١٧٧ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب البر اسم جامع لمراضى الخصال والخطاب لأهل الكتابين فإنهم كانوا أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حولت إلى الكعبة وكان كل فريق يدعى خيرية التوجه إلى قبلته من القطرين المذكورين وتقديم المشرق على المغرب مع تأخر زمان الملة النصرانية إما لرعاية ما بينهما من الترتيب المتفرع على ترتيب الشروق والغروب وأما لأن توجه اليهود إلى المغرب ليس لكونه مغربا بل لكون بيت المقدس من المدينة المنورة واقعا في جانب الغرب فقيل لهم ليس البر ما ذكرتم من التوجه إلى تينك الجهتين على أن البر خبر ليس مقدما على اسمها كما في قوله ... سلى أن جهلت الناس عنى وعنهم ... فليس سواء عالم وجهول ... وقوله ... اليس عظيما أن تلم ملمة ... وليس علينا في الخطوب مقول ... وإنما أخر ذلك أن المصدر المؤول أعرف من المحلى باللام لأنه يشبه الضمير من حيث أنه لا يوصف ولا يوصف به والأعرف أحق بالاسمية ولأن في الاسم طولا فلو روعى الترتيب المعهود لفات تجاوب أطراف النظم الكريم وقرئ برفع البر على أنه اسمها وهو اقوى بحسب المعنى لأن كل فريق يدعى أن البر هذا فيجب أن يكون الرد موافقا لدعواهم وما ذلك إلا بكون البر اسما كما يفصح عنه جعله مخبرا عنه في الاستدراك بقوله عز و جل ولكن البر من آمن باللّه وهو تحقيق للحق بعد بيان بطلان الباطل وتفصيل لخصال البر مما لا يختلف باختلاف الشرائع وما يختلف باختلافها أي ولكن البر المعهود الذي يحق أن يهتم بشأنه ويجد في تحصيله بر من آمن باللّه وحده إيمانا بريئا من شائبة الإشراك لا كإيمان اليهود والنصارى والمشركين بقولهم عزيز ابن اللّه وقولهم المسيح ابن اللّه واليوم الآخر أي على ما هو عليه لا كما يزعمون من أن النار لاتمسهم إلا أياما معدودة وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ففيه تعريض بان إيمان أهل الكتابين حيث لم يكن كما ذكر من الوجه الصحيح لم يكن إيمانا وفي تعليق البر بهما من أول الأمر عقيب نفيه عن التوجه إلى المشرق والمغرب من الجزالة مالا يخفى كأنه قيل ولكن البر هو التوجه إلى المبدأ والمعاد اللذين هما المشرق والمغرب في الحقيقة والملائكة أي وآمن بهم وبأنهم عباد مكرمون متوسطون بينه تعالى وبين انبيائه بإلقاء الوحى وإنزال الكتب والكتاب أي بجنس الكتاب الذي من افراده الفرقان الذي نبذوه وراء ظهورهم وفيه تعريض بكتمانهم نعوت النبي واشترائهم بما انزل اللّه تعالى ثمنا قليلا والنبيين جميعا من غير تفرقة بين احد منهم كما فعل اهل الكتابين ووجه توسيط الكتاب بين حملة الوحى وبين النبيين واضح وسيأتي في قوله تعالى كل آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله وآتي المال على حبه حال من الضمير في آتي والضمير المجرور للمال أي آتاه كائنا على حب المال في قوله حين سئل أي الصدقة افضل لان تؤتيه وانت صحيح شحيح وقول ابن مسعود رضي اللّه عنه أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر ولا تمهل حتى اذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقيل الضمير للّه تعالى أي آتاه كائنا على محبته تعالى لا على قصد الشر والفساد ففيه نوع تعريض لباذلي الرشي وآخذيها لتغيير التوارة وقيل للمصدر أي كائنا على حب الإيتاء ذوى القربى مفعول اول لآتي قدم عليه مفعوله الثاني أعنى المال للاهتمام به أو لأن في الثاني مع ما عطف عليه طولا لو روعى الترتيب لفات تجاوب الأطراف في الكلام وهو الذي اقتضى تقديم الحال أيضا وقيل هو المفعول الثاني واليتامى أي المحاويج منهم على ما يدل عليه الحال وتقديم ذوى القربى عليهم لما أن إيتاءهم صدقة وصلة والمساكين جمع مسكين وهو الدائم السكون لما أن الخلة أسكنته بحيث لا حراك به أو دائم السكون إلى الناس وابن السبيل أي المسافر سمى به لملازمته إياه كما سمى القاطع ابنالطريق وقيل الضيف والسائلين الذين ألجأتهم الحاجة والضرورة إلى السؤال قال عليه الصلاة و السلام أعطوا السائل ولو على فرس وفي الرقاب أي وضعه في فك الرقاب بمعاونه المكاتبين حتى يفكوا رقابهم وقيل في فك الأسارى وقيل في ابتياع الرقاب وإعتاقها واياما كان فالعدول عن ذكرهم بعنوان مصحح للمالكية كالذين من قبلهم إما للإيذان بعدم قرار ملكهم فيما أوتوا كما في الوجهين الأولين أو بعدم ثبوته رأسا كما في الوجه الأخير وأما للإشعار برسوخهم في الاستحقاق والحاجة لما أن في للظرفية المنبئة عن محليتهم لما يؤتى وأقام الصلاة أي المفروضة منها وآتى الزكاة أي المفروضة على أن المراد بما مر من إيتاء المال التنفل بالصدقات قدم على الفريضة مبالغة في الحث عليه أو المراد بهما المفروضة والأول لبيان المصارف والثاني لبيان وجوب الأداء والوفون بعهدهم عطف على من آمن فإنه في قوة أن يقال ومن أوفوا بعهدهم وإيثار صيغة الفاعل للدلالة على وجوب استمرار الوفاء والمراد بالعهد مالا يحرم حلالا ولا يحلل حراما من العهود الجارية فيما بين الناس وقوله تعالى إذا عاهدوا للإيذان بعدم كونه من ضروريات الدين والصابرين نصب على الاختصاص غير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر وميزيته وهو في الحقيقة معطوف على ما قبله قال أبو علي إذا ذكرت صفات للمدح أو للذم فخولف في بعضها الإعراب فقد خولف للافتنان ويسمى ذلك قطعا لأن تغيير المألوف يدل على زيادة ترغيب في استماع المذكور ومزيد اهتمام بشأنه كما مر في صدر السورة وقد قرئ والصابرون كما قرىء والموفين في البأساء أي في الفقر والشدة والضراء أي المرض والزمانة وحين البأس أي وقت مجاهدة العدو في مواطن الحرب وزيادة الحين للإشعار بوقوعه أحيانا وسرعة انقضائه أولئك إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بالنعوت الجميلة المعدودة وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا من التنبيه على علو طبقتهم وسمو رتبتهم الذين صدقوا أي في الدين واتباع الحق وتحرى البر حيث لم تغيرهم الأحوال ولم تزلزلهم الأهوال وأولئك هم المتقون عن الكفر وسائر الرذائل وتكرير الإشارة لزيادة تنويه شأنهم وتوسيط الضمير للإشارة إلى انحصار التقوى فيهم والآية الكريمة كما ترى حاوية لجميع الكمالات البشرية برمتها تصريحا أو تلويحا لما أنها مع تكثر فنونها وتشعب شجونها منحصرة في خلال ثلاث صحة الاعتقاد وحسن المعاشرة مع العباد وتهذيب النفس وقد أشير إلى الأولى بالايمان بما فصل وإلى الثانية بإيتاء المال وإلى الثالثة بإقامة الصلاة الخ ولذلك وصف الحائزون لها بالصدق نظرا إلى إيمانهم واعتقادهم وبالتقوى اعتبارا بمعاشرتهم مع الخلق ومعاملتهم مع الحق وإليه يشير قوله من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان |
﴿ ١٧٧ ﴾