١٤٣

وكذلك جعلناكم توجيه للخطاب الى المؤمنين

بين الخطابين المختصين بالرسول لتأييد ما في مضمون الكلام من التشريف وذلك إشارة الى مصدر جعلناكم لا الى جعل آخر مفهوم مما سبق كما قيل وتوحيد الكاف مع القصد الى المؤمنين لما أن المراد مجرد الفرق بين الحاضر والمنقضى دون تعيين المخاطبين وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجة المشار اليه وبعد منزلته في الفضل وكمال تميزه وانتظامه بسببه في سلك الأمور المشاهدة والكاف لتأكيد ما أفاده اسم الاشارة من الفخامة ومحلها في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف وأصل التقدير جعلناكم امة وسطا جعلا كائنا مثل ذلك الجعل فقدم على الفعل لإفادة القصر واعتبرت الكاف مقحمة للنكتة المذكورة فصار نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أي ذلك الجعل البديع جعلناكم

أمة وسطا لا جعلا آخر أدنى منه والوسط في الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب اليه كمركز الدائرة ثم استعير للخصال المحمودة البشرية لكن لا لأن الأطراف يتسارع اليها الخلل والأعواز والأوساط محمية محوطة كما قيل واستشهد عليه بقول ابن أوس الطائي

... كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت ... بها الحوادث حتى أصبحت طرفا ...

فإن تلك العلاقة بمعزل من الاعتبار في هذا المقام إذ لا ملابسة بينها وبين أهلية الشهادة التي جعلت غاية للجعل المذكور بل لكون تلك الخصال أوساطا للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الافراط والتفريط كالعفة التي طرفاها الفجور والخمود وكالشجاعة التي طرفاها الظهور والجبن وكالحكمة التي طرفاها الجربزة والبلادة وكالعدالة التي هي كيفية متشابهة حاصلة من اجتماع تلك الأوساط المحفوفة بأطرافها ثم أطلق على المتصف بها مبالغة كأنه نفسها وسوى فيه بين المفرد والجمع والمذكر والمؤنث رعاية لجانب الأصل كدأب سائر الأسماء التي يوصف بها وقد روعيت ههنا نكتة رائقة هي ان الجعل المشار اليه عبارة عما تقدم ذكره من هدايته تعالى الى الحق الذي عبر عنه بالصراط المستقيم الذي هو الطريق السوي الواقع في وسط الطرق الجائرة عن القصد الى الجوانب فإنا إذا فرضنا خطوطا كثيرة واصلة بين نقطتين متقابلتين فالخط المستقيم انما هو الخط الواقع في وسط تلك الخطوط المنحنية ومن ضرورة كونه وسطا بين الطرق الجائرة كون الامة المهدية اليه امة وسطا بين الامم السالكة الى تلك الطرق الزائغة أي متصفة بالخصال الحميدة خيارا وعدولا مزكين بالعلم والعمل

لتكونوا شهداء على الناس بان اللّه عز و جل قد أوضح السبل وأرسل الرسل فبلغوا ونصحوا وذكروا فهل من مدكر وهي غاية للجعل المذكور مترتبة عليه فإن العدالة كما أشير اليه حيث كانت هي الكيفية المتشابهة المتألفة من العفة التي هي فضيلة القوة الشهوية البهيمية والشجاعة التي هي فضيلة القوة الغضبية السبعية والحكمة التي هي فضيلة القوة العقلية الملكية المشار الى رتبتها ب قوله عز وعلا ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا كأن المتصف بها واقفا على الحقائق المودعة في الكتاب المبين المنطوي على أحكام الدين وأحوال الأمم أجمعين حاويا لشرائط الشهادة عليهم روى أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء عليهم السلام فيطالبهم اللّه تعالى بالبينة وهو أعلم إقامة للحجة على المنكرين وزيادة لخزيهم بأن كذبهم من بعدهم من الأمم فيؤتي بأمة محمد فيشهدون فيقول الأمم من اين عرفتم فيقولون علمنا ذلك بإخبار اللّه تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق فيؤتى عند ذلك بالنبي ويسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله عز قائلا

ويكون الرسول عليكم شهيدا وكلمة الاستعلاء لما في الشهيد من معنى الرقيب والمهيمن

وقيل لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يقبل فيه الشهادة إلا من العدول الأخيار وتقديم الظرف لدلالة على اختصاص شهادته عليه السلام بهم

وما جعلنا القبلة التي كنت عليها جرد الخطاب للنبي رمزا إلى أن مضمون الكلام من الأسرار الحقيقة بأن يخص معرفته به عليه السلام وليس الموصول صفة للقبلة بل هو مفعول ثان للجعل وما قيل من أن الجعل تحويل الشئ من حاله إلى أخرى فالملتبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني كما في قولك جعلت الطين خزفا فينبغى أن يكون المفعول الأول هو الموصول والثاني هو القبلة فكلام صناعى ينساق إليه الذهن بحسب النظر الجليل ولكن التأمل اللأئق يهدى إلى العكس فإن المقصود إفادته ليس جعل الجهة قبلة لا غير كما يفيده ما ذكر بل هو جعل القبلة المحققة الوجود هذه الجهة دون غيرها والمراد بالموصول هي الكعبة فإنه عليه الصلاة و السلام كان يصلى إليها أولا ثم لما هاجر أمر بالصلاة إلى الصخرة تألفا لليهود أو هي الصخرة لما روى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما من أن قبلته عليه السلام بمكة كانت بيت المقدس إلا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه وعلى هذه الرواية لا يمكن أن يراد بالقبلة الأولى الكعبة

وأما الصخرة فيتأتى إرادتها على الروايتين والمعنى على الأول وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها آثر ذي أثير وهي الكعبة وعلى الثاني وما جعلناها التي كنت عليها قبل هذا الوقت وهي الصخرة

إلا لنعلم استثاء مفرغ من أعم العلل أي وما جعلنا ذلك لشئ من الأشياء إلا لنمتحن الناس أي نعاملهم معاملة من يمتحنهم ونعلم حينئذ

من يتبع الرسول في التوجه إلى ما أمر به من الدين أو القبلة والالتفات إلى الغيبة مع إيراده عليه السلام بعنوان الرسالة للإشعار بعلة الاتباع

ممن ينقلب على عقبيه يرتد عن دين الإسلام أو لايتوجه إلىالقبلة الجديدة أو لنعلم الآن من يتبع الرسول ممن لايتبعه وما كان لعارض يزول بزواله وعلى الأول مارددناك إلى ما كنت عليه إلا لنعلم الثابت على الإسلام والناكص على عقبيه لقلقة وضعف إيمانه والمراد بالعلم ما يدور عليه فلك الجزاء من العلم الحالى أي ليتعلق علمنا به موجودا بالفعل

وقيل المراد علم الرسول عليه السلام والمؤمنين وإسناده إليه سبحانه لما أنهم خواصه وليتميز الثابت عن المتزلزل كقوله تعالى ليميز اللّه الخبيث من الطيب فوضع العلم موضع التمييز الذي هو مسبب عنه ويشهد له قراءة ليعلم على بناء المجهول من صيغة الغيبة والعلم إما بمعنى المعرفة أو متعلق بما في من من معنى الاستفهام أو مفعوله الثاني ممن ينقلب الخ أي لنعلم من يتبع الرسول متميزا ممن ينقلب على عقبيه

وإن كانت لكبيرة أي شاقة ثقيلة وإن هي المخففة من الثقيلة دخلت على ناسخ المبتدأ والخبر واللأم هي الفارقة بينها وبين النافية كما في قوله تعالى إن كان وعد ربنا لمفعولا وزعم الكوفيون أنها نافية واللأم بمعنى إلا أي ما كانت إلا كبيرة والضمير الذي هو اسم كان راجع إلى ما دل عليه قوله تعالى وما جعلنا القبلة التي كنت عليها من الجعلة أو التولية أو التحويلة أو الردة أوالقبلة وقرئ لكبيرة بالرفع على أن كان مزيده كما في قوله

 ... واخوان لنا كانوا كرام ...

وأصله وإن هي لكبيرة كقوله إن زيد لمنطلق

إلا على الذين هدى اللّه أي إلى سر الأحكام الشرعية المبنية على الحكم والمصالح إجمالا وتفصيلا وهم المهديون إلى الصراط المستقيم الثابتون على الإيمان واتباع الرسول عليه السلام

وما كان اللّه ليضيع أيمانكم أي ما صح وما استقام له أن يضيع ثباتكم على الإيمان بل شكر صنيعكم وأعد لكم الثواب العظيم

وقيل إيمانكم بالقبلة المنسوخة وصلاتكم إليها لما روى أنه عليه السلام لما توجه إلى الكعبة قالوا كيف حال إخواننا الذين مضوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فنزلت واللأم في ليضيع أما متعلقة بالخبر المقدر لكان كما هو رأى البصرية وانتصاب الفعل بعدها بأن المقدرة أي ما كان اللّه مريدا أو متصديا لأن يضيع الخ ففي توجيه النفي إلى إادة الفعل تأكيد ومبالغة ليس في توجهه إلى نفسه

وأما مزيدة للتأكيد ناصبة للفعل بنفسها كما هو رأى الكوفية ولا يقدح في ذلك زيادتها كما لا يقدح زيادة حروف الجر في عملها وقوله تعالى

إن اللّه بالناس لرؤوف رحيم تحقيق وتقرير للحكم وتعليل له فإن اتصافه عز و جل بهما يقتضى لا محالة أن لا يضيع أجورهم ولا يدع ما فيه صلاحهم والباء متعلقة برءوف وتقديمه على رحيم مع كونه أبلغ منه لما مر في وجه تقديم الرحمن على الرحيم

وقيل أكثر من الرأفة في الكمية والرأفة أقوى منها في الكيفية لأنها عبارة عن إيصال النعم الصافية عن الآلام والرحمة إيصال النعمة مطلقا وقد يكون مع الألم كقطع العضو المتآكل وقرئ رءوف بغير مد كندس

﴿ ١٤٣