٢١

يا أيها الناس أعبدوا ربكم إثر ما ذكر اللّه تعالى علو طبقة كتابه الكريم وتخزب الناس في شأنه إلى ثلاث فرق مؤمنة به محافظة على ما فيه من الشرائع والأحكام وكافرة قد نبذته وراء ظهرها بالمجاهرة والشقاق واخرى مذبذبة بينهما بالمخادعة والنفاق ونعت كل فرقة منها بما لها من النعوت والأحوال وبين مالهم من المصير والمآل أقبل عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزأ لهم إلى الإصغاء وتوجيها لقوبهم نحو التلقى وجبرا لما في العبادة من الكلفة بلذة الخطاب فأمرهم كافة بعبادته ونهاهم عن الإشراك به ويا حرف وضع لنداء البعيد وقد ينادى به القريب تنزيلا له منزلة البعيد إما إجلالا كما في قول الداعي يا اللّه ويا رب وهو أقرب إليه من حبل الوريد استقصارا لنفسه واستبعادا لها من محافل الزلفى ومنازل المقربين

وأما تنبيها على غفلته وسوء فهمه وقد يقصد به التنبيه على أن ما يعقبه أمر خطير يعتنى بشأنه وأي اسم مبهم جعل وصلة إلى نداء المعروف باللام لا على أنه المنادى أصالة بل على أنه صفة موضحة له مزيلة لإبهامه والتزام رفعه مع انتصاب موصوفه محلا إشعارا بأنه المقصود بالنداء واقحمت بينهما كلمة التنبيه تأكيدا لمعنى النداء وتعويضا عما يستحقه أي من المضاف إليه ولما ترى من استقلال هذه الطريقة بضروب من أسباب المبالغة والتأكيد كثر سلوكها في التنزيل المجيد كيف لا وكل ما ورد في تضاعيفه على العباد من الأحكام والشرائع وغير ذلك خطوب جليلة حقيقة بأن تقشعر منها الجلود وتطمئن بها القلوب الآبية ويتلقوها بآذان واعية وأكثرهم عنها غافلون فاقتضى الحال المبالغة والتأكيد في الإيقاظ والتنبيه والمراد بالناس كافة المكلفين الموجودين في ذلك العصر لما أن الجموع واسماءها المحلاة باللام للعموم بدليل صحة الاستثناء منها والتأكيد بما يفيد العموم كما في قوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون واستدلال الصحابة رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين بعمومها شائعا ذائعا

وأما من عداهم ممن سيوجد منهم فغير داخلين في خطاب المشافهة وأنما دخولهم تحت حكمة لما تواتر من دينه ضرورة أن مقتضى خطابه وأحكامه شامل للموجودين من المكلفين ولمن سيوجد منهم إلى قيام الساعة ولا يقدح في العموم ما روى عن علقمة والحسن البصري من أن كل ما نزل فيه يا ايها الناس فهو مكى إذ ليس من ضرورة نزوله بمكة شرفها اللّه تعالى اختصاص حكمة بأهلها ولا من قضية اختصاصه بهم اختصاصه بالكفار إذ لم يكن كل أهلها حئينئذ كفرة ولا ضير في تحقق العبادة في بعض المكلفين قبل ورود هذا الأمر لما أن المأمور به القدر المشترك الشامل لإنشاء العبادة والثبات عليها والزيادة فيها مع أنها متكررة حسب تكرر أسبابها ولا في انتفاء شرطها في الآخرين منهم أعنى الإيمان لأن الأمر بها منتظم للأمر بما لا تم الا به وقد علم من الدين ضرورة اشتراطها به فإن أمر المحدث بالصلاة مستتبع للأمر بالتوضى لا محالة

وقد قيل المراد بالعبادة ما يعم أفعال القلب أيضا لما أنها عبارة عن غاية التذلل والخضوع وروى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن كل ما ورد في القرآن من العبادات فمعناها التوحيد

وقيل معنى اعبدوا وحدوا وأطيعوا ولا في كون بعض من الفرقتين الأخيرتين ممن لا يجدى فيهم الإنذار بموجب النص القاطع لما أن الأمر لقطع الأعذار

ليس فيه تكليفهم بما ليس في وسعهم من الإيمان بعدم إيمانهم أصلا إذ لاقطع لأحد منهم بدخوله في حكم النص قطعا وورود النص بذلك لكونهم في أنفسهم بسوء اختيارهم كذلك لا إن كونهم كذلك لورود النص بذلك فلا جبر أصلا نعم لتخصيص الخطاب بالمشركين وجه لطيف ستقف عليه عند قوله تعالى وأنتم تعلمون وإيراده تعالى بعنوان الربوبية مع الاضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد موجب الامر بالاشعار بعليتها للعبادة

 الذي خلقكم صفة اجريت عليه سبحانه للتبجيل والتعليل اثر التعليل وقد جوز كونها للتقييد والتوضيح بناء على تخصيص الخطاب بالمشركين وحمل الرب على ما هو اعم من الرب الحقيقي والآلهة التي يسمونها اربابا والخلق ايجاد الشيء على تقدير واستواء واصله التقدير يقال خلق النعل أي قدرها وسواها بالمقياس وقرئ خلقكم بإدغام القاف في الكاف

 والذين من قبلكم عطف على الضمير المنصوب ومتمم لما قصد من التعظيم والتعليل فإن خلق اصولهم من موجبات العبادة كخلق انفسهم ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف أي كانوا من زمان قبل زمانكم

وقيل خلقهم من قبل خلقكم فحذف الخلق واقيم الضمير مكانه والمراد بهم من تقدمهم من الأمم السالفة كافة ومن ضرورة عموم الخطاب بيان شمول خلقه تعالى للكل وتخصيصه بالمشركين يؤدي إلى عدم التعرض لخلق من عاداهم من معاصريهم واخراج الجملة مخرج الصلة التي حقها أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصول عندهم أيضا مع أنهم غير معترفين بغاية الخلق وان اعترفوا بنفسه كما ينطق به قوله تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن اللّه للإيذان بأن خلقهم التقوى من الظهور بحيث لايتأتى لأحد إنكاره وقرئ وخلق من قبلكم وقرئ والذين من قبلكم بإقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته توكيدا كإقحام اللام بين المضافين في لاأبالك أو بجعله موصوفا بالظرف خبرا لمبتدأ محذوف أي الذين هم أناس كائنون من قبلكم

 لعلكم تتقون المعنى الوضعي لكلمة لعل هو إنشاء توقع أمر متردد بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول

وأما محبوب فيسمى ترجيا أو مكروه فيسمى إشفاقا وذلك المعنى قد يعتبر تحققه بالفعل أما من جهة المتكلم كما في قولك لعل اللّه يرحمني وهو الأصل الشائع في الاستعمال لأن معاني الانشاءات قائمة به

وأما من جهة المخاطب تنزيلا له منزلة المتكلم في التلبس التام بالكلام الجاري بينهما كما في قوله سبحانه فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وقد يعتبر تحققه بالقوة بضرب من التجوز إيذانا بأن ذلك الأمر في نفسه مئنة للتوقع متصف بحيثية مصححة له من غير أن يعتبر هناك توقع الفعل من توقع أصلا فإن روعيت في الآية الكريمة جهة المتكلم يستحيل إرادة ذلك المعنى لإمتناع التوقع من علام الغيوب عز و جل فيصار أما إلى الاستعارة بأن يشبه طلبه تعالى من عباده التقوى مع كونهم مئنة لها لتعاضد أسبابها برجاء الراجي من المرجو منه أمرا هين الحصول في كون متعلق كل منهما مترددا بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول فيستعار له كلمة لعل استعارة تبعية حرفية للمبالغة في الدلالة على قوة الطلب وقرب المطلوب من الوقوع

وأما إلى التمثيل بأن يلاحظ خلقه تعالى إياهم مستعدين للتقوى وطلبه إياها منه وهم متمكنون منها جامعون لأسبابها وينتزع من ذلك هيئة فتشبه بهيئة منتزعة من الراجي ورجائه من المرجو منه شيئا سهل المنال فيستعمل في الهيئة الأولى ما حقه أن يستعمل في الثانية فيكون هناك استعارة تمثيلية قد صرح من ألفاظها بما هو العمدة في انتزاع الهيئة المشبه بها أعني كلمة الترجي والباقي منوى بألفاظ متخيلة بها

يحصل التركيب المعتبر في التمثيل كما مر مرارا

وأما جعل المشبه إرادته تعالى في الاستعارة والتمثيل فأمر مؤسس على قاعدة الأعتزال القائلة بجواز تخلف المراد عن إرادته تعالى فالجملة حال إما من فاعل خلقكم طالبا منكم التقوى أو من مفعوله وما عطف عليه بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين لأنهم المأمورون بالعبادة أي خلقكم وإياهم مطلوبا منكم التقوى أو عله له فإن خلقهم على تلك الحال في معنى خلقهم لأجل التقوى كانه قيل خلقكم لتتقوا أو كي تتقوا أما بناء على تجويز تعليل افعاله تعالى باغراض راجعه إلى العباد كما ذهب إليه كثير من أهل السنة

وأما تنزيلا لترتب الغاية على ما هي ثمرة له منزلة ترتب الغرض على ما هو غرض له فإن استتباع أفعاله تعالى لغايات ومصالح متقنة جليلة من غير أن تكون هي علة غائية لها بحيث لولاها لما أقدم عليها مما لا نزاع فيه وتقييد خلقهم بما ذكر من الحال أو العلة لتكميل عليته للمأمور به وتأكيدها فإن إتيانهم بما خلقوا له أدخل في الوجوب وإيثار تتقون على تعبدون مع موافقته لقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس الا لعبدون للمبالغة في إيجاب العبادة والتشديد في الزامها لما أن التقوى قصارى أمر العابد ومنتهى جهده فإذا لزمتهم التقوى كان ما هو أدنى منها ألزم والإتيان به أهون وأن روعيت جهة المخاطب فلعل في معناها الحقيقي والجملة حال من ضمير اعبدوا كانه قيل اعبدوا ربكم راجين للانتظام في زمرة المتقين الفائزين بالهدى والفلاح على أن المراد بالتقوى مرتبتها الثالثة التي هي التبتل إلى اللّه عز و جل بالكلية والتنزه عن كل ما يشغل سره عن مراقبته وهي أقصى غايات العبادة التي يتنافس فيها المتنافسون وبالأنتظام القدر المشترك بين انشائه والثبات عليه ليرتجيه ارباب هذه المرتبه وما دونها من مترتبتي التوقي عن العذاب المخلد والتجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك كما مر في تفسير المتقين ولعل توسيط الحال من الفاعل بين وصفي المفعول لما في التقديم من فوات الاشعار بكون الوصف الأول معظم احكام الربوبيه وكونه عريقا في ايجاب العبادة وفي التاخيرمن زيادة طول الكلام هذا على تقدير اعتبار تحقق التوقع بالفعل فأما أن اعتبر تحققه بالقوة فالجملة حال من مفعول خلقكم وما عطف عليه على الطريقة المذكورة أي خلقكم وأياهم حال كونكم جميعا بحيث يرجو منكم كل راج أن تتقوا فإنه سبحانه وتعالى لما براهم مستعدين للتقوى جامعين لمباديها الآفاقية والآنفسية كان حالهم بحيث يرجو منهم كل راج أن يتقوا لا محالة وهذه الحالة مقارنة لخلقهم وأن لم يتحقق الرجاء قطعا واعلم أن الآية الكريمة مع كونها بعبارتها ناطقة بوجوب توحيده تعالى وتحتم عبادته على كافه الناس مرشدة لهم بإشارتها إلى أن مطالعة الآيات التكوينية المنصوبه في الأنفس والآفاق ومما يقضي بذلك قضاء متقنا وقد بين فيها أولا من تلك الايات ما يتعلق بأنفسهم من خلقهم وخلق أسلافهم لما أنه أقوى شهادة وأظهر دلالة ثم عقب بما يتعلق بمعاشهم فقيل

﴿ ٢١