهيم على أحد الطريقين المذكورين في وإذ جعلنا وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها العجيبة المنبئة عن المعجزة الباهرة والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس صفة غالبة من القعود بمعنى الثبات ولعله مجاز من مقابل القيام ومنه قعدك اللّه ورفعها البناء عليها لأنه ينقلها من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع والمرتفع حقيقة وإن كان هو الذي بنى عليها لكنهما لما التأما صارا شيئا واحدا فكأنها نمت وارتفعت

وقيل المراد بها سافات البناء فإن كل ساف قاعدة لما يبنى عليها وبرفعها بناء بعضها على بعض

وقيل المراد برفعها رفع مكانة البيت وإظهار شرفه ودعاء الناس إلى حجه وفي إبهامها أولا ثم تبيينها من تفخيم شأنها مالا يخفى

وقيل المعنى وإذ يرفع إبراهيم ما قعد من البيت واستوطأ يعنى يجعل هيئة القاعدة المستوطأة مرتفعة عالية بالبناء روى أن اللّه عز و جل أنزل البيت ياقوته من يواقيت الجنة له بابان من زمرد شرقي وغربي وقال لآدم أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشى فتوجه آدم من أرض الهند إليه ماشيا وتلقته الملائكة فقالوا بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفى عام وحج آدم عليه السلام أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أن رفعه اللّه ايام الطوفان إلى السماء الرابعة فهو البيت المعمور

وكان موضعه خاليا إلى زمن إبراهيم عليه السلام فأمره سبحانه ببنائه وعرفه جبريل عليه السلام بمكانه

وقيل بعث اللّه السكينة لتدله عليه فتبعها إبراهيم عليه السلام حتى أتيا مكة المعظمة

وقيل بعث اللّه تعالى سحابة على قدر البيت وسار إبراهيم في ظلها إلى أن وافت مكة المعظمة فوقفت في موضع البيت فنودى أن ابن على ظلها ولا تزد ولا تنقص

وقيل بناه من خمسة أجبل طور سيناء وطور زيتا ولبنان والجودى واسسه من حراء وجاء جبريل عليه السلام بالحجر السود من السماء

وقيل تمخض أبو قبيس فانشق عنه وقد خبئ فيه في ايام الطوفان وكان ياقوته بيضاء من يواقيت الجنة فلما لمسته الحيض في الجاهلية اسود وقال الفاسي في مثير الغرام في تاريخ البلد الحرام والذي يتحصل من جملة ما قيل في عدد بناء الكعبة أنها بنيت عشر مرات منها بناء الملائكة عليهم السلام وذكره النووي في تهذيب الأسماء واللغات والأزرقي في تاريخه وذكر أنه كان قبل خلق آدم عليه السلام ومنها بناء آدم عليه السلام ذكره البيهقي في دلائل النبوة وروى فيه عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن رسول اله قال بعث اللّه عز و جل حبريل إلى آدم عليهما السلام فقال له ولحواء ابنيا لي بيتا فخط جبريل وجعل آدم يحفر وحواء تنقل التراب حتى إذا أصاب الماء نودى من تحته حسبك آدم فلما بنياه أوحى إليه أن يطوف به فقيل له أنت أول الناس وهذا أول بيت وهكذا ذكره الأزرقي في تاريخه وعبد الرزاق في مصنفه ومنها بناء بنى آدم عند ما رفعت الخيمة التي عزى اللّه تعالى بها آدم عليه السلام وكانت ضربت في موضع البيت فبنى بنوه مكانها بيتا من الطين والحجارة فلم يزل معمورا يعمرونه هم ومن بعدهم إلى أن مسه الغرق في عهد نوح عليه السلام ذكره الأزرقي بسنده إلى وهب بن منبه ومنها بناء الخليل عليه السلام وهو منصوص عليه في القرآن مشهور في ما بين قاص ودان ومنها يناء العمالقة ومنها بناء جرهم ذكرهما الأزراقي بسنده إلى علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه ومنها بناء قصى بن كلاب ذكره الزبير بن بكار في كتاب النسب ومنها بناء قريش وهو مشهور ومنها بناء عبد اللّه بن الزبير رضي اللّه عنهما ومنها بناء الحجاج بن يوسف وما كان ذلك بناء لكلها بل لجدار من جدرانها وقال الحافظ السهيلى ان بناءها لم يكن في الدهر إلا خمس مرات الأولى حين بناها شيث عليه السلام انتهى واللّه سبحانه أعلم

وإسمعيل عطف على إبراهيم ولعل تأخيره عن المفعول للإيذان بان الأصل في الرفع هو إبراهيم وإسمعيل تبع له قيل إنه كان يناوله الحجارة وهو يبنيها

وقيل كانا يبنيانه من طرفين

ربنا تقبل منا على إرادة القول أي يقولان وقد قرئ به علىأنه حال منهما عليهما السلام

وقيل على أنه هو العامل في إذ والجملة معطوفة على ما قبلها والتقدير يقولان ربنا تقبل منا إذ يرفعان أي وقت رفعهما

وقيل وإسمعيل مبتدأ خبره قول محذوف وهو العامل في ربنا تقبل منا فيكون إبراهيم هو الرافع وإسمعيل هو الداعي والجملة في محل النصب على الحالية أي وإذ يرفع إبراهيم القواعد والحال أن إسمعيل يقول ربنا تقبل منا والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاح المربوب مع الإضافة إلى ضميرها عليهما السلام لتحريك سلسلة الإجابة وترك مفعول تقبل مع ذكره في قوله تعالى ربنا وتقبل دعاء وغيره من القرب والطاعات التي من جملتها ما هما بصدده من البناء كما يعرب عنه جعل الجملة الدعائية حالية

إنك أنت السميع لجميع المسموعات التي من جملتها دعاؤنا

العلم بكل

المعلومات التي من زمرتها نياتنا في جميع أعمالنا والجملة تعليل لاستدعاء التقبل لا من حيث إن كونه تعالى سمعيا لدعائهما عليما بنياتهما مصحح للتقبل في الجملة بل من حيث إن علمه تعالى بصحة نياتهما وإخلاصهما في أعمالهما مستدع له بموجب الوعد تفضلا وتأكيد الجملة لغرض كمال قوة يقينهما بمضمونها وقصر نعتى السمع والعلم عليه تعالى لإظهار اختصاص دعائهما به تعالى وانقطاع رجائهما عما سواه بالكلية واعلم أن الظاهر أن أول ما جرى من الأمور المحكية هو الابتلاء وما يتبعه ثم دعاء البلدية والأمن وما يتعلق به ثم رفع قواعد البيت وما يتلوه ثم جعله مثابة للناس والأمر بتطهيره ولعل تغيير الترتيب الوقوعى في الحكاية لنظم الشئون الصادرة عن جنابة تعالى في سلك مستقل ونظم الأمور الواقعة من جهة إبراهيم وإسمعيل عليهما السلام من الأفعال والأقوال في سلك آخر

وأما قوله تعالى ومن كفر الخ فإنما وقع في تضاعيف الأحوال المتعلقة بإبراهيم لاقتضاء المقام واستيجاب ما سبق من الكلام ذلك بحيث لم يكن بد منه اصلاكما أن وقوع قوله عليه السلام ومن ذريتي في خلال كلامه سبحانه لذلك

١٢٨

ربنا واجعلنا مسلمين لك مخلصين لك أو مستسلمين من أسلم إذا استسلم وانقاد وأياما كان فالمطلوب الزيادة والثبات على ما كان عليه من الإخلاص والإذعان وقرئ مسلمين على صيغة الجمع بإدخال هاجر معهما في الدعاء أو لأن التثنية من مراتب الجمع

ومن ذريتنا أمة مسلمة لك أب وأجعل بعض ذريتنا وإنما خصاهم بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة ولأنهم إذا صلحوا صلح الأتباع وإنما خصا بة بعضهم لما علما أن منهم ظلمة وأن الحكمة الإلهية لا تقتضى اتفاق لكل على الإخلاص والإقبال الكلى على اللّه عز و جل فإن ذلك مما يخل بأمر المعاش ولذلك قيل لولا الحمقى لخربت الدنيا

وقيل أراد بالأمة المسلمة أمة محمد وقد جوز أن يكون من مبينة قدمت على المبين وفصل بها بين العاطف والمعطوف كما في قوله تعالى ومن الأرض مثلهن والأصل وأمة مسلمة لك من ذريتنا

وأرنا من الرؤية بمعنى الإبصار أو بمعنى التعريف أي بصرنا أو عرفنا

مناسكنا أي متعبداتنا في الحج أو مذابحنا والنسك في الأصل غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة وقرئ أرنا قياسا على فخذ في فخذ وفيه إحجاف لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليهما وقرئ بالاختلاس

وتب علينا استتابه لذريتهما وحكايتها عنهما لترغيب الكفرة في التوبة والإيمان أو توبة لهما عما فرط منهما سهوا ولعلمهما قالاه هضما لأنفسهما وإرشادا لذريتهما

إنك أنت التواب الرحيم وهو تعليل للدعاء ومزيد استدعاء للإجابة قيل إذا أراد العبد أن يستجاب له فليدع اللّه عز و جل بما يناسبه من اسمائه وصفاته

١٢٩

ربنا وابعث فيهم أي في الأمة المسلمة

رسولا منهم أي من أنفسهم فإن البعث فيهم لا يستلزم البعث منهم ولم يبعث من ذريتهما غير النبي فهو الذي أجيب به دعوتهما عليهما السلام روى أنه قيل له قد استجيب لك وهو في آخر الزمان قال عليه السلام أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي وتخصيص إبراهيم عليه السلام بالاستجابة له لما أنه الأصل في الدعاء وإسمعيل تبع له عليه السلام

يتلو عليهم آياتك يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى اليه من البينات

ويعلمهم بحسب قوتهم النظرية

الكتاب أي القرآن

والحكمة وما يكمل به نفوسهم من أحكام الشريعة والمعارف الحقة

ويزكيهم بحسب قوتهم العملية أي يطهرها عن دنس الشرك وفنون المعاصي

إنك أنت العزيز الذي لا يقهر ولا يغلب على ما يريد

الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة والجملة تعليل للدعاء وإجابة المسئول فإن وصف الحكمة مقتض لإفاضة ما تقتضيه الحكمة من الأمور التي من جملتها بعث الرسول ووصف العزة مستدع لامتناع وجود المانع بالمرة

١٣٠

ومن يرغب عن ملة إبراهيم إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عن ملته التي هي الحق الصريح والدين الصحيح أي لا يرغب عن ملته الواضحة الغراء

إلا من سفه نفسه أي أذلها واستمهنها واستخف بها

وقيل خسر نفسه

وقيل أوبق أو أهلك أو جهل نفسه قال المبرد وثعلب سفه بالكسر متعد وبالضم لازم ويشهد له ما ورد في الخبر الكبر أن تسفه الحق وتغمض الناس

وقيل معناه ضل من قبل نفسه

وقيل أصله سفه نفسه بالرفع فنصب على التمييز نحو غبن رأيه وألم رأسه ونحو قوله

 ... ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام ...

وقوله ... وما قومي بثعلبة بن سعد ... ولا بفزارة الشعر الرقابا ...

ذلك لأنه إذا رغب عما لا يرغب عنه أحد من العقلاء فقد بالغ في إذلال نفسه وإذالتها وإهانتها حيث خالف بها كل نفس عاقلة روى أن عبداللّه بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا الى الإسلام فقال لهما قد علمنا أن اللّه تعالى قال في التوراة إني باعث من ولد اسمعيل نبيا اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون فأسلم سلمة وأبي مهاجر فنزلت

ولقد اصطفيناه في الدنيا أي اخترناه بالنبوة والحكمة من بين سائر الخلق وأصله اتخاذ صفوة الشيء كما أن أصل الاختيار اتخاذ خيره واللام لجواب قسم محذوف والواو اعتراضية والجملة مقررة لمضمون ما قبلها أي وباللّه لقد اصطفيناه وقوله تعالى

وإنه في الآخرة لمن الصالحين أي من المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح معطوف عليها داخل في حيز القسم مؤكد لمضمونها مقرر لما تقرره ولا حاجة الى جعله اعتراضا آخر أو حالا مقدرة فإن من كان صفوة للعباد في الدنيا مشهودا له بالصلاح في الآخرة كان حقيقا بالاتباع لا يرغب عن ملته الا سفيه أو متسفه أذل نفسه بالجهل والإعراض عن النظر والتأمل وإيثار الاسمية لما أن انتظامه في زمرة صالحي أهل الآخرة أمر مستمر في الدارين لا أنه يحدث في الآخرة والتأكيد بأن واللام لما أن الأمور الأخروية خفية عند المخاطبين فحاجتها الى التأكيد أشد من الأمور التي تشاهد آثارها وكلمة في متعلقة بالصالحين على أن اللام للتعريف وليست بموصولة حتى يلزم تقديم بعض الصلة عليها على أنه قد يغتفر في الظرف مالا يغتفر في غيره كما في قوله

 ... ربيته حتى إذا تمعددا ... كان جزائي بالعصا أن أجلدا ...

أو بمحذوف من لفظه أي وأنه لصالح في الآخرة لمن الصالحين أو من غير لفظه أي اعني في الآخرة نحو لك بعد رعيا

وقيل هي متعلقة باصطفيناه على ان في النظم الكريم تقديما وتأخيرا تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين

١٣١

إذ قال له ظرف لاصطفيناه لما أن المتوسط ليس بأجنبي بل هو مقرر له لأن اصطفاءه في الدنيا إنما هو للنبوة وما يتعلق بصلاح الآخرة أو تعليل له أو منصوب باذكر كأنه قيل اذكر ذلك الوقت لتقف على أنه المصطفى الصالح المستحق للإمامة والتقدم وأنه ما نال الا بالمبادرة الى الإذعان والانقياد لما أمر به واخلاص سره على احسن ما يكون حين قال له

ربه أسلم أي لربك

قال اسلمت لرب العالمين وليس الأمر على حقيقته بل هو تمثيل والمعنى اخطر بباله دلائل التوحيد المؤدية الى المعرفة الداعية الى الاسلام من الكوكب والقمر والشمس

وقيل اسلم أي اذعن واطع

وقيل اثبت على ما انت عليه من الاسلام والاخلاص أو استقم وفوض امورك الى اللّه تعالى فالامر على حقيقته والالتفات مع التعرض لعنوان الربوبية والاضافة اليه عليه السلام لإظهار مزيد اللطف به والاعتناء بتربيته واضافة الرب في جوابه عليه الصلاة و السلام الى العالمين للإيذان بكمال قوة اسلامه حيث ايقن حين النظر بشمول ربوبيته للعالمين قاطبة لا لنفسه وحده كما هو المأمور به

١٣٢

ووصى بها ابراهيم بنيه شروع في بيان تكميله عليه السلام لغيره اثر بيان كماله في نفسه وفيه توكيد لوجوب الرغبة في ملته عليه السلام والتوصية التقدم الى الغير بما فيه خير وصلاح للمسلمين من فعل أو قول واصلها الوصلة يقال وصاه اذا وصله وفصاه اذا فصله كأن الموصي يصل فعله بفعل الوصي والضمير في بها للملة أو قوله اسلمت لرب العالمين بتأويل الكلمة كما عبر بها عن قوله تعالى انني براء مما تعبدون * الا الذي فطرني في قوله عز و جل وجعلها كلمة باقية في عقبه وقرئ اوصي والأول ابلغ

ويعقوب عطف على ابراهيم أي وصى بها هو ايضا وقرئ بالنصب عطفا على بنيه

يا بني على اضمار القول عند البصريين ومتعلق بوصي عند الكوفيين لأنه في معنى القول كما في قوله

 ... رجلان من ضبة اخبرانا ... انا رأينا رجلا عريانا ...

فهو عند الأولين بتقدير القول وعند الآخرين متعلق بالإخبار الذي هو في معنى القول وقرئ ان يا بني وبنو ابراهيم عليه السلام كانوا اربعة اسماعيل واسحاق ومدين ومدان

وقيل ثمانية

وقيل اربعة وعشرين وكان بنو يعقوب اثني عشر روبين وشمعون ولاوي ويهوذا ويشسوخور وزبولون وزوانا وتفتونا

وكوزا وأوشير وبنيامين ويوسف عليه السلام

إن اللّه اصطفى لكم الدين دين الإسلام الذي هو صفوة الأديان ولا دين غيره عنده تعالى

فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ظاهره النهى عن الموت على خلاف حال الإسلام والمقصود الأمر بالثبات على الإسلام إلى حين الموت أي فاثبتوا عليه ولا تفارقوه ابدا كقولك لا تصل إلا وأنت خاشع وتغيير العبارة للدلالة على ان موتهم لا على الإسلام موت لاخير فيه وأن حقه أن لا يحل بهم وأنه يجب أن يحذروه غاية الحذر ونظيره مت وأنت شهيد روى أن اليهود قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ألست تعلم ان يعقوب أوصى باليهودية يوم مات فنزلت

١٣٣

أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت أم منقطعة مقدرة ببل والهمزة والخطاب لأهل الكتاب الراغبين عن ملة إبراهيم وشهداء جمع شهيد أو شاهد بمعنى الحاضر وإذ ظرف لشهداء والمراد بحضور الموت حضور أسبابه وتقديم يعقوب عليه السلام للاهتمام به إذ المراد كيفية وصيته لبنيه بعد ما بين ذلك إجمالا ومعنى بل الإضراب والانتقال عن توبيخهم على رغبتهم عن ملة إبراهيم عليه السلام إلى توبيخهم على افترائهم على يعقوب عليه السلام باليهودية حسبما حكى عنهم

وأما تعميم الافتراء ههنا لسائر الأنبياء عليهم السلام كما قيل فيأباه تخصيص يعقوب بالذكر وما سيأتي من قوله عز و جل أم تقولون إن إبراهيم الخ ومعنى الهمزة إنكار وقوع الشهود عند اختصاره عليه السلام وتبكيهم وقوله تعالى

إذ قال بدل من إذ حضر أي ما كنتم حاضرين عند احتضاره عليه السلام وقوله

لبنيه ما تعبدون من بعدي أبي أي شئ تعبدونه بعد موتى فمن أين لكم أن تدعوا عليه السلام ما تدعون رجما بالغيب وعند هذا تم التوبيخ والإنكار والتبكيت ثم بين أن الأمر قد جرى حينئذ على خلاف ما زعموا وأنه عليه السلام أراد بسؤاله ذلك تقرير بنيه على التوحيد والإسلام وأخذ ميثاقهم على الثبات عليهما إذ به يتم وصيته بقوله فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون وما يسأل به عن كل شئ ما لم يعرف فإذا عرف خص العقلاء بمن إذا سئل عن شئ بعينه وإن سئل عن وصفه قيل ما زيد أفقيه أم طبيب فقوله تعالى

قالوا استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ عن حكاية سؤال يعقوب عليه السلام كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قالوا

نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسمعيل وإسحق حسبما كان مراد أبيهم بالسؤال أي نعبد الإله المتفق على وجوده وإلهيته ووجوب عبادته وعد إسمعيل من آبائه تغليبا للأب والجد لقوله عليه الصلاة و السلام عم الرجل صنو أبيه وقوله عليه السلام في العباس هذا بقية آبائي وقرىء وقرئ أبيك على أنه جمع بالواو والنون كما في قوله

 ... فلما تبين أصواتنا ... بكين وفديننا بالأبينا ...

وقد سقطت النون بالإضافة أو مفرد وإبراهيم عطف بيان له وإسمعيل وإسحق معطوفان على أبيك

إ لها واحدا بدل من إله آبائك كقوله تعالى بالناصية ناصية كاذبة وفائدته التصريح بالتوحيد ودفع التوهم الناشئ من تكرير المضاف لتعذر العطف على المجرور أو نصب

على الاختصاص

ونحن له مسلمون حال من فاعل نعبد أو من مفعوله أومنهما معا ويحتمل أن يكون اعتراضا محققا لمضمون ما سبق

١٣٤

تلك أمة مبتدأ وخبر والإشارة إلى إبراهيم ويعقوب وبنيهما الموحدين والأمة هي الجماعة التي تؤمها فرق الناس أي يقصدونها ويقتدون بها

قد خلت صفة للخبر أي مضت بالموت وانفردت عمن عداها وأصله صارت إلى الخلاء وهي الأرض التي لا أنيس بها

لها ما كسبت جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب أو صفة أخرى لأمة أوحال من الضمير في خلت وما موصولة أو موصوفة والعائد إليها محذوف أي لها ما كسبته من الأعمال لصالحة المحكية لاتتخطاها إلى غيرها فإن تقديم المسند يوجب قصر المسند إليه كما هو المشهور

ولكم ما كسبتم عطف على نظيرتها على الوجه الأول وجملة مبتدأة على الوجهين الأخيرين إذ لا رابط فيها ولا بد منه في الصفة ولا مقارنة في الزمان ولابد منها في الحال أي لكم ما كسبتموه لا ما كسبه غيركم فإن تقديم المسند قد يقصد به قصره على المسند إليه كما قيل في قوله تعالى لكم دينكم ولي دين أي ولى دينى لادينكم وحمل الجملة الأولى على هذا القصر على معنى أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا كما قيل مما لا يساعده المقام إذ لا يتوهم متوهم انتفاعهم بكسب هؤلاء حتى يحتاج إلى بيان امتناعه وإنما الذي يتوهم انتفاع هؤلاء بكسبهم فبين امتناعه بأن أعمالهم الصالحة مخصوصة بهم لاتتخطاهم إلى غيرهم وليس لهؤلاء إلا ما كسبوا فلا ينفعهم انتسابهم إليهم وإنما ينفعهم اتباعهم لهم في الأعمال كما قال عليه السلام يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم

ولا تسألون عما كانوا يعملون ان اجري السؤال على ظاهره فالجملة مقررة لمضمون ما مر من الجملتين تقريرا ظاهرا وان اريد به مسببه اعني الجزاء فهو تتميم لما سبق جار مجرى النتيجة له وايا ما كان فالمراد تخييب المخاطبين وقطع اطماعهم الفارغة عن الانتفاع بحسنات الأمة الخالية وانما اطلق العمل لإثبات الحكم بالطريق البرهاني في ضمن قاعدة كلية هذا وقد جعل السؤال عبارة عن المؤاخذة والموصول عن السيئات فقيل أي لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم ولا ريب في أنه مما لا يليق بشأن التنزيل كيف لاوهم منزهون من كسب السيئات فمن أين يتصور تحميلها على غيرهم حتى يتصدى لبيان انتفاعه

١٣٥

وقالوا شروع في بيان فن آخر من فنون كفرهم وهو اضلالهم لغيرهم اثر بيان ضلالهم في أنفسهم والضمير لأهل الكتابين على طريقة الالتفات المؤذن باستيجاب حالهم لإبعادهم من مقام المخاطبة والإعراض عنهم وتعديد جناياتهم عند غيرهم قالوا للمؤمنين

كونوا هودا أو نصارى ليس هذا القول مقولا لكلهم أولاى طائفة كانت من الطائفتين بل هو موزع عليهما على وجه خاص يقتضيه حالهما اقتضاء مغنيا عن التصريح به أي قالت اليهود كونوا هودا والنصارى كونوا نصارى ففعل بالنظم الكريم ما فعل بقوله تعالى وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى اعتمادا على ظهور المرام

تهتدوا جواب للأمر أي إن تكونوا كذلك

قل خطاب للنبي أي قل لهم على سبيل الرد عليهم وبيان ما هو الحق لديهم وارشادهم اليه

بل ملة ابراهيم أي لا نكون كما تقولون بل نكون اهل ملته عليه السلام

وقيل بل نتبع ملته عليه السلام وقد جوز ان يكون المعنى بل اتبعوا انتم ملته عليه السلام أو كونوا اهل ملته وقرئ بالرفع أي بل ملتنا أو امرنا ملته أو نحن ملته أي اهل ملته

حنيفا أي مائلا عن الباطل الى الحق وهو حال من المضاف اليه كما في رأيت وجه هند قائمة أو المضاف كما في قوله تعالى ونزعنا ما في صدورهم من غل اخوانا الخ

وما كان من المشركين تعريض بهم وايذان ببطلان دعواهم اتباعه عليه السلام مع إشراكهم بقولهم عزير ابن اللّه والمسيح ابن اللّه

١٣٦

قولوا خطاب للمؤمنين بعد خطابه عليه السلام برد مقالتهم الشنعاء على الإجمال وارشاد لهم الى طريق التوحيد والايمان على ضرب من التفصيل أي قولوا لهم بمقابلة ما قالوا تحقيقا وارشاد ضمنيا لهم اليه

آمنا باللّه وما أنزل الينا يعني القرآن قدم على سائر الكتب الإلهية مع تأخره عنها نزولا لاختصاصه بنا وكونه سببا للإيمان بها

وما أنزل الى ابراهيم واسمعيل واسحق ويعقوب والأسباط الصحف وان كانت نازلة الى ابراهيم عليه السلام لكن من بعده حيث كانوا متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها جعلت منزلة اليهم كما جعل القرآن منزلا الينا والأسباط جمع سبط وهو الحافد والمراد بهم حفدة يعقوب عليه السلام أو أبناؤه الا ثنا عشر وذراريهم فإنهم حفدة ابراهيم واسحق

وما أوتي موسى وعيسى من التوراة والانجيل وسائر المعجزات الباهرة الظاهرة بأيديهما حسبما فصل في التنزيل الجليل وايراد الايتاء لما اشير اليه من التعميم وتخصيصهما بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى

وما أوتي النبيون أي جملة المذكورين وغيرهم

من ربهم من الآيات البينات والمعجزات الباهرات

لا نفرق بين أحد منهم كدأب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض وانما اعتبروا عدم التفريق بينهم مع ان الكلام فيما أوتوه لاستلزام عدم التفريق بينهم بالتصديق والتكذيب لعدم التفريق بين ما أوتوه وهمزة أحد اما اصلية فهو اسم موضوع لمن يصلح ان يخاطب يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ولذلك صح دخول بين عليه كما في مثل المال بين الناس ومنه ما في قوله ما احلت الغنائم لأحد سود الرءوس غيركم حيث وصف بالجمع

وأما مبدلة من الواو فهو بمعنى واحد وعمومه لوقوعه في حيز النفي وصحة دخول بين عليه باعتبار معطوف قد حذف لظهوره أي بين احد منهم وبين غيره كما في قول النابغة

 ... فما كان بين الخير لوجاء سالما ... أبو حجر الا ليال قلائل ...

أي بين الخير وبيني وفيه من الدلالة صريحا على تحقق عدم التفريق بين كل فرد فرد منهم وبين من عداه كائنا من كان ما ليس في ان يقال لا نفرق بينهم والجملة حال من الضمير في آمنا وقوله عز و جل

ونحن له مسلمون أي مخلصون له ومذعنون حال أخرى منه أو عطف على آمنا

١٣٧

فإن آمنوا الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ما تقدم من إيمان المخاطبين على الوجه المحرر مظنة لإيمان أهل الكتابين لما أنه مشتمل على ما هو مقبول عندهم

بمثل ما آمنتم به أي بما آمنتم به على الوجه الذي فصل على أن المثل مقحم كما في قوله تعالى وشهد شاهد من بنى إسرائيل على مثله أي عليه ويعضده قراءةابن مسعود بما آمنتم به وقراءة أبي بالذي آمنتم به ويجوز أن تكون الباء للاستعانة على أن المؤمن به محذوف لظهوره بمرووه آنفا أو على أن الفعل مجرى مجرى اللازم أي فإن آمنوا بما مر مفصلا أو فإن فعلوا الإيمان بشهادة مثل شهادتكم وإن تكون الأولى زائدة والثانية صلة لآمنتم وما مصدرية أي فإن آمنوا إيمانا مثل إيمانكم بما ذكر مفصلا وأن تكون للملابسة أي فإن آمنوا ملتبسين بمثل ما آمنتم ملتبسين به أو فإن آمنوا إيمانا ملتبسا بمثل ما آمنتم إيمانا ملتبسا به من الإذعان والإخلاص وعدم التفريق بين الأنبياء عليهم السلام فإن ما وجد فيهم وصدر عنهم من الشهادة والإذعان وغير ذلك مثل ما للمؤمنين لاعينة بخلاف المؤمن به فإنه لا يتصور فيه التعدد

فقد اهتدوا إلى الحق وأصابوه كما اهتديتم وحصل بينكم الاتحاد والاتفاق

وأما ما قيل من ان المعنى فإن تحروا الإيمان بطريق يهدى إلى الحق مثل طريقكم فقد اهتدوا فإن وحدة المقصد لا تأبي تعدد الطريق فيأباه أن مقام تعيين طريق الحق وإرشادهم إليه بعينه لا يلائم تجويز أن يكون له طريق آخر وراءه

وإن تولوا أي أعرضوا عن الإيمان على الوجه المذكور بإن أخلوا بشئ من ذلك كأن آمنوا ببعض وكفروا ببعض كما هو دينهم وديدنهم

فإنما هم في شقاق المشاقة والشقاق من الشق كالمخالفة والخلاف من الخلف والمعاداة والعداء من العدوة أي الجانب فإن أحد المخالفين يعرض عن الآخر صورة أو معنى ويوليه خلفه ويأخذ في شق غير شقة وعدوة غير عدوته والتنوين للتفخيم أي هم مستقرون في خلاف عظيم بعيد من الحق وهذا لدفع ما يتوهم من احتمال الوفاق بسبب إيمانهم ببعض ما آمن به المؤمنون والجملة إما جواب الشرط كما هي على أن المراد مشاقتهم الحادثة بعد توليتهم عن الإيمان كجزاب الشرطية الأولى وإنما أوثرت الجملة الاسمية لدلالة على ثباتهم واستقرارهم في ذلك

وأما بتأويل فاعلموا إنما هم في شقاق هذا هو الذي يستدعيه فخامة شان التنزيل الجليل وقد قيل قوله تعالى فإن آمنوا الخ من باب التعجيز والتبكيت على منهاج قوله تعالى فأتوا بسورة من مثله والمعنى فإن حصلوا دينا آخر مثل دينكم مماثلا له في الصحة والسداد فقد اهتدوا وإذ لا إمكان له فلا إمكان لاهتدائهم ولا ريب في أنه مما لا يليق بحمل النظم الكريم عليه ولما دل تنكير الشقاق على امتناع الوفاق وأن ذلك مما يؤدى إلى الجدال والقتال لا محالة عقب ذلك بتسلية رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وتفريح المؤمنين بوعد النصر والغلبة وضمان التأييد والإعزاز وعبر بالسين الدالة على تحقق الوقوع البتة فقيل

فسيكفيكهم اللّه أي سيكفيك شقاقهم فإن الكفاية لا تتعلق بالأعيان بل بالأفعال وقد أنجز عز و جل وعده الكريم بقتل بنى قريظة وسبيهم وإجلاء بنى

النضير وتلوين الخطاب بتجريده للنبي مع أن ذلك كفاية منه سبحانه للكل لما أنه الأصل والعمدة في ذلك وللإيذان بأن القيام بامور الحروب وتحمل المؤن والمشاق ومقاساة الشدائد في مناهضة الأعداد من وظائف الرؤساء فنعمته تعالى في الكفاية والنصر في حقة عليه السلام أتم وأكمل

وهو السميع العليم تذييل لما سبق من الوعد وتأكيد له والمعنى أنه تعالى يسمع ما تدعون به ويعلم ما في نيتك من إظهار الدين فيستجيب لك ويوصلك إلى مرادك أو وعيد للكفرة أي يسمع ما ينطقون به ويعلم ما يضمرونه في قلوبهم مما لا خير فيه وهو معاقبهم عليه ولا يخفى ما فيه من تأكيد الوعد السابق فإن وعيد الكفرة وعد للمؤمنين

١٣٨

صبغة اللّه الصبغة من الصبغ كالجلسة من الجلوس وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ عبر بها عن الإيمان بما ذكر على الوجه الذي فصل لكونه تطهيرا للمؤمنين من أوضار الكفر وحلية تزينهم بآثاره الجميلة ومتداخلا في قلوبهم كما أن شأن الصبغ بالنسبة إلى الثوب كذلك

وقيل للمشاركة التقديرية فإن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويزعمون أنه تطهير لهم وبه يحق نصرانيتهم وإضافته إلى اللّه عز و جل مع استناده فيما سلف إلى ضمير المتكلمين للتشريف والإيذان بأنها عطية منه سبحانه لا يستقل العبد بتحصيلها فهى إذن مؤكد لقوله تعالى آمنا داخل معه في حيز قولوا منتصب عنه انتصاب وعد اللّه عما تقدمه لكونه بمثابة فعله كأنه قيل صبغة اللّه صبغة

وقيل هي منصوبة بفعل الإغراء أي ألزموا صبغة اللّه وإنما وسط بينهما الشرطيتانوما بعدهما اعتناء ببيان أنه الإيمان الحق وبه الاهتداء ومسارعة إلى تسليته عليه الصلاة و السلام

ومن أحسن من اللّه مبتدأ أو خبر والإستفهام للإنكار والنفى وقوله تعالى

صبغة نصب على تمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير ومن صبغته أحسن من صبغته تعالى فالتفضيل جار بين الصبغتين لابين فاعليهما أي لا صبغة أحسن من صبغته تعالى على معنى أنها أحسن من كل صبغة على ما أشير إليه في قوله تعالى ومن أظلم ممن منع الخ وحيث كان مدار التفضيل على تعميم الحسن الحقيقي والفرضي المبنى على زعم الكفرة لم يلزم منه أن يكون في صبغة غيره تعالى حسن في الجملة والجملة اعتراضية مقررة لما في صبغة اللّه من معنى التبجح والابتهاج

ونحن له أي للّه الذي أولانا تلك النعمة الجليلة

عابدون شكرا لها ولسائر نعمة وتقدير الظرف للاهتمام ورعاية الفواصل وهو عطف على آمنا داخل معه تحت الأمر وإيثار الاسمية للإشعار بدوام العبادة أو على فعل الإغراء بتقدير القول أي الزموا صبغة اللّه وقولوا نحن له عابدون فقوله تعالى ومن أحسن من اللّه صبغة حينئذ يجرى مجرى التعليل للاغراء

١٣٩

قل أتحاجوننا تجريد الخطاب للنبي عقيب الكلام الداخل تحت الأمر الوارد بالخطاب العام لما أن المامور به من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة و السلام وقرئ بإدغام النون والهمزة للإنكار أي اتجادلوننا

في اللّه أي في دينه وتدعون أن دينه الحق هو اليهودية

والنصراينة وتبنون دخول الجنة والاهتداء عليهما وتقولون تارة لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وتارة كونوا هودا أو نصارى تهتدوا

وهو ربنا وربكم جملة حالية وكذلك ما عطف عليها أي أتجادلوننا والحال أنه لا وجه للمجادله أصلا لأنه تعالى ربنا أي مالك أمرنا وأمركم

ولنا أعمالنا الحسنة الموافقة لأمرة

ولكم أعمالكم السيئة المخالفة لحكمة

ونحن له مخلصون في تلك الأعمال لا نبتغى بها إلا وجهة فأني لكم المحاجة وادعاء حقية ما أنتم عليه والطمع في دخول الجنة بسببه ودعوة الناس إليه وكلمة أم في قوله تعالى

١٤٠

أم تقولون إما معادلة للّهمزة في قوله تعالى أتحاجوننا داخلة في حيز الأمر على معنى أي الأمرين تأتون إقامة الحجة وتنوير البرهان على حقية ما انتم عليه والحال ما ذكر أم التشبث بذيل التقليد والافتراء على الأنبياء وتقولون

إن إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى فنحن بهم مقتدون والمراد إنكار كلا الأمرين والتوبيخ عليهما

وأما منقطعة مقدرة ببل والهمزة دالة على الإضراب والانتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء عليهم السلام وقرئ أم يقولون على صيغة الغيبة فهى منقطعة لا غير غير داخلة تحت الأمر واردة من جهته تعالى توبيخا لهم وإنكارا عليهم لا من جهته عليه السلام على نهج الالتفات كما قيل هذا

وأما ماقيل من أن المعنى اتحاجوننا في شأن اللّه واصطفائه نبيا من العرب دونكم لما روى أن أهل الكتاب قالوا الأنبياء كلهم منا فلو كنت نبيا لكنت منا فنزلت ومعنى قوله تعالى وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم أنه لا اختصاص له تعالى بقوم دون قوم يصيب برحمته من يشاء من عباده فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا كما أكرمكم بأعمالكم كأنه ألزمهم على كل مذهب ينتحونه إفحاما وتبكيتا فإن كرامة البنوة إما تفضل من اللّه تعالى على من يشاء فالكل فيه سواء

وأما إفاضة حق على المستحقين لها بالمواظبة على الطاعة والتجلى بالإخلاص فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها اللّه تعالى في إعطائها فلنا أيضا أعمال ونحن له مخلصون أي لا أنتم فمع عدم ملاءمته لسياق النظم الكريم وسياقه لاسيما على تقدير كون كلمة أم معادلة للّهمزة غير صحيح في نفسه لما أن المراد بالأعمال من الطرفين ما أشير إليه من الأعمال الصالحة والسيئة ولا ريب في أن أمر الصلاح والسوء يدور على موافقة الدين المبنى على البعثة ومخالفته فكيف يتصور اعتبار تلك الأعمال في استحقاق النبوة واستعدادها المتقدم على البعثة بمراتب

قل أأنتم أعلم أم اللّه إعادة الأمر ليست لمجرد تأكيد التوبيخ وتشديد الإنكار عليهم بل للإيذان بأن ما بعده ليس متصلا بما قبله بل بينهما كلام للمخاطبين مترتب على ما سبق مستتبع لما لحق قد ضرب عنه الذكر صفحا لظهورة وهو تصريحهم بما وبخوا عليه من الافتراء على الأنبياء عليهم السلام كما في قوله عز و جل قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون قال فما خطبكم أيها المرسلون وقوله عز قائلا قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت على فإن تكرير قال في الموضعين وتوسيطه بين قولى قائل واحد للإيذان بأن بينهما كلاما لصاحبة متعلقا بالأول والثاني بالتبعية والاستتباع كما حرر في محله أي كذبهم في ذلك وبكتهم قائلا إن اللّه يعلم وأنتم لاتعلمون وقد نفى عن ابراهيم عليه السلام كلا الأمرين حيث قال ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا واحتج عليه بقوله تعالى وما أنزلت التوراة والانجيل الا من بعده وهؤلاء المعطوفون عليه عليه السلام اتباعه في الدين وفاقا فكيف تقولون ما تقولون سبحان اللّه عما تصفون

ومن أظلم انكار لأن يكون احد اظلم

ممن كتم شهادة ثابتة

عنده كائنة

من اللّه وهي شهادته تعالى له عليه السلام بالحنيفية والبراءة من اليهودية والنصرانية حسبما تلى آنفا فعنده صفة لشهادة وكذا من اللّه جيء بهما لتعليل الانكار وتأكيده فإن ثبوت الشهادة عنده وكونها من جناب اللّه عز و جل من أقوى الدواعي الى اقامتها واشد الزواجر عن كتمانها وتقديم الأول مع أنه متأخر في الوجود لمراعاة طريقة الترقي من الأدنى الى الأعلى والمعنى أنه لا أحد أظلم من أهل الكتاب حيث كتموا هذه الشهادة وأثبتوا نقيضها بما ذكر من الافتراء وتعليق الأظلمية بمطلق الكتمان للإيماء الى أن مرتبة من يردها ويشهد بخلافها في الظلم خارجة عن دائرة البيان أولا أحد أظلم منا لو كتمناها فالمراد بكتمها عدم اقامتها في مقام المحاجة وفيه تعريض بغاية أظلمية أهل الكتاب على نحو ما أشير إليه وفي إطلاق الشهادة مع أن المراد بها ما ذكر من الشهادة المعنية تعريض بكتمانهم شهادة اللّه عز و جل للنبي في التوراة والإنجيل

وما اللّه بغافل عما تعملون من فنون السيئات فيدخل فيها كتمانهم لشهادته سبحانه وافتراؤهم على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دخولا أوليا أي هو محيط بجميع ما تأتون وما تذرون فيعاقبكم بذلك أشد عقاب وقرئ عما يعملون على صيغة الغيبة فالضمير إما لمن كتم باعتبار المعنى

وأما لأهل الكتاب وقوله تعالى ومن أظلم إلى آخر الآية مسوق من جهته تعالى لوصفهم بغاية الظلم وتهديدهم بالوعيد

١٤١

تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولاتسألون عما كانوا يعلمون تكرير للمبالغة في الزجر عما هم عليه من الافتخار بالآباء والاتكال على أعمالهم

وقيل الخطاب السابق لهم وهذا لنا تحذير عن الاقتداء بهم

وقيل المراد بالأمة الأولى الأنبياء عليهم السلام وبالثانية أسلاف اليهود

١٤٢

سيقول السفهاء أي الذين خفت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر من قولهم ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج

وقيل السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم

وقيل الظلوم الجهول والمراد بالسفهاء هم اليهود على ما روى عن ابن عباس ومجاهد رضي اللّه عنهم قالوه إنكارا للنسخ وكراهة للتحويل حيث كانوا يانسون بموافقته عليه الصلاة و السلام لهم في القبلة

وقيل هم المنافقون وهو الأنسب ب قوله عز وعلا ألا إنهم هم السفهاء وإنما قالوه لمجرد الاستهزاء والطعن لا لاعتقادهم حقية القبلة الأولى وبطلان الثانية إذ ليس كلهم من اليهود

وقيل هم المشركون ولم يقولوه كراهة للتحويل الى مكة بل طعنا في الدين فإنهم كانوا يقولون رغب عن قبلة آبائه ثم رجع وليرجعن إلى دينهم ايضا

وقيل هم القادحون في التحويل منهم جميعا فيكون قوله تعالى

من الناس أي الكفرة لبيان ان ذلك القول المحكى لم يصدر عن كل فرد فرد من تلك الطوائف الثلاث بل عن اشيقائهم المعتادين للخوض في فنون الفساد وهو الأظهر اذ لو أريد بهم طائفة مخصوصة منهم لما كان لبيان كونهم من الناس مزيد فائدة وتخصيص سفهائهم بالذكر لا يقتضي تسليم الباقين للتحويل وارتضاءهم إياه بل عدم التفوه بالقدح مطلقا أو بالعبارة المحكية

ما ولاهم أي أي شئ صرفهم والاستفهام للإنكار والنفي

عن قبلتهم القبلة فعلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة وهي الحال التي يقابل الشئ غيره عليها كالجلسة للحالة التي يقع عليها الجلوس يقال لا قبلة له ولا دبرة إذا لم يهتد لجهة أمره غلبت على الجهة التي يستقبلها الإنسان في الصلاة والمراد بها ههنا بيت المقدس وإضافتها إلى ضمير المسلمين ووصفها بقوله تعالى

التي كانوا عليها أي ثابتين مستمرين على التوجه إليها ومراعاتها واعتقاد حقيقتها لتأكيد الإنكار فإن الاختصاص بالشئ والاستمرار عليه باعتقاد حقيته مما ينافي الانصراف عنه فإن اريد بالقائلين اليهود فمدار الإنكار كراهتهم للتحويل عنها وزعمهم انه خطأ وإن أريد بهم المشركون فمداره مجرد القصد إلى الطعن في الدين والقدح في أحكامه وإظهار أن كلا من التوجه إليها والانصراف عنها واقع بغير داع إليه لا لكراهتهم الانصراف عنها أو التوجه الى مكة وتعليق الإنكار بما يوليهم عنها لا بما يوجههم الى غيرهما مع تلازمها في الوجود لما ان ترك الدين القديم ابعد عند العقول وإنكار سببه ادخل لا للإيذان بأن المنكرين هم اليهود بناء على أن المنكر عندهم هو التحويل عن خصوصية بيت المقدس الذي هو القبلة الحقة عندهم لا التوجه إلى خصوصية قبلة أخرى أو هم المشركون بناء على أن المنكر عندهم ترك القبلة القديمة على وجه الطعن والقدح لا التوجه إلى الكعبة لأنه الحق عندهم فإنه بمعزل عن ذلك كيف لا والمنافقون من أحد الفريقين لا محالة والإخبار بذلك قبل الوقوع مع كونه من دلائل النبوة حيث وقع كما اخبر لتوطين النفوس واعداد ما يبكتهم فإن مفاجأة المكروه على النفس اشق واشد والجواب العتيد لشغب الخصم الألد ارد وقوله عز و جل

قل للّه المشرق والمغرب استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا اقول عند ذلك فقيل قل الخ أي للّه تعالى ناحيتا الارض أي الجهات كلها ملكا وملكا وتصرفا فلا اختصاص لناحية منها لذاتها بكونها قبلة بدون ما عداها بل إنما هو بأمر اللّه سبحانه ومشيئته

يهدي من يشاء أن يهديه مشيئة تابعة للحكم الخفية التي لا يعلمها إلا هو

الى صراط مستقيم موصل الى سعادة الدارين وقد هدانا الى ذلك حيث أمرنا بالتوجه الى بيت المقدس تارة والى الكعبة اخرى حسبما تقتضيه مشيئته المقارنة لحكم ابيه ومصالح خفية

١٤٣

وكذلك جعلناكم توجيه للخطاب الى المؤمنين

بين الخطابين المختصين بالرسول لتأييد ما في مضمون الكلام من التشريف وذلك إشارة الى مصدر جعلناكم لا الى جعل آخر مفهوم مما سبق كما قيل وتوحيد الكاف مع القصد الى المؤمنين لما أن المراد مجرد الفرق بين الحاضر والمنقضى دون تعيين المخاطبين وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المشار اليه وبعد منزلته في الفضل وكمال تميزه وانتظامه بسببه في سلك الأمور المشاهدة والكاف لتأكيد ما أفاده اسم الاشارة من الفخامة ومحلها في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف وأصل التقدير جعلناكم امة وسطا جعلا كائنا مثل ذلك الجعل فقدم على الفعل لإفادة القصر واعتبرت الكاف مقحمة للنكتة المذكورة فصار نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أي ذلك الجعل البديع جعلناكم

أمة وسطا لا جعلا آخر أدنى منه والوسط في الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب اليه كمركز الدائرة ثم استعير للخصال المحمودة البشرية لكن لا لأن الأطراف يتسارع اليها الخلل والأعواز والأوساط محمية محوطة كما قيل واستشهد عليه بقول ابن أوس الطائي

... كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا ...

فإن تلك العلاقة بمعزل من الاعتبار في هذا المقام إذ لا ملابسة بينها وبين أهلية الشهادة التي جعلت غاية للجعل المذكور بل لكون تلك الخصال أوساطا للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الافراط والتفريط كالعفة التي طرفاها الفجور والخمود وكالشجاعة التي طرفاها الظهور والجبن وكالحكمة التي طرفاها الجربزة والبلادة وكالعدالة التي هي كيفية متشابهة حاصلة من اجتماع تلك الأوساط المحفوفة بأطرافها ثم أطلق على المتصف بها مبالغة كأنه نفسها وسوى فيه بين المفرد والجمع والمذكر والمؤنث رعاية لجانب الأصل كدأب سائر الأسماء التي يوصف بها وقد روعيت ههنا نكتة رائقة هي ان الجعل المشار اليه عبارة عما تقدم ذكره من هدايته تعالى الى الحق الذي عبر عنه بالصراط المستقيم الذي هو الطريق السوي الواقع في وسط الطرق الجائرة عن القصد الى الجوانب فإنا إذا فرضنا خطوطا كثيرة واصلة بين نقطتين متقابلتين فالخط المستقيم انما هو الخط الواقع في وسط تلك الخطوط المنحنية ومن ضرورة كونه وسطا بين الطرق الجائرة كون الامة المهدية اليه امة وسطا بين الامم السالكة الى تلك الطرق الزائغة أي متصفة بالخصال الحميدة خيارا وعدولا مزكين بالعلم والعمل

لتكونوا شهداء على الناس بان اللّه عز و جل قد أوضح السبل وأرسل الرسل فبلغوا ونصحوا وذكروا فهل من مدكر وهي غاية للجعل المذكور مترتبة عليه فإن العدالة كما أشير اليه حيث كانت هي الكيفية المتشابهة المتألفة من العفة التي هي فضيلة القوة الشهوية البهيمية والشجاعة التي هي فضيلة القوة الغضبية السبعية والحكمة التي هي فضيلة القوة العقلية الملكية المشار الى رتبتها ب قوله عز وعلا ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا كأن المتصف بها واقفا على الحقائق المودعة في الكتاب المبين المنطوي على أحكام الدين وأحوال الأمم أجمعين حاويا لشرائط الشهادة عليهم روى أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء عليهم السلام فيطالبهم اللّه تعالى بالبينة وهو أعلم إقامة للحجة على المنكرين وزيادة لخزيهم بأن كذبهم من بعدهم من الأمم فيؤتي بأمة محمد فيشهدون فيقول الأمم من اين عرفتم فيقولون علمنا ذلك بإخبار اللّه تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق فيؤتى عند ذلك بالنبي ويسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله عز قائلا

ويكون الرسول عليكم شهيدا وكلمة الاستعلاء لما في الشهيد من معنى الرقيب والمهيمن

وقيل لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يقبل فيه الشهادة إلا من العدول الأخيار وتقديم الظرف لدلالة على اختصاص شهادته عليه السلام بهم

وما جعلنا القبلة التي كنت عليها جرد الخطاب للنبي رمزا إلى أن مضمون الكلام من الأسرار الحقيقة بأن يخص معرفته به عليه السلام وليس الموصول صفة للقبلة بل هو مفعول ثان للجعل وما قيل من أن الجعل تحويل الشئ من حاله إلى أخرى فالملتبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني كما في قولك جعلت الطين خزفا فينبغى أن يكون المفعول الأول هو الموصول والثاني هو القبلة فكلام صناعى ينساق إليه الذهن بحسب النظر الجليل ولكن التأمل اللأئق يهدى إلى العكس فإن المقصود إفادته ليس جعل الجهة قبلة لا غير كما يفيده ما ذكر بل هو جعل القبلة المحققة الوجود هذه الجهة دون غيرها والمراد بالموصول هي الكعبة فإنه عليه الصلاة و السلام كان يصلى إليها أولا ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفا لليهود أو هي الصخرة لما روى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما من أن قبلته عليه السلام بمكة كانت بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه وعلى هذه الرواية لا يمكن أن يراد بالقبلة الأولى الكعبة

وأما الصخرة فيتأتى إرادتها على الروايتين والمعنى على الأول وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها آثر ذي أثير وهي الكعبة وعلى الثاني وما جعلناها التي كنت عليها قبل هذا الوقت وهي الصخرة

إلا لنعلم استثاء مفرغ من أعم العلل أي وما جعلنا ذلك لشئ من الأشياء إلا لنمتحن الناس أي نعاملهم معاملة من يمتحنهم ونعلم حينئذ

من يتبع الرسول في التوجه إلى ما أمر به من الدين أو القبلة والالتفات إلى الغيبة مع إيراده عليه السلام بعنوان الرسالة للإشعار بعلة الاتباع

ممن ينقلب على عقبيه يرتد عن دين الإسلام أو لايتوجه إلىالقبلة الجديدة أو لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لايتبعه وما كان لعارض يزول بزواله وعلى الأول مارددناك إلى ما كنت عليه إلا لنعلم الثابت على الإسلام والناكص على عقبيه لقلقة وضعف إيمانه والمراد بالعلم ما يدور عليه فلك الجزاء من العلم الحالى أي ليتعلق علمنا به موجودا بالفعل

وقيل المراد علم الرسول عليه السلام والمؤمنين وإسناده إليه سبحانه لما أنهم خواصه وليتميز الثابت عن المتزلزل كقوله تعالى ليميز اللّه الخبيث من الطيب فوضع العلم موضع التمييز الذي هو مسبب عنه ويشهد له قراءة ليعلم على بناء المجهول من صيغة الغيبة والعلم إما بمعنى المعرفة أو متعلق بما في من من معنى الاستفهام أو مفعوله الثاني ممن ينقلب الخ أي لنعلم من يتبع الرسول متميزا ممن ينقلب على عقبيه

وإن كانت لكبيرة أي شاقة ثقيلة وإن هي المخففة من الثقيلة دخلت على ناسخ المبتدأ والخبر واللأم هي الفارقة بينها وبين النافية كما في قوله تعالى إن كان وعد ربنا لمفعولا وزعم الكوفيون أنها نافية واللأم بمعنى إلا أي ما كانت إلا كبيرة والضمير الذي هو اسم كان راجع إلى ما دل عليه قوله تعالى وما جعلنا القبلة التي كنت عليها من الجعلة أو التولية أو التحويلة أو الردة أوالقبلة وقرئ لكبيرة بالرفع على أن كان مزيده كما في قوله

 ... واخوان لنا كانوا كرام ...

وأصله وإن هي لكبيرة كقوله إن زيد لمنطلق

إلا على الذين هدى اللّه أي إلى سر الأحكام الشرعية المبنية على الحكم والمصالح إجمالا وتفصيلا وهم المهديون إلى الصراط المستقيم الثابتون على الإيمان واتباع الرسول عليه السلام

وما كان اللّه ليضيع أيمانكم أي ما صح وما استقام له أن يضيع ثباتكم على الإيمان بل شكر صنيعكم وأعد لكم الثواب العظيم

وقيل إيمانكم بالقبلة المنسوخة وصلاتكم إليها لما روى أنه عليه السلام لما توجه إلى الكعبة قالوا كيف حال إخواننا الذين مضوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فنزلت واللأم في ليضيع أما متعلقة بالخبر المقدر لكان كما هو رأى البصرية وانتصاب الفعل بعدها بأن المقدرة أي ما كان اللّه مريدا أو متصديا لأن يضيع الخ ففي توجيه النفي إلى إادة الفعل تأكيد ومبالغة ليس في توجهه إلى نفسه

وأما مزيدة للتأكيد ناصبة للفعل بنفسها كما هو رأى الكوفية ولا يقدح في ذلك زيادتها كما لا يقدح زيادة حروف الجر في عملها وقوله تعالى

إن اللّه بالناس لرؤوف رحيم تحقيق وتقرير للحكم وتعليل له فإن اتصافه عز و جل بهما يقتضى لا محالة أن لا يضيع أجورهم ولا يدع ما فيه صلاحهم والباء متعلقة برءوف وتقديمه على رحيم مع كونه أبلغ منه لما مر في وجه تقديم الرحمن على الرحيم

وقيل أكثر من الرأفة في الكمية والرأفة أقوى منها في الكيفية لأنها عبارة عن إيصال النعم الصافية عن الآلام والرحمة إيصال النعمة مطلقا وقد يكون مع الألم كقطع العضو المتآكل وقرئ رءوف بغير مد كندس

١٤٤

قد نرى تقلب وجهك في السماء أي تردده وتصرف نظرك في جهتها تطلعا للوحى وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يقع في روعة ويتوقع من ربه عز و جل أن يحوله إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم وأدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم ولمخالفة اليهود فكان يراعى نزول جبريل بالوحى بالتحويل

فلنولينك قبلة الفاء للدلالة على سببيه ما قبلها لما بعدها وهي في الحقيقة داخلة على قسم محذوف يدل عليه اللام أي فو اللّه لنولينك أي لنعطينكها ولنمكننك من استقبالها من قولك ولتيه كذا أي صيرته واليا له أو لنجعلنك تلى جهتها أو لنحولنك على أن نصب قبله بحذف الجار أي إلى قبلة

وقيل هو متعد إلى مفعولين

ترضاها تحبها وتشتاق إليها لمقاصد دينية وافقت مشيئته تعالى وحكمته

فول وجهك الفاء لتفريع الأمر بالتولية على الوعد الكريم وتخصيص التولية بالوجه لما أنه مدار التوجه ومعياره

وقيل المراد به كل البدن أي فاصرفه

شطر المسجد الحرام أي نحوه وهو نصب على الظرفية من ول أو على نزع الخافض أو على مفعول ثان له

وقيل الشطر في الأصل اسم لما انفصل من الشئ ودار شطور إذا كانت منفصله عن الدور ثم استعمل لجانبه وإن لم ينفصل كالقطر والحرام المحرم أي محرم فيه القتال أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوا له وفي ذكر المسجد الحرام دون الكعبة إيذان بكفاية مراعاة الجهة لأن في مراعاة العين من البعيد حرجا عظيما بخلاف القريب روى عن البراء بن عازب أن نبي اللّه قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشرة شهرا ثم وجه إلى الكعبة

وقيل كان ذلك في رجب بعد زوال الشمس قبيل قتال بدر بشهرين ورسوله اللّه في مسجد بنى سلمة وقد صلى بأصحابة ركعتين من صلاة الظهر فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب وحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فسمى المسجد مسجد القبلتين

وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره خص الرسول بالخطاب تعظيما لجنابه وإيذان بأسعاف مرامه ثم عمم الخطاب للمؤمنين مع التعرض لاختلاف أماكنهم تأكيدا للحكم وتصريحا بعمومه لكافة العباد من كل حاضر باد وحثا للأمه على المتابعة وحيثما شرطية وكنتم في محل الجزم بها وقوله تعالى فولوا جوابها وتكون هي منصوبة على الظرفية بكنتم نحو قوله تعالى أياما تدعوا فلة الأسماء الحسنى

وإن الذين أوتوا الكتاب من فريقي اليهود والنصارى

ليعلمون أنه أي التحويل أو التوجه المفهوم من التولية

الحق لاغير لعلمهم بان عادته سبحانه وتعالى جارية على تخصيص كل شريعة بقبلة ومعاينتهم لما هو مسطور في كتبهم من أنه عليه الصلاة و السلام يصلى إلى القبلتين كما يشعر بذلك التعبير عنهم بالاسم الموصول بإيتاء الكتاب وإن مع اسمها وخبرها ساد مسد مفعولى يعلمون أو مسد مفعوله الواحد على أن العلم بمعنى المعرفة وقوله تعالى

من ربهم متعلق بمحذوف وقع حالا من الحق أي كائنا من ربهم أوصفة له على رأى من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أي الكائن من ربهم

وما اللّه بغافل عما تعلمون وعد ووعيد للفريقين والخطاب للكل تغليبا وقرئ على صيغة الغيبة فهو وعيد لأهل الكتاب

١٤٥

ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب وضع الموصول موضع المضمر للإيذان بكمال سوء حالهم من العناد مع تحقق ما يرغمهم منه من الكتاب الناطق بحقية ما كابروا في قبوله

يكل آية أي حجة قطعية دالة على حقيقة التحويل واللام موطئة للقسم وقوله تعالى

ما تبعوا قبلتك جواب للقسم المضمر ساد مسد جواب الشرط والمعنى أنهم ماتركوا قبلتك لشبهة تزيلها الحجة وإنما خالفوك مكابرة وعنادا وتجريد الخطاب للنبي بعد تعميمه للأمة لما أن المحاجة والإتيان بالآية من الوظائف الخاصة به عليه السلام وقوله تعالى

وما انت بتابع قبلتهم جملة معطوفة على الجملة الشرطية لا على جوابها مسوقة لقطع أطماعهم الفارغة حيث قالت اليهود لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجوا أن تكون صاحبنا الذي ننتظره تغريرا له عليه الصلاة و السلام وطمعا في رجوعه وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على دوام مضمونها واستمراره وإفراد قبلتهم مع تعددها باعتبار اتحادها في البطلان ومخالفة الحق ولئلا يتوهم أن مدار النفى هو التعدد وقرئ يتابع قبلتهم على الإضافة

وما بعضهم يتابع قبلة بعض فإن اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك لتصلب كل فريق فيما هو فيه

ولئن اتبعت أهواءهم الزائغة المتخالفة

من بعد ما جاءك من العلم ببطلانها وحقية ما أنت عليه وهذه الشرطية الفرضية وارده على منهاج التهييج والإلهاب للثبات على الحق أي ولئن اتبعت أهواءهم فرضا

أنك إذا لمن الظالمين وفيه لطف للسامعين وتحذير لهم عن

متابعة الهوى فإن من ليس من شأنه ذلك إذا نهى عنه ورتب على فرض وقوعه ما رتب من الانتظام في سلك الراسخين في الظلم فما ظن من ليس كذلك وإذن حرف جواب وجزاء توسطت بين اسم إن وخبرها لتقرير ما بينهما من النسبة إذ كان حقهاأن تتقدم أو تتأخر فلم تتقدم لئلا يتوهم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط وجوابه المحذوف لأن المذكور جواب القسم ولم تتأخر لرعاية الفواصل ولقد بولغ في التأكيد من وجوه تعظيما للحق المعلوم وتحريضا على اقتفائه وتحذيرا عن متابعة الهوى واستعظاما لصدور الذنب من الأنبياء عليهم السلام

١٤٦

الذين آتيناهم الكتاب أي علماءهم إذهم العمدة في إيتائه ووضع الموصول موضع المضمر مع قرب العهد للإشعار بعليه ما في حيز الصلة للحكم والضمير المنصوب في قوله تعالى

يعرفونه للرسول والالتفات إلى الغيبة للإيذان بان المراد ليس معرفتهم له عليه السلام من حيث ذاته ونسبه الزاهر بل من حيث كونه مسطورا في الكتاب منعوتا فيه بالنعوت التي من جملتها أنه عليه السلام يصلى إلى القبلتين كأنه قيل الذين آتيناهم الكتاب يعرفون من وصفناه فيه وبهذا يظهر جزالة النظم الكريم

وقيل هو إضمار قبل الذكر للإشعار بفخامة شأنه عليه الصلاة و السلام أنه علم معلوم بغير إعلام فتأمل وقيل الضمير للعلم أو سببه الذي هو الوحى أو القرآن أو التحويل ويؤيد الأول قوله عز و جل

كما يعرفون أبناءهم أي يعرفونه عليه الصلاة و السلام بأوصافه الشريفة المكتوبة في كتابهم ولا يشتبه علهيم كما لا يشتبه أبناؤهم وتخصيصهم بالذكر دون ما يعم البنات لكونهم أعرف عندهم منهن بسبب كونهم أحب إليهم عن عمر رضي اللّه عنه أنه سأل عبد اللّه بن سلام رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال أنا أعلم به منى بابنى قال ولم قال لأني لست أشك فيه أنه نبى فأما ولدى فلعل والدته خانت فقبل عمر رأسه رضي اللّه عنهما

وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون هم الذين كابروا و عاندوا الحق والباقون هم الذين آمنوا منهم فانهم يظهرون الحق ولا يكتمونه

وأما الجهلة منهم فليست لهم معرفة بالكتاب ولا بما في تضاعيفه فما هم بصدد الإظهار ولا بصدد الكتم وإنما كفرهم على وجه التقليد

١٤٧

الحق بالرفع على أنه مبتدأ وقوله تعالى

من ربك خبره واللام للعهد والإشارة إلى ما عليه النبي أو إلى الحق الذي يكتمونه أو للجنس والمعنى أن الحق ما ثبت أنه من اللّه تعالى كالذي أنت عليه لاغيره كالذي عليه أهل الكتاب أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق وقوله تعالى من ربك إما حال أو خبر بعد خبر وقرئ بالنصب على أنه بدل من الأول أو مفعول ليعلمون وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام من إظهار اللطف به عليه السلام ما لا يخفى

فلا تكونن من الممترين أي الشاكين في كتمانهم الحق عالمين به

وقيل في أنه من ربك وليس المراد به نهى الرسول عن الشك فيه لأنه غير متوقع منه عليه السلام وليس بقصد واختيار بل إما تحقيق الأمر وأنه بحيث لا يشك فيه ناظر أو أمر الأمة باكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ

١٤٨

ولكل أي ولكل أمة من الأمم على أن التنوين عوض من المضاف إليه

وجهة أي قبلة وقد قرئ كذلك أو لكل قوم من المسلمين جانب من جوانب الكعبة

هو موليها أحد المفعولين محذوف أي موليها وجهة أو اللّه موليها إياه وقرئ ولكل وجهة بالإضافة والمعنى ولكل وجهة اللّه موليها أهلها واللام مزيدة للتأكيد وجبر ضعف العامل وقرئ مولاها أي مولى تلك الجهة قد وليها

فاستبقوا الخيرات أي تسابقوا إليها بنزع الجار كما في قوله

 ... ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل ... سواكم فإني مهتد غير مائل ...

وهو أبلغ من الأمر بالمسارعة لما فيه من الحث على إحراز قصب السبق والمراد بالخيرات جميع أنواعها من أمر القبلة وغيره مما ينال به سعادة الدارين أو الفاضلات من الجهات وهي المسامته للكعبة

أينما تكونوا يأت بكم اللّه جميعا أي في أي موضع تكونوا من موافق أو مخالف مجتمع الأجزاء أو متفرقها يحشركم اللّه تعالى إلى المحشر للجزاء أو أينما تكونوا من اعماق الأرض وقلل الجبال يقبض أرواحكم أو أينما تكونوا من الجهات المختلفة المتقابلة يجعل صلواتكم كأنها صلاة إلى جهة واحدة

إن اللّه على كل شئ قدير فيقدر على الإماتة والإحياء والجمع فهو تعليل للحكم السابق

١٤٩

ومن حيث خرجت تأكيد التحويل وتصريح بعدم تفاوت الأمر في حالتى السفر والحضر ومن متعلقة بقوله تعالى فول أو بمحذوف عطف هو عليه أي من أي مكان خرجت إليه للسفر فول

وجهك عند صلاتك

شطر المسجد الحرام أو افعل ما امرت به من أي مكان خرجت إليه فول الخ

وانه أي هذا الأمر

للحق من ربك أي الثابت الموافق للحكمة

وما اللّه بغافل عما تعلمون فيجازيكم بذلك أحسن جزاء فهو وعد للمؤمنين وقرئ يعملون على صيغة الغيبة فهو وعيد للكافرين

١٥٠

ومن حيث خرجت إليه في أسفارك ومغازيك من المنازل القريبة والبعيدة

فول وجهك شطر المسجد الحرام الكلام فيه كما مر آنفا

وحيثما كنتم من أقطار الأرض مقيمين أو مسافرين حسبما يعرب عنه إيثار

كنتم على خرجتم فإن الخطاب عام لكافة المؤمنين المنتشرين في الآفاق من الحاضرين والمسافرين فلو قيل وحيثما خرجتم لما تناول الخطاب المقيمين في الأماكن المختلفة من حيث إقامتهم فيها

فولوا وجوهكم من محالكم

شطره والتكرير لما أن القبلة لها شأن خطير والنسخ من مظان الشبهة والفتنة فبالحرى أن يؤكد أمرها مرة غب أخرى مع أنه قد ذكر في كل مرة حكمة مستقلة

لئلا يكون للناس عليكم حجة متعلق بقوله تعالى فولوا

وقيل بمحذوف يدل عليه الكلام كأنه قيل فعلنا ذلك لئلا الخ والمعنى أن التولية عن الصخرة تدفع احتجاج اليهود بان المنعوت في التوراة من أوصافه أنه يحول إلى الكعبة واحتجاج المشركين بانه يدعى ملة إبراهيم يخالف قبلته

إلا الذين ظلموا منهم وهم أهل مكة أي لئلا يكون لأحد من الناس حجةإلا المعاندين منهم الذين يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده أو بدا له فرجع إلى قبلة آبائه ويوشك أن يرجع إلى دينهم وتسمية هذه الكلمة الشنعاء حجة مع انها أفحش الأباطيل من قبيل ما في قوله تعالى حجتهم داحضة حيث كانوا يسوقونها مساق الحجة

وقيل الحجةبمعنى مطلق الاحتجاج

وقيل الاستثناء للمبالغة في نفى الحجة رأسا كالذي في قوله

 ... ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب ...

ضرورة أن لا حجة للظالم وقرئ ألا الذين بحرف التنبيه على أنه استئناف

فلا تخشوهم فإن مطاعنهم لاتضركم شيئا

واخشوني فلا تخالفوا أمرى

ولأتم نعمتى عليكم ولعلكم تهتدون علة لمحذوف يدل عليه النظم الكريم أي وأمرتكم بما مر لإتمام النعمة عليكم لما أنه نعمة جليلة ولإرادتي اهتدائكم لما أنه صراط مستقيم مؤد إلى سعادة الدارين كما أشير إليه في قوله عز و جل يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم وفي التعبير عن الإرادة بكلمة لعل الموضوعة للترجي على طريقة الاستعارة التبعية من الدلالة على كمال العناية بالهداية مالا يخفى أو عطف على علة مقدرة أي واخشوني لأحفظكم عنهم واتم الخ أو على قوله تعالى لئلا يكون وتوسط قوله تعالى فلا تخشوهم الخ بينهما للمسارعة الى التسلية والتثبيت وفي الخبر تمام النعمة دخول الجنة وعن علي رضي اللّه عنه تمام النعمة الموت على الاسلام

١٥١

كما أرسلنا فيكم رسولا منكم متصل بما قبله والظرف الأول متعلق بالفعل قدم على مفعوله الصريح لما في صفاته من الطول والظرف الثاني متعلق بمضمر وقع صفة لرسولا مبينة لتمام النعمة أي ولأتم نعمتي عليكم في امر القبلة أو في الآخرة اتماما كائنا كإتمامي لها بإرسال رسول كائن منكم فإن إرسال الرسول لاسيما المجانس لهم نعمة لا يكافئها نعمة قط

وقيل متصل بما بعده أي كما ذكرتم بالإرسال فاذكروني الخ وإيثار صيغة المتكلم مع الغير بعد التوحيد فيما قبله افتنان وجريان على سنن الكبرياء

يتلو عليكم آياتنا صفة ثانية لرسول كاشفة لكمال النعمة

ويزكيكم عطف على يتلو أي يحملكم على ما تصيرون به أزكياء

ويعلمكم الكتاب والجكمة صفة أخرى مترتبة في الوجود على التلاوة وانما وسط بينهما التزكية التي

هي عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كلا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر فلو روعى ترتيب الوجود كما في قوله تعالى وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم انك انت العزيز الحكيم لتبادر الى الفهم كون الكل نعمة واحدة كما مر نظيره في قصة البقرة وهو السر في التعبير عن القرآن تارة بالآيات وأخرى بالكتاب والحكمة رمزا الى انه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة ولا يقدح فيه شمول الحكمة لما في تضاعيف الأحاديث الشريفة من الشرائع وقوله عز و جل

ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون صريح في ذلك فإن الموصول مع كونه عبارة عن الكتاب والحكمة قطعا قد عطف تعليمه على تعليمهما وما ذلك الا لتفصيل فنون النعم في مقام يقتضيه كما في قوله تعالى ونجيناهم من عذاب غليظ عقيب قوله تعالى نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا والمراد بعدم علمهم أنه ليس من شأنهم أن يعلموه بالفكر والنظر وغير ذلك من طرق العلم لانحصار الطريق في الوحي

١٥٢

فاذكروني الفاء للدلالة على ترتب الأمر على ما قبله من موجباته أي فاذكروني بالطاعة

أذكركم بالثواب وهو تحريض على الذكر مع الاشعار بما يوجبه

واشكروا لى ما أنعمت به عليكم من النعم

ولا تكفرون بجحدها وعصيان ما أمرتكم به

١٥٣

ياأيها الذين آمنوا وصفهم بالإيمان اثر تعداد ما يوجبه ويقتضيه تنشيطا لهم وحثا على مراعاة ما يعقبه من الأمر

استعينوا في كل ما تأتون وما تذرون

بالصبر على الأمور الشاقة على النفس التي من جملتها معاداة الكفرة ومقابلتهم المؤدية الى مقاتلتهم

والصلاة التي هي ام العبادات ومعراج المؤمنين ومناجاة رب العالمين

ان اللّه مع الصابرين تعليل للأمر بالاستعانة بالصبر خاصة لما أنه المحتاج الى التعليل

وأما الصلاة فحيث كانت عند المؤمنين اجل المطالب كما ينبئ عنه قوله عليه السلام وجعلت قرة عيني في الصلاة لم يفتقر الأمر بالاستعانة بها الى التعليل ومعنى المعية الولاية الدائمة المستتبعة للنصرة واجابة الدعوة ودخول مع على الصابرين لما أنهم المباشرون للصبر حقيقة فهم متبوعون من تلك الحيثية

١٥٤

ولا تقولوا عطف على استعينوا الخ مسوق لبيان ان لا غائلة للمأمور به وأن الشهادة التي ربما يؤدي اليها الصبر حياة أبدية

لمن يقتل في سبيل اللّه أموات أي هم أموات

بل أحياء أي بل هم احياء

ولكن لا تشعرون بحياتهم وفيه رمز الى انها ليست مما يشعر به بالمشاعر الظاهرة من الحياة الجسمانية وانما هي امر روحاني لا يدرك بالعقل بل بالوحي وعن الحسن رحمه اللّه أن الشهداء أحياء عند اللّه تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل اليهم الروح والفرح كما تعرض النار على آل فرعون غدوا وعشيا فيصل اليهم الألم والوجع قلت رأيت في المنام سنة تسع وثلاثين وتسعمائة اني أزور قبور شهداء احد رضي اللّه تعالى عنهم اجمعين وانا أتلوا هذه الآية وما في سورة آل عمران وأرددهما متفكرا في امرهم وفي نفسي ان حياتهم روحانية لا جسمانية فبينما أنا على ذلك اذ رأيت شابا منهم قاعدا في قبره تام الجسد كامل الخلقة في احسن ما يكون من الهيئة والمنظر ليس عليه شيء من اللباس قد بدا منه ما فوق السرة والباقي في القبر خلا اني اعلم يقينا ان ذلك ايضا كما ظهر وانما لا يظهر لكونه عورة فنظرت الى وجهه فرأيته ينظر الى مبتسما كأنه ينبهني على ان الأمر بخلاف رأيي فسبحان من علت كلمته وجلت حكمته

وقيل الآية نزلت في شهداء بدر وكانوا اربعة عشر وفيها دلالة على ان الارواح جواهر قائمة بأنفسها مغايرة لما يحس به من البدن تبقي بعد الموت دراكة وعليه جمهور الصحابة والتابعين رضوان اللّه تعالى عليهم اجمعين وبه نطقت الآيات والسنن وعلى هذا فتخصيص الشهداء بذلك لما يستدعيه مقام التحريض على مباشرة مبادي الشهادة ولاختصاصهم بمزيد القرب من اللّه عز وعلا

١٥٥

ولنبلونكم لنصيبنكم اصابة من يختبر احوالكم اتصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء

بشيء من الخوف والجوع أي بقليل من ذلك فإن ما وقاهم عنه اكثر بالنسبة الى ما أصابهم بألف مرة وكذا ما يصيب به معانديهم وانما اخبر به قبل الوقوع ليوطنوا عليه نفوسهم ويزداد يقينهم عند مشاهدتهم له حسبما اخبر به وليعلموا انه شيء يسير له عاقبة حميدة

ونقص من الأموال والأنفس والثمرات عطف على شيء

وقيل على الخوف وعن الشافعي رحمه اللّه الخوف خوف اللّه والجوع صوم رمضان ونقص من الأموال الزكاة والصدقات ومن الأنفس الأمراض ومن الثمرات موت الأولاد وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم إذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى للملائكة أقبضتم روح ولد عبدي فيقولون نعم فيقول عز و جل اقبضتم ثمرة قلبه فيقولون نعم فيقول اللّه تعالى ماذا قال عبدي فيقولون حمدك واسترجع فيقول اللّه عز وعلا ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد

وبشر الصابرين

١٥٦

الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا انا للّه وانا اليه راجعون الخطاب للرسول أو لكل من يتأتى منه البشارة والمصيبة ما يصيب الانسان من مكروه لقوله عليه السلام كل شيء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة وليس الصبر هو الاسترجاع باللسان بل بالقلب بأن يتصور ما خلق له وأنه راجع الى ربه ويتذكر نعم اللّه تعالى عليه ويرى أن ما ابقى عليه اضعاف ما استرده منه فيهون ذلك على نفسه ويستسلم والمبشر به محذوف دل عليه ما بعده

١٥٧

أولئك اشارة الى الصابرين باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت ومعنى البعد فيه للإيذان بعلو رتبتهم

عليهم صلوات من ربهم ورحمة الصلاة من اللّه سبحانه المغفرة والرأفة وجمعها للتنبيه على كثرتها وتنوعها والجمع بينهما وبين الرحمة للمبالغة كما في قوله تعالى رأفة ورحمة رءوف رحيم والتنوين فيهما للتفخيم والتعرض لعنوان الربوبية مع الاضافة الى ضميرهم لإظهار مزيد العناية بهم أي أولئك الموصوفون بما ذكر من النعوت الجليلة عليهم فنون الرأفة الفائضة من مالك أمورهم ومبلغهم الى كمالاتهم اللائقة بهم وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم من استرجع عند المصيبة جبر اللّه مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضاه

وأولئك اشارة اليهم اما بالاعتبار السابق والتكرير لإظهار كمال العناية بهم

وأما باعتبار حيازتهم لما ذكر من الصلوات والرحمة المترتب على الاعتبار الأول فعلى الأول المراد بالاهتداء في قوله عز و جل

هم المهتدون هو الاهتداء للحق والصواب مطلقا لا الاهتداء لما ذكر من الاسترجاع والاستسلام خاصة لما أنه متقدم عليهما فلا بد لتأخيره عما هو نتيجة لهما من داع يوجبه وليس بظاهر والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبله كأنه قيل وأولئك هم المختصون بالاهتداء لكل حق وصواب ولذلك استرجعوا واستسلموا لقضاء اللّه تعالى وعلى الثاني هو الاهتداء والفوز بالمطالب والمعنى أولئك هم الفائزون بمباغيهم الدينية والدنيوية فإن من نال رأفة اللّه تعالى ورحمته لم يفته مطلب

١٥٨

إن الصفاوالمروة علمان لجبلين بمكة المعظمة كالصمان والمقطم

من شعائر اللّه من أعلام مناسكه جمع شعيرة وهي العلامة

فمن حج البيت أو اعتمر الحج في اللغة القصد والاعتمار الزيارة غلبا في الشريعة على قصد البيت وزيارته على الوجهين المعروفين كالبيت والنجم في الأعيان وحيث أظهر البيت وجب تجريده عن التعلق به

فلا جناح عليه ان يطوف بهما أي في ان يطوف بهما اصله يتطوف قلبت التاء طاء فأدغمت الطاء في الطاء وفي ايراد صيغة التفعل ايذان بأن من حق الطائف ان يتكلف في الطواف ويبذل فيه جهده وهذا الطواف واجب عندنا والشافعي وعن مالك رحمهما اللّه أنه ركن وايراده بعدم الجناح المشعر بالتخيير لما أنه كان في عهد الجاهلية على الصفا صنم يقال له اساف وعلى المروة آخر اسمه نائلة وكانوا اذا سعوا بينهما مسحوا بهما فلما جاء الاسلام وكسر الأصنام تحرج المسلمون ان يطوفوا بينهما لذلك فنزلت

وقيل هو تطوع ويعضده قراءة ابن مسعود فلا جناح عليه ان لا يطوف بهما

ومن تطوع خيرا أي فعل طاعة فرضا كان أو نفلا أو زاد على ما فرض عليه من حج أو عمرة أو طواف وخيرا حينئذ نصب على انه صفة لمصدر محذوف أي تطوعا خيرا أو على حذف الجار وايصال الفعل اليه أو على تضمين معنى فعل وقرئ يطوع واصله يتطوع مثل يطوف وقرئ ومن يتطوع بخير

فإن اللّه شاكر أي مجاز على الطاعة عبر عن ذلك بالشكر مبالغة في الاحسان الى العباد

عليم مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم مقادير أعمالهم وكيفياتها فلا ينقص من أجورهم شيئا وهو علة لجواب الشرط قائم مقامه كأنه قيل ومن تطوع خيرا جازاه اللّه وأثابه فإن اللّه شاكر عليم

١٥٩

ان الذين يكتمون قيل نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا ما في التوراة من نعوت النبي وغير ذلك من الأحكام وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والسدي والربيع والاصم أنها نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى

وقيل نزلت في كل من كتم شيئا من احكام الدين لعموم الحكم للكل والأقرب هو الأول فإن عموم الحكم لا يأبى خصوص السبب والكتم والكتمان ترك إظهار الشيء قصدا مع مساس الحاجة اليه وتحقق الداعي الى اظهار وذلك قد يكون بمجرد ستره واخفائه وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر في موضعه وهو الذي فعله هؤلاء

ما أنزلنا من البينات من الآيات الواضحة الدالة على أمر محمد

والهدى أي والآيات الهادية الى كنه أمره ووجوب اتباعه والايمان به عبر عنها بالمصدر مبالغة ولم يجمع مراعاة للأصل وهي المرادة بالبينات أيضا والعطف لتغاير العنوان كما في قوله عز و جل هدى للناس وبينات الخ

وقيل المراد بالهدى الأدلة العقلية ويأباه الإنزال والكتم

من بعد ما بيناه للناس متعلق بيكتمون والمراد بالناس الكل لا الكاتمون فقط واللام متعلقة ببيناه وكذا الظرف في قوله تعالى

في الكتاب فإن تعلق جارين بفعل واحد عند اختلاف المعنى مما لا ريب في جوازه أو الأخير متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله أي كائنا في الكتاب وتبيينه لهم تلخيصه وايضاحه بحيث يتلقاه كل احد منهم من غير ان يكون له فيه شبهة وهذا عنوان مغاير لكونه بينا في نفسه وهدى مؤكد لقبح الكتم أو تفهيمه لهم بواسطة موسى عليه السلام والأول انسب بقوله تعالى في الكتاب والمراد بكتمه إزالته ووضع غيره في موضعه فإنهم محو انعته عليه الصلاة و السلام وكتبوا مكانه ما يخالفه كما ذكرناه في تفسير  قوله عز وعلا فويل للذين يكتبون الكتاب الخ

أولئك اشارة اليهم باعتبار ما وصفوا به للإشعار بعليته لما حاق بهم وما فيه من معنى البعد للإيذان بترامى أمرهم وبعد منزلتهم في الفساد

يلعنهم اللّه أي يطردهم ويبعدهم من رحمته والالتفات الى الغيبة بإظهار اسم الذات الجامع للصفات لتربية المهابة وادخال الروعة والاشعار بأن مبدأ صدور اللعن عنه سبحانه صفة الجلال المغايرة لما هو مبدأ الانزال والتبيين من وصف الجمال والرحمة

ويلعنهم اللاعنون أي الذين يتأتى منهم اللعن أي الدعاء عليهم باللعن من الملائكة ومؤمني الثقلين والمراد بيان دوام اللعن واستمراره وعليه يدور الاستثناء المتصل في قوله تعالى

١٦٠

إلا الذين تابوا أي عن الكتمان

واصلحوا أي ما افسدوا بأن ازالوا الكلام المحرف وكتبوا مكانه ما كانوا ازالوه عند التحريف

وبينوا للناس معانيه فإنه غير الاصلاح المذكور أو بينوا لهم ما وقع منهم اولا وآخرا فإنه أدخل في ارشاد الناس الى الحق وصرفهم عن طريق الضلال الذي كانوا أوقعوهم فيه أو بينوا توبتهم ليمحوا به سمة ما كانوا فيه ويقتدي بهم أضرابهم وحيث كانت هذه التوبة المقرونة بالإصلاح والتبيين مستلزمة للتوبة عن الكفر مبنية عليها لم يصرح بالإيمان وقوله تعالى

أولئك إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة للإشعار بعليته للحكم والفاء لتأكيد ذلك

اتوب عليهم أي بالقبول وإفاضة المغفرة والرحمة وقوله تعالى

وأنا التواب الرحيم أي المبالغ في قبول التوب ونشر الرحمة اعتراض تذييلي محقق لمضمون ما قبله والالتفات إلى التكلم للافتيان في النظم الكريم مع ما فيه من التلويح والرمز إلى ما مر من أختلاف المبدأ في فعليه تعالى السابق واللاحق

١٦١

إن الذين كفروا جملة مستانفة سيقت لتحقيق بقاء اللعن فيما وراء الأستثناء وتأكيد دوامه واستمراره على غير التائبين حسبما يفيده الكلام والأقتصار على ذكر الكفر في الصلة من غير تعرض لعدم التوبه والإصلاح والتبيين مبني على ما اشير إليه فكما أن وجود تلك الأمور الثلاثة مستلزم للأيمان الموجب لعدم الكفر كذلك وجود الكفر مستلزم لعدمها جميعا أي إن ذلك استمرار على الكفر المستتبع للكتمان وعدم التوبة

وماتوا وهم كفار لا يرعوون عن حالتهم الأولى

أولئك الكلام فيه كما فيما قبله

عليهم أي مستقر عليهم

لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين ممن يعتد بلعنتهم وهذا بيان لدوامها الثبوتي بعد بيان دوامها التجددي

وقيل الأول لعنتهم أحياء وهذا لعنتهم أمواتا وقرئ والملائكة والناس أجمعون عطفا على محل اسم اللّه لأنه فاعل في المعنى كقولك أعجبني ضرب زيد وعمرو تريد من أن ضرب زيد وعمر وكأنه قيل أولئك عليهم أن لعنهم اللّه والملائكة الخ

وقيل هو فاعل لفعل مقدر أي ويلعنهم الملائكة

خالدين فيها أي في اللعنه أو في النار على انها أضمرت من غير ذكر تفخيما لشأنها وتهويلا لأمرها

لا يخفف عنهم العذاب إما مستأنف لبيان كثرة عذابهم من حيث الكيف إثر بيان كثرته من حيث الكم أو حال من الضمير في خالدين على وجه التداخل أو من الضمير في عليهم على طريقة الترادف

ولا هم ينظرون عطف على ما قبله جار فيه ما جرى فيه وإيثار الجملة الاسمية لإفادة دوام النفى واستمراره أي لا يمهلون ولا يؤجلون أو لا ينتظرون ليعتذروا أو لا ينظر إليهم نظر رحمة

١٦٣

وإلهكم خطاب عام لكافة الناس أي المستحق منكم للعبادة

إله واحد أي فرد في الإلهيه لاصحة لتسمية غيره إلها أصلا

لا إله إلا هو خبر ثان للمبتدأ أو صفة أخرى للخبر أو اعتراض وأياما كان فهو مقرر للوحدانية ومزيح لما عسى يتوهم أن في الوجود إلها لكن لا يستحق العبادة

الرحمن الرحيم خبران آخران لمبتدأ محذوف وهو تقرير للتوحيد فإنه تعالى حيث كان موليا لجميع النعم أصولها وفروعها جليلها ودقيقها وكان ما سواه كائنا ما كان مفتقرا إليه في وجوده وما تتفرع عليه من كمالاته تحققت وحدانيته بلا ريب وانحصر استحقاق العبادة فيه تعالى قطعا قيل كان للمشركين حول الكعبة المكرمة ثلثمائة وستون صنما فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا أو قالوا إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك فنزلت

١٦٤

إن في خلق السموات والأرض أي في إبداعهما على ما هما عليه مع ما فيهما من التعاجيب العبر وبدائع صنائع يعجز عن فهمها عقول البشر وجمع السموات لما هو المشهور من أنها طبقات متخالفة الحقائق دون الأرض

واختلاف الليل والنهار أي اعتقابهما وكون كل منهما خلفا للآخر كقوله تعالى وهو الذي جعل اليل والنهار خلفة أو اختلاف كل منهما في أنفسهما ازديادا وانتقاصا على ما قدره اللّه تعالى

والفلك التي تجرى في البحر عطف على ما قبله وتأنيثه إما بتأويل السفينة أو بأنه جمع فإن ضمه الجمع مغايرة لضمه الواحد في التقدير إذا الأولى كما في حمر والثانية كما في قفل وقرئ بضم اللام

بما ينفع الناس أي متلبسه بالذي ينفعهم مما يحمل فيها من أنواع المنافع أو بنفعهم

وما أنزل اللّه من السماء من ماء عطف على الفلك وتأخيره عن ذكرها مع كونه أعم منها نفعا لما فيه من مزيد تفصيل

وقيل المقصود الاستدلال بالبحر وأحواله وتخصيص الفلك بالذكر لأنه سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه ولذلك قدم على ذكر المطر والسحاب لأن منشأهما البحر في غالب الأمر ومن الأولى ابتدائية والثانية بيانية أو تبيعضية وأياما كان فتأخيرها لما مر مرارا من التشويق والمراد بالسماء الفلك أو السحاب أو جهة العلو

فاحيا به الأرض بأنواع النبات والأزهار وما عليها من الأشجار

بعد موتها باستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعتها كما يوزن به إيراد الموت في مقابلة الإحياء

وبث فيها أي فرق ونشر

من كل دابة من العقلاء وغيرهم والجملة معطوفة على أنزل داخلة تحت حكم الصلة وقوله تعالى فأحيا الخ متصل بالمعطوف عليه بحيث كانا في حكم شئ واحد كأنه قيل وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها الخ أو على أحيا بحذف الجار والمجرور العائد إلى الموصول وإن لم يتحقق الشرائط المعهودة كما قي قوله

 ... وإن لساني شهدة يشتفى بها ... ولكن على من صبه اللّه علقم

 ... أي علقم عليه وقوله ... لعل الذي أصعدتنى أن يردني

... إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادرة ...

على معنى فأحيا بالماء الأرض وبث فيها من كل دابة فانهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحيا

وتصريف الرياح عطف على ماأنزل أي تقليبها من مهب إلى آخر أومن حال إلى أخرى وقرئ على الإفراد

والسحاب عطف على تصريف أو الرياح وهو اسم جنس واحده سحابة سمى بذلك لانسحابه في الجو

المسخر بين السماء والأرض صفة للسحاب باعتبار لفظه وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع كما في قوله تعالى سحابا ثقالا وتسخيره تقليبه في الجو بواسطة الرياح حسبما تقتضيه مشيئة اللّه تعالى ولعل تأخير تصريف الرياح وتسخير السحاب في الذكر عن جريان الفلك وإنزال الماء مع انعكاس الترتيب الخارجي لما مر في قصة البقرة من الإشعار باستقلال كل من الأمور المعدودة في كونها آية ولو روعى الترتيب الخارجي لربما توهم كون المجموع المترتب بعضه على بعض آية واحدة

لآيات اسم إن دخلته اللام لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كما وكيفا أي آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة والحكمة الباهرة والرحمة الواسعة المقتضية لاختصاص الألوهية به سبحانه

لقوم يعقلون أي يتفكرون فيها وينظرون إليها بعيون العقول وفيه تعريض بجهل المشركين الذين اقترحوا على النبي آية تصدقه في قوله تعالى والهكم إله واحد وتسجيل عليهم بسخافة العقول والا فمن تأمل في تلك الايات وجد كلا منها ناطقة بوجوده تعالى ووحدانيته وسائر صفاته الكمالية الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى واستغنى بها عن سائرها فإن كل واحد من الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنةدون ما عداه مستتبعا لآثار معينة وأحكام مخصوصة من غير أن تقتضى ذاته وجوده فضلا عن وجوده على نمط معين مستتبع لحكم مستقل فإذن لا بدله حتما من موجد قادر حكيم يوجده حسبما تقتضيه حكمته وتستدعيه مشيئته متعال عن معارضة الغير إذ لو كان معه آخر يقدر على ما يقدر عليه لزم إما اجتماع المؤثرين على أثر واحد أو التمانع المؤدى إلى فساد العالم

١٦٥

ومن الناس من يتخذ من دون اللّه بيان لكمال ركاكة آراء المشركين أثر تقرير وحدانيته سبحانه وتحرير الايات الباهرة الملجئة للعقلاء إلى الاعتراف بها الفائضة باستحالة أن يشاركه شئ من الموجودات في صفة من صفات الكمال فضلا عن المشاركة في صفة الألوهية والكلام في إعرابه كما فصل في قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا باللّه وباليوم الآخر الخ ومن دون اللّه متعلق بيتخذ أي من الناس من يتخذ من دون ذلك الإله الواحد الذي ذكرت شئونه الجليلة وإيثار الاسم الجليل لتعيينه تعالى بالذات غب تعيينه بالصفات

أندادا أي أمثالا وهم رؤساؤهم الذين يتبعونهم فيما يأتون وما يذرون لاسيما في الأوامر والنواهي كما يفصح عنه ماسيأتى من وصفهم بالتبرى من المتبعين

وقيل هي الأصنام وإرجاع ضمير العقلاء إليها في  قوله عز وعلا

يحبونهم مبنى على آرائهم الباطلة في شانها من وصفهم بمالا يوصف به الا العقلاء والمحبة ميل القلب من الحب استعير لحبة القلب ثم اشتق منه الحب لأنه أصابها ورسخ فيها والفعل منها حب على حدمد لكن الاستعمال المستفيض على أحب حبا ومحبة فهو محب وذاك محبوب ومحب قليل وحاب أقل منه ومحبة العبد للّه سبحانه إرادة طاعته في أوامره ونواهيه والاعتناء بتحصيل مراضيه فمعنى يحبونهم يطيعونهم ويعظمونهم والجملة في حيز النصب إما صفة لأندادا أو حالا من فاعل يتخذ وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن إفراده باعتبار لفظها

كحب اللّه مصدر تشبيهي أي نعت لمصدر مؤكد للفعل السابق ومن قضية كونه مبنيا للفاعل كونه أيضا كذلك والظاهر اتحاد فاعلهما فإنهم كانوا يقرون به تعالى أيضا ويتقربون إليه فالمعنى يحبونهم حبا كائنا كحبهم للّه تعالى أي يسوون بينه تعالى وبينهم في الطاعة والتعظيم

وقيل فاعل الحب المذكور هم

المؤمنون فالمعنى حبا كائنا كحب المؤمنين له تعالى فلا بد من اعتبار المشابهة بينهما في أصل الحب لا في وصفه كما أو كيفا لما سيأتي من التفاوت البين

وقيل هو مصدر من المبنى للمفعول أي كما يحب اللّه تعالى ويعظم وإنما استغنى عن ذكر من يحبه لأنه غير ملبس وأنت خبير بأنه لا مشابهة بين محبيتهم لأندادهم وبين محبوبيته تعالى فالمصير حينئذ ما اسلفناه في تفسير قوله عز قائلا كما سئل موسى من قبل وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار لتربية المهابة وتفخيم المضاف وإبانة كمال قبح ما ارتكبوه

والذين آمنوا اشد حبا للّه جملة مبتدأة جئ بها توطئة لما يعقبها من بيان رخاوة حبهم وكونه حسرة عليهم والمفضل عليه محذوف أي المؤمنين أشد حبا له تعالى منهم لأندادهم ومآله ان حب اولئك له تعالى أشد من حب هؤلاء لأندادهم فيه من الدلالة على كون الحب مصدرا من المبنى للفاعل مالا يخفى وإنما لم يجعل المفضل عليه حبهم للّه تعالى لما أن المقصود بيان انقطاعه وانقلابه بغضا وذلك إنما يتصور في حبهم لأندادهم لكونه منوطا بمبان فاسدة ومباد موهومة يزول بزوالها قيل ولذلك كانوا يعدلون عنها عند الشدائد الى اللّه سبحانه وكانوا يعبدون صنما أياما فإذا وجدوا آخر رفضوه إليه وقد اكلت باهله إلهها عام المجاعة وكان من حيس وأنت خبير بأن مدار ذلك اعتبار اختلال حبهم لها في الدنيا وليس الكلام فيه بل في انقطاعه في الآخرة عند ظهور حقيقة الحال ومعاينة الاهوال كما سيأتي بل اعتباره مخل بما يقتضيه مقام المبالغة في بيان كمال قبح ما ارتكبوه وغاية عظم ما اقترفوه وإيثار الإظهار في موضع الإضمار لتفخيم الحب والإشعار بعلته

ولو يرى الذين ظلموا أي باتخاذ الأنداد ووضعها موضع المعبود

إذ يرون العذاب المعد لهم يوم القيامة أي لو علموا اذا عاينوه وإنما أوثر صيغة المستقبل لجريانها مجرى الماضي في الدلالة على التحقيق في إخبار علام الغيوب

أن القوة للّه جميعا ساد مسد مفعولي يرى

وأن اللّه شديد العذاب عطف عليه وفائدته المبالغة في تهويل الخطب وتفظيع الأمر فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه وجواب لو محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان إما لعدم الإحاطة بكنهه

وأما لضيق العبارة عنه

وأما لإيجاب ذكره مالا يستطيعه المعبر أو المستمع من الضجر والتفجع عليه أي لو علموا اذ راوا العذاب قد حل بهم ولم ينقذهم منه احد من اندادهم ان القوة للّه جميعا ولا دخل لاحد في شئ اصلا لوقعوا من الحسرة والندم فيما لا يكاد يوصف وقرئ ولو ترى بالتاء الفوقانية على ان الخطاب للرسول أو لكل احد ممن يصلح للخطاب فالجواب حينئذ لرأيت امرا لا يوصف من الهول والفظاعة وقرئ اذ يرون على البناء للمفعول

وأن اللّه شديد العذاب على الاستئناف وإضمار القول

١٦٦

إذ تبرأ الذين اتبعوا بدل من اذ يرون أي اذ تبرأ الرؤساء

من الذين اتبعوا من الاتباع بأن اعترفوا ببطلان ما كانوا يدعونه في الدنيا ويدعونهم اليه من فنون الكفر والضلال واعتزلوا عن مخالطتهم وقابلوهم باللعن كقول ابليس اني كفرت بما اشر كتموني من قبل وقرئ بالعكس أي تبرأ الاتباع من الرؤساء والواو في قوله عز و جل

ورأواالعذاب حالية وقد مضمرة

وقيل عاطفة على تبرأ والضمير في رأوا للموصوفين جميعا

وتقطعت بهم الاسباب والوصل التي كانت بينهم من التبعية والمتبوعية والاتفاق على الملة الزائغة والاغراض الداعية الى ذلك واصل السبب الحبل الذي يرتقى به الشجر ونحوه معطوفة على تبرأ وتوسيط الحال بينهما للتنبيه على علة التبرى وقد جوز عطفها على الجملة الحالية

١٦٧

وقال الذين اتبعوا حين عاينوا تبرؤ الرؤساء منهم وندموا على ما فعلوا من اتباعهم لهم في الدنيا

لو ان لنا كرة أي ليت لنا رجعة الى الدنيا

فنتبرأ منهم هناك

كما تبرءوا منا اليوم

كذلك اشارة الى مصدر الفعل الذي بعده لا الى شئ آخر مفهوم مما سبق وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المشار اليه وبعد منزلته مع كمال تميزه عما عداه وانتظامه في سلك الامور المشاهدة والكاف مقحمة لتأكيد ما افاده اسم الإشارة من الفخامة ومحله النصب على المصدرية أي ذلك الإراء الفظيع

يريهم اللّه اعمالهم حسرات عليهم أي ندامات شديدة فإن الحسرة شدة الندم والكمد وهي تألم القلب وانحساره عما يؤلمه واشتقاقها من قولهم بعير حسير أي منقطع القوة وهي ثالث مفاعيل يرى ان كان من رؤية القلب والا فهي حال والمعنى أن اعمالهم تنقلب حسرات عليهم فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم

 وما هم بخارجين من النار كلام مستأنف لبيان حالهم بعد دخولهم النار والاصل وما يخرجون والعدول الى الاسمية لإفادة دوام نفي الخروج والضمير للدلالة على قوة أمرهم فيما اسند اليهم كما في قوله

 ... هم يفرشون اللبد كل طمرة ... واجرد سباق يبذ المغاليا ...

١٦٨

يأيها الناس كلوا مما في الارض أي بعض ما فيها من اصناف المأكولات التي من جملتها ما حرمتموه افتراء على اللّه من الحرث والانعام قال ابن عباس رضي اللّه عنهما نزلت في قوم من ثقيف وبني عامر بن صعصعه وخزاعة وبني مدلج حرموا على انفسهم ما حرموه من الحرث والبحائر والسوائب والوصائل والحام وقوله تعالى

حلالا حال من الموصول أي كلوه حال كونه حلالا أو مفعول لكلوا على أن من ابتدائية وقد جوز كونه صفة لمصدر مؤكد أي اكلا حلالا ويؤيد الأولين قوله تعالى

طيبا فإنه صفة له ووصف الاكل به غير معتاد

وقيل نزلت في قوم من المؤمنين حرموا على انفسهم رفيع الأطعمة والملابس ويرده قوله عز و جل

ولا تتبعوا خطوات الشيطان أي لا تقتدوا بها في اتباع الهوى فإنه صريح في أن الخطاب للكفرة كيف لا وتحريم الحلال على نفسه تزهدا ليس من باب اتباع خطوات الشيطان فضلا عن كونه تقولا وافتراء على اللّه تعالى وإنما نزل فيهم ما في سورة المائدة من قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما احل اللّه لكم الآية وقرئ خطوات بسكون الطاء وهما لغتان في جمع خطوة وهي ما بين قدمى الخاطى وقرئ بضمتين وهمزة جعلت الضمة على الطاء كانها على الواو وبفتحتين على أنها جمع خطوة وهي المرة من الخطو

إنه لكم عدو مبين تعليل للنهي أي ظاهر العدواة عند ذوي البصيرة وإن كان يظهر الولاية لمن يغويه ولذلك سمى وليا في قوله تعالى أولياؤهم الطاغوت

١٦٩

إنما يأمركم بالسوء والفحشاء استئناف لبيان كيفية عداوته وتفصيل لفنون شره وإفساده وانحصار معاملته معهم في ذلك والسوء في الاصل مصدر ساءه يسوؤه سوءا ومساءة إذا أحزنه يطلق على جميع المعاصي سواء كانت من أعمال الجوارح أو أفعال القلوب لاشتراك كلها في انها تسوء صاحبها والفحشاء اقبح انواعها وأعظمها مساءة

وأن تقولوا على اللّه مالا تعلمون عطف على الفحشاء أي وبأن تفتروا على اللّه بأنه حرم هذا وذاك ومعنى مالا تعلمون مالا تعلمون ان اللّه تعالى أمر به وتعليق أمره بتقولهم على اللّه تعالى مالا يعلمون وقوعه منه تعالى لا بتقولهم عليه ما يعلمون عدم وقوعه منه تعالى مع أن حالهم ذلك للمبالغة في الزجر فإن التحذير من الأول مع كونه في القبح والشناعة دون الثاني تحذير عن الثاني على ابلغ وجه وآكده وللإيذان بأن العاقل يجب عليه أن لا يقول على اللّه تعالى مالا يعلم وقوعه منه تعالى مع الاحتمال فضلا عن أن يقول عليه ما يعلم عدم وقوعه منه تعالى قالوا وفيه دليل على المنع من اتباع الظن رأسا

وأما اتباع المجتهد لما ادى اليه ظنه فمستند الى مدرك شرعي فوجوبه قطعي والظن في طريقة

١٧٠

وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل اللّه التفات الى الغيبة تسجيلا بكمال ضلالهم وإيذانا بإيجاب تعداد ما ذكر من جناياتهم لصرف الخطاب عنهم وتوجيهه الى العقلاء وتفصيل مساوى احوالهم لهم على نهج المباثة أي اذا قيل لهم على وجه النصيحة والإرشاد اتبعوا كتاب اللّه الذي انزله

قالوا لا نتبعه

بل نتبع ما الفينا عليه آباءنا أي وجدناهم عليه إما على ان الظرف متعلق بمحذوف وقع حالا من آباءنا والفينا متعد الى واحد

وأما على انه مفعول ثان له مقدم على الأول نزلت في المشركين أمروا باتباع القرآن وسائر ما انزل اللّه تعالى من الحجج الظاهرة والبينات الباهرة فجنحوا للتقليد والموصول إما عبارة عما سبق من اتخاذ الأنداد وتحريم الطيبات ونحو ذلك

وأما باق على عمومه وما ذكره داخل فيه دخولا اوليا

وقيل نزلت في طائفة من اليهود دعاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا لأنهم كانوا خيرا منا واعلم فعلى هذا يعم ما انزل اللّه تعالى التوراة لأنها ايضا تدعو الى الإسلام وقوله عز و جل

أو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون استئناف مسوق من جهته تعالى ردا لمقالتهم الحمقاء وإظهارا لبطلان آرائهم والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والتعجيب منه لا لإنكار الوقوع كالتى في قوله تعالى أولو كنا كارهين وكلمة لو في أمثال هذا المقام ليست لبيان انتفاء الشئ في الزمان الماضي لانتفاء غيره فيه فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ثقة بدلالة ما قبلها عليه بل هي لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق بالذات أو بالواسطة من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له علىالإجمال بإدخالها علىأبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو انتفاؤه مع ماعداه من الأحوال بطريق الأولية لما أن الشئ متى تحقق مع المنافى القوى فلأن يتحقق مع غيره أولى ولذلك لا يذكر معه شئ من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفة للجملة على نظيرتها المقابلة لها المتناولة لجميع الأحوال المغايرة لها وهذا معنى قولهم إنها لاستقصاء الأحوال على سبيل الإجمال وهذا المعنى ظاهر في الخبر الموجب والمنفى والأمر والنهى كما في قولك فلان جواد يعطى ولو كان فقيرا وبخيل لا يعطى ولو كان غنيا وقولك أحسن إليه ولو أساء إليك ولا تهنه ولو أهانك لبقائه على حاله

وأما فيما نحن فيه نوع خفاء ناشئ من ورود الإنكار عليه لكن الأصل في الكل واحد إلا أن كلمة لو في الصور المذكورة متعلقة بنفس الفعل المذكور قبلها وأن ما يقصد بيان تحققه على كل حال هو نفس مدلوله وأن الجملة حال من ضميره أو مما يتعلق به وأن ما في حيز لو باق على ما هو عليه من الاستبعاد غالبا بخلاف ما نحن فيه لما أن كلمة لو متعلقة فيه بفعل مقدر يقتضيه المذكور وأن ما يقصد بيان تحققه على كل حال مدلوله لا مدلول المذكور من حيث هو مدلولة وأن الجملة حال مما يتعلق به لا مما يتعلق بالمذكور من حيث هو متعلق به وأن المقصود الأصلى إنكار مدلوله باعتبار مقارنته للحالة المذكورة

وأما تقدير مقارنته لغيرها فلتوسيع الدائرة وإن ما في حيز لو لا يقصد استبعاده في نفسه بل يقصد الإشعار بانه أمر محقق إلا أنه أخرج مخرج الاستبعاد معاملة مع المخاطبين على معتقدهم لئلا يلبسوا من التصريح بنسبة آبائهم إلى كمال الجهالة والضلالة جلد النمر فيركبوا متن العناد ومبالغة في الإنكار من جهة اتباعهم لآبائهم حيث كان منكرا مستقبحا عند احتمال كون آبائهم كما ذكر احتمالا بعيدا فلان يكون منكرا عند تحقق ذلك أولى والتقدير أيتبعون ذلك لو لم يكن آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدين ولا يهتدون للصواب ولو كانوا كذلك فالجملة في حيز النصب على الحالية من آبائهم على طريقة قوله تعالى أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا كأنه قيل أيتبعون دين آبائهم حال كونهم غافلين وجاهلين ضالين إنكارا لما أفاده كلامهم من الاتباع على أي حالة كانت من الحالتين غير أنه اكتفى بذكر الحالة الثانية تنبيها على أنها هي الواقعة في نفس الأمر وتعويلا على اقتضائها للحالة الأولى اقتضاء بينا فإن اتباعهم الذي تعلق به الإنكار حيث تحقق مع كونه آبائهم جاهلين ضالين فلأن يتحقق مع كونهم عاقلين ومهتدين أولى أن قلت الإنكار المستفاد من الاستفهام الإنكاري بمنزلة النفى ولا ريب في أن الأولوية في صورة النفي معتبرة بالنسبة إلى النفي ألا يرى أن الأولى بالتحقق فيما ذكر من مثال النفي عند الحالة المسكوت عنها أعنى عدم الغني هو عدم الإعطاء لا نفسه فكان ينبغي أن يكون الأولى بالتحقق فيما نحن فيه عند الحالة المسكوت عنها وهي حالة كون آبائهم عاقلين ومهتدين إنكار الا تباع لا نفسه إذ هو الذي يدل عليه أيتبعون ا الخ فلم اختلفت الحال بينهما قلت لما أن مناط الأولوية هو الحكم الذي أريد بيان تحققه على كل حال وذلك في مثال النفى عدم الإعطاء المستفاد من الفعل المنفى المذكور

وأما فيما نحن فيه فهو نفس الاتباع المستفاد من الفعل المقدر إذ هو الذي يقتضيه الكلام السابق أعنى قولهم بل نتبع الخ

وأما الاستفهام فخارج عنه وارد عليه الإنكار ما يفيده واستقباح ما يقتضيه لا أنه تمامه كما في الصورة النفى وكذا الحال فيما إذا كانت الهمزة لإنكار الوقوع ونفيه مع كونه بمنزلة صريح النفى كما سيأتى تحقيقة في قوله تعالى أولو كنا كارهين

وقيل الواو حالية ولكن التحقيق أن المعنى يدور على معنى العطف في سائر اللغات أيضا

١٧١

ومثل الذين كفروا جملة ابتدائية واردة لتقرير ما قبلها بطريق التصوير وفيها مضاف قد حذف لدلالة مثل عليه ووضع الموصول موضع الضمير الراجع إلى ما يرجع إليه الضمائر السابقة لذمهم بما في حيز الصلة وللإشعار بعلة ما اثبت لهم من الحكم والتقدير مثل ذلك القائل وحاله الحقيقة لغرابتها بأن تسمى مثلا وتسير في الآفاق فيما ذكر من دعوته إياهم إلى اتباع الحق وعدم رفعهم إليه رأسا لأنهماكهم في التقليد وإخلادهم إلى ماهم عليه من الضلالة وعدم فهمهم من جهة الداعى إلى الدعاء من غير أن يلقوا أذهانهم إلى ما يلقى عليهم

كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء من البهائم فإنها لا تسمع إلا صوت الراعى وهتفه بها من غير فهم لكلامه أصلا

وقيل إنما حذف المضاف من الموصول الثاني لدلالة كلمة ما عليه فإنها عبارة عنه مشعرة مع ما في حيز الصلة بما هو مدار التمثيل أي مثل الذين كفروا فيما ذكر من أنهماكهم فيما هم فيه وعدم التدبر فيما ألقى إليهم من الآيات كمثل بهائم الذي ينعق بها وهي لا تسمع منه إلا جرس النغمة ودوى الصوت

وقيل المراد تمثيلهم في اتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته

وقيل تمثيلهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه وهو تصويته على البهائم وهذا غنى عن الإضمار لكن لا يساعده قوله إلا دعاء ونداء فإن الأصنام بمعزل من ذلك وقد عرفت أن حسن التمثيل فيما إذا تشابه أفراد الطرفين

صم بكم عمى بالرفع على الذم أي هم صم الخ

فهم لا يعقلون شيئا لأن طريق التعقل هو التدبر في مبادى الأمور المعقولة والتأمل في ترتيبها وذلك أنما يحصل باستماع آيات اللّه ومشاهدة حججه الواضحة والمفاوضة مع من يؤخذ منه العلوم فإذا كانوا صما بكما عميا فقد انسد عليهم أبواب التعقل وطرق الفهم بالكلية

١٧٢

يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم أي مستلذاته

واشكروا اللّه الذي رزقكموها والالتفات لتربية المهابة

ان كنتم اياه تعبدون فإن عبادته تعالى لاتتم الا بالشكر له وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول اللّه عز و جل اني والانس والجن في نبأ عظيم اخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري

١٧٣

انما حرم عليكم الميتة أي اكلها والانتفاع بها وهي التي ماتت على غير ذكاة والسمك والجراد خارجان عنها بالعرف أو استثناء الشرع وخرج الطحال من الدم

والدم ولحم الخنزير انما خص لحمه مع ان سائر أجزائه أيضا في حكمه لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه بمنزلة التابع له

وما أهل به لغير اللّه أي رافع به الصوت عند ذبحه للصنم والإهلال أصله رؤية الهلال لكن لما جرت العادة برفع الصوت بالتكبير عندها سمى ذلك إهلالا ثم قيل لرفع الصوت وان كان لغيره

فمن اضطر غير باع بالاستثناء على مضطر آخر

ولا عاد سد الرمق والجوعة

وقيل غير باغ على الوالي ولاعاد بقطع الطريق وعلى هذا لايباح للعاصي بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول أحمد رحمهما اللّه

فلا اثم عليه في تناوله

ان اللّه غفور لما فعل

رحيم بالرخصة ان قيل كلمة انما تفيد قصر الحكم على ما ذكروكم من حرام لم يذكر قلنا المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقا أو قصر حرمته على حالة الاختيار كأنه قيل انما حرم عليكم هذه الأشياء مالم تضطروا اليها

١٧٤

إن الذين يكتمون ما أنزل اللّه من الكتاب المشتمل على فنون الأحكام التي من جملتها أحكام المحللات والمحرمات حسبما ذكر آنفا وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما نزلت في رؤساء اليهود حين كتموا نعت النبي

ويشترون به أي يأخذون بدله

ثمنا قليلا عوضا حقيرا وقد مر سر التعبير عن ذلك الثمن الذي هو وسيلة في عقود المعاوضة وقوله تعالى

أولئك اشارة الى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الوصفين الشنيعين المميزين لهم عمن عداهم اكمل تمييز الجاعلين اياهم بحيث كأنهم حضار مشاهدون على ماهم عليه وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية بعد منزلتهم في الشر والفساد وهو مبتدأ خبره قوله تعالى

ما يأكلون في بطونهم الا النار والجملة خبر لأن أو اسم الاشارة مبتدأ ثان أو بدل من الأول والخبر ما يأكلون الخ ومعنى أكلهم النار أنهم يأكلون في الحال ما يستتبع النار ويستلزمها فكأنه عين النار وأكله أكلها كقوله

 ... اكلت دما ان لم ارعك بضرة ... بعيدة مهوي القرط طيبة النشر ...

أو يأكلون في المآل يوم القيامة عين النار عقوبة على اكلهم الرشا في الدنيا وفي بطونهم متعلق بيأكلون وفائدته تأكيد الأكل وتقريره ببيان مقر المأكول

وقيل معناه ملء بطونهم كما في قولهم أكل في بطنه وأكل في بعض بطنه ومنه كلوا في بعض بطنكم تعفوا فلا بد من الالتجاء الى تعليقه بمحذوف وقع حالا مقدرة من النار مع تقديمه على حرف الاستثناء وإلا فتعليقه بيأكلون يؤدي الى قصر ما يأكلونه الى الشبع على النار والمقصود قصر ما يأكلونه مطلقا عليها

ولا يكلمهم اللّه يوم القيامة عبارة عن غضبة العظيم عليهم وتعريض بحر مانهم ما اتيح للمؤمنين من فنون الكرامات السنية والزلفى

ولا يزكيهم لايثنى عليهم

ولهم مع ما ذكر

عذاب أليم مؤلم

١٧٥

اولئك إشارة إلى ما أشير إليه بنظيره بالاعتبار المذكور خاصة لا مع ما يتلوه من أحوالهم الفظيعة إذ لا دخل لها في الحكم الذي يراد إثباته ههنا فإن المقصود تصوير ما باشروه من المعاملة بصورة فبيحة تنفر منها الطباع ولا يتعاطاها عاقل اصلا ببيان حقيقة ما نبذوه وإظهار كنه ما أخذوه وإبداء فظاعة تبعاته وهو مبتدأ خبره الموصول أي أولئك المشترون بكتاب اللّه عز و جل ثمنا قليلا ليسوا بمشترين للثمن وإن قل بل هم

الذين اشتروا بالنسبة إلى الدنيا

الضلالة التي ليست مما يمكن أن يشتري قطعا

بالهدى الذي ليس من قبيل ما يبذل بمقابلة شئ وإن جل

والعذاب أي اشتروا إلى الآخرة العذاب الذي لا يتوهم كونه مما يشتري

بالمغفرة التي يتنافس فيها المتنافسون

فما اصبرهم على النار تعجيب من حالهم الهائلة التي هي ملابستهم بما يوجب النار إيجابا قطعيا كأنه عينها وما عند سيبويه نكره تامة مفيدة لمعنى التعجب مرفوعة بالابتداء وتخصصها كتخصص شر في أهر ذا ناب خبرها ما بعدها أي شئ ما عظيم جعلهم صابرين على النار وعند الفراء استفهامية وما بعدها خبرها أي أي شئ اصبرهم على النار

وقيل هي موصولة

وقيل موصوفة بما بعدها والخبر محذوف أي الذي اصبرهم على النار أو شئ اصبرهم على النار أمر عجيب فظيع

١٧٦

ذلك العذاب

بأن اللّه نزل الكتاب أي جنس الكتاب

بالحق أي ملتبسا به فلا جرم يكون من يرفضه بالتكذيب والكتمان ويركب متن الجهل والغواية مبتلي بمثل هذا من أفانين العذاب

وأن الذين اختلفوا في الكتاب أي في جنس الكتاب الإلهى بان آمنوا ببعض كتب اللّه تعالى وكفروا ببعضها أو في التوراة بأن آمنوا ببعض آياتها وكفروا ببعض كالآيات المغيرة المشتملة على أمر بعثه النبي ونعوته الكريمة فمعنى الاختلاف التخلف عن الطريق الحق أو الاختلاف في تأويلها أو في القرآن بأن قال بعضهم أنه سحر وبعضهم أنه شعر وبعضهم أساطير الأولين كما حكى عن المفسرين

لفى شقاق بعيد عن الحق والصواب مستوجب لأشد العذاب

١٧٧

ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب

البر اسم جامع لمراضى الخصال والخطاب لأهل الكتابين فإنهم كانوا أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حولت إلى الكعبة وكان كل فريق يدعى خيرية التوجه إلى قبلته من القطرين المذكورين وتقديم المشرق على المغرب مع تأخر زمان الملة النصرانية إما لرعاية ما بينهما من الترتيب المتفرع على ترتيب الشروق والغروب

وأما لأن توجه اليهود إلى المغرب ليس لكونه مغربا بل لكون بيت المقدس من المدينة المنورة واقعا في جانب الغرب فقيل لهم ليس البر ما ذكرتم من التوجه إلى تينك الجهتين على أن البر خبر ليس مقدما على اسمها كما في قوله

 ... سلى أن جهلت الناس عنى وعنهم ... فليس سواء عالم وجهول ...

وقوله

 ... اليس عظيما أن تلم ملمة ... وليس علينا في الخطوب مقول ...

وإنما أخر ذلك أن المصدر المؤول أعرف من المحلى باللام لأنه يشبه الضمير من حيث أنه لا يوصف ولا يوصف به والأعرف أحق بالاسمية ولأن في الاسم طولا فلو روعى الترتيب المعهود لفات تجاوب أطراف النظم الكريم وقرئ برفع البر على أنه اسمها وهو اقوى بحسب المعنى لأن كل فريق يدعى أن البر هذا فيجب أن يكون الرد موافقا لدعواهم وما ذلك إلا بكون البر اسما كما يفصح عنه جعله مخبرا عنه في الاستدراك بقوله عز و جل

ولكن البر من آمن باللّه وهو تحقيق للحق بعد بيان بطلان الباطل وتفصيل لخصال البر مما لا يختلف باختلاف الشرائع وما يختلف باختلافها أي ولكن البر المعهود الذي يحق أن يهتم بشأنه ويجد في تحصيله بر من آمن باللّه وحده إيمانا بريئا من شائبة الإشراك لا كإيمان اليهود والنصارى والمشركين بقولهم عزيز ابن اللّه وقولهم المسيح ابن اللّه

واليوم الآخر أي على ما هو عليه لا كما يزعمون من أن النار لاتمسهم إلا أياما معدودة وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ففيه تعريض بان إيمان أهل الكتابين حيث لم يكن كما ذكر من الوجه الصحيح لم يكن إيمانا وفي تعليق البر بهما من أول الأمر عقيب نفيه عن التوجه إلى المشرق والمغرب من الجزالة مالا يخفى كأنه قيل ولكن البر هو التوجه إلى المبدأ والمعاد اللذين هما المشرق والمغرب في الحقيقة

والملائكة أي وآمن بهم وبأنهم عباد مكرمون متوسطون بينه تعالى وبين انبيائه بإلقاء الوحى وإنزال الكتب

والكتاب أي بجنس الكتاب الذي من افراده الفرقان الذي نبذوه وراء ظهورهم وفيه تعريض بكتمانهم نعوت النبي واشترائهم بما انزل اللّه تعالى ثمنا قليلا

والنبيين جميعا من غير تفرقة بين احد منهم كما فعل اهل الكتابين ووجه توسيط الكتاب بين حملة الوحى وبين النبيين واضح وسيأتي في قوله تعالى كل آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله

وآتي المال على حبه حال من الضمير في آتي والضمير المجرور للمال أي آتاه كائنا على حب المال في قوله حين سئل أي الصدقة افضل لان تؤتيه وانت صحيح شحيح وقول ابن مسعود رضي اللّه عنه أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ولا تمهل حتى اذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا

وقيل الضمير للّه تعالى أي آتاه كائنا على محبته تعالى لا على قصد الشر والفساد ففيه نوع تعريض لباذلي الرشي وآخذيها لتغيير التوارة

وقيل للمصدر أي كائنا على حب الإيتاء

ذوى القربى مفعول اول لآتي قدم عليه مفعوله الثاني أعنى المال للاهتمام به أو لأن في الثاني مع ما عطف عليه طولا لو روعى الترتيب لفات تجاوب الأطراف في الكلام وهو الذي اقتضى تقديم الحال أيضا

وقيل هو المفعول الثاني

واليتامى أي المحاويج منهم على ما يدل عليه الحال وتقديم ذوى القربى عليهم لما أن إيتاءهم صدقة وصلة

والمساكين جمع مسكين وهو الدائم السكون لما أن الخلة أسكنته بحيث لا حراك به أو دائم السكون إلى الناس

وابن السبيل أي المسافر سمى به لملازمته إياه كما سمى القاطع ابنالطريق

وقيل الضيف

والسائلين الذين ألجأتهم الحاجة والضرورة إلى السؤال قال عليه الصلاة و السلام أعطوا السائل ولو على فرس

وفي الرقاب أي وضعه في فك الرقاب بمعاونه المكاتبين حتى يفكوا رقابهم

وقيل في فك الأسارى

وقيل في ابتياع الرقاب وإعتاقها واياما كان فالعدول عن ذكرهم بعنوان مصحح للمالكية كالذين من قبلهم إما للإيذان بعدم قرار ملكهم فيما أوتوا كما في الوجهين الأولين أو بعدم ثبوته رأسا كما في الوجه الأخير

وأما للإشعار برسوخهم في الاستحقاق والحاجة لما أن في للظرفية المنبئة عن محليتهم لما يؤتى

وأقام الصلاة أي المفروضة منها

وآتى الزكاة أي المفروضة على أن المراد بما مر من إيتاء المال التنفل بالصدقات قدم على الفريضة مبالغة في الحث عليه أو المراد بهما المفروضة والأول لبيان المصارف والثاني لبيان وجوب الأداء

والوفون بعهدهم عطف على من آمن فإنه في قوة أن يقال ومن أوفوا بعهدهم وإيثار صيغة الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء والمراد بالعهد مالا يحرم حلالا ولا يحلل حراما من العهود الجارية فيما بين الناس وقوله تعالى

إذا عاهدوا للإيذان بعدم كونه من ضروريات الدين

والصابرين نصب على الاختصاص غير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر وميزيته وهو في الحقيقة معطوف على ما قبله قال أبو علي إذا ذكرت صفات للمدح أو للذم فخولف في بعضها الإعراب فقد خولف للافتنان ويسمى ذلك قطعا لأن تغيير المألوف يدل على زيادة ترغيب في استماع المذكور ومزيد اهتمام بشأنه كما مر في صدر السورة وقد قرئ والصابرون كما قرىء والموفين في البأساء أي في الفقر والشدة

والضراء أي المرض والزمانة

وحين البأس أي وقت مجاهدة العدو في مواطن الحرب وزيادة الحين للإشعار بوقوعه أحيانا وسرعة انقضائه

أولئك إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بالنعوت الجميلة المعدودة وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا من التنبيه على علو طبقتهم وسمو رتبتهم

الذين صدقوا أي في الدين واتباع الحق وتحرى البر حيث لم تغيرهم الأحوال ولم تزلزلهم الأهوال

وأولئك هم المتقون عن الكفر وسائر الرذائل وتكرير الإشارة لزيادة تنويه شأنهم وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم والآية الكريمة كما ترى حاوية لجميع الكمالات البشرية برمتها تصريحا أو تلويحا لما أنها مع تكثر فنونها وتشعب شجونها منحصرة في خلال ثلاث صحة الاعتقاد وحسن المعاشرة مع العباد وتهذيب النفس وقد أشير إلى الأولى بالايمان بما فصل وإلى الثانية بإيتاء المال وإلى الثالثة بإقامة الصلاة الخ ولذلك وصف الحائزون لها بالصدق نظرا إلى إيمانهم واعتقادهم وبالتقوى اعتبارا بمعاشرتهم مع الخلق ومعاملتهم مع الحق وإليه يشير قوله من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان

١٧٨

يأيها الذين آمنوا شروع في بيان بعض الأحكام الشرعية على وجه التلافي لما فرط من المخلين بما ذكر من أصول الدين وقواعده التي عليها بنى أساس المعاش والمعاد

كتب عليكم أي فرض وألزم عند مطالبة صاحب الحق فلا يقدح فيه قدرة الولى على العفو فإن الوجوب إنما اعتبر بالنسبة إلى الحكام والقاتلين

القصاص في القتلى أي بسبب قتلهم كما في قوله إن امرأة دخلت النار في هرة ربطتها أي بسبب ربطها إياها

الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنزلت فأمرهم أن يتبوءوا وليس فيها دلالة على عدم قتل الحر بالعبد عند الشافعي أيضا لأن اعتبار المفهوم حيث لم يظهر للتخصيص بالذكر وجه سوى اختصاص الحكم بالمنطوق وقد رأيت الوجه ههنا وإنما يتمسك في ذلك هو ومالك رحمهما اللّه بما روى علي رضي اللّه عنه أن رجلا قتل عبده فجلده رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ونفاه سنة ولم يقده وبما روى عنه رضي اللّه عنه أنه قال من السنة أن لايقتل مسلم بذى عهد ولا حر بعبد وبان أبا بكر وعمررضي اللّه عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة من غير نكير وبالقياس على الأطراف وعندنا يقتل الحر بالعبد لقوله تعالى أن النفس بالنفس فإن شريعة من قبلنا إذا قصت علينا من غير دلالة على نسخها فالعمل بها واجب على أنها شريعة لنا ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة وهي بالدين أو بالدار وهما سيان فيهما وقرئ كتب على البناء للفاعل ونصب القصاص

فمن عفى له من أخيه شئ أي شئ من العفو لأن عفا لازم وفائدته الإشعار بان بعض العفو بمنزلة كله في إسقاط القصاص وهو الواقع أيضا في العادة إذ كثيرا ما يقع العفو من بعض الأولياء فهو شئ من العفو

وقيل معنى عفى ترك وشئ مفعول به وهو ضعيف إذ لم يثبت عفاه بمعنى تركه بل أعفاه وحمل العفو على المحو كما في قول من قال

 ... ديار عفاها جور كل معاند ...

وقوله ... عفاها كل حنان ... كثير الوبل هطال ...

فيكون المعنى فمن محى له من أخيه شئ صرف للعبارة المتداولة في الكتاب والسنة عن معناها المشهور المعهود إلى ما ليس بمعهود فيهما وفي استعمال الناس فانهم لا يستعملون العفو في باب الجنايات إلا فيما ذكر من قبل وعفا يعدى بعن إلى الجاني والذنب قال تعالى عفا اللّه عنك وقال عفا اللّه عنها فإذا تعدى إلىالذنب قيل عفوت لفلان عما جنى كأنه قيل فمن عفى له عن جنايته من جهة أخيه يعنى ولى الدم وإيراده بعنوان الأخوة الثابته بينهما بحكم كونهما من بنى آدم عليه السلام لتحريك سلسلة الرقة والعطف عليه

فاتباع بالمعروف فالأمر اتباع أو فليكن اتباع والمراد وصية العافي بالمسامحة ومطالبة الدية بالمعروف من غير تعسف وقوله عزوجل

وأداء إليه بإحسان حث المعفو عنه على أن يؤديها بإحسان من غير مما طلة وبخس

ذلك أى ما ذكر من الحكم

تخفيف من ربكم ورحمة لمافيه من التسهيل والنفع

وقيل كتب على اليهود القصاص وحده وحرم عليهم العفو والدية وعلى النصارى العفو على الإطلاق وحرم عليهم القصاص والدية وخبرات هذه الأمة بين الثلاث تيسيرا عليهم وتنزيلا للحكم على حسب المنازل

فمن اعتدى بعد ذلك بأن قتل غير القاتل بعد ورود هذا الحكم أو قتل القاتل بعد العفو أو أخذ الدية

فله باعتدائه

عذاب أليم أما في الدنيا فبا لاقتصاص بما قتله بغير حق

وأما في الاخرة فبالنار

١٧٩

ولكم في القصاص حياة بيان لمحاسن الحكم المذكور على وجه بديع لا تناله غايته حيث جعل الشئ محلا لضده وعرف القصاص ونكر الحياة ليدل على أن في هذا الجنس نوعا من الحياة عظيما لا يبلغه الوصف وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل فيتسبب لحياة نفسين ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل والجماعة بالواحد فتثور الفتنة بينهم فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون فيكون ذلك سببا لحياتهم وعلى الأول فيه إضمار وعلى الثانى تخصيص

وقيل المراد بالحياة هي الأخروية فإن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ به في الاخرة والظرفان إما خبران لحياة أو أحدهما خبر والآخر صلة له أو حال من المستكن فيه وقرئ في القصص أي فيما قص عليكم من حكم القتل حياة أو القرآن حياة للقلوب

يا أولى الألباب أي ذوى العقول الخالصة عن شوب الأوهام خوطبوا بذلك بعد ما خوطبوا بعنوان الإيمان تنشيطا لهم إلى التأمل في حكمة القصاص

لعلكم تتقون أي تقون أنفسكم من المساهلة في أمره والإهمال في المحافظة عليه والحكم به والإذعان أو في القصاص فتكفوا عن القتل المؤدى إليه

١٨٠

كتب عليكم بيان لحكم آخر من الأحكام المذكورة

إذا حضر أحدكم الموت أي حضر أسبابه وظهر أماراته أو دنا نفسه من الحضور وتقديم المفعول لأفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت وروده عليها

إن ترك خيرا أي مالا

وقيل مالا كثيرا لما روى عن علي رضي اللّه عنه أن مولى له أراد أن يوصى وله سبعمائة درهم فمنعه وقال قال اللّه تعالى إن ترك خيرا وإن هذا لشئ يسير فاتركه لعيالك وعن عائشة رضي اللّه عنها أن رجلا أراد الوصية وله عيال واربعمائة دينار فقالت ما أرى فيه فضلا وأراد آخر أن يوصى فسألته كم مالك فقال ثلاثة آلاف درهم قالت كم عيالك قال أربعة قالت إنما قال اللّه تعالى إن ترك خيرا وإن هذا لشئ يسير فاتركه لعيالك

الوصية للوالدين والأقربين مرفوع بكتب أخر عما بينهما لما مر مرار وإيثار تذكير الفعل مع جواز تأنيثه أيضا للفعل أو على تأويل أن يوصى أو الإبصار ولذلك ذكر الضمير في قوله تعالى فمن بدله بعد ما سمعه وإذا ظرف محض والعامل فيه كتب لكن لامن حيث صدور الكتب عنه تعالى بل من حيث تعلقه بهم تعلقا فعليا مستتبعا لوجوب الأداء كما ينبئ عنه البناء للمفعول وكلمة الإيجاب ولا مساغ لجعل العامل هو الوصية لتقدمه عليها

وقيل هو مبتدأ خبره للوالدين والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء كما في قوله

 ... من يفعل الحسنات اللّه يشكرها ...

ورد بانه إن صح فمن ضرورة الشعر ومعنى كتب فرض وكان هذا الحكم في بدء الإسلام ثم نسخ عند نزول آية المواريث بقوله عليه السلام إن اللّه قد أعطى كل ذي حقه ألا لاوصية لوارث فإنه وإن كان من أخبار الآحاد لكن حيث تلقته الأمة بالقبول انتظم في سلك المتواتر في صلاحيته للنسخ عند ائمتنا على أن التحقيق أن الناسخ حقيقة هي آية المواريث وإنما الحديث مبين لجهة نسخها ببيان أنه تعالى كان قد كتب عليكم أن تؤدوا إلى الوالدين والأقربين حقوقهم بحسب استحقاقهم من غير تبيين لمراتب استحقاقهم ولا تعيين لمقادير أنصبائهم بل فوض ذلك إلى آرائكم حيث قال بالمعروف أي بالعدل فالآن قد رفع ذلك الحكم عنكم لتبيين طبقات استحقاق كل واحد منهم وتعيين مقادير حقوقهم بالذات وأعطى كل ذي حق منهم حقة الذي يستحقه بحكم القرابة من غير نقص ولا زيادة ولم يدع ثمة شيئا فيه مدخل لرأيكم أصلا حسبما يعرب عنه الجملة المنفية بلا النافية للجنس وتصويرها بكلمة التنبيه إذا تحققت هذا ظهر لك أن ما قيل من أن آية المواريث لا تعارضه بل تحققه وتؤكده من حيث أنها تدل على تقديم الوصية مطلقا والحديث من الآحاد وتلقى الأمة إياه بالقبول لا يلحقه بالمتواتر ولعلة احترز عنه من فسر الوصية بما أوصى به اللّه عز و جل من توريث الوالدين والقربين بقوله تعالى يوصيكم اللّه أو بايصاء المحتضر لهم بتوفير ما أوصى به اللّه تعالى عليهم بمعزل من التحقيق وكذا ماقيل من أن الوصية للوارث كانت واجبة بهذة الآية من غير تعيين لأنصبائهم فلما نزلت آية المواريث بيانا للانصباء فهم منها بتنبيه النبي أن المراد هذه الوصية التي كانت واجبة كأنه قيل إن اللّه تعالى أوصى بنفسه تلك الوصية ولم يفوضها إليكم فقام الميراث مقام الوصية فكان هذا معنى للنسخ لا أن فيها دلالة على رفع ذلك الحكم فإن مدلول آية الوصية حيث كان تفويضا للأمر إلى آراء المكلفين على الإطلاق وتسنى الخروج عن عهده التكليف بأداء ما أدى إليه آراؤهم بالمعروف فتكون آية المواريث الناطقة بمراتب الاستحقاق وتفاصيل مقادير الحقوق القاطعة بامتناع الزيادة والنقص بقوله تعالى فريضة من اللّه ناسخة لها رافعة لحكمها مما لا يشتبه على أحد وقوله تعالى

حقا على المتقين مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا

١٨١

فمن بدله أي غيره من الأوصياء والشهود

بعد ما سمعه أي بعد ما وصل إليه وتحقق لديه

فإنما إثمة أي إثم الإيصار المغير أو إثم التبديل

على الذين يبدلونه لأنهم خانوا وخالفوا حكم الشرع ووضع الموصول في موضع الضمير الراجع إلى من لتأكيد الإيذان بعليه ما في حيز الصلة الأولى وإيثار الجمع للإشعار بتعداد المبدلين أنواعا أو كثرتهم افرادا والإيذان بشمول الإثم لجميع الأفراد

إن اللّه سميع عليم وعيد شديد للمبدلين

١٨٢

فمن خاف من موص أي توقع وعلم من قولهم أخاف أن يرسل السماء وقرئ من موص

جنفا أي ميلا بالخطأ في الوصية

أوإثما أي تعمدا للجنف

فأصلح بينهم أي بين الموصى لهم بإجرائهم على منهاج الشريعة الشريفة

فلا إثم عليه أي في هذا التبديل لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف الأول

إن اللّه غفور رحيم وعد للمصلح وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم

١٨٣

يأ يها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام بيان لحكم آخر من الأحكام الشرعية وتكرير النداء لإظهار مزيد الاعتناء والصيام والصوم في اللغة الإمساك عما تنزع إليه النفس ومنه قوله تعالى إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم الآية

وقيل هو الإمساك عن الشئ مطلقا ومنه صامت الريح إذا أمسكت عن الهبوب والفرس إذا أمسكت عن العدو قال

 ... خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما ...

وفي الشريعة هو الإمساك نهارا مع النية عن المفطرات المعهودة التي هي معظم ما تشتهية الأنفس

كما كتب في حيز النصب على أنه نعت للمصدر المؤكد أي كتابا كائنا كما كتب أو على أنه حال من المصدر المعرفة أي كتب عليكم الصيام الكتب مشبها بما كتب فما على الوجهين مصدرية أوعلى أنه نعت لمصدر من لفظ الصيام أي صوما مماثلا للصوم المكتوب على من قبلكم فما موصولة أو على أنه حال من الصيام أي حال كونه مماثلا لما كتب

على الذين من قبلكم من الإنبياء عليهم الصلاة والسلام والأمم من لدن آدم عليه السلام وفيه تأكيد للحكم وترغيب فيه وتطييب لأنفس المخاطبين به فإن الشاق إذا عم سهل عمله والمراد بالمماثلة إما المماثلة في أصل الوجوب

وأما في الوقت والمقدار كما يروى أن صوم رمضان كان مكتوبا على اليهود والنصارى أما اليهود فقد تركته وصامت يوما من السنة زعموا أنه يوم غرق فرعون وكذبوا في ذلك فإنه كان يوم عاشوراء

وأما النصاري فأنهم صاموا رمضان حتى صادفوا حرا شديدا فاجتمعت آراء علمائهم على تعيين فصل واحد بين الصيف والشتاء فجعلوه في الربيع وزادوا عليه عشرة أيام كفارة لما صنعوا فصار اربعين ثم مرض ملكهم أو وقع فيهم موتان فزادوا عشرة أيام فصار خمسين

لعلكم تتقون أي المعاصي فإن الصوم يكسر الشهوة الداعية إليها كما قال عليه الصلاة و السلام فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء أو تتقون الإخلال بأدائه لأصالته أو تصلون بذلك الى رتبة التقوى

١٨٤

اياما معدودات موقتات بعدد معلوم أو قلائل فإن القليل من المال يعد عدا والكثير يهال هيلا والمراد بها إما رمضان أو ما وجب في بدء الاسلام ثم نسخ به من صوم عاشوراء وثلاثة ايام من كل شهر وانتصابه

ليس بالصيام كما قيل لوقوع الفصل بينهما بأجنبي بل بمضمر دل هو عليه اعني صوموا إما على الظرفية أو المفعولية اتساعا

وقيل بقوله تعالى كتب على أحد الوجهين وفيه أن الأيام ليست محلا له بل للمكتوب فلا تتحقق الظرفية ولا المفعولية المتفرعة عليها اتساعا

فمن كان منكم مريضا أي مرضا يضره الصوم أو يعسر معه

اوعلى سفر مستمرين عليه وفيه تلويح ورمز الى أن من سافر في أثناء اليوم لم يفطر

فعدة أي عليه صوم عدة ايام المرض والسفر

من أيام أخر إن أفطر فحذف الشرط والمضاف ثقة بالظهور وقرئ بالنصب أي فليصم عدة وهذا على سبيل الرخصة

وقيل على الوجوب واليه ذهب الظاهرية وبه قال أبو هريرة رضي اللّه عنه

وعلى الذين يطيقونه أي وعلى المطيقين للصيام وإن أفطروا

فدية أي إعطاء فدية وهي

طعام مسكين وهو نصف صاع من بر أو من غيره عند أهل العراق ومد عند أهل الحجاز وكان ذلك في بدء الاسلام لما أنه قد فرض عليهم الصوم وما كانوا متعودين له فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية وقرئ يطيقونه أي يكلفونه أو يقلدونه ويتطوقونه ويطوقونه بإدغام التاء في الطاء ويطيقونه بمعنى يتطيقونه وأصلهما يطوقونه ويتطوقونه من فعيل وتفعيل من الطوق فأدغمت الياء في الواو وبعد قلبها ياء كقولهم تدبر المكان وما بها ديار وفيه وجهان أحدهما نحو معنى يطيقونه والثاني يكلفونه أو يتكلفونه على جهد منهم وعسورهم الشيوخ والعجائز وحكم هؤلاء الافطار والفدية وهو حينئذ غير منسوخ ويجوز أن يكون هذا معنى يطيقونه أي يصومونه جهدهم وطاقتهم ومبلغ وسعهم

فمن تطوع خيرا فزاد في الفدية

فهو أي التطوع أو الخير الذي تطوعه

خير له وإن تصوموا ايها المطيقون أو المطوقون وتحملوا على انفسكم وتجهدوا طاقتكم أو المرخصون في الإفطار من المرضى والمسافرين

خيرا لكم من الفدية أو من تطوع الخير أو منهما أو من التأخير الى أيام أخر والالتفات الى الخطاب للّهز والتنشيط

ان كنتم تعلمون أي ما في صومكم مع تحقق المبيح للإفطار من الفضيلة والجواب محذوف ثقة بظهوره أي اخترتموه أو سارعتم اليه

وقيل معناه ان كنتم من أهل العلم والتدبير علمتم ان الصوم خير من ذلك

١٨٥

شهر رمضان مبتدأ سيأتي خبره أو خبر لمبتدأ محذوف أي ذلك شهر رمضان أو بدل من الصيام على حذف المضاف أي صيام شهر رمضان وقرئ بالنصب على اضمار صوموا أو على أنه مفعول تصوموا أو بدل من أياما معدودات ورمضان مصدر رمض أي احترق من الرمضاء فاضيف اليه الشهر وجعل علما ومنع الصرف للتعريف والألف والنون كما قيل ابن داية للغراب فقوله عليه السلام من صام رمضان الحديث وأراد على حذف المضاف للأمن من الإلتباس وانما سمي بذلك اما لإرتماضهم فيه من الجوع والعطش أو لإرتماض الذنوب في الصيام فيه أو لوقوعه في أيام رمض الحر عند

نقل أسماء الشهور عن اللغة القديمة

الذي أنزل فيه القرآن خبر للمبتدأ على الوجه الأول وصفة لشهر رمضان على الوجوه الباقية و معنى إنزاله فيه أنه أبتدى إنزاله فيه وكان ذلك ليلة القدر أو أنزل فيه جملة إلى السماء الدنيا ثم نزل منجما إلى الأرض حسبما تقتضيه المشيئة الربانية أو أنزل في شانه القرآن و هو قوله عز و جل كتب عليكم و عن النبي صلى اللّه عليه و سلم نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين منه والإنجيل لثلاث عشرة منه والقرآن لأربع وعشرين

هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان حالان من القرآن أي أنزل حال كونه هدية للناس بما فيه من الإعجاز وغيره وآيات واضحة مرشدة إلى الحق فارقة بينه وبين الباطل بما فيه من الحكم والأحكام

فمن شهد منكم الشهر أي حضر فيه ولم يكن مسافرا و وضع الظاهر موضع الضمير للتعظيم والمبالغة في البيان والفاء للتفريع والترتيب أو لتضمن المبتدأ معنى الشرط أو زائده على تقدير كون شهر رمضان مبتدأ والموصول صفة له وهذه الجملة خبر له

وقيل هي جزائية كأنه قيل لما كتب عليكم الصيام في ذلك الشهر فمن حضر فيه

فليصمه إي فليصم فيه بجذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور أتساعا

وقيل من شهد منكم هلال الشهر فليصمه على أنه مفعول به كقولك شهدت الجمعة أي صلاتها فيكون ما بعده مخصصا له كأنه قيل

ومن كان مريضا وإن كان مقيما حاضرا فيه أو على سفر وإن كان صحيحا

فعدة من أيام أخر أي فعليه صيام أيام آخر لأن المريض والمسافر ممن شهد الشهر ولعل التكرير لذلك أو لئلا يتوهم نسخة كما نسخ قرينه

يريد اللّه بهذا الترخيص

بكم اليسر ولا يريد بكم العسر لغاية رأفته وسعةرحمته

ولتكملوا العدة ولتكبروا اللّه على ما هداكم ولعلكم تشكرون علل لفعل محذوف يدل عليه ما سبق أي ولهذه الأمور شرع ما مر من أمر الشاهد بصوم الشهر وأمر المرخص لهم بمراعاة عدة ما أفطر فيه ومن الترخيص في أباحة الفطر فقوله تعالى لتكلموا علة الأمر بمراعاة العدة ولتكبروا علة ما علمه من كيفية القضاء ولعلكم تشكرون علة الترخيص والتيسير وتديه فعل التكبير بعلى لتضمنه معنى الحمد كأنه ولتكبروا اللّه حامدين على ما هداكم ويجوز أن يكون معطوفة على علة مقدرة مثل ليسهل عليكم أو لتعلموا ما تعلمون ولتكملوا الخ ويجوز عطفها على اليسر أي يريد بكم لتكلموا الخ كقوله تعالى يريدون ليطفئوا الخ والمعنى بالتكبير تعظيمه تعالى بالحمد والثناء عليه

وقيل تكبير يوم العيد

وقيل التكبير عند الإهلال وما تحتمل المصدرية والموصولة أي على هدايته إياكم أو على الذي هداكم إليه وقرئ ولتكملوا بالتشديد

١٨٦

وإذا سألك عبادي عنى في تلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما لا يخفى من تشريفه ورفع محلة

فإني قريب أي فقل لهم إني قريب وهو تمثيل لكمال علمه بافعال العباد واقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه روى أن أعرابيا قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت

أجيب دعوة الداع إذا دعان تقرير للقرب وتحقيق له ووعد للداعى بالإجابة

فليستجيبوا لي إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم

وليؤمنوا بي أمر بالثبات على ما هم عليه

لعلهم يرشدون راجين إصابة الرشد أي الحق وقرئ بفتح الشين وكسرها ولما أمرهم اللّه تعالى بصوم الشهر ومرعاةالعدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير عقبه بهذه الآية الكريمة الدالة على أنه تعالى خبير بأحوالهم سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم مجازيهم على أعمالهم تأكيدا له وحثا عليه ثم شرع في بيان أحكام الصيام فقال

١٨٧

أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم روى أن المسلمين كانوا إذا أمسوا حل لهم الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلوا العشاء الأخيرة أو يرقدوا ثم إن عمر رضي اللّه عنه باشر بعد العشاء فندم وأتى النبي واعتذر إليه فقام رجال فاعترفوا بما صنعوا بعد العشاء فنزلت وليلة الصيام الليلة التي يصبح منها صائما والرفث كناية عن الجماع لأنه لا يكاد يخلو من رفث وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه وعدى بإلى لتضمنه معنى الإفضاء والإنهاء وإيثاره ههنا لاستقباح ما أرتكبوه ولذلك سمى خيانة وقرئ الرفوث وتقديم الظرف على القائم مقام الفاعل لما مر مرارا من التشويق فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مترقبة إليه فيتمكن عندها وقت وروده فضل تمكن

هن لباس لكم وأنتم لباس لهن استئناف مبين لسبب الإحلال وهو صعوبة الصبر عنهن مع شدة المخالطة وكثرة الملابسة بهن وجعل كل من الرجل والمرأة لباسا للآخر لاعتناقهما واشتمال كل منهما على الآخر بالليل قال

 ... إذا ما الضجيع ثنى عطفها ... تثنت فكانت عليه لباسا ...

أو لأن كلا منهما يستر حال صاحبة ويمنعه من الفجور

علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم استئناف آخر مبين لما ذكر من السبب والاختيان أبلغ من الخيانة كالاكتساب من الكسب ومعنى تختانون تظلمونها بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب

فتاب عليكم عطف على علم أي تاب عليكم لما تبتم مما اقترفتموه

وعفا عنكم أي محا أثره عنكم

فالآن لما نسخ التحريم

باشروهن المباشرة إلزاق البشرة بالبشرة كنى بها عن الجماع الذي يستلزمها وفيه دليل على جواز نسخ الكتاب للسنة

وابتغوا ما كتب اللّه لكم أي واطلبوا ما قدره اللّه لكم وقرره في اللوح من الولد وفيه أن المباشر ينبغي أن يكون غرضه الولد فإنه الحكمة في خلق الشهوة وشرع النكاح لا قضاء الشهوة

وقيل فيه نهى عن العزل

وقيل عن غير المأتى والتقدير وابتغوا المحل الذي كتب اللّه لكم

وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر شبه أول مايبدو من الفجر المعترض في الأفق وما يمتد معه عن غلس الليل بخيطين الأبيض والأسود واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله تعالى من الفجر عن بيان الخيط الأسود لدلالته عليه وبذلك خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل ويجوز أن يكون من للتبعيض فإن ما يبدوا بعض الفجر وما روى من أنها نزلت ولم ينزل من الفجر فعمد رجال إلى خيطين أبيض وأسود وطفقوا يأكلون ويشربون حتى يتبينا لهم فنزلت فلعل ذلك كان قبل دخول رمضان وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز أو اكتفى أو لا باشتهارهما في ذلك ثم صرح بالبيان لما التبس على بعضهم وفي تجويز المباشرة إلى الصبح دلالة على جواز تأخير الغسل إليه وصحةصوم من أصبح جنبا

ثم اتموا الصيام إلى الليل بيان لآخر وقته

ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد أي معتكفون فيها والمراد بالمباشرة الجماع وعن قتادة كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع فنهوا عن ذلك وفيه دليل على أن الاعتكاف يكون في المسجد غير مختص ببعض دون بعض وأن الوطء فيه حرام ومفسد له لأن النهى في العبادات يوجب الفساد

تلك حدود اللّه أي الأحكام المذكورة حدود وضعها اله تعالى لعباده

فلا تقربوها فضلا عن تجاوزها نهى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل مبالغة في النهى عن تخطيها كما قال أن لكل ملك حمى وحمى اللّه محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ويجوز أن يراد بحدود اللّه تعالى محارمه ومناهيه كذلك أي مثل ذلك التبيين البليغ

يبين اللّه آياته الدالة على الأحكام التي شرعها

للناس لعلهم يتقون مخالفة أوامره ونواهيه

١٨٨

ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل نهى عن أكل بعضهم أموال بعض على خلاف حكم اللّه تعالى بعد النهى عن أكل أموال أنفسهم في نهار رمضان أي لايأكل بعضكم اموال بعض بالوجه الذي لم يبحه اللّه تعالى وبين نصب على الظرفية أو الحالية من أموالكم

وتدلوا بها إلى الحكام عطف على المنهى عنه أو نصب بإضمار أن والإدلاء الإلقاء أي ولا تلقوا حكومتها إلى الحكام

لتأكلوا بالتحاكم إليهم

فريقا من أموال الناس بالإثم بما يوجب إثما كشهادة الزور واليمين الفاجرة أو متلبسين بالإثم

وأنتم تعلمون أنكم مبطلون فإن ارتكاب المعاصي مع العلم بها أقبح روى أن عبدان الحضرمي ادعى على امرئ القيس الكندي قطعة ارض ولم يكن له بينة فحكم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بأن يحلف امرؤ القيس فهم به فقرأ عليه الصلاة و السلام إن الذين يشترون بعهد اللّه وإيمانهم ثمنا قليلا الآية فارتدع عن اليمين فسلم الأرض الى عبدان فنزلت وروى أنه اختصم اليه خصمان فقال عليه السلام إنما أنا بشر مثلكم وأنتم تختصمون الى ولعل بعضكم الحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقضي له قطعة من نار فبكيا فقال كل واحد منهما حقي لصاحبي

فقال اذهبا فتوخيا ثم استهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه

١٨٩

يسألونك عن الأهلة سأله معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم فقالا ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط ثم يزيد حتى يستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ

قل هي مواقيت للناس والحج كانوا قد سألوه عليه الصلاة و السلام عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدل أمره فأمره اللّه العزيز الحكيم أن يجيبهم بأن الحكمة الظاهرة في ذلك أن تكون معالم للناس في عبادتهم لا سيما الحج فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء وكذا في معاملاتهم على حسب ما يتفقون عليه والمواقيت جمع ميقات من الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمان أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها الى منتهاها والزمان مدة مقسومة الى الماضي والحال والمستقبل والوقت الزمان المفروض لأمر

وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها كانت الأنصار إذا أحرموا لم يدخلوا دارا ولا فسطاطا من بابه وإنما يدخلون ويخرجون من نقب أو فرجة وراءها ويعدون ذلك برا فبين لهم أنه ليس ببر فقيل

ولكن البر من اتقى أي بر من اتقى المحارم والشهوات ووجه اتصاله بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين أو أنه لما ذكر أنها مواقيت للحج ذكر عقيبة ماهو من أفعالهم في الحج استطرادا أو أنهم لما سألوا عما لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوة فإنه عليه الصلاة و السلام مبعوث لبيان الشرائع لا لبيان حقائق الأشياء وتركوا السؤال عما يعنيهم ويختص بعلم الرسالة عقب بذكره جواب ما سألوا عنه تنبيها على أن اللائق بهم ان يسألوا عن أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها أو أريد به التنبيه على تعكيسهم في السؤال وكونه من قبيل دخول البيت من ورائه والمعنى وليس البر بأن تعكسوا في مسائلكم ولكن البر من اتقى ذلك ولم يجترئ على مثله

وأتوا البيوت من أبوابها إذ ليس في العدول بر أو باشروا الأمور من وجوهها

واتقوا اللّه في تغيير أحكامه أو في جميع أموركم أمر بذلك صريحا بعد بيان أن البر بر من اتقى إظهارا لزيادة الاعتناء بشأن التقوى وتمهيدا لقوله تعالى

لعلكم تفلحون أي لكي تظفروا بالبر والهدى

١٩٠

وقاتلوا في سبيل اللّه أي جاهدوا لإعزاز دينه وإعلاء كلمته وتقديم الظرف على المفعول الصريح لإبراز كمال العناية بشأن المقدم

الذين يقاتلونكم قيل كان ذلك قبل ما أمروا بقتال المشركين كافة المقاتلين منهم والمحاجزين

وقيل معناه الذين يناصبونكم القتال ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ والصبيان والرهابنة والنساء أو الكفرة جميعا فإن الكل بصدد قتال المسلمين ويؤيد الأول ما روى أن المشركين صدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة شرفها اللّه تعالى ثلاثة أيام فرجع لعمرة القضاء فخاف المسلمون ان لا يفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم والشهر الحرام وكرهوا ذلك فنزلت ويعضده إيراده في أثناء بيان أحكام الحج

ولا تعتدوا بابتداء القتال أو بقتال المعاهد والمفاجأة به من غير دعوة أو بالمثلة وقتل من نهيتم عن قتله من النساء والصبيان ومن يجري مجراهم

إن اللّه لا يحب المعتدين أي لا يريد بهم الخير وهو تعليل للنهي

١٩١

واقتلوهم حيث ثقفتموهم أي حيث وجدتموهم من حل أو حرم وأصل الثقف الحذق في ادراك الشيء علما أو عملا وفيه معنى الغلبة ولذلك استعمل فيها قال

 ... فإما تثقفوني فاقتلوني ... فمن اثقف فليس الى خلود ...

وأخرجوهم من حيث أخرجوكم أي من مكة وقد فعل بهم ذلك يوم الفتح بمن لم يسلم من كفارها

والفتنة أشد من القتل أي المحنة التي يفتتن بها الانسان كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وبقاء تألم النفس بها

وقيل شركهم في الحرم وصدهم لكم عنه اشد من قتلكم اياهم فيه

ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام أي لا تفاتحوهم بالقتل هناك ولا تهتكوا حرمة المسجد الحرام

حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم ثمة

فاقتلوهم فيه ولا تبالوا بقتالهم ثمة لأنهم الذين هتكوا حرمته فاستحقوا اشد العذاب وفي العدول عن صيغة المفاعلة التي بها ورد النهي والشرط عدة بالنصر والغلبة وقرئ ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم فاقتلوهم والمعنى حتى يقتلوا بعضكم كقولهم قتلتنا بنو أسد

كذلك جزاء الكافرين يفعل بهم مثل ما فعلوا بغيرهم

١٩٢

فإن انتهوا عن القتال والكفر بعد ما رأوا قتالكم

فإن اللّه غفور رحيم يغفر لهم ما قد سلف

١٩٣

وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أي شرك

ويكون الدين للّه خالصا ليس للشيطان فيه نصيب

فإن انتهوا بعد مقاتلتكم عن الشرك

فلا عدوان الا على الظالمين أي فلا تعتدوا عليهم اذ لا يحسن الظلم الا لمن ظلم فوضع العلة موضع الحكم وتسمية الجزاء بالعدوان للمشاكلة كما في قوله عز و جل فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه أو أنكم ان تعرضتم للمنتهين صرتم ظالمين وتنعكس الحال عليكم والفاء الأولى للتعقيب والثانية للجزاء

١٩٤

الشهر الحرام بالشهر الحرام قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء في ذي القعدة أيضا وكراهتهم القتال فيه هذا الشهر الحرام بذلك الشهر الحرام وهتكه بهتكه فلا تبالوا به

والحرمات قصاص أي كل حرمة وهي ما يجب المحافظة عليه يجري فيها القصاص فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله وادخلوا عليهم عنوة فاقتلوهم ان قاتلوكم كما قال تعالى

فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وهو فذلكة مقررة لما قبلها

واتقوا اللّه في شأن الانتصار واحذروا أن تعتدوا الى مالم يرخص لكم

واعلموا أن اللّه مع المتقين فيحرسهم ويصلح شئونهم بالنصر والتمكين

١٩٥

وانفقوا في سبيل اللّه أمر بالجهاد بالمال بعد الأمر به بالأنفس أي ولا تمسكوا كل الامساك

ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة بالاسراف وتضييع وجه المعاش أو بالكف عن الغزو والانفاق فيه فإن ذلك مما يقوى العدو ويسلطهم عليكم ويؤيده ما روى عن ابي ايوب الانصاري رضي اللّه عنه أنه قال لما أعز اللّه الاسلام وكثر اهله رجعنا الى اهالينا وأموالنا نقيم فيها ونصلحها فنزلت أو بالامساك وحب المال فإنه يؤدي الى الهلاك المؤبد ولذلك سمى البخل هلاكا وهو في الأصل انتهاء الشيء في الفساد والالقاء طرح الشيء وتعديته بإلى لتضمنه معنى الانتهاء والباء مزيدة والمراد بالايدي الأنفس والتهلكة مصدر كالتنصرة والتسترة وهي والهلك والهلاك واحد أي لا توقعوا انفسكم في الهلاك

وقيل معناه لا تجعلوها آخذة بأيديكم أولا تلقوا بأيديكم أنفسكم اليها فحذف المفعول

وأحسنوا أي اعمالكم وأخلاقكم أو تفضلوا على الفقراء

إن اللّه يحب المحسنين أي يريد بهم الخير وقوله تعالى

١٩٦

وأتموا الحج والعمرة للّه بيان لوجوب اتمام افعالهما عند التصدي لادائهما وارشاد للناس الى تدارك ما عسى يعتريهم من العوارض المخلة بذلك من الاحصار ونحوه من غير تعرض لحالها في أنفسهما من الوجوب وعدمه كما في قوله تعالى ثم أتموا الصيام الى الليل فإنه بيان لوجوب مد الصيام الى الليل من غير تعرض لوجوب اصله وانما هو بقوله تعالى كتب عليكم الصيام الآية كما أن وجوب الحج بقوله تعالى وللّه على الناس حج البيت الآية فإن الأمر بإتمام فعل من الأفعال ليس أمرا بأصله ولا مستلزما له أصلا فليس فيه دليل على وجوب العمرة قطعا وادعاء أن الأمر بإتمامهما أمر بإنشائهما تامين كاملين حسبما تقتضيه قراءة وأقيموا الحج والعمرة وأن الأمر للوجوب مالم يدل على خلافه دليل مما لا سداد له ضرورة أن ليس البيان مقصورا على أفعال الحج المفروض حتى يتصور ذلك بل الحق ان تلك القراءة أيضا محمولة على المشهورة ناطقة بوجوب اقامة افعالهما كما ينبغي من غير تعرض لحالهما في انفسهما فالمعنى اكملوا أركانهما وشرائطهما وسائر افعالهما المعروفة شرعا لوجه اللّه تعالى من غير اخلال منكم بشيء منها هذا وقد قيل اتمامهما ان تحرم

بهما من دويرة أهلك روى ذلك عن علي وابن عباس وابن مسعود رضي اللّه عنهم

وقيل أن تفرد لكل واحد منها سفرا كما قال محمد حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل

وقيل هو جعل نفقتهما حلالا

وقيل أن تخلصوهما للعبادة ولا تشوبوهما بشئ من الأعراض الدنيوية وأيا ما كان فلا تعرض في الآية الكريمة لوجوب العمرة اصلا

وأما ما روى أن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال إن العمرة لقرينة الحج وقول عمر رضي اللّه عنه هديت لسنة نبيك حين قال له رجل وجدت الحج العمرة مكتوبين على أهللت بهما وفي رواية فأهللت بهما جميعا فبمعزل من إفادة الوجوب مع كونه معارضا بما روى عن جابر أنه قال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم العمرة واجبة مثل الحج قال لا ولكن أن تعتمر خير لك وبقوله عليه السلام الحج جهاد والعمرة تطوع فتدبر

فإن أحصرتم أي منعتم من الحج يقال حصره العدو وأحصره إذا حبسه ومنعه من المضي لوجهه مثل صده وأصده والمراد منع العدو عند مالك والشافعي رضي اللّه عنهما لقوله تعالى فإذا أمنتم ولنزوله في الحديبية ولقول ابن عباس لا حصر إلا حصر العدو وكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما عند أبي حنيفة رضي اللّه عنه لما روى عن النبي صلى اللّه عليه و سلم من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل

فما استيسر من الهدى أي فعليكم أو فالواجب ما استيسر أو فاهدوا ما استيسر والمعنى أن المحرم إذا أحصر وأراد أن يتحلل تحلل بذبح هدى تيسر عليه من بدنه أو بقرة أو شاة حيث أحصر عند الأكثر وعندنا يبعث به الى الحرم ويجعل للمبعوث بيده يوم أمارة فإذا جاء اليوم وظن أنه ذبح تحلل لقوله تعالى

ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدى المبعوث الى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن ينحر فيه وحمل الاولون بلوغ الهدى محله على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حلا كان حرما ومرجعهم في ذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل قلنا كان محصرة عليه الصلاة و السلام طرف الحديبية الذي إلى اسفل مكة وهو من الحرم وعن الزهري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نحر هدية في الحرم وقال الواقدي الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة والمحل بالكسر يطلق على المكان والزمان والهدى جمع هدية كجدى وجدية وقرئ من الهدى جمع هدية كمطى ومطية

فمن كان منكم مريضا مرضا محوجا الى الحلق

أو به اذى من رأسه كجراحة أو قمل

ففديه أي فعليه فديه إن حلق

من صيام أو صدفة أو نسك بيان الجنس الفديه

وأما قدرها فقد روى أنه قال لكعب بن عجرة لعلك آذاك هو أمك قال نعم يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال أحلق وصم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق على ستة مساكين أو أنسك شاة والفرق ثلاثة آصع

فإذا أمنتم أي الاحصار أو كنتم في حال أمن أو سعة

فمن تمتع بالعمرة إلى الحج أي فمن انتفع بالتقرب الى اللّه تعالى بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج في أشهره

وقيل من استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام الى أن يحرم بالحج

فما استيسر من الهدى أي فعليه دم استيسر عليه بسبب التمتع وهو دم جبران يذبحه إذا أحرم بالحج ولا يأكل منه عند الشافعي وعندنا هو كالأضحية

فمن لم يجد أي الهدى

فصيام ثلاثة أيام في الحج أي في أشهره بين الإحرامين وقال الشافعي في أيام الاشتغال بأعماله بعد الإحرام وقبل التحلل والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه فلا يصح يوم النحر وأيام التشريق

وسبعة إذا رجعتم أي نفرتم وفرغتم من

أعماله وفي أحد قولى الشافعي إذا رجعتم إلى أهليكم وقرئ وسبعة بالنصب عطفا على محل ثلاثة أيام

تلك عشرة فذلكة الحساب وفائدتها أن لا يتوهم أن الواو بمعنى أو كما في قولك جالس الحسن وابن سيرين وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا فإن أكثر العرب لا يعرف الحساب وأن المراد بالسبعة هو العدد المخصوص دون الكثرة كما يراد بها ذلك ايضا

كاملة صفة مؤكدة لعشرة تفيد المبالغة في المحافظة على العدد أو مبينة لكمال العشرة فإنها أول عدد كامل إذ به ينتهي الآحاد ويتم مراتبها أو مقيدة تفيد كمال بدليتها من الهدى

ذلك إشارة الى التمتع عندنا والى الحكم المذكور عند الشافعي

لمن لم يكن اهله حاضري المسجد الحرام وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عند الشافعي ومن كان مسكنه وراء الميقات عندنا وأهل الحل عند طاوس وغير أهل مكة عند مالك

واتقوا اللّه في المحافظة على اوامره ونواهيه لا سيما في الحج

واعلموا أن اللّه شديد العقاب لمن لم يتقه كي يصدكم العلم به عن العصيان وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة

١٩٧

الحج أي وقته

اشهر معلومات معروفات بين الناس هي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة عندنا وتسعة بليلة النحر عند الشافعي وكله عند مالك ومدار الخلاف أن المراد بوقته وقت إحرامه أو وقت اعماله ومناسكه أو مالا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقا فإن مالكا كره العمرة في بقية ذي الحجة وأبو حنيفة وإن صحح الإحرام به قبل شوال فقد استكرهه وإنما سمى شهرين وبعض شهر اشهرا إقامة للبعض مقام الكل أوإطلاقا للجمع على ما فرق الواحد وصيغة جمع المذكر في غير العقلاء تجئ بالالف والتاء

فمن فرض فيهن الحج أي اوجبه على نفسه بالإحرام فيهن أو بالتلبية أو بسوق الهدى

فلا رفث ولا فسوق أي لا جماع أو فلا فحش من الكلام ولا خروج من حدود الشرع بارتكاب المحظورات

وقيل بالسباب والتنابذ بالألقاب

ولا جدال أي لا مراء مع الخدم والرفقة

في الحج أي في ايامه والإظهار في مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه والإشعار بعلة الحكم فإن زيارة البيت المعظم والتقرب بها الى اللّه عز و جل من موجبات ترك الأمور المذكورة وإيثار النفي للمبالغة في النهى والدلالة على أن ذلك حقيق بأن لا يكون فإن ما كان منكرا مستقبحا في نفسه ففي تضاعيف الحج أقبح كلبس الحرير في الصلاة والتطريب بقراءة القرآن لأنه خروج عن مقتضى الطبع والعادة الى محض العبادة وقرئ الأولان بالرفع على معنى لا يكونن رفث ولا فسوق والثالث بالفتح على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف في الحج وذلك أن قريشا كانت تخالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام فارتفع الخلاف بأن أمروا بأن يقفوا ايضا بعرفات

وما تفعلوا من خير يعلمه اللّه فيجزى به خير جزاء وهو حث على فعل الخير إثر النهى عن الشر

وتزودوا فإن خير الزاد التقوى أي تزودوا لمعادكم التقوى فإنه خير زاد

وقيل نزلت في اهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن متوكلون فيكونون كلا على الناس فأمروا أن يتزودوا ويتقوا الإبرام في السؤال والتثقيل على الناس

واتقون يا أولي الألباب فإن قضية اللب استشعار خشية اللّه عز و جل وتقواه حثهم على التقوى ثم أمرهم بأن يكون المقصود بذلك هو اللّه تعالى فيتبرءوا من كل شئ سواه وهو مقتضى العقل المعرى عن شوائب الهوى فلذلك خص بهذا الخطاب أولوا الألباب

١٩٨

ليس عليكم جناح أن تبتغوا أي في أن تبتغوا أي تطلبوا

فضلا من ربكم عطاء ورزقا منه أي الربح بالتجارة

وقيل كان عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يقيمونها أيام مواسم الحج وكانت معايشهم منها فلما جاء الإسلام تأثموا منه فنزلت

فإذا أفضتم من عرفات أي دفعتم منها بكثرة من أفضت الماء إذا صببته بكثرة وأصله افضتم انفسكم فحذف المفعول حذفه من دفعت من البصرة وعرفات جمع سمى به كأذرعات وإنما نون وكسر وفيه علمية وتأنيث لما ان تنوين الجمع تنوين المقابلة لا تنوين التمكن ولذلك يجمع مع اللام وذهاب الكسرة تبع ذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف وههنا ليس كذلك أو لان التأنيث إما بالتاء المذكورة وهي ليست بتاء التأنيث وإنما هي مع الالف التي قبلها علامة جمع المؤنث أو بتاء مقدرة كما في سعاد ولا سبيل اليه لان المذكور تأبى تقديرها لما انها كالبدل منها لاختصاصها بالمؤنث كتاء بنت وإنما سمى الموقف عرفة لانه نعت لإبراهيم عليه السلام فلما ابصره عرفه أو لان جبريل عليه السلام كان يدور به في المشاعر فلما رآه قال عرفت أو لان آدم وحواء التقيا فيه فتعارفا أو لان الناس يتعارفون فيه وهي من الاسماء المرتجلة الا من يجعلها جمع عارف قيل وفيه دليل على وجوب الوقوف بها لان الإفاضة لا تكون الا بعده وهي مأمور بها بقوله تعالى ثم أفيضوا وقد قال النبي الحج عرفة فمن ادرك عرفة فقد ادرك الحج أو مقدمة للذكر المأمور به وفيه نظر إذ الذكر غير واجب والأمر به غير مطلق

فاذكروا اللّه بالتلبية والهليل والدعاء

وقيل بصلاة العشاءين

عند المشعر الحرام هو جبل يقف عليه الإمام ويسمى قزح

وقيل ما بين مأزمى عرفة ووادي محسر ويؤيد الأول ما روى جابر انه عليه الصلاة و السلام لما صلى الفجر يعنى بالمزدلفة بغلس ركب ناقته حتى اتى المشعر الحرام فدعا فيه وكبر وهلل ولم يزل واقفا حتى اسفرو إنما سمى مشعرا لانه معلم العبادة ووصف بالحرام لحرمته ومعنى عند المشعر الحرام ما يليه ويقرب منه فإنه افضل والا فالمزدلفة كلها موقف الا وادي محسر

واذكروه كما هداكم أي كما علمكم أو اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة الى المناسك وغيرها وما مصدرية أو كافة

وإن كنتم من قبله من قبل ما ذكر من هدايته إياكم

لمن الضالين غير العاملين بالإيمان والطاعة وإن هي المخففة واللام هي الفارقة

وقيل هي نافية واللام بمعنى إلا كما في  قوله عز وعلا وإن نظنك لمن الكاذبين

١٩٩

ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس أي من عرفة لا من المزدلفة والخطاب لقريش لما كانوا يقفون بجمع وسائر الناس بعرفه ويرون ذلك ترفعا عليهم فأمروا بأن يساووهم وثم لتفاوت ما بين الإفاضتين كما في قولك احسن الى الناس ثم لا تحسن الا الى كريم

وقيل من مزدلفة الى منى بعد الإفاضة من عرفة اليها والخطاب عام وقرئ الناس بكسر السين أي الناسى على ان يراد به آدم عليه السلام من قوله تعالى فنسى والمعنى أن الإفاضة من عرفة شرع قديم فلا تغيروه

واستغفروا اللّه من جاهليتكم في تغيير المناسك

إن اللّه غفور رحيم يغفر ذنب المستغفر وينعم عليه فهو تعليل للاستغفار أو للأمر به

٢٠٠

فإذا قضيتم مناسككم عباداتكم المتعلقة بالحج وفرغتم منها

فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم أي فأكثروا ذكره تعالى وبالغوا في ذلك كما تفعلون بذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم وكانت العرب اذا قضوا مناسكهم وقفوا بمنى بين المسجد والجبل فيذكرون مفاخر آبائهم ومحاسن أيامهم

أو اشد ذكرا اما مجرور معطوف على الذكر بجعله ذاكرا على المجاز والمعنى فاذكروا اللّه ذكرا كائنا مثل ذكركم آباءكم أو كذكر اشد منه وابلغ أو على ما اضيف اليه بمعنى أو كذكر قوم اشد منكم ذكرا أو منصوب بالعطف على آباءكم وذكرا من فعل المذكور بمعنى أو كذكركم اشد مذكور من آبائكم أو بمضمر دل عليه تقديره أو كونوا اشد ذكرا للّه منكم لآبائكم

فمن الناس تفصيل للذاكرين الى من لا يطلب بذكر اللّه الا الدنيا والى من يطلب به خير الدارين والمراد به الحث على الاكثار والانتظام في سلك الآخرين

من يقول أي في ذكره

ربنا آتنا في الدنيا أي اجعل إيتاءنا ومنحتنا في الدنيا خاصة

وماله في الآخرة من خلاق أي من حظ ونصيب لاقتصار همه على الدنيا فهو بيان لحاله في الآخرة أو من طلب خلاق فهو بيان لحاله في الدنيا وتأكيد لقصر دعائه على المطالب الدنيوية

٢٠١

ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة هي الصحة والكفاف والتوفيق للخير

وفي الآخرة حسنة هي الثواب والرحمة

وقنا عذاب النار بالعفو والمغفرة وروى عن على رضى اللّه عنه أن الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة وفي الآخرة الحوراء وعذاب النار امرأة السوء وعن الحسن ان الحسنة في الدنيا العلم والعبادة وفي الآخرة الجنة وقنا عذاب النار معناه احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى النار

٢٠٢

أولئك إشارة إلى الفريق الثاني باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الجميلة وما فيه من معنى البعد لمامر مرارا من الإشارة إلى علو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل

وقيل إليهما معا فالتنوين في قوله تعالى

لهم نصيب مما كسبوا على الأول للتفخيم وعلى الثاني للتنويع أي لكل منهم نوع نصيب من جنس ما كسبوا أو من أجله كقوله تعالى مما خطيئاتهم أغرقوا أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه وتسمية الدعاء كسبا لما أنه من الأعمال

واللّه سريع الحساب يحاسب العباد على كثرتهم وكثرة أعمالهم في مقدار لمحة فاحذروا من الإخلال بطاعة من هذا شأن قدرته أو يوشك أن يقيم القيامة و يحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات وأكتساب الحسنات

٢٠٣

و أذكروا اللّه أي كبروه في أعقاب الصلوات وعند ذبح القرابين ورمي الجمار وغيرها

في أيام معدودات هي أيام التشريق

فمن تعجل أي أستعجل في النفر أو النفر فإن التفعل والاستفعال يجيئان لازمين ومتعديين يقال تعجل في الأمر وأستعجل فيه وتعجله وأستعجله والأول اوفق للتأخر كما في قوله

 ... قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون من المستعجل الزلل ...

في يومين أي في تمام يومين بعد يوم النحر هو يوم النحر ويوم الرءؤس واليوم بعده ينفر إذا فرغ من رمي الجمار ومن تأخر في النفر حتى رمي في اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده وعند الشافعي بعده فقط

فلا أثم عليه بما صنع من التأخر والمراد التخيير بين التعجل والتأخر ولا يقدح فيه أفضلية الثاني وإنما ورد بنفي الإثم تصريحا بالرد على أهل الجاهلية حيث كانوا مختلفين فمن مؤثم للمتعجل ومؤثم للمتأخر

لمن أتقى خبر لمبتدأ محذوف أي الذي ذكر من التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر أو من الأحكام لمن أتقى لأنه الحاج على الحقيقة والمنتفع به أو لأجله حتى لا يتضرر بترك ما يهمه منهما

وأتقوا اللّه في مجامع اموركم بفعل الواجبات وترك المحضورات ليعبأبكم وتنظموا في سلك المغتنمين بالاحكام المذكورة والرخص أو احذروا الإخلال بما ذكر من الاحكام وهو الأنسب بقوله عز و جل

وأعلموا أنكم إليه تحشرون أي للجزاء على أعمالكم بعد الإحياء والبعث واصل الحشر الجمع وضم المتفرق وهو تأكيد للأمر بالتقوى وموجب للأمتثال به فإن من علم بالحشر والمحاسبة والجزاء كان ذلك من أقوى الدواعي إلى ملازمة التقوى

٢٠٤

ومن الناس من يعجبك قوله تجريد للخطاب و توجيه له اليه عليه الصلاة و السلام و هو كلام مبتدأ سيق لبيان تحزب الناس في شأن التقوى إلى حزبين وتعيين مآل كل منهما و من موصولة أو موصوفة وإعرابه كما بين في قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا باللّه واليوم الآخر أي ومنهم من يروقك كلامه ويعظم موقعه في نفسك لما تشاهد فيه من ملاءمه الفحوى ولطف الأداء والتعجب حيرة تعرض للأنسان بسبب عدم الشعور بسبب ما يتعجب منه

في الحياة الدنيا متعلق يقوله أي ما يقوله في حق الحياة الدنيا ومعناها فإنها الذي يريده بما يدعيه من الإيمان ومحبة الرسول وفيه إشارة إلى أن له قولا آخر ليس بهذه الصفة أو بيعجبك أي يعجبك قوله في الدنيا بحلاوته وفصاحته لافي الآخرة لما أنه يظهر هناك كذبه وقبحه

وقيل لما يرهقه من الحبسة واللكنه وأنت خبير بأنه لا مبالغة حينئذ في سوء حاله فإن مآلة بيان حسن كلامه في الدنيا وقبحه في الاخرة

وقيل معنى في الحياة الدنيا مدة الحياة الدنيا أي لا يصدر منه فيها إلا القول الحسن

ويشهد اللّه على ما في قلبه أي بحسب إدعائه حيث يقول اللّه يعلم أن ما في قلبي موافق لما في لساني وهو عطف على يعجبك وقرئ ويشهد اللّه فالمراد بما في قلبه ما فيه حقيقة ويؤيده قراءة ابن عباس رضي اللّه عنهما واللّه يشهد على ما في قلبه على أن كلمة على لكون المشهود به مضرا له فالجملة اعتراضية وقرئ ويستشهد اللّه

وهو ألد الخصام أي شديد العدواه والخصومة للمسلمين على أن الخصام مصدر وإضافة ألد اليه بمعنى في كقولهم ثبت العذر أو أشد الخصوم لهم خصومة على أنه جمع خصم كصعب وصعاب قيل نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وكان حسن المنظر حلو المنطق يوالى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ويدعى الإسلام والمحبة

وقيل في المنافقين والجملة حال من الضمير المجرور في قوله أو من المستكن في يشهد وعطف على ما قبلها على القراءتين المتوسطتين

٢٠٥

وإذا تولى أي من مجلسك

وقيل إذا صار واليا

سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل كما فعله الأخنس بثقيف حيث بيتهم وأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاف أو بالظلم حتى يمنع اللّه تعالى بشؤمه القطر فيهلك الحرث والنسل وقرئ ويهلك الحرث والنسل على إسناد الهلاك إليهما عطفا على سعى وقرئ بفتح اللام وهي لغة وقرئ على البناء للمفعول من الإهلاك

واللّه لا يحب الفساد أي لا يرتضيه ويبعضه ويغضب على من يتعاطاه وهو اعتراض تذييلي

٢٠٦

وإذا قيل له على نهج العظة والنصيحة

اتق اللّه واترك ما تباشره من الفساد أو النفاق واحذر سوء مغبته

أخذته العزة بالإثم أي حملته الأنفة وحمية الجاهلية على الإثم الذي نهى عنه لجاجا وعنادا من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه أوألزمته أياه

فحسبه جهنم مبتدأ وخبر أي كافيه جهنم

وقيل جهنم فاعل لحسبه ساد مسد خبره وهو مصدر بمعنى الفاعل وقوى لاعتماده على الفاء الرابطة للجملة بما قبلها

وقيل حسب اسم فعل ماض أي كفته جهنم

ولبئس المهاد جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف لظهورة وتعينه والمهاد الفراش

وقيل ما يوطأ للجنب والجملة اعتراض

٢٠٧

ومن الناس من يشرى نفسه مبتدأ وخبر كما مر أي يبيعها ببذلها في الجهاد ومشاق الطاعات وتعريضها للمهالك في الحروب أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وإن ترتب عليه القتل

ابتغاء مرضات اللّه أي طالبا لرضاه وهذا كمال التقوى وإيراده قسيما للأول من حيث أن ذلك يأنف من الأمر بالتقوى وهذا يأمر بذلك وإن أدى إلى الهلاك

وقيل نزلت في صهيب بن سنان الرومي أخذه المشركون وعذبوه ليرتد فقال إني شيخ كبير لاأنفعكم إن كنت معكم ولا أضركم إن كنت عليكم فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالى فقبلوا منه ماله فأتى المدينة فيشرى حينئذ بمعنى يشترى لجريان الحال على صورة الشرى

واللّه رءوف بالعباد ولذلك يكلفهم التقوى ويعرضهم للثواب والجملة اعتراض تذييلى

٢٠٨

يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم أي الاستسلام والطاعة

وقيل الإسلام وقرئ بفتح السين وهي لغة فيه بفتح اللام أيضا وقوله تعالى

كافة حال من الضمير في ادخلو ا أو من السلم أو منهما معا كما في قوله

 ... خرجت بها تمشى تجر وراءنا ... على أثرينا ذيل مرط مرجل ...

وهي في الأصل اسم لجماعة تكف مخالفها ثم استعملت في معنى جميعا وتاؤها ليست للتأنيت حتى يحتاج إلى جعل السلم مؤنثا مثل الحرب كما في قوله عز و جل وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وفي قوله

 ... السلم تأخذ منها مارضيت به ... والحرب يكفيك من أنفاسها جرع ...

وإنما هي للنقل كما في عامة وخاصة وقاطبة والمعنى استسلموا للّه تعالى وأطيعوه جملة ظاهرا وباطنا والخطاب للمنافقين أو ادخلوا في الإسلام بكليته ولا تخلطوا به غيره والخطاب لمؤمنى أهل الكتاب فإنهم كانوا يراعون بعض أحكام دينهم القديم بعد إسلامهم أو شرائع اللّه تعالى كلها بالإيمان بالأنبياء عليهم السلام والكتب جيعا والخطاب لأهل الكتاب كلهم ووصفهم بالإيمان إما على طريقة التغليب

وأما بالنظر إلى إيمانهم القديم أو في شعب الإسلام واحكامه كلها فلا يخلوا بشئ منها والخطاب للمسلمين وإنما خوطب أهل الكتاب بعنوان الإيمان مع أنه لا يصح الإيمان إلا بما كلفوه الآن إيذانا بأن ما يدعونه لا يتم بدونه

ولا تتبعوا خطوات الشيطان بالتفرق والتفريق أو بمخالفة ما أمرتم به

إنه لكم عدو مبين ظاهر العداوة أو مظهر لها وهو تعليل للنهى أو الانتهاء

٢٠٩

فإن زللتم أي عن الدخول في السلم وقرئ بكسر اللام وهي لغة فيه

من بعد ما جاءتكم الايات

البينات والحجج القطعية الدالة على حقيقته الموجبة للدخول فيه

فاعلموا أن اللّه عزيز غالب على أمره لا يعجزه الانتقام منكم

حكيم لايترك ما تقتضيه الحكمة من مؤاخذة المجرمين المستعصين على أوامره

٢١٠

هل ينظرون استفهام إنكاري في معنى النفى أي ما ينتظرون بما يفعلون من العناد والمخالفة في الامتثال بما أمروا به والانتهاء عما نهوا عنه

إلا أن يأتيهم اللّه أي أمره وبأسه أو يأتيهم اللّه بامره وبأسه فحذف المأتى به لدلالة الحال عليه والالتفات إلى الغيبة للإيذان بأن سوء صنيعهم موجب للإعراض عنهم وحكاية جنايتهم لمن عداهم من أهل الإنصاف على طريقة المباثة وإيراد الانتظار للإشعار بأنهم لانهماكهم فيما هم فيه من موجبات العقوبة كأنهم طالبون لها مترقبون لوقوعها

في ظلل كقلل في جمع قلة وهي ما أظلك وقرئ في ظلال كقلال في جمع قلة

من الغمام أي السحاب الأبيض وإنما أتاهم العذاب فيه لما أنه مظنة الرحمة فإذا أتى منه العذاب كان أفظع وأقطع للمطامع فإن إتيان الشر من حيث لا يحتسب صعب فكيف بإتيانه من حيث يرجى منه الخير

والملائكة عطف على الأسم الجليل أي ويأتيهم الملائكة فإنهم وسائط في إتيان أمره تعالى بل هم الآتون ببأسه على الحقيقة وتوسيط الظرف بينهما للإيذان بأن الآتي أو لا من جنس ما يلابس الغمام ويترتب عليه عادة

وأما الملائكة وأن كان إتيانهم مقارنا لما ذكر من الغمام لكن ذلك ليس بطريق الاعتياد وقرئ بالجر عطفا على ظلل أوالغمام

وقضى الأمر أي اتم امر إهلاكهم وفرغ منه وهو عطف على يأتيهم داخل في حيز الانتظار وانما عدل الى صيغة الماضي دلالة على تحققه فكأنه قد كان أو جملة مستأنفة جيء بها إنباء عن وقوع مضمونها وقرئ وقضاء الأمر عطفا على الملائكة

والى اللّه لا الى غيره

ترجع الأمور بالتأنيث على البناء للمفعول من الرجع وقرئ بالتذكير وعلى البناء للفاعل بالتأنيث من الرجوع

سل بني اسرائيل الخطاب للرسول أو لكل أحد من أهل الخطاب والمراد بالسؤال تبكيتهم وتقريعهم بذلك وتقريرلمجيء البينات

كما آتيناهم من آية بينة معجزة ظاهرة على ايدي الأنبياء عليهم السلام وآية ناطقة بحقية الاسلام المأمور بالدخول فيه وكم خبرية أو استفهامية مقررة ومحلها النصب على المفعوليه أو الرفع بالابتداء على حذف العائد من الخبر وآية مميزها

ومن يبدل نعمة اللّه التي هي آياته الباهرة فإنها سبب للّهدى الذي هو أجل النعم وتبديلها جعلها سببا للضلالة وازدياد الرجس أو تحريفها أو تأويلها الزائغ

من بعد ما جاءته ووصلت اليه وتمكن من معرفتها والتصريح بذلك مع أن التبديل لا يتصور قبل المجيء للإشعار بأنهم قد بدلوها بعد ما وقفوا على تفصيلها كما في قوله عز و جل ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون قيل تقديره فبذلوها ومن يبدل وإنما حذف للإيذان بعدم الحاجة الى التصريح به لظهوره

فإن اللّه شديد العقاب تعليل للجواب كأنه قيل ومن يبدل نعمة اللّه عاقبه أشد عقوبة فإنه شديد العقاب واظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وادخال الروعة

٢١٢

زين للذين كفروا الحياة الدنيا أي حسنت في أعيانهم وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وتهافتوا فيها معرضين عن غيرها والتزيين من حيث الخلق والإيجاد مستند الى اللّه سبحانه كما يعرب عنه القراءة على البناء للفاعل اذا ما من شيء إلا وهو خالقه وكل من الشيطان والقوي الحيوانية وما في الدنيا من الأمور البهية والأشياء الشهية مزين بالعرض

ويسخرون من الذين آمنوا عطف على زين وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على استمرار السخرية منهم وهم فقراء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب رضي اللّه عنهم كانوا يسترذلونهم ويستهزءون بهم على رفضهم الدنيا واقبالهم على العقبى ومن ابتدائية فكأنهم جعلوا السخرية مبتدأة منهم

والذين اتقوا هم الذين آمنوا بعينهم وانما ذكروا بعنوان التقوى للإيذان بأن إعراضهم عن الدنيا للإتقاء عنها لكونها مخلة بتبتلهم الى جناب القدس شاغلة عنهم

فوقهم يوم القيامة لأنهم في أعلى عليين وهم في أسفل سافلين أو لأنهم في أوج الكرامة وهم في حضيض الذل والمهانة أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا والجملة معطوفة على ما قبلها وايثار الاسمية للدلالة على دوام مضمونها

واللّه يرزق من يشاء أي في الدارين

بغير حساب بغير تقدير فيوسع في الدنيا استدراجا تارة وابتلاء أخرى

٢١٣

كان الناس أمة واحدة متفقين على كلمة الحق ودين الاسلام وكان ذلك بين آدم وادريس أو نوح عليهم السلام أو بعد الطوفان

فبعث اللّه النبيين أي فاختلفوا فبعث الخ وهي قراءة ابن مسعود رضي اللّه عنه وقد حذف تعويلا على ما يذكر عقيبه

مبشرين ومنذرين عن كعب الذي علمته من عدد الأنبياء عليهم السلام مئة وأربعة وعشرون ألفا والمرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر والمذكور في القرآن ثمانية وعشرون

وقيل كان الناس أمة واحدة متفقة على الكفر والضلال في فترة ادريس أو نوح فبعث اللّه النبيين فاختلفوا عليهم والأول هو الأنسب بالنظم الكريم

وأنزل معهم الكتاب أي جنس الكتاب أو مع كل واحد منهم ممن له كتاب كتابه الخاص به لا مع كل واحد منهم على الاطلاق اذ لم يكن لبعضهم كتاب وانما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم وعموم النبيين لا ينافى خصوص الضمير العائد اليه بمعونة المقام

بالحق حال من الكتاب أي ملتبسا بالحق أو متعلقا بأنزل ك قوله عز وعلا وبالحق أنزلناه وبالحق نزل

ليحكم أي الكتاب أو اللّه سبحانه وتعالى أو كل واحد من النبيين

بين الناس أي المذكورين والاظهار في موضع الاضمار لزيادة التعيين

فيما اختلفوا فيه أي في الحق الذي اختلفوا فيه أو فيما التبس عليهم

وما اختلف فيه أي في الحق أو في الكتاب المنزل ملتبسا به والواو حالية

الا الذين أوتوه أي الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف وازاحة الشقاق والتعبير عن الإنزال بالإيتاء للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما في تضاعيفه من الحق فإن الإنزال لا يفيد تلك الفائدة أي عكسوا الأمر حيث جعلوا ما أنزل لإزالة الاختلاف سببا لإستحكامه ورسوخه

من بعد ما جاءتهم البينات أي رسخت في عقولهم ومن متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام أي فاختلفوا وما اختلف فيه الخ

وقيل بالملفوظ بناء على عدم منع إلا عنه كما في قولك ما قام إلا زيد يوم

بغيا بينهم متعلق بما تعلقت به من أي اختلفوا بغيا وتهالكا على الدنيا

فهدى اللّه الذين آمنوا بالكتاب

لما اختلفوا فيه أي للحق الذي اختلف فيه من اختلف

من الحق بيان لما وفي إبهامه أولا وتفسيره ثانيا ما لا يخفى من التفخيم

بإدنه بإمره أو بتيسيره ولطفه

واللّه يهدي من يشاء إلى صراط المستقيم موصل إلى الحق وهو أعتراض مقرر لمضمون ما سبق

٢١٤

أم حسبتم خوطب به رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ومن معه من المؤمنين حثا لهم على الثبات على المصابرة على مخالفة الكفرة وتحمل المشاق من جهتهم إثر بيان أختلاف الأمم على الانبياء عليهم السلام وقد بين فيه مآل اختلافهم وما لقي الانبياء ومن معهم من قبلهم من مكابدة الشدائد ومقاساة الهموم وان عاقبة أمرهم النصر وأم منقطعة والهمزة فيها للإنكار والاستبعاد أي بل حسبتم

أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين أي والحال انه لم يأتكم مثلهم بعد ولم تبتلوا بما بتلوا به من الأحوال الهائلة التي هي مثل في الفظاعة والشدة وهو متوقع ومنتظر

مستهم استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الذهن كانه قيل كيف كان مثلهم فقيل مستهم

البأساء أي الشدة من الخوف والفاقة

والضراء أي الآلام والأمراض

وزلزلوا أي ازعجوا أزعاجا شديدا بما دهمهم من الأهوال والإفزاع

حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه أي انتهى أمرهم من الشدة إلى حيث اضطرهم الضجر إلى أن يقول الرسول وهو أعلم الناس بشئون اللّه تعالى وأوثقهم بنصره والمؤمنون المقتدون بآثاره المستضيئون بأنواره

متى أي متى ياتي

نصر اللّه طلبا وتمنيا له واستطالة لمدة الشدة والعناء وقرئ حتى يقول بالرفع على أنه حكاية حال ما ضية وهذا كما ترى غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية كيف لا والرسل مع علو كعبهم في الثبات والاصطبار حيث عيل صبرهم وبلغوا هذا المبلغ من الضجر والضجيج علم أن الأمر بلغ إلى غاية لامطمح وراءها

إلا إن نصر اللّه قريب على تقدير القول أي فقيل لهم حينئذ ذلك إسعافا لمرامهم بالقرب القرب الزماني وفي إيثار الجملة الاسمية على الفعلية المناسبة لما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه والتأكيد من الدلالة على تحقيق مضمونها وتقريره مالا يخفى واختيار حكاية الوعد بالنصر لنا أنها في حكم إنشاء الوعد لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم والاقتصار على حكايتها دون حكاية نفس النصر مع تحققه للإيذان بعدم الحاجة إلى ذلك لاستحالة الخلف ويجوز أن يكون هذا واردا من جهته تعالى عند الحكاية على نهج الاعتراض لا واردا عند وقوع المحكى وفيه رمز إلى أن الوصول إلى جناب القدس لا يتسنى إلا برفض اللذات ومكايدة المشاق كما ينبئ عنه قوله حضت الجنة بالمكارة وحضت النار بالشهوات

٢١٥

يسألونك ماذا ينفقون أي من أصناف أموالهم

قل ماأنفقتم من خير ما إما شرطية

وأما موصوله حذف العائد إليها أي ما أنفقتموه من خير أي خير كان ففيه تجويز الإنفاق من جميع أنواع الأموال وبيان لما في السؤال إلا أنه جعل من جملة ما في حيز الشرط أو الصلة وأبرز في معرض بيان المصرف حيث قيل

فللو الدين والأقربين للإيذان بأن الأهم بيان المصارف المعدودة لأن الاعتداد بالإنفاق بحسب وقوعه في موقعه وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما أنه جاء عمرو بن الجموح وهو شيخ هرم له مال عظيم فقال يارسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ماذا ننفق من أموالنا أين نضعها فنزلت

واليتامى أي المحتاجين منهم

والمساكين وابن السبيل ولم يتعرض للسائلين والرقاب إما اكتفاء بما ذكر في المواقع الأخر

وأما بناء على دخولهم تحت عموم قوله تعالى

وما تفعلوا من خير فإنه شامل لكل خير واقع في أي مصرف كان

فإن اللّه به عليم فيوفى ثوابه وليس في الآية ما ينافيه فرض الزكاة لينسخ له كما نقل عن السدى

٢١٦

كتب عليكم القتال ببناء الفعل للمفعول ورفع القتال أي قتال الكفرة وقرئ ببنائه للفاعل وهو اللّه عز و جل ونصب القتال وقرئ كتب عليكم القتل أي قتل الكفرة والواو في قوله تعالى

وهو كره لكم حالية أي والحال أنه مكروه لكم طبعا على أن الكره مصدر وصف به المفعول مبالغة أو بمعنى المفعول كالخبز بمعنى المخبوز وقرئ بالفتح على انه بمعنى المضموم كالضعف والضعف أو على أنه بمعنى الإكراه مجازا كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهتهم له ومشقته عليهم

وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وهو جميع ما كلفوه من الأمور الشاقة التي من جملتها القتال فإن النفوس تكرهه وتنفر عنه والجملة اعتراضية دالة على أن في القتال خيرا لهم

وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم وهو جميع ما نهوا عنه من الأمور المستلذة وهو معطوف على ما قبله لا محل لهما من الإعراب

واللّه يعلم ما هو خير لكم فلذلك يأمركم به

وأنتم لا تعلمون أي لا تعلمونه ولذلك تكرهونه أو واللّه يعلم ما هو خير وشر لكم وأنتم لا تعلمونهما فلا تتبعوا في ذلك رأيكم وامتثلوا بأمره تعالى

٢١٧

يسألونك عن الشهر الحرام روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعث عبد اللّه بن جحش على سرية في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ليترصدوا عيرا لقريش فيهم عمرو بن عبداللّه الحضرمى وثلاثة معه فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير بما فيها من تجارة الطائف وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة فقالت قريش وقد استحل محمد الشهر الحرام شهرا يامن فيه الخائف ويبذعر فيه الناس إلى معايشهم فوقف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم العير وعظم ذلك على أصحاب السرية وقالوا ما نبرح حتى تنزل توبتنا ورد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم العير والأسارى وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما لما نزلت أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الغنيمة والمعنى يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام علىأن قوله عز و جل

قتال فيه بدل اشتمال من الشهر وتنكيره لما أن سؤالهم كان عن مطلق القتال الواقع في الشهر الحرام لا عن القتال المعهود ولذلك لم يقل يسألونك عن القتال في الشهر الحرام وقرئ عن قتال فيه بتكرير العامل كما في قوله تعالى للذين استضعفوا لمن آمن منهم وقرئ قتل

قل في جوابهم

قتال فيه كبير جملة من مبتدأ وخبر محلها النصب بقل وإنما جاز وقوع قتال مبتدأ مع كونه نكرة لتخصصه أما بالوصف إن تعلق الظرف بمحذوف وقع صفة له أي قتال كائن فيه

وأما بالعمل أن تعلق به وإنما أوثر التكير احترازا عن توهم التعيين وإيذانا بأن المراد مطلق القتال الواقع فيه أي قتال كان عن عطاء أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف باللّه ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وما نسخت وأكثر الأقاويل أنها منسوخة بقوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم

وصد عن سبيل اللّه مبتدأ قد تخصص بالعمل فيما بعده أي ومنع عن الإسلام الموصل للعبد إلى اللّه تعالى

وكفر به عطف على صد عامل فيما بعده مثله أي وكفر باللّه تعالى وحيث كان الصد عن سبيل اللّه فردا من افراد الكفر به تعالى لم يقدح العطف المذكور في حسن عطف قوله تعالى

والمسجد الحرام على سبيل اللّه لأنه ليس بأجنبى محض

وقيل هو أيضا معطوف على صد بتقدير المضاف أي وصد المسجد الحرام

وإخراج أهله وهو النبي والمؤمنون

منه أي من المسجد الحرام وهو عطف على وكفر به

أكبر عند اللّه خبر للإشياء المعدودة أي كبائر السائلين أكبر عند اللّه مما عنوا بالسؤال وهو ما فعلته السرية خطأ وبناء على الظن وافعل يستوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث

والفتنة أي ما أرتكبوه من الإخراج والشرك وصد الناس عن الإسلام ابتداء وبقاء

أكبر من القتل أي أفظع من قتل الحضرمي

ولا يزالون يقاتلونكم بيان لاستحكام عداوتهم وإصرارهم على الفتنة في الدين

حتى يردوكم عن دينكم الحق إلى دينهم الباطل وإضافة الدين إليهم لتذكير تأكد ما بينهما من العلاقة الموجبة لامتناع الافتراق

إن استطاعوا إشارة إلى تصلبهم في الدين وثبات قدمهم فيه كأنه قيل وأني لهم ذلك

ومن يرتد منكم عن دينه تحذير من الارتداد أي ومن يفعل ذلك بإضلالهم وإغوائهم

فيمت وهو كافر بأن لم يرجع إلى الإسلام وفيه ترغيب في الرجوع إلى الإسلام بعد الارتداد

فأولئك إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الارتداد والموت عليه وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلتهم في الشر والفساد والجمع للنظر إلى المعنى أي أولئك المصرون على الارتداد إلى حين الموت

حبطت أعمالهم الحسنة التي كانوا عملوها في حالة الإسلام حبوطا لاتلافى له قطعا

في الدنيا والآخرة بحيث لم يبق لها حكم من الأحكام الدنيوية والأخروية

وأولئك الموصوفون بما ذكر سابقا ولاحقا من القبائح

أصحاب النار أي ملابسوها وملازموها

هم فيها خالدون كدأب سائر الكفرة

٢١٨

إن الذين آمنوا نزلت في أصحاب السرية لما ظن بهم أنهم أن سلموا من الإثم فلا أجر لهم

والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه كرر الموصول مع أن المراد بهما واحد لتفخيم شان الهجرة والجهاد فكأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء

أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة

يرجعون بما لهم من مبادئ الفوز

رحمة اللّه أي ثوابه اثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجو للإيذان بأنهم عالمون بأن العمل غير موجب للأجر وإنما هو على طريق التفضل منه سبحانه لا لأن في فوزهم اشتباها

واللّه غفور مبالغ في مغفرة ما فرط من عباده خطأ

رحيم يجزل لهم الأجر والثواب والجملة اعتراض محقق لمضمون ما قبلها

٢١٩

يسألونك عن الخمر والميسر تواردت في شأن الخمر أربع آيات نزلت بمكة ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا فطفق المسلمون بشربونها ثم أن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة رضوان اللّه تعالى عليهم اجمعين قالوا افتنا يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في الخمر فإنها مذهبة للعقل فنزلت هذه الآية فشربها قوم وتركها آخرون ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم فشربوا فسكروا فأقام احدهم فقرأ قل يا ايها الكافرون أعبد ما تعبدون فنزلت لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى الآية فقل من يشربها ثم دعا عتبان بن مالك سعد بن ابي وقاص في نفر فلما سكروا تفاخروا وتناشدوا حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار فضربه انصارى بلحى بعير فشجه موضحة فشكا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال اللّهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت إنما الخمر والميسر الى قوله تعالى فهل انتم منتهون فقال عمر رضي اللّه عنه انتهينا يا رب وعن علي رضي اللّه عنه لو وقعت قطرة منها في بئر فبنيت في مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت في بحر ثم جف فنبت فيه الكلأ لم ارعه وعن ابن عمر رضي اللّه اللّه عنهما لو أدخلت اصبعي فيها لم تتبعني وهذا هو الإيمان والتقى حقا رضوان اللّه تعالى عليهم اجمعين والخمر مصدر خمره أي ستره سمى به من عصير العنب ما غلى واشتد وقذف بالزبد لتغطيتها العقل والتمييز كأنها نفس الستر كما سميت سكرا لأنها تسكرهما أي تحجزهما والميسر مصدر ميمي من يسر كالموعد والمرجع يقال يسرته إذا قمرته واشتقاقه إما من اليسر لأنه أخذ المال بيسر من غير كد

وأما من اليسار لأنه سلب له وصفته أنه كانت لهم عشرة أقداح هي الأزلام زالاقلام الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد لكل منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها عشرة أجزاء

وقيل ثمانية وعشرين إلا الثلاثة هي المنيح والسفيح والوغد للفذ سهم وللتوأم سهمان وللرقيب ثلاثة وللحلس أربعة وللنافس خمسة وللمسبل ستة وللمعلى سبعة يجعلونها في الربابة وهي خريطة ويضعونها على يدي عدل ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا قدحا فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب المعين لها ومن خرج له من تلك الثلاثة غرم ثمن الجزور مع حرمانه وكانوا يدفعون تلك الأنصباء الى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لايدخل فيه ويسمونه البرم وفي حكمه جميع أنواع القمار من النرد والشطرنج وغيرهما وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال إياكم وهاتين اللعبتين المشئومتين فإنهما مياسر العجم وعن علي كرم اللّه وجهه أن النرد والشطرنج من الميسر وعن ابن سيرين كل شيء فيه خطر فهو من الميسر والمعنى يسألونك عن حكمهما وعما في تعاطيهما

قل فيهما إثم كبير أي في تعاطيهما ذلك لما أن الأول مسلبة للعقول التي هي قطب الدين والدنيا مع كون كل منهما متلفة للأموال

ومنافع للناس من كسب الطرب واللذة ومصاحبة الفتيان وتشجيع الجبان وتقوية الطبيعة وقرئ إثم كثير بالمثلثة وفي تقديم بيان إثمه ووصفه بالكبر وتأخير ذكر منافعه مع تخصيصهما بالناس من الدلالة على غلبة الأول مالا يخفى على ما نطق به قوله تعالى

وإثمهما أكبر من نفعهما أي المفاسد المترتبة على تعاطيهما أعظم من الفوائد المترتبة عليه وقرئ أقرب من نفعهما

ويسألونك ماذا ينفقون عطف على يسألونك عن الخمر الخ عطف القصة على القصة أي أي شيء ينفقونه قيل هو عمرو بن الجموح أيضا سأل أولا لا من أي جنس ينفق من أجناس الأموال فلما بين جواز الإنفاق من جميع الأجناس سأل ثانيا من أي أصنافها ننفق أمن خيارها أم من غيرها أو سأل عن مقدار ما ينفقه منه فقيل

قل العفو بالنصب أي ينفقون العفو أو انفقوا العفو وقرئ بالرفع على أن ما استفهامية وذا موصولة صلتها ينفقون أي الذي ينفقونه العفو قال الواحدي أصل العفو في اللغة الزيادة وقال القفال العفو ما سهل وتيسر مما فضل من الكفاية وهو قول قتادة وعطاء والسدي وكانت الصحابة رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين يكسبون المال ويمسكون قدر النفقة ويتصدقون بالفضل

وروى أن رجلا أتى النبي ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم فقال خذها مني صدقة فأعرض عنه فكرر ذلك مرارا حتى قال عليه السلام مغضبا هاتها فأخذها فخذفها عليه خذفا لو أصابته لشجته ثم قال يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غني

كذلك إشارة الى مصدر الفعل الآتي وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المشار اليه في الفضل مع كمال تميزه وانتظامه بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة والكاف لتأكيد ما أفاده اسم الاشارة من الفخامة وافراد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين باعتبار القبيل أو الفريق أو لعدم القصد الى تعيين المخاطب كما مر ومحله النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي مثل ذلك البيان الواضح الذي هو عبارة عما مضى في أجوبة الاسئلة المارة

يبين اللّه لكم الآيات الدالة على الاحكام الشرعية المذكورة لا بيانا أدنى منه وقد مر تمام تحقيقه في قوله تعالى وكذلك جعلناكم امة وسطا وتبيين الآيات تنزيلها مبينة الفحوى واضحة المدلول لا أنه تعالى يبينها بعد أن كانت مشتبهة ملتبسة وصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة

لعلكم تتفكرون لكي تتفكروا فيها

وتقفوا على مقاصدها وتعملوا بما في تضاعيفها وقوله تعالى

٢٢٠

في الدنيا والآخرة متعلق اما بيبين أي يبين لكم فيما يتعلق بالدنيا والآخرة الآيات

وأما بمحذوف وقع حالا من الآيات أي يبينها لكم كائنة فيهما أي مبينة لأحوالكم المتعلقة بهما وانما قدم عليه التعليل لمزيد الاعتناء بشأن التفكر

وأما بقوله تعالى تتفكرون أي تتفكرون في الامور المتعلقة بالدنيا والآخرة في الاحكام الواردة في اجوبة الاسئلة المارة فتختارون منها ما يصلح لكم فيهما وتجتنبون عن غيره وهذا التخصيص هو المناسب لمقام تعداد الاحكام الجزئية ويجوز التعميم لجميع الامور المتعلقة بالدنيا والآخرة فذلك حينئذ اشارة الى ما مر من البيانات كلا أو بعضا لا الى مصدر ما بعده فإنه حينئذ فعل مستقل ليس عن تلك البيانات والمراد بالآيات غير ما ذكر والمعنى مثل ذلك البيان الوارد في الاجوبة المذكورة يبين اللّه لكم الآيات والدلائل لعلكم تتفكرون في أموركم المتعلقة بالدنيا والآخرة وتأخذون بما يصلح لكم وينفعكم فيهما وتذرون ما يضركم حسبما تقتضيه تلك الآيات المبينة

ويسألونك عن اليتامى عطف على ما قبله من نظيره روى أنه لما نزلت ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية تحامي الناس عن مخالطة اليتامى وتعهد أموالهم فشق عليهم ذلك فذكروه للنبي فنزلت

قل إصلاح لهم خير أي التعرض لأحوالهم وأموالهم على طريق الاصلاح خير من مجانبتهم اتقاء

وإن تخالطوهم وتعاشروهم على وجه ينفعهم

فإخوانكم أي فهم إخوانكم أي في الدين الذي هو أقوى من العلاقة النسبية ومن حقوق الاخوة ومواجبها المخالطة بالاصلاح والنفع وقد حمل المخالطة على المصاهرة

واللّه يعلم المفسد من المصلح العلم بمعنى المعرفة المتعدية الى واحد ومن لتضمينه معنى التمييز أي يعلم من يفسد في أمورهم عند المخالطة أو من يقصد بمخالطته الخيانة والافساد مميزا له ممن يصلح فيها أو يقصد الاصلاح فيجازي كلا منهما بعمله ففيه وعد ووعيد خلا أن في تقديم المفسد مزيد تهديد وتأكيد للوعيد

ولوشاء اللّه لأعنتكم أي لو شاء أن يعنتكم أي يكلفكم ما يشق عليكم من العنت وهو المشقة لفعل ولم يجوز لكم مداخلتهم

ان اللّه عزيز غالب على أمره لا يعز عليه امر من الامور التي من جملتها اعناتكم فهو تعليل لمضمون الشرطية وقوله عز و جل

حكيم أي فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة الداعية الى بناء التكليف على اساس الطاقة دليل على ما تفيده كلمة لو من انتفاء مقدمها

٢٢١

ولا تنكحوا المشركات أي لا تتزوجوهن وقرئ بضم التاء من الانكاح أي لا تزوجوهن من المسلمين

حتى يؤمن والمراد بهن اما ما يعم الكتابيات أيضا حسبما يقتضيه عموم التعليلين الآتيين لقوله تعالى وقالت اليهود عزير ابن اللّه وقالت النصارى المسيح ابن اللّه الى قوله سبحانه عما يشركون فالآية منسوخة بقوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم

وأما غير الكتابيات فهي ثابتة وروى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعث مرثد بن ابي مرثد الغنوي الى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها عناق فأتته فقالت الا تخلو فقال ويحك ان الاسلام حال بيننا فقال هل لك ان تتزوج بي قال نعم ولكن ارجع الى النبي فأستأمره فنزلت

ولأمة مؤمنة تعليل للنهي عن مواصلتهن وترغيب في مواصلة المؤمنات صدر بلام الابتداء الشبيهة بلام القسم في افادة التأكيد مبالغة في الحمل على الانزجار واصل امة أمو حذفت لامها على غير قياس وعوض منه تاء التأنيث ودليل كون لامها واوا رجعوها في الجمع قال الكلابي

 ... اما الاماء فلا يدعونني ولدا ... اذا تداعى بنو الاموات بالعار ...

وظهورها في المصدر يقال هي امة بينة الاموة واقرت له بالاموة وقد وقعت مبتدأ لما فيها من لام الابتداء والوصف أي ولأمة مؤمنة مع ما بها من خساسة الرق وقلة الخطر

خير بحسب الدين والدنيا

من مشركة أي امرأة مشركة مع مالها من شرف الحرية ورفعة الشأن

ولو أعجبتكم قد مر أن كلمة لو في أمثال هذه المواقع ليست لبيان انتفاء الشيء في الماضي لانتفاء غيره فيه فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ثقة بدلالة ما قبلها عليه من انصباب المعنى على تقديره بل هي لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم على كل حال مفروض من الاحوال المقارنة له على الاجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته معه ثبوته مع ما عداه من الاحوال بطريق الاولوية لما ان الشيء متى تحقق مع المنافي القوي فلأن يتحقق مع غيره أولى ولذلك لا يذكر معه شيء من سائر الاحوال ويكتفي عنه بذكر الواو العاطفة للجملة على نظيرتها المقابلة لها المتناولة لجميع الاحوال المغايرة لها وهذا معنى قولهم انها لاستقصاء الاحوال على وجه الاجمال كأنه قيل لو لم تعجبكم ولو أعجبتكم والجملة في حيز النصب على الحالية من مشركة إذ المآل ولأمة مؤمنة خير من امرأة مشركة حال عدم اعجابها وحال اعجابها اياكم بجمالها ومالها ونسبها وبغير ذلك من مبادي الاعجاب وموجبات الرغبة فيها أي على كل حال وقد اقتصر على ذكر ما هو أشد منافاة للخيرية تنبيها على أنها حيث تحققت معه فلأن تتحقق مع غيره أولى

وقيل الواو حالية وليس بواضح

وقيل اعتراضية وليس بسديد والحق انها عاطفة مستتبعة لما ذكر من الاعتبار اللطيف نعم يجوز أن تكون الجملة الأولى مع ما عطف عليها مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها فتدبر

ولا تنكحوا المشركين من الانكاح والمراد بهم الكفار على الاطلاق لما مر أي لا تزوجوا منهم المؤمنات سواء كن حرائر أو إماء

حتى يؤمنوا ويتركوا ماهم فيه من الكفر

ولعبد مؤمن مع ما به من ذل المملوكية

خير من مشرك مع ماله من عز المالكية

ولو أعجبكم مما فيه من دواعي الرغبة فيه الراجعة الى ذاته وصفاته

أولئك استئناف مقرر لمضمون التعليلين المارين أي أولئك المذكورون من المشركات والمشركين

يدعون من يقارنهم ويعاشرهم

الى النار أي الى ما يؤدي اليها من الكفر والفسوق فلا بد من الاجتناب عن مقارنتهم ومقاربتهم

واللّه يدعو بواسطة عباده المؤمنين من يقارنهم

إلى الجنة والمغفرة أي إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح الموصلين إليهما وتقديم الجنة على المغفرة مع ان حق التخلية أن تقدم على التحلية لرعاية مقابلة النار ابتداء

بإذنه متعلق بيدعو أي يدعو ملتبسا بتوفيقه الذي من جملته إرشاد المؤمنين لمقارنيهم إلى الخير ونصيحتهم إياهم فهم أحقاء بالمواصلة

ويبين آياته المستملة على الأحكام الفائقة والحكم الرائقة

للناس لعلهم يتذكرون أي لكى يتذكروا ويعملوا بما فيها فيفوزوا بما دعوا إليه من الجنة والغفران هذا وقد قيل معنى واللّه يدعوا وأولياء اللّه يدعون وهم المؤمنون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه تشريفا لهم وأنت خبير بان الضمير في المعطوف على الخبر أعنى قوله تعالى ويبين للّه تعالى فيلزم التفكيك

وقيل معناه واللّه يدعو بأحكامه المذكورة إلى الجنة والمغفرة فإنها موصلة لمن عمل بها إليهما وهذا وإن كان مستدعيا لاتحاد مرجع الضميرين الكائنين في الجملتين المتعاطفتين الواقعتين خبرا للمبتدأ لكن يفوت حينئذ حسن المقابلة بينه وبين قوله تعالى أولئك يدعون إلى النار ولعل الطريق الأسلم ما أوضحناه أولا وإيراد التذكر ههنا للإشعار بأنه واضح لا يحتاج إلى التفكر كما في الأحكام السابقة

٢٢٢

ويسألونك عن المحيض عطف على ما تقدم من مثله ولعل حكاية هذه الأسئلة الثلاثة بالعطف لوقوع الكل عند السؤال عن الخمر وحكاية ما عداها بغير عطف لوقوع كل من ذلك في وقت على حدة والمحيض مصدر من حاضت المراة كالمجئ والمبيت روى ان أهل الجاهلية كانوا لا يساكنون الحيض ولا يؤاكلونهن كدأب اليهود والمجوس واستمر الناس على ذلك إلى ان سأل عن ذلك أبو الدحاح في نفر من الصحابة رضوان اللّه عليهم فنزلت

قل هو أذى أي شئ يستقذر منه ويؤذي من يقربه نفرة منه وكراهة له

فاعتزلوا النساء في المحيض أي فاجتنبوا مجامعتهن في حالة المحيض قيل لأخذ المسلمون بظاهر الاعتزال فأخرجوهن من بيوتهم فقال ناس من الأعراب يارسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم البرد شديد والثياب قليلة فإن آثرناهن هلك سائر أهل البيت وإن استأثرنا بها هلكت الحيض فقال إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهن إذا حضن ولم يأمركم بإخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم

وقيل أن النصارى كانوا يجامعونهن ولا يبالون بالحيض واليهود كانوا يفرطون في الاعتزال فأمر المسلمون بالاقتصاد بين الأمرين

ولا تقربوهن حتى يطهرن تأكيد لحكم الاعتزال وتنبيه على أن المراد به عدم قربانهن لاعدم القرب منهن وبيان لغايته وهو انقطاع الدم عند أبي حنيفة رحمه اللّه فإن كان ذلك في أكثر المدة حل القربان كما انقطع والا فلا بد من الاغتسال أو من مضى وقت صلاة وعند الشافعي رحمه اللّه أن يغتسلن بعد الانقطاع كما تفصح عنه القراءة بالتشديد ويبنى عنه قوله عز و جل

فإذ تطهرون فإن التطهر هو الاغتسال

فأتوهن من حيث أمركم اللّه من المأتى الذي حللّه لكم وهو القبل

إن اللّه يحب التوابين مما عسى يندر منهم من ارتكاب بعض ما نهوا عنه ومن سائر الذنوب

ويحب المتطهرين المتنزهين عن الفواحش والأقذار وفي ذكر التوبة إشعار بمساس الحاجة إليها بارتكاب بعض الناس لمانهوا عنه وتكرير الفعل لمزيد العناية بأمر التطهر

٢٢٣

نساؤكم حرث لكم أي مواضع حرث لكم شبهن بها لما بين ما يلقى في أرحامهن وبين البذور من المشابهة من حيث أن كلا منهما مادة لما يحصل منه

فأتوا حرثكم لما عبر عنهن بالحرث عبر عن مجامعتهن بالإتيان وهو بيان لقوله تعالى فاتوهن من حيث أمركم اللّه

أنى شئتم من أي جهة شئتم روى أن اليهود كانوا يزعمون أن من أتى امرأته في قبلها من دبرها يأتي ولده أحول فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنزلت

وقدموا لأنفسكم أي ما يدخر لكم من الثواب

وقيل هو طلب الولد قيل هو التسمية عند المباشرة

واتقوا اللّه بالاجتناب عن معاصيه التي من جملتها ما عد من الأمور

واعلموا أنكم ملاقوه فتعرضوا لتحصيل ما تنتفعون به حينئذ واجتنبوا اقتراف ما تفتضحون به

وبشر المؤمنين الذين تلقوا ما خوطبوا به من الأوامر والنواهي بحسن القبول والامتثال بما يقصر عنه البيان من الكرامة والنعيم المقيم أو بكل ما يبشر به من الأمور التي تسر بها القلوب وتقر بها العيون وفيه مع ما في تلوين الخطاب وجعل المبشر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من المبالغة في تشريف المؤمنين مالا يخفى

٢٢٤

ولا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم قيل نزلت في عبد اللّه بن رواحة حين حلف أن لا يكلم ختنه بشير بن النعمان ولا يصلح بينه وبين أخته

وقيل في الصديق رضي اللّه عنه حين حلف أن لا ينفق على مسطح لخوضه في حديث الإفك والعرضة فعله بمعنى مفعول كالقبضة والغرفة تطلق على ما يعرض دون الشئ فيصير حاجزا عنه كما يقال فلان عرضة للخير وعلى المعرض للأمر كما في قوله

 ... فلا تجعلوني عرضة للوائم ...

فالمعنى على الوجه الأول لاتجعلوا اللّه مانعا للأمور الحسنة التي تحلفون على تركها وعبر عنها بالإيمان لملابستها بها كما في قوله عليه السلام لعبد اللّه بن سمرة إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك وقوله تعالى

أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس عطف بيان لإيمانكم أو بدل منها لما عرفت أنها عبارة عن الأمور المحلوف عليها واللام في لأيمانكم متعلقة بالفعل أو بعرضه لما فيها من معنى الاعتراض أي لاتجعلوا اللّه لبركم وتقوا كم وإصلاحكم بين الناس عرضة أي برزخا حاجزا بان تحلفوا به تعالى على تركها أولا تجعلوه تعالى عرضة أي شيئا يعترض الأمور المذكورة ويحجزها بما ذكر من الحلف به تعالى على تركها وقد جوز أن تكون اللام للتعليل ويتعلق ان تبروا الخ بالفعل أو بعرضه فيكون الايمان بمعناها وأنت خبير بانه يؤدى إلى الفصل بين العامل ومعموله بأجنبى وعلى الوجه الثاني لا تجعلوا اللّه معرضا لإيمانكم تبتذلونه بكثرة الحلف به ولذلك ذم من نزلت فيه ولا تطع كل حلاف مهين بأشنع المذام وجعل الحلاف مقدمتها وأن تبروا حينئذ علة للنهى أي إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا لأن الحلاف مجترئ على اللّه سبحانه غير معظم له فلا يكون برا متقيا ثقة بين الناس فيكون بمعزل من التوسط في إصلاح ذات البين

واللّه سميع يسمع أيمانكم

عليم يعلم نياتكم فحافظوا على ما كلفتموه

٢٢٥

لايؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم اللغو ما سقط من الكلام عن درجة الاعتبار والمراد به في الإيمان مالا عقد معه ولا قصد كما ينبئ عنه قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان وهو المعنى بقوله عز و جل

ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم وقد اختلف فيه فعندنا هو ان يحلف على شئ يظنه على ما حلف عليه ثم يظهر خلافة فإنه لا قصد فيه إلى الكذب وعند الشافعي رحمه اللّه هو قول العرب لا واللّه وبلى مما يؤكدون به كلامهم من غير إخطار الحلف بالبال فالمعنى على الأول لا يؤاخذكم اللّه أي لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم ظانا أنه صادق فيه ولكن يعاقبكم بما اقترفته قلوبكم من إثم القصد إلىالكذب في اليمين وذلك في الغموس وعلى الثاني لا يلزمكم الكفارة بما لا قصد معه إلىاليمين ولكن يلزمكموها بما نوت قلوبكم وقصدت به اليمين ولم يكن كسب اللسان فقط

واللّه غفور حيث لم يؤاخذكم باللغو مع كونه ناشئا من عدم التثبت وقلة المبالاة

حليم حيث لم يعجل بالمؤاخذة والجملة اعتراض مقر لمضمون قوله تعالى لا يؤاخذكم الخ وفيه إيذان بان المراد بالمؤاخذة المعاقبة لا إيجاب الكفارة إذ هي التي يتعلق بها المغفرة والحلم دونه

٢٢٦

للذين يؤلون من نسائهم الإيلاء الحلف وحقة أن يستعمل بعلى واستعمالى بمن لتضمينه معنى البعد أي للذين يحلفون متباعدين من نسائهم ويحتمل أن يراد لهم من نسائهم

اربص أربعة أشهر كقولك لى منك كذا وقرئ آلوا من نسائهم وقرئ يقسمون من نسائهم والإيلاء من المرأة أن يقول واللّه لا أقربك أربعة أشهر فصاعدا على التقييد بالأشهر أولا أقربك على الإطلاق ولا يكون فيما دون ذلك وحكمة انه إن فاء إليها في المدة بالوطء إن أمكن أوبالقول أن عجز عنه صح الفئ وحنث القادر ولزمته كفارة اليمين ولاكفارة على العاجز وأن مضت الأربعة بانت بتطليقه والتربص الانتظار والتوقف أضيف إلى الظرف اتساعا أي لهم أن ينتظروا في هذه المدة من غير مطالبة بفئ أو طلاق

فإن فاءوا أي رجعوا عن اليمن بالحنث والفاء للتفصيل كما إذا قلت أنا نزيلكم هذا الشهر فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره والالم أبث إلا ريثا أتحول

فإن اللّه غفور رحيم يغفر للمولى بفيئته التي هي كتوبته إثم حنثه عند تكفيره أو ما قصد بالإيلاء من ضرار المراة

٢٢٧

وإن عزموا الطلاق وأجمعوا عليه

فإن اللّه سميع بما جرى منهم من الطلاق وما يتعلق به من الدمدمة والمقاولة التي لا تخلوا عنها الحال عادة

عليم بنياتهم وفيه من الوعيد على الإصرار وترك الفيئة ما لا يخفى

٢٢٨

والمطلقات أي ذوات الأقراء من الحرائر المدخول بهن لما قد بين أن لا عدة على غير المدخول بها وأن عدة من لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل بالأشهر ووضع الحمل وأن عدة الأمة قرءان أو شهران

يتربصن خبر في معنى الأمر مفيد للتأكيد بإشعاره بأن المأمور به مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى الإيتان به فكأنهن امتثلن بالأمر فتخبر به موجودا متحققا وبناؤه علىالمبتدأ مفيد لزيادة تأكيد

بأنفسهن الباء للتعدية أي يقمعنها ويحملنها على مالا تشتهية بل يشق عليها من التربص وفيه مزيد حث لهن على ذلك لما فيه من الإنباء عن الاتصاف بما يستنكفن منه من كون نفوسهن طوامح إلى الرجال فيحملهن ذلك على الإقدام على الإتيان بما أمرن به

ثلاثة قروء نصب على الظرفية أو المفعولية بتقدير مضاف أي يتربصن مدة ثلاثة قروء أو يتربصن مضى ثلاثة قروء وهو جمع قرء والمراد به الحيض بدليل قوله دعى الصلاة أيام أقرائك وقوله طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان وقوله تعالى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر ولأن المقصود الأصلى من العدة استبراء الرحم ومدارة الحيض دون الطهر ويقال أقرأت المراة إذا حاضت وقوله تعالى فطلقوهن لعدتهن معناه مستقبلات لعدتهن وهي الحيض الثلاث وإيراد جمع الكثرة في مقام جمع القلة بطريق الاتساع فإن ايراد كل من الجمعين مكان الآخر شائع ذائع وقرئ ثلاثة قرو بغير همز

ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهن من الحيض والولد استعجالا في العدة وإبطالا لحق الرجعة وفيه دليل على قبول قولهن في ذلك نفيا وإثباتا

إن كن يؤمن باللّه واليوم الآخر جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبلة دلالة واضحة أي فلا يجترئن على ذلك فإن قضية الإيمان باللّه تعالى واليوم الآخر الذي يقع فيه الجزاء والعقوبة منافية له قطعا

وبعولتهن البعولة جمع بعل وهو في الأصل السيد المالك والتاء لتأنيث الجمع كما في الحزونة والسهولة أو مصدر بتقدير مضاف أي أهل بعولتهن أي أزواجهن الذين طلقوهن طلاقا رجعيا كما ينبئ عنه التعبير عنهم بالبعولة والضمير لبعض افراد المطلقات

أحق بردهن إلى ملكهم بالرجعة إليهن

في ذلك أي في زمان التربص وصيغة التفضيل لإفادة أن الرجل إذا أراد الرجعة والمرأة تأباها وحب أيثار قوله على قولها لا أن لها أيضا حقا في الرجعة

أن أرادوا أي الأزواج بالرجعة

إصلاحا لما بينهم وبينهن وإحسانا إليهن ولم يريدوا مضارتهن وليس المراد به شرطية قصد الإصلاح بصحة الرجعة بل هو الحث عليه والزجر عن قصد الضرار

ولهن عليهم من الحقوق

مثل الذي لهم

عليهن بالمعروف من الحقوق التي يجب مراعاتها ويتحتم المحافظة عليها

وللرجال عليهن درجة أي زيادة في الحق لأن حقوقهم في أنفسهن وحقوقهن في المهر والكفاف وترك الضرار ونحوها أو مزية في الفضل لما أنهم قوامون عليهن حراس لهن ولما في أيديهن يشاركونهن فيما هو الغرض من الزواج ويستبدون بفضيله الرعاية والإنفاق

واللّه عزيز يقدر على الانتقام ممن يخالف أحكامه

حكيم تنطوى شرائعه على الحكم والمصالح

٢٢٩

الطلاق هو بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم والمراد به الرجعى لما أنه السابق الأقرب حكمة ولما روى لأنه سئل عن الثالثة فقال أو تسريح بإحسان وهو مبتدأ بتقدير مضاف خبره ما بعده أي عدد الطلاق الذي يستحق الزوج فيه الرد والرجعة حسبما بين آنفا

مرتان أي ثبان وإيثار ما ورد به النظم الكريم عليه للإيذان بأن حقهما أن يقعا مرة بعد مرة لادفعة واحدة وإن كان حكم الرد ثابتا حينئذ ايضا

فإمساك أي فالحكم بعدهما إمساك لهن بالرجعة

بمعروف أي بحسن عشرة ولطف معاملة

أوتسريح بإحسان بالطلقة الثالة كما روى عنه أو بعدم الرجعة إلى أن تنقضى العدة فتبين

وقيل المراد به الطلاق الشرعي وبالمرتين مطلق التكرير لا التثنية بعينها كما في قوله تعالى ثم ارجع البصر كرتين أي كرة والمعنى أن التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع بين الطلقتين أو الثلاث فإن ذلك بدعة عندنا فقوله تعالى فإمساك الخ حكم مبتدأ وتخيير مستأنف والفاء فيه للترتيب على التعليم كأنه قيل إذا علمتم كيفية التطليق فأمركم أحد الأمرين

ولا يحل لكم أن تاخذوا منهن بمقابلة الطلاق

مما آتيتموهن أي من الصدقات وتخصيصها بالذكر وإن شاركها في الحكم سائر أموالهن إما لرعاية العادة أو للتنبيه على أنه إذا لم يحل لهم أن يأخذوا مما آتوهن بمقابلة البضع عند خروجه عن ملكهم فلأن لا يحل أن يأخذوا مما لا تعلق له بالبضع أولى وأحرى

شيئا أي نزرا يسيرا فضلا عن الكثير وتقديم الظرف عليه لما مر مرارا أو الخطاب مع الحكام وإسناد الأخذ والإيتاء إليهم لأنهم الآمرون بهما عند المرافعة

وقيل مع الأزواج وما بعده مع الحكام وذلك مما يشوش النظم الكريم على القراءة المشهورة

إلا أن يخافا أي الزوجان وقرئ يظنا وهو مؤيد لتفسير الخوف بالظن

ان لا يقيما حدود اللّه أي أن لايراعيا مواجب أحكام الزوجية وقرئ يخافا على البناء للفعول وإبدال أن بصلته من الضمير بدل الاشتمال وقرئ تخافا وتقيما بتاء الخطاب

فإن خفتم أيها الحكام

أن لا تقيما أي على الزوجين

حدود اللّه بمشاهدة بعض الأمارات والمخايل

فلا جناح عليهما أي على الزوجين

فيما افتدت به لا على الزوج في أخذ ما افتدت به ولا عليهما في إعطائه إياه وروى أن جميلة بنت عبداللّه بن أبي بن سلول كانت تبعض زوجها ثابت بن قيس فأتت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالت لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ورأسه شئ واللّه ما أعيب عليه في دين ولا خلق ولكن أكره الكفر بعد الإسلام ما أطيقه بغضا أني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها فنزلت فاختلعت منه بحديقة كان أصدقها أياها

تلك أي الأحكام المذكور

حدود اللّه فلا تعتدوها بالمخالفة والرفض

 ومن يتعد حدود اللّه فأولئك المتعدون والجمع باعتبار معنى الموصول

هم الظالمون أي لأنفسهم بتعريضها لسخط اللّه تعالى وعقابه ووضع الاسم الجليل في المواقع الثلاثة الأخيرة موقع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتعقيب النهى بالوعيد للمبالغة في التهديد

٢٣٠

فإن طلقها أي بعد الطلقتين

فلا تحل هي

له من بعد أي من بعد هذا الطلاق

حتى تنكح زوجا غيره أي تتزوج غيره فإن النكاح أيضا يسند إلى كل منهما وتعلق بظاهرة من اقتصر على العقد والجمهور على اشتراط الإصابة لما روى أن امرأة رفاعة قالت لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إن رفاعة طلقنى فبت طلاقى وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وأن ما معه مثل هدبة الثوب فقال أتريدين إن ترجعي إلى رفاعة قالت نعم قال لا إلا أن تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك وبمثله تجوز الزيادة على الكتاب

وقيل النكاح بمعنى الوطء والعقد مستفاد من لفظ الزوج والحكمة من هذا التشريع الردع عن المسارعة إلى الطلاق والعود إلى المطلقة ثلاثا والرغبة فيها والنكاح بشرط التحليل مكروه عندنا ويروى عدم الكراهة فيما لم يكن الشرط مصرحا به وفاسد عند الأكثرين لقوله لعن اللّه المحلل والمحلل له

فإن طلقها أي الزوج الثاني فى جناح عليهما أي على الزوج الأول والمرأة

ان يتراجعا أن يرجع كل منهما إلى الآخر بالعقد

إن ظنا أن يقيما حدود اللّه التي أوجب مراعاتها على الزوجين من الحقوق ولا وجه لتفسير الظن بالعلم لما ان العواقب غير معلومة ولأن أن الناصية للتوقع المنافى للعلم و لذلك لا يكاد يقال علمت أن يقوم زيد

وتلك إشارة إلى الأحكام المذكورة إلى هنا

حدود اللّه أي احكامه المعينة المحمية من التعرض لها بالتغير والمخالفة

يبينها بهذا البيان اللائق أو سيبينها فيما سيأتي بناء على أن بعضها يلحقه زيادة كشف وبيان بالكتاب والسنة والجملة خبر ثان عند من يجوز كونه جملة كما في قوله تعالى فإذا هي حية تسعى أو حال من حدود اللّه والعامل معنى الإشارة

لقوم يعلمون أي يفهمون وتخصيصهم بالذكر مع عموم الدعوة والتبليغ لما انهم المنتفعون بالبيان أو لأن ما سيلحق بعض النصوص من البيان لا يقف عليه إلا الراسخون في العلم

٢٣١

وإذا طلقتم النساء فبلغهن أجلهن أي آخر عدتهن فإن الأجل كما ينطلق

على المدة ينطلق على منتهاها والبلوغ هو الوصول إلى الشئ وقد يقال للدنو منه اتساعا وهو المراد ههنا لقوله عز و جل

فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعرف إذ لا مكان للإمساك بعد تحقق بلوغ الأجل أي فراجعوهن بغير ضرار أو خلوهن حتى ينقضى اجلهن بإحسان من غير تطويل وهذا كما ترى إعادة للحكم في بعض صوره اعتناء بشانه ومبالغة في إيجاب المحافظة عليه

ولا تمسكوهن ضرارا تأكيد للأمر بالإمساك بمعروف وتوضيح لمعناه وزجر صريح عما كانوا يتعاطونه أي لا تراجعوهن إرادة الإضرار بهن كان المطلق يترك المعتدة حتى إذا شارفت انقضاء الأجل يراجعها لا لرغبة فيها بل ليطول عليها العدة فنهى عنه بعد ما أمر بضده لما ذكر وضرارا نصب على العلية أو الحالية أي لا تمسكوهن للمضارة أو مضارين واللام في قوله

لتعدوا متعلقة بضرارا أي لتظلموهن لالإلجاء إلى الإفتداء

ومن يفعل ذلك أي ما ذكر من الامساك المؤدى إلى الظلم وما فيه من معنى البعد للدلالة على بعد منزلته في الشر والفساد

فقد ظلم نفسه في ضمن ظلمه لهن بتعريضها للعقاب

ولا تتخذوا آيات اللّه المنطوية على الأحكام المذكورة أو جميع آياته وهي داخلة فيها دخولا أوليا

هزوا أي مهزوا بها بأن تعرضوا عنها وتتهاونوا في المحافظة على ما في تضاعيفها من الأحكام والحدود من قولهم لمن لم يجد في الأمر أنت هازئ كأنه نهى عن الهزؤ بها وأريد ما يستلزمه من الأمر بضده أي جدوا في الأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها والا فقد أخذتموها هزؤا ولعبا ويجوز أن يراد به النهى عن الإمساك ضرارا فإن الرجعة بلا رغبة فيها عمل بموجب آيات اللّه تعالى بحسب الظاهر دون الحقيقة وهو معنى الهزء

وقيل كان الرجل ينكح ويطلق ويعتق ثم يقول إنما كنت ألعب فنزلت ولذلك قال ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والعتاق

واذكروا نعمة اللّه عليكم حيث هداكم إلى ما فيه سعادتكم الدينية والدنيوية أي قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا من نعمة اللّه أي كائنة عليكم أو صفة لها على راى من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أي الكائنة عليكم ويجوز أن يتعلق بنفسها أن أريد بها الإنعام لأنها اسم مصدر كنبات من أنبت ولا يقدح في عمله تاء التأنبث لأنه مبنى عليها كما في قوله

 ... فلولا رجاء النصر منك ورهبة ... عقابك قد كانوا لنا كالموارد ...

وما انزل عليكم عطف على نعمة اللّه وما موصوله حذف عائدها من الصلة ومن في قوله عز و جل

من الكتاب والحكمة بيانيه أي من القرآن والسنة أو القرآن الجامع للعنوانين على أن العطف لتغاير الوصفين كما في قوله

 ... إلىالملك القرم وابن الهمام ...

وفي إبهامه أولا ثم بيانه من التفخيم مالا يخفي وفي افراده بالذكر مع كونه اول ما دخل في النعمة المأمور بذكرها إبانة بخطره ومبالغة في البعث على مرعاة ما ذكر قبله من الأحكام

يعظكم به أي بما أنزل حال من فاعل أنزل أو مفعوله أو منهما معا

واتقوا اللّه في شان المحافظة عليه والقيام بحقوقة الواجبة

واعلموا أن اللّه بكل شئ عليم فلا يخفى عليه شئ مما تأتون وما تذرون فيؤاخذكم بأفانين العقاب

٢٣٢

وإذا طلقتم النساء فبلغن إجلهن فلا تعضلوهن بيان لحكم ما كانوا يفعلونه عند بلوغ الأجل حقيقة بعد بيان حكم ما كانوا يفعلونه عند المشارفة إليه والعضل الحبس والتضييق ومنه عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها ولم يخرج والمراد المنع والخطاب إما للأولياء لما روى أنها نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته جملا أن ترجع إلى زوجها الأول بالنكاح وقيل نزلت في جابر بن عبداللّه حين عضل أبنة عم له وإسناد التطليق إليهم لتسببهم فيه كما ينبى عنه تصديهم للعضل ولعل التعرض لبلوغ الأجل مع جواز التزوج بالزوج الأول قبله أيضا لوقوع العضل المذكور حينئذ وليس فيه دلالة على أن ليس للمراة أن تزوج نفسها والا لما احتيج إلى نهى الأولياء عن العضل لما أن النهى لدفع الضرر عنهن فإنهن وإن قدرن على تزويج أنفسهن لكنهن يحترزن عن ذلك مخافة اللوم والقطيعة

وأما للأزواج حيث كانوا يعضلون مطلقاتهم ولا يدعونهن يتزوجن ظلما وقسرا لحمية الجاهلية

وأما للناس كافة فإن اسناد ما فعله واحد منهم إلى الجميع شائع مستفيض والمعنى إذا وجد فيكم طلاق فلا يقع فيما بينكم عضل سواء كان ذلك من قبل الأولياء أو من جهة الأزواج أو من غيرهم وفيه تهويل لأمر العضل وتحذير منه وإيذان بان وقوع ذلك بين ظهرانهم وهم ساكتون عنه بمنزلة صدورة عن الكل في استتباع اللأئمة وسرابة الغائلة

أن ينكحن أي من أن ينكحن فمحله النصب عند سيبوية والفراء والجر عند الخليل على الخلاف المشهور

وقيل هو بدل اشتمال من الضمير المنصوب في تعضلوهن وفيه دلالة على صحة النكاح بعبارتهن

أزواجهن إن أريد بهم المطلقون فالزوجية إما باعتبار ماكان

وأما باعتبار ما يكون والا فبالا عتبار الأخير

إذا تراضوا ظرف للا تعضلوا وصيغة التذكير باعتبار تغليب الخطاب على النساء والتقييد به لأنه المعتاد لا لتجويز المنع قبل تمام التراضي

وقيل ظرف لأن ينكحن وقوله تعالى

بينهم ظرف للتراضي مفيد لرسوخه واستحكامه

بالمعروف الجميل عند الشرع المستحسن عند الناس والباء اما متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل تراضوا أو نعتا لمصدر محذوف أي تراضيا كائنا بالمعروف

وأما بتراضوا أي يتراضوا بما يحسن في الدين والمروءة وفيه إشعار بأن المنع من التزوج بغير كفؤ أو بما دون مهر المثل ليس من باب العضل

ذلك إشارة الى ما فصل من الأحكام وما فيه من معنى البعد لتعظيم المشار اليه والخطاب لجميع المكلفين كما فيما بعده والتوحيد اما باعتبار كل واحد منهم

وأما بتأويل القبيل والفريق

وأما لأن الكاف لمجرد الخطاب والفرق بين الحاضر والمنقضى دون تعيين المخاطبين أو للرسول كما في قوله تعالى يأيها النبي إذا طلقتم النساء للدلالة على أن حقيقة المشار اليه أمر لا يكاد يعرفه كل أحد

يوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه واليوم الآخر فيسارع الى الامتثال بأوامر ونواهيه إجلالا له وخوفا من عقابه وقوله تعالى

منكم إما متعلق بكان عند من يجوز عملها في الظروف وشبهها

وأما بمحذوف وقع حالا من فاعل يؤمن أي كائنا منكم

ذلكم أي الاتعاظ به والعمل بمقتضاه

أزكى لكم أي أنمى وأنفع

وأطهر من أدناس الآثام وأوضار الذنوب

واللّه يعلم ما فيه من الزكاة والطهر

وأنتم لا تعلمون ذلك أو واللّه يعلم ما فيه صلاح أموركم من الأحكام والشرائع التي من جملتها ما بينه ههنا وأنتم لا تعلمونها فدعوا رأيكم وامتثلوا أمره تعالى ونهيه في كل ما تأتون وما تذرون

٢٣٣

والوالدات يرضعن أولادهن شروع في بيان الأحكام المتعلقة بأولادهن خصوصا واشتراكا وهو أمر أخرج مخرج الخبر مبالغة في الحمل على تحقيق مضمونه ومعناه الندب أو الوجوب إن خص بمادة عدم قبول الصبي ثدي الغير أو فقدان الظئر أو عجز الوالد عن الاستئجار والتعبير عنهن بالعنوان المذكور لهز عطفهن نحو أولادهن والحكم عام للمطلقات وغيرهن

وقيل خاص بهن إذ الكلام فيهن

حولين كاملين التأكيد بصفة الكمال لبيان ان التقدير تحقيقي لا تقريبي مبني على المسامحة المعتادة

لمن أراد ان يتم الرضاعة بيان لمن يتوجه اليه الحكم أي ذلك لمن أراد اتمام الرضاعة وفيه دلالة على جواز النقص

وقيل اللام متعلقة بيرضعن فإن الأب يجب عليه الارضاع كالنفقة والأم ترضع له كما يقال أرضعت فلانة لفلان ولده

وعلى المولود له أي الوالد فإن الولد يولد له وينسب اليه وتغيير العبارة للإشارة الى المعنى المقتضى لوجوب الإرضاع ومؤنة المرضعة عليه

رزقهن وكسوتهن أجرة لهن واختلف في استئجار الأم وهو غير جائز عندنا ما دامت في النكاح أو العدة جائز عند الشافعي رحمه اللّه

بالمعروف حسبما يراه الحاكم ويفي به وسعه

لا تكلف نفس الا وسعها تعليل لإيجاب المؤن بالمعروف أو تفسير للمعروف وهو نص على أنه تعالى لا يكلف العبد مالا يطيقه وذلك لا ينافي إمكانه

لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده تفصيل لما قبله وتقرير له أي لا يكلف كل واحد منهما الآخر مالا يطيقه ولا يضاره بسبب ولده وقرئ لا تضار بالرفع بدلا من لاتكلف وأصله على القراءتين لا تضارر بالكسر على البناء للفاعل وبالفتح على البناء للمفعول وعلى الوجه الأول يجوز ان يكون بمعنى تضر والباء من صلته أي لا يضر الوالدان بالولد فيفرط في تعهده ويقصر فيما ينبغي له وقرئ لا تضار بالسكون مع التشديد على نية الوقف وبه مع التخفيف على أنه من ضاره يضيره وإضافة الولد الى كل منهما لاستعطافهما اليه وللتنبيه على أنه جدير بأن يتفقا على استصلاحه ولا ينبغي أن يضرابه أو يتضارا بسببه

وعلى الوارث مثل ذلك عطف على قوله تعالى وعلى المولود له رزقهن الخ وما بينهما تعليل أو تفسير معترض والمراد به وارث الصبي ممن كان ذا رحم محرم منه

وقيل عصباته وقال الشافعي رحمه اللّه هو وارث الأب وهو الصبي أي تمان المرضعة من ماله عند موت الأب ولا نزاع فيه وانما الكلام فيما إذا لم يكن للصبي مال

وقيل الباقي من الأبوين من قوله عليه الصلاة و السلام واجعله الوارث منا وذلك اشارة الى ما وجب على الأب من الرزق والكسوة

فإن أرادا أي الوالدان

فصالا أي فطاما عن الرضاع قبل تمام الحولين والتنكير للإيذان بأنه فصال غير معتاد

عن تراض متعلق بمحذوف ينساق اليه الذهن أي صادرا عن تراض

منهما أي من الوالدين لا من أحدهما فقط لاحتمال إقدامه على ما يضر بالولد بأن تمل المرأة الإرضاع ويبخل الأب بإعطاء الأجرة

وتشاور في شأن الولد وتفحص عن أحواله واجماع منهما على استحقاقه للفطام والتشاور من المشورة وهي استخراج الرأي من شرت العسل إذا استخرجته وتنكيرهما للتفخيم

فلا جناح عليهما في ذلك لما أن تراضيهما انما يكون بعد استقرار رأيهما أو اجتهادهما على أن صلاح الولد في الفطام وقلما يتفقان على الخطأ وإن أردتم بيان لحكم عدم اتفاقهما على الفطام والالتفات الى خطاب الآباء لهزهم الى الامتثال بما أمروا به

أن تسترضعوا أولادكم بحذف المفعول الأول استغناء عنه أي أن تسترضعوا المراضع لأولادكم يقال أرضعت المرأة الصبي واسترضعتها إياه

وقيل انما يتعدى الى الثاني بحرف الجر يقال استرضعت المرأة للصبي أي أن تسترضعوا المراضع لأولادكم فحذف حرف الجر أيضا كما في قوله تعالى وإذا كالوهم أي كالوا لهم

فلا جناح عليكم أي في الاسترضاع وفيه دلالة على أن للأب أن يسترضع للولد ويمنع الأم من الارضاع

إذا سلمتم أي الى المراضع

ما آتيتم أي ما أردتم ايتاءه كما في قوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه وقرئ ما أتيتم من أتى اليه إحسانا إذا فعله وقرئ ما أوتيتم أي من جهة اللّه عز و جل كما في قوله تعالى وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه وفيه مزيد بعث لهم الى التسليم

بالمعروف متعلق بسلمتم أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعا وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه وليس التسليم بشرط للصحة والجواز بل هو ندب الى ماهو الأليق والأولى فإن المراضع إذا أعطين ما قدر لهن ناجزا يدا بيد كان ذلك أدخل في استصلاح شئون الأطفال

واتقوا اللّه في شأن مراعاة الأحكام المذكورة

واعلموا أن اللّه بما تعلمون بصير فيجازيكم بذلك واظهار الاسم في موضع الاضمار لتربية المهابة وفيه من الوعيد والتهديد مالا يخفى

٢٣٤

والذين على حذف المضاف أي وأزواج الذين

يتوفون منكم أي تقبض أرواحهم بالموت فإن التوفى هو القبض يقال توفيت مالي من فلان واستوفيته منه أي أخذته وقبضته والخطاب لكافة الناس بطريق التلوين

ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا أو على حذف العائد الى المبتدأ في الخبر أي يتربصن بعدهم كما في قولهم السمن منوان بدرهم أي منوان منه وقرئ يتوفون بفتح الياء أي يستوفون آجالهم وتأنيث العشر باعتبار الليالي لأنها غرر الشهور والأيام ولذلك تراهم لا يكادون يستعملون التذكير في مثله أصلا حتى أنهم يقولون صمت عشرا ومن البين في ذلك قوله تعالى ان لبثتم الا عشرا ثم ان لبثتم الايوما ولعل الحكمة في هذا التقدير ان الجنين اذا كان ذكرا يتحرك غالبا لثلاثة أشهر وإن كان أنثى يتحرك لأربعة فاعتبر اقصى الأجلين وزيد عليه العشر استظهارا إذ ربما تضعف الحركة فلا يحس بها وعموم اللفظ يقتضي تساوي المسلمة والكتابية والحرة والأمة في هذا الحكم ولكن القياس اقتضى التنصيف في الامة وقوله عز و جل وأولات الأحمال خص الحامل منه وعن علي وابن عباس رضي اللّه عنهم انها تعتد بأبعد الاجلين احتياطا

فإذا بلغن أجلهن أي انقضت عدتهن

فلا جناح عليكم ايها الحكام والمسلمون جميعا

فيما فعلن في انفسهن من التزين والتعرض للخطاب وسائر ما حرم على المعتدة

بالمعروف بالوجه الذي لا ينكره الشرع وفيه اشارة الى أنهن لو فعلن ما ينكره الشرع فعليهم ان يكفوهن عن ذلك والا فعليهم الجناح

واللّه بما تعملون خبير فلا تعملوا خلاف ما أمرتم به

٢٣٥

ولا جناح عليكم خطاب للكل

فيما عرضتم به التعريض والتلويح ابهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازا كقول السائل جئتك لأسلم عليك واصله امالة الكلام عن نهجه الى عرض منه أي جانب والكناية هي الدلالة على الشيء بذكر لوازمه وروادفه كقولك طويل النجاد للطويل وكثير الرماد للمضياف

من خطبة النساء الخطبة بالكسر كالقعدة والجلسة ما يفعله الخاطب من الطلب والاستلطاف بالقول والفعل فقيل هي مأخوذة من الخطب أي الشأن الذي له خطر لما أنها شأن من الشئون ونوع من الخطوب

وقيل من الخطاب لأنها نوع مخاطبة تجري بين جانب الرجل وجانب المرأة والمراد بالنساء المعتدات للوفاة والتعريض لخطبتهن ان يقول لها انك لجميلة أو صالحة أو نافعة ومن غرضي ان اتزوج ونحو ذلك مما يوهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه ان رغبت فيه ولا يصرح بالنكاح

أو أكنتم في أنفسكم أي أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه تصريحا ولا تعريضا

علم اللّه أنكم ستذكرونهن ولا تصبرون على السكوت عنهن وعن اظهار الرغبة فيهن وفيه نوع توبيخ لهم على قلة التثبت

ولكن لا تواعدهن سرا استدراك عن محذوف دل عليه ستذكرونهن أي فاذكروهن ولكن لا تواعدوهن نكاحا بل اكتفوا بما رخص لكم من التعريض والتعبير عن النكاح بالسر لأن مسببه الذي هو الوطء مما يسر به وإيثاره على اسمه للإيذان بأنه مما ينبغي أن يسر به ويكتم وحمله على الوطء ربما يوهم الرخصة في المحظور الذي هو التصريح بالنكاح

وقيل انتصاب سرا على الظرفية أي لا تواعدوهن في السر على ان المراد بذلك

المواعدة بما يستهجن وفيه ما فيه

الا ان تقولوا قولا معروفا استثناء مفرغ مما يدل عليه النهي أي لا تواعدهن مواعدة ما الا مواعدة معروفة غير منكرة شرعا وهي ما يكون بطريق التعريض والتلويح أو إلا مواعدة بقول معروف أو لا تواعدوهن بشيء من الاشياء الا بأن تقولوا قولا معروفا

وقيل هو استثناء منقطع من سرا وهو ضعيف لأدائه الى جعل التعريض موعودا وليس كذلك

ولا تعزموا عقدة النكاح من عزم الأمر اذا قصده قصدا جازما وحقيقته القطع بدليل قوله لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل وروى لمن لم يبيت الصيام والنهي عنه للمبالغة في النهي عن مباشرة عقد النكاح أي لا تعزموا عقد عقدة النكاح

حتى يبلغ الكتاب أجله أي العدة المكتوبة المفروضة آخرها

وقيل معناه لا تقطعوا عقدة النكاح أي لا تبرموها ولا تلزموها ولا تقدموا عليها فيكون نهيا عن نفس الفعل لا عن قصده

واعلموا ان اللّه يعلم ما في أنفسكم من ذوات الصدور التي من جملتها العزم على ما نهيتم عنه

فاحذروه بالاجتناب عن العزم ابتداء أو إقلاعا عنه بعد تحققه

واعلموا أن اللّه غفور يغفر لمن يقلع عن عزمه خشية منه تعالى

حليم لا يعاجلكم بالعقوبة فلا تستدلوا بتأخيرها على أن ما نهيتم عنه من العزم ليس مما يستتبع المؤاخذة واظهار الاسم الجليل في موضع الاضمار لإدخال الروعة

٢٣٦

لا جناح عليكم أي لا تبعة من مهر وهو الاظهر

وقيل من وزر إذ لا بدعة في الطلاق قبل المسيس

وقيل كان النبي يكثر النهي عن الطلاق فظن ان فيه جناحا فنفى ذلك

ان طلقتم النساء مالم تمسوهن أي مالم تجامعوهن وقرئ تماسوهن بضم التاء في جميع المواقع أي مدة عدم مساسكم اياهن على ان ما مصدرية ظرفية بتقدير المضاف ونقل أبو البقاء انها شرطية بمعنى ان فيكون من باب اعتراض الشرط على الشرط فيكون الثاني قيدا للأول كما في قولك ان تأتني ان تحسن الى اكرمك أي ان تأتني محسنا الى والمعنى ان طلقتموهن غير ما سين لهن وهذا المعنى أقعد من الأول لما ان ما الظرفية انما يحسن موقعها فيما اذا كان المظروف امرا ممتدا منطبقا على ما أضيف اليها من المدة أو الزمان كما في قوله تعالى خالدين فيها ما دامت السموات والارض وقوله تعالى وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ولا يخفى ان التطليق ليس كذلك وتعليق الظرف بنفي الجناح ربما يوهم امكان المسيس بعد الطلاق فالوجه ان يقدر الحال مكان الزمان والمدة

أو تفرضوا لهن فريضة أي الا ان تفرضوا لهن أو حتى تفرضوا لهن عند العقد مهرا على ان فريضة فعلية بمعنى مفعول والتاء لنقل اللفظ من الوصفية الى الاسمية وانتصابه على المفعولية ويجوز ان يكون مصدرا صيغة واعرابا والمعنى انه لا تبعه على المطلق بمطالبة المهر اصلا اذا كان الطلاق قبل المسيس على كل حال الا في حال تسمية المهر فإن عليه حينئذ نصف المسمى وفي حال عدم تسميته عليه المتعة لانصف مهر المثل

وأما اذا كان بعد المساس فعليه في صورة التسمية تمام المسمى وفي صورة عدمها تمام مهر المثل

وقيل كلمة أو عاطفة لمدخولها على ما قبلها من الفعل المجزوم على معنى ما لم يكن منكم مسيس ولا فرض مهر

ومتعوهن عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي فطلقوهن ومتعوهن والحكمة في إيجاب المتعة جبر إيحاش الطلاق وهي درع وملحفة وخمار على حسب الحال كما يفصح عنه قوله تعالى

على الموسع قدرة وعلى المقتر قدرة أي ما يليق بحال كل منهما وقرئ بسكون الدال وهي جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مبينة لمقدار المتعة بالنظر إلى حال المطلق أيسارا وإقتارا أو حال من فاعل متعوهن بحذف الرابط أي على الموسع منكم الخ أو على جعل الألف واللام عوضا من المضاف إليه عند من يجوزه أي على موسعكم الخ وهذا إذا لم يكن مهر مثلها أقا من ذلك فإن كان أقل فلها الأقل من نصف مهر المثل ومن المتعة ولا ينقص عن خمسة دراهم

متاعا أي تمتيعا

بالمعروف أي بالوجه الذي تستحسنه الشريعة والمروءة

حقا صفة لمتاعا أو مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا

على المحسنين أي الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال أو إلى المطلقات بالتمتيع بالمعروف وإنما سموا محسنين اعتبارا للمشاركة وترغيبا وتحريضا

٢٣٧

وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن قبل ذلك

فريضة أي وإن طلقتموهن من قبل المسيس حال كونكم مسمين لهن فيما سبق أي عند النكاح مهرا على أن الجملة حال من فاعل طلقتموهن ويجوز أن تكون حالا من مفعوله لتحقيق الرابط بالنسبة إليهما ونفس الفرض من المبنى للفاعل أو للمفعول وإن لم يقارن حالة التطليق لكن اتصاف المطلق بالفارضية فيما سبق مما لا ريب في مقارنته لها وكذا الحال في اتصاف المطلقة بكونها مفروضا لها فيما سبق

فتصف ما فرضتم أي فلهن نصف ماسميتم لهن من المهر أو فالواجب عليكم ذلك وهذا صريح في أن المنفى في الصورة السابقة إنما هو تبعة المهر وقرئ بالنصب أي فأدوا نصف ما فرضتم ولعل تأخير حكم التسمية مع أنها الأصل في العقد والأكثر في الوقوع لما أن الآية الكريمة نزلت في انصارى تزوج امراة من بنى حنيفة وكانت مفوضة فطلقها قبل الدخول بها فتخاصما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال له عند إظهار أن لا شئ له متعها بقلنسوتك

إلا أن يعفون استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي فلهن نصف المفروض معينا في كل حال إلا حال عفوهن فإنه يسقط ذلك حينئذ بعد وجوبه وظاهر الصيغة في نفسها يحتمل التذكير والتأنيث وإنما الفرق في الاعتبار والتحقيق فإن الواو في الأولى ضمير والنون علامة الرفع وفي الثانية لام الفعل والنون ضمير والفعل مبنى لذلك لم يؤثر فيه أن تأثيره فيما عطف على محلة من قوله تعالى

أو يعفوا بالنصب وقرئ بسكون الواو

الذي بيده عقدة النكاح أي يترك الزوج المالك لعقدة وحلة ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه إليها كاملا على ما هو المعتاد تكرما فإن ترك حقه عليها عفو بلا شبهة أو سمى ذلك عفوا في صورة عدم السوق

مشاكلة أو تغليبا لحال السوق على حال عدمه فمرجع الاستثناء حينئذ إلى منع الزيادة في المستثنى منه كما أنه في الصورة الأولى إلى منع النقصان فيه أي فلهن هذا القدر زيادة ولا نقصان في جميع الأحوال إلا في حال عفوهن فإنه حينئذ لا يكون لهن القدر المذكور بل ينتفى ذلك أو ينحط أو في حال عفو الزوج فإنه حينئذ يكون لهن الزيادة على ذلك القدر هذا على التفسير الأول

وأما على التفسير الثاني فلا بد من المصير إلى جعل الاستثناء منقطعا لأن في صورة عفو الزوج لا يتصور الوجوب عليه هذا عندنا وفي القول القديم للشافعي رحمه اللّه أن المراد عفو الولى الذي بيده عقده نكاح الصغيرة وهو ظاهر المأخذ خلا أن الأولى أنسب بقوله تعالى

وأن تعفوا أقرب للتقوى إلى آخره فإن أسقاط حق الصغير ليس في شئ من التقوى وعن جبير بن مطعم أنه تزوج أمراة وطلقها قبل الدخول وأكمل لها الصداق وقال أنا أحق بالعفو وقرئ بالياء

ولا تنسوا الفضل بينكم أي لا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض كالشئ المنسى وقرئ بكسر الواو والخطاب في الفعلين للرجال والنساء جميعا بطريق التغليب

إن اللّه بما تعملون بصير فلا يكاد يضيع ما عملتم من التفضل والاحسان

٢٣٨

حافظوا على الصلوات أي داوموا على أدائها لأوقاتها من غير اخلال بشيء منها كما تنبئ عنه صيغة المفاعلة المفيدة للمبالغة ولعل الأمر بها في تضاعيف بيان أحكام الأزواج والأولاد قبل الاتمام للإيذان بأنها حقيقة بكمال الاعتناء بشأنها والمثابرة عليها من غير اشتغال عنها بشأنهم بل بشأن انفسهم ايضا كما يفصح عنه الامر بها في حالة الخوف ولذلك امر بها في خلال بيان ما يتعلق بهم من الأحكام الشرعية المتشابكة الآخذ بعضها بحجزة بعض

والصلوة الوسطى أي المتوسطة بينها أو الفضلى منها وهي صلاة العصر لقوله يوم الاحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ اللّه تعالى بيوتهم نارا وقال انها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام وفضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها بتجاراتهم ومكاسبهم واجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار حينئذ

وقيل هي صلاة الظهر لأنها في وسط النهار وكانت أشق الصلوات عليهم لما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان يصليها بالهاجرة فكانت افضلها لقوله افضل العبادات أحمزها

وقيل هي صلاة الفجر لأنها بين صلاتي الليل والنهار والواقعة في الحد المشترك بينهما ولأنها مشهودة كصلاة العصر

وقيل هي صلاة المغرب لأنها متوسطة من حيث العدد ومن حيث الوقوع بين صلاتي النهار والليل ووتر النهار ولا تنقص في السفر

وقيل هي صلاة العشاء لأنها بين الجهريتين الواقعتين في طرفي الليل وعن عائشة وابن عباس رضي اللّه عنهم أنه كان يقرأ والصلاة الوسطى وصلاة العصر فتكون حينئذ احدى الاربع قد خصت بالذكر مع العصر لانفرادها بالفضل وقرئ وعلى الصلاة الوسطى وقرئ بالنصب على المدح وقرئ الوسطى

وقوموا للّه أي في الصلاة

قانتين ذاكرين له تعالى في القيام لأن القنوت هو الذكر فيه

وقيل هو اكمال الطاعة واتمامها بغير اخلال بشيء من أركانها

وقيل خاشعين وقال ابن المسيب المراد به القنوت في الصبح

٢٣٩

فإن خفتم أي من عدو أو غيره

فرجالا جمع راجل كقيام وقائم أو رجل بمعنى راجل وقرئ بضم الراء مع التخفيف وبضمها مع التشديد أيصا وقرئ فرجلا أي راجلا

أو ركبانا جمع راكب أي فصلو راجلين أو راكبين حسبما يقتضيه الحال له ولا تخلوا بها ماأمكن الوقوف في الجملة وقد جوز الشافعي رحمه اللّه أداءها حال المسايفة أيصا

فإذا أمنتم بزوال الخوف

فاذكروا اللّه أ ي فصلوا صلاة الأمن عبر عنها بالذكر لأنه معظم أركانها

كما علمكم متعلق بمحذوف وقع وصفا لمصدر محذوف أي ذكرا كائنا كما علمكم أي كتعليمه إياكم

ما لم تكونوا تعلمون من كيفية الصلاة والمراد بالتشبيه أن تكون الصلاة المؤداة موافقة لما علمه اللّه تعالى وإيرادها بذلك العنوان لتذكير النعمة أو اشكروا اللّه تعالى شكرا يوازي تعليمه أياكم ما لم تكونوا تعلمونه من الشرائع والأحكام التي من جملتها كيفية إقامة الصلاة حالتى الخوف والأمن هذا وفي أيراد الشرطية الأولى بكلمة أن المفيدة لمشكوكية وقوع الخوف وندرته وتصدير الشرطية الثانية بكلمة إذا المنبئة عن تحقيق وقوع الأمن وكثرته مع الإيجاز في جواب الولى والإطناب في جواب في جواب الثانية المبنيين على تنزيل مقام وقوع المأمور به فيهما منزلة مقام وقوع الأمر تنزيلا مستدعيا لإجراء مقتضى المقام الأول في كل منهما مجرى مقتضى المقام الثاني من الجزالة ولطف الاعتبار ما فيه عبرة لأولى البصار

٢٤٠

والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا عود إلى بيان بقية الأحكام المفصلة فيما سلف أثر بيان أحكام وسطت بينهما لما أشير إليه من الحكمة الداعية إلى ذلك

وصية لأزواجهم أي يوصون أوليوصوا أو كتب اللّه عليهم وصية ويؤيد من قرأ كتب عليكم الوصية لأزواجكم وقرئ بالرفع على تقدير مضاف في المبتدأ أو الخبر أي حكم الذين يتوفون منكم ويذرون ازواجا وصية لأزواجهم أو والذين يتوفون أهل وصية لأزواجهم أوكتب عليهم وصية أو عليهم وصية وقرئ مناع لأزواجهم بدل وصية

متاعا إلى الحول منصوب بيوصون أن أضمرته وإلا فبالوصية أو بمتاع على القراءة الأخيرة

غير إخراج بدل منه أومصدر مؤكد كما في قولك هذا القول غير ما تقول أو حال من أزواجهم أي غير مخرجات والمعنى يجب على الذين يتوفون أن يوصوا قبل الاختصار لأزواجهم بان يمتعن بعدهم حولا بالنفقة والسكنى وكان ذلك أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله تعالى أربعة أشهر وعشرا فإنه وإن كان متقدما في التلاوة متأخر في النزول وسقطت النفقة بتوريثها الربع أو الثمن وكذلك السكنى عندنا وعند الشافعي هي باقية

فإن خرجن عن منزل الأزواج باختيارهن

فلا جناح عليكم أيها الأئمة

فيما فعلن في أنفسهن من معروف لاينكرة الشرع كالتزين والتطيب وترك الحداد والتعرض للخطاب وفيه دلالة على ان المحظور إخراجها عند إرادة القرار وملازمة مسكن الزوج والحداد من غير أن يجب

عليها ذلك وأنها كانت مخيرة بين الملازمة مع أخذ النفقة وبين الخروج مع تركها

واللّه عزيز غالب على أمره يعاقب من خالفة

حكيم يراعى في أحكامه مصالح عبادة

٢٤١

وللمطلقات سواء كن مدخولا بهن أولا

متاع أي مطلق المتعة الشاملة للواجبة والمستحبة وأوجبها سعيد بن جبير وأبو العالية والزهري للكل

وقيل المراد بالمتاع نفقة العدة

وقيل اللام للعهد والمراد غير المدخول بهن والتكرير للتأكيد

بالمعروف شرعا وعادة

حقا على المتقين أي مما ينبغى

٢٤٢

كذلك أي مثل ذلك البيان الواضح

يبين اللّه لكم آياته الدالة على أحكامه التي شرعها لعباده

لعلكم تعقلون لكي تفهموا ما فيها وتعلموا بموجبها

٢٤٣

ألم تر تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب الأخبار وتعجيب من شأنهم البديع فإن سماعهم لها بمنزلة الرؤية النظرية أو العلمية أو لكل أحد من له حظ من الخطاب أيذانا بان قصتهم من الشهرة والشيوع بحيث يحق لكل أحد أن يحمل على الإقرار برؤيتهم وسماع قصتهم ويعجب بها وإن لم يكن رآهم أو سمع بقصتهم فإن هذ الكلام قد جرى مجرى المثل في مقام التعجيب لما أنه شبه حال غير الرائي لشئ عجيب بحال الرائي له بناء على ادعاء ظهور أمره وجلائه بحيث استوى في إدراكه الشاهد والغائب ثم اجرى الكلام معه كما يجرى مع الرائى قصدا الى المبالغة في شهرتة وعراقتة في التعجب وتعدية الرؤية بالى فى قولة تعالى

الى الذي خرجوا من ديارهم على تقدير كونها بمعنى الابصار باعتبار معنى النظر وعلى تقدير كونها إ دراكا قلبيا لتضمين معنى الوصول والانتهاء على معنى ألم ينته علمك إليهم

وهم ألوف اى الوف كثيرة قيل عشرة آ لاف

وقيل ثلاثون

وقيل سبعون ألفا والجملة حال من ضمير خرجوا وقوله عز و جل

حذر الموت مفعول له روى أن أهل داوردان قرية قبل واسط وقع فيهم الطاعون فخرجوا منها هاربين فأماتهم اللّه ثم احياهم ليعتبروا ويعلموا أن لا مفر من حكم اللّه عز سلطانه وقضائه

وقيل مر عليهم حز قيل بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم فلوى شدقية وأصابعه تعجبا مما رأى من أمرهم فأوحى إليه ناد فيهم أن قوموا بإذن اللّه فنادى فإذا هم قيام يقولون سبحانك اللّهم وبحمدك لا اله الا انت

وقيل هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم الى الجهاد فهربوا حذرا من الموت فأماتهم اللّه تعالى ثمانية ايام ثم احياهم وقوله عز و جل

فقال لهم اللّه موتوا إما عبارة عن تعلق إرادته تعالى بموتهم دفعة

وأما تمثيل لأماتته تعالى إياهم ميتة نفس واحدة في أقرب وقت وادناه واسرع زمان واوحاه بأمر آمر مطاع لمأمور مطيع كما في قوله تعالى إنما أمره إذا اراد شيئا أن يقول له كن فيكون

ثم احياهم عطف إما على مقدر يستدعيه المقام أي فماتوا ثم احياهم وإنما حذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده تعالى عن ارادته

وأما على قال لما انه عبارة عن الإمانة وفيه تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض لأسباب الشهادة وأن الموت حيث لم يكن منه بد ولم ينفع منه المفر فأولى أن يكون في سبيل اللّه تعالى

إن اللّه لذو فضل عظيم

على الناس قاطبة أما اولئك فقد احياهم ليعتبروا بما جرى عليهم فيفوزوا بالسعادة العظمى

وأما الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم الى مسلك الاعتبار والاستبصار

ولكن أكثر الناس لا يشكرون أي لا يشكرون فضله كما ينبغي ويجوز أن يراد بالشكر الاعتبار والاستبصار وإظهار الناس في مقام الإضمار لمزيد التشنيع

٢٤٤

وقاتلوا في سبيل اللّه عطف على مقدر يعينه ما قبله كأنه قيل فاشكروا فضله بالاعتبار بما قص عليكم وقاتلوا في سبيله لما علمتم أن الفرار لا ينجى من الحمام وأن المقدر لا مرد له فإن كان قد حان الاجل فموت في سبيل اللّه عز و جل وإلا فنصر عزيز وثواب

واعلموا أن اللّه سميع يسمع مقالة السابقين والمتخلفين

عليم بما يضمرونه في انفسهم وهو من وراء الجزاء خيرا وشرا فسارعوا الى الامتثال واحذروا المخالفة والمساهلة

٢٤٥

من ذا الذي يقرض اللّه من استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء وذا خبره والموصول صفة له أو بدل منه وإقراض اللّه تعالى مثل لتقديم العمل العاجل طلبا للثواب الآجل والمراد ههنا إما الجهاد الذي هو عبارة عن بذل النفس والمال في سبيل اللّه عز و جل ابتغاء لمرضاته

وأما مطلق العمل الصالح المنتظم له انتظاما أوليا

قرضا حسنا أي إقراضا مقرونا بالإخلاص وطيب النفس أو مقرضا حلالا طيبا

فيضاعغه له بالنصب على جواب الاستفهام حملا على المعنى فإنه في معنى أيقرضه وقرئ بالرفع أي يضاعف اجره وجزاءه جعل ذلك مضاعفة له بناء على ما بينهما من المناسبة بالسببية ظاهرا وصيغة المفاعلة للمبالغة وقرئ فيضعفه بالرفع وبالنصب

أضعافا جمع ضعف ونصبه على انه حال من الضمير المنصوب أو مفعول بأن يضمن المضاعفة معى التصيير أو مصدر مؤكد على أن الضعف اسم للمصدر والجمع للتنوين

كثيرة لا يعلم قدرها الا اللّه تعالى

وقيل الواحد بسبعمائة

واللّه يقبض ويبسط أي يقتر على بعض ويوسع على بعض أو يقتر تارة ويوسع اخرى حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم كي لا يبدل احوالكم ولعل تأخير البسط عن القبض في الذكر للإيماء الى انه يعقبه في الوجود تسلية للفقراء وقرئ يبصط بالصاد لمجاورة الطاء

واليه ترجعون فيجازيكم على ما قدمتم من الاعمال خيرا وشرا

٢٤٦

الم تر تقرير وتعجيب كما سبق قطع عنه للإيذان باستقلاله في التعجب مع أن له مزيد ارتباط بما وسط بينهما من الامر بالقتال

الى الملأ من بني اسرائيل الملأ من القوم وجوههم وأشرافهم وهو اسم للجماعة لا واحد له من لفظه كالرهط والقوم سموا بذلك لما أنهم يملئون العيون مهابة والمجالس بهاء أو لأنهم مليئون بما يبتغي منهم ومن تبعيضية ومن في قوله تعالى

من بعد موسى ابتدائية وعاملها مقدر وقع حالا من الملأ أي كائنين بعض بني اسرائيل من بعد وفاة موسى ولا ضير في اتحاد الحرفين لفظا عند اختلافهما معنى

اذ قالوا منصوب بمضمر يستدعيه المقام أي الم تر الى قصة الملأ أو حديثهم حين قالوا

لنبي لهم هو يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليهما السلام

وقيل شمعون بن صعبة بن علقمة من ولد لاوي بن يعقوب عليهما السلام

وقيل اشمويل بن بال بن علقمة وهو بالعبرانية اسمعيل قال مقاتل هو من نسل هرون عليه السلام وقال مجاهد اشمويل بن هلقايا

ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه أي انهض للقتال معنا اميرا نصدر في تدبير امر الحرب عن رأيه وقرئ نقاتل بالرفع على أنه حال مقدرة أي ابعثه لنا مقدرين القتال أو استئناف مبني على السؤال وقرئ يقاتل بالياء مجزوما ومرفوعا على الجواب للأمر والوصف لملكا

قال استئناف وقع جوابا عن سؤال ينساق اليه الذهن كأنه قيل فماذا قال لهم النبي حينئذ فقيل قال

هل عسيتم ان كتب عليكم القتال ان لا تقاتلوا فصل بين عسى وخبره بالشرط للاعتناء به أي هل قاربتم ان لا تقاتلوا كما اتوقعه منكم والمراد تقرير ان المتوقع كائن وانما لم يذكر في معرض الشرط ما التمسوه بأن قيل هل عسيتم ان بعثت لكم ملكا الخ مع أنه اظهر تعلقا بكلامهم بل ذكر كتابة القتال عليهم للمبالغة في بيان تخلفهم عنه فإنهم اذا لم يقاتلوا عند فرضية القتال عليهم بإيجاب اللّه تعالى فلأن لا يقاتلوا عند عدم فرضيته أولى ولأن إيراد ما ذكروه ربما يوهم ان سبب تخلفهم عن القتال هو المبعوث لانفس القتال وقرئ عسيتم بكسر السين وهي ضعيفة

قالوا استئناف كما سبق

وما لنا أن لا نقاتل أي أي سبب لنا في ان لا نقاتل

في سبيل اللّه وقد اخرجنا من ديارنا وأبنائنا أي والحال أنه قد عرض لنا ما يوجب القتال ايجابا قويا من الاخراج عن الديار والاوطان والاغتراب من الاهل والاولاد وافراد الابناء بالذكر لمزيد تقوية اسباب القتال وذلك ان جالوت رأس العمالقة وملكهم وهو جبار من أولاد عمليق بن عاد كان هو ومن معه من العمالقة يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين وظهروا على بني اسرائيل وأخذوا ديارهم وسبوا أولادهم واسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين نفسا وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم

فلما كتب عليهم القتال بعد سؤال النبي ذلك وبعث الملك

تولوا أي اعرضوا وتخلفوا لكن لا في ابتداء الأمر بل بعد مشاهدة كثرة العدو وشوكته كما سيجئ تفصيله وإنما ذكر ههنا مآل أمرهم إجمالا إظهار لما بين قولهم وفعلهم من التنافي والتباين

إلا قليلا منهم وهم الذين اكتفوا بالغرفة من النهر وجاوزوه وهم ثلثمائة وثلاثة عشر بعدد اهل بدر

واللّه عليم بالظالمين وعيد لهم على ظلمهم بالتولي عن القتال وترك الجهاد وتنافي أقوالهم وأفعالهم والجملة اعتراض تذييلي

٢٤٧

وقال لهم نبيهم شروع في تفصيل ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأقوال والأفعال إثر الإشارة الإجمالية إلى مصير حالهم أي قال لهم بعد ما أوحى إليه ماأوحى

أن اللّه قد بعث لكم طالوت ملكا طالوت علم عبرى كداود وجعله فعلوتا من الطول يأباه منع صرفه وملكا حال منه روى أنه عليه السلام لما دعا ربه أن يجعل لهم ملكا أتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت

قالوا استئناف كما مر

أني يكون له الملك علينا أي من أين يكون أو كيف يكون ذلك

ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال الواو الأولى حالية والثانية عاطفة جامعة للجملتين في الحكم أي كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هو أحق منه ولعدم ما يتوقف عليه الملك من المال وسبب هذا الاستبعاد ان النبوة كانت مخصوصة بسبط معين من أسباط بنى إسرائيل وهو سبط لاوى بن يعقوب عليه السلام وسبط المملكة بسبط يهودا ومنه داود وسليمان عليهما السلام ولم يكن طالوت من أحد هذين السبطين بل من ولد بنيامين قيل كان راعيا

وقيل دباغا

وقيل سقاء

قال إن اللّه اصطفاه عليكم لما استبعدوا تملكة بسقوط نسبه وبفقره رد عليهم ذلك أولا ملاك الأمر هو اصطفاء اللّه تعالى وقد اختاره عليكم وهو أعلم بالمصالح منكم وثانيا بان العمدة فيه وفور العلم ليتمكن به من معرفة أمور السياسة وجسامة البدن ليعظم خطره في القلوب ويقدر على مقاومة الأعداء ومكابدة الحروب وقد خصه اللّه تعالى منهما بحظ وافر وذلك قوله عز و جل

وزاده بسطة في العلم أي العلم المتعلق بالملك أو به وبالديانات أيضا

وقيل قد اوحى إليه ونبئ

والجسم قيل بطول القامة فإنه كان أطول من غيره برأسه ومنكبيه حتى أن الرجل القائم كان يمديده فينال رأسه

وقيل بالجمال

وقيل بالقوة

واللّه يؤتى ملكه من يشاء لما انه مالك الملك والملكوت فعال لما يريد فله أن يؤتيه من يشاء من عبادة

واللّه واسع يوسع على الفقير ويغنيه

عليم بمن يليق بالملك ممن لا يليق به وأظهار الاسم الجليل لتربية المهابة

٢٤٨

وقال لهم نبيهم توسيطه فيما بين قوليه المحكيين عنه عليه السلام للإشعار بعدم اتصال أحدهما بالآخر وتخلل كلام من جهة المخاطبين متفرع على السابق مستتبع للاحق كأنهم طلبوا منه عليه السلام آية تدل على أنه تعالى اصطفى طالوت وملكة عليهم روى أنهم قالوا ما آية ملكة فقال

إن آية ملكة أن يأتيكم التابوت أي الصندوق وهو فعلوت من التوب الذي هو الرجوع لما أنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وتاؤه مزيدة لغير التأنيث كملكوت ورهبوت والمشهور أن يوقف على تائه من غير أن تقلب هاء ومنهم من يقلبها إياها والمراد به صندوق التوراة وكان قد رفعه اللّه عز و جل بعد وفاة موسى عليه السلام سخطا على بنى إسرائيل لما عصوا واعتدوا فلما طلب القوم من نبيهم آية تدل على ملك طالوت قال لهم أن آية ملكه ان يأتيكم التابوت من السماء والملائكة يحفظونه فأتاهم كما وصف والقوم ينظرون إليه حتى نزل عند طالوت وهذا قول ابن عباس رضي اللّه عنهما وقال أرباب الأخبار إن اللّه تعالى أنزل على آدم تابوتا فيه تماثيل الأنبياء عليهم السلام من أولاده وكان من عود الشمشاد نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين فكان عند آدم عليه السلام إلى أن توفى فتوارثه أولاده واحد بعد واحد إلى ان وصل إلى يعقوب عليه السلام ثم بقى في أيدى بنى إسرائيل إلى ان وصل إلى موسى عليه السلام فكان علية الصلاة والسلام يضع فيه التوراة وكان إذا قاتل قدمه فكانت تسكن إليه نفوس بنى إسرائيل وكان عنده إلى ان توفى ثم تداولته إيدى بنى إسرئيل وكانوا أذا اختلفوا في شئ تحاكموا إليه فيكلمهم ويحكم بينهم وكانوا إذا حضروا القتال يقدمونه بين أيديهم ويستفتحون به على عدوهم وكانت الملائكة تحملة فوق العسكر ثم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا النصر فلما عصوا وافسدوا سلط اللّه عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه وجعلوه في موضع البول والغائط فلما أراد اللّه تعالى أن يملك طالوت سلط عليهم البلاء حتى أن كل من بال عنده ابتلى بالبواسير وهلكت من بلادهم خمس مدائن فعلم الكفار أن ذلك بسبب استهانتهم بالتابوت فأخرجوه وجعلوه على ثورين فأقبل الثوران يسيران وقد وكل اللّه تعالىبهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت قال لهم النبي أن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره فلما وجدوه عنده يقنوا بملكه

فيه سكينة من ربكم أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة كائنة من ربكم أو في التابوت ما تسكنون إليه وهو التوراة المودعة فيه بناء على مامر من أن موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فتسكن إليه نفوس بنى إسرائيل

وقيل السكينة صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهر وذنبه وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر وعن علي رضي اللّه عنه كان لها وجه كوجه الإنسان وفيها ريح هفافة

وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون

هي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه من التوراة وكان قد رفعه اللّه تعالى بعد وفاة موسى عليه السلام وآلهما أبناؤهما أو أنفسهما والآل مقحم لتفخيم شأنهما أو أنبياء بنى إسرائيل

تحمله الملائكة حال من التابوت أي إن آية ملكه إتيانه حال كونه محمولا للملائكة وقد مر كيفية ذلك ولعل حمل الملائكة على الرواية الأخيرة عبارة عن سوقهم للثورين الحاملين له

إن في ذلك اشارة الى ما ذكر من شأن التابوت فهو من تمام كلام النبي عليه السلام لقومه أو الى نقل القصة وحكايتها فهو ابتداء كلام من جهة اللّه تعالى جيء به قبل تمام القصة اظهارا لكمال العناية به وافراد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين على التقديرين بتأويل الفريق أو غيره كما سلف

لآية عظمة

لكم دالة على ملك طالوت أو على نبوة محمد حيث أخبر بهذه التفاصيل على ما هي عليه من غير سماع من البشر

ان كنتم مؤمنين أي مصدقين بتمليكه عليكم أو بشيء من الآيات وان شرطية والجواب محذوف ثقة بما قبله

وقيل هي بمعنى إذ

٢٤٩

فلما فصل طالوت بالجنود أي انفصل بهم عن بيت المقدس والاصل فصل نفسه ولما اتحد فاعله ومفعوله شاع استعماله محذوف المفعول حتى نزل منزلة القاصر كانفصل

وقيل فصل فصولا وقد جوز كونه اصلا برأسه ممتازا من المتعدي بمصدره كوقف وقوفا ووقفه وقفا وكصد صدودا ورجع رجوعا ورجعه رجعا والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من طالوت أي ملتبسا بهم ومصاحبا لهم روى أنه قال لقومه لايخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا ابتغي الا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع اليه ممن اختاره ثمانون الفا وكان الوقت قيظا وسلكوا مفازة فسألوا أن يجري اللّه تعالى لهم نهرا فبعد ما ظهر له ما تعلقت به مشيئته تعالى من جهة النبي عليه السلام أو بطريق الوحي عند من يقول بنبوته

قال إن اللّه مبتليكم بنهر بفتح الهاء وقرئ بسكونها

فمن شرب منه أي ابتدأ شربه من النهر بأن كرع لأنه الشرب منه حقيقة

فليس مني أي من جملتي واشياعي المؤمنين

وقيل ليس بمتصل بي ومتحد معي من قولهم فلان مني كأنه بعضه لكمال اختلاطهما

ومن لم يطعمه أي لم يذقه من طعم الشيء اذا ذاقه مأكولا كان أو مشروبا أو غيرهما قال

 ... وان شئت حرمت النساء سواكم ... وان شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا ...

أي نوما

فإنه مني الا من اغترف غرفة بيده استثناء من قوله تعالى فمن شرب منه فليس مني وانما اخر عن الجملة الثانية لإبراز كمال العناية بها ومعناه الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع والغرفة ما يغرف وقرئ بفتح الغين على أنها مصدر والباء متعلقة باغترف أو بمحذوف وقع صفة لغرفة أي غرفة كائنة بيده يروى أن الغرفة كانت

تكفي الرجل لشربه وادواته ودوابه

وأما الذين شربوا منه فقد اسودت شفاههم وغلبهم العطش

فشربوا منه عطف على مقدر يقتضيه المقام أي فابتلوا به فشربوا منه

إلا قليلا منهم وهو المشار إليهم فيما سلف بالاستثناء من تولى وقرئ إلا قليل منهم ميلا إلى جانب المعنى وضربا عن عدوة اللفظ جانبا فإن قوله تعالى فشربوا منه في قوة أن يقال فلم يطيعوه فحق أن يرد المستثني مرفوعا كما في قول الفرزدق

 ... وعض الزمان ياابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف ...

فإن قوله لم يدع في حكم لم يبق

فلما جاوزه أي النهر

هو أي طالوت

والذين آمنوا معه عطف على الضمير المتصل المؤكد بالمنفصل والظرف متعلق بجاوز لا بآمنوا

وقيل الواو حالية والظرف متعلق بمحذوف وقع خبرا من الموصول كأنه قيل فلما جاوزه والحال أن الذين آمنوا كائنون معه وهم أولئك القليل وفيه إشارة إلى أن من عداهم بمعزل من الإيمان

 

قالوا أي بعض من معه من المؤمنين لبعض

لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده أي بمحاربتهم ومقاومتهم فضلا عن أن يكون لنا غلبة عليهم لما شاهدوا منهم من الكثرة والشدة قيل كانوا مائة ألف مقاتل شاكي السلاح

قال استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قال مخاطبهم فقيل قال

الذين يظنون أنهم ملاقوا اللّه قيل أي الخلص منهم الذين يتيقنون لقاء اللّه تعالى بالبعث ويتوقعون ثوابه وإفرادهم بذلك الوصف لا ينافى إيمان الباقين فإن درجات المؤمنين في التيقن والتوقع متفاوتة أو الذين يعلمون أنهم يستشهدون عما قريب فيلقون اللّه تعالى

وقيل الموصول عبارة عن المؤمنين كافة والضمير في قالوا للمنخذلين عنهم كأنهم قالوه اعتذارا عن التخلف والنهر بينهما

كم من فئة أي فرقة وجماعة من الناس من فأوت رأسه إذا شققتها أو من فاء إليه إذا رجع فوزنها على الأول فعه وعلى الثاني فلة

قليليلة غلبت فئة كثيرة وكم خبرية كانت أواستفهامية مفيدة للتكثير وهي في حيز الرفع بالابتداء خبرها غلبت أي كثير من الفئات القليلة غلبت الفئات الكثيرة

بإذن اللّه أي بحكمه وتيسيره فإن دوران كافة الأمور على مشيئته تعالى فلا يذل من نصره وإن قل عدده ولا يعز من خذله وإن كثر أسبابه وعدده وقد روعى في الجواب نكتة بديعة حيث لم يقل أطاقت بفئة كثيرة حسبما وقع في كلام أصحابهم مبالغة في رد مقالتهم وتسكين قلوبهم وهذا كما ترى جواب ناشئ من كمال ثقتهم بنصر اللّه تعالى وتوفيقه ولا دخل في ذلك لظن لقاء اللّه تعالى بالبعث لاسيما بالاستشهاد فإن العلم به ربما يورث اليأس من الغلبة ولا لتوقع ثوابه تعالى ولاريب في أن ما ذكر في حيز الصلة ينبغى ان يكون مدارا للحكم الوارد على الموصول فلا أقل من أن يكون وصفا ملائما له فلعل المراد بلقائه تعالى لقاء نصره وتأييده عبر عنه بذلك مبالغة كما عبر عن مقارنة نصره تعالى بمقارنته سبحانه حيث قيل

واللّه مع الصابرين فإن المراد به معية نصره وتوفيقه حتما وحملها على المعية بالإثابة كما فعل يأباه أنهم إنما قالوه تتميا لجوابهم وتأكيدا له بطريق الاعتراض التذييلي تشجيعا لأصحابهم وتثبيتا لهم على الصبر المؤدى إلى الغلبة ولا تعلق له بما ذكر من المعية بالإثابة قطعا وكذا الحال إذا جعل ذلك ابتداء كلام من جهة اللّه تعالى جئ به تقريرا لكلامهم والمعنى قال الذين يظنون أو يعلمون من جهة النبي أو من جهة التابوت والسكينة أنهم ملاقو نصر العزيز كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه تعالى فنحن نغلب جالوت وجنوده وإيراد خبر أن اسما مع أن اللقاء مستقبل للدلالة على تقررة وتحققه

٢٥٠

ولما برزوا أي ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين وصاروا إلى براز من الأرض في موطن الحرب

لجالوت وجنوده وشاهدوا ما هم عليه من العدد والعدد وأيقنوا انهم غير مطيقين بهم عادة

قالوا أي جميعا عند تقوى قلوب الفريق الأول منهم بقول الفريق الثاني متضرعين إلى اللّه تعالى مستعينين به

ربنا أفرغ علينا صبرا على مقاساة شدائد الحرب واقتحام موارده الصعبة الضيقة وفي التوسل بوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال وإيثار الإفراغ المعرب عن الكثرة وتنكير الصبر المفصح عن التفخيم من الجزالة مالا يخفى

وثبت أقدامنا في مداحض القتال ومزال النزال وثبات القدم عبارة عن كمال القوة والرسوخ عند المقارعة وعدم التزلزل وقت المقاومة لا مجرد التقرر في حيز واحد

وانصرنا على القوم الكافرين بقهرهم وهزمهم ووضع الكافرين في موضع الضمير العائد إلى جالوت وجنوده للإشعار بعلة النصر عليهم ولقد راعوا في الدعاء ترتيبا بديعا حيث قدموا سؤال إفراغ الصبر الذي هو ملاك الأمر ثم سؤال تثبيت القدم المتفرع عليه ثم سؤال النصر الذي هو الغاية القصوى

٢٥١

فهزموهم أي كسروهم بلا مكث

بإذن اللّه بنصره وتأييده إجابة لدعائهم وإيثار هذه الطريقة على طريقة قوله عز و جل فآتاهم اللّه ثواب الدنيا الخ للمحافظة على مضمون قولهم غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه

وقتل داود جالوت كان أيشى أبو داود في عسكر طالوت معه ستة من بنيه وكان داود عليه السلام سابعهم وكان صغيرا يرعى الغنم فأوحى اللّه تعالى إلى نبيهم أنه الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد مر في طريقة بثلاثة أحجار قال له كل منها أحملنا فانك بنا تقتل جالوت فحملها في مخلاته قيل لما أبطأ على أبيه خبر إخوته في المصاف أرسل داود إليهم ليأتيه بخبرهم فأتاهم وهم في القراع وقد برز جالوت بنفسه إلى البراز ولا يكاد يبارزة أحد وكان ظلة ميلا فقال داود لأخوته اما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف فزجروه فنحا ناحية اخرى ليس فيها إخوته وقد مر به طالوت وهو يحرض الناس على القتال فقال له داود ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف قال طالوت أنكحه بنتى وأعطيه شطر مملكتى فبرز له داود فرماه بما معه من الأحجار بالمقلاع فأصابه في صدره فنفذ الأحجار منه وقتلت بعده ناسا كثيرا

وقيل إنما كلمته الأحجار عند بروزه لجالوت في المعركة فأنجز له طالوت ما وعده

وقيل إنه حسده وأخرجه من مملكته ثم ندم على ما صنعه فذهب يطلبه إلىأن قتل وملك داود عليه السلام وأعطى النبوة وذلك قوله تعالى

وآتاه اللّه الملك أي ملك بنى إسرائيل في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها

والحكمة أي البنوة ولم يجتمع في بنى إسرائيل الملك والنبوة قبله إلا له بل كان الملك في سبط والنبوة في سبط آخر وما اجتمعوا قبله على ملك قط

وعلمه مما يشاء أي مما يشاء اللّه تعالى تعليمه أياه لا مما يشاء داود عليه السلام كما قيل لأن معظم ما علمه تعالى أياه مما لا يكاد يخطر ببال أحد ولا يقع في أمنية بشر ليتمكن من طلبه ومشيئته كالسرد بالإنة الحديد ومنطق الطير والدواب ونحو ذلك من الأمور الخفية

ولولا دفع اللّه الناس بعضهم الذين يباشرون الشر والفساد

ببعض آخر منهم بردهم عما هم عليه بما قدر اللّه تعالى من القتل كما في القصة المحكية أو غيره وقرئ دفاع اللّه على أن صيغة المبالغة للمبالغة

لفسدت الأرض وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض ويصلحها

وقيل لولا أن اللّه ينصر المسلمين على الكافرين لفسدت الأرض بعيثهم وقتلهم المسلمين أولو لم يدفعهم بالمسلمين لعم الكفر ونزلت السخطة فاستؤصل أهل الأرض قاطبة

ولكن اللّه ذو فضل عظيم لا يقادر قدره

على العالمين كافة وهذا إشارة إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع نقيض المقدم منتج لنقيض التالى خلا أنه قد وضع ما يستتبعه ويستوجبه أعنى كونه تعالى ذا فضل على العالمين إيذانا بأنه تعالى متفضل في ذلك الدفع من غير أن يجب عليه ذلك وأن فضله تعالى غير منحصر فيه بل هو فرد من أفراد فضله العظيم كأنه قيل ولكنه تعالى يدفع فساد بعضهم ببعض فلا تفسد الأرض وتنتطم به مصالح العالم وتنصلح أحوال الأمم

٢٥٢

تلك إشارة إلى ما سلف من حديث الألوف وخبر طالوت على التفصيل المرقوم وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو شأن المشار إليه

آيات اللّه المنزلة من عنده تعالى والجملة مستأنفة وقوله تعالى

نتلوها عليك أي بواسطة جبريل عليه السلام إما حال من الآيات والعامل معنى الإشارة

وأما جملة مستقلة لا محل لها من الإعراب

بالحق في حيز النصب على أنه حال من مفعول نتلوها أي ملتبسة باليقين الذي لا يرتاب فيه أحد من أهل الكتاب وأرباب التواريخ لما يجدونها موافقة لما في في كتبهم أو من فاعلة أي نتلوها عليك ملتبسين بالحق والصواب أو من الضمير المجرور أي ملتبسا بالحق والصدق

وإنك لمن المرسلين أي من جملة الذين أرسلوا إلى الأمم لتبيلغ رسالاتنا وإجراء أوامرنا وأحكامنا عليهم فإن هذه المعاملة لا تجرى بيننا وبين غيرهم فهى شهادة منه سبحانه برسالته عليه الصلاة و السلام إثر بيان مايستوجبها والتأكيد من مقتضيات مقام الجاحدين بها

٢٥٣

تلك الرسل استئناف فيه رمز إلى أنه عليه الصلاة و السلام من

أفاضل الرسل العظام عليهم الصلاة والسلام وإثر بيان كونه من جملتهم والإشارة إلى الجماعة الذين من جملتهم النبي فاللام في المآل للاستغراق وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم

وقيل الى الذين ثبت علمه بهم

فضلنا بعضهم على بعض في مراتب الكمال بأن خصصناه حسبما تقتضيه مشيئتنا بمآثر جليله خلا عنها غيره

منهم من كلم اللّه تفصيل للتفضيل المذكور اجمالا أي فضله بأن كلمه تعالى بغير سفير وهو موسى عليه الصلاة و السلام حيث كلمه تعالى ليلة الخيرة وفي الطور وقرىء كلم اللّه بالنصب وقرىء كالم اللّه من المكالمه فأنه كلم اللّه تعالى كما انه تعالى كلمه ويؤيده كليم اللّه بمعنى مكالمه وايراد الأسم الجليل بطريق الألتفات لتربية المهابة والرمز الى ما بين التكليم والرفع وبين ما سبق من مطلق التفضيل وما لحق من ايتاء البينات والتأييد بروح القدس من التفاوت

ورفع بعضهم درجات أي ومنهم من رفعه على غيره من الرسل المتفاوتين في معارج الفضل بدرجات قاصية ومراتب نائبه وتغيير الأسلوب لتربية ما بينهم من اختلاف الحال في درجات الشرف والظاهر انه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كما ينبىء عنه الإخبار بكونه عليه الصلاة و السلام منهم فإن ذلك في قوة بعضهم فانه قد خص بالدعوة العامه والحجج الجمة والمعجزات المستمره والآيات المتعاقبه بتعاقب الدهور والفضائل العلمية والعمليه الفائته للحصر والإبهام لتفخيم شأنه وللإشعار بانه العلم الفرد الغنى عن التعيين

وقيل انه ابراهيم عليه الصلاة و السلام حيث خصه تعالى بكرامة الخلةوقيل ادريس عليه السلام حيث رفعه مكانا عليا

وقيل اولو العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام

وآتينا عيسى ابن مريم البينات الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة من احياء الموتى وابراء الأكمه والأبرص والأخبار بالمغيبات أو الأنجيل

وايدناه اى قويناه

بروح القدس بضم الدال وقرىء بسكونها اى بالروح المقدسه كقولك رجل صدق وهو روح عيسى وانما وصفت بالقدس للكرامة أو لأنه عليه السلام لم تضمه الأصلاب والأرحام والطوامث

وقيل بجبريل

وقيل بالأنجيل كما مر وافرادة عليه السلام بما ذكر لرد ما بين اهل الكتابين في شأنه عليه السلام من التفريط والإفراط والآية ناطقه بأن الأنبياء عليهم السلام متفاوتة الأقدار فيجوز تفضيل بعضهم على بعض ولكن بقاطع

ولوشاء اللة ما اقتتل الذين من بعدهم أي جاءوا من بعد الرسل من الأمم المختلفة أي لو شاء اللّه عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بان جعلهم متفقين على اتباع الرسل المتفقة على كلمة الحق فمفعول المشيئة محذوف لكونه مضمون الجزاء على القاعدة المعروفة

وقيل تقديره ولو شاء هدى الناس جميعا ما اقتتل الخ وليس بذاك

من بعد ما جاءتهم من جهة أولئك الرسل

البينات المعجزات الواضحة والآيات الظاهرة الدالة على حقية الحق الموجبة لاتباعهم الزاجرة عن الإعراض عن سننهم المؤدي إلى الاقتتال فمن متعلقة باقتتل

ولكن اختلفوا استدراك من الشرطية أشير به إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع نقيض مقدمها منتج لنقيض تاليها إلا أنه قد وضع فيه الاختلاف موضع نقيض المقدم المترتب عليه للإيذان بان الاقتتال ناشئ من قبلهم لا من جهته تعالى ابتداء كأنه قيل ولكن لم يشأ عدم اقتتالهم لأنهم اختلفوا اختلافا فاحشا

فمنهم من آمن بما جاءت به أولئك الرسل من البينات وعلموا به

ومنهم من كفر بذلك كفرا لا ارعواء له عنه فاقتضت الحكمة

عدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم فاقتتلوا بموجب اقتضاء أحوالهم

ولو شاء اللّه عدم اقتتالهم بعد هذه المرتبة أيضا من الاختلاف والشقاق المستتبعين للاقتتال بحسب العادة

ما اقتتلوا وما نبض منهم عرق التطاول والتعادى لما ان الكل تحت ملكوته تعالى فالتكرير ليس للتأكيد كما ظن بل للتنبيه على ان اختلافهم ذلك ليس موجب لعدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم كما يفهم ذلك من وضعه في الاستدراك موضعه بل هو سبحانه مختار في ذلك حتى لو شاء بعد ذلك عدم اقتتالهم ما اقتتلوا كما يفصح عنه الاستدراك بقوله عز و جل

ولكن اللّه يفعل ما يريد أي من الامور الوجودية والعدمية التي من جملتها عدم مشيئته عدم اقتتالهم فإن الترك أيضا من جملة الافعال أي يفعل ما يريد حسبما يريد من غير أن يوجبه عليه موجب أو يمنعه منه مانع وفيه دليل بين على ان الحوادث تابعة لمشيئته سبحانه خيرا كان أو شرا إيمانا كان أو كفرا

٢٥٤

يأيها الذين آمنوا انفقوا في سبيل اللّه

مما رزقناكم أي شيئا مما رزقنا كموه على أن ما موصولة حذف عائدها والتعرض لوصوله منه تعالى للحث على الإنفاق كما في قوله تعالى وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه والمراد به الإنفاق الواجب بدلالة ما بعده من الوعيد

من قبل أن ياتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة كلمة من متعلقة بما تعلقت به أختها ولا ضمير فيه لاختلاف معنييهما فإن الأولى تبعيضية وهذه لابتداء الغاية أي أنفقوا بعض ما رزقناكم من قبل ان يأتي يوم لا تقدرون على تلافي ما فرطتم فيه إذ لا تبايع فيه حتى تتبايعوا ما تنفقونه أو تفتدون به من العذاب ولا خلة حتى يسامحكم به أخلاؤكم أو يعينوكم عليه ولا شفاعة إلا لمن اذن له الرحمن ورضي له قولا حتى تتوسلوا بشفعاء يشفعون لكم في حط ما في ذمتكم وإنما رفعت الثلاثة مع قصد التعميم لأنها في التقدير جواب هل فيه بيع أو خلة أو شفاعة وقرئ بفتح الكل

والكافرون أي والتاركون للزكاة وأشارة عليه للتغليظ والتهديد كما في قوله تعالى ومن كفر مكان ومن لم يحج وللإيذان بأن ترك الزكاة من صفات الكفار قال تعالى وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة

هم الظالمون أي الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها للعقاب ووضعوا المال في غير موضعه وصرفوه الى غير وجهه

٢٥٥

اللّه لا اله الا هو مبتدأ وخبر أي هو المستحق للمعبودية لا غير وفي اضمار خبر لا مثل في الوجود أو يصح ان يوجد خلاف للنحاة معروف

الحي الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء وهو اما خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف أو بدل من لا اله الا هو أو بدل من اللّه أو صفة له ويعضده القراءة بالنصب على المدح لاختصاصه بالنعت

القيوم فيعول من قام بالأمر اذا حفظه أي دائم القيام بتدبير الخلق وحفظه

وقيل هو القائم بذاته المقيم لغيره

لا تأخذه سنة ولا نوم السنة ما يتقدم النوم من الفتور قال عدي بن الرقاع العاملي

 ... وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم ...

والنوم حالة تعرض للحيوان من استرخاء اعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف المشاعر الظاهرة عن الاحساس رأسا والمراد بيان انتفاء اعتراء شيء منهما له سبحانه لعدم كونهما من شأنه تعالى لا لأنهما قاصران بالنسبة الى القوة الالهية فإنه بمعزل من مقام التنزيه فلا سبيل الى حمل النظم الكريم على طريقة المبالغة والترقي بناء على أن القادر على دفع السنة قد لا يقدر على دفع النوم القوي كما في قولك فلان يقظ لا تغلبه سنة ولا نوم وانما تأخير النوم للمحافظة على ترتيب الوجود الخارجي وتوسيط كلمة لا للتنصيص على شمول النفي لكل منهما كما في قوله عز و جل ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة الآية وأما التعبير عن عدم الاعتراء والعروض بعدم الأخذ فلمراعاة الواقع اذ عروض السنة والنوم لمعروضهما انما يكون بطريق الاخذ والاستيلاء

وقيل هو من باب التكميل والجملة تأكيد لما قبلها من كونه تعالى حيا قيوما فإن من يعتربه أحدهما يكون موقوف الحياة قاصرا في الحفظ والتدبير

وقيل استئناف مؤكد لما سبق

وقيل حال مؤكدة من الضمير المستكن في القيوم

له ما في السموات وما في الارض تقرير لقيوميته تعالى واحتجاج به على تفرده في الالوهية والمراد بما فيهما ماهو أعم من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم

من ذا الذي يشفع عنده الا بإذنه بيان لكبرياء شأنه وأنه لا يدانيه أحد ليقدر على تغيير ما يريده شفاعة وضراعة فضلا عن أن يدافعه عنادا أو مناصبة

يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم أي ما قبلهم وما بعدهم أو بالعكس لأنك مستقبل المستقبل ومستدبر الماضي أو أمور الدنيا وأمور الآخرة أو بالعكس أوما يحسونه وما يعقلونه أو ما يدركونه ومالا يدركونه والضمير لما في السموات والارض بتغليب ما فيهما من العقلاء على غيرهم أو لما دل عليه من ذا الذي من الملائكة والانبياء عليهم الصلاة والسلام

ولا يحيطون بشيء من علمه أي من معلوماته

الا بما شاء ان يعلموه وعطفه على ما قبله لما أنهما جميعا دليل على تفرده تعالى بالعلم الذاتي التام الدال على وحدانيته

وسع كرسيه السموات والارض الكرسي ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد وكأنه منسوب الى الكرس الذي هو الملبد وليس ثمة كرسي ولا قاعد وانما هو تمثيل لعظمة شأنه عز و جل وسعة سلطانه واحاطة علمه بالأشياء قاطبة على طريقة قوله عز قائلا وما قدروا اللّه حق قدره والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه

وقيل كرسيه مجاز عن علمه أخذا من كرسي العالم

وقيل عن ملكه أخذا من كرسي الملك فإن الكرسي كلما كان أعظم تكون عظمة القاعد أكثر وأوفر فعبر عن شمول علمه أو عن بسطة ملكه وسلطانه بسعة كرسيه واحاطته بالأقطار العلوية والسفلية

وقيل هو جسم بين يدي العرش محيط بالسموات السبع لقوله ما السموات السبع والأرضون السبع مع الكرسي الا كحلقة في فلان وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ولعله الفلك الثامن وعن الحسن البصري أنه العرش

ولا يؤده أي لا يثقله ولا يشق عليه

حفظهما أي حفظ السموات والارض وانما لم يتعرض لذكر ما فيهما لما أن حفظتهما مستتبع لحفظه

وهو العلي المتعالى بذاته عن الأشياء والأنداد

العظيم الذي يستحقر بالنسبة اليه كل ما سواه ولما ترى من انطواء هذه الآية الكريمة على أمهات المسائل الالهية المتعلقة بالذات العلية والصفات الجلية فإنها ناطقة بأنه تعالى موجود متفرد بالالهية متصف بالحياة واجب الوجود لذاته موجد لغيره لما أن القيوم هو القائم بذاته المقيم لغيره منزه عن التحيز والحلول مبرأ عن التغير والفتور لا مناسبة بينه وبين الاشباح ولا يعتريه ما يعتري النفوس والارواح مالك الملك والملكوت ومبدع الاصول والفروع ذو البطش الشديد لا يشفع عنده الا من أذن له فيه العالم وحده بجميع الاشياء جليها وخفيها كليها وجزئيها واسع الملك والقدرة لكل ما من شأنه أن يملك ويقدر عليه لا يشق عليه شاق ولا يشغله شأن عن شأن متعال عما تناله الاوهام عظيم لا تحدق به الافهام تفردت بفضائل رائقة وخواص فائقة خلت عنها أخواتها قال ان اعظم آية في القرآن آية الكرسي من قرأها بعث اللّه تعالى ملكا يكتب من حسناته ويمحو من سيئاته الى الغد من تلك الساعة وقال عليه الصلاة و السلام ما قرئت هذه الآية في دار الا هجرتها الشياطين ثلاثين يوما ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة ياعلي علمها ولدك وأهلك وجيرانك فما نزلت آية أعظم منها وقال من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة الا الموت ولا يواظب عليها الا صديق أو عابد ومن قرأها اذا أخذ مضجعه آمنة اللّه تعالى على نفسه وجاره وجار جاره والابيات حوله وقال عليه الصلاة و السلام سيد البشر آدم وسيد العرب محمد ولا فخر وسيد الفرس سلمان وسيد الروم صهيب وسيد الحبشة بلال وسيد الجبال الطور وسيد الايام يوم الجمعة وسيد الكلام القرآن وسيد القرآن سورة البقرة وسيد البقرة آية الكرسي وتخصيص سيادته للعرب بالذكر في أثناء تعداد السيادات الخاصة لا يدل على نفي مادلت عليه الاخبار المستفيضة وانعقد عليه الاجماع من سيادته لجميع افراد البشر

٢٥٦

لا اكراه في الدين جملة مستأنفة جاء بها اثر بيان تفرده سبحانه وتعالى بالشئون الجليلة الموجبة للإيمان به وحده ايذانا بأن من حق العاقل أن لايحتاج الى التكليف والالزام بل يختار الدين الحق من غير تردد وتلعثم

وقيل هو خبر في معنى النهي أي لا تكرهوا في الدين فقيل منسوخ بقوله تعالى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم

وقيل خاص بأهل الكتاب حيث حصنوا أنفسهم بأداء الجزية وروى انه كان لأنصاري من بني سالم بن عوف ابنان قد تنصرا قبل مبعثه ثم قدما المدينه فلزمهما أبوهما وقال واللّه لا أدعكما حتى تسلما فأبيا فاختصموا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنزلت فخلاهما

قد تبين الرشد من الغي استئناف تعليلي صدر بكلمة التحقيق لزيادة تقرير مضمونه كما في قوله عز و جل قد بلغت من لدني عذرا أي اذ قد تبين بما ذكر من نعوته تعالى التي يمتنع توهم اشتراك غيره في شيء منهما الايمان الذي هو الرشد الموصل الى السعادة الابدية من الكفر الذي هو الغي المؤدي الى الشقاوة السرمدية

فمن يكفر بالطاغوت هو بناء مبالغة من الطغيان كالملكوت والجبروت قلب مكان عينه ولامه فقيل هو في الأصل مصدر وإليه ذهب الفارسي

وقيل اسم جنس مفرد مذكر وإنما الجمع والتأنيث لإرادة الآلهة وهو رأي سيبوية

وقيل هو جمع وهو مذهب المبرد

وقيل يستوى فيه المفرد والجمع والتذكير والتأنيث أي فمن يعمل أثر ما تميز الحق من الباطل بموجب الحجج الواضحة والآيات البينة ويكفر بالشيطان أو بالأصنام أو بكل ماعبد من دون اللّه تعالى أو صد عن عبادته تعالى لما تبين له كونه بمعزل من استحقاق العبادة

ويؤمن باللّه وحدة لما شاهد من نعونة الجليلة المقتضية لاختصاص الألوهية به عز و جل الموجبة للإيمان والتوحيد وتقديم الكفر بالطاغوت على الإيمان به تعالى لتوقفه عليه فإن التخلية متقدمة على التحلية

فقد استمسك بالعروة الوثقى أي بالغ في التمسك بها كأنه وهو ملتبس به يطلب من نفسه الزيادة فيه والثبات عليه

لاانفصام لها الفصم الكسر بغير إبانة كما ان القصم هو الكسر بإبانة ونفىالأول يدل على انتفاء الثاني بالأولوية والجملة إما استئناف مقرر لما قبلها من وثاقة العروة

وأما حال من العروة والعامل استمسك أو من الضمير المستتر في الوثقى ولها في حيز الخبر أي كائن لها والكلام تمثيل مبنى على تشبيه الهيئة العقلية المنتزعة من ملازمة الاعتقاد الحق الذي لا يحتمل النقيض أصلا لثبوته بالبراهين النيرة القطعية بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم المأمون انقطاعه فلا استعارة في المفردات ويجوز أن تكون العروة الوثقى مستعارة للاعتقاد الحق الذي هو الإيمان والتوحيد لا للنظر الصحيح المؤدى إليه كما قيل فإنه غير مذكور في حيز الشرط والاستمساك بها مستعارا لما ذكر من الملازمة أو ترشيحا للاستعارة الأولى

واللّه سميع بالأقوال

عليم بالعزائم والعقائد والجملة اعتراض تذييلي حامل على الإيمان رادع عن الكفر والنفاق بما فيه من الوعد والوعيد

٢٥٧

اللّه ولى الذين آمنوا أي معينهم أو متولى أمورهم والمراد بهم الذين ثبت في علمه تعالى إيمانهم في الجملة مالاأو حالا

يخرجهم تفسير للولاية أو خبر ثان عند من يجوز كونه جملة أو حال من الضمير في ولى

من الظلمات التي هي أعم من ظلمات الكفر والمعاصى وظلمات الشبة بل مما في بعض مراتب العلوم الاستدلالية من نوع ضعف وخفاء بالقياس إلى مراتبها القوية الجلية بل مما في جميع مراتبها بالنظر إلى مرتبة العيان كما ستعرفه

إلى النور الذي يعم نور الإيمان ونور الإيقان بمراتبه ونور العيان أي يخرج بهدايته وتوفيقه كل واحد منهم من الظلمة التي وقع فيها إلى ما يقابلها من النور وإفراد النور لوحده الحق كما أن جمع الظلمات لتعدد فنون الضلال

والذين كفروا أي الذين ثبت في علمه تعالى كفرهم

أولياؤهم أي الشياطين وسائر المضلين عن طريق الحق فالموصول مبتدأ وأولياؤهم مبتدأ ثان والطاغوت خبره والجملة خبر للأول والجملة معطوفة على ماقبلها ولعل تغيير السبك للأحتراز عن وضع الطاغوت في

مقابلة الاسم الجليل ولقصد المبالغة بتكرير الإسناد مع الإيمان الى التباين بين الفريقين من كل وجه حتى من جهة التعبير ايضا

يخرجونهم بالوساوس وغيرها من طرق الإضلال والإغواء

من النور الفطري الذي جبل عليه الناس كافه أو من نور البينات التى يشاهدونها من جهة النبي بتنزيل تمكنهم من الأستضاءة بها منزلة نفسها

إلى الظلمات ظلمات الكفر والأنهماك في الغي

وقيل نزلت في قوم ارتدوا عن الإسلام والجملة تفسير لولاية الطاغوت أو خبر ثان كما مر وإسناد الإخراج من حيث السببية الى الطاغوت لا يقدح في استناده من حيث الخلق الى قدرته سبحانه

اولئك إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما يتبعه من القبائح

اصحاب النار أي ملابسوها وملازموها بسبب مالهم من الجرائم

هم فيها خالدون ما كثون ابدا

٢٥٨

ألم تر إلى الذى حاج إبراهيم في ربه استشهاد على ما ذكر من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت وتقرير له على طريقة قوله تعالى ألم تر أنهم في كل واد يهيمون كما أن ما بعده استشهاد على ولايته تعالى للمؤمنين وتقرير لها وإنما بدىء بهذا الرعاية الأقتران بينه وبين مدلوله ولاستقلاله بأمر عجيب حقيق بان يصدر به المقال وهو اجتراؤه على المحاجة في اللّه عزوجل وما اتى بها في اثنائها من العظيمة المنادية بكمال حماقته ولأن فيما بعده تعددا وتفصيلا يورث تقديمه انتشار النظم على انه قد اشير في تضاعيفه الى هداية اللّه تعالى ايضا بواسطة ابراهيم عليه السلام فان ما يحكى عنه من الدعوة الى الحق وادحاض حجة الكفار من آثار ولايته تعالى وهمزة الإستفهام لإنكار النفي وتقرير المنفي أي ألم تنظر أو الم ينته علمك الى هذا الطاغوت المارد كيف تصدى لإضلال الناس وإخراجهم من النور إلى الظلمات أي قد تحققت الرؤيه وتقررت بناء على أن أمره من الظهور بحيث لا يكاد يخفي على احد ممن له حظ من الخطاب فظهر أن الكفرة أولئك الطاغوت وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام تشريف له وإيذان بتأييده في المحاجة

أن آتاه اللّه الملك أي لأن آتاه إياه حيث أبطره ذلك وحمله على المحاجة أو حاجة لأجله وضعا للمحاجة التي هي أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه من الشكر كما يقال عاديتني لأن أحسنت إليك أو وقت أن آتاه اللّه وهو حجة على من منع إيتاء اللّه الملك للكافر

إذ قال إبراهيم ظرف لحاج أو بدل من آتاه على الوجه الأخير

ربي الذي يحيي ويميت بفتح ياء ربي وقرئ بحذفها روى أنه لما كسر الأصنام سجنه ثم أخرجه فقال من ربك الذي تدعو إليه قال ربي الذي يحيي ويميت أي يخلق الحياة والموت في الأجساد

قال أستئناف مبني على السؤال كأنه قيل كيف حاجة في هذه المقالة القوية الحقة فقيل قال

أنا أحي وأميت روى أنه دعا برجلين فقتل أحد هما وأطلق الآخر فقال ذلك

قال إبراهيم استئناف كما سلف كأنه قيل فماذا قال إبراهيم لمن في هذه المرتبة من الحماقة وبماذا أفحمه فقيل قال

فإن اللّه يأتي بالشمس من المشرق حسبما تقتضيه مشيئته

فأت بها من المغرب إن كنت قادراعلى مثل مقدور اته تعالى لم يلتفت عليه السلام إلىإبطال مقالة اللعين إيذانا بأن بطلانها من الجلاء والظهور بحيث لا يكاد يخفي على أحد وأن التصدي لإبطالها من قبيل السعى في تحصيل الحاصل و أتى بمثال لا يجد اللعين فيه مجالا للتمويه والتلبيس

فبهت الذي كفر أي صار مبهوتا وقرئ على بناء الفاعل على أن الموصول مفعوله أي فغلب إبراهيم الكافر وأسكته وإيراد الكفر في حيز الصلة للإشعار بعلة الحكم والتنصيص على كون المحاجة كفرا

واللّه لا يهدي القوم الظالمين تذبيل مقرر لمضمون ما قبله أي لا يهدي الذين ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب المخلد بسبب إعراضهم عن قبول الهداية إلى مناهج الأستدلال أو إلى سبيل النجاة أو إلى طريق الجنة يوم القيامة

٢٥٩

أو كالذي مر على قرية أستشهاد على ما ذكر من ولايته تعالى للمؤمنين وتقرير له معطوف على الموصول السابق وإيثار أو الفارقة على الواو الجامعة للاحتراز عن توهم أتحاد المستشهد عليه من أول الامر والكاف إما اسمية كما اختاره قوم جيئ بها للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما ذكر كما في قولك الفعل الماضي مثل نصر

وأما زائده كما ارتضاه آخرون والمعنى اولم ترى الى مثل الذي أو الى الذي مر على قرية كيف هداه اللّه تعالى واخرجه من ظلمة الإشتباه الى نور العيان والشهود اى قد رأيت ذلك وشاهدت فإذن لا ريب في ان اللّه ولي الذين آمنوا الخ هذا

وأما جعل الهمزة لمجرد التعجيب على ان يكون المعنى في الأول الم تنظر الى الذي حاج الخ أي انظر اليه وتعجب من امره وفي الثاني أو ارأيت مثل الذي مر الخ آيذانا بأن حاله وما جرى عليه في الغرابه بحيث لا يرى له مثل كما استقر عليه رأى الجمهور فغير خليق بجزالة التنزيل وفخامة شأنه الجليل فتدبر والمار هو عزير بن شرخيا قاله قتادة والربيع وعكرمة وناجية بن كعب وسليمان بن يزيد والضحاك والسدى رضي اللّه عنهم

وقيل هو أرميا بن حلقيا من سبط هرون عليه السلام قاله وهب وعبيد اللّه بن عمير

وقيل ارميا هو الخضر بعينه قال مجاهد كان المار رجلا كافرا بالبعث وهو بعيد والقرية بيت المقدس قاله وهب وعكرمة والربيع

وقيل هي دير هرقل على شط دجلة قال الكلبي هي دير سابر آباد وقال السدي هي ديار سلما باد و الأول هو الاظهر والاشهر روى ان بني إسرائيل لما بالغوا في تعاطي الشر والفساد وجاوزوا في العتو والطغيان كل حد معتاد سلط اللّه تعالى عليهم بختنصر البابلي فسار إليهم في ستمائة ألف راية حتى وطئ الشام وخرب بيت المقدس وجعل بني إسرائيل أثلاثا ثلث منهم قتلهم وثلث منهم أقرهم بالشام وثلث منهم سباهم وكانوا مائة ألف غلام يافع وغير يافع فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل ملك منهم اربعه غلمة وكان عزير من جملتهم فلما نجاه اللّه تعالى منهم بعد حين مر بحماره على بيت المقدس فرآه على افظع مرأى وأوحش منظر وذلك قوله عزوجل

وهى خاويه على عروشها أي ساقطة على سقوفها بأن سقطت العروش ثم الحيطان من خوى البيت اذا سقط أو من خوت الأرض اى تهدمت والجمله حال من ضمير مر أومن قرية عند من يجوز الحال من النكرة مطلقا

قال اى تلهفا عليها وتشوقا الى عمارتها مع استشعار اليأس عنها

أنى يحيى هذه اللّه وهي على مايرى من الحالة العجيبة المباينة للحياة وتقديمها على الفاعل للاعتناء بها من حيث أن الاستعباد ناشىء من جهتها لامن جهة الفاعل وأني نصب على الظرفية إن كانت بمعنى متى وعلىالحالية من هذه إن كانت بمعنى كيف والعامل يحيي وايا ما كان فالمراد استبعاد عمارتها بالبناء والسكان من بقايا اهلها الذين تفرقوا ايدى سبأ ومن غيرهم وانما عبر عنها بالإحياء الذى هو علم في البعد عن الوقوع عادة تهويلا للخطاب وتأكيدا للاستبعاد كما انه لأجله عبر عن خرابها بالموت حيث قيل

بعد موتها وحيث كان هذا التعبير معربا عن استبعاد الإحياء بعد الموت على أبلغ وجه وآكده أراه اللّه عز و جل آثر ذى أثير أبعد الأمرين فى نفسه ثم في غيره ثم أراه ما استبعده صريحا مبالغة في إزاحة ما عسى يختلج في خلده

وأما حمل إحيائها على إحياء أهلها فيأباه التعرض لحال القرية دون حالهم والاقتصار على ذكر موتهم دون كونهم ترابا وعظاما مع كونه أدخل في الاستبعاد لشدة مباينته للحياة وغاية بعده عن قبولها على أنه لم تتعلق إرادته تعالى بإحيائهم كما تعلقت بعمارتها ومعايية المار لها كما ستحيط به خبرا

فأماته اللّه وألبثه على الموت

مائة عام روى أنه لما دخل القرية ربط حماره فطاف بها ولم ير بها أحدا فقال ماقال وكانت أشجارها قد أثمرت فتناول من التين والعنب وشرب من عصيره ونام فأماته اللّه تعالى في منامه وهو شاب وأمات حماره وبقية تينه وعنبه وعصيره عنده ثم أعمى اللّه تعالى عنه عيون المخلوقات فلم يره أحد فلما مضى من موته سبعون سنه وجه اللّه عز وعلا ملكا عظيما من ملوك فارس يقال له يوشك إلى بيت المقدس ليعمره ومعه ألف قهرمان ثلثمائة ألف عامل فجعلوا يعمرونه واهلك اللّه تعالى بخت نصر ببعوضه دخلت دماغه ونجى اللّه تعالى من بقي من بني إسرائيل وردهم إلى بيت المقدس وتراجع إليه من تفرق منهم في الأكناف فعمروه ثلاثين سنة وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه فلما تمت المائة من موت عزير أحياه اللّه تعالى وذلك قوله تعالى

ثم بعثه وإيثاره على أحياه للدلالة على سرعته وسهولة تأتيه على البارئ تعالى كأنه بعثه من النوم للإيذان بأنه اعاده كهيئته يوم موته عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال

قال استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا قال له بعد بعثه فقيل قال

كم لبثت ليظهر له عجزة عن الإحاطة بشؤنه تعالى وأن إحيائه ليس بعد مدة يسيرة ربما يتوهم أنه هين في الجملة بل بعد مدة طويلة وينحسم به مادة استبعاده بالمرة ويطلع في تضاعيفه على امر آخر من بدائع آثار قدرته تعالى وهو إبقاء الغذاء المتسارع إلى الفساد بالطبع على ما كان عليه دهرا طويلا من غير تغير ما وكم نصب على الظرفية مميزها محذوف أي كم وقتا لبثت والقائل هو اللّه تعالى أو ملك مأمور بذلك من قبله تعالى قيل نودى من السماء يا عزير كم لبثت بعد الموت

قال لبثت يوما أو بعض يوم قاله بناء على التقريب والتخمين أو استقصارا لمدة لبثه

وأما ما يقال من أنه مات ضحي وبعث بعد المائة قبيل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس يوما فالتفت إليها فراى منها بقية فقال أو بعض يوم على وجه الإضراب فبمعزل من التحقيق إذ لاوجه للجزم بتمام اليوم ولو بناء على حسبان الغروب لتحقق النقصان من أوله

قال استئناف كما سلف

بل لبثت مائة عام عطف على مقدر أي ما لبثت ذلك القدر بل هذا المقدار

فانظر لتعاين أمرا آخر من دلائل قدرتنا

الى طعامك وشرابك لم يتسنه اى لم يتغير في هذه المدة المتطاوله مع تداعيه الى الفساد روى انه وجد تينه وعنبه كما جنى وعصيره كما عصر والجمله المنفيه حال بغير واو كقوله تعالى لم يمسسهم سوء اما من الطعام والشراب وافراد الضمير لجريانهما مجرى الواحد كالغذاء

وأما من الأخير اكتفاء بدلاله حاله على حال الأول ويؤيده قراءة من قرأ وهذا شرابك لم يتسنه والهاء اصليه أو هاء سكت واشتقاقه من السنه لما ان لامها هاء أو واو

وقيل أصله لم يتسنن من الحما المسنون فقلبت نونه حرف علة كما في تقضي البازي وقد جوز أن يكون معنى لم يتسنه لم يمر عليه السنون التي مرت لا حقيقة بل تشبيها أي هو على حاله كأنه لم يلبث مائة عام وقرئ لم يسنه بإدغام التاء في السين

وانظر إلى حمارك كيف نخرت عظامه وتفرقت وتقطعت أوصاله وتمزقت ليتبين لك ماذكر من اللبث المديد وتطمئن به نفسك وقوله عز و جل

ولنجعلك آية للناس عطف على مقدر متعلق بفعل مقدر قبله بطريق الاستئناف مقرر لمضمون ما سبق أي فعلنا ما فعلنا من إحيائك بعد ما ذكر لتعاين ما استبعدته من الإحياء بعد دهر طويل ولنجعلك آية للناس الموجودين في هذا القرن بأن يشاهدوك وأنت من أهل القرون الخالية ويأخذوا منك ما طوى عنهم منذ أحقاب من علم التوراة كما سيأتي أو متعلق بفعل مقدر بعده أي ولنجعلك آية لهم على الوجه المذكور فعلنا ما فعلنا فهو على التقديرين دليل على ما ذكر من اللبث المديد ولذلك فرق بينه وبين الأمر بالنظر إلى حماره وتكرير الأمر في قوله تعالى

وانظر إلى العظام مع أن المراد عظام الحمار أيضا لما أن المأمور به أولا هو النظر إليها من حيث دلالتها على ما ذكر من اللبث المديد وثانيا هو النظر إليها من حيث تعتريها الحياة ومباديها أي وانظر إلى عظام الحمار لتشاهد كيفية الإحياء في غيرك بعد ما شاهدت نفسه في نفسك

كيف ننشزها بالزاي المعجمة أي نرفع بعضها إلى بعض ويردها إلى أما كنها من الجسد فتركبها تركيبا لأئقا بها وقال الكسائي نليها ونعظمها ولعل من فسره بنحييها أراد بالإحياء هذا المعنى وكذا من قرأ ننشرها بالراء من أنشر اللّه تعالى الموتى أي أحياها لا معناه الحقيقي لقوله تعالى

ثم نكسوها لحما أي نسترها به كما يستر الجسد باللباس

وأما من قرأ ننشرها بفتح النون وضم الشين فلعله أراد به ضد الطى كما قال الفراء فالمعنى كيف نبسطها والجملة إما حال من العظام أي وانظر إليها مركبة مكسوة لحما أو بدل اشتمال أي وانظر إلى العظام كيفية إنشازها وبسط اللحم عليها ولعل عدم التعرض لكيفية نفخ الروح لما أنها مما لا تقتضى الحكمة بيانه روى أنه نودى أيتها العظام البالية إن اللّه يأمرك يامرك أن تجتمعي فاجتمع كل جزء من أجزائها التي ذهب بها الطير والسباع وطارت بها الرياح من كل سهل وجبل فانظح بعضها إلى بعض والتصق كل عضو بما يليق به الضلع بالضلع والذراع بمحلها والرأس بموضعها ثم الأعصاب والعروق ثم انبسط عليه اللحم

ثم الجلد ثم خرجت منه الشعور ثم نفخ فيه الروح فإذا هو قائم ينهق

فلما تبين له أي ما دل عليه الأمر بالنظر إليه من كيفية الأحياء بمبادية والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الأمر المذكور وإنما حذف للإيذان بظهور تحققه واستغنائه عن الذكر وللإشعار بسرعة وقوعه كما في قوله عز و جل فلما رآه مستقرا عنده بعد قوله أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك كأنه قيل فأنشزها اللّه تعالى وكساها لحما فنظر إليها فتبين له كيفيته فلما تبين له ذلك أي اتضح اتضاحا تاما

قال أعلم أن اللّه على كل شئ من الأشياء التي من جملتها ما شاهده في نفسه وفي غيره من تعاجيب الآثار

قدير لا يستعصى عليه أمر من الأمور وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن علمه بذلك مستمر نظرا إلى ان أصله لم يتغير ولم يتبدل بل إنما تبدل بالعيان وصفة إشعار بأنه إنما قال ما قال بناء على الاستبعاد العادي واستعظاما للأمر وقد قيل فاعل تبين مضمر يفسره مفعول أعلم أي فلما تبين له ان اللّه على كل شئ قدير قال أعلم أن اللّه على كل شئ قدير فتدبر وقرئ تبين له على صيغة المجهول وقرئ قال اعلم على صيغة الأمر روى أنه ركب حمارة واتى محلته وأنكره الناس وأنكر الناس وأنكر المنازل فانطلق على وهم منه حتى أتى منزلة فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أدركت زمن عزيز فقال لها عزيز يا هذه هذا منزل عزيز قالت نعم وأين ذكرى عزير قد فقدناه منذ كذا وكذا فبكت بكاء شديدا قال فإني عزير قالت سبحان اللّه اني يكون ذلك قال قد أماتني اللّه مائة عام ثم بعثني قالت إن عزيزا كان مستجاب الدعوة فادع اللّه لي يرد على بصري حتى أراك فدعا ربه ومسح بيده عينيها فصحتا فأخذ بيدها فقال لها قومى بإذن اللّه فقامت صحيحة كأنها نشطت من عقال فنظرت إليه فقالت أشهد أنك عزير فانطلقت إلى محلة بنى إسرائيل وهم في أنديتهم وكان في المجلس ابن لعزير قد بلغ مائة وثماني عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ فنادت هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت انظروا فإني بدعائه رجعت إلى هذه الحالة فنهض الناس فأقبلوا إليه فقال ابنه كان لأبي شامة سوداء بين كتفيه مثل الهلال فكسف فإذا هو كذلك وقد كان قتل بخت نصر ببيت المقدس من قراء التوراة أربعين ألف رجل ولم يكن يومئذ بينهم نسخة من التوراة ولا أحد يعرف التوراة فقرأها عليهم عن ظهر قلبه من غير أن يخرم منها حرفا فقال رجل من أولاد المسبيين ممن ورد بيت المقدس بعد مهلك بخت نصر حدثنى أبي عن جدى أنه دفن التوراة يوم سبينا في خابية في كرم فإن أريتموني كرم جدي أخرجتها لكم فذهبوا إلى كرم جده ففتشوا فوجدوها فعارضوها بما أملى عليهم عزيز عن ظهر القلب فما اختلفا في حرف واحد فعند ذلك قالوا هو ابن اللّه تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا

٢٦٠

وإذ قال إبراهيم دليل آخر على ولايته تعالى للمؤمنين وإخراجه لهم من الظلمات إلى النور وإنما لم يسلك به مسلك الاستشهاد كما قبله بأن يقال أو كالذي قال رب الخ لجريان ذكره عليه السلام في أثناء المحاجة ولأنه لادخل لنفسه عليه السلام في أصل الدليل كدأب عزير عليه السلام فإن ما جرى عليه من إحيائه بعد مائة عام من جملة الشواهد على قدرته تعالى وهدايته والظرف منتصب بمضمر صرح بمثله في نحو قوله تعالى واذكروا إذ جعلنكم خلفاء أي واذكر وقت قوله عليه السلام وما وقع حينئذ من تعاجيب صنع اللّه تعالى لتقف على ما مر من ولايته تعالى وهدايته وتوجيه الأمر بالذكر في أمثال هذه المواقع إلى الوقت دون ما وقع فيه من الواقعات مع أنها المقصودة بالتذكير لما ذكر غير مرة من المبالغة في أيجاب ذكرها لما ان إيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني ولأن الوقت مشتمل عليها مفصلة فإذا استحضر كانت حاضرة بتفاصيلها بحيث لا يشذ عنها شئ مما ذكر عند الحكاية أو لم يذكر كأنها مشاهدة عيانا

رب كلمة استعطاف قدمت بين يدى الدعاء مبالغة في استدعاء الإجابة

أرني من الرؤية البصرية المتعدية إلى واحد وبدخول همزة النقل طلبت مفعولا آخر هو الجملة الاستفهامية المعلقة لها فإنها تعلق كما يعلق النظر البصري أي اجعلنى مبصرا

كيف تحي الموتى بان تحييها وأنا أنظر إليها وكيف في محل نصب على التشبيه بالظرف عند سيبوية وبالحال عند الأخفش والعامل فيها تحيى أي في أي حال أو على أي حال تحيى قال القرطبي الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حال شئ متقرر الوجود عند السائل والمسئول فالاستفهام ههنا عن هيئة الإحياء المتقرر عند السائل أي بصرني كيفية إحيائك للموتى وإنما سأله عليه السلام ليتأيد إيقانه بالعيان ويزداد قلبه اطمئنانا على اطمئنان

وأما ما قيل من أن نمرود لما قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم عليه السلام إن إحياء اللّه تعالى برد الأرواح إلى الأجساد فقال نمرود هل عاينته فلم يقدر على أن يقول نعم فانتقل إلى تقرير آخر ثم سأل ربه أن يريه ذلك فيأباه تعليل السؤال بالاطمئنان

قال استئناف كما مر غير مرة

أولم تؤمن عطف على مقدر أي ألم تعلم ولم تؤمن بأنى قادر على الإحياء كيف أشاء حتى تسألنى إراءته قاله عز وعلا وهو أعلم بأنه عليه السلام أثبت الناس إيمانا وأقواهم يقينا ليجيب بما أجاب به فيكون ذلك لطفا للسامعين

قال بلى علمت وآمنت بانك قادر على الإحياء على أي كيفية شئت

ولكن سألت ما سألت

ليطمئن قلبي بمضامة العيان إلى الإيمان والإيقان وأزداد بصيرة بمشاهدته على كيفية معينة

قال فخذ الفاء لجواب شرط محذوف أي إن أردت ذلك فخذ

أربعة من الطير قيل هو اسم لجمع طائر كركب وسفر

وقيل جمع له كتاجر وتجر

وقيل هو مصدر سمى به الجنس

وقيل هو تخفيف طير بمعنى طائر كهين في هين ومن متعلقة بخذ أو بمحذوف وقع صفة لأربعة أي أربعة كائنة من الطير قيل هي طاوس وديك وغراب وحمامة

وقيل نسر بدل الأخير وتخصيص الطير بذلك لأنه أقرب إلى الإنسان وأجمع لخواص الحيوان ولسهولة تأتى ما يفعل به من التجزئة والتفريق وغير ذلك

فصرهن من صاره يصوره أي أماله وقرئ بكسر الصاد من صاره يصيره أي أملهن واضممهن وقرئ فصرهن بضم الصاد وكسرها وتشديد الراء من صرة ويصره إذا جمعه وقرئ فصرهن من التصرية بمعنى الجمع أي اجمعهن

إليك لتتأملها وتعرف شياتها مفصلة حتى تعلم بعد الإحياء ان جزءا من أجزائها لم ينتقل من موضعه الأول أصلا روى انه أمر بان يذبحها وينتف ريشها ويقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها ويمسك رءوسها ثم امر بأن يجعل أجزاءها على الجبال وذلك قوله تعالى

ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا أي جزئهن وفرق أجزاءهن على ما بحضرتك من الجبال قيل كانت أربعة أجبل

وقيل سبعة فجعل على كل جبل ربعا أوسبعا من كل طائر وقرئ جزؤا بضمتين وجزا بالتشديد بطرح همزته تخفيفا ثم تشديده عند الوقف ثم إجراء الوصل مجرى الوقف

ثم ادعهن يأتينك في حيز الجزم على أنه جواب الأمر ولكنه بنى لاتصاله بنون جمع مؤنث

سعيا أي ساعيات مسرعات أو ذوات سعى طيرانا أو مشيا وإنما اقتصر على حكاية أوامره عز و جل من غير تعرض لامتثاله عليه السلام ولا لما ترتب عليه من عجائب آثار قدرته تعالى كما روى انه عليه السلام نادى فقال تعالين بإذن للّه فجعل كل جزء منهن يطير إلى صاحبة حتى صارت جثثا ثم اقبلن إلى رءوسهن فانضمت كل جثة إلى رأسها فعادت كل واحدة منهن إلى ما كانت عليه من الهيئة للإيذان بان ترتب تلك الأمور على الأوامر الجليلة واستحالة تخلفها عنها من الجلاء والظهور بحيث لا حاجة له إلى الذكر أصلا وناهيك بالقصة دليلا على فضل الخليل ويمن الضرعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال حيث أراه اللّه تعالى ما سأله في الحال على ايسر ما يكون من الوجوه وأرى عزيرا ما أراه بعد ما أماته مائة عام

واعلم ان اللّه عزيز غالب على أمره لا يعجزه شئ عما يريده

حكيم ذو حكمة بالغة في أفاعيله فليس بناء أفعاله على الأسباب العادية لعجزه عن إيجادها بطريق آخر خارق للعادات بل لكونه متضمنا للحكم والمصالح

٢٦١

مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه أي في وجوه الخيرات من الواجب والنفل

كمثل حبة لابد من تقرير مضاف في أحد الجانبين أي مثل نفقتهم كمثل حبة أو مثلهم كمثل باذر حبة

أنبتت سبع سنابل أي أخرجت ساقا تشعب منها سبع لكل واحدة منها سنبلة

في كل سنبلة مائة حبة كما يشاهد ذلك في الذرة والدخن في الأراضي المغلة بل أكثر من ذلك وإسناد الإنبات إلى الحبة مجازى كإسناده إلى الأرض والربيع وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها حاضرة بين يدى الناظر

واللّه يضاعف تلك المضاعفة أو فوقها إلى ما شاء اللّه تعالى

لمن يشاء أن يضاعف له بفضله على حسب حال المنفق من إخلاصه وتعبه ولذلك تفاوتت مراتب الأعمال في مقادير الثواب

واللّه واسع لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة

عليم بنية المنفق ومقدار إنفاقة وكيفية تحصيل ما انفقه

٢٦٢

الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه جملة مبتدأ جئ بها لبيان كيفية الإنفاق الذي بين فضله بالتمثيل المذكور

ثم لايتبعون ما أنفقوا أي ما أنفقوه أو إنفاقهم

منا ولا أذى المن أن يعتد على من أحسن إلية بإحسانه ويريه أنه اوجب بذلك عليه حقا والأذى أن يتطاول عليه بسبب إنعامه عليه وإنما قدم المن لكثرة وقوعه وتوسيط كلمة لا للدلالة على شمول النفي لاتباع كل واحد منهما و ثم لإظهار علو رتبة المعطوف قيل نزلت في عثمان رضي اللّه عنه حين جهز جيش العسرة بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وعبد الرحمن ابن عوف رضي اللّه عنه حين اتى النبي باربعة آلاف درهم صدقة ولم يكد يخطر ببالهما شئ من المن والأذى

لهم اجرهم اى حسبما وعد لهم فى ضمن التمثيل وهو جملة مبتدأ وخبر وقعت خبرا عن الموصول وفي تكرير الاسناد وتقييد الأجر بقوله عند ربهم من التأكيد والتشريف ما لا يخفى وتخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للإيذان بأن ترتب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك اتباع المن والأذى أمر بين لا يحتاج إلى التصريح بالسببية

وأما إبهام أنهم أهل لذلك وإن لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا فيأباه مقام الترغيب في الفعل والحث عليه

ولا خوف عليهم في الدارين من لحوق مكروه من المكاره

ولا هم يحزنون لفوات مطلوب من المطالب قل أو جل أي لا يعتريهم ما يوجبه لا أنه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوف وحزن أصلا بل يستمرون على النشاط والسرور كيف لا واستشعار الخوف والخشية استعظاما لجلال اللّه و هيبته واستقصارا للجد والسعى في إقامة حقوق العبودية من خواص الخواص والمقربين والمراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انفاء دوامهما كما يوهمه كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا لما ان النفى وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام

٢٦٣

قول معروف أي كلام جميل تقبله القلوب ولا تنكره يرد به السائل من غير إعطاء شئ

ومغفرة أي ستر لما وقع من السائل من الإلحاف في المسألة وغيره مما يثقل على المسئول وصفح عنه وإنما صح الابتداء بالنكرة في الأول لاختصاصها بالوصف وفي الثاني بالعطف أو بالصفة المقدرة أي ومغفرة كائنة من المسئول

خير أي للسائل

من صدقة يتبعها أذى لكونها مشوبة بضرر ما يتبعها وخلوص الأولين من الضرر والجملة مستأنفة مقررة لاعتبار ترك اتباع المن والأذي وتفسير المغفرة بنيل مغفرة من اللّه تعالى بسبب الرد الجميل أو بعفو السائل بناء على اعتبار الخيرية بالنسبة إلى المسئول يؤدى إلى أن يكون في الصدقة الموصوفة بالنسبة إليه خير في الجملة مع بطلانها بالمرة

واللّه غنى لا يحوج الفقراء إلى تحمل مؤنة المن والأذى ويرزقهم من جهة أخرى

حليم لا يعاجل أصحاب المن والأذى بالعقوبة لا أنهم لا يستحقونها بسببهما والجملة تذييل لما قبلها مشتمل على الوعد والوعيد مقرر لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعا

٢٦٤

يأيها الذين آمنوا أقبل عليهم بالخطاب إثر بيان ما بين بطريق الغيبة مبالغة في إيجاب العمل بموجب النهى

لاتبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى أي لاتحبطوا أجرها بواحد منهما

كالذي في محل النصب إما على أنه نعت لمصدر محذوف أي لاتبطلوها إبطالا كإبطال الذي

ينفق ماله رئاء الناس

وأما على أنه حال من فاعل لاتبطلوا أي لا تبطلوها مشابهين الذي ينفق أي الذي يبطل إنفاقه بالرياء

وقيل من ضمير المصدر المقدر على ما هو رأى سيبوبه وانتصاب رئاء إما على أنه علة لينفق أي لأجل رئائهم أو على أنه حال من فاعله أي ينفق ماله مرائيا والمراد به المنافق لقوله تعالى

ولا يؤمن باللّه واليوم الآخر حتى يرجوا ثوابا أو يخشى عقابا

فمثله الفاء لربط ما بعدها بما قبلها أي فمثل المرائي في الإنفاق وحالته العجيبة

كمثل صفوان أي حجر أملس

عليه تراب أي شئ يسير منه

فأصابه وابل أي مطر عظيم القطر

فتركه صلدا ليس عليه شئ من الغبار أصلا

لا يقدرون على شئ مما كسبوا لا ينتفعون بما فعلوا رئاء ولا يجدون له ثوابا قطعا كقوله تعالى فجعلناه هباء منثورا والجملة استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا يكون حالهم حينئذ فقيل لا يقدرون الخ ومن ضرورة كون مثلهم كما ذكر كون مثل من يشبههم وهم أصحاب المن والأذى كذلك والضميران الأخيران للموصول باعتبار المعنى كما في قوله عز و جل وخضتم كالذي خاضوا لما أن المراد به الجنس أو الجمع أو الفريق كما أن الضمائر الأربعة السابقة له باعتبار اللفظ

واللّه لا يهدى القوم الكافرين إلى الخير والرشاد والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفيه تعريض بأن كلا من الرياء والمن والأذى من خصائص الكفار ولا بد للمؤمنين أن يجتنبوها

٢٦٥

ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة اللّه أي لطلب رضاه

وتثبيتا من أنفسهم أي ولتثبيت بعض أنفسهم على الإيمان فمن تبعيضيه كما في قولهم هز من عطفه وحرك من نشاطه فإن المال شقيق الروح فمن بذل ماله لوجه اللّه تعالى فقد ثبت بعض نفسه ومن بذل ماله وروحه فقد ثبتها كلها أو وتصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم فمن ابتدائية كما في قوله تعالى حسدا من عند أنفسهم ويحتمل أن يكون المعنى وتثبيتا من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه ويعضده قراءة من قرأ وتبيينا من أنفسهم وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال الذي هو رأس كل خطيئة

 

كمثل جنة بربوة الربوة بالحركات الثلاث وقد قرئت بها المكان المرتفع أي مثل نفقتهم في الزكاة كمثل بستان كائن بمكان مرتفع مأمون من أن يصطلمه البرد للطافة هوائه بهبوب الرياح الملطفة له فإن أشجار الربا تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا

وأما الأراضي المنخفضة فقلما تسلم ثمارها من البرد لكثافة هوائها بركود الرياح وقرئ كمثل حبة

أصابها وابل مطر عظيم القطر

فآتت أكلها ثمرتها وقرئ بسكون الكاف تخفيفا

ضعفين أي مثلى ما كانت تثمر في سائر الأوقات بسبب ما أصابها من

الوابل والمراد بالضعف المثل

وقيل أربعة أمثال ونصبه على الحال من أكلها أي مضاعفا

فإن لم يصبها وابل فطل أي فطل يكفيها لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها

وقيل فيصيبها طل وهو المطر الصغير القطر

وقيل فالذي يصيبها طل والمعنى أن نفقات هؤلاء زاكية عند اللّه تعالى لا تضيع بحال وان كانت تتفاوت باعتبار ما يقارنها من الأحوال ويجوز أن يعتبر التمثيل بين حالهم باعتبار ما صدر عنهم من النفقة الكثيرة والقليلة وبين الجنة المعهودة باعتبار ماأصابها من المطر الكثير واليسير فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكلها فكذلك نفقتهم جلت أو قلت بعد أن يطلب بها وجه اللّه تعالى زاكية زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عند اللّه

واللّه بما تعلمون بصير لا يخفى عليه شئ منه وهو ترغيب في الإخلاص مع تحذير من الرياء ونحوه

٢٦٦

أيود أحدكم الود حب الشئ مع تمنيه ولذلك يستعمل استعمالها والهمزة لإنكار الوقوع كما في قوله أأضرب ابي لا لإنكار الواقع كما في قولك أتضرب أباك على ان مناط الإنكار ليس جميع ما تعلق به الود بل إنما هو إصابة الإعصار وما يتبعها من الاحتراق

ان تكون له جنة وقرئ جنات

من نخيل وأعناب أي كائنة منهما على أن يكون الأصل والركن فيها هذين الجنسين الشريفين الجامعين لفنون المنافع والباقي من المستتبعات لا على أن يكون فيها غيرهما كما ستعرفه والجنة تطلق على الأشجار الملتفة المتكاثفة قال زهير

 ... كأن عيني في غربي مفتلة ... من النواضح تسفى جنة سحقا ...

وعلى الأرض المشتملة عليها والأول هو الأنسب بقوله عز و جل

تجرى من تحتها الأنهار على الثاني لا بد من تقدير مضاف أي من تحت وشجارها وكذا لابد من جعل إسناد الاحتراق إليها فيما سيأتي مجازيا والجملة في محل الرفع على أنها صفة جنة كما أن قوله تعالى من نخيل وأعناب كذلك أو في محل النصب على أنها حال منها لأنها موصوفة

له فيها من كل الثمرات الظرف الأول خبر والثاني حال والثالث مبتدأ أي صفة للمبتدأ قائمة مقامه أي له رزق من كل الثمرات كما في قوله تعالى وما منا إلا له مقام معلوم أي وما منا أحد إلا له الخ وليس المراد بالثمرات العموم بل إنما هو التكثير كما في قوله تعالى وأوتيت من كل شئ

واصابه الكبر أي كبر السن الذي هو مظنة شدة الحاجة إلى منافعها ومئنة كمال العجز عن تدارك أسباب المعايش والواو حالية أي وقد أصابه الكبر

وله ذرية ضعفاء حال من الضمير في أصابة أي أصابة الكبر والحال أن له ذرية صغار لا يقدرون على الكسب وترتيب مبادى المعاش وقرئ ضعاف

فأصابها إعصار أي ريح عاصفة تستدير في الأرض ثم تنعكس منها ساطعة إلى السماء على هيئة العمود

فيه نار شديدة

فاحترقت عطف على فأصابها وهذا كما ترى تمثيل لحال من يعمل أعمال البر والحسنات ويضم إليها ما يحبطها من القوادح ثم يجدها يوم القيامة عند كمال حاجته إلى ثوابها هباء منثورا في التحسر

والتأسف عليها

كذلك توحيد الكاف مع كون المخاطب جمعا قد مر وجهه مرارا أي مثل البيان الواضح الجاري في الظهور مجرى الأمور المحسوسة

يبين اللّه لكم الآيات لعلكم تتفكرون كى تتفكروا فيها وتعتبروا بما فيها من العبر وتعملوا بموجبها

٢٦٧

يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم بيان لحال ما ينفق منه إثر بيان أصل الإنفاق وكيفيته أي أنفقوا من حلال ما كسبتم وجياده لقوله تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون

ومما أخرجنا لكم من الأرض أي من طيبات ما أخرجنا لكم من الحبوب والثمار والمعادن فحذف لدلالة ما قبله عليه

ولا تيمموا بفتح التاء أصله ولا تتيمموا وقرئ بضمها وقرئ ولا تأمموا والكل بمعنى القصد أي لا تقصدوا

الخبيث أي الردئ الخسيس وهو كالطيب من الصفات الغالبة التي لا تذكر موصوفاتها

منه تنفقون الجار متعلق بتنفقون والضمير للخبيث والتقديم للتخصيص والجملة حال من فاعل تيمموا أي لا تقصدوا الخبيث قاصرين الإنفاق عليه أو من الخبيث أي مختصا به الإنفاق وأياما كان فالتخصيص لتوبيخهم بما كانوا يتعاطونه من أنفاق الخبيث خاصة لا لتسويغ إنفاقه مع الطيب عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنهم كانوا يتصدقون بحشف التمر وشرارة فنهوا عنه

وقيل متعلق بمحذوف وقع حالا من الخبيث والضمير للمال المدلول عليه بحسب المقام أو للموصولين على طريقة قوله

 ... كأنه في الجلد توليع البهق ...

أو للثاني وتخصيصه بذلك لما أن التفاوت فيه أكثر وتنفقون حال من الفاعل المذكور أي ولا تقصدوا الخبيث كائنا من المال أو مما كسبتم وما أخرجنا لكم أومما أخرجنا لكم منفقين إياه وقوله تعالى

ولستم بآخذيه حال على كل حال من واو تنفقون أي والحال أنكم لا تأخذونه في معاملاتكم في وقت من الأوقات أو بوجه من الوجوه

إلا أن تغمضوا فيه أي إلاوقت إغماضكم فيه أو إلا بإغماضكم فيه وهو عبارة عن المسامحة بطريق الكتابة أو الاستعارة يقال أغمض بصره إذا غضه وقرئ على البناء للمفعول على معنى إلا أن تحملوا على الإغماض وتدخلوا فيه أو توجدوا مغمضين وقرئ تغمضوا وتغمضوا بضم الميم وكسرها

وقيل تم الكلام عند قوله تعالى ولا تيمموا الخبيث ثم استؤنف فقيل على طريقة التوبيخ والتقريع منه تنفقون والحال أنكم لاتأخذونه إلا إذا أغمضتم فيه ومآله الاستفهام الإنكاري فكأنه قيل أمنه تنفقون الخ

واعلموا أن اللّه غنى عن أنفاقكم وإنما يامركم به لمنفعتكم وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمهم به توبيخ لهم على مايصنعون من إعطاء الخبيث وإيذان بأن ذلك من آثار الجهل بشأنه تعالى فإن إعطاء مثله إنما يكون عادة عند اعتقاد المعطى أن الآخذ محتاج إلى ما يعطيه بل مضطر إليه

حميد مستحق للحمد على نعمة العظام

وقيل حامد بقبول الجيد والإثابة عليه

٢٦٧

الشيطان يعدكم الفقر الوعد هو الإخبار بما سيكون من جهة المخبر مترتبا

على شئ من زمان أو غيره يستعمل في الشر استعماله في الخير قال تعالى النار وعدها اللّه الذين كفروا أي يعدكم في الإنفاق الفقر ويقول إن عاقبة إنفاقكم ان تفتقروا وإنما عبر عن ذلك بالوعد مع أن الشيطان لم يضف مجئ الفقر إلى جهته للإيذان بمبالغته في الإخبار بتحقق مجيئة كأنه نزوله في تقرر الوقوع منزلة أفعاله الواقعة بحسب إرادته أو لوقوعه في مقابلة وعده تعالى على طريقة المشاكلة وقرئ بضم الفاء والسكون وبضمتين وبفتحتين

ويامركم بالفحشاء أي بالخصلة الفحشاء أي ويغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور على فعل المأمور به والعرب تسمى البخيل فاحشا قال طرفة بن العبد

 ... أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى ... عقيلة مال الفاحش المتشدد ...

وقيل بالمعاصي والسيئات

واللّه يعدكم أي في الإنفاق

مغفرة لذنوبكم والجار في قوله تعالى

منه متعلق بمحذوف هو صفة لمغفرة مؤكدة لفخامتها التي أفادها تنكيرها أي مغفرة أي مغفرة مغفرة كائنة منه عز و جل

وفضلا صفة محذوفة لدلالة المذكور عليها كما في قوله تعالى فانقلبوا بنعمة من اللّه وفضل ونظائره أي وفضلا كائنا منه تعالى أي خلفا مما أنفقتم زائدا عليه في الدنيا وفيه تكذيب للشيطان

وقيل ثوابا في الآخرة

واللّه واسع قدرة وفضلا فيحقق ما وعدكم به من المغفرة وإخلاف ما تنفقونه

عليم مبالغ في العلم فيعلم إنفاقكم فلا يكاد يضيع أجركم أو يعلم ما سيكون من المغفرة والفضل فلا احتمال للخلف في الوعد والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله

٢٦٩

يؤتى الحكمة قال مجاهد الحكمة هي القرآن والعلم والفقة روى عن ابن نجيح أنها الإصابة في القول والعمل وعن إبراهيم النخعي انها معرفة معاني الأشياء وفهمها

وقيل هي معرفة حقائق الأشياء

وقيل هي الإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة وعن مقاتل أنها تفسر في القرآن بأربعة أوجه فتارة بمواعظ القرآن وأخرى بما فيه من عجائب الأسرار ومرة بالعلم والفهم وأخرى بالنبوة ولعل الأنسب بالمقام ما ينتطم الأحكام المبينة في تضاعيف الايات الكريمة من أحد الوجهين الأولين ومعنى أيتائها تبيينها والتوفيق للعلم والعمل بها أي بينها ويوفق للعلم والعمل بها

من يشاء من عبادة ان يؤتيها إياه بموجب سعة فضله وإحاطة علمه كما آتاكم ما بينه في ضمن الآى من الحكم البالغة التي يدور عليها فلك منافعكم فاغتنموها وسارعوا إلى العمل بها والموصول مفعول أول ليؤتى قدم عليه الثاني للعناية به والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها

ومن يؤت الحكمة على بناء المفعول وقرئ على البناء للفاعل أي ومن يؤته اللّه الحكمة واظهار في مقام الإضمار لإظهار الاعتناء بشأنها وللإشعار بعلة الحكم

فقد أوتى خيرا كثيرا أي أي خير كثير فإنه قد خير له خير الدارين

وما يذكر أي وما يتعظ بما أوتى من الحكمة أو وما يتفكر فيها

إلا أولوا الألباب أي العقول الخالصة عن شوائب الوهم والركون الى مشايعة الهوى وفيه من الترغيب في المحافظة على الأحكام الواردة في شأن الإنفاق مالا يخفى والجملة إما حال أو اعتراض تذييلي

٢٧٠

وما أنفقتم من نفقة بيان لحكم كلي شامل أفراد النفقات وما في حكمها إثر بيان حكم ما كان منها في سبيل اللّه وما إما شرطية أو موصولة حذف عائدها من الصلة أي وما انفقتموه من نفقة أي أي نفقة كانت في حق أو باطل في سر أو علانية قليلة أو كثيرة

أو نذرتم النذر عقد الضمير على شئ والتزامه وفعله كضرب ونصر

من نذر أي نذر كان في طاعة أو معصية بشرط أو بغير شرط متعلق بالمال أو بالأفعال كالصيام والصلاة ونحوهما

فإن اللّه يعلمه الفاء على الأول داخلة على الجواب وعلى الثاني مزيدة في الخبر وتوحيد الضمير مع تعدد متعلق العلم لاتحاد المرجع بناء على كون العطف بكلمة أو كما في قولك زيد أو عمرو اكرمته ولا يقال أكرمتهما ولهذا صير إلى التأويل في  قوله عز وعلا وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها واخرى إلى المؤخر رعاية للقرب كما في هذه الآية الكريمة وفي قوله تعالى ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا وحمل النظم على تأويلها بالمذكور ونظائره أو على حذف الأول ثقة بدلالة الثاني عليه كما في قوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللّه وقوله

 ... نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف ...

ونحوهما مما عطف فيه بالواو الجامعة تعسف مستغنى عنه نعم يجوز إرجاع الضمير إلى ما على تقدير كونها موصولة وتصدير الجملة بأن لتأكيد مضمونها إفادة لتحقيق الجزاء فإنه تعالى يجازيكم عليه البتة إن خيرا فخير وإن شرا فشر فهو ترغيب وترهيب ووعد ووعيد

وما للظالمين بالإنفاق والنذر في المعاصي أو بمنع الصدقات وعدم الوفاء بالنذر أو بإنفاق الخبيث أو بالرياء والمن والأذى وغير ذلك ما ينتظمه معنى الظلم الذي هو عبارة عن وضع الشئ في غير موضعه الذي يحق أن يوضع فيه

من أنصار أي أعوان ينصرونهم من بأس اللّه وعقابه لاشفاعه ولا مدافعة وإيراد صيغة الجمع لمقابلة الظالمين أي وما لظالم من الظالمين نصير من الأنصار والجملة اسئناف مقرر لما فيما قبله من الوعيد مفيد لفظاعة حال من يفعل ما يفعل من الظالمين لتحصيل الأعواذ ورعاية الخلان

٢٧١

إن تبدوا الصدقات فنعما هي نوع تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية وبيان له ولذلك ترك العطف بينهما أي إن تظهروا الصدقات فنعم شيئا إبداؤها بعد أن لم يكن رياء وسمعه وقرئ بفتح النون وكسر العين على الأصل وقرئ بكسر النون وسكون العين وقرئ بكسر النون وإخفاء حركة العين وهذا في الصدقات المفروضة

وأما في صدقة التطوع فالإخفاء أفضل وهي التي أريدت بقوله تعالى

وإن تخفوها أي تعطوها خفية

وتؤتوها الفقراء ولعل التصريح بإيتائها الفقراء مع أنه واجب في الإبداء أيضا لما أن الإخفاء مظنة الالتباس والاشتباه فإن الغنى ربما يدعى الفقر ويقدم على قبول الصدقة سرا ولايفعل ذلك عند الناس

فهو خير لكم أي فالإخفاء خير لكم من الإبداء وهذا في التطوع ومن لم يعرف بالمال

وأما في الواجب فالأمر بالعكس لدفع التهمة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علا نيتها افضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا

ويكفر عنكم من سيئاتكم أي واللّه يكفر أو الإخفاء ومن تبعيضية أي شيئا من سيئاتكم كما سترتموها

وقيل مزيدة على رأي الأخفش وقرئ بالتاء مرفوعا ومجزوما على ان الفعل للصدقات وقرئ بالنون مرفوعا عطفا على محل ما بعد الفاء أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ونحن نكفر أو على أنها جملة مبتدأة من فعل وفاعل وقرئ مجزوما عطفا على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط

واللّه بما تعملون من الإسرار والإعلان

خبير فهو ترغيب في الإسرار

٢٧٢

ليس عليك هداهم أي لا يجب عليك أن تجعلهم مهدبين إلى الإتيان بما أمروا به من المحاسن والانتهاء عما نهوا عنه من القبائح المعدودة وإنما الواجب عليك الإرشاد إلى الخير والحث عليه والنهى عن الشر والردع عنه بما أوحى إليك من الايات والذكر الحكيم

ولكن اللّه يهدى هداية خاصة موصلة إلى المطلوب حتما

من يشاء هدايته إلى ذلك ممن يتذكر بما ذكر ويتبع الحق ويختار الخير والجملة معترضة جيء بها على تلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بالمكلفين مبالغة في حملهم على الامتثال فإن الإخبار بعدم وجوب تدارك أمرهم على النبي مؤذن بوجوبه عليهم حسبما ينطق به ما بعده من الشرطية

وقيل لما كثر فقراء المسلمين نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم السلمين عن التصدق على المشركين كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام فنزلت أي ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل دخولهم في الإسلام فلا التفات حينئذ في الكلام وضمير الغيبة للمعهودين من فقراء المشركين بل فيه تلوين فقط وقوله تعالى

وما تنفقوا من خير على الأول التفات من الغيبة إلى خطاب الملكفين لزيادة هزهم نحو الامتثال وعلى الثاني تلوين للخطاب بتوجيهه إليهم وصرفه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم وما شرطية جازمة لتنفقوا منتصبة به على المفعولية ومن تبعيضيه متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم الشرط مبينة ومخصصة له أي أي شئ تنفقوا كائن من مال

فلأنفسكم أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم فلا تمنوا على من اعطيتموه ولا تؤذوه ولا تنفقوا من الخبيث أو فنفعه الديني لكم لا لغيركم من الفقراء حتى تمنعوه ممن لا ينتفع به من حيث الدين من فقراء المشركين

وما تنفقون إلا ابتغاء وجه اللّه استثناء من أعم العلل أو أعم الأحوال أي ليست نفقتكم لشئ من الأشياء إلالابتغاء وجه اللّه أو ليست في حال من الأحوال إلا حال ابتغاء وجه اللّه فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجد مثله إلى اللّه تعالى

وقيل هو في معنى النهى

وما تنفقوا من خير يوف إليكم أي أجره وثوابه أضعافا مضاعفة حسبما فصل فيما قبل فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن أنفاقه

على أحسن الوجوه وإجملها فهو تأكيد وبيان للشرطية السابقة أو يوف إليكم ما يخلفه وهو من نتائج دعائه عليه السلام بقوله اللّهم اجعل للمنفق خلفا وللمسك تلفا

وقيل حجت أسماء بنت ابي بكر فأتتها أمها تسألها وهي مشركة فأبت أن تعطيها وعن سعيد بن جبير أنهم كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين وروى أن ناسا من المسلمين كانت لهم أصهار في اليهود ورضاع كانوا ينفقون عليهم قبل الإسلام فلما أسلموا كرهوا أن ينفقوهم فنزلت وهذا في غير الواجب

وأما الواجب فلا يجوز صرفه إلى الكافر وأن كان ذميا

وأنتم لا تظلمون لا تنقصون شيئا مما وعدتم من الثواب المضاعف أو من الخلف

٢٧٣

للفقراء متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام كما في قوله عز و جل في تسع آيات إلى فرعون أي اعمدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء أو صدقاتكم للفقراء

الذين أحصروا في سبيل اللّه بالغزو والجهاد

لايستطيعون لاشتعغالهم به

ضربا في الأرض أي ذهابا فيها للكسب والتجارة

وقيل هم أهل الصفة كانوا رضي اللّه عنهم نحوا من أربعمائة من فقراء المهاجرين يسكنون صفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والجهاد وكانوا يخرجون في كل سرية بعثها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم

يحسبهم الجاهل بحالهم

أغنياء من التعفف أي من أجل تعففهم عن المسألة

تعرفهم بسيماهم أي تعرف فقرهم واضطرارهم بما تعاين منهم من الضعف ورثاثة الحال والخطاب للرسول عليه السلام أو لكل أحد ممن له حظ من الخطاب مبالغة في بيان وضوح فقرهم

لايسألون الناس إلحافا أي إلحاحا وهو أن يلازم السائل المسئول حتى يعطيه من قولهم لحفنى من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده والمعنى لا يسألونهم شيئا وإن سألوا لحاجة اضطرتهم إليه لم يلحوا

وقيل هو نفي لكلا الأمرين جميعا على طريقة قوله

 ... على لا حب لا يهتدى لمنارة ...

أي لا منار ولا اهتداء

وما تنفقوا من خير فإن اللّه به عليم فيجازيكم بذلك أحسن جزاء فهو ترغيب في التصدق لاسيما على هؤلاء

٢٧٤

الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية أي يعمون الأوقات والأحوال بالخير والصدقة

وقيل نزلت في شأن الصديق رضي اللّه عنه حيث تصدق بأربعين ألف دينار عشرة آلاف منه بالليل وعشرة بالنهار وعشرة سرا وعشرة علانية

وقيل في علي رضي اللّه عنه حين لم يكن عنده إلا أربعة دراهم فتصدق بكل واحد منها على وجه من الوجوه المذكورة ولعل تقديم الليل على النهار والسر على العلانية للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار

وقيل في رباط الخيل والإنفاق عليها

فلهم أجرهم عند ربهم خبر للموصول والفاء للدلالة على سببية ما قبلها لما بعدها

وقيل للعطف والخبر محذوف أي ومنهم الذين الخ ولذلك جوز

الوقف على علانية

ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون تقدم تفسيره

٢٧٥

الذين يأكلون الربا أي يأخذونه والتعبير عنه بالأكل لما انه معظم ما قصد به ولشيوعه في المطعومات مع ما فيه من زيادة تشنيع لهم وهو الزيادة في المقدار أو الأجل حسبما فصل في كتب الفقه وإنما كتب بالواو كالصلوة على لغة من يفخم في أمثالها وزيدت الألف تشبيها بواو الجمع

لايقومون أي من قبورهم إذا بعثوا

إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان أي إلا قياما كقيام المصروع وهو وارد على ما يزعمون ان الشيطان يخبط الإنسان فيصرع والخبط الضرب بغير استواء خبط العشواء

من المس أي الجنون وهذا أيضا من زعماتهم أن الجنى يمسه فيختلط عقله فلذلك يقال جن الرجل وهو متعلق بما قبله من الفعل المنفى أي لايقومون من المس الذي بهم بسبب أكلهم الربا أو بيقوم أو بيتخبطه فيكون نهوضهم وسقوطهم كالمصروعين لالاختلال عقولهم بل لأن اللّه تعالى أربي في بطونهم ما اكلوا من الربا فأثقلهم فصاروا مخبلين ينهضون ويسقطون تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف

ذلك إشارة إلى ما ذكر من حالهم وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان بفظاعة المشار إليه

بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا أي ذلك العقاب بسبب أنهم نظموا الربا والبيع في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فاستحلوه كاستحلاله وقالوا يجوز بيع درهم بدرهمين كما يجوز بيع ما قيمته درهم بدرهمين بل جعلوا الربا أصلا في الحل وقاسوا به البيع مع وضوح الفرق بينهما فإن أحد الدرهمين في الأول ضائع حتما وفي الثاني منجبر بمساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقع رواجها

وأحل اللّه البيع وحرم الربا إنكار من جهة اللّه تعالى لتسويتهم وإبطال للقياس لوقوعه في مقابلة النص مع ما اشير إليه من عدم الاشتراك في المناط والجملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب

فمن جاءه موعظة أي فمن بلغه وعظ وزجر كالنهى عن الربا وقرئ جاءته

من ربه متعلق بجاءه أو بمحذوف وقع صفة لموعظة والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة للإشعار بكون مجيء الموعظة للتربية

فانتهى عطف على جاءه فاتعظ بلا تراخ وتبع النهى

فله ما سلف أي ما تقدم أخذه قبل التحريم ولا يسترده منه وما مرتفع بالظرف إن جعلت من موصولة وبالابتداء أن جعلت شرطية على رأى سيبوية لعدم اعتماد الظرف على ما قبله

وامره إلى اللّه يجازيه على انتهائه إن كان عن قبول الموعظة وصدق النية

وقيل يحكم في شأنه ولا اعتراض لكم عليه

ومن عاد أي إلى تحليل الربا

فأولئك إشارة إلى من عاد والجمع باعتبار المعنى كما ان الإفراد في عاد باعتبار اللفظ وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلتهم في الشر والفساد

أصحاب النار أي ملازموها

هم فيها خالدون ما كثون فيها أبدا والجملة مقررة لما قبلها

٢٧٦

يمحق اللّه الربا أي يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه

ويربى الصدقات يضاعف ثوابها ويبارك فيها ويزيد المال الذي اخرجت منه الصدقة ويربيها كما يربى أحدكم مهره وعنه عليه الصلاة و السلام ما نقصت زكاة من مال قط

واللّه لا يحب أي لا يرضى لأن الحب مختص بالتوابين

كل كفار مصر على تحليل المحرمات

أثيم منهمك في ارتكابه

٢٧٧

إن الذين آمنوا باللّه ورسوله وبما جاءهم

وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة نخصيصهما بالذكر مع انداراجهما في لاصالحات لانافتهما على سائر الأعمال الصالحة على طريقة ذكر جبريل وميكال عقيب الملائكة عليهم السلام

لهم أجرهم جملة من مبتدأ وخبر واقعة خبرا لأن أي لهم أجرهم الموعود لهم وقوله تعالى

عند ربهم حال من أجرهم وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإفاضة إلى ضميرهم مزيد لطف وتشريف لهم

ولاخوف عليهم من مكروه آت

ولاهم يحزنون من محبوب فات

٢٧٨

يأيها الذين آمنوا اتقوا اللّه أي قوا أنفسكم عقابه

وذروا ما بقى من الربا أي واتركوا بقايا ما شرطنم منه على الناس تركا كليا

أن كنتم مؤمنين على الحقيقة فغن ذلك مستلزم لامتثال ما أمرتم به البتة وهو شرط حذف جوابه ثقة بما قبله أي أن كنتم مؤمنين فاتقوا وذروه الخ روى أنه كان لثقيف مال على بعض قريش فطالبوهم عند المحل بالمال والربا فنزلت

٢٧٩

فإن لم تفعلوا أي ما أمرتم به من الاتقاء وترك البقايا إما مع إنكار حرمته

وأما مع الاعتراف بها

فأذنوا بحرب من اللّه ورسوله أي فاعلموا بها من أذن بالشئ إذا علم به أما على الأول فكحرب المرتدين

وأما على الثاني فكحرب البغاة وقرئ فآذنوا أي فاعلموا غيركم قيل هو من الأذان وهو الاستماع فإنه من طرق العلم وقرئ فأيقنوا وهو مؤيد لقراءة العامة وتنكير حرب للتفخيم ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لها مؤكدة لفخامتها أي بنوع من الحرب عظيم لايقادر قدره كائن من عند اللّه ورسوله روى أنه لما نزلت قالت ثقيف لابد لنا بحرب اللّه ورسوله

وإن تبتم من الارتباء مع الإيمان بحرمتها بعد ما سمعتموه من الوعيد

فلكم رءوس أموالكم تأخذونها كملا

لا تظلمون غرماءكم بأخذ الزيادة والجملة إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب أو حال من الضمير في لكم والعامل ما تضمنه الجار من الاستقرار

ولا تظلمون عطف على ما قبله أي لا تظلمون أنتم من قبلهم بالمطل

والنقص ومن ضرورة تعليق هذا الحكم بتوبتهم عدم ثبوته عند عدمها لأن عدمها إن كان مع إنكار الحرمة فهم مرتدون وما لهم المكسوب في حال الردة فيء للمسلمين عند أبي حنيفة رضي اللّه عنه وكذا سائر أموالهم عند الشافعي وعندنا هو لورثتهم ولا شئ لهم على حال وإن كان مع الاعتراف بها فإن كان لهم شوكة فهم على شرف القتل لم تسلم لهم رءوسهم فكيف برءوس أموالهم وإلا فكذلك عند ابن عباس رضي اللّه عنهما فإنه يقول من عامل الربا يستتاب وإلاضرب عنقه

وأما عند غيره فهم محبوسون إلى أن تظهر توبتهم لا يمكنون من التصرفات اصلا فما لم يتوبوا لم يسلم لهم شئ من اموالهم بل إنما يسلم بموتهم لورثتهم

٢٨٠

وإن كان ذو عسرة أي إن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة على أن كان تامة وقرئ ذا عسرة على أنها ناقصة

فنظرة أي فالحكم نظرة أو فعليكم نظرة أو فلتكن نظرة وهي الإنظار والإمهال وقرئ فناظره فالمستحق ناظره أي منتظره أوفصاحب نظرته على طريق النسب وقرئ فناظره أمرا من المفاعلة أي فسامحه بالنظرة

إلى ميسرة أي إلى يسار وقرئ بضم السين وهما لغتان كمشرقة ومشارقة وقرئ بهما مضافين بحذف التاء عند الإضافة كما في قوله

 ... وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا ...

وأن تصدقوا بحذف إحدى التاءين وقرئ بتشديد الصاد أي وأن تتصدقوا على معسرى غرمائكم بالإبراء

خير لكم أي أكثر ثوابا من الإنظار أو خير مما تأخذونه لمضاعفة ثوابه ودوامه فهو ندب إلى أن يتصدقوا برءوس أموالهم كلا أو بعضا على غرمائهم المعسرين كقوله تعالى وإن تعفوا أقرب للتقوى

وقيل المراد بالتصدق الإنظار لقوله عليه السلام لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة

أن كنتم تعلمون جوابه محذوف أي أن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتموه

٢٨١

واتقوا يوما هو يوم القيامة وتنكيره للتفخيم والتهويل وتعليق الاتقاء به للمبالغة في التحذير عما فيه من الشدائد والأهوال

ترجعون فيه على البناء للمفعول من الرجع وقرئ على البناء للفاعل من الرجوع والأول أدخل في التهويل وقرئ بالباء على طريق الالتفات وقرئ تردون وكذا تصيرون

إلى اللّه لمحاسبة أعمالكم

ثم توفي كل نفس من النفوس والتعميم للمبالغة في تهويل اليوم أي تعطى كملا

ما كسبت أي جزاء ما عملت من خير أو شر

وهم لا يظلمون حال من كل نفس تفيد أن المعاقبين وإن كانت عقوباتهم مؤبدة غير مظلومين في ذلك لما انه من قبل أنفسهم وجمع الضمير لأنه أنسب بحال الجزاء كما ان الإفراد أوفق بحال الكسب عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنها آخر آية نزل بها جبريل عليه السلام وقال ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة وعاش رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعدها أحدا وعشرين يوما

وقيل أحدا وثمانين

وقيل سبعة أيام

وقيل ثلاث ساعات

٢٨٢

يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين شروع في بيان حال المداينة الواقعة في تضاعيف المعاوضات الجارية فيما بينهم ببيع السلع بالنقود بعد بيان حال الربا أي إذا داين بعضكم بعضا وعاملة نسيئة معطيا أو آخذا وفائدة ذكر الدين دفع توهم كون التداين بمعنى المجازاة أو التنبيه على تنوعه إلى الحال والمؤجل وأنه الباعث على الكتبة وتعين المرجع للضمير المنصوب المتصل بالأمر

إلى أجل متعلق بتداينتم أو بمحذوف وقع صفة لدين

مسمى بالأيام أوالأشهر ونظائرهما مما يفيد العلم ويرفع الجهالة لا بالحصاد والدياس ونحوهما مما لا يرفعها

فاكتبوه أي الدين بأجله لأنه أوثق وأرفع النزاع والجمهور على استحبابه وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن المراد به السلم وقال لما حرم اللّه الربا أباح في السلف

وليكتب بينكم كاتب بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين لمن يتولاها إثر الأمر بها إجمالا وحذف المفعول اما لتعينه أو للقصد إلى ايقاع نفس الفعل أي الكتابة وقوله تعالى بينكم للإيذان بأن الكاتب ينبغي أن يتوسط بين المتداينين ويكتب كلامهما ولا يكتفي بكلام أحدهما وقوله تعالى

بالعدل متعلق بمحذوف هو صفة لكاتب أي كاتب كائن بالعدل أي وليكن المتصدى للكتابة من شانه أن يكتب بالسوية من غير ميل إلى أحد الجانبين لا يزيد ولا ينقص وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب فقيه دين حتى يجيء كتابه موثوقا به معدلا بالشرع ويجوز أن يكون حالا منه أي ملتبسا بالعدل

وقيل متعلق بالفعل أي وليكتب بالحق

ولا يأب كاتب أي ولا يمتنع أحد ن الكتاب

أن يكتب كتاب الدين

كما علمه اللّه على طريقة ما علمه من كتبه الوثاق أو كما بينه بقوله تعالى بالعدل أولا يأب أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه اللّه تعالى بتعليم الكتابة كقوله تعالى وأحسن كما أحسن اللّه إليك

فليكتب تلك الكتابة المعلمة أمر بها بعد النهى عن أبائها تأكيدا لها ويجوز أن تتعلق الكاف بالأمر على أن يكون النهى عن الامتناع منها مطلقة ثم الأمر بها مقيدة

وليملل الذي

عليه الحق الإملال هو الإملاء أى وليكن المملى من عليه الحق لأنه المشهود عليه فلا بد أن يكون هو المقر

وليتق اللّه ربه جمع ما بين الاسم الجليل والنعت الجميل للمبالغة في التحذير أى وليتق المملى دون الكاتب كما قيل لقوله تعالى

ولا يبخس منه أى من الحق الذي يمليه على الكاتب

شيئا فإنه الذي يتوقع منه البخس خاصة

وأما الكاتب فيتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص فلو أريد نهيه لنهى عن كليهما وقد فعل ذلك حيث أمر بالعدل وإنما شدد في تكليف المملى حيث جمع فيه بين الأمر بالاتقاء والنهى عن البخس لما فيه من الدواعي إلى المنهى عنه فإن الإنسان مجبول على دفع الضرر عن نفسه وتخفيف ما في ذمته بما أمكن

فإن كان الذي عليه الحق صرح بذلك في موضع الإضمار لزيادة الكشف والبيان لا لأن الأمر والنهى لغيره

سفيها ناقص العقل مبذرا مجازفا

أو ضعيفا صبيا أو شيخا مختلا

أو لا يستطيع أن يمل هو أي غير مستطيع للإملاء بنفسه لخرس أو عي أو جهل أو غير ذلك من العوارض

فليملل وليه أي الذي يلي أمره ويقوم مقامه من قيم أو وكيل أو مترجم

بالعدل أي من غير نقص ولا زيادة لم يكلف بعين ما كلف به من عليه الحق لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس

واستشهدوا شهيدين أي اطلبوهما ليتحملا الشهادة على ما جرى بينكم من المداينة وتسميتها شهيدين لتنزيل المشارف منزلة الكائن

من رجالكم متعلق باستشهدوا ومن ابتدائية أو بمحذوف وقع صفة لشهيدين ومن تبعيضية أي شهيدين كائنين من رجال المسلمين الأحرار إذ الكلام في معاملاتهم فإن خطابات الشرع لا تنتظم العبيد بطريق العبارة كما بين في موضعه

وأما إذا كانت المداينة بين الكفرة أو كان من عليه الحق كافرا فيجوز استشهاد الكافر عندنا

فإن لم يكونا أي الشهيدان جميعا على طريقة نفي الشمول لا شمول النفي

رجلين إما لإعوازهما أو لسبب آخر من الأسباب

فرجل وامرأتان أي فليشهد رجل وامرأتان أو فرجل وامرأتان يكفون وهذا فيما عدا الحدود والقصاص عندنا وفي الأموال خاصة عند الشافعي

ممن ترضون متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان أي كائنون مرضيين عندكم وتخصيصهم بالوصف المذكور مع تحقق اعتباره في كل شهيد لقلة اتصاف النساء به

وقيل نعت لشهيدين أي كائنين ممن ترضون ورد بأنه يلزم الفصل بينهما بالأجنبي

وقيل بدل من رجالكم بتكرير العامل ورد بما ذكر من الفصل

وقيل متعلق بقوله تعالى فاستشهدوا فيلزم الفصل بين اشتراط المرأتين وبين تعليله وقوله عز و جل

من الشهداء متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المحذوف الراجع الى الموصول أي ممن ترضونهم كائنين من بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم وثقتكم بهم وادراج النساء في الشهداء بطريق التغليب

أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى تعليل لأعتبار العدد في النساء والعلة في الحقيقة هي التذكير ولكن الضلال لما كان سببا له نزل منزلته كما في قولك اعددت السلاح ان يجيء عدو فأدفعه كأنه قيل أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت الشهادة بأن نسيتها ولعل إيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال ان تضل إحداهما فتذكرها الأخرى لتأكيد الإبهام والمبالغة في الأحتراز عن توهم إختصاص الضلال بإحداهما بعينها والتذكير بالأخرى وقرئ فتذكر من الأذكار وقرئ فتذاكر وقرئ أن تضل على الشرط فتذكر بالرفع كقوله تعالى ومن عاد فينتقم اللّه منه

ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا لأداء

الشهادة أو لتحملها وتسميتهم شهداء قبل التحمل لما مر من تنزيل المشارف منزلة الواقع وما مزيدة عن قتادة أنه كان الرجل يطوف في الحواء العظيم فيه القوم فلا يتبعه منهم احد فنزلت

ولا تسأموا أي لا تملوا من كثرة مدايناتكم

أن تكتبوه أي الدين أو الحق أو الكتاب

وقيل كنى به عن الكسل الذي هو صفة المنافق كما ورد في قوله تعالى وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى وقد قال النبي لا يقول المؤمن كسلت

صغيرا أو كبيرا حال من الضمير أي حال كونه صغيرا أو كبيرا أي قليلا أو كثيرا أو مجملا أو مفصلا

إلى أجله متعلق بمحذوف وقع حالا من الهاء في تكتبوه أي مستقرا في الذمة إلى وقت حلوله الذي أقربه المديون

ذلكم إشارة إلى ما امر به من الكتب والخطاب للمؤمنين

أقسط أي أعدل

عند اللّه أي في حكمه تعالى

وأقوم للشهادة أي أثبت لها وأعون على إقامتها وهما مبنيان من أقسط واقام فإنه قياسي عند سيبويه أو من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم وإنما صحت الواو في اقوم كما صحت في التعجيب لجموده

وادنى أن لا ترتابوا وأقرب إلى انتفاء ريبكم في جنس الدين وقدره واجله وشهوده ونحو ذلك

إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم أستثناء منقطع من الأمر بالكتاب أي لكن وقت كون تداينكم أو تجارتكم تجارة حاضرة بحضور البدلين تديرونها بينكم بتعاطيهما يدا بيد

فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها أي فلا بأس بأن لا تكتبوها لبعده عن التنازع والنسيان وقرئ برفع تجارة على انها أسم كان و حاضرة صفتها وتديرونها خبرها أو على أنها تامة

وأشهدوا إذا تبايعتم أي هذا التبايع أو مطلقا لأنه أحوط والأوامر الواردة في الآية الكريمة للندب عند الجمهور

وقيل للوجوب ثم اختلف في أحكامها ونسخها

ولا يضار كاتب ولا شهيد نهى عن المضارة محتمل للبناءين كما ينبأ عنه قراءة من قرأ ولا يضارر في الكسر والفتح وهو نهيهما عن ترك الإجابة والتغيير والتحريف في الكتبه والشهادة أو نهى الطالب عن الضرار بهما بأن يعجلهما عن مهمهما أو يكلفهما الخروج عما حد لهما أو لا يعطي الكاتب جعله و قرئ في الرفع على أنه نفي في معنى النهى

وإن تفعلوا ما نهيتم عنه من الضرار

فإنه أي فعلكم ذلك

فسوق بكم أي خروج عن الطاعة ملتبس بكم

واتقوا اللّه في مخالفة أوامره ونواهية التي من جملتها نهيه عن المضارة

ويعلمكم اللّه أحكامه المتضمنة لمصالحكم

واللّه بكل شيء عليه فلا يكاد يخفي عبيه حالكم وهو مجازيكم بذلك كرر لفظ الجلالة في الجمل الثلاث لإدخال الروعة وتربية المهابة وللتنبيه على استقلال كل منها بمعنى على حياله فإن الأولى حث على التقوى والثانية وعد بالإنعام والثالثة تعظيم لشأنه تعالى

٢٨٣

وإن كنتم على سفر أي مسافرين أو متوجهين إليه

ولم تجدوا كاتبا في المداينة وقرئ كتابا و كتبا و كتابا

فرهان مقبوضة أي فالذي يستوثق به أو

فعليكم أو فليؤخذ أو فالمشروع رهان مقبوضة وليس هذا التعليق لاشتراط السفر في شرعية الارتهان كما حسبه مجاهد والضحاك لأنه رهن درعه في المدينة من يهودى بعشرين صاعاص من شعير أخذه لأهله بل لإقامة التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتبة في السفر الذي هو مظنة إعوازها وإنما لم يتعرض لحال الشاهد لما أنه في حكم الكاتب توثقا وإعوازا والجمهور على وجوب القبض في تمام الرهن غير مالك وقرئ فرهن كسقف وكلاهما جمع رهن بمعنى مرهون وقرئ بسكون الهاء نخفيفا

فإن أمن بعضكم بعضا أي بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به واستغنى بأمانته عن الارتهان وقرئ فإن أومن بعضكم أي آمنه الناس ووصفوه بالأمانة قيل فيكون انتصاب بعضا حينئذ على نزع الخافض أي على متاع بعض

فليؤد الذي أؤتمن وهو المديون وإنما عبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقا للإعلام ولحمله على الأداء

أمانته أي دينه وإنما سمى أمانة لائتمانه بترك الارتهان به وقرئ أيتمن بقلب الهمزة ياء وقرئ بإدغام الياء في التاء وهو خطأ لأن المنقلبة من الهمزة لا تدغم لأنها في حكمها

وليتق اللّه ربه في رعاية حقوق الأمانة وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير مالا يخفى

ولاتكتموا الشهادة أيها الشهود أو المدينون أي شهادتكم على أنفسكم عند المعاملة

ومن يكتمها فإنه آثم قلبه آثم خبر أن وقلبه مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل ياثم قلبه أو مرتفع بالابتداء وآثم خبر مقدم والجملة خبر أن وإسناد الأثم إلى القلب لأن الكتمان مما اقترفه ونظيره نسبة الزنا إلى العين والأذن أو للمبالغة لأنه رئيس الأعضاء وأفعاله أعظم الأفعال كأنه قيل تمكن الإثم في نفسه وملك أشرف مكان فيه وفاق سائر ذنوبه عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن أكبر الكبائر الإشراك باللّه لقوله تعالى فقد حرم اللّه عليه الجنة وشهادة الزور وكتمان الشهادة وقرئ قلبه بالنصب كما في سفه نفسه وقرئ أثم قلبه أي جعله آثما

واللّه بما تعملون عليم فيجازيكم به إن خيرا فخير وإن شرا فشر

٢٨٤

للّه ما في السموات وما في الأرض من الأمور الداخلة في حقيقتهما

والخارجة عنهما المتمكنة فيهما من أولى العلم وغيرهم أى كلها له تعالى خلقا وملكا وتصرفا لاشركة لغيره في شئ منها بوجه من الوجوه

وإن تبدوا ما في أنفسكم من السوء والعزم عليه بأن تظهروه للناس بالقول أو بالفعل

أوتخفوه بإن تكتموه منهم ولا تظهروه بأحد الوجهين ولا يندرج فيه مالا يخلو عنه البشر من الوساوس وأحاديث النفس التي لاعقد ولا عزيمة فيها إذ التكليف بحسب الوسع

يحاسبكم به اللّه يوم القيامة وهو حجة على منكرى الحساب من المعتزلة والروافض وتقديم الجار والمجرور على الفاعل للاعتناء به

وأما تقديم الإبداء على الإخفاء على عكس ما في قوله عز و جل قل ان تخفوا ما في الصدوركم أو تبدوه يعلمه اللّه فلما أن المعلق بما في أنفسهم ههنا هو المحاسبة والأصل فيها الأعمال البادية

وأما العلم فتعلقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية

كيف لا وعلمه سبحانه بمعلوماته متعال عن أن يكون بطريق حصول الصور بل وجود كل شئ في نفسه في أي طور كان علم بالنسبة إليه تعالى وهذا لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة خلا أن مرتبه الإخفاء متقدمة على مرتبة الإبداء إذ ما من شئ يبدى إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في النفس فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية وقد مر في تفسير قوله تعالى أولا يعلمون أن اللّه يعلم ما يسرون وما يعلنون

فيغفر بالرفع على الاستئناف أي فهو يغفر بفضله

لمن يشاء أن يغفر له

ويعذب بعدله

من يشاء أن يعذبه حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه وقرئ بجزم الفعلين عطفا على جواب الشرط وقرئ بالجزم من غير فاء على أنهما بدل من الجواب بدل البعض أو الاشتمال ونظيره الجزم على البدلية من الشرط في قوله

 ... متى تأتنا تلمم بنافي ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا ...

وإدغام الراء في اللام لحن

واللّه على كل شئ قدير تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته سبحانه على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب

٢٨٥

آمن الرسول لما ذكر في فاتحة السورة الكريمة أن ما انزل إلى الرسول من الكتاب العظيم الشان هدى للمتصفين بما فصل هناك من الصفات الفا ضلة التي من جملتها الإيمان به وبما انزل قبله من الكتب الإلهية وأنهم حائزون لإثرتى الهدى والفلاح من غير تعيين لهم بحصوصهم ولا تصريح بتحقيق اتصافهم بها إذ ليس فيما يذكر في حيز الصلة حكم بالفعل وعقب ذلك ببيان حال من كفر به من المجاهرين والمنافقين ثم شرح في تضاعيفها من فنون الشرائع والأحكام والمواعظ والحكم وأخبار سوالف الأمم وغير ذلك ما تقتضى الحكمة شرحة عين في خاتمتها المتصفون بها وحكم باتصافهم بها على طريق الشهادة لهم من جهته عز و جل بكمال الإيمان وحسن الطاعة وذكر بطريق الغيبة مع ذكر هناك بطريق الخطاب لما أن حق الشهادة الباقية على مر الدهور أن لا يخاطب بها المشهود له ولم يتعرض ههنا لبيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حكى عنهم من الدعوات الآتية إيذانا بانه أمر محقق غنى عن التصريح به لاسيما بعد ما نص عليه فيما سلف وإيراده بعنوان الرسالة المنبئة عن كونه صاحب كتاب مجيد وشرع جديد تمهيد لما يعقبه من قوله تعالى

بما أنزل أليه ومزيد توضيح لاندراجه في الرسل المؤمن بهم عليهم السلام والمراد بما انزل إليه ما يعم كله وكل جزء من أجزائه ففيه تحقيق لكيفية إيمانه وتعيين لعنوانه أي آمن عليه السلام بكل ماأنزل إليه

من ربه والكتب وغير ذلك من حيث أنه منزل منه تعالى

وأما الإيمان بحقية أحكامه وصدق أخباره ونحو ذلك فمن فروع الإيمان به من الحيثية المذكورة وفي هذا الإجمال إجلال لمحله وإشعار بأن تعلق إيمانه بتفاصيل ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما أنطوى

عليه من الظهور بحيث لا حاجة إلى ذكره أصلا و كذا في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام تشريف له و تنبيه على أن إنزاله إليه تربية و تكميل له عليه السلام

و المؤمنون أي الفريق المعروفون بهذا الاسم فاللام عهدية لا موصلة لإفضائها إلى خلو الكلام عن الجدوى و هو مبتدأ و قوله عز و جل

كل مبتدأ ثان و قوله تعالى

آمن خبره و الجملة خبر للمبتدأ الأول و الرابط بينهما الضمير الذي ناب منابه التنوين و توحيد الضمير في آمن مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المراد بيان إيمان كل فرد منهم من غير إعتبار الاجتماع كما اعتبر ذلك في قوله تعالى و كل أتوه داخرين و تغيير سبك النظم الكريم عما قبله لتأكيد الإشعار بما بين إيمانه عليه السلام المبني على المشاهدة و العيان و بين إيمانهم الناشئ عن الحجة و البرهان من التفاوت البين و الاختلاف الجلي كأنهما مختلفان من كل وجه حتى في هيئة التركيب الدال عليهما و ما فيه من تكرير الإسناد لما في الحكم بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتي من نوع خفاء محوج الى التقوية والتأكيد أي كل واحد منهم آمن

باللّه وحده من غير شريك له في الالوهية والمعبودية

وملائكته أي من حيث انهم عباد مكرمون له تعالى من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب والقاء الوحي فإن مدار الايمان بهم ليس من خصوصيات ذواتهم في أنفسهم بل هو من إضافتهم اليه تعالى من الحيثية المذكورة كما يلوح به الترتيب في النظم

وكتبه ورسله أي من حيث مجيئهما من عنده تعالى لإرشاد الخلق الى ما شرع لهم من الدين بالأوامر والنواهي لكن لا على الاطلاق بل على أن كل واحد من تلك الكتب منزل منه تعالى الى رسول معين من أولئك الرسل عليهم الصلاة والسلام حسبما فصل في قوله تعالى قولوا آمنا باللّه وما أنزل الينا وما أنزل الى ابراهيم واسمعيل واسحق ويعقوب والاسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم الآية ولا على ان مناط الايمان خصوصية ذلك الكتاب أو ذلك الرسول بل على ان الايمان بالكل مندرج في الايمان بالكتاب المنزل الى الرسول ومستند اليه لما تلى من الآية الكريمة ولا على ان أحكام الكتب السالفة وشرائعها باقية بالكلية ولا على ان الباقي منها معتبر بالاضافة اليها بل على ان احكام كل واحد منها كانت حقة ثابتة الى ورود كتاب آخر ناسخ له وأن مالم ينسخ منها الى الآن من الشرائع والاحكام ثابتة من حيث انها من احكام هذا الكتاب المصون عن النسخ الى يوم القيامة وانما لم يذكر ههنا الايمان باليوم الآخر كما ذكر في قوله تعالى ولكن البر من آمن باللّه واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين لاندراجه في الايمان بكتبه وقرئ وكتابه على أن المراد به القرآن أو جنس الكتاب كما في قوله تعالى فبعث اللّه النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب والفرق بينه وبين الجمع أنه شائع في أفراد الجنس والجمع في جموعه ولذلك قيل الكتاب أكثر من الكتب وهذا نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى بما أنزل اليه من ربه اقتصر عليه ايذانا بكفايته في الايمان الاجمالي المتحقق في كل فرد من أفراد المؤمنين من غير نفي لزيادة ضرورة اختلاف طبقاتهم وتفاوت ايمانهم بالامور المذكورة في مراتب التفصيل تفاوتا فاحشا فإن الاجمال في الحكاية لا يوجب الاجمال في المحكى كيف لا وقد أجمل في حكاية ايمانه عليه السلام بما أنزل اليه من ربه مع بداهة كونه متعلقا بتفاصيل مافيه من الجلائل والدقائق ثم إن الامور المذكورة

حيث كانت من الامور الغيبية التي لا يوقف عليها الا من جهة العليم الخبير كان الايمان بها مصداقا لما ذكر في صدر السورة الكريمة من الايمان بالغيب

وأما الايمان بكتبه تعالى فإشارة الى مافي قوله تعالى يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك هذا هو اللائق بشأن التنزيل والحقيق بمقداره الجليل وقد جوز أن يكون قوله تعالى والمؤمنون معطوفا على الرسول فيوقف عليه والضمير الذي عوض عنه التنوين راجع الى المعطوفين معا كأنه قيل آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل اليه من ربه ثم فصل ذلك

وقيل كل واحد من الرسول والمؤمنين آمن باللّه الخ خلا أنه قدم المؤمن به على المعطوف اعتناء بشأنه وايذانا بأصالته عليه السلام في الايمان به ولا يخفى أنه مع خلوه عما في الوجه الأول من كمال اجلال شأنه عليه السلام وتفخيم ايمانه مخل بجزالة النظم الكريم لأنه ان حمل كل من الايمانين على ما يليق بشأنه عليه السلام من حيث الذات ومن حيث التعلق بالتفاصيل استحال اسنادهما الى غيره عليه السلام وضاع التكرير وان حملا على ما يليق بشأن آحاد الأمة كان ذلك حطا لرتبته العلية عليه السلام وأما حملهما على ما يليق بكل واحد ممن نسبا إليه من الآحاد ذاتا وتعلقا بأن يحملا بالنسبة إلى الرسول على الإيمان العياني المتعلق بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمة على الإيمان المكتسب من جهته عليه السلام اللائق بحالهم في الإجمال والتفصيل فاعتساف بين ينبغي تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله وقوله تعالى

لا نفرق بين أحد من رسله في حيز النصب بقول مقدر على صيغة الجمع رعاية لجانب المعنى منصوب على أنه حال من ضمير آمن أو مرفوع على أنه خبر آخر لكل أي يقولون لا نفرق بينهم بأن نؤمن ببعض منهم ونكفر بآخرين بل نؤمن بصحة رسالة كل واحد منهم قيدوا به إيمانهم تحقيقا للحق وتخطئة لأهل الكتابين حيث أجمعوا على الكفر بالرسول واستقلت اليهود بالكفر بعيسى عليه السلام أيضا على أن مقصودهم الأصلى إبراز إيمانهم بما كفروا به من رسالته عليه السلام لا لإظهار موافقتهم لهم فيما آمنوا به وهذا كما ترى صريح في أن القائلين آحاد المؤمنين خاصة إذ لايمكن أن يسند إليه عليه السلام أن يقول لا أفرق بين أحد من رسله وهو يريد به إظهار إيمانه برسالة نفسه وتصديقه في دعواها وعدم التعرض لنفى التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور أياه وإنما لم يعكس مع تحقق التلازم من الطرفين لما أن الأصلى في تفريق المفرقين هو الرسل وكفرهم بالكتب متفرع على كفرهم بهم وقرئ بالياء على إسناد الفعل إلى كل وقرئ لا يفرقون حملا على المعنى كما في قوله تعالى وكل أتوه داخرين فالجملة نفسها حال من الضمير المذكور

وقيل خبر ثان لكل كما قيل في القول المقدر فالابد من اعتبار الكلية بعد النفى دون العكس إذ المراد شمول النفى لا نفى الشمول والكلام في همزة أحد وفي دخول بين عليه قد مر تفصيله عند قوله تعالى لا نفرق بين أحد منهم وفيه من الدلالة صريحا على تحقق عدم التفريق بين كل فرد فرد منهم وبين من عداه كائنا من كان ما ليس في ان يقال لا نفرق بين رسله وإيثار إظهار الرسل على الإضمار الواقع مثله في قوله تعالى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم إما للاحتراز عن توهم اندارج الملائكة في الحكم أو للإشعار بعلة عدم التفريق أو للإيماء إلى عنوانه لأن المعتبر عدم التفريق من حيث الرسالة دون سائر الحيثيات الخاصة

وقالوا عطف على آمن وصيغة الجمع باعتبار جانب المعنى وهو حكاية لامتثالهم بالأوامر إثر حكاية

إيمانهم

 سمعنا أى فهمنا ما جاءنا من الحق وتيقنا بصحته

وأطعنا ما فيه من الأ وامر والنواهى

وقيل سمعنا أجبنا دعوتك وأطعنا أمرك

غفرانك ربنا أى اغفر لنا غفرانك أو نسألك غفرانك ذنوبنا المتقدمة أو مالا يخلو عنه البشر من التقصير فى مراعاة حقوقك وتقديم ذكر السمع والطاعة على طلب الغفران لما أن تقديم الوسيلة على المسئول أدعى إلى الإجابة والقبول والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة اليهم للمبالغة في التضرع والجؤار

واليك المصير أى الرجوع بالموت والبعث لا إلى غيرك وهو تذييل لما قبلة مقرر للحاجة إلى المغفرة لما أن الرجوع للحساب والجزاء وقولة تعالى

٢٨٦

لايكلف اللة نفسا إلاوسعها جملة مستقلة جىء بها إثر حكاية تلقيهم لتكاليفه تعالى بحسن الطاعة إظهارا لما لة تعالىعليهم فى ضمن التكليف من محاسن آثار الفضل والرحمة ابتداء لا بعد السؤال كما سيجئ هذا وقد روى أنه لما نزل قوله تعالى وإن تبدوا ما فى انفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فأتوه علية السلام ثم بركوا على الركب فقا لوا أى رسول اللة كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والحج والجهاد وقد انزل اليك هذه الآية ولا نطيقها فقال أى رسول اللة أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا واطعنا غفرانك ربنا واليك المصير فقرأها القوم فأنزل اللة عز و جل آمن الرسول بما انزل الية من ربة الى قولة تعالى ربنا واليك المصيرفمسئولهم الغفران المعلق بمشئتة عز و جل في قولة فيغفر لمن يشاء ثم انزل اللة تعالى لا يكلف اللة نفساإلا وسعها تهوينا للخطب عليهم بيان ان المراد بما في انفسهم ما عزموا علية من السوء خاصة لا ما يعم الخواطر ا لتى لا يستطاع الأحتراز عنها والتكليف إلزام ما فية كلفة ومشقة والوسع ما يسع الانسان ولا يضيق علية أى سنتة تعا لى انة لا بكلف نفسا من النفوس الا ما يتسع فية طوقها ويتيسر عليها دون مدى الطاقة والمجهود منة رحمة لهذة الامة كقولة تعالى يريد اللة بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقرىء وسعها بالفتح وهذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال لا على امتناعة وقولة تعالى

لها ما كسبت وعليها ما أكتسبت للترغيب فى المحافظة علىمواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها بيان إن تكليف كل نفس مع مقارنتة لنعمة التخفيف والتيسير تتضمن مراعاتة منفعة زائدةوانها تعود اليها لاألى غيرها وبستتبع الإخلال بة مضرة تحيق بها لا بغيرها فأن ذفأن اختصاص منفعة الفعل بفاعلة من اقوىالدواعى إلى تحصيلة وإقتصار مضرتة علية من اشد الزواجر عن مباشرتة أى لها ثواب ما كسبت من الخير والذي كلفت فعلة لا لغيرها استقلالا أواشتراكا ضرورة شمول كلمة ما لكل جزء من اجزاء مكسوبها وعليها لا على غيرها بأحد الطريقين المذكورين عقاب ما اكتسبت من الشر الذى كلفت تركة وايراد

الاكتساب في جانب الشر لما فيه من اعتمال ناشئ من اعتناء النفس بتحصيل الشر وسعيها في طلبه

ربنا لاتؤاخذنا أن نسينا أو أخطأنا شروع في حكاية بقية دعواتهم إثر بيان سر التكليف أي لا تؤاخذنا بما صدر عنا من الأمور المؤدية إلى النسيان أو الخطأ من تفريط وقلة مبالاة ونحوهما مما يدخل تحت التكليف أوبأنفسهما من حيث ترتبهما على ما ذكر أو مطلقا إذ لا امتناع في المؤاخذة بهما عقلا فإن المعاصى كالسموم فكما أن تناولها ولو سهوا أو أخطأ مؤد إلى الهلاك فتعاطى المعاصى أيضا لا يبعد أن يفضى إلى العقاب وأن لم يكن عن عزيمة ووعده تعالى بعدمه لا يوجب استحالة وقوعه فإن ذلك من آثار فضله ورحمته كما ينبئ عنه الرفع في قوله عليه السلام رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وقد روى أن اليهود كانوا إذا نسوا شيئا عجلت لهم العقوبة فدعاؤهم بعد العلم بتحقق الموعود للاستدامة والاعتداد بالنعمة في ذلك كما في قوله تعالى ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك

ربنا ولا تحمل علينا إصرا عطف على ما قبله وتوسيط النداء بينهما لإبراز مزيد الضراعة والإصر العبء الثقيل الذي يأصر صاحبة أي يحبسه مكانه والمراد به التكاليف الشاقة

وقيل الإصر الذنب الذي لا توبة له فالمعنى اعصمنا من اقترافه وقرئ آصاراو قرئ ولا تحمل بالتشديد للمبالغة

كما حملته على الذين من قبلنا في حيز النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أي حملا مثل حملك أياه على من قبلنا أو على أنه صفة لإصرا أي إصرا مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا وهو ما كلفه بنو إسرائيل من بخع النفس في التوبة وقطع موضع النجاسة وخمسين صلاة في يوم وليلة وصرف ربع المال للزكاة وغير ذلك من التشديدات فإنهم كانوا إذا اتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالا لهم قال اللّه تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وقد عصم اللّه عز و جل بفضله ورحمته هذه الأمة عن أمثال ذلك وأنزل في شأنهم ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وقال بعثت بالحنيفية السهلة السمحة وعن العقوبات التى عوقب بها الأولون من المسخ والخسف وغير ذلك قال رفع عن امتى الخسف والمسخ والغرق

ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به عطف على ما قبله واستعفاء عن العقوبات التى لا تطاق بعد الاستعفاء عما يؤدى إليها التفريط فيه من التكاليف الشاقة التي لا يكاد من كلفها يخلو عن التفريط فيها كأنه قيل لا تكلفنا تلك التكاليف ولا تعاقبنا بتفريطنا في المحافظة عليها فيكون التعبير عن إنزال العقوبات بالتحميل باعتبار ما يؤدى إليها

وقيل هو تكرير للأول وتصوير للإصر بصورة مالا يستطاع مبالغة

وقيل هو استعفاء عن التكليف بما لا تفى به الطاقة البشرية حقيقة فيكون دليلا على جواره عقلا وإلا لما سئل التخلص عنه والتشديد ههنا لتعدية الفعل إلى مفعول ثان

واعطف عنا أي آثار ذنوبنا

واغفر لنا واستر عيوبنا ولا تفضحنا على رءوس الأشهاد

وارحمنا وتعطف بنا وتفضل علينا وتقديم طلب العفو والمغفرة على طلب الرحمة لما ان التخلية سابقة على التحلية

انت مولانا سيدنا ونحن عبيدك أو ناصرنا اومتولى أمورنا

فانصرنا على القوم الكافرين فإن من حق المولى أن ينصر عبده ومن يتولى امره على الأعداء والمراد به عامة الكفرة وفيه إشارة إلى ان إعلاء كلمة اللّه والجهاد في سبيله تعالى حسبما أمر في تضاعيف السورة الكريمة غاية مطالبهم روى أنه عليه الصلاة و السلام لما دعا بهذه الدعوات قيل له عند كل دعوة قد فعلت وعنه أنزل اللّه آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق بألفي عام من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل وعنه من قرأ آيتين من سورة البقرة كفتاه وهو حجة على من استكره أن يقول سورة البقرة وقال ينبغى أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة كما قال السورة التي يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة قيل وما البطلة قال السحرة تم الجزء الأول ويلية الجزء الثاني وأوله سورة آل عمران

﴿ ٠