سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ مِائَتَانِ آيَةً سورة آل عمران سورة آل عمران مدنية وهي مائتا آية بسم اللّه الرحمن الرحيم _________________________________ ١ انظر تفسير الآية: ٢ ٢ ألم اللّه لا اله إلا هو قد سلف أن مالا تكون من هذه الفواتح مفردة كصاد وقاف ونون ولا موازنة لمفرد كحاميم وطاسين وياسين الموازنة لقابيل وهابيل وكطاسين ميم الموازنة لدارا بجرد حسبما ذكره سيبويه في الكتاب فطريق التلفظ بها الحكاية فقط ساكنة الأعجاز على الوقف سواء جعلت أسماء أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لما أنه مغتفر في باب الوقف قطعا فحق هذه الفاتحة أن يوقف عليها ثم يبدأ بما بعدها كما فعله أبو بكر رضي اللّه عنه رواية عن عاصم وأما ما فيها من الفتح على القراءة المشهورة فإنما هي حركة همزة الجلالة ألقيت على الميم لتدل على ثبوتها إذ ليس إسقاطها للدرج بل للتخفبف فهى ببقاء حركتها في حكم الثابت المبتدأ به والميم بكون الحركة لغيرها في حكم الوقف على السكون دون الحركة كما توهم واعترض بأنه غير معهود في الكلام وقيل هي حركة لالتقاء السواكن التي هي الياء والميم ولام الجلالة بعد سقوط همزتها وأنت خبير بأن سقوطها مبنى على وقوعها في الدرج وقد عرفت أن سكون الميم وقفى موجب لانقطاعها عما بعدها مستدع لثبات الهمزة على حالها لا كما في الحروف والأسماء المبنية على السكون فإن حقها الاتصال بما بعدها وضعا واستعمالا فتسقط بها همزة الوصل وتحرك أعجازها لالتقاء الساكنين ثم أن جعلت مسرودة على نمط التعديد فلا محل لها من الإعراب كسائر الفواتح وإن جعلت اسما للسورة فمحلها إما الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف وأما النصب على إضمار فعل يليق بالمقام ذكر أو اقرأ أو نحوهما وأما الرفع بالابتداء أو النصب بتقدير فعل القسم أو الجر بتقدير حرفه فلا مساغ لشئ منها لما أن ما بعدها غير صالح للخيرية ولا للإقسام عليه فإن الاسم الجليل مبتدأ وما بعده خبره والجملة مستأنفة أي هو المستحق للمعبودية لا غير وقوله عز و جل الحى القيوم خبر آخر له أو لمبتدأ محذوف أي هو الحى القيوم لا غيره وقيل هو صفة للمبتدأ أو بدل منه أو من الخبر الأول أو هو الخبر وما قبله اعتراض بين المبتدأ مقرر لما يفيده الاسم الجليل أو حال منه وأياه ما كان فهو كالدليل على اختصاص استحقاق المعبودية به سبحانه وتعالى لما مر من أن معنى الحي الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء ومعنى القيوم الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه ومن ضرورة اختصاص ذينك الوصفين به تعالى اختصاص استحقاق المعبودية به تعالى لاستحالة تحققه بدونهما وقد روى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال اسم اللّه الأعظم في ثلاث سور في سورة البقرة اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم وفي آل عمران الم اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم وفي طه وعنت الوجوه للحي القيوم وروى ان بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام عن إسم اللّه الأعظم قال الحي القيوم ويروى ان عيسى عليه السلام كان إذا أراد إحياء الموتى يدعو يا حي يا قيوم ويقال إن آصف بن برخيا حين أتى بعرش بلقيس دعا بذلك وقرئ الحي القيام وهذا رد على من زعم ان عيسى عليه السلام كان ربا فإنه روى ان وفد نجران قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وكانوا ستين راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من اشرافهم ثلاثة منهم أكابر إليهم يئول أمرهم أحدهم أميرهم وصاحب مشورتهم العاقب واسمه عبد المسيح وثانيهم وزيرهم ومشيرهم السيد واسمه الأيهم وثالثهم حبرهم وأسقفهم وصاحب مدارسهم أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل وقد كان ملوك الروم شرفوه ومولوه وأكرموه لما شاهدوا من علمه واجتهاده في دينهم وبنوا له كنائس فلما خرجوا من نجران ركب أبو حارثة بغلته وكان أخوه كرز بن علقمة إلى جنبه فبينا بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت فقال كرز تعسا للأبعد يريد به رسول اله فقال له أبو حارثة بل تعست أمك فقال كرز ولم يا أخي قال إنه واللّه النبي الذي كنا ننتظره فقال له كرز فما يمنعك عنه وانت تعلم هذا قال لأن هؤلاء الملوك اعطونا أموالا كثيرة وأكرمونا فلو آمنا به لأخذوا منا كلها فوقع ذلك في قلب كرز وأضمره إلى أن أسلم فكان يحدث بذلك فأتوا المدينة ثم دخلوا مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعد صلاة العصر عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية فاخرة يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي ما رأينا وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا ليصلوا في المسجد فقال عليه السلام دعوهم فصلوا إلى المشرق ثم تكلم أولئك الثلاثة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا تارة عيسى هو اللّه لأنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير وتارة أخرى هو ابن اللّه إذ لم يكن له اب يعلم وتارة أخرى إنه ثالث ثلاثة لقوله تعالى فعلنا وقلنا ولو كان واحدا لقال فعلت وقلت فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أسلموا قالوا أسلمنا قبلك قال كذبتم يمنعكم من الإسلام دعاؤكم للّه تعالى ولدا قالوا إن ام يكن ولدا للّه فمن ابوه فقال ألستم تعلمون انه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه فقالوا بلى قال ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء قالوا بلى قال عليه السلام ألستم تعلمون أن ربنا قيوم على كل شيء يحفظه ويرزقه قالوا بلى قال عليه السلام فهل يملك عيسى من ذلك شيئا قالوا لا فقال عليه السلام ألستم تعلمون أن اللّه تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء قالوا بلى قال عليه السلام فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم قالوا بلى قال عليه السلام ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وان ربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث قالوا بلى قال عليه السلام ألستم تعلمون ان عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبي ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث قالوا بلى قال عليه السلام فكيف يكون هذا كما زعمتم فسكتوا وأبوا إلا جحودا فانزل اللّه عز و جل من اول السورة إلى نيف وثمانين آية تقريرا لما احتج به عليه السلام عليهم واجاب به عن شبههم وتحقيقا للحق الذي فيه يمترون ٣ نزل عليك الكتاب أي القرآن عبر عنه باسم الجنس إيذانا بكمال تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس كأنه هو الحقيق بان يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه كما يلوح به التصريح باسمي التوراة والإنجيل وصيغة التفعيل للدلالة على التنجيم وتقديم الظرف على المفعول لما مر من الإعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والجملة إما مستأنفة أو خبر آخر عن الأسم الجليل أو هي الخبر وقوله تعالى لا إله إلا هو اعتراض أو حال وقوله عز و جل الحي القيوم صفة أو بدل كما مر وقرئ نزل عليك الكتاب بالتخفيف ورفع الكتاب فالظاهر حينئذ أن تكون مستأنفة وقيل يجوز كونها خبرا بحذف العائد أي نزل الكتاب من عنده بالحق حال من الفاعل أو المفعول أي نزله محقا في تنزيله على ما هو عليه أو ملتبسا بالعدل في أحكامه أو بالصدق في أخباره التي من جملتها خبر التوحيد وما يليه وفي وعده ووعيده أو بما يحقق انه من عند اللّه تعالى من الحجج البينة مصدقا حال من الكتاب بالإتفاق على تقدير كون قوله تعالى بالحق حالا من فاعل نزل وأما على تقدير حاليته من الكتاب فهو عند من يجوز تعدد الحال بلا عطف ولا بدلية حال منه بعد حال وأما عند من يمنعه فقد قيل إنه حال من محل الحال الأولى على البدلية وقيل من المستكن في الجار والمجرور لأنه حينئذ يتحمل ضميرا لقيامه مقام عامله المتحمل له فيكون حالا متداخلة وعلى كل حال فهي حال مؤكدة وفائدة تقييد التنزيل بها حث أهل الكتابين على الإيمان بالمنزل وتنبيههم على وجوبه فإن الإيمان بالمصدق موجب للإيمان بما يصدقه حتما لما بين يديه مفعول لمصدقا واللام دعامة لتقوية العمل نحو فعال لما يريد أي مصدقا لما قبله من الكتب السالفة وفيه إيماء إلى حضورها وكمال ظهور امرها بين الناس وتصديقه إياها في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد وتنزيه اللّه عز و جل عما لا يليق بشأنه الجليل والأمر بالعدل والإحسان وكذا في انباء الأنبياء والأمم الخالية وكذا في نزوله على النعت المذكور فيها وكذا في الشرائع التي لا تختلف باختلاف للأمم والأعصار ظاهر لا ريب فيه وأما في الشرائع المختلفة باختلافهما فمن حيث إن أحكام كل واحد منها واردة حسبما تقتضيه الحكمة التشريعية بالنسبة إلى خصوصيات الأمم المكلفة بها مشتملة على المصالح اللائقة بشأنهم وأنزل التوراة والإنجيل تعيين لما بين يديه وتبيين لرفعة محله تاكيدا لما قبله وتمهيدا لما بعده إذ بذلك يترقى شأن ما يصدقه رفعة ونباهة ويزداد في القلوب قبولا ومهابة ويتفاحش حال من كفر بهما في الشناعة واستتباع ما سيذكر من العذاب الشديد والإنتقام أي أنزلهما جملة على موسى وعيسى عليهما السلام وإنما لم يذكرا لأن الكلام في الكتابين لا فيمن أنزلا عليه وهما اسمان أعجميان الأول عبري والثاني سرياني ويعضده القراءة بفتح همزة الإنجيل فإن أفعيل ليس من أبنية العرب والتصدي لإشتقاقهما من الورى والنجل تعسف ٤ من قبل متعلق بأنزل أي أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب والتصريح به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان هدى للناس في حيز النصب على أنه علة للإنزال أي أنزلهما لهداية الناس أو على أنه حال منهما أي أنزلهما حال كونهما هدى لهم والإفراد لما أنه مصدر جعلا نفس الهدى مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذوى هدى ثم إن أريد هدايتهما بجميع ما فيهما من حيث هو جميع فالمراد بالناس الأمم الماضية من حين نزولهما إلى زمان نسخهما وأن أريد هدايتهما على الإطلاق وهو الأنسب بالمقام فالناس على عمومه لما أن هدايتهما بما عد الشرائع المنسوخة من الأمور التي يصدقهما القرآن فيها ومن جملتها البشارة بنزوله وبمبعث النبي تعم الناس قاطبة وأنزل الفرقان الفرقان في الأصل مصدر كالغفران أطلق على الفاعل مبالغة والمراد به ههنا أما جنس الكتب إلهية عبر عنها بوصف شامل لما ذكر منها ومالم يذكر على طريق التتميم بالتعميم إثر تخصيص بعض مشاهيرها بالذكر كما في قوله عز و جل فأنبتنا فيها حبا وعنبا إلى قوله تعالى وفاكهة وأما نفس الكتب المذكورة أعيد ذكرها بوصف خاص لم يذكر فيما سبق على طريقة العطف بتكرير لفظ الإنزال تنزيلا للتغاير الوصفى منزلة التغاير الذاتي كما في قوله سبحانه ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنو معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وأما الزبور فإنه مشتمل على المواعظ الفارقة بين الحق والباطل الداعية إلى الخير والرشاد الزاجرة عن الشر والفساد وتقديم الإنجيل عليه مع تأخره عنه نزولا لقوة مناسبته للتوراة في الإشتمال على الأحكام والشرائع وشيوع اقترانهما في الذكر وأما القرآن نفسه ذكر بنعت مادح له بعد ما ذكر باسم الجنس تعظيما لشأنه ورفعا لمكانة وقد بين أولا تنزيله التدريجي إلى الأرض وثانيا إنزاله الدفعى إلى السماء الدنيا أو أريد بإنزال القدر المشترك العارى عن قيد التدريج وعدمه وأما المعجزات المقرونة بغنزال الكتب المذكورة الفارقة بين المحق والمبطل إن الذين كفروا بآيات اللّه وضع موضع الضمير العائد إلى ما فصل من الكتب المنزلة أو منها ومن المعجزات وآيات مضافة إلى الاسم الجليل تعيينا لحيثية كفرهم وتهويلا لأمرهم وتأكيدا لاستحقاقهم العذاب الشديد وإيذانا بأن ذلك الاستحقاق لا يشترط فيه الكفر بالكل بل يكفى فيه الكفر ببعض منها والمراد بالموصول إما أهل الكتابين وهو الأنسب بمقام المحاجة معهم أو جنس الكفرة وهم داخلون فيه دخولا أوليا أي ان الذين كفروا بما ذكر من آيات اللّه الناطقة بالحق لاسيما بتوحيده تعالى وتنزيهه عما لا يليق بشأنه الجليل كلا أوبعضا مع ما بها من النعوت الموجبة للإيمان بها بأن كذبوا بالقرآن أصالة وبسائر الكتب الإلهية تبعا لما ان تكذيب المصدق موجب لتكذيب ما يصدقه حتما وأصالة أيضا بأن كذبوا بآياتها الناطقة بالتوحيد والتنزيه وآياتها المبشرة بنزول القرآن ومبعث النبي وغيروها لهم بسبب كفرهم بها عذاب مرتفع إما على الفاعلية من الجار والمجرور أو على الابتداء والجملة خبر أن والتنوين للتفخيم أي أي عذاب شديد لا يقادر قدره وهو وعيد جئ به إثر تقرير أمرالتوحيد الذاتي والوصفى والإشارة إلى ما ينطق بذلك من الكتب الإلهية حملا على القبول والإذعان وزجرا عن الكفر والعصيان واللّه عزيز لا يغالب يفعل ما يشاء ويحكم ما يرد ذو انتقام عظيم خارج عن أفراد جنسه وهو افتعال من النقمة وهي السطورة والتسلط يقال انتقم منه إذا عاقبه بجنايته والجملة اعتراض تذييلى مقرر للوعيد ٥ إن اللّه لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء أستئناف كلام سيق لبيان سعة علمه تعالى وإحاطته بجميع ما في العالم من الأشياء التي من جملتها ما صدر عنهم من الكفر والفسوق سرا وجهرا إثر بيان كمال قدرته وعزته تربية لما قبله من الوعيد وتنبيها على أن الوقوف على بعض المغيبات كما كان في عيسى عليه السلام بمعزل من بلوغ رتبة الصفات الآلهية وإنما عبر من علمه عز و جل بما ذكر بعدم خفائه عليه كما في قوله سبحانه وما يخفي على اللّه من شيء في الأرض ولا في السماء إيذانا بأن علمه تعالى بمعلوماته وإن كانت في أقصى الغايات الخفية ليس من شأنه أن يكون على وجه يمكن أن يقارنه شائبه خفاء بوجه من الوجوه كما في علوم المخلوقين بل هو في غايه الوضوح والجلاء والجملة المنفية خبر لإن وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وكلمة في متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيىء مؤكدة لعمومه المستفادة من وقوعه في سياق النفي أي لا يخفي عليه شيئ ما كائن في الأرض ولا في السماء أعم من أن يكون ذلك بطريق الاستقرار فيهما أو الجزئية منهما وقيل متعلقة بيخفي وإنما عبر بهما عن كل العالم لأنهما قطراه و تقديم الأرض على السماء لإظهار الأعتناء بشأن أحوال أهلها وتوسيط حرف النفي بينهما للدلالة على الترقي من الادنى إلى الاعلى باعتبار القرب والبعد منا المستدعيين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا وقوله عز و جل ٦ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء جملة مستأنفة ناطقة ببعض أحكام قيوميته تعالى وجريان أحوال الخلق في أطوار الوجود حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة مقررة لكمال علمه مع زيادة بيان لتعلقه بالأشياء قبل دخولها تحت الوجود ضرورة وجوب علمه تعالى بالصور المختلفة المترتبة على التصوير المترتب على المشيئة قبل تحققها بمراتب وكلمة في متعلقة بيصوركم أو بمحذوف وقع حالا من ضمير المفعول أي يصوركم وأنتم في الأرحام مضغ وكيف معمول ليشاء والجمله في محل النصب على الحالية إما من فاعل يصوركم أي يصوركم كائنا على مشيئته تعالى أي مريدا أو من مفعوله أي يصوركم كائنين على مشيئته تعالى تابعين لها في قبول الأحوال المتغايرة من كونكم نطفا ثم علقا ثم مضغا غير مخلقة ثم مخلقة و في الإتصاف بالصفات المختلفة من الذكورة والأنوثة والحسن والقبح وغير ذلك من الصفات وفيه من الدلالة على بطلان زعم من زعم ربوبية عيسى عليه السلام وهو من جملة أبناء النواسيت المتقلبين في هذه الأطوار على مشيئة الباري عز و جل وكمال ركاكة عقولهم مالا يخفي وقرئ تصوركم على صيغة الماضي من التفعل أي صوركم لنفسه وعبادته لا إله إلا هو إذ لا يتصف بشيء مما ذكر من الشئون العظيمة الخاصة بالألوهية أحد ليتوهم ألوهيته العزيز الحكيم المتناهي في القدرة والحكمة ولذلك يخلقكم على ما ذكر من النمط البديع ٧ هو الذي أنزل عليك الكتاب شروع في إبطال شبههم الناشئة عما نطق به القرآن في نعت عيسى عليه السلام بطريق الاستئناف إثر بيان اختصاص الربوبية ومناطها به سبحانه وتعالى تارة بعد اخرى وكون كل من عداه مقهورا تحت ملكوته تابعا لمشيئته قيل إن وفد نجران قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ألست تزعم يا محمد أن عيسى كلمة اللّه وروح منه قال بلى قالوا فحسبنا ذلك فنعى عليهم زيغهم وفتنتهم وبين أن الكتاب مؤسس على أصول رصينة وفروع مبنية عليها ناطقة بالحق قاضية ببطلان ما هم عليه من الضلال والمراد بالإيزال القدر المشترك المجرد عن الدلالة على قيد التدريج وعدمه ولام الكتاب للعهد وتقديم الظرف عليه لما أشير إليه فيما قبل من الاعتناء بشأن بشارته عليه السلام بتشريف الإنزال عليه ومن التشويق إلى ما أنزل فإن النفس عند تأخير ما حقه التقديم لا سيما بعد الإشعار برفعه شانه أو بمنفعته تبقى مترقبة له فيتمكن لديها عند وروده عليها فضل تمكن وليتصل به تقسيمه إلى قسيمه منه آيات الظرف خبر وآيات مبتدأ أو بالعكس بتأويل مر تحقيقه في قوله تعالى ومن الناس من يقول الآية والأول اوفق بقواعد الصناعة والثاني ادخل في جزالة المعنى إذ المقصود الأصلى انقسام الكتاب الى القسمين المعهودين لا كونهما من الكتاب فتذكر والجملة مستأنفة أو في حيز النصب على الحالية من الكتاب أي هو الذي أنزل الكتاب كائنا على هذه الحال أي منقسما الى محكم ومتشابه أو الظرف هو الحال وحده وآيات مرتفع به على الفاعلية محكمات صفة آيات أي قطعية الدلالة على المعنى المراد محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال والاشتباه هن أم الكتاب أي اصل فيه وعمدة يرد إليها غيرها فالمراد بالكتاب كله والإضافة بمعنى في كما في واحد العشرة لا بمعنى اللام فإن ذلك يؤدى الى كون الكتاب عبارة عما عدا المحكمات والجملة إما صفة لما قبلها أو مستأنفة وإنما افرد الام مع تعدد الآيات لما ان المراد بيان أصلية كل واحدة منها أو بيان ان الكل بمنزلة آية واحدة كما في قوله تعالى وجعلناها وابنها آية للعالمين وقيل اكتفى بالمفرد عن الجمع كما في قول الشاعر ... بها جيف الحصرى فأما عظامها ... فبيض وأما جلدها فصليب ... أي وأما جلودها وأخر لمحذوف معطوف على آيات أي وآيات أخر وهي جمع أخرى وإنما لم ينصرف لأنه وصف معدول عن الأخر أو عن آخر من متشابهات صفة لأخر وفي الحقيقة صفة للمحذوف أي محتملات لمعان متشابهة لا يمتاز بعضها من بعض في استحقاق الإرادة بها ولا يتضح الأمر إلا بالنظر الدقيق والتأمل الأنيق فالتشابه في الحقيقة وصف لتلك المعاني وصف به الآيات على طريقة وصف الدال بوصف المدلول وقيل لما كان من شان الأمور المتشابهة أن يعجز العقل عن التمييز بينها سمى كل ما لا يهتدى إليه العقل متشابها وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه كما أن المشكل في الأصل ما دخل في أشكاله وأمثاله ولم يعلم بعينه ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضه من تلك الجهة وإنما جعل ذلك كذلك ليظهر فضل العلماء ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تدبرها ونحصيل العلوم التي نيط بها استنباط ما أريد بها من الأحكام الحقة فينالوا بها وبإتعاب القرائح في استخراج مقاصدها الرائفة ومعانيها اللائقة المدارج العالية ويعرجوا بالتوفيق بينها وبين المحكمات من اليقين والاطمئنان إلى المعارج القاصية وأما قوله عز و جل الر كتاب أحكمت آياته فمعناه أنها حفظت من اعتراء الخلل أو من النسخ أو أيدت بالحجج القاطعة الدالة على حقيتها أو جعلت حكيمة لانطوائها على جلائل الحكم البالغة ودقائقها وقوله تعالى كتابا متشابها مثاني معناه متشابه الأجزاء أي يشبه بعضها بعضا في صحة المعنى وجزالة النظم وحقية المدلول فأما الذين في قلوبهم زيغ أي ميل عن الحق إلى الأهواء الباطلة قال الراغب الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين وفي جعل قلوبهم مقرا للزيغ مبالغة في عدولهم عن سنن الرشاد وإصرارهم على الشر والفساد فيتبعون ما تشابه منه معرضين عن المحكمات أي يتعلقون بظاهر المتشابه من الكتاب أو بتأويل باطل لا تحريا للحق بعد الإيمان بكونه من عند اللّه تعالى بل ابتغاء الفتنة أي طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه كما نقل عن الوفد وابتغاء تأويله أي وطلب أن يؤلوه حسبما يشتهونه من التأويلات الزائغة والحال أنهم بمعزل من تلك الرتبة وذلك قوله عز و جل وما يعلم تأويله الا اللّه والراسخون في العلم فإنه حال من ضمير فيتبعون باعتبار العلة الأخيرة أي يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله والحال أنه مخصوص به تعالى وبمن وفقه له من عباده الراسخين في العلم أي الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم يتزلزلوا في مزال الأقدام في تعليل الاتباع بابتغاء تأويله دون نفس تأويله وتجريد التأويل عن الوصف بالصحة أو الحقية أيذان بأنهم ليسوا من التأويل في شئ وأن ما يبتغونه ليس بتأويل أصلا لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر صاحبة ومن وقف على الا اللّه فسر المتشابه بما استأثر اللّه عز وعلا بعلمه كمده بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة وخواص الاعداد كعدد الزبانية أو بما دل القاطع على عدم إرادة ظاهرة ولم يدل على ما هو المراد به يقولون آمنا به أي بالمتشابه وعدم التعرض لإيمانهم بالمحكم لظهورة أو بالكتاب والجملة على الأول استئناف موضح لحال الراسخين أو حال منه وعلى الثاني خبر لقوله تعالى والراسخون وقوله تعالى كل من عند ربنا من تمام المقول مقرر لما قبله ومؤكد له أي كل واحد منه ومن المحكم أو كل واحد من متشابهه ومحكمه منزل من عنده تعالى لا مخالفة بينهما أو آمنا به وبحقيته على مراده تعالى وما يذكر حق التذكر إلا أولو الألباب أي العقول الخالصة عن الركون إلى الأهواء الزائغة وهو تذييل سيق من جهته تعالى مدحا للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر وإشارة إلى ما به استعدوا للاهتداء إلى تأويله من تجرد العقل عن غواشى الحس وتعلق الآية الكريمة بما قبلها من حيث إنها جواب عما تشبث به النصارى من نحو قوله تعالى وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه على وجه الإجمال وسيجئ الجواب المفصل بقوله تعالى إن مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ٨ ربنا لا تزغ قلوبنا من تمام مقاله الراسخين أي لا تزغ قلوبنا عن نهج الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه قال قلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه على الحق وإن شاء أزاغه عنه وقيل معناه لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا بعد إذ هديتنا أي إلى الحق والتأويل الصحيح أو إلى الإيمان بالقسمين وبعد نصب بلا تزغ على الظرف وإذ في محل الجر بإضافتة إليه خارج من الظرفية أي بعد وقت هدايتك إيانا وقيل إنه بمعنى أن وهب لنا من لدنك كلا الجارين متعلق بهب وتقديم الأول لما مر مرارا ويجوز تعلق الثاني بمحذوف هو حال من المفعول أي كائنة من لدنك ومن لابتداء الغاية المجازية ولدن في الأصل ظرف بمعنى أول غاية زمان أو مكان أو غيرهما من الذوات نحو من لدن زيد وليست مرادفة لعند إذ قد تكون فضلة وكذا لدى وبعضهم يخصها بظرف المكان وتضاف إلى صريح الزمان كما في قوله ... تنتفض الرعدة في ظهيرى ... من لدن الظهر إلى العصير ... ولا تقطع عن الإضافة بحال وأكثر ما تضاف إلى المفردات وقد تضاف إلى أن وصلتها كما في قوله ... ولم تقطع أصلا من لدن أن وليتنا ... قرابة ذي رحم ولا حق مسلم ... أي من لدن ولايتك أيانا وقد تضاف إلى الجملة الاسمية كما في قوله ... تذكر نعماه لدن أنت يافع ... وإلى الجملة الفعلية أيضا كما في قوله ... لزمنا لدن سالتمونا وفاتكم ... فلا يك منكم للخلاف جنوح ... وقلما تخلو عن من كما في البيتين الأخيرين رحمة واسعة تزلفنا إليك ونفور بها عندك أو توفيقا للثبات على الحق وتأخير المفعول الصريح عن الجارين لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مترقبه لوروده لاسيما عند الإشعار بكونه من المنافع باللام فإذا أورده يتمكن عندها فضل تمكن أنك أنت الوهاب تعليل للسؤال أو لإعطاء المسئول وأنت إما مبتدأ أو فصل أو تأكيد لاسم أن وإطلاق الوهاب ليتناول كل موهوب وفيه دلالة على أن الهدى والضلال من قبله تعالى وأنه متفضل بما ينعم به على عباده من غير أن يجب عليه شئ ٩ ربنا إنك جامع الناس ليوم أي الحساب يوم أو الجزاء يوم حذف المضاف وأقيم مقامه المضاف إليه تهويلا له وتفظيعا لما يقع فيه لاريب فيه أي في وقوعه ووقوع ما فيه من الحشر والحساب والجزاء ومقصودهم بهذا عرض كمال افتقارهم إلى الرحمة وأنها المقصد الأسنى عندهم والتأكيد لإظهار ما هم عليه من كمال الطمأنينة وقوة اليقين بأحوال الآخرة إن اللّه لايخلف الميعاد تعليل لمضمون الجملة المؤكدة أو لانتفاء الريب والتأكيد لما مر وإظهار الاسم الجليل مع الالتفات لإبراز كمال التعظيم والإجلال الناشئ من ذكر اليوم المهيب الهائل بخلاف ما في آخر السورة الكريمة فإنه مقام طلب الإنعام كما سيأتي وللإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية منافية للإخلاف وقد جوز أن تكون الجملة مسوقة من جهته تعالى لتقرير قول الراسخين والميعاد مصدر كالميقات واستدل به الوعيديه وأجيب بأن وعيد الفساق مشروط بعدم العفو بدلائل مفصلة كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقا ١٠ إن الذين كفروا إثر ما بين الدين الحق والتوحيد وذكر أحوال الكتب الناطقة به وشرح شأن القرآن العظيم وكيفية إيمان العلماء الراسخين به شرع في بيان حال من كفر به والمراد بالموصول جنس الكفرة الشامل لجميع الأصناف وقيل وفد نجران أو اليهود من قريظة والنضير أو مشركو العرب لن تغنى عنهم أي لن تنفعهم وقرئ بالتذكير وبسكون الياء جدا في استثقال الحركة على حروف اللين أموالهم التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار ولا أولادهم الذين بهم ينتصرون في الأمور المهمة وعليهم يعولون في الخطوب الملمة وتأخير الأولاد عن الأموال مع توسيط حرف النفى بينهما أما لعراقة الأولاد في كشف الكروب أو لأن الأموال أول عدة يفزع إليها عند نزول الخطوب من اللّه من عذابه تعالى شيئا أي شيئا من الإغنياء وقيل كلمة من بمعنى البدل والمعنى بدل رحمة اللّه أو بدل طاعته كما في قوله تعالى ان الظن لا يغنى من الحق شيئا أي بدل الحق ومنه قوله ولا ينفع ذا الجد منك الجد أي لا ينفعه جده بدلك أي بدل رحمتك كما في قوله تعالى وما أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى وأنت خبير بان احتمال سد أموالهم وأولادهم مسد رحمة اللّه تعالى أو طاعته مما لا يخطر ببال أحد حتى يتصدى لنفيه والأول الأليق بتفظيع حال الكفرة وتهويل أمرهم والأنسب بما بعده من قوله تعالى وأولئك هم وقود النار ومن قوله تعالى فأخذهم اللّه أي اولئك المتصفون بالكفر حطب النار وحصبها الذي تسعر به فإن أريد بيان حالهم عند التسعير فإيثار الجملة الاسمية للدلالة على تحقق الأمر وتقررة وإلا فهو للإيذان بان حقيقة حالهم ذلك وان أحوالهم الظاهرة بمنزلة العدم فهم حال كونهم في الدنيا وقود النار بأعيانهم وفيه من الدلالة على كمال ملابستهم بالنار مالا يخفى وهم يحتمل الابتداء وأن يكون ضمير الفصل والجملة وأما مستأنفة مقررة لعدم الإغنياء أو معطوفة على خبر أن وأيا ما كان ففيها تعيين للعذاب الذي بين أن أموالهم وأولادهم لا تغنى عنهم منه شيئا وقرئ وقود النار بضم الواو وهو مصدر أي أهل وقودها ١١ كدأب آل فرعون الدأب مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه وتعب غلب استعماله في معنى الشأن والحال والعادة ومحل الكاف الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وقد جوز لنصب بلن تغنى أو بالوقود أي لن تغنى عنهم كما لم تغن عن اولئك أو توقد بهم النار كما توقد بهم وأنت خبير بان المذكور في تفسير الدأب إنما هو التكذيب والأخذ من غير تعرض لعدم الإغناء لاسيما على تقدير كون من بمعنى البدل كما هو رأى المجوز ولا لإيقاد النار فيحمل على التعليل وهو خلاف الظاهر على أنه يلزم الفصل بين العامل والمعمول بالأجنبي على تقدير النصب بلن تغني وهو قوله تعالى وأولئك هم وقود النار إلا أن يجعل استئنافا معطوفا على خبر إن فالوجه هو الرفع على الخبرية أي دأب هؤلاء في الكفر وعدم النجاة من أخذ اللّه تعالى وعذابه كدأب آل فرعون والذين من قبلهم أي من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة فالموصول في محل الجر عطفا على ما قبله وقوله تعالى كذبوا بآياتنا بيان وتفسير لدأبهم الذي فعلوا على طريق الأستئناف المبني على السؤال كأنه قيل كيف كان دأبهم فقيل كذبوا بآياتنا وقوله تعالى فأخذهم اللّه تفسير لدأبهم الذي فعل بهم أي فأخذهم اللّه وعاقبهم ولم يجدوا من بأس اللّه تعالى محيصا فدأب هؤلاء الكفرة أيضا كدأبهم وقيل كذبوا الخ حال من آل فرعون والذين من قبلهم على إضمار قد أي دأب هؤلاء كدأب أولئك وقد كذبوا الخ وأما كونه خبر عن الموصول كما قيل فمما يذهب برونق النطم الكريم والإلتفات إلى التكلم أولا للجري على سنن الكبرياء وإلى الغيبة ثانيا بإظهار الجلالة لتربية المهابة وإدخال الروعة بذنوبهم إن اريد بها تكذيبهم بالآيات فالباء للسببية جئ بها تأكيدا لما تفيده الفاء من سببية ما قبلها لما بعدها وإن أريد بها سائر ذنوبهم فالباء للملابسة جيء بها للدلالة على أن لهم ذنوبا أخر أي فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غير تائبين عنها كما في قوله تعالى وتزهق أنفسهم وهم كافرون والذنب في الأصل التلو والتابع وسمي الجريمة ذنبا لأنها تتلو أي تتبع عقابها فاعلها واللّه شديد العقاب تذييل مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ وتكملة له ١٢ قل للذين كفروا المراد بهم اليهود لما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن يهود المدينة لما شاهدوا غلبة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على المشركين يوم بدر قالوا واللّه إنه النبي الأمي الذي بشرنا به موسى وفي التوراة نعته وهموا باتباعه فقال بعضهم لا تعجلوا حتى ننظر إلى واقعة له أخرى فلما كان يوم أحد شكوا وقد كان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عهد إلى مدة فنقضوه وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة فأجمعوا أمرهم على قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنزلت وعن سعيد بن جبير وعكرمة وعن ابن عباس رضي اللّه عنهم أن النبي لما أصاب قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع فحذرهم ان ينزل بهم ما نزل بقريش فقالوا لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة لئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس فنزلت أي قل لهم ستغلبون البتة عن قريب في الدنيا وقد صدق اللّه عز و جل وعده بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من عداهم وهو من أوضح شواهد النبوة وأما ما روى عن مقاتل من أنها نزلت قبل بدر وأن الموصول عبارة عن مشركي مكة ولذلك قال لهم النبي يوم بدر إن اللّه غالبكم وحاشركم إلى جهنم وبئس المهاد فيؤدي إلى انقطاع الآية الكريمة عما بعدها لنزوله بعد وقعة بدر وتحشرون أي في الآخرة إلى جهنم وقرئ الفعلان بالياء على أنه عليه السلام أمر بأن يحكي لهم ماأخبر اللّه تعالى به من وعيدهم بعبارته كأنه قيل أد إليهم هذا القول وبئس المهاد إما من تمام ما يقال لهم أو استئناف لتهويل جهنم وتفظيع حال أهلها والمخصوص بالذم محذوف أي وبئس المهاد جهنم أو ما مهدوه لأنفسهم ١٣ قد كان لكم جواب قسم محذوف وهو من تمام القول المأمور به جيء به لتقرير مضمون ما قبله وتحقيقه والخطاب لليهود أيضا والظرف خبر كان على أنها ناقصة ولتوسطه بينها وبين اسمها ترك التأنيت كما في قوله ... إن امرأ غره منكن واحدة ... بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور ... على ان التأنيث ههنا غير حقيقي أو هو متعلق بكان على أنها تامة وإنما قدم على فاعلها لما مر مرارا من الأعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر أي واللّه قد كان لكم أيها المغترون بعددهم وعددهم آية عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم إنكم ستغلبون في فئتين أي فرقتين أو جماعتين فإن المغلوبة منهما كانت مدلة بكثرتها معجبة بعزتها وقد لقيها ما لقيها فسيصيبكم ما يصيبكم ومحل الظرف الرفع على أنه صفة لآية وقيل النصب على خبرية كان والظرف الأول متعلق بمحذوف وقع حالا من آية التقتا في حيز الجر على أنه صفة فئتين أي تلاقتا بالقتال يوم بدر فئة بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي إحداهما فئة كما في قوله ... إذا مت كان الناس حزبين شامت ... وآخر مثن بالذي كنت أصنع ... أي أحدهما شامت والآخر مثن وقوله ... حتى إذا ما استقل النجم في غلس ... وغودر البقل ملوي ومحصود ... والجملة مع ما عطف عليها مستأنفة لتقرير ما في الفئتين من الآية وقوله تعالى تقاتل في سبيل اللّه في محل الرفع على أنه صفة فئة كاملة كأنه قيل فئة مؤمنة ولكن ذكر مكانه من أحكام الإيمان ما يليق بالمقام مدحا لهم واعتدادا بقتالهم وإيذانا بأنه المدار في تحقق الآية وهي رؤية القليل كثيرا وقرئ يقاتل على تأول الفئة بالقوم أو الفريق وأخرى نعت لمبتدأ محذوف معطوف على ما حذف من الجملة الأولى أي وفئة أخرى وإنما نكرت والقياس تعريفها كقرينتها لوضوح أن التفريق لنفس المثنى المقدم ذكره وعدم الحاجة إلى التعريف وقوله تعالى كافرة خبر المبتدأ المحذوف وإنما لم توصف هذه الفئة بما يقابل صفة الفئة الأولى إسقاطا لقتالهم عن درجة الأعتبار وإيذانا بأنهم لم يتصدوا للقتال لما اعتراهم من الرعب والهيبة وقيل كل من المتعاطفين بدل من الضمير في التقتا وما بعدهما صفة فلا بد من ضمير محذوف عائد إلى المبدل منه مسوغ لوصف البدل بالجملة العارية عن ضميره أي فئة منهما تقاتل الخ وفئة أخرى كافرة ويجوز ان يكون كل منهما مبتدأ وما بعدهما خبرا أي فئة منهما تقاتل الخ وفئة أخرى كافرة وقيل كل منهما مبتدأ محذوف الخبر أي منهما فئة تقاتل الخ وقرئ فئة بالجر على البدلية من فئتين بدل بعض من كل وقد مر أنه لا بد من ضمير عائد إلى المبدل منه ويسمى بدلا تفصيليا كما في قول كثير عزة ... وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... ورجل رمى فيها الزمان فشلت ... وقرئ فئة الخ بالنصب على المدح أو الذم أو على الحالية من ضمير التقتا كأنه قيل التقتا مؤمنة وكافرة فيكون فئة وأخرى توطئة لما هو الحال حقيقة إذ المقصود بالذكر وصفاهما كما في قولك جاءني زيد رجلا صالحا يرونهم أي يرى الفئة الأخيرة الفئة الأولى وإيثار صيغة الجمع للدلالة على شمول الرؤية لكل واحد واحد من آحاد الفئة والجملة في محل الرفع على أنها صفة للفئة الأخيرة أو مستأنفة مبينة لكيفية الآية مثليهم أي مثلي عدد الرائين قريبا من ألفين إذ كانوا قريبا من ألف كانوا تسعمائة وخمسين مقاتلا رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وفيهم أبو سفيان وأبو جهل وكان فيهم من الخيل والإبل مائة فرس وسبعمائة بعير ومن أصناف الأسلحة عدد لا يحصى عن محمد بن أبي الفرات عن سعد بن أوس أنه قال اسر المشركون رجلا من المسلمين فسألوه كم كنتم قال ثلثمائة وبضعة عشر قالوا ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا أو مثلي عدد المرئيين أي ستمائة ونيفا وعشرين حيث كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين وما ئتان وستة وثلاثون من الأنصار رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين وكان صاحب راية رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم والمهاجرين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة الخزرجي وكان في العسكر تسعون بعيرا وفرسان أحدهما للمقداد بن عمرو والآخر لمرثد بن أبي مرثد وست أدرع وثمانية سيوف وجميع من استشهد يومئذ من المسلمين أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين أراهم اللّه عز و جل كذلك مع قلتهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم مددا لهم منه سبحانه كما أمدهم بالملائكة عليهم السلام وكان ذلك عند التقاء الفئتين بعد أن قللّهم في أعينهم عند ترائيهما ليجترئوا عليهم ولا يهربوا من أول الأمر حين ينجيهم الهرب وقيل يرى الفئة الأولى الفئة الأخيرة مثلي أنفسهم مع كونهم ثلاثة أمثالهم ليثبتوا ويطمئنوا بالنصر الموعود في قوله تعالى فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا ما ئتين والأول هو الأولى لأن رؤية المثلين غير المتعينة من جانب المؤمنين بل قد وقعت رؤية المثل بل أقل منه أيضا فإنه روى أن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال قد نظرنا الى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ثم قللّهم اللّه تعالى أيضا في أعينهم حتى رأتهم عددا يسيرا أقل من أنفسهم قال ابن مسعود رضي اللّه عنه لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين قال أراهم مائة فأسرنا منهم رجلا فقلنا كم كنتم قال الفا فلو أريد رؤية المؤمنين المشركين أقل من عددهم في نفس الأمر كما في سورة الأنفال لكانت رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر في كونها آية من رؤيتهم مثليهم على أن إبانة آثار قدرة اللّه تعالى وحكمته للكفرة بإراءتهم القليل كثيرا والضعيف قويا وإلقاء الرعب في قلوبهم بسبب ذلك أدخل في كونها آية لهم وحجة عليهم وأقرب الى اعتراف المخاطبين بذلك لكثرة مخالطتهم الكفرة المشاهدين للحال وكذا تعلق الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلا وابعدهما مفعولا سواء جعل الجملة صفة أو مستأنفة أولى من العكس هذا ما تقتضيه جزالة التنزيل على قراءة الجمهور ولا ينبغي جعل الخطاب لمشركي مكة كما قيل أما إن جعل الوعيد عبارة عن هزيمة بدر كما صرحوا به فظاهر لا سترة به وأما إن جعل عبارة عن هزيمة أخرى فلأن الفئة التي شاهدت تلك الآية الهائلة هم المخاطبون حينئذ فالتعبير عنهم بفئة مبهمة تارة وموصوفة أخرى ثم إسناد المشاهدة إليها مع كون إسنادها إلى المخاطبين أوقع في إلزام الحجة وأدخل في التبكيت مما لا داعي إليه وبهذا يتبين حال جعل الخطاب الثاني للمؤمنين وأما قراءة ترونهم بتاء الخطاب فظاهرها وإن اقتضى توجيه الخطاب الثاني الى المشركين لكنه ليس بنص في ذلك لأنه وإن اندفع به المحذور الأخير فالأول باق بحاله فلعل رؤية المشركين نزلت منزلة رؤية اليهود لما بينهم من الإتحاد في الكفر والأتفاق في الكلمة لاسيما بعد ما وقع بينهم بواسطة كعب بن الأشرف من العهد والميثاق فأسندت الرؤية إليهم مبالغة في البيان وتحقيقا لعروض مثل تلك الحالة لهم فتدبر وقيل المراد جميع الكفرة ولا ريب في صحته وسداده وقرئ يرونهم وترونهم على البناء للمفعول من الأرادة أي يريهم أو يريكم اللّه تعالى كذلك رأي العين مصدر مؤكد ليرونهم إن كانت الرؤية بصرية أو مصدر تشبيهى إن كانت قلبية أي رؤية ظاهرة مكشوفة جارية مجرى رؤية العين واللّه يؤيد أي يقوى بنصره من يشاء أن يؤيده من غير توسيط الأسباب العادية كما أيد الفئة المقاتلة في سبيله بما ذكر من النصر وهو من تمام القول المأمور به إن في ذلك إشارة إلى ما ذكر من رؤية القليل كثيرا المستتبعة لغلبة القليل العديم العدة على الكثير الشاكي السلاح وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه في الفضل لعبرة العبرة فعلة من العبور كالركبة من الركوب والجلسة من الجلوس والمراد بها الاتعاظ فإنه نوع من العبور أي لعبرة عظيمة كائنة لأولى الأبصار لذوي العقول والبصائر وقيل لمن أبصرهم وهو إما من تمام الكلام الداخل تحت القول مقرر لما قبله بطريق التذييل وأما وارد من جهته تعالى تصديقا لمقالته عليه الصلاة و السلام ١٤ زين للناس كلام مستأنف سيق لبيان حقارة شأن الحظوظ الدنيوية بأصنافها وتزهيد للناس فيها وتوجيه رغباتهم إلى ما عنده تعالى إثر بيان عدم نفعها للكفرة الذين كانوا يتعززون بها والمراد بالناس الجنس حب الشهوات الشهوة نزوع النفس إلى ما تريده والمراد ههنا المشتهيات عبر عنها بالشهوات مبالغة في كونها مشتهاة مرغوبا فيها كأنها نفس الشهوات أو أيذانا بانهما كهم في حبها بحيث أحبوا شهواتها كما في قوله تعالى إني أحببت حب الخير أو استرذالا لها فإن الشهوة مسترذلة مذمومة من صفات البهائم والمزين هو الباري سبحانه وتعالى إذ هو الخالق لجميع الأفعال والدواعي والحكمة في ذلك ابتلاؤهم قال تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم الآية فإنها ذريعة لنيل سعادة الدارين عند كون تعاطيها على نهج الشريعة الشريفة وسيلة إلى بقاء النوع وإيثار صيغة المبنى للمفعول للجرى على سنن الكبرياء وقرئ على البناء للفاعل وقيل المزين هو الشيطان لما أن مساق الآية الكريمة على ذمها وفرق الجبائى بين المباحات فأسند تزيينها إليه تعالى وبين المحرمات فنسب تزيينها إلى الشيطان من النساء والبنين في محل النصب على أنه حال من الشهوات وهي مفسرة لها في المعنى وقيل من لبيان الجنس وتقديم النساء على البنين لعراقتهن في معنى الشهوة فإنهن حبائل الشيطان وعدم التعرض للبنات لعدم الاطراد في حبهن والقناطير المقنطرة جمع قنطار وهو المال الكثير وقيل مائة الف دينار وقيل ملء مسك ثور وقيل سبعون ألفا وقيل أربعون الف مثقال وقيل ثمانون ألفا وقيل مائة رطل وقيل ألف ومائتا مثقال وقيل ألفا دينار وقيل مائة من ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم وقيل دية النفس واختلف في أن وزنه فعلال أو فنعال ولفظ المقنطرة مأخود منه للتأكيد كقولهم بدرة مبدرة وقيل المقنطرة المحكمة المحصنة وقيل الكثيرة المنضدة بعضها على بعض أو المدفونه وقيل المضروبة المنقوشة من الذهب والفضة بيان للقناطير أو حال والخيل عطف على القناطير قيل هى جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط الواحد فرس وقيل واحدة خائل وهو مشتق من الخيلاء المسومة أي المعلمة من السومة وهي العلامة أو المرعية من أسام الدابة وسومها إذا أرسلها وسيبها للرعى أو المطهمة التامة الخلق والأنعام أي الإبل والبقر والغنم والحرث أي الزرع مصدر بمعنى المفعول ذلك أي ما ذكر من الأشياء المعهودة متاع الحياة الدنيا أي ما يتمتع به في الحياة الدنيا أياما قلائل فتفنى سريعا واللّه عنده حسن المآب حسن المرجع وفيه دلالة على أن ليس فيما عدد عاقبة حميدة وفي تكرير الإسناد بجعل الجلالة مبتدأ وإسناد الجملة الظرفية إليه زيادة تأكيد وتفخيم ومزيد اعتناء بالترغيب فيما عند اللّه عز و جل من النعم المقيم والتزهيد في ملاذ الدنيا وطيباتها الفانية ١٥ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم إثر ما بين شان مزخرفات الدنيا وذكر ما عنده تعالى من حسن المآب إجمالا أمر النبي بتفاصيل ذلك المجمل للناس مبالغة في الترغيب والخطاب للجميع والهمزة للتقرير أي أأخبركم بما هو خير مما فصل من تلك المستلذات المزينة لكم وإبهام الخير لتفخيم شأنه والتشويق إليه وقوله تعالى للذين اتقوا عند ربهم جنات استئناف مبين لذلك المبهم على أن جنات مبتدأ والجار والمجرور خبر أو على أن جنات مرتفع به على الفاعلية عند من لايشترط في ذلك اعتماد الجار على ما فصل في محلة والمراد بالتقوى هو التبتل إلى اللّه تعالى والإعراض عما سواه على ما تنبىء عنه النعوت الآتية وتعليق حصول الجنات وما بعدها من فنون الخيرات به للترغيب في تحصيله والثبات عليه وعند نصب على الحالية من جنات أو متعلق بما تعلق به الجار من معنى الاستقرار مفيد لكمال علو رتبة الجنات وسمو طبقتها والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المتقين لإظهار مزيد اللطف بهم وقيل اللام متعلقة بخير وكذا الظرف وجنات خبر مبتدأ محذوف والجملة مبينة لخير ويؤيده قراءة جنات بالجر على البدلية من خير ولا يخفى أن تعليق الإخبار والبيان بما هو خير لطائفة ربما يوهم أن هناك خيرا آخر لآخرين تجرى في محل الرفع والجر صفة لجنات على حسب القراءتين من تحتها الأنهار متعلق بتجرى فإن أريد بالجنات نفس الأشجار كما هو الظاهر فجريانها من تحتها ظاهر وإن أريد بها مجموع الأرض والأشجار فهو باعتبار جزئها الظاهر كما مر تفصيله مرارا خالدين فيها حال مقدرة من المستكن في للذين والعامل ما فيه من معنى الاستقرار وأزواج مطهرة عطف على جنات أي مبرأة مما يستقذر من النساء من الأحوال البدنية والطبيعية ورضوان التنوين للتفخيم وقوله تعالى من اللّه متعلق بمحذوف وقع صفة له مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة أي رضوان وأي رضوان لايقادر قدره كائن من اللّه عز و جل وقرئ بضم الراء واللّه بصير بالعباد وبأعمالهم فيثيب ويعاقب حسبما يليق بها أو بصير بأحوال الذين اتقوا ولذلك أعد لهم ما ذكر وفيه إشعار بانهم المستحقون للتسمية باسم العبد ١٦ الذين يقولون ربنا إننا آمنا في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل من أولئك المتقون الفائزون بهذه الكرامات السنية فقيل هم الذين الخ أو النصب على المدح أو الجر على أنه تابع للمتقين نعتا أو بدلا أو للعباد كذلك والأول أظهر وقوله تعالى واللّه بصير بالعباد حينئذ معترضة وتأكيد الجملة لإظهار أن إيمانهم ناشئ من وفور الرغبة وكمال النشاط وفي ترتيب الدعاء بقولهم فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار على مجرد الإيمان دلالة على كفايته في استحقاق المغفرة والوقاية من النار ١٧ الصابرين هو على تقدير كون الموصول في محل الرفع منصوب على المدح بإضمار أعنى وأما تقدير كونه في محل النصب أو الجر فهو نعت له والمراد بالصبر هو الصبر على مشاق الطاعات وعلى البأساء والضراء وحين البأس والصادقين في أقوالهم ونياتهم وعزائمهم والقانتين المداومين على الطاعات المواظبين على العبادات والمنفقين أموالهم في سبيل اللّه تعالى والمستغفرين بالأسحار قال مجاهد وقتادة والكلبي أي المصلين بالأسحار وعن زيد بن أسلم هم الذين يصلون الصبح في جماعة وقال الحسن مدوا الصلاة إلى السحر ثم استغفروا وقال نافع كان ابن عمر رضي اللّه عنه يحيى الليلة ثم يقول يا نافع أسحرنا فأقول لا فيعاود الصلاة فإذا قلت نعم قعد يستغفر اللّه ويدعو حتى يصبح وعن الحسن كانوا يصلون في أول الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار وتخصيص الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة إذ العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والروح أجمع لاسيما للمجتهدين وتوسيط الواو بين الصفات المعدودة للدلالة على استقلال كل منها وكما لهم فيها أو لتغاير الموصوفين بها ١٨ شهد اللّه أنه بفتح الهمزة أي بأنه أو على أنه لاإله إلا هو أي بين وحدانيته بنصب الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس وإنزال الآيات التشريعية الناطقة بذلك عبر عنه بالشهادة على طريقة الاستعارة إيذانا بقوته في أثبات المطلوب وإشعارا بإنكار المنكر وقرئ إنه بكسر الهمزة إما بإجراء شهد مجرى قال وأما بجعل الجملة اعتراضا وإيقاع الفعل على قوله تعالى إن الدين الخ على قراءة أن بفتح الهمزة كما سيأتى وقرئ شهداء للّه بالنصب على أنه حال من المذكورين أو على المدح وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ومآله الرفع على المدح أي هم شهداء للّه وهو إما جمع شهيد كظرفاء في جمع ظريف أو جمع شاهد كشعراء في جمع شاعر والملائكة عطف على الاسم الجليل بحمل الشهادة على معنى مجازى شامل للإقرار والإيمان بطريق عموم المجاز أي أقروا بذلك وأولوا العلم أي آمنوا به واحتجوا عليه بما ذكر من الادلة التكوينية والتشريعية قيل المراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل المهاجرون والأنصار وقيل علماء مؤمنى أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام وأضرابه وقيل جميع علماء المؤمنين الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل القاطعة وارتفاعهما على القراءتين الأخيرتين قيل بالعطف على الضمير في شهداء لوقوع الفصل بينهما وأنت خبير بأن ذلك على قراءة النصب على الحالية يؤدى إلى تقييد حال المذكورين بشهادة الملائكة وأولى العلم وليس فيه كثير فائدة فالوجه كون ارتفاعهما بالابتداء والخبر محذوف لدلالة الكلام عليه أي والملائكة وأو لو العلم شهداء بذلك ولك أن تحمل القراءتين على المدح نصبا ورفعا فحينئذ يحسن العطف على المستتر على كل حال وقوله تعالى قائما بالقسط أي مقيما للعدل في جميع أموره بيان لكماله تعالى في أفعاله إثر بيان كماله في ذاته وانتصابه على الحالية من اللّه كما في قوله تعالى وهو الحق مصدقا وإنما جاز افراده مع عدم جواز جاء زيد وعمرو راكبا لعدم اللبس كقوله تعالى ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة ولعل تأخيره عن المعطوفين للدلالة على علو رتبتهما وقرب منزلتهما والمسارعة إلى إقامة شهود التوحيد اعتناء بشأنه ورفعا لمحله والسر في تقديمه على المعطوفين مع ما فيه من الإيذان بأصالته تعالى في الشهادة به كما مر في قوله تعالى آمن الرسول بما أنزل أليه من ربه أو من هو وهو الأوجه والعامل فيها معنى الجملة أي تفردا وأحقه لأنها حال مؤكدة أو على المدح وقيل على انه صفة للمنفى أي لا اله قائما الخ والفصل بينهما من قبيل توسعاتهم وهو مندرج في المشهود به إذا جعل صفة أو حالا من الضمير أو نصبا على المدح منه وقرئ القائم بالقسط على البدلية من هو فيلزم الفصل بينهما كما في الصفة أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف وقرئ قيما بالقسط لا إله إلا هو تكرير للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلة التوحيد والحكم به بعد إقامة الحجة وليجرى عليه قوله تعالى العزيز الحكيم فيعلم أنه المنعوت بهما ووجه الترتيب تقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته تعالى ورفعهما على البدلية من الضمير أو الوصفية لفاعل شهد أو الخبرية لمبتدأ مضمر وقد روى في فضلها أنه عليه السلام قال يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول اللّه عز و جل أن لعبدي هذا عندى عهدا وأنا أحق من وفي بالعهد أدخلوا عبدى الجنة وهو دليل على فضل علم أصول الدين وشرف أهله وروى عن سعيد بن جبير أنه كان حول البيت ثلثمائة وستون صنما فلما نزلت هذه الآية الكريمة خررن سجدا وقيل نزلت في نصارى نجران وقال الكلبي قدم النبى حبران من أحبار الشام فلما أبصر المدينة قال أحدهما ماأشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبى الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا عليه عليه السلام عرفاه بالصفة فقالا له عليه السلام أنت محمد قال نعم قالا وأنت أحمد قال عليه السلام أنا محمد وأحمد قالا فإنا نسألك عن شئ فإن اخبرتنا به آمنا بك وصدقناك قال عليه السلام سلا فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب اللّه عز و جل فأنزل اللّه تعالى هذه الآية الكريمة فأسلم الرجلان ١٩ ان الدين عند اللّه الأسلام جملة مستأنفة مؤكدة للأولى أى لا دين مرضيا للّه تعالى سوى الأسلام الذى هو التوحيد والتدرع بالشريعه الشريفه وعن قتادة أنه شهادة أن لا إله إلا اللّه والإقرار بما جاء من عند اللّه تعالى وقرئ أن الدين عند اللّه للإسلام وقرئ إن الدين الخ على أنه بدل من أنه بدل الكل إن فسر الإسلام بالإيمان أو بما يتضمنه وبدل الاشتمال إن فسر بالشريعة أو على أن شهد واقع عليه على تقدير قراءة إنه بالكسر كما إشير إليه وما اختلف ألذين أوتوا الكتاب نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام الذي جاء به النبي وأنكروا نبوته والتعبير عنهم بالموصول وجعل إيتاء الكتاب صلة له لزيادة تقبيح حالهم فأن الاختلاف ممن أوتى ما يزيله ويقطع شأفته في غاية القبح والسماحة وقوله تعالى إلا من بعد ما جاءهم العلم إستثناء مفرغ من أعم الأحوال أو أعم الأوقات أى وما اختلفوا في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا بعد أن علموا بأنه الحق الذي لا محيد عنه أو بعد أن علموا حقيقة الأمر وتمكنوا من العلم بها بالحجج النيرة والآيات الباهرة و فيه من الدلالة على ترامى حالهم فى الضلالة ما لا مزيد عليه فان الاختلاف بعد حصول تلك المرتبه قما لا يصدر عن العاقل و قوله تعالى بغيا بينهم أى حسدا كائنا بينهم وطلبا للرياسة لا لشبهة و خفاء فى الأمر تشنيع ومن يكفر بآيات اللّه أى بآياته الناطقة بما ذكر من أن الدين عند اللّه تعالى هو الإسلام ولم يعمل بمقتضاها أو بأية آية كانت من آياته تعالى على أن يدخل فيها ما نحن فيه دخولا أوليا فإن اللّه سريع الحساب قائم مقام جواب الشرط علة له أى و من يكفر بآياته تعالى يجازيه و يعاقبه عن قريب فانه سريع الحساب أى يأتى حسابه عن قريب أو يتم ذلك يسرعة وإظهار الجلالة لتربية المهابة وإدخال الروعة وفى ترتيب العقاب على مطلق الكفر بآياته تعالى من غير تعرض لخصوصية حالهم من كون كفرهم بعد إيتاء الكتاب وحصول الاطلاع على ما فيه وكون ذلك للبغى دلالة على كمال شدة عقابهم ٢٠ فإن حاجوك أى فى كون الدين عند اللّه الإسلام أو جادلوك فيه بعد ما أقمت عليهم الحجج فقل أسلمت وجهى أى أخلصت نفسى وقلبى وجملتى و انما عبر عنها بالوجه لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة و مظهر القوى والمشاعر ومجمع معظم ما يقع به العبادة من السجود و القراءة وبه يحصل التوجه إلى كل شىء للّه لا أشرك به فيها غيره وهو الدين القويم الذى قامت عليه الحجج ودعت اليه الآيات والرسل عليهم السلام ومن أتبعن عطف على المتصل فى أسلمت وحسن ذلك لمكان الفصل الجارى مجرى التاكيد بالمنفصل أى وأسلم من اتبعنى أو مفعول معة وقل للذين أوتوا الكتاب أى من اليهود والنصارى وضع الموصول موضع الضمير لرعاية التقابل بين وصفى المتعاطفين والأميين أى الذين لا كتاب لهم من مشركى العرب أأسلمتم متبعين لى كما فعل المؤمنون فإنة قد أتاكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه لا محالة فهل أسلمتم وعملتم بقضيتها أو انتم على كفركم بعد كما يقول من لخص لصاحبه المسأله ولم يدع من طرق التوضيح والبيان مسلكا ألاسلكه فهل فهمتها على منهاج قولة تعالى فهل أنتم منتهون إثر تفصيل الصوارف عن تعاطى الخمر والميسر وفيه من استقصارهم وتعييرهم بالمعاندة وقلة ألإنصاف وتوبيخهم بالبلادة وكلة القريحة مالا يخفى فإن أسلموا أى كما أسلمتم وأنما لم يصرح بة كما فى قولة تعالى فأن آمنوا بمثل ما أمنتم بة حسما لباب أطلاق اسم الإسلام على شئ آخر بالكلية فقد أهتدوا أى فازوا بالحظ الأوفر ونجوا عن مهاوى الضلال وأن تولوا أى اعرضوا عن الاتباع و قبول الإسلام فإنما عليك البلاغ قائم مقام الجواب أى لم يضروك شيئا إذ ما عليك إلا البلاغ وقد فعلت على أبلغ وجه روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما قرأ هذة الآية على أهل الكتاب قالوا أسلمنا فقال علية السلام لليهود أتشهدون أن عيسى كلمة اللّه وعبده و رسوله فقالوا معاذ اللّه وقال عليه الصلاة و السلام للنصارى أتشهدون أن عيسى عبد اللّه ورسوله فقالوا معاذ اللّه أن يكون عيسى عبدا وذلك قوله عز و جل وأن تولوا واللّه بصير بالعباد عالم بجميع أحوالهم وهو تذييل فيه وعد ووعيد ٢١ إن الذين يكفرون بآيات اللّه أى آية كانت فيدخل فيهم الكافرون بالآيات الناطقة بحقية الإسلام على الوجه الذى مر تفصيله دخولا أوليا ويقتلون النبيين بغير حق هم أهل الكتاب قتل أولوهم الانبياء عليهم السلام وقتلو أتباعهم وهم راضون بما فعلوا وكانوا قاتلهم اللّه تعالى حائمين حول قتل النبى لولا أن عصم اللّه تعالى ساحتة المنيعة وقد أشير أليه بصيغة ألاستقبال وقرئ بالتشديد للتكثير والتقييد بغير حق للإيذان بأنه كان عندهم أيضا بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس أى بالعدل ولعل تكرير الفعل للإشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافها في الوقت عن إبى عبيدة بن الجراح قلت يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أى الناس أشد عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا أو رجلا امر بمعروف ونهى عن المنكر ثم قرأها ثم قال يا ابا عبيدة قتلت بنو اسرائيل ثلاثة واربعين نبي من أول النهار فى ساعة واحدة فقام مائة وأثنا عشر رجلا من عباد بنى إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار وقرئ ويقاتلون الذين فبشرهم بعذاب أليم خبر أن والفاء لتضمن اسمها معنى الشرط فإنها بالنسخ لاتغير معنى ألابتداء بل تزيدة تأكيدا وكذا الحال فى النسخ بأن المفتوحة كما فى قوله تعالى واعلموا إنما غنمتم من شئ فأن للّه خمسه وكذا النسخ بلكن كما في قوله فو اللّه ما فارقتكم عن ملالة ... ولكن ما يقضى فسوف يكون ... وأنما يتغير معنى الابتداء في النسخ بليت ولعل وقد ذهب سيبوية والأخفش إلى منع دخول الفاء عند النسخ مطلقا فالخبر عندهما قوله تعالى ٢٢ أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة كما في قولك الشيطان فاحذر عدو مبين وعلى الأول هو استئناف واسم الإشارة مبتدأ وما فيه من معنى البعد للدلالة على ترامى أمرهم في الضلال وبعد منزلتهم في فظاعة الحال والموصول بما في حيز صلته خبره أي أولئك المتصفون بتلك الصفات القبيحة أو المبتلون بأسوأ الحال الذين بطلت أعمالهم التى عملوها من البر والحسنات ولم يبق لها أثر في الدارين بل بقى لهم اللعنة والخزى في الدنيا وعذاب أليم في الآخرة وما لهم من ناصرين ينصرونهم من بأس اللّه وعذابه في إحدى الدارين وصيغة الجميع لرعاية ما وقع في مقابلته لا لنفى تعدد الأنصار من كل واحد منهم كما في قوله تعالى وما للظالمين من أنصار ٢٣ ألم تر تعجيب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أو لكل من يتأتى منه الرؤية من حال أهل الكتاب وسوء صنيعهم وتقرير لما سبق من أن اختلافهم في الإسلام إنما كان بعد ما جاءهم العلم بحقيقة أي ألم تنظر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب أي التوراة على أن اللام للعهد وحمله على جنس الكتب الالهية تطويل للمسافة اذ تمام التقريب حينئذ بكون التوراة من جملتها لأن مدار التشنيع والتعجيب انما هو اعراضهم عن المحاكمة الى ما دعوا اليه وهم لم يدعوا الا الى التوراة والمراد بما أوتوه منها ما بين لهم فيها من العلوم والأحكام التي من جملتها ما علموه من نعوت النبي وحقية الاسلام والتعبير عنه بالنصيب للإشعار بكمال اختصاصه بهم وكونه حقا من حقوقهم التي يجب مراعاتها والعمل بموجبها وما فيه من التنكير للتفخيم وحمله على التحقير لا يساعده مقام المبالغة في تقبيح حالهم يدعون الى كتاب اللّه الذي أوتوا نصيبا منه وهو التوراة والاظهار في مقام الاضمار لإيجاب الاجابة واضافته الى الاسم الجليل لتشريفه وتأكيد وجوب المراجعة اليه والجملة استئناف مبين لمحل التعجيب مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل ماذا يصنعون حتى ينظر اليهم فقيل يدعون الى كتاب اللّه تعالى وقيل حال من الموصول ليحكم بينهم وذلك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم دخل مدارسهم فدعاهم الى الايمان فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد على أي دين أنت قال عليه الصلاة و السلام على ملة ابراهيم قالا ان ابراهيم كان يهوديا فقال لهما ان بيننا وبينكم التوراة فهلموا اليها فأبيا وقيل نزلت في الرجم وقد اختلفوا فيه وقيل كتاب اللّه القرآن فإنهم قد علموا أنه كتاب اللّه ولم يشكوا فيه وقرئ ليحكم على بناء المجهول فيكون الاختلاف بينهم بأن أسلم بعضهم كعبد اللّه بن سلام وأضرابه وعاداهم الآخرون ثم يتولى فريق منهم استبعاد لتوليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع اليه وهم معرضون اما حال من فريق لتخصصه بالصفة أي يتولون من المجلس وهم معرضون بقلوبهم أو اعتراض أي وهم قوم ديدنهم الاعراض عن الحق والاصرار على الباطل ٢٤ ذلك اشارة الى ما مر من التولي والاعراض وهو مبتدأ خبره قوله تعالى بأنهم أي حاصل بسبب أنهم قالوا لن تمسنا النار باقتراف الذنوب وركوب المعاصي الا اياما معدودات وهي مقدار عبادتهم العجل ورسخ اعتقادهم على ذلك وهونوا عليهم الخطوب وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون من قولهم ذلك وما اشبهه من قولهم ان آباءنا الانبياء يشفعون لنا أو إن اللّه تعالى وعد يعقوب عليه السلام ان لا يعذب اولاده الا تحلة القسم ولذلك ارتكبوا ما ارتكبوا من القبائح ٢٥ فكيف رد لقولهم المذكور وابطال لما غرهم باستعظام ما سيد همهم وتهويل ما سيحيق بهم من الاهوال أي فكيف يكون حالهم اذا جمعناهم ليوم أي لجزاء يوم لا ريب فيه أي في وقوعه ووقوع ما فيه روى ان أول راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفر راية اليهود فيفضحهم اللّه عز و جل على رءوس الاشهاد ثم يأمر بهم الى النار ووفيت كل نفس ما كسبت أي جزاء ما كسبت من غير نقص اصلا كما يزعمون وانما وضع المكسوب موضع جزائه للإيذان بكمال الاتصال والتلازم بينهما كأنهما شيء واحد وفيه دلالة على أن العبادة لا تحبط وأن المؤمن لا يخلد في النار لأن توفية جزاء ايمانه وعمله لا تكون في النار ولا قبل دخولها فإذن هي بعد الخلاص منها وهم أي كل الناس المدلول عليهم بكل نفس لا يظلمون بزيادة عذاب أو بنقص ثواب بل يصيب كلا منهم مقدار ما كسبه ٢٦ قل اللّهم الميم عوض عن حرف النداء ولذلك لا يجتمعان وهذا من خصائص الاسم الجليل كدخوله عليه مع حرف التعريف وقطع همزته ودخول تاء القسم عليه وقيل اصله يا اللّه امنا بخير أي اقصدنا به فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته مالك الملك أي مالك جنس الملك على الاطلاق ملكا حقيقيا بحيث تتصرف فيه كيفما تشاء ايجادا واعداما واحياء واماتة وتعذيبا واثابة من غير مشارك ولا ممانع وهو نداء ثان عند سيبويه فإن الميم عنده تمنع الوصفية تؤتي الملك بيان لبعض وجوه التصرف الذي تستدعيه مالكية الملك وتحقيق لاختصاصها به تعالى حقيقة وكون مالكية غيره بطريق المجاز كما ينبئ عنه ايثار الايتاء الذي هو مجرد الاعطاء على التمليك المؤذن بثبوت المالكية حقيقة من تشاء أي ايتاءه اياه وتنزع الملك ممن تشاء أي نزعه منه فالملك الأول حقيقي عام ومملوكيته حقيقية والآخران مجازيان خاصان ونسبتهما الى صاحبهما مجازية وقيل الملك الأول عام والآخران بعضان منه فتأمل وقيل المراد بالملك النبوة ونزعها نقلها من قوم الى آخرين وتعز من تشاء ان تعزه في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما بالنصر والتوفيق وتذل من تشاء ان تذله في احداهما أو فيهما من غير ممانعة من الغير ولا مدافعة بيدك الخير تعريف الخير للتعميم وتقديم الخبر للتخصيص أي بقدرتك الخير كله لا بقدرة احد غيرك تتصرف فيه قبضا وبسطا حسبما تقتضيه مشيئتك وتخصيص الخير بالذكر لما أنه مقضي بالذات وأما الشر فمقضي بالعرض اذ ما من شر جزئي الا وهو متضمن لخير كلي أو لأن في حصول الشر دخلا لصاحبه في الجملة لأنه من أجزية اعماله وأما الخير ففضل محض أو لرعاية الادب أو لأن الكلام فيه فإنه روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما خط الخندق عام الاحزاب وقطع لكل عشرة من أهل المدينة اربعين ذراعا واخذوا يحفرونه خرج من بطن الخندق صخرة كالتل لم تعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يخبره فجاء عليه السلام واخذ منه المعول فضربها ضربة صدعتها وبرق منها برق اضاء ما بين لابتيها لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم فكبر وكبر معه المسلمون وقال اضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها انياب الكلاب ثم ضرب الثانية فقال اضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ثم ضرب الثالثة فقال اضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبريل ان امتي ظاهرة على كلها فأبشروا فقال المنافقون الا تعجبون يمينكم ويعدكم الباطل ويخبركم انه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وانتم انما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا فنزلت انك على كل شيء قدير تعليل لما سبق وتحقيق له ٢٧ تولج الليل في النهار أي تدخله فيه بتعقيبه اياه أو بنقص الأول وزيادة الثاني وتولج النهار في الليل على أحد الوجهين وتخرج الحي من الميت أي تنشئ الحيوانات من موادها أو من النطفة وقيل تخرج المؤمن من الكافر وتخرج الميت من الحي أي تخرج النطفة من الحيوان وقيل تخرج الكافر من المؤمن وترزق من تشاء بغير حساب قال أبو العباس المقري ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه بمعنى التعب قال تعالى وترزق من تشاء بغير حساب وبمعنى العدد قال تعالى انما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب وبمعنى المطالبة قال تعالى فامنن أو أمسك بغير حساب والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل ترزق أو من مفعوله وفيه دلالة على أن من قدر على أمثال هاتيك الأفاعيل العظام المحيرة للعقول والافهام فقدرته على ان ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم اهون من كل هين عن على رضي اللّه عنه أنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ان فاتحة الكتاب وآية الكرسي وآيتين من آل عمران شهد اللّه أنه لا اله الا هو الى قوله تعالى ان الدين عند اللّه الاسلام * وقل اللّهم مالك الملك الى قوله بغير حساب معلقات ما بينهن وبين اللّه تعالى حجاب قلن يا رب تهبطنا الى ارضك والى من يعصيك قال اللّه تعالى اني حلفت انه لا يقرؤكن أحد دبر كل صلاة الا جعلت الجنة مثواه على ما كان منه واسكنته في حظيرة القدس ونظرت اليه بعيني كل يوم سبعين مرة وقضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة واعذته من كل عدو وحاسد ونصرته عليهم وفي بعض الكتب انا اللّه ملك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي فإن العباد أطاعوني جعلتهم لهم رحمة وان العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إلى أعطفهم عليكم وهو معنى قوله عليه السلام كما تكونوا يول عليكم ٢٨ لايتخذ المؤمنون الكافرين أولياء نهوا عن موالاتهم لقرابة أو صداقة جاهلية ونحوهما من أسباب المصادقة والمعاشرة كما في قوله سبحانه يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء وقوله تعالى لاتتخذوا اليهود والنصارى اولياء حتى لا يكون حبهم ولابغضهم إلا للّه تعالى أو عن الاستعانة بهم في الغزو وسائر الأمور الدينية من دون المؤمنين في موضع الحال أي متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالا أو اشتراكا وفيه إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة ومن يفعل ذلك أي اتخاذهم أولياء والتعبير عنه بالفعل للاختصار أو لإيهام الاستهجان بذكره فليس من اللّه أي من ولايته تعالى في شئ يصح أن يطلق عليه اسم الولاية فإن موالاة المتعاديين مما لا يكاد يدخل تحت الوقوع قال ... تود عدوى ثم تزعم أننى ... صديقك ليس النوك عنك بعازب ... والجملة اعتراضية وقوله تعالى إلا أن تتقوا على صيغة الخطاب بطريق الالتفات استثناء مفرغ من أعم الأحوال والعامل فعل النهى معتبرا فيه الخطاب كأنه قيل لا تتخذوهم أولياء ظاهرا أو باطنا في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم منهم أي من جهتهم تقاة أي انقاء أو شيئا يجب اتقاؤه على أن المصدر واقع موقع المفعول فإنه يجوز إظهار الموالاة حينئذ مع اطمئنان النفس بالعدواة والبغضاء وانتظار زوال المانع من قشر العصا وإظهار ما في الضمير كما قال عيسى عليه السلام كن وسطا وامش جانبا وأصل تقاة وقيه ثم أبدلت الواو تاء كتخمة وتهمة وقلبت إلياء ألفا وقرئ تقية ويحذركم اللّه نفسه أي ذاته المقدسة فإن جواز إطلاق لفظ النفس مرادا به الذات عليه سبحانه بلا مشاكلة مما لا كلام فيه عند المتقدمين وقد صرح بعض محققى المتأخرين بعدم الجواز وإن أريد به الذات إلا مشاكلة وفيه من التهديد ما لا يخفى عظمه وذكر النفس للإيذان بأن له عقابا هائلا لا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة وإلى اللّه المصير تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه حتما ٢٩ قل إن تخفوا ما في صدوركم من الضمائر التي من جملتها ولاية الكفرة أو تبدوه فيما بينكم يعلمه اللّه فيؤاخذكم بذلك عند مصيركم إليه وتقديم الإخفاء على الإبداء قد مر سره في تفسير قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه وقوله تعالى يعلم ما يسرون وما يعلنون ويعلم ما في السموات والأرض كلام مستأنف غير معطوف على جواب الشرط وهو من باب إيراد العام بعد الخاص تأكيدا له وتقريرا واللّه على كل شئ قدير فيقدر على عقوبتكم بما لا مزيد عليه إن لم تنتهوا عما نهيتم عنه وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وتهويل الخطب وهو تذييل لما قبله مبين لقوله تعالى ويحذركم اللّه نفسه بأن ذاته المقدسة المتميزة عن سائر الذوات المتصفة بما لا يتصف به شئ منها من العلم الذاتي المتعلق بجميع المعلومات متصفة بالقدرة الذاتية الشاملة لجميع المقدورات بحيث لا يخرج من ملكوته شئ قط ٣٠ يوم تجد كل نفس أي من النفوس المكلفة وما عملت من خير محضرا عندها بأمر اللّه تعالى وفيه من التهويل ما ليس في حاضرا وما عملت من سوء عطف على ما عملت والإحضار معتبر فيه أيضا إلا أنه خص بالذكر في الخير للإشعار بكون الخير مرادا بالذات وكون إحضار الشر من مقتضيات الحكمة التشريعية تود عامل في الظرف والمعنى تود وتتمنى يوم تجد صحائف أعمالها من الخير والشر أو أجزيتها محضرة لو أن بينها وبينه أي بين ذلك اليوم أمدا بعيدا لغاية هولة وفي إسناد الودادة إلى كل نفس سواء كان لها عمل سئ أو لا بل كانت متمحضة في الخير من الدلالة على كمال فظاعة ذلك اليوم وهول مطلعه مالا يخفى اللّهم إنا نعوذ بك من ذلك ويجوز أن يكون انتصاب يوم على المفعولية بإضمار اذكروا وتود أما حال من كل نفس أو استئناف مبنى على السؤال أي اذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير شر محضرا وادة أن بينها وبينه أمدا بعيدا أو كأن سائلا قال حين أمروا بذكر ذلك اليوم فماذا يكون إذ ذاك فقيل تود لو أن بينها الخ أو تجد مقصور على ما عملت من خير وتود خبر ما عملت من سوء ولا تكون ما شرطية لارتفاع تود وقرئ ودت فحينئذ يجوز كونها شرطية لكن الحمل على الخبر أوقع معنى لأنها حكاية حال ماضية وأوفق للقراءة المشهورة ويحذركم اللّه نفسه تكرير لما سبق واعادة له لكن لا للتأكد فقط بل لإفادة ما يفيده قوله عز و جل واللّه رءوف بالعباد من أن تحذيره تعالى من رأفته بهم ورحمته الواسعة أو أن رأفته بهم لا تمنع تحقيق ما حذر هموه من عقابه وأن تحذيره ليس مبنيا على تناسى صفة الرأفة بل هو متحقق مع تحققها أيضا كما في قوله تعالى يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم فالجملة على الأول اعتراض وعلى الثاني حال وتكرير الاسم الجليل لتربية المهابة ٣١ قل إن كنتم تحبون اللّه فاتبعونى المحبة ميل النفس إلى الشئ لكمال أدركته فيه بحيث يحملها على ما يقر بها إليه والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقى ليس إلا للّه عز و جل وأن كل ما يراه كما لا من نفسه أو من غيره فهو من اللّه وباللّه وإلى اللّه لم يكن حبة إلا للّه وفي اللّه وذلك مقتضى إرادة طاعته والرغبة فيما يقربه إليه فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول في عبادته والحرص على مطاوعته يحببكم اللّه أي يرض عنكم ويغفر لكم ذنوبكم أي يكشف الحجب عن قلوبكم بالتجاوز عما فرط منكم فيقربكم من جناب عزة ويبوئكم في جوار قدسة عبر عنه بالمحبة بطريق الاستعارة أو المشاكلة واللّه غفور رحيم أي لمن يتحبب إليه بطاعته ويتقرب إليه باتباع نبيه عليه الصلاة و السلام فهو تذييل مقرر لما قبله مع زيادة وعد الرحمة ووضع الاسم الجليل موضع الضمير للإشعار باستتباع وصف الألوهية للمغفرة والرحمة روى أنها نزلت لما قالت اليهود نحن أبناء اللّه وأحباؤه وقيل نزلت في وفد نجران لما قالوا إنا نعبد المسيح حبا للّه تعالى وقيل في أقوام زعموا على عهده عليه الصلاة و السلام أنهم يحبون اللّه تعالى فأمروا أن يجعلوا لقولهم مصداقا من العمل وروى الضحاك عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن النبى وقف على قريش وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام وقد علقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يا معشر قريش لقد خالفتم ملة إبراهيم وإسمعيل عليهما الصلاة والسلام فقالت قريش إنما نعبدها حبا للّه تعالى ليقربونا إلى اللّه زلفى فقال اللّه تعالى لنبيه عليه الصلاة و السلام قل إن كنتم تحبون اللّه تعالى وتعبدون الأصنام لتقربكم إليه فاتبعونى أي اتبعوا اشريعتى وسنتى يحببكم اللّه فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم ٣٢ قل أطيعوا اللّه والرسول اي في جميع الأوامر والنواهي فيدخل في ذلك الطاعة في اتباعه عليه الصلاة و السلام دخولا أوليا وإيثار الإظهار على الإضمار بطريق الالتفات لتعيين حيثية الإطاعة والإشعار بعلتها فإن الإطاعة المأمور بها إطاعته عليه الصلاة و السلام من حيث أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا من حيث ذاته ولا ريب في أن عنوان الرسالة من موجبات الإطاعة ودواعيها فإن تولوا إما من تمام مقول القول فهى صيغة المضارع المخاطب بحذف إحدى التاءين أي تتولوا وأما كلام متفرع عليه مسوق من جهته تعالى فهى صيغة الماضي الغائب وفي ترك ذكر احتمال الإطاعة كما في قوله تعالى فإن أسلموا تلويح إلى أنه غير محتمل منهم فإن اللّه لا يحب الكافرين نفى المحبة كناية عن بغضه تعالى لهم وسخطه عليهم أي لا يرضى عنهم ولا يثنى عليهم وإيثار الإظهار على الإضمار لتعميم الحكم لكل الكفرة والإشعار بعلته فإن سخطه تعالى عليهم بسبب كفرهم والإيذان بأن التولى عن الطاعة كفر وبأن محبته عز و جل مخصوصة بالمؤمنين ٣٣ أن اللّه اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين لما بين اللّه تعالى أن الدين المرضى عنده هو الإسلام والتوحيد وأن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو للبغى والحسد وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته منوط باتباع الرسول وطاعته شرع في تحقيق رسالته وكونه من أهل بيت النبوة القديمة فبدأ ببيان جلالة أقدار الرسل عليهم الصلاة والسلام كافة وأتبعه ذكر مبدأ أمر عيسى عليه الصلاة و السلام وأمة وكيفية دعوته للناس إلى التوحيد والإسلام تحقيقا للحق وإبطالا لما عليه أهل الكتابين في شأنهما من الإفراط والتفريط ثم بين بطلان محاجتهم في أبراهيم عليه الصلاة و السلام وادعائهم الانتماء إلى ملته ونزة ساحته العلية عما هم عليه من اليهودية والنصرانية ثم نص على أن جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى عبادة اللّه عز و جل وحده وطاعته منزهون عن احتمال الدعوة إلى عبادة أنفسهم أو غيرهم من الملائكة والنبيين وأن أممهم قاطبة مأمورون بالإيمان بمن جاءهم من رسول مصدق لما معهم تحقيقا لوجوب الإيمان برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وكتابه المصدق لما بين يدية من التوراة والإنجيل وتحتم الطاعة له حسبما سيأتى تفصيله وتخصيص آدم عليه الصلاة و السلام بالذكر لأنه أبو البشر ومنشأ النبوة وكذا حال نوح عليه السلام فإنه آدم الثاني وأما ذكر آل إبراهيم فلترغيب المعترفين باصطفائهم في الإيمان بنبوة النبي واستمالتهم نحو الاعتراف باصطفائه بواسطة كونه من زمرتهم مع مامر من التنبيه على كونه عليه الصلاة و السلام عريقا في النبوة من زمرة المصطفين الأخيار وأما ما ذكر آل عمران مع اندراجهم في آل إبراهيم فلإظهار مزيد الاعتناء بتحقيق أمر عيسى عليه الصلاة و السلام لكمال رسوخ الخلاف في شانه فإن نسبة الاصطفاء إلى الأب الأقرب أدل على تحققه في الآل وهو الداعى إلى إضافة الآل إلى إبراهيم دون نوح وآدم عليهم الصلاة والسلام والاصطفاء أخذ ما صفا من الشئ كالاستصفاء مثل به اختياره تعالى إياهم النفوس القدسية وما يليق بها من الملكات الروحانية والكمالات الجسمانية المستتبعة للرسالة في نفس المصطفى كما في كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام أو فيمن يلابسه وينشأ منه كما في مريم وقيل اصطفى آدم عليه الصلاة و السلام بأن خلقه بيده في احسن تقويم وبتعليم الاسماء وإسجاد الملائكة إياه وإسكان الجنة واصطفى نوحا عليه الصلاة و السلام بكونه أول من نسخ الشرائع إذ لم يكن قبل ذلك تزويج المحارم حراما وبإطالة عمره وجعل ذريته هم الباقين واستجابة دعوته في حق الكفرة والمؤمنين وحملة على متن الماء والمراد بآل إبراهيم إسمعيل وإسحق والأنبياء من اولادهما الذين من جملتهم النبي وأما اصطفاء نفسه عليه الصلاة و السلام فمفهوم من اصطفائهم بطريق الأولوية وعدم التصريح به للإيذان بالغنى عنه لكمال شهرة أمره في الخلة وكونه إمام الأنبياء قدوة الرسل عليهم الصلاة والسلام وكون اصطفاء آله بدعوته بقوله ربنا وابعث فيهم رسولا منهم الآية ولذلك قال عليه الصلاة و السلام أنا دعوة أبي إبراهيم وبآل عمرآن عيسى وأمه مريم ابنة عمرآن بن ماثان بن عازار بن أبي بور بن رب بابل بن ساليان بن يوحنا بن يوشيان بن أمون بن منشا بن حزقيا بن أحز بن يوثم بن عزياهو بن يهورام بن يهوشافاط بن أسا بن رحبعم بن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ابن بيشا بن عوفيذ بن بوعز بن سلمون بن نحشون بن عميوذب بن رم بن حصرون بن بارص بن يهوذا بن يعقوب عليه الصلاة و السلام وقيل موسى وهرون عليهما الصلاة والسلام ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه الصلاة و السلام وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة فيكون اصطفاء عيسى عليه الصلاة و السلام حينئذ بالاندارج في آل إبراهيم عليه السلام والأول هو الأظهر بدليل تعقيبه بقصة مريم واصطفاء موسى وهرون عليهما الصلاة والسلام بالأنتظام في سلك آل إبراهيم عليه السلام انتظاما ظاهرا والمراد بالعالمين أهل زمان كل واحد منهم أي اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمانه ٣٤ ذرية نصب على البدلية من الآلين أو على الحالية منهما وقد مر بيان اشتقاقها في قوله تعالى ومن ذريتي وقوله تعالى بعضها من بعض في محل النصب على أنه صفة لذرية أي اصطفى الآلين حال كونهم ذرية متسلسلة متشعبة البعض من البعض في النسب كما ينبئ عنه التعرض لكونه ذرية وقيل بعضها من بعض في الدين فالاستمالة على الوجه الأول تقريبيه وعلى الثاني برهانية واللّه سميع لأقوال العباد عليم بأعمالهم البادية والخافية فيصطفى من بينهم لخدمته من تظهر استقامته قولا وفعلا على نهج قوله تعالى اللّه اعلم حيث يجعل رسالته والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها ٣٥ إذ قالت امرأة عمران في حيز النصب على المفعولية بفعل مقدر على طريقة الاستئناف لتقرير اصطفاء آل عمران وبيان كيفيته أي اذكر لهم وقت قولها و مر مرارا وجه توجيه التذكير الى الاوقات مع أن المقصود تذكير ما وقع فيها من الحوادث وقيل هو منصوب على الظرفية لما قبله أي سميع لقولها المحكى عليم بضميرها المنوى وقيل هو ظرف لمعنى الاصطفاء المدلول عليه باصطفى المذكور كأنه قيل واصطفى آل عمران إذ قالت الخ فكان من عطف الجمل على الجمل دون عطف المفردات على المفردات ليلزم كون اصطفاء الكل في ذلك الوقت وامرأة عمران هي حنة بنت فاقوذا جدة عيسى عليه الصلاة و السلام وكانت لعمران بن يصهر بنت اسهما مريم اكبر من موسى وهرون عليهما الصلاة والسلام فظن ان المراد زوجته وليس بذاك فإن قضية كفالة زكريا عليه الصلاة و السلام قاضية بأنها زوجة عمران بن ماثان لأنه عليه الصلاة و السلام كان معاصرا له وقد تزوج إيشاع أخت حنة أم يحيى علية الصلاة والسلام وأما قوله عليه الصلاة و السلام في شأن يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام هما ابنا خالة فقيل تأويله أن الأخت كثيرا ما تطلق على بنت الأخت وبهذا الاعتبار جعلهما عليهما الصلاة والسلام ابنى خالة وقيل كانت إيشاع أخت حنة من الأم وأخت مريم من الأب على ان عمران نكح أولا أم حنة فولدت له أيشاع ثم نكح حنة بناء على حل نكاح الربائب في شريعتهم فولدت مريم فكانت أيشاع أخت مريم من الأب وخالتها من الأم لأنها أخت حنة من الأم روى أنها كانت عجوزا عاقرا فبينما هي ذات يوم في ظل شجرة أذ رأت طائرا يطعم فرخة خنت إلى الولد وتمنته وقالت اللّهم أن لك على نذر أن رزقتنى ولدا ان أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وكان هذا النذر مشروعا عندهم في الغلمان ثم هلك عمران وهي حامل وحينئذ فقولها رب إني نذرت لك ما في بطنى لا بد من حملة على التكرير لتأكيد نذرها وإخراجه عن صورة التعليق إلى هيئة التنجيز والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاح المربوب مع الإضافة إلى ضميرها لتحريك سلسلة الإجابة ولذلك قيل إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه فليدع اللّه بما يناسبه من أسمائه وصفاته وتأكيدا الجملة لإبراز وفور الرغبة في مضمونها وتقديم الجار والمجرور لكمال الاعتناء به وإنما عبر عن الولد بما لإبهام أمره وقصوره عن درجة العقلاء محررا أي معتقا لخدمة بيت المقدس لايشغله شأن آخر أو مخلصا للعبادة ونصبه على الحالية من الموصول فيه نذرت وقيل من ضميره في الصلة والعامل معنى الاستقرار فإنها في قوة ما استقر في بطنى ولا يخفى أن المراد تقييد فعلها بالتحرير ليحصل به التقرب إليه تعالى لا تقييد مالا دخل لها فيه من الاستقرار في بطنها فتقبل منى أي ما نذرته والتقبل أخذ الشئ على وجه الرضا وهذا في الحقيقة استدعاء للولد إذ لا يتصور القبول بدون تحقق المقبول بل للولد الذكر لعدم قبول الأنثى أنك أنت السميع لجميع المسموعات التى من جملتها تضرعى ودعائي العليم بكل المعلومات التي من زمرتها ما في ضميرى لاغير وهو تعليل لاستدعاء القبول لا من حيث أن كونه تعالى سميعا لدعائها عليما بما في ضميرها مصحح للتقبل في الجملة بل من حيث أن علمه تعالى بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لذلك تفضلا وإحسانا وتأكيد الجملة لعرض قوة يقينها بمضمونها وقصر صفتى السمع والعلم عليه تعالى لعرض اختصاص دعائها به تعالى وانقطاع حبل رجائها عما عداه بالكلية مبالغة في الضراعة والابتهال ٣٦ فلما وضعتها أي ما في بطنها وتأنيث الضمير العائد إليه لما ان المقام يستدعى ظهور أنوثته واعتباره في حيز الشرط إذ عليه يترتب جواب لما أعنى قوله تعالى قالت رب إني وضعتها انثى لا على وضع ولد ما كأنه قيل فلما وضعت بنتا قالت الخ وقيل تأنيثه لأن ما في بطنها كان أنثى في علم اللّه تعالى أو لأنه مؤول بالحبلة أو النفس أو النسمة وأنت خبير بأن اعتبار شئ مما ذكر في حيز الشرط لا يكون مدارا لترتب الجواب عليه وقوله تعالى أنثى حال مؤكدة من الضمير أو بدل منه وتأنيثه للمسارعة إلى عرض ما دهمها من خيبة الرجاء أو لما مر من التأويل بالحبلة أو النسمة فالحال حينئذ مبينة وإنما قالته تحزنا وتحسرا على خيبة رجائها وعكس تقديرها لما كانت ترجو أن تلد ذكرا ولذلك نذرته محررا للسدانة والتأكيد المرد على اعتقادها الباطل واللّه أعلم بما وضعت تعظيم من جهته تعالى لموضوعها وتفخيم لشأنه وتجهيل لها بقدرة أي واللّه أعلم بالشئ الذي وضعته وما علق به من عظائم الأمور وجعله وابنه آية للعالمين وهي غافلة عن ذلك والجملة اعتراضية وقرئ وضعت على خطاب اللّه تعالى لها أي أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب وما أودع اللّه فيه من علو الشان وسمو المقدار وقرئ وضعت على صيغة التكلم مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إظهارا لغاية الإجلال فيكون ذلك منها اعتذارا إلى اللّه تعالى حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته من السدانة أو تسلية لنفسها على معنى لعل اللّه تعالى فيه سرا وحكمة ولعل هذه الأنثى خير من الذكر فوجه الالتفات حينئذ ظاهر وقوله تعالى وليس الذكر كالأنثى اعتراض آخر مبين لما في الأول من تعظيم الموضوع ورفع منزلته واللام في الذكر والنثى للعهد أي ليس الذكر الذي كانت تطلبه وتتخيل فيه كما لا قصاراه ان يكون كواحد من السدانه كالأنثى التي وهبت لها فإن دائرة علمها وأمنيتها لاتكاد تحيط بما فيه من جلائل الأمور هذا على القراءتين الأوليين وأما على التفسير الأخير للقراءة الأخيرة فمعناه وليس الذكر كهذه الأنثى في الفضيلة بل أدنى منها وأما على التفسير الأول لها فمعناه تأكيد الاعتذار ببيان أن الذكر ليس كالأنثى في الفضيلة والمزية وصلاحية خدمة المتعبدات فإنهن بمعزل من ذلك فاللام للجنس وقوله تعالى وإني سميتها مريم عطف على أني وضعتها أنثى وغرضها من عرضها على علام الغيوب التقرب إليه تعالى واستدعاء العصمة لها فإن مريم في لغتهم بمعنى العابدة قال القرطبي معناه خادم الرب وإظهار أنها غير راجعة عن نيتها وإن كان ما وضعته أنثى وأنها ان لم تكن خليقة بسدانة بيت المقدس فلتكن من العابدات فيه وإني أعيذها بك عطف على أني سميتها وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار أي أجيرها بحفظك وقرئ بفتح ياء المتلكم في المواضع التي بعدها همزة مضمومة إلا في موضعين بعهدى اوف آتوني أفرغ وذريتها عطف على الضمير وتقديم الجار والمجرور عليه لإبراز كمال العناية به من الشيطان الرجيم أي المطرود وأصل الرجم الرمي بالحجارة عن النبي صلى اللّه عليه و سلم ما من مولود يولد الا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مسه الا مريم وابنها ومعناه ان الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه الا مريم وابنها فإن اللّه عصمهما ببركة هذه الاستعاذة ٣٧ فتقبلها أي أخذ مريم ورضي بها في النذر مكان الذكر ربها مالكها ومبلغها الى كمالها اللائق وفيه من تشريفها مالا يخفى بقبول حسن قيل الباء زائدة والقبول مصدر مؤكد للفعل السابق بحذف الزوائد أي تقبلها قبولا حسنا وانما عدل عن الظاهر للإيذان بمقارنة التقبل لكمال الرضا وموافقته للعناية الذاتية فإن صيغة التفعل مشعرة بحسب أصل الوضع بالتكلف وكون الفعل على خلاف طبع الفاعل وان كان المراد بها في حقه تعالى ما يترتب عليه من كمال قوة الفعل وكثرته وقيل القبول ما يقبل به الشيء كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلد وهو اختصاصه تعالى اياها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم تقبل قبلها انثى أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة روى أن حنة حين ولدتها لفتها في خرقة وحملتها الى المسجد ووضعتها عند الأحبار ابناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة وقالت لهم دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت امامهم وصاحب قربانهم فإن بني ماثان كانت رءوس بني اسرائيل وملوكهم وقيل لأنهم وجدوا أمرها وأمر عيسى عليه الصلاة و السلام في الكتب الالهية فقال زكريا عليه الصلاة و السلام انا احق بها عندى خالتها فأبو الا القرعة وكانوا سبعة وعشرين فانطلقوا الى نهر فألقوا فيه اقلامهم فطفا قلم زكريا ورسبت اقلامهم فتكفلها وقيل هو مصدر وفيه مضاف مقدر أي فتقبلها بذي قبول أي بأمر ذي قبول حسن وقيل تقبل بمعنى استقبل كتقصى بمعنى استقصى وتعجل بمعنى استعجل أي استقبلها في أول أمرها حين ولدت بقبول حسن وانبتها مجاز عن تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها نباتا حسنا مصدر مؤكد للفعل المذكور بحذف الزوائد وقيل بل لفعل مضمر موافق له تقديره فنبتت نباتا حسنا وكفلها زكريا أي جعله عليه الصلاة و السلام كافلا لها وضامنا لمصالحها قائما بتدبير أمورها لا على طريقة الوحي بل على ما ذكر من التفصيل فإن رغبته عليه الصلاة و السلام في كفالتها وطفو قلمه ورسوب اقلامهم وغير ذلك من الامور الجارية بينهم كلها من آثار قدرته تعالى وقرئ اكفلها وقرئ زكرياء بالنصب والمد وقرئ بتخفيف الفاء وكسرها ورفع زكرياء ممدودا وقرئ وتقبلها ربها وانبتها وكفلها على صيغة الامر في الكل ونصب ربها على الدعاء اى فاقبلها يا ربها وربها تربية حسنة واجعل زكريا كافلا لها فهو تعيين لجهة التربية قيل بنى عليه الصلاة و السلام لها محرابا في المسجد أي غرفة يصعد اليها بسلم وقيل المحراب اشرف المجالس ومقدمها كأنها وضعت في اشرف موضع من بيت المقدس وقيل كانت مساجدهم تسمى المحاريب روى أنه كان لا يدخل عليها الا هو وحده واذا خرج غلق عليها سبعة ابواب كلما دخل عليها زكريا المحراب تقديم الظرف على الفاعل لإظهار كمال العناية بأمرها ونصب المحراب على التوسع وكلمه كلما ظرف على أن ما مصدرية والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت والعائد محذوف والعامل فيها جوابها أي كل زمان دخوله عليها أو كل وقت دخل عليها فيه وجد عندها رزقا أي نوعا منه غير معتاد اذ كان ينزل ذلك من الجنة وكان يجد عندها في الصيف فاكهة الشتاء وفي الشتاء فاكهة الصيف ولم ترضع ثديا قط قال استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا قال زكريا عليه الصلاة و السلام عند مشاهدة هذه الآية فقيل قال يا مريم انى لك هذا أي من اين يجيء لك هذا الذي لا يشبه ارزاق الدنيا والابواب مغلقة دونك وهو دليل على جواز الكرامة للأولياء ومن انكرها جعل هذا ارهاصا وتأسيسا لرسالة عيسى عليه الصلاة و السلام وأما جعله معجزة لزكريا عليه الصلاة و السلام فيأباه اشتباه الامر عليه عليه السلام وانما خاطبها عليه الصلاة و السلام بذلك مع كونها بمعزل من رتبة الخطاب لما علم بما شاهده انها مؤيدة من عند اللّه بالعلم والقدرة قالت استئناف كما قبله كأنه قيل فماذا صنعت مريم وهي صغيرة لا قدرة لها على فهم السؤال ورد الجواب فقيل قالت هو من عند اللّه فلا تعجب ولا تستبعد ان اللّه يرزق من يشاء ان يرزقه بغير حساب أي بغير تقدير لكثرته أو بغير استحقاق تفضلا منه تعالى وهو تعليل لكونه من عند اللّه اما من تمام كلامهما فيكون في محل النصب وأما من كلامه عز و جل فهو مستأنف روى أن فاطمة الزهراء رضي اللّه عنها اهدت الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم رغيفين وبضعة لحم فرجع بها اليها فقال هلمي يا بنية فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما فقال لها اني لك هذا قالت هو من عند اللّه ان اللّه يرزق من يشاء بغير حساب فقال عليه الصلاة و السلام الحمد للّه الذي جعلك شبيهة بسيدة بني اسرائيل ثم جمع عليا والحسن والحسين وجميع اهل بيته رضوان اللّه عليهم أجمعين فأكلوا وشبعوا وبقى الطعام كما هو فأوسعت على جيرانها ٣٨ هنالك كلام مستأنف وقصة مستقلة سيقت في تضاعيف حكاية مريم لما بينهما من قوة الارتباط وشدة الاشتباك مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له حكايتها من بيان اصطفاء آل عمران فإن فضائل بعض الأقرباء أدلة على فضائل الآخرين وهنا ظرف مكان واللام للدلالة على البعد والكاف للخطاب أي في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب أو في ذلك الوقت إذ يستعار هنا وثمة وحيث للزمان دعا زكريا ربه لما رأى كرامة مريم على اللّه ومنزلتها منه تعالى رغب في أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد حنة في النجابة والكرامة على اللّه تعالى وأن كانت عاقرا عجوزا فقد كانت خنة كذلك وقيل لما رأى الفواكة في غير أبانها تنبه لجواز ولادة العجوز العاقر من الشيخ الفاني فأقبل على الدعاء من غير تأخير كما ينبئ عنه تقديم الظرف على الفعل لا على معنى أن ذلك كان هو الموجب للإقبال على الدعاء فقط بل كان جزءا أخيرا أخيرا من العلة التامة التي من جملتها كبر سنة عليه الصلاة و السلام وضعف قواه وخوف مواليه حسبما فصل في سورة مريم قال تفسير للدعاء وبيان لكيفيته لا محل له من الإعراب ر رب هب لي من لدنك كلا الجارين متعلق بهب لاختلاف معنييهما فاللام صلة له ومن لابتداء الغاية مجازا أي أعطنى من محض قدرتك من غير وسط معتاد ذرية طيبة كما وهبتها لحنة ويجوز أن يتعلق من بمحذوف وقع حالا من ذرية أي كائنة من لدنك والذرية النسل تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد ههنا ولد واحد فالتأنيث في الصفة لتأنيث لفظ الموصوف كما في قول من قال ... أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة ذاك الكمال ... وهذا إذا لم يقصد به واحد معين أما إذا قصد به المعين امتنع اعتبار اللفظ نحو طلحة وحمزة فلا يجوز أن يقال جاءت طلحة وذهبت حمزة أنك سميع الدعاء أي مجيبه وهو تعليل لما قبله وتحريك لسلسلة الإجابة ٣٩ فنادته الملائكة كان المنادى جبريل عليه الصلاة و السلام كما تفصح عنه قراءة من قرأ فناداه جبريل والجمع كما في قولهم فلان يركب الخيل ويلبس الثياب وماله غير فرس وثوب قال الزجاج أي أتاه النداء من هذا الجنس الذين هم الملائكة وقيل لما كان جبرائيل عليه الصلاة و السلام رئيسهم عبر عنه باسم الجماعة تعظيما له وقيل الرئيس لا بد له من اتباع فأسند النداء إلى الكل مع كونه صادرا عنه خاصة وقرئ فناداه بالإمالة وهو قائم جملة حالية من مفعول النداء مقرر لما أفاده الفاء من حصول البشارة عقيب الدعاء وقوله تعالى يصلى إما صفة لقائم أو خبر ثان عند من يرى تعدده عند كون الثاني جملة كما في قوله تعالى فإذا هي حية تسعى أو حال أخرى منه علىالقول بتعددها بلا عطف ولا بدلية أو حال من المستكن في قائم وقوله تعالى في المحراب أي في المسجد أو في غرفة مريم متعلق بيصلى أو بقائم على تقدير كون يصلى حالا من ضمير قائم لأن العامل فيه وفي الحال حينئذ شئ واحد فلا يلزم الفصل بالأجنبى كما يلزم على التقادير الباقية ان اللّه يبشرك بيحيى أي بأن اللّه وقرئ بكسر الهمزة على تقدير القول أو إجراء النداء مجراه لكونه نوعا منه وقرئ يبشرك من الإبشار ويبشرك من الثلاثى وأيا ما كان ينبغى أن يكون هذا الكلام إلى آخره محكيا بعبارته عن اللّه عز و جل على منهاج قوله تعالى قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لاتقنطوا من رحمة اللّه الآية كما يلوح به مراجعته عليه الصلاة و السلام في الجواب إليه تعالى بالذات لا بواسطة الملك والعدول عن إسناد التبشير إلى نون العظمة حسبما وقع في سورة مريم للجرى على سنن الكبرياء كما في قول الخلفاء أمير المؤمنين يرسم لك بكذا وللإيذان بأن ما حكى هناك من النداء والتبشير وما يترتب عليه من المحاورة كان كل ذلك بتوسط الملك بطريق الحكاية عنه سبحانه لا بالذات كما هو المتبادر وبهذا يتضح اتحاد المعنى في السورتين الكريمتين فتأمل ويحيى اسم أعجمى وإن جعل عربيا فمنع صرفه للتعريف ووزن الفعل روى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما إنما سمى يحيى لأن اللّه تعالى احيا به عقر أمه وقال قتادة لأنه تعالى أحيا قلبه بالإيمان قال القرطبي كان اسمه في الكتاب الأول حيا ولا بد من تقدير مضاف يعود إليه الحال أي بولادة يحيى فإن التبشير لا يتعلق بالإعيان مصدقا حال مقدرة من يحيى بكلمة من اللّه أي بعيسى عليه الصلاة و السلام وإنما سمى كلمة لأنه وجد بكلمة كن من غير أب فشابه البديعيات التى هي عالم الأمر ومن لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لكلمة أي بكلمة كائنة منه تعالى قيل هو اول من آمن به وصدق بأنه كلمة اللّه وروح منه وقال السدي لقيت أم يحيى أم عيسى فقالت يا مريم أشعرت بحبلى فقالت مريم وأنا أيضا حبلى قالت فإني وجدت ما في بطنى يسجد لما في بطنك فذلك قوله تعالى مصدقا بكلمة الخ وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما أن يحيى كان اكبر من عيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهر وقيل بثلاث سنين وقتل قبل رفع عيسى عليهما الصلاة والسلام بمدة يسيرة وعلى كل تقدير يكون بين ولادة يحيى وبين البشارة بها زمان مديد لما ان مريم ولدت وهي بنت ثلاث عشرة سنة أو بنت عشر سنين وقيل بكلمة من اللّه أي بكتاب اللّه سمى كلمة كما قيل كلمة الحويدرة لقصيدته وسيدا عطف على مصدقا أي رئيسا يسود قومه ويفوقهم في الشرف وكان فائقا للناس قاطبة فإنه لم يلم بخطيئة ولم يهم بمعصية فيا لها من سيادة ما أسناها وحصورا عطف على ما قبله أي مبالغا في حصر النفس وحبسها عن الشهوات مع القدرة روى أنه مر في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال ما للعب خلقت ونبيا عطف على ما قبله مترتب على ما عدد من الخصال الحميدة من الصالحين أي ناشئا منهم لأنه كان من أصلاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو كائنا من جملة المشهورين بالصلاح كما في قوله تعالى وأنه في الاخرة لمن الصالحين والمراد بالصلاح ما فوق الصلاح الذي لا بد منه في منصب النبوة البتة من أقاصي مراتبه وعليه مبنى دعاء سليمان عليه السلام وأدخلنى برحمتك في عبادك الصالحين ٤٠ قال استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قال زكريا عليه الصلاة و السلام حينئذ فقيل قال رب لم يخاطب الملك المنادى له بملابسة أنه المباشر للخطاب وإن كان ذلك بطريق الحكاية عنه تعالى بل جرى على نهج دعائه السابق مبالغة في التضرع والمناجاة وجدا في التبتل إليه تعالى واحترازا عما عسى يوهم خطاب الملك من توهم أن علمه سبحانه بما يصدر عنه يتوقف على توسطه كما يتوقف وقوف البشر على ما يصدر عنه سبحانه على توسطه في عامة الأحوال وإن لم يتوقف عليه في بعضها أنى يكون لي غلام فيه دلالة على أنه قد أخبر بكونه غلاما عند التبشير كما في قوله تعالى إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى وأنى بمعنى كيف أو من أين وكان تامة وأنى واللام متعلقتان بها وتقديم الجار على الفاعل لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر أي كيف أو من أين يحدث لى غلام ويجوز أن تتعلق اللام بمحذوف وقع حالا من غلام إذ لو تأخر لكان صفة له أو ناقصة واسمها ظاهر وخبرها إما أنى واللام متعلقة بمحذوف كما مر أو هو الخبر وأنى منصوب على الظرفية وقد بلغنى الكبر حال من ياء المتكلم أي أدركنى كبر السن وأثر في كقولهم أدركته السن وأخذته السن وفيه دلالة على ان كبر السن من حيث كونه من طلائع الموت طالب للإنسان لا يكاد يتركه قيل كان له تسع وتسعون سنة وقيل اثنتان وتسعون وقيل مائة وعشرون وقيل ستون وقيل خمس وستون وقيل سبعون وقيل خمس وسبعون وقيل خمس وثمانون ولامرأته ثمان وتسعون وامرأتي عاقر أي ذات عقر وهو أيضا حال من ياء لى عند من يجوز تعدد الحال أو من ياء بلغنى أي كيف يكون لي ذلك والحال أني وامرأتي على حالة منافية له كل المنافاة وإنما قاله عليه الصلاة و السلام مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة اللّه تعالى عليه لاسيما بعد مشاهدته عليه الصلاة و السلام للشواهد السالفة استعظاما لقدرة اللّه سبحانه وتعجيبا منها واعتدادا بنعمته عز و جل عليه في ذلك لااستبعادا له وقيل بل كان ذلك للاستبعاد حيث كان بين الدعاء والبشارة ستون سنة وكان قد نسى دعاءه وهو بعيد وقيل كان ذلك استفهاما عن كيفية حدوثه قال استئناف كما سلف كذلك إشارة إلى مصدر يفعل في قوله عز و جل اللّه يفعل ما يشاء أي ما يشاء أن يفعله من تعاجيب الأفاعيل الخارقة للعادات فاللّه مبتدأ ويفعل خبره والكاف في محل النصب على انها في الأصل نعت لمصدر محذوف أي اللّه يفعل ما يشاء أن يفعله فعلا مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذي هو خلق الولد من شيخ فإن وعجوز عاقر فقدم على العامل لإفادة القصر بالنسبة إلى ما هو أدنى من المشار إليه واعتبرت الكاف مقحمة لتأكيد ما أفادة اسم الإشارة من الفخامة وقد مر تحقيقة في تفسير قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا أو على أنها حال من ضمير المصدر المقدر معرفة أي يفعل الفعل كائنا مثل ذلك أو في محل الرفع على أنها خبر والجلالة مبتدأ أي على نحو هذا الشأن البديع شأن اللّه تعالى ويفعل ما يشاء بيان لذلك الشأن المبهم أو كذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وقوله تعالى اللّه يفعل ما يشاء بيان له ٤١ قال رب اجعل لى آية أي علامة تدلنى على تحقق المسئول ووقوع الحبل وإنما سألها لان العلوق أمر خفى لا يوقف عليه فأراد أن يطلعه اللّه تعالى ليتلقى تلك النعمة الجليلة من حين حصولها بالشكر ولا يؤخره إلى أن يظهر ظهورا معتادا ولعل هذا السؤال وقع بعد البشارة بزمان مديد إذ به يظهر ما ذكر من كون التفاوت بين سنى يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهر أو بثلاث سنين لأن ظهور العلامة كان عقيب تعيينها لقوله تعالى في سورة مريم فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم الآية اللّهم إلا أن تكون المجاوبة بين زكريا ومريم في حالة كبرها وقد عدت من جملة من تكلم في الصغر بموجب قولها المحكى والجعل إبداعى واللام متعلقة به والتقديم لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر أو بمحذوف وقع حالا من آية وقيل هو بمعنى التصيير المستدعى لمفعولين اولهما آية وثانيهما لى والتقديم لأنه لا مسوغ لكون آية مبتدأ عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديم الجار فلا يتغير حالهما بعد دخول الناسخ قال آيتك إلا تكلم الناس أي أن لاتقدر على تكليمهم ثلاثة أيام أي متوالية لقوله تعالى في سورة مريم ثلاث ليال سويا مع القدرة على الذكر والتسبيح وإنما جعلت آيته ذلك لتخليص المدة لذكر اللّه تعالى وشكره قضاء لحق النعمة كأنه قيل آية حصول المطلوب ووصول النعمة ان تحبس لسانك إلا عن شكرها وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال إلا رمزا أي إشارة بيد أو رأس أو نحوهما وأصله التحرك يقال ارتمز أي تحرك ومنه قيل للبحر الراموز وهو استثناء منقطع لأن الإشارة ليست من قبيل الكلام أو متصل على أن المراد بالكلام ما فهم منه المرام ولاريب في كون الرمز من ذلك القبيل وقرئ رمزا بفتحتين علىانه جمع رامز كخدم وبضمتين على انه جمع رموز كرسل على انه حال منه ومن الناس معا بمعنى مترامزين كقوله ... متى ما تلقنى فردين ترجف ... روانف أليتيك وتستطارا ... واذكر ربك أي في أيام الحبسة شكرا لحصول التفضل والإنعام كما يؤذن به التعرض لعنوان الربوبية كثيرا أي ذكرا كثيرا أو زمانا كثيرا وسبح أي سبحه تعالى أو أفعل التسبيح بالعشى أي من الزوال إلى الغروب وقيل من العصر إلى ذهاب صدر الليل والإبكار من طلوع الفجر إلى الضحى قيل المراد بالتسبيح الصلاة بدليل تقييده بالوقت كما في قوله تعالى فسبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون وقيل الذكر اللساني كما أن المراد بالذكر الذكر القلبي وقرئ الإبكار بفتح الهمزة على انه جمع بكر كسحر وأسحار ٤٢ وإذ قالت الملائكة شروع في شرح بقية أحكام اصطفاء آل عمران إثر الإشارة إلى نبذ من فضائل بعض أقاربهم أعنى زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام لاستدعاء المقام إياهما حسبما أشير إليه وقرئ بتذكير الفعل والمراد بالملائكة جبريل علية الصلاة والسلام وقد مر ما فيه من الكلام وإذ منصوب بمضمر معطوف على المضمر السابق عطف القصة على القصة وقيل معطوف على الظرف السابق أعنى قوله إذ قالت أمرأة عمران منصوب بناصبة فتدبر أي واذكر أيضا من شواهد اصطفائهم وقت قول الملائكة عليهم الصلاة والسلام يا مريم وتكرير التذكير للإشعار بمزيد الاعتناء بما يحكى من أحكام الاصطفاء والتنبيه على استقلالها وانفرادها عن الاحكام السابقة فإنها من أحكام التربية الجسمانية اللائقة بحال صغر مريم وهذة من باب التربية الروحانية بالتكاليف الشرعية المتعلقة بحال كبرها قيل كلموها شفاها كرامة لها أو ارهاصا لنبوة عيسى عليه الصلاة و السلام لمكان الاجماع على أنه تعالى لم يستنئ امرأة وقيل الهموها ان اللّه اصطفاك أولا حيث تقبلك من أمك بقبول حسن ولم يتقبل غيرك أنثى ورباك في حجر زكريا عليه السلام ورزقك من رزق الجنة وخصك بالكرامات السنية وطهرك أي مما يستقذر من الأحوال والأفعال ومما قذفك به اليهود بإنطاق الطفل واصطفاك آخرا على نساء العالمين بأن وهب لك عيسى عليه الصلاة و السلام من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء وجعلكما آية للعالمين فعلى هذا ينبغي أن يكون تقديم حكاية هذه المقاولة على حكاية بشارتها بعيسى عليه الصلاة و السلام لما مر مرارا من التنبيه على أن كلا منهما مستحق للاستقلال بالتذكير ولو روعى الترتيب الخارجي لتبادر كون الكل شيئا واحدا وقيل المراد بالاصطفاءين واحد والتكرير للتأكيد وتبيين من اصطفاها عليهن فحينئذ لا اشكال في ترتيب النظم الكريم اذ يحمل حينئذ الاصطفاء على ما ذكر أولا وتجعل هذه المقاولة قبل بشارتها بعيسى عليه الصلاة و السلام إيذانا بكونها قبل ذلك متوفرة على الطاعات والعبادات حسبما أمرت بها مجتهدة فيها مقبلة على اللّه تعالى متبتلة اليه تعالى منسلخة عن احكام البشرية مستعدة لفيضان الروح عليها ٤٣ يا مريم تكرير النداء للإيذان بأن المقصود بالخطاب ما يرد بعده وأن ما قبله من تذكير النعم كان تمهيدا لذكره وترغيبا في العمل بموجبه اقنتي لربك أي قومي في الصلاة أو اطيلي القيام فيها له تعالى والتعرض لعنوان ربوبيته تعالى لها للإشعار بعلة وجوب الامتثال بالأمر واسجدي واركعي مع الراكعين أمرت بالصلاة بالجماعة بذكر اركانها مبالغة في ايجاب رعايتها وايذانا بفضيلة كل منها واصالته وتقديم السجود على الركوع اما لكون الترتيب في شريعتهم كذلك وأما لكون السجود افضل اركان الصلاة واقصى مراتب الخضوع ولا يقتضي ذلك كون الترتيب الخارجي كذلك بل اللائق به الترقي من الادنى الى الاعلى وأما ليقترن اركعي بالراكعين للإشعار بأن من لا ركوع في صلاتهم ليسوا مصلين وأما ما قيل من أن الواو لا توجب الترتيب فغايته التصحيح لا الترجيح وتجريد الامر بالركنين الاخيرين عما قيد به الأول لما أن المراد تقييد الأمر بالصلاة بذلك وقد فعل حيث قيد به الركن الأول منها وقيل المراد بالقنوت ادامة الطاعات كما في قوله تعالى أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما وبالسجود الصلاة لما مر من أنه أفضل اركانها وبالركوع الخشوع والاخبات قيل لما أمرت بذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالت دما وقيحا ٤٤ ذلك اشارة الى ما سلف من الامور البديعة وما فيه من معنى البعد للتنبيه على علو شأن المشار اليه وبعد منزلته في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى من أنباء الغيب أي من الأنباء المتعلقة بالغيب والجملة مستأنفة لا محل لها من الاعراب وقوله تعالى نوحيه اليك جملة مستقلة مبينة للأولى وقيل الخبر هو الجملة الثانية ومن أنباء الغيب اما متعلق بنوحيه أو حال من ضميره أي نوحي من أنباء الغيب أو نوحيه حال كونه من جملة أنباء الغيب وصيغة الاستقبال للإيذان بأن الوحي لم ينقطع بعد وما كنت لديهم أي عند الذين اختلفوا وتنازعوا في تربية مريم وهو تقرير وتحقيق لكونه وحيا على طريقة التهكم بمنكريه كما في قوله تعالى وما كنت بجانب الغربي الآية وما كنت ثاويا في أهل مدين الآية فإن طريق معرفة أمثال هاتيك الحوادث والواقعات اما المشاهدة وأما السماع وعدمه محقق عندهم فبقى احتمال المعاينة المستحيلة ضرورة فنفيت تهكما بهم اذ يلقون أقلامهم ظرف للاستقرار العامل في لديهم واقلامهم اقداحهم التي اقترعوا بها وقيل اقترعوا بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة تبركا أيهم يكفل مريم متعلق بمحذوف دل عليه يلقون أقلامهم أي يلقونها ينظرون أو ليعلموا ايهم يكفلها وما كنت لديهم إذ يختصمون أي في شأنها تنافسا في كفالتها حسبما ذكر فيما سبق وتكرير ما كنت لديهم مع تحقق المقصود بعطف إذ يختصمون على إذ يلقون كما في قوله عز و جل نحن اعلم بما يستمعون به إذ يستمعون اليك وإذ هم نجوى للدلالة على أن كل واحد من عدم حضوره عليه الصلاة و السلام عند القاء الاقلام وعدم حضوره عند الاختصام مستقل بالشهادة على نبوته عليه الصلاة و السلام لا سيما اذا أريد باختصامهم تنازعهم قبل الاقتراع فإن تغيير الترتيب في الذكر مؤكد له ٤٥ إذ قالت الملائكة شروع في قصة عيسى عليه الصلاة و السلام وهو بدل من وإذ قالت الملائكة منصوب بناصبه وما بينهما اعتراض جيء به تقريرا لما سبق وتنبيها على استقلاله وكونه حقيقا بأن يعد على حياله من شواهد النبوة وترك العطف بينهما بناء على اتحاد المخاطب وايذانا بتقارن الخطابين أو تقاربهما في الزمان وقيل منصوب بمضمر معطوف على ناصبه وقيل بدل من إذ يختصمون كأنه قيل وما كنت حاضرا في ذلك الزمان المديد الذي وقع في طرف منه الاختصام وفي طرف آخر هذا الخطاب اشعارا بإحاطته عليه الصلاة و السلام بتفاصيل أحوال مريم من أولها الى آخرها والقائل جبريل عليه الصلاة و السلام وايراد صيغة الجمع لما مر يا مريم إن اللّه يبشرك بكلمة منه من لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لكلمة أي بكلمة كائنة منه عز و جل اسمه ذكر الضمير الراجع الى الكلمة لكونها عبارة عن مذكر وهو مبتدأ خبره المسيح وقوله تعالى عيسى بدل منه أو عطف بيان وقيل خبر آخر وقيل خبر مبتدأ محذوف وقيل منصوب بإضمار اعني مدحا وقوله تعالى ابن مريم صفة لعيسى وقيل المراد بالاسم ما به يتميز المسمى عمن سواه فالخبر حينئذ مجموع الثلاثة اذ هو المميز له عليه الصلاة و السلام تمييزا عن جميع من عداه والمسيح لقبه عليه الصلاة و السلام وهو من الألقاب المشرفة كالصديق وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك وعيسى معرب من أيشوع والتصدي لاشتقاقهما من المسح والعيس وتعليله بأنه عليه الصلاة و السلام مسح بالبركة أو بما يطهره من الذنوب أو مسحه جبريل عليهما الصلاة والسلام أو مسح الارض ولم يقم في موضع أو كان عليه الصلاة و السلام يمسح ذا العاهة فيبرأ وبأنه كان في لونه عيس أي بياض يغلوه حمرة من قبيل الرقم على الماء وانما قيل ابن مريم مع كون الخطاب لها تنبيها على أنه يولد من غير أب فلا ينسب الا الى أمه وبذلك فضلت على نساء العالمين وجيها في الدنيا والآخرة الوجيه ذو الجاه وهو القوة والمنعة والشرف وهو حال مقدرة من كلمة فإنها وان كانت نكرة لكنها صالحة لأن ينتصب بها الحال وتذكيرها باعتبار المعنى والوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة ومن المقربين أي من اللّه عز و جل وقيل هو اشارة الى رفعه الى السماء وصحبة الملائكة وهو عطف على الحال الأولى وقد عطف عليه قوله تعالى ٤٦ ويكلم الناس في المهد وكهلا أي يكلمهم حال كونه طفلا وكهلا كلام الأنبياء من غير تفاوت والمهد مصدر سمى به ما يمهد للصبي أي يسوي من مضجعه وقيل انه شاربا رفع والمراد وكهلا بعد نزوله وفي ذكر أحواله المختلفة المتنافية اشارة الى أنه بمعزل من الألوهية ومن الصالحين حال أخرى من كلمة معطوفة على الأحوال السالفة أو من الضمير في يكلم ٤٧ قالت استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا ظقالت مريم حين قالت لها الملائكة ما قالت فقيل قالت متضرعة الى ربها رب اني يكون أي كيف يكون أو من أين يكون لي ولد على وجه الاستبعاد العادي والتعجب واستعظام قدرة اللّه عز و جل وقيل على وجه الاستفهام والاستفسار بأنه بالتزوج أو بغيره ويكون إما تامة وأنى واللام متعلقتان بها وتأخير الفاعل عن الجار والمجرور لما مر من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ويجوز أن تتعلق اللام بمحذوف وقع حالا من ولد إذ لو تاخر لكان صفة له وأما ناقصة واسمها ولد وخبرها إما أنى واللام متعلقة بمضمر وقع حالا كما مر أو خبر وأني نصب على الظرفية وقوله تعالى ولم يمسسنى بشر جملة حالية محققة للاستبعاد أي والحال أنى على حالة منافية للولادة قال اسئناف كما سلف والقائل هو اللّه تعالى أو جبريل عليه الصلاة و السلام كذلك اللّه يخلق ما يشاء الكلام في إعرابه كما مر في قصة زكريا بعينه خلا أن إيراد يخلق ههنا مكان يفعل هناك لما أن ولادة العذراء من غير أن يمسها بشر ابدع وأغرب من ولادة عجوز عاقر من شيخ فان فكان الخلق المنبئ عن الاختراع أنسب بهذا المقام من مطلق الفعل ولذلك عقب ببيان كيفيته فقيل إذا قضى أمرا من الأمور أي أراد شيئا كما في قوله تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا واصل القضاء الإحكام أطلق على الإرادة الإلهية القطعية المتعلقة بوجود الشئ لإيجابها إياه البته وقيل الأمر ومنه قوله تعالى وقضى ربك فإنما يقول له كن لا غير فيكون من غير ريث وهو كما ترى تمثيل لكمال قدرته تعالى وسهولة تأتى المقدورات حسيما تقتضيه مشيئته وتصوير لسرعة حدوثها بما هو علم فيها من طاعة المأمور المطيع للآمر القوى وبيان لأنه تعالى كما يقدر على خلق الأشياء مدرجا بأسباب ومواد معتادة يقدر على خلقها دفعة من غير حاجة إلى شىء من الأسباب والمواد ٤٨ ويعلمه الكتاب أى الكتابه أو جنس الكتب الإلهيه والحكمه أى العلوم وتهذيب الأخلاق والتوراة والإنجيل إفرادهما بالذكر على تقدير كون المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة لزيادة فضلهما وإناقتها على غيرها والجمله عطف على يبشرك أو على وجيها أو على يخلق أو هو كلام مبتدأ سيق تطييبا لقلبها وإزاحة لما أهمها من خوف اللائمه لما علمت أنها تلد من غير زوج وقرىء ونعلمه بالنون ٤٩ ورسولا إلى بني إسرائيل منصوب بمضمر يعود إليه المعنى معطوف على يعلمه أى و يجعله رسولا إلى بني إسرائيل أى كلهم وقال بعض اليهود إنه كان مبعوثا إلى قوم مخصوصين ثم قيل كان رسولا حال الصبا وقيل بعد البلوغ وكان أول أنبياء بنى إسرائيل يوسف عليه الصلاة و السلام وقوله تعالى أنى قد جئتكم معمول لرسولا لما فيه من معنى النطق أى رسولا ناطقا بأنى الخ وقيل منصوب بمضمر معمول لقول مضمر معطوف على من يعلمه أى ويقول أرسلت رسولا بأنى قد جئتكم الخ وقيل معطوف على الآحوال السابقه ولا يقدح فيه كونها فى حكم الغيبه مع كون هذا فى حكم التكلم لما عرفت من أن فيه معنى النطق كأنه قيل حال كونه وجيها ورسولا ناطقا بأنى الخ وقرىء ورسول بالجر عطفا على كلمة والباء في قوله تعالى بآية متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل الفعل على أنها للملابسه والتنوين للتفخيم دون الوحدة لظهور تعددها وكثرتها وقرىء بآيات أو بجئتكم على أنها للتعدية ومن فى قوله تعالى من ربكم لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لآية إى قد جئتكم ملتبسا بآية عظيمة كائنة من ربكم أوأتيتكم بآية عظيمة كائنة منه تعالى والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد إيجاب الإمتثال بما سيأتى من الاوامر و قوله تعالى أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير بدل من قوله تعالى أنى قد جئتكم ومحله النصب على نزع الجار عند سيبويه والفراء والجر على رأى الخليل والكسائى أو بدل من آية وقيل منصوب بفعل مقدر أى أعنى أبى الخ وقيل مرفوع على أنه خبر مبتدأ أى هى أنى أخلق لكم وقرئ بكسر الهمزة على ألاستئناف أى أقدر لكم أى لإجل تحصيل إيمانكم ودفع تكذيبكم إياى من الطين شيئا مثل صورة الطير فأنفخ فيه الضمير للكاف أي في ذلك الشئ المماثل لهيئة الطير وقرئ فأنفخ فيها على أن الضمير للّهيئة المقدرة أي أخلق لكم من الطين هيئة كهيئة الطير فأنفخ فيها فيكون طيرا حيا طيارا كسائر الطيور بإذن اللّه بأمره تعالى أشار عليه الصلاة و السلام بذلك إلى أن إحياءه من اللّه تعالى لا منه قيل لم يخلق غير الخفاش روى انه عليه الصلاة و السلام لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات طالبوه بخلق الخفاش فأخذ طينا وصورة ونفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض قال وهب كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز من خلق اللّه تعالى قيل إنما طلبوا خلق الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا وأبلغ دلالة على القدرة لأن له ثديا وأسنانا وهي تحيض وتطهر وتلد كسائر الحيوان وتضحك كما يضحك الإنسان وتطير بغير ريش ولا تبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل وإنما ترى في ساعتين ساعة بعد الغروب وساعة بعد طلوع الفجر وقيل خلق أنواعا من الطير وأبرئ الأكمة أي الذي ولد أعمى أو الممسوح العين والأبرص المبتلى بالبرص لم تكن العرب تنفر من شئ نفرها منه ويقال له الوضح أيضا وتخصيص هذين الداءين لأنهما مما أعيا الأطباء وكانوا في غاية الحذاقة في زمنه عليه الصلاة و السلام فاراهم اللّه تعالى المعجزة من ذلك الجنس روى انه عليه الصلاة و السلام ربما كان يجتمع عليه ألوف من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى عليه الصلاة و السلام وما يداويه إلا بالدعاء وأحيي الموتى بإذن اللّه كرره مبالغة في دفع وهم من توهم فيه اللاهوتية قال الكلبي كان عليه الصلاة و السلام يحيى الموتى بيا حى يا قيوم أحيا عازر وكان صديقا له فعاش وولد له ومر على ابن عجوز ميت فدعا اللّه تعالى فنزل عن سريره حيا ورجع إلى أهله وبقى وولد له وبنت العاشر أحياها وولدت بعد ذلك فقالوا إنك تحيى من كان قريب العهد من الموت فلعلهم لم يموتوا بل أصابهتهم سكتة فأحى لنا سام بن نوح فقال دلونى على قبره ففعلوا فقام على قبره فدعا اللّه عز و جل فقام من قبره وقد شاب رأسه فقال عليه السلام كيف شبت ولم يكن في زمانكم شيب قال يا روح اللّه لما دعوتنى سمعت صوتا يقول أجب روح اللّه فظننت ان الساعة قد قامت فمن هول ذلك شبت فسأله عن النزع قال يا روح اللّه إن مرارته لم تذهب من حنجرتي وكان بينه وبين موته أكثر من أربعة آلاف سنة وقال للقوم صدقوه فإنه نبي اللّه فآمن به بعضهم وكذبه آخرون فقالوا هذا سحر فأرنا آية فقال يا فلان أكلت كذا ويا فلان خبئ لك كذا وذلك قوله تعالى وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم أي بالمغيبات من احوالكم التي لا تشكون فيها وقرئ تذخرون بالذال والتخفيف إن في ذلك إشارة إلى ما ذكر من الأمور العظام لآية عظيمة وقرئ لآيات لكم دالة على صحة رسالتي دلالة واضحة إن كنتم مؤمنين جواب الشرط محذوف لإنصباب المعنى إليه أو دلالة المذكور عليه أي انتفعتم بها أو إن كنتم ممن يتأتى منهم الإيمان دلتكم على صحة رسالتي والإيمان بها ٥٠ ومصدقا لما بين يدي من التوراة عطف على المضمر الذي تعلق به قوله تعالى بآية أي قد جئتكم ملتبسا بآية الخ ومصدقا لما بين يدي الخ أو على رسولا على الأوجه الثلاثة فإن مصدقا فيه معنى النطق كما في رسولا أي ويجعله مصدقا ناطقا بأني أصدق الخ أو ويقول أرسلت رسولا بأني قد جئتكم الخ ومصدقا الخ أو حال كونه مصدقا ناطقا بأني اصدق الخ أو منصوب بإضمار فعل دل عليه قد جئتكم أي وجئتكم مصدقا الخ وقوله من التوراة إما حال من الموصول والعامل مصدقا وأما من ضميره المستتر في الظرف الواقع صلة والعامل الإستقرار المضمر في الظرف أو نفس الظرف لقيامه مقام الفعل ولأحل لكم معمول لمضمر دل عليه ما قبله أي وجئتكم لأحل الخ وقيل عطف على معنى مصدقا كقولهم جئته معتذرا ولأجتلب رضاه كأنه قيل قد جئتكم لأصدق ولأحل الخ وقيل عطف على بآية أي قد جئتكم بآية من ربكم ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم أي في شريعة موسى عليه الصلاة و السلام من الشحوم والثروب والسمك ولحوم الأبل والعمل في السبت قيل أحل لهم من السمك والطير مالا صئصئة له واختلف في إحلال السبت وقرئ حرم على تسمية الفاعل وهو ما بين يدي أو اللّه عز و جل وقرئ حرم بوزن كرم وهذا يدل على أن شرعه كان ناسخا لبعض أحكام التوراة ولا يخل ذلك بكونه مصدقا لها لما أن النسخ في الحقيقة بيان وتخصيص في الأزمان وتأخير المفعول عن الجار والمجرور لما مر مرارا من المبادرة إلى ذكر ما يسر المخاطبين والتشويق إلى ما أخر وجئتكم بآية من ربكم شاهدة على صحة رسالتي وقرئ بآيات فاتقوا اللّه في عدم قبولها ومخالفة مدلولها وأطيعون فيما أمركم به وأنهاكم عنه بأمر اللّه تعالى وتلك الآية هي قولي ٥١ إن اللّه ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فإنه الحق الصريح الذي أجمع عليه الرسل قاطبة فيكون آية بينة على انه عليه الصلاة و السلام من جملتهم وقرئ ان اللّه بالفتح بدلا من آية أو قد جئتكم بآية على أن اللّه ربي وربكم وقوله فاتقوا اللّه وأطيعون اعتراض والظاهر أنه تكرير لما سبق أي قد جئتكم بآية بعد آية مما ذكرت لكم من خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص والإحياء والإنباء بالخفيات ومن غيره من ولادتي بغير أب ومن كلامي في المهد ومن غير ذلك والأول لتمهيد الحجة والثاني لتقريبها إلى الحكم ولذلك رتب عليه بالفاء قوله فاتقوا اللّه أي لما جئتكم بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة فاتقوا اللّه في المخالفة وأطيعون فيما أدعوكم إليه ومعنى قراءة من فتح ولأن اللّه ربي وربكم فاعبدوه كقوله تعالى لإيلاف قريش الخ ثم شرع في الدعوة واشار إليها بالقول المجمل فقال إن اللّه ربي وربكم إشارة إلى أن استكمال القوة النظرية بالأعتقاد الحق الذي غايته التوحيد وقال فاعبدوه إشارة إلى استكمال القوة العملية فإنه يلازم الطاعة التى هي الإتيان بالأوامر والإنتهاء عن المناهي ثم قرر ذلك بأن بين ان الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالإستقامة ونظيره قوله عليه الصلاة و السلام قل آمنت باللّه ثم استقم ٥٢ فلما أحس عيسى منهم الكفر شروع في بيان مآل أحواله عليه السلام إثر ما أشير إلى طرف منها بطريق النقل عن الملائكة والفاء فصيحة تفصح عن تحقق جميع ما قالته الملائكة وخروجه من القوة إلى الفعل حسبما شرحته كما في قوله تعالى فلما رآه مستقرا عنده بعد قوله تعالى أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك كأنه قيل فحملته فولدته فكان كيت وكيت وقال ذيت وذيت وإنما لم يذكر اكتفاء بحكاية الملائكة وإيذانا بعدم الخلف وثقة بما فصل في المواضع الأخر وأما عدم نظم بقية احواله عليه الصلاة السلام في سلك النقل فإما للإعتناء بأمرها أو لعدم مناسبتها لمقام البشارة لما فيها من ذكر مقاساته عليه الصلاة و السلام للشدائد ومعاناته للمكايد والمراد بالإحساس الإدراك القوي الجاري مجرى المشاهدة وبالكفر اصرارهم عليه وعتوهم ومكابرتهم فيه مع العزيمة على قتله عليه الصلاة و السلام كما ينبئ عنه الإحساس فإنه انما يستعمل في أمثال هذه المواقع عند كون متعلقه أمرا محذورا مكروها كما في قوله عز و جل فلما أحسوا بأسنا إذا هم منا يركضون وكلمة من متعلقة بأحس والضمير المجرور لبني إسرائيل أي ابتدأ الإحساس من جهتهم وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة من الإعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقيل متعلقة بمحذوف وقع حالا من الكفر قال أي لخص لأصحابه لا لجميع بني إسرائيل لقوله تعالى كما قال عيسى ابن مريم للحواريين الآية وقوله تعالى فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ليس بنص في توجيه الخطاب إلى الكل بل يكفى فيه بلوغ الدعوة إليهم من أنصاري الأنصار جمع نصير كأشراف جمع شريف إلى اللّه متعلق بمحذوف وقع حالا من الياء أي من أنصاري متوجها الى اللّه ملتجئا إليه أو بأنصاري متضمنا معنى الإضافة كأنه قيل من الذين يضيفون أنفسهم إلى اللّه عز و جل ينصرونني كما ينصرني وقيل إلى بمعنى في أي في سبيل اللّه وقيل بمعنى اللام وقيل بمعنى مع قال استئناف مبني على سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قيل فماذا قالوا في جوابه عليه الصلاة و السلام فقيل قال الحواريون جمع حواري يقال فلان حواري فلان أي صفوته وخالصته من الحور وهو البياض الخالص ومنه الحواريات للحضريات لخلوص ألوانهن ونقائهن سمي به أصحاب عيسى عليه الصلاة و السلام لخلوص نياتهم ونقاء سرائرهم وقيل لما عليهم من آثار العبادة وأنوارها وقيل كانوا ملوكا يلبسون البيض وذلك أن واحدا من الملوك صنع طعاما وجمع الناس عليه وكان عيسى عليه الصلاة و السلام على قصعة لا يزال يأكل منها ولا تنقص فذكروا ذلك للملك فاستدعاه عليه الصلاة و السلام فقال له من أنت قال عيسى ابن مريم فترك ملكه وتبعه مع أقاربه فأولئك هم الحواريون وقيل كانوا صيادين يصطادون السمك يلبسون الثياب البيض فيهم شمعون ويعقوب ويوحنا فمر بهم عيسى عليه الصلاة و السلام فقال لهم أنتم تصيدون السمك فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناس بالحياة الأبدية قالوا من أنت قال عيسى ابن مريم عبد اللّه ورسوله فطلبوا منه المعجزة وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة فما اصطاد شيئا فأمره عيسى عليه الصلاة و السلام بإلقائها في الماء مرة أخرى ففعل فاجتمع في الشبكة من السمك ما كادت تتمزق واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملئوا السفينتين فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السلام وقيل كانوا اثنى عشر رجلا آمنوا به عليه الصلاة و السلام واتبعوه وكانوا إذا جاعوا قالوا جعنا يا روح اللّه فيضرب بيده الأرض فيخرج منها لكل واحد رغيفان وإذا عطشوا قالوا عطشنا فيضرب بيده الأرض فيخرج منها الماء فيشربون فقالوا من أفضل منا قال عليه الصلاة و السلام أفضل منكم من يعمل بيده وياكل من كسبه فصاروا يغسلون الثياب بالأجرة فسموا حواريين وقيل إن أمه سلمته الى صباغ فأراد الصباغ يوما أن يشتغل ببعض مهماته فقال له عليه الصلاة و السلام ههنا ثياب مختلفة قد جعلت لكل واحد منها علامة معينة فاصبغها بتلك الألوان فغاب فجعل عليه الصلاة و السلام كلها في جب واحد وقال كوني بإذن اللّه كما أريد فرجع الصباغ فسأله فأخبره بما صنع فقال أفسدت على الثياب قال قم فانظر فجعل يخرج ثوبا أحمر وثوبا أخضر وثوبا أصفر الى أن أخرج الجميع على أحسن ما يكون حسبما كان يريد فتعجب منه الحاضرون وآمنوا به عليه الصلاة و السلام وهم الحواريون قال القفال ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثنى عشر من الملوك وبعضهم من صيادي السمك وبعضهم من القصارين وبعضهم من الصباغين والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه الصلاة و السلام وأعوانه والمخلصين في طاعته ومحبته نحن أنصار اللّه أي انصار دينه ورسوله آمنا باللّه استئناف جار مجرى العلة لما قبله فإن الإيمان به تعالى موجب لنصرة دينه والذب عن أوليائه والمحاربة مع أعدائه واشهد بأنا مسلمون مخلصون في الايمان منقادون لما تريد منا من نصرتك طلبوا منه عليه الصلاة و السلام الشهادة بذلك يوم القيامة يوم يشهد الرسل عليهم الصلاة والسلام لأممهم وعليهم إيذانا بأن مرمى غرضهم السعادة الأخروية ٥٣ ربنا آمنا بما أنزلت تضرع الى اللّه عز و جل وعرض لحالهم عليه تعالى بعد عرضها على الرسول مبالغة في اظهار امرهم واتبعنا الرسول أي في كل ما يأتي ويذر من أمور الدين فيدخل فيه الاتباع في النصرة دخولا أوليا فاكتبنا مع الشاهدين أي مع الذين يشهدون بوحدنيتك أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم أو مع أمة محمد عليه الصلاة و السلام فإنهم شهداء على الناس قاطبة وهو حال من مفعول اكتبنا ٥٤ ومكروا أي الذين علم عيسى عليه الصلاة و السلام كفرهم من اليهود بأن وكلوا به من يقتله غيلة ومكر اللّه بأن رفع عيسى عليه الصلاة و السلام وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل والمكر من حيث إنه في الأصل حيلة يجلب بها غيره الى مضرة لا يمكن إسناده اليه سبحانه الا بطريق المشاكلة روى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن ملك بني اسرائيل لما قصد قتله عليه الصلاة و السلام أمره جبريل عليه الصلاة و السلام أن يدخل بيتا فيه روزنة فرفعه جبريل من تلك الروزنة الى السماء فقال الملك لرجل خبيث منهم ادخل عليه فاقتله فدخل البيت فألقى اللّه عز و جل شبهه عليه فخرج يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وقيل إنه عليه الصلاة و السلام جمع الحواريين ليلة وأوصاهم ثم قال ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فنافق أحدهم فقال لهم ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه فألقى اللّه عز و جل عليه شبه عيسى عليه الصلاة و السلام ورفعه إلى السماء فأخذوا المنافق وهو يقول أنا دليلكم فلم يلتفتوا إلى قوله وصلبوه ثم قالوا وجهه يشبه وجه عيسى وبدنه يشبه بدن صاحبنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان صاحبنا فأين عيسى فوقع بينهم قتال عظيم وقيل لما صلب المصلوب جاءت مريم ومعها أمرأة أبرأها اللّه تعالى من الجنون بدعاء عيسى عليه الصلاة و السلام وجعلتا تبكيان على المصلوب فانزل اللّه تعالى عيسى عليه الصلاة و السلام فجاءهما فقال علام تبكيان فقالتا عليك فقال إن اللّه تعالى رفعنى ولم يصبنى إلا خير وإن هذا شئ شبه لهم قال محمد بن إسحق إن اليهود عذبوا الحواريين بعد رفع عيسى عليه الصلاة و السلام ولقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم وكان ملك اليهود من رعيته فقيل له إن رجلا من بنى إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص وفعل وفعل فقال لو علمت ذلك ما خليت بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه الصلاة و السلام فأخبروه فبايعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها ثم غزا بنى إسرائيل وقتل منهم خلقا عظيما ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم ثم جاء بعده ملك آخر يقال له ططيوس وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى عليه الصلاة و السلام بنحو من أربعين سنة فقتل وسبى ولم يترك في مدينة بيت المقدس حجرا على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز قال أهل التواريخ حملت مريم بعيسى عليه الصلاة و السلام وهي بنت ثلاث عشرة سنة وولدته ببيت لحم من أرض أورشليم لمضى خمس وستين سنة من غلبة ألإسكندر على أرض بابل وأوحى أللّه تعالى إليه على رأس ثلاثين سنة ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وعاشت أمه بعد رفعه ست سنين واللّه خير الماكرين أقواهم مكرا وأنفذهم كيدا وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب وإظهار الجلالة في موقع الإضمار لتربية المهابة والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ٥٥ إذ قال اللّه ظرف لمكر اللّه أو لمضمر نحو وقع ذلك يا عيسى إني متوفيك أي مستوفي أجلك ومؤخرك إلى أجلك المسمى عاصما لك من قتلهم أو قابضك من الأرض من توفيت مالي أومتوفيك نائما إذ روى أنه رفع وهو نائم وقيل مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن أو مميتك من الشهوات العائقة عن العروج الى عالم الملكوت وقيل أماته اللّه تعالى سبع ساعات ثم رفعه الى السماء وإليه ذهبت النصارى قال القرطبي والصحيح أن اللّه تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم كما قال الحسن وابن زيد وهو اختيار الطبري وهو الصحيح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما وأصل القصة أن اليهود لما عزموا على قتله عليه الصلاة و السلام اجتمع الحواريون وهم إثنا عشر رجلا في غرفة فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر بهم إبليس جميع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة فقال المسيح للحواريين أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة فقال واحد منهم أنا يا نبي اللّه فألقى عليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازة وألقى عليه شبه عيسى عليه الصلاة و السلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه وأما عيسى عليه الصلاة و السلام فكساه اللّه الريش والنور وألبسه النور وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب وذلك قوله تعالى إني متوفيك فطار مع الملائكة ثم إن أصحابه حين رأوا ذلك تفرقوا ثلاث فرق فقالت فرقة كان اللّه فينا ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية وقالت فرقة أخرى كان فينا ابن اللّه ما شاء اللّه ثم رفعه اللّه إليه وهم النسطورية وقالت فرقة أخرى منهم كان فينا عبد اللّه ورسوله ما شاء اللّه ثم رفعه اللّه إليه وهؤلاء هم المسلمون فتظاهرت عليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم فلم يزل الإسلام منطمسا إلى أن بعث اللّه تعالى محمدا ورافعك إلى أي إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي ومطهرك من الذين كفروا أي من سوء جوارهم وخبث صحبتهم ودنس معاشرتهم وجاعل الذين اتبعوك قال قتادة والربيع والشعبي ومقاتل والكلبي هم أهل الإسلام الذين صدقوه واتبعوا دينه من أمة محمد دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من النصارى فوق الذين كفروا وهم الذين مكروا به عليه الصلاة و السلام ومن يسير بسيرتهم من اليهود فإن أهل الإسلام فوقهم ظاهرين بالعزة والمنعة والحجة وقيل هم الحواريون فينبغى أن تحمل فوقيتهم على فوقية المسلمين بحكم الأتحاد في الإسلام والتوحيد وقيل هم الروم وقيل هم النصارى فالمراد بالأتباع مجرد الإدعاء والمحبة وإلا فأولئك الكفرة بمعزل من اتباعه عليه الصلاة و السلام إلى يوم القيامة غاية للجعل أو للأستقرار المقدر في الظرف لا على معنى ان الجعل أو الفوقية تنتهي حينئذ ويتخلص الكفرة من الذلة بل على معنى ان المسلمين يعلونهم إلى تلك الغاية فأما بعدها فيفعل اللّه تعالى بهم ما يريد ثم إلي مرجعكم أي رجوعكم بالبعث وثم للتراخي وتقديم الجار والمجرور للقصر المفيد لتأكيد الوعد والوعيد والضمير لعيسى عليه الصلاة و السلام وغيره من المتبعين له والكافرين به على تغليب المخاطب على الغائب في ضمن الألتفات فإنه أبلغ في التبشير والإنذار فأحكم بينكم يومئذ إثر رجوعكم إلي فيما كنتم فيه تختلفون من أمور الذين وفيه متعلق بتختلفون وتقديمه عليه لرعاية الفواصل ٥٦ فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا تفسير للحكم الواقع بين الفريقين وتفصيل لكيفيته والبداية ببيان حال الكفرة لما أن مساق الكلام لتهديدهم وزجرهم عما هم عليه من الكفر والعناد وقوله تعالى في الذنيا والآخرة متعلق بأعذبهم لا بمعنى إيقاع كل واحد من التعذيب في الدنيا والتعذيب في الآخرة وإحداثهما يوم القيامة بل بمعنى إتمام مجموعهما يومئذ وقيل أن المرجع أعم من الدنيوي والأخروي وقوله تعالى إلى يوم القيامة غاية للفوقية لا للجعل والرجوع متراخ عن الجعل وهو غير محدود لا عن الفوقية المحدودة على نهج قولك سأعيرك سكنى هذا البيت شهرا ثم أخلع عليك خلعة فيلزم تأخر الخلع عن الإعارة لا عن الشهر وما لهم من ناصرين يخلصونهم من عذاب اللّه تعالى في الدارين وصيغة الجمع لمقابلة ضمير الجمع أي ليس لواحد منهم ناصر واحد ٥٧ وأما الذين آمنوا بما أرسلت به وعملوا الصالحات كما هو ديدن المؤمنين فيو فيهم أجورهم أي يعطيهم إياها كاملة ولعلالألتفات إلى الغيبة للإيذان بما بين مصدري التعذيب و الإثابة من الأختلاف من حيث الجلال والجمال وقرئ فنو فيهم جريا على سنن العظمة والكبرياء واللّه لا يحب الظالمين أي يبغضهم فإن هذه الكناية فاشية في جميع اللغات جارية مجرى الحقيقة وإيراد الضلم للإشعار بأنهم بكفرهم متعدون متجاوزون على الحدود واضعون للكفر مكان الشكر والإيمان والجملة تذييل لما قبله مقرر لمضمونه ٥٨ ذلك إشارة إلى ما سلف من نبأ عيسى عليه الصلاة و السلام وما فيه من معنى البعد للدلالة على عظم شأن المشار إليه وبعد منزلته في الشرف وعلى كونه في ظهور الامر ونباهة الشأن بمنزلة المشاهد المعاين وهو مبتدأ و قوله عز و جل نتلوه خبره وقوله تعالى عليك متعلق بنتلوه وقوله تعالى من الآيات حال من الضمير المنصوب أو خبر بعد خبر أو هو الخبر وما بينهما حال من أسم الأشارة أو ذلك خبر لمبتدأ مضمر أي الأمر ذلك ونتلوه حال كما مر وصيغة الاستقبال إما لا ستحضار الصورة أو على معناها إذ التلاوة لم تتم بعد والذكر الحكيم أي المشتمل على الحكم أو المحكم الممنوع من تطرق الخلل إليه والمراد به القرآن فمن تبعيضيه أو بعض مخصوص منه فمن بيانيه وقيل هو اللوح المحفوظ فمن أبتدائية ٥٩ إن مثل عيسى أي شأنه البديع المنتظم لغرابته في سلك الأمثال عند اللّه أي في تقديره وحكمه كمثل آدم أي كحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب ولا ينازع فيها منازع خلقه من تراب تفسير لما أبهم في المثل وتفصيل لما أجمل فيه وتوضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما وحسم لمادة شبه الخصوم فإن إنكار خلق عيسى عليه الصلاة و السلام بلا أب من أعترف بخلق آدم عليه الصلاة و السلام بغير أب وأم مما لا يكاد يصح والمعنى خلق قالبه من تراب ثم قال له كن أي أنشأه بشرا كما في قوله تعالى ثم أنشأناه خلقا آخر أو قدر تكوينه من التراب ثم كونه و يجوز كون ثم لتراخي الإخبار لا لتراخي المخبر به فيكون حكاية حال ماضيه روى أن وفد نجران قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مالك تشتم صاحبنا قال وما اقول قالوا تقول إنه عبد قال أجل هو عبد اللّه و رسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول فغضبوا وقالوا هل رأيت أنسانا من غير أب فحيث سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو اللّه فقال عليه الصلاة و السلام إن آدم عليه الصلاة و السلام ما كان له أب ولا أم ولم يلزم من ذلك كونه أبنا للّه سبحانه وتعالى فكذا حال عيسى عليه الصلاة و السلام ٦٠ الحق من ربك خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق أي ما قصصنا عليك من نبأ عيسى من عليه الصلاة و السلام وامه والظرف إما حال أي كائنا من ربك أو خبر ثان أي كائن منه تعالى وقيل هما مبتدأ وخبر أي الحق المذكور من اللّه تعالى والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطب لتشريفه عليه الصلاة و السلام والإيذان بأن تنزيل هذه الآيات الحقة الناطقة بكنه الأمر تربية له عليه الصلاة و السلام ولطف به فلا تكن من الممترين في ذلك والخطاب إما للنبي على طريقة الألهاب و التهييج لزيادة التثبيت والأشعار بأن الأمتراء في المحذورية بحيث ينبغي أن ينهى عنه من لا يكاد يمكن صدوره عنه فكيف بمن هو بصدد الامتراء وأما لكل من له صلاحية الخطاب ٦١ فمن حاجك أي من النصارى إذ هم المتصدون للمحاجة فيه أي في شأن عيسى عليه السلام وامه زعما منهم أنه ليس على الشأن المحكى من بعد ما جاءك من العلم أي ما يوجبه إيجابا قطعيا من الآيات البينات وسعوا ذلك منك فلم يرعودا عما هم عليه من الغى والضلال فقل لهم تعالوا أي هلموا بالرأي والعزيمة ندع أبناءنا وأبناءكم أكتفى بهم عن ذكر البنات لظهور كونهم اعز منهن وأما النساء فتعلقهن من جهة أخرى ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم أي ليدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة ويحملهم عليها وتقديمهم على النفس في إثناء المباهلة التي هي من باب المهالك ومضان التلف مع أن الرجل يخاطر لهم بنفسه ويحارب دونهم للإيذان بكمال أمنه عليه الصلاة و السلام وتمام ثقته بأمره وقوة يقينه بأنه لن يصيبهم في ذلك شائبة مكروه اصلا وهو السر في تقديم جانبه عليه السلام على جانب المخاطبين في كل من المقدم والمؤخر مع رعاية الأصل في الصيغة فإن غير المتكلم تبع ثم نبتهل أي نتباهل بأن نلعن الكاذب منا والبهلة بالضم والفتح اللعنة وأصلها الترك له في الإسناد من قولهم بهلت الناقة أي تركتها بلاصرار فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين عطف على نبتهل مبين لمعناه روى أنهم لما دعوا إلى المباهلة قالوا حتى نرجع وننظر فلما تخالوا قالوا اللعاقب وكان ذار إيهم يا عبد المسيح ما ترى فقال واللّه لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم واللّه ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكن فإن أبيتم إلا ألف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وقد غدا محتضنا الحسين أخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلى خلفها رضي اللّه عنهم أجمعين وهو يقول إذا أنا دعوت فأمنوا فقال أسقف نجران يا معشر النصارى إني لأري وجوها لو سألوا اللّه تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يقي على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة فقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك ونثبت على ديننا قال فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين فأبوا قال عليه الصلاة و السلام فإني أناجزكم فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ألفا في صفر وألفا في رجب وثلاثين درعا عادية من حديد فصالحهم على ذلك وقال و الذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لا عنوا لمسخوا قردة وخنازير ولا ضطرم عليهم الوادي نارا ولا ستأصل اللّه نجران وأهله حتى الطير على رءوس الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا ٦٢ إن هذا أي ما قص من نبأ عيسى وأمه عليهما السلام لهو القصص الحق دون ما عداه من أكاذيب النصارى فهو ضمير الفصل دخلته اللام لكونه أقرب إلى المبتدأ من الخبر وأصلها أن تدخل المبتدأ وقرىء لهو بسكون الهاء والقصص خبر إن والحق صفته أو هو مبتدا والقصص خبره والجملة خبر لإن وما من إله إلى اللّه صرح فيه بمن الأستغراقية تأكيد للرد على النصارى في تثليثهم وان اللّه لهو العزيز القادر على جميع المقدورات الحكيم المحيط بالمعلومات لا أحد يشاركه في القدرة والحكمة ليشاركه في الألوهية ٦٣ فإن تولوا عن التوحيد وقبول الحق الذي قص عليك بعد ما عاينوا تلك الحجج المنيرة والبراهين الساطعة فإن اللّه عليم بالمفسدين أي بهم وإنما وضع موضعه ما وضع للإيذان بان الإعراض عن التوحيد والحق الذي لا محيد عنه بعدما قامت به الحجج إفساد للعالم وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفي ٦٤ قل يا أهل الكتاب أمر بخطاب أهل الكتابين وقيل بخطاب وفد نجران وقيل بخطاب يهود المدينة تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم لا يختلف فيها الرسل والكتب وهي أن لا نعبد إلا اللّه أي نوحده بالعبادة ونخلص فيها ولا نشرك به شيئا ولا نجعل غيره شريكا له في إستحقاق العبادة ولا نراه أهلا لأن يعبد ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه بأن نقول عزير إبن اللّه والمسيح إبن اللّه ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلا منهم بعضنا بشر مثلنا روى انه لما نزلت إتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه قال عدي بن حاتم ما كنا نعبدهم يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال عليه السلام أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم قال نعم قال عليه السلام هو ذاك فإن تولوا عما دعوتوهم إليه من التوحيد وترك الإشراك فقولوا أي قل لهم أنت والمؤمنون إشهدوا بأنا مسلمون أي لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم أو إعترفوا بأنكم كافرون بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل عليهم السلام تنبيه إنظر إلى ما روعى في هذه القصة من المبالغة في الإرشاد وحسن التدرج في المحاجة حيث بين أولا أحوال عيسى عليه السلام وما توارد عليه من الأطوار المنافية للإلهية ثم ذكر كيفية دعوته للناس إلى التوحيد وألإسلام فلما ظهر عنادهم دعوا إلىالمباهلة بنوع من الإعجاز ثم لما أعرضوا عنها وإنقادوا بعض الإنقياد دعوا إلى ما اتفق عليه عيسى عليه السلام والإنجيل وسائر الأنبياء عليهم السلام والكتب ثم لما ظهر عدم إجدائه أيضا أمر بأن يقال لهم إشهدوا بأنا مسلمون يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى لم تحاجون في إبراهيم أي في ملته وشريعته تنازعت اليهود والنصارى في إبراهيم عليه السلام وزعم كل منهم أنه عليه السلام منهم وترافعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنزلت والمعنى لم تدعون أنه عليه السلام كان منكم وما انزلت التوراة على موسى عليه الصلاة و السلام والإنجيل على عيسى عليه الصلاة و السلام إلا من بعده حيث كان بينه وبين موسى عليهما السلام ألف سنة وبين موسى وعيسى عليهما السلام ألفا سنة فكيف يمكن أن يتفوه به عاقل أفلا تعقلون أي ألا تتفكرون فلا تعقلون بطلان مذهبكم أو أتقولون ذلك فلا تعقلون بطلانه ٦٦ هأنتم هؤلاء جملة من مبتدأ وخبر صدرت بحرف التنبيه ثم بينت بجملة مستانفة إشعارا بكمال غفلتهم أي أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى حيث حاججتم فيما لكم به علم في الجملة حيث وجدتموه في التوراة والإنجيل فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم أصل إذ لاذكر لدين إبراهيم في أحد الكتابين قطعا وقيل هؤلاء بمعنى الذي وحاججتم صلته وقيل هأنتم اصله أأنتم على على الإستفهام للتعجب قلبت الهمزة هاء واللّه يعلم ما حاججتم فيه أو كل شيء فيدخل فيه ذلك دخولا أوليا وانتم لا تعلمون أي محل النزاع أو شيئا من الأشياء التي من جملتها ذلك ٦٧ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا تصريح بما نطق به البرهان المقرر ولكن كان حنيفا أي مائلا عن العقائد الزائغة كلها مسلما أي منقادا للّه تعالى وليس المراد انه كان على ملة الإسلام وإلا لإشترك الإلزام وما كان من المشركين تعريض بأنهم مشركون بقولهم عزير ابن اللّه والمسيح ابن اللّه ورد لإدعاء المشركين أنهم على ملة إبراهيم عليه الصلاة و السلام ٦٨ إن أولى الناس بإبراهيم أي أقربهم إليه وأخصهم به للذين أتبعوه أي في زمانه وهذا النبي والذين آمنوا لموافقتهم له في أكثر ما شرع لهم على الأصالة وقرئ والنبي بالنصب عطفا على الضمير في اتبعوه وبالجر عطفا على إبراهيم واللّه ولي المؤمنين ينصرهم ويجازيهم الحسنى بإيمانهم وتخصيص المؤمنين بالذكر ليثبت الحكم في النبي بدلالة النص ٦٩ ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم نزلت في اليهود حين دعوا حذيفة وعمارا ومعادا إلى اليهودية ولو بمعنى أن وما يضلون إلا أنفسهم جملة حالية جيء بها للدلالة على كمال رسوخ المخاطبين وثباتهم على ما هم عليه من الدين القويم أي وما يتخطاهم الإضلال ولا يعود وباله إلا إليهم لما أنه يضاعف به عذابهم وقيل وما يضلون إلا أمثالهم ويأباه قوله تعالى وما يشعرون أي باختصاص وباله وضرره بهم ٧٠ يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات اللّه أي بما نطقت به التوراة والإنجيل ودلت على نبوة محمد وأنتم تشهدون أي والحال أنكم تشهدون أنها آيات اللّه أو بالقرآن وأنتم تشهدون نعته في الكتابين أو تعلمون بالمعجزات انه حق ٧١ يأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل بتحريفكم وإبراز الباطل في صورته أو بالتقصير في التمييز بينهما وقرئ تلبسون بالتشديد وتلبسون نفتح الباء أي تلبسون الحق مع الباطل كما في قوله عليه السلام كلابس ثوبي زور وتكتمون الحق أي نبوة محمد ونعته وانتم تعلمون أي حقيته ٧٢ وقالت طائفة من اهل الكتاب وهم رؤساؤهم ومفسدون لأعقابهم آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا أي أظهروا الإيمان بالقرآن المنزل عليهم وجه النهار أي اوله وأكفروا أي أظهروا ما انتم عليه من الكفر به آخره مرائين لهم إنكم آمنتم به بادئ الرأي من غير تأمل ثم تأملتم فيه فوقفتم على خلل رأيكم الأول فرجعتم عنه لعلهم أي المؤمنين يرجعون عما هم عليه من الإيمان به كما رجعتم والمراد بالطائفة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف قالا لأصحابهما لما حولت القبلة آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم صلوا إلى الصخرة آخره لعلهم يقولون هم أعلم منا وقد رجعوا فيرجعون وقيل هم إثنا عشر رجلا من أحبار خيبر تقاولوا بأن يدخلوا في الإسلام أول النهار ويقولوا آخره نظرنا في كتابنا وشاورنا علماءنا فلم نجد محمدا بالنعت الذي ورد في التوراة لعل أصحابه يشكون فيه ولا تؤمنوا أي لا تقروا بتصديق قلبي إلا لمن تبع دينكم أي لأهل دينكم أولا تظهروا إيمانكم وجه النهار إلا لمن كان على دينكم من قبل فإن رجوعهم أرجى وأهم قل إن الهدى هدى اللّه يهدي به من يشاء إلى الإيمان ويثبته عليه أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم متعلق بمحذوف أي دبرتم ذلك وقلتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو بلا تؤمنوا أي ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى احد مثل ما أوتيتم إلا لأشياعكم ولا تفشوه إلى المسلمين لئلا يزيد ثباتهم ولا إلى المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام وقوله تعالى قل إن الهدى هدى اللّه أعتراض مفيد لكون كيدهم غير مجد لطائل أو خبر إن على أن هدى اللّه بدل من الهدى وقرئ أأن يؤتي على الأستفهام التقريعي وهو مؤيد للوجه الأول أي ألأن يؤتي أحد الخ دبرتم وقرئ أن على أنها نافية فيكون من كلام الطائفة أي ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقولوا لهم ما يؤتي أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم عطف على أن يؤتي على الوجهين الأولين وعلى الثالث معناه حتى يحاجوكم عند ربكم فيدحضوا حجتكم والواو ضمير أحد لأنه في معنى الجمع إذ المراد به غير أتباعهم قل إن الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء واللّه واسع عليم رد لهم وإبطال لما زعموه بالحجة الباهرة ٧٤ يختص بحرمته أي يجعل رحمته مقصورة على من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم كلاهما تذييل لما قبله مقرر لمضمونه ٧٥ ومن أهل الكتاب شروع في بيان خيانتهم في المال بعد بيان خيانتهم في الدين والجار والمجرور في محل الرفع على الأبتداء حسبما مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى ومن الناس من يقول الخ خبره قوله تعالى من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك على ان المقصود بيان أتصافهم بمضمون الجملة الشرطية لا كونهم ذوات المذكورين كأنه قيل بعض أهل الكتاب بحيث إن تأمنه بقنطار أي بمال كثير يؤده إليك كعبد اللّه بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتي أو قية ذهبا فأداه إليه ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك كفنحاص بن عازوراء أستودعه قرشي آخر دينارا فجحده وقيل المأمونون على الكثير النصارى إذ الغالب فيهم الأمانة والخائنون في القليل اليهود إذ الغالب فيهم الخيانة إلا ما دمت عليه قائما أستثناء مفرغ من أعم الأحوال أو الأوقات أي لا يؤده إليك في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا في حال دوام قيامك أو في وقت دوام قيامك على رأسه مبالغا في مطالبته بالتقاضي وإقامة البينة ذلك إشارة إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله تعالى لا يؤده وما فيه من معنى البعد للإيذان بكمال غلوهم في الشر والفساد بأنهم أي بسبب انهم قالوا ليس علينا بالأميين اى في شأن من ليس من اهل الكتاب سبيل اى عتاب ومؤاخذة ويقولون على اللّه الكذب بأدعائهم ذلك وهم يعلمون أنهم كاذبون مفترون على اللّه تعالى وذلك لأنه أستحلوا أظلم من خالفهم وقالوا لم يجعل في التوراة في حقهم حرمة وقيل عامل اليهود رجالا من قريش فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا سقط حقكم حيث تركتم دينكم وزعموا أنه كذلك في كتابهم وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال عند نزولها كذب أعداء اللّه ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤاده إلى البر والفاجر بلى إثبات لما نفوه أي بلى عليهم فيهم سبيل وقوله تعالى ومن أوفى بعهده وأتقى فإن اللّه يحب المتقين أستئناف مقرر للجمله التي سد بلى مسدها والضمير المجرور لمن أو للّه تعالى وعموم المتقين نائب مناب الراجع من الجزاء إلى من ومشعر بأن التقوى ملاك الأمر عام للوفاء وغيره من أداء الواجبات والأجتناب عن المناهي ٧٧ إن الذين يشترون أي يستبدلون ويأخذون بعهد اللّه أي بدل ما عاهدوا عليه من الإيمان بالرسول والوفاء بالأمانات وأيمانهم وبما حلفوا به من قولهم واللّه لنؤمنن به ولننصرنه ثمنا قليلا هو حطام الدنيا أولئك الموصوفون بتلك الصفات القبيحة لا خلاق لا نصيب لهم في الآخرة من نعيمها ولا يكلمهم اللّه أي بما يسرهم أو بشيء أصلا وإنما يقع ما يقع من السؤال والتوبيخ والتقريع في أثناء الحساب من الملائكة عليهم السلام أولا ينتفعون بكلمات اللّه تعالى وآياته والظاهر أنه كناية عن شدة غضبه وسخطه نعوذ باللّه من ذلك لقوله تعالى ولا ينظر إليهم يوم القيامة فإنه مجاز عن الأستهانة بهم والسخط عليهم متفرع على الكناية في حق من يجوز عليه النظر لأن من أعتد بالإنسان ألتفت إليه وأعاره نظر عينيه ثم كثر حتى صار عبارة عن الأعتداد والإحسان وإن لم يكن ثمة نظر ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرد المعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر ويوم القيامة متعلق بالفعلين وفيه تهويل للوعيد ولا يزكيهم أي لا يثني عليهم أو لا يطهرهم من أوضار الاوزار ولهم عذاب أليم على ما فعلوه من المعاصي قيل أنها نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب حرفوا التوراة وبدلوا نعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم واخذوا الرشوة على ذلك وقيل نزلت في الاشعث بن قيس حيث كان بينه وبين رجل نزاع في بئر فاختصما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال له شاهداك أو يمينه فقال الأشعث أذن يحلف ولا يبالي فقال من حلف على يمين يستحق بها ما لا هو فيها فاجر لقي اللّه وهو عليه غضبان وقيل في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يكن أشتراها به ٧٨ وإن منهم أي من اليهود المحرفين لفريقا ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأضرابهما يلوون ألسنتهم بالكتاب أي يفنلونها بقراءته فيميلونها عن المنزل إلى المحرف أو يعطفونها بشبه الكتاب وقرئ يلوون بالتشديد ويلون بقلب الواو المضمومة همزة ثم تخفيفها بحذفها و إلقاء حركتها على ما قبلها من الساكن لتحسبوه أي المحرف المدلول عليه بقوله تعالى يلوون الخ وقرئ بالياء والضمير للمسلمين من الكتاب أي من جملته وقوله تعالى وما هو من الكتاب حال من الضمير المنصوب أي و الحال أنه ليس منه في نفس الأمر وفي أعتقادهم إيضا ويقولون مع ما ذكر من اللي والتحريف على طريقة التصريح لا بالتورية والتعريض هو أي المحرف من عند اللّه أي منزل من عند اللّه وما هو من عند اللّه حال من ضمير المبتدأ في الخبر أي والحال انه ليس من عنده تعالى في اعتقادهم ايضا وفيه من المبالغة في تشنيعهم وتقبيح أمرهم وكمال جراءتهم ما لا يخفى وإظهار الاسم الجليل والكتاب في محل الاضمار لتهويل ما أقدموا عليه من القول ويقولون على اللّه الكذب وهم يعلمون انهم كاذبون ومفترون على اللّه تعالى وهو تأكيد وتسجيل عليهم بالكذب على اللّه والتعمد فيه وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف وغيروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ص - ثم اخذت قريظة ما كتبوا فخلطوه بالكتاب الذي عندهم ٧٩ ما كان لبشر بيان لافترائهم على الانبياء عليهم السلام حيث قال نصارى نجران إن عيسى عليه السلام أمرنا أن نتخذه ربا حاشاه عليه السلام وإبطال له إثر بيان افترائهم على اللّه سبحانه وإبطاله أي ما صح وما استقام لأحد وإنما قيل لبشر إشعارا بعلة الحكم فإن البشرية منافية للأمر الذي اسنده الكفرة إليهم أن يؤتيه اللّه الكتاب الناطق بالحق الآمر بالتوحيد الناهي عن الإشراك والحكم الفهم والعلم أو الحكمة وهي السنة والنبوة ثم يقول ذلك البشر بعدما شرفه اللّه عز و جل بما ذكر من التشريفات وعرفه الحق وأطلعه على شئونه العالية للناس كونوا عبادا لي الجار متعلق بمحذوف هو صفة عبادا اي عبادا كائنين من دون اللّه متعلق بلفظ عبادا لما فيه من معنى الفعل أو صفة ثانية له ويحتمل الحالية لتخصيص النكرة بالوصف أي متجاوزين اللّه تعالى سواء كان ذلك استقلالا أو اشتراكا فإن التجاوز متحقق فيهما حتما قيل إن ابا رافع القرظي والسيد النجراني قالا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ص اتريد أن نعبدك ونتخذك ربا فقال عليه السلام معاذ اللّه أن يعبد غير اللّه تعالى وأن نأمر بعبادة غيره تعالى فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني فنزلت وقيل قال رجل من المسلمين يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك قال عليه السلام لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون اللّه تعالى ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله ولكن كونوا أي ولكن يقول كونوا ربانيين الرباني منسوب ألى الرب بزيادة الالف والنون كاللحياني والرقباني وهو الكامل في العلم والعمل الشديد التمسك بطاعة اللّه عز و جل ودينه بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون أي بسبب مثابرتكم على تعليم الكتاب ودراسته أي قراءته فإن جعل خبر كان مضارعا لإفادة الاستمرار التجددي وتكرير بما كنتم للإيذان باستقلال كل من استمرار التعليم واستمرار القراءة بالفضل وتحصيل الربانية وتقديم التعليم على الدراسة لزيادة شرفه عليها أو لأن الخطاب الأول لرؤسائهم والثاني لمن دونهم وقرئ تعلمون بمعنى عالمين وتدرسون من التدريس وتدرسون من الإدراس بمعنى التدريس كأكرم بمعنى كرم ويجوز أن تكون القراءة المشهورة أيضا بهذا المعنى على تقدير بما تدرسونه على الناس ٨٠ ولا يامركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا بالنصب عطفا على ثم يقول ولا مزيدة لتأكيد معنى النفى في قوله تعالى ما كان لبشر أي ما كان لبشر أن يستنبئه اللّه تعالى ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا وتوسيط الاستدراك بين المعطوفين للمسارعة إلى تحقيق الحق ببيان ما يليق بشأنه ويحق صدوره عنه إثر تنزيهه عما لا يليق بشأنه ويمتنع صدوره عنه وأما ماقيل من أنها غير مزيدة على معنى أنه ليس له ان يأمر بعبادته ولا يأمر باتخاذ أكفائه أربابا بل ينهى عنه وهو أدنى من العبادة فيقضى بفساده ما ذكر من توسيط الاستدراك بين الجملتين المتعاطفتين ضرورة أنهما حينئذ في حكم جملة واحدة وكذا قوله تعالى أيأمركم بالكفر فإنه صريح في أن المراد بيان انتفاء كلا الأمرين قصدا لا بيان انتفاء الأول لانتفاء الثاني ويعضده قراءة الرفع على الاستئناف وتجويز الحالية بتقدير المبتدأ أي وهو لا يأمركم إلى آخره بين الفساد لما عرفته آنفا وقوله تعالى بعد إذ أنتم مسلمون يدل على أن الخطاب للمسلمين وهم المستأذنون للسجود له عليه السلام ٨١ وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين منصوب بمضمر خوطب به النبي أي أذكر وقت أخذه تعالى ميثاقهم لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قيل هو على ظاهرة وإذا كان هذا حكم الأنبياء عليهم السلام كان الأمم بذلك أولى واحرى وقيل معناه أخذ الميثاق من النبيين وأممهم واستغنى بذكرهم عن ذكرهم وقيل إضافة الميثاق إلى النبيين إضافة إلى الفاعل والمعنى وإذ أخذ اللّه الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم وقيل المراد أولاد النبيين على حذف المضاف وهم بنو إسرئيل أو سماهم نبيين تهكما بهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون كانوا منا واللام في لما موطئة للقسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف وما تحتمل الشرطية ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط وتحتمل الخبرية وقرئ لما بالكسر على ان ما مصدرية أي لأجل إيتائى أياكم بعض الكتاب ثم لمجئ رسول مصدق أخذ اللّه لميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه أو موصوله والمعنى أخذه الذي آتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له وقرئ لما بمعنى حين آتيتكم أو لمن أجل ما آتيتكم على ان أصله لمن ما بالإدغام فحذف أحدى الميمات الثلاث استثقالا قال أي اللّه تعالى بعد ما اخذ الميثاق أأقررتم بما ذكر وأخذتم على ما ذلكم إصرى أي عهدى سمى به لأنه يؤصر أي يشد وقرئ بضم الهمزة إما لغة كعبر وعبر أو جمع إصار وهو ما يشد به قالوا استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قالوا أقررنا وإنما لم يذكر أخذهم الإصر اكتفاء بذلك قال تعالى فاشهدوا أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وقيل الخطاب فيه للملائكة وأنا معكم من الشاهدين أي وأنا أيضا على إقراركم ذلك وتشاهدكم شاهد وإدخال مع على المخاطبين لما أنهم المباشرون للشهادة حقيقة وفيه من التأكيد والتحذير مالا يخفى ٨٢ فمن تولى أي أعرض عما ذكر بعد ذلك الميثاق والتوكيد بالإقرار والشهادة فمعنى البعد في اسم الإشارة لتفخيم الميثاق فأولئك إشارة إلى من والجمع باعتبار المعنى كما أن الإفراد في تولى باعتبار اللفظ وما فيه من معنى البعد للدلالة على ترامى أمرهم في السوءوبعد منزلتهم في الشروالفساد أي فأولئك المتولون المتصفون بالصفات القبيحة هم الفاسقون المتمردون الخارجون عن الطاعة من الكفرة فإن الفاسق من كل طائفة من كان متجاوزا عن الحد ٨٣ أفغير دين اللّه يبغون عطف على مقدر أي أيتولون فيبغون غير دين اللّه وتقديم المفعول لأنه المقصود إنكاره أو على الجملة المتقدمة والهمزة متوسطة بينهما للإنكار وقرئ بتاء الخطاب على تقدير وقل لهم وله اسلم من في السموات والأرض جملة حالية مفيدة لوكادة الإنكار طوعا وكرها اى طائعين بالنظر واتباع الحجة وكارهين بالسيف ومعاينة ما يلجىء الى الأسلام كنتق الجبل وإدراك الغرق والإشراف على الموت أو مختارين كالملائكة والمؤمنين ومسخرين كالكفرة فإنهم لايقدرون على الامتناع عما قضى عليهم وإليه يرجعون أي من فيهما والجمع باعتبار المعنى وقرئ بتاء الخطاب والجملة إما معطوفة على ما قبلها منصوبة على الحالية وأما مستأنفة سيقت للتهديد والوعيد ٨٤ قل آمنا باللّه أمر للرسول بأن يخبر عن نفسه ومن معه من المؤمنين بالإيمان بما ذكر وجمع الضمير في قوله تعالى وما أنزل علينا وهو القرآن لما أنه منزل عليهم أيضا بتوسط تبليغه إليهم أو لأن المنسوب إلى واحد من الجماعة قد ينسب إلى الكل أو عن نفسه فقط وهو الأنسب بما بعده والجمع لإظهار جلالة قدره عليه السلام ورفعه محلة بأمره بأن يتكلم عن نفسه على ديدن الملوك ويجوز أن يكون الأمر عاما والأفراد لتشريفه عليه السلام والإيذان بأنه عليه السلام أصل في ذلك كما في قوله تعالى يأيها النبي إذا طلقتم النساء وما أنزل على إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط من الصحف والنزول كما يعدى بإلى لانتهائه إلى الرسل يعدى بعلى لأنه من فوق ومن رام بأن على لكون الخطاب للنبي وإلى لكون الخطاب للمؤمنين فقد تعسف ألا يرى إلى قوله تعالى بما أنزل إليك الخ وقوله آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا الخ وإنما قدم المنزل على الرسول على ما أنزل على سائر الرسل عليهم السلام مع تقدمه عليه نزولا لأنه المعروف له والعيار عليه والأسباط جمع سبط وهو الحافد والمراد بهم حفدة يعقوب عليه السلام وأبناؤه الاثنا عشر وذراريهم فإنهم حفدة إبراهيم عليه السلام وما أوتى موسى وعيسى من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الظاهرة بأيديهما كما ينبئ عنه إيثار الإيتاء على الإنزال الخاص بالكتاب وتخصيصهما بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى والنبيون عطف على موسى وعيسى عليهما السلام أي وما أوتى النبيون من المذكورين وغيرهم من ربهم من الكتب والمعجزات لا نفرق بين أحد منهم كدأب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض بل نؤمن بصحة نبوة كل منهم وبحقية ما أنزل إليهم في زمانهم وعدم التعرض لنفى التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وقد مر تفصيله في تفسير قوله تعالى لا نفرق بين أحد من رسله وهمزة أحد إما أصلية فهو اسم موضوع لمن يصلح أن يخاطب يستوى فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ولذلك صح دخول بين عليه كما في مثل المال بين الناس وأما مبدلة من الواو فهو بمعنى واحد وعمومه لوقوعه في حيز النفى وصحة دخول بين عليه باعتبار معطوف قد حذف لظهوره أي بين أحد منهم وغيره كما في قول النابغة ... فما كان بين الخير إذ جاء سالما ... أبو حجر إلا ليال قلائل ... أي بين الخير وبيني ونحن له مسلمون أي منقادون أو مخلصون له تعالى أنفسنا لا نجعل له شريكا فيها وفيه تعريض بإيمان اهل الكتاب فإنه بمعزل من ذلك ٨٥ ومن يبتغ غير الإسلام أي غير التوحيد والانقياد لحكم اللّه تعالى كدأب المشركين صريحا والمدعين للتوحيد مع إشراكهم كاهل الكتابين دينا ينتحل إليه وهو نصب على انه مفعول ليبتغ وغير الإسلام حال منه لما أنه كان صفة له فلما قدمت عليه انتصبت حالا أو هو المفعول ودينا وتمييز لما فيه من الإبهام أو بدل من غير الإسلام فلن يقبل ذلك منه أبدا بل يرد أشد رد وأقبحه وقوله تعالى وهو في الآخرة من الخاسرين إما حال من الضمير المجرور أو استئناف لا محل له من الإعراب أى من الواقعين في الخسران والمعنى أن المعرض عن الإسلام والطالب لغيره فاقد للنفع واقع في الخسران بإبطال الفطرة السليمة التى فطر الناس عليها وفي ترتيب الرد والخسران على مجرد الطلب دلالة على أن حال من تدين بغيرالإسلام واطمأن بذلك أفظع واقبح واستدل به على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان غيره لم يقبل والجواب أنه ينفى قبول كل دين يغايره لا قبول كل ما يغاريره ٨٦ كيف يهدى اللّه إلى الحق قوما كفروا بعد إيمانهم قيل هم عشرة رهط ارتدوا بعد ما آمنوا ولحقوا بمكة وقيل هم يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبي بعد أن كانوا مؤمنين به قبل مبعثه وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات استبعاد لأن يهديهم اللّه تعالى فإن الحائد عن الحق بعد ما وضح له منهمك في الضلال بعيد عن الرشاد وقيل نفى وإنكار له وذلك يقتضى أن لا تقبل توبة المرتد وقوله تعالى وشهدوا عطف على إيمانهم باعتبار انحلاله إلى جملة فعلية كما في قوله تعالى ان المصدقين والمصدقات وأقرضوا اللّه الخ فإنه في قوة أن يقال بعد أن آمنوا أو حال من ضمير كفروا بإضمار ! قد وهو دليل على أن الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الإيمان واللّه لا يهدى القوم الظالمين أي الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر ووضع الكفر موضع الإيمان فكيف من جاءه الحق وعرفه ثم اعرض عنه والجملة اعتراضية أو حالية ٨٧ اولئك إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما مر من الصفات الشنيعة وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا وهو مبتدأ وقوله تعالى جزاؤهم مبتدأ ثان وقوله تعالى ان عليهم لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين خبره والجملة خبرلأولئك وهذا يدل بمنطوقه على جواز لعنهم وبمفهومه ينفى جواز لعن غيرهم ولعل الفرق بينهم وبين غيرهم انهم مطبوع على قلوبهم ممنوعون عن الهدى آيسون من الرحمة رأسا بخلاف غيرهم والمراد بالناس المؤمنون أو الكل فإن الكافر أيضا يلعن منكر الحق والمرتد عنه ولكن لا يعرف الحق بعينه ٨٨ خالدين فيها في اللعنة أو العقوبة أو النار وإن لم تذكر لدلالة الكلام عليها لا يخفف عنهم العذاب ولاهم ينظرون أي يمهلون ٨٩ إلا الذين تابوا من بعد ذلك أي من بعد الارتداد وأصلحوا أي ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح فإن اللّه غفور رحيم فيقبل توبتهم ويتفضل عليهم وهو تعليل لما دل عليه الاستثناء وقيل نزلت في الحرث بن سويد حين ندم على ردته فأرسل إلى قومه أن يسألوا هل لى من توبة فأرسل إليه أخوه الحلاس الآية فرجع إلى المدينة فتاب ٩٠ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا كاليهود كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد الإيمان بموسى عليه السلام والتوراة ثم ازدادوا كفرا حيث كفروا بمحمد عليه الصلاة و السلام والقرآن أو كفروا به عليه السلام بعد ما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بالإصرار عليه والطعن فيه والصد عن الإيمان ونقض الميثاق أو كقوم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم ازدادوا كفرا بقولهم نتربص به ريب المنون أو نرجع إليه فننافقه بإظهار الإيمان لن تقبل توبتهم لأنهم لا يتوبون إلا عند إشرافهم على الهلاك فكنى عن عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظا في شأنهم وإبرازا لحالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة أو لأن توبتهم لا تكون إلا نفاقا لارتدادهم وازديادهم كفرا ولذلك لم تدخل فيه الفاء وأولئك هم الضالون الثابتون على الضلال ٩١ إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به لما كان الموت على الكفر سببا لامتناع قبول الفدية زيدت الفاء ههنا للإشعار به وملء الشئ ما يملأ به وذهبا تمييز وقرئ بالرفع على أنه بدل من ملء أو خبر لمحذوف ولو افتدى محمول على المعنى كأنه قيل فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا أو معطوف على مضمر تقديره فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو تصدق به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب في الآخرة أو المراد ولو افتدى بمثله كقوله تعالى ولو ان للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه والمثل يحذف ويراد كثيرا لأن المثلين في حكم شئ واحد أولئك إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بالصفات الشنيعة المذكورة لهم عذاب أليم مؤلم اسم الإشارة مبتدأ والظرف خبره ولاعتماده على المبتدأ ارتفع به عذاب أليم على الفاعليه وما لهم من ناصرين في دفع العذاب عنهم أو في تخفيفه ومن مزيدة للاستغراق وصيغة الجمع لمراعاة الضمير أي ليس لواحد منهم ناصر واحد ٩٢ لن تنالوا البر من ناله نيلا إذا أصابه والخطاب للمؤمنين وهو كلام مستأنف سيق لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم إثر بيان مالا ينفع الكفرة ولا يقبل منهم أي لن تبلغوا حقيقة البر الذي يتنافس فيه المتنافسون ولن تدركوا شأوه ولن تلحقوا بزمرة الأبرار أو لن تنالوا بر اللّه تعالى وهو ثوابه ورحمته ورضاه وجنته حتى تنفقوا أي في سبيل اللّه عز و جل رغبة فيما عنده ومن في قوله تعالى مما تحبون تبعيضية ويؤيده قراءة من قرأ بعض ما تحبون وقيل بيانيه وما موصوله أو موصوفة أي مما تهوون ويعجبكم من كرائم أموالكم وأحبها إليكم كما في قوله تعالى أنفقوا من طيبات ما كسبتم أو مما يعمها وغيرها من الأعمال والمهجة على ان المراد بالإنفاق مطلق البذل وفيه من الإيذان بعزة منال البر مالا يخفى وكان السلف رضي اللّه عنهم إذا أحبوا شيئا جعلوه للّه عز و جل وروى أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن أحب أموالى إلى بير حاء فضعها يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حيث أراك اللّه فقال عليه السلام بخ بخ ذاك مال رايح أو رابح وإنى أرى أن تجعلها في الأقربين فقسمها في أقاربه وجاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال هذه في سبيل اللّه فحمل على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أسامة بن زيد فكأن زيدا وجد في نفسه وقال إنما أردت أن أتصدق به فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أما إن اللّه تعالى قد قبلها منك قيل وفيه دلالة على أن انفاق أحب الأموال على أقرب الأقارب أفضل وكتب عمر رضي اللّه عنه الى أبي موسى الأشعري أن يشتري له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى فلما جاءت اليه أعجبته فقال إن اللّه تعالى يقول لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فأعتقها وروى أن عمر بن عبد العزيز كانت لزوجته جارية بارعة الجمال وكان عمر راغبا فيها وكان قد طلبها منها مرارا فلم تعطها إياه ثم لما ولى الخلافة زينتها وأرسلتها إليه فقالت قد وهبتكها يا أمير المؤمين فلتخدمك قال من أين ملكتها قالت جئت بها من بيت أبي عبد الملك ففتش عن كيفية تملكه اياها فقيل إنه كان على فلان العامل ديون فلما توفي أخذت من تركته ففتش عن حال العامل وأحضر ورثته وأرضاهم جميعا بإعطاء المال ثم توجه الى الجارية وكان يهواها هوى شديدا فقال أنت حرة لوجه اللّه تعالى فقالت لم يا أمير المؤمنين وقد أزحت عن أمرها كل شبهة قال لست إذن ممن نهى النفس عن الهوى وما تنفقوا من شيء ما شرطية جازمة لتنفقوا منتصبة به على المفعوليه ومن تبعيضية متعلقة بمحذوف هو صفة لاسم الشرط أي أي شئ تنفقوا كائنا من الأشياء فإن المفرد في مثل هذا الموضع واقع موقع الجمع وقيل محل الجار والمجرور النصب على التمييز أي أي شيء تنفقوا طيبا تحبونه أو خبيثا تكرهونه فإن اللّه به عليم تعليل لجواب الشرط واقع موقعه أي فمجازيكم بحسبه جيدا كان أو رديئا فإنه تعالى عليم بكل شيء تنفقونه علما كاملا بحيث لا يخفى عليه شيء من ذاته وصفاته وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل وفيه من الترغيب في انفاق الجيد والتحذير عن انفاق الرديء مالا يخفى ٩٣ كل الطعام أي كل أفراد المطعوم أو كل أنواعه كان حلا لبني اسرائيل أي حلالا لهم فإن الحل مصدر نعت به ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كما في قوله تعالى لا هن حل لهم الا ما حرم اسرائيل على نفسه استثناء متصل من اسم كان أي كان كل المطعومات حلالا لبني اسرائيل الا ما حرم اسرائيل أي يعقوب عليه السلام على نفسه وهو لحوم الابل والبانها قيل كان به وجع النسا فنذر لئن شفى لا يأكل أحب الطعام اليه وكان ذلك أحبه اليه وقيل فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباء واحتج به من جوز للنبي الاجتهاد وللمانع أن يقول كان ذلك بإذن من اللّه تعالى فيه فهو كتحريمه ابتداء من قبل أن تنزل التوراة متعلق بقوله تعالى كان حلا ولا ضير في توسيط الاستثناء بينهما وقيل متعلق بحرم وفيه أن تقييد تحريمه عليه السلام بقبلية تنزيل التوراة ليس فيه مزيد فائدة أي كان ما عدا المستثنى حلالا لهم قبل أن تنزل التوراة مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم وبغيهم عقوبة لهم وتشديدا وهو رد على اليهود في دعواهم البراءة عما نعى عليهم قوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وقوله تعالى وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الآيتين بأن قالوا لسنا أول من حرمت عليه وانما كانت محرمة على نوح وابراهيم ومن بعدهما حتى انتهى الأمر الينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا وتبكيت لهم في منع النسخ والطعن في دعوى الرسول موافقته لإبراهيم عليه السلام بتحليله لحوم الإبل وألبانها قل فأتوا بالتوراة فاتلوها أمر عليه السلام بأن يحاجهم بكتابهم الناطق بأن تحريم ما حرم عليهم تحريم حادث مترتب على ظلمهم وبغيهم كلما ارتكبوا معصية من المعاصي التي اقترفوها حرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم ويكلفهم إخراجه وتلاوته ليبكتهم ويلقمهم الحجر ويظهر كذبهم وإظهار اسم التوراة لكون الجملة كلاما مع اليهود منقطعا عما قبله وقوله تعالى إن كنتم صادقين أي في دعواكم أنه تحريم قديم وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه أي إن كنتم صادقين فأتوا بالتوراة فاتلوها فإن صدقكم مما يدعوكم الى ذلك البتة روى أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة فبهتوا وانقلبوا صاغرين وفي ذلك من الحجة النيرة على صدق النبي وجواز النسخ الذي يجحدونه مالا يخفى والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها ٩٤ فمن افترى على اللّه الكذب أي اختلقه عليه سبحانه بزعمه أنه حرم ما ذكر قبل نزول التوراة على بني اسرائيل ومن تقدمهم من الأمم من بعد ذلك من بعد ما ذكر من أمرهم بإحضار التوراة وتلاوتها وما ترتب عليه من التبكيت والإلزام والتقييد به للدلالة على كمال القبح فأولئك اشارة الى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة والجمع باعتبار معناه كما أن الإفراد في الصلة باعتبار لفظه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الضلال والطغيان أي فأولئك المصرون على الافتراء بعد ما ظهرت حقيقة الحال وضافت عليهم حلبة المحاجة والجدال هم الظالمون المفرطون في الظلم والعدوان المبعدون فيهما والجملة مستأنفة لا محل لها من الاعراب مسوقة من جهته تعالى لبيان كمال عتوهم وقيل هي في محل النصب داخلة تحت القول عطفا على قوله تعالى فأتوا بالتوراة ٩٥ قل صدق اللّه أي ظهر وثبت صدقه تعالى فيما أنزل في شان التحريم وقيل في قوله تعالى ما كان إبراهيم يهوديا الخ أو صدق في كل شأن من الشئون وهو داخل في ذلك دخولا أوليا وفيه تعريض بكذبهم الصريح فاتبعوا ملة إبراهيم أي ملة الإسلام التى هي في الأصل ملة إبراهيم عليه السلام فإنكم ما كنتم متبعين لملته كما تزعمون أو فاتبعوا مثل ملته حتى تتخلصوا من اليهودية التى أضطرتكم إلى التحريف والمكابرة وتلفيق الأكاذيب لتسوية الأغراض الدنيئة الدنيوية وألزمتكم تحريم طيبات محللة لإبراهيم عليه السلام ومن تبعه والفاء للدلالة على أن ظهور صدقة تعالى موجب للاتباع وترك ما كانوا عليه حنيفا أي مائلا عن الأديان الزائغة كلها وما كان من المشركين أي في أمر من أمور دينه أصلا وفرعا وفيه تعريض بإشراك اليهود وتصريح بأنه عليه السلام ليس بينه وبينهم علاقة دينية قطعا والغرض بيان أن النبي على دين إبراهيم عليه السلام في الأصول لأنه لا يدعو إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سواه سبحانه وتعالى والجملة تذييل لما قبلها ٩٦ إن أول بيت وضع للناس شروع في بيان كفرهم ببعض آخر من شعائر ملته عليه السلام إثر بيان كفرهم بكون كل المطعومات حلا له عليه السلام روى أنهم قالوا بيت المقدس أعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة وقال المسلمين بل الكعبة أعظم فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنزلت أي أن أول بيت وضع للعبادة وجعل متعبدا لهم والواضع هو اللّه تعالى ويؤيده القراءة على البناء للفاعل وقوله تعالى للذي ببكة خبر لأن وإنما أخبر بالمعرفة مع كون اسمها نكرة لتخصصها بسببين الإضافة والوصف بالجملة بعدها أي للبيت الذي ببكة أي فيها وفي ترك الموصوف من التفخيم مالا يخفى وبكة لغة في مكة فإن العرب تعاقب بين الباء والميم كما في قولهم ضربة لازب ولازم والنميط والنبيط في اسم موضع بالدهناء وقولهم أمر راتب وراتم وسبد رأسه وسمدها واغبطت الحمى وأغمطت وهي علم للبلد الحرام من بكة إذا زحمة لازدحام الناس فيه وعن قتادة يبك الناس بعضهم بعضا أو لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها لم يقصدها جبار إلاقصمه اللّه عز و جل وقيل بكة اسم لبطن مكة وقيل لموضع البيت وقيل للمسجد نفسه ومكة اسم للبلد كله وأيد هذا بأن التباك وهو الازدحام إنما يقع عند الطواف وقيل مكة اسم للمسجد والمطاف وبكة اسم للبلد لقوله تعالى للذي ببكة مباركا روى أنه عليه السلام سئل عن أول بيت وضع للناس فقال المسجد الحرام ثم بيت المقدس وسئل كم بينهما فقال أربعون سنة وقيل أول من بناه إبراهيم عليه الصلاة و السلام وقيل آدم عليه السلام وقد استوفينا ما فيه من الأقاويل في سورة البقرة وقيل أول بيت وضع بالشرف لا بالزمان مباركا كثير الخير والنفع لما يحصل لمن حجه واعتمره واعتكف دونه وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب وهو حال من المستكن في الظرف لأن التقدير للذي ببكة هو والعامل فيه ما قدر في الظرف من فعل الاستقرار وهدى للعالمين لأنه قبلتهم ومتعبدهم ولأن فيه آيات عجيبة دالة على عظيم قدرته تعالى وبالغ حكمته كما قال ٩٧ فيه آيات بينات واضحات كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار ومخالطة ضوارى السباع الصيود في الحرم من غير تعرض لها وقهر اللّه تعالى لكل جبار قصدة بسوء كأصحاب الفيل والجملة مفسرة للّهدى أو حال أخرى مقام إبراهيم أي أثر قدميه عليه السلام في الصخرة التي كان عليه السلام يقوم عليها وقت رفع الحجارة لبناء الكعبة عند ارتفاعه أو عند غسل رأسه على ما روى أنه عليه السلام جاء زائرا من الشام إلى مكة فقالت له أمرأة إسمعيل عليه السلام أنزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقة الإيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حولته الى شقة الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فقى اثر قدميه عليه وهو اما مبتدأ حذف خبره أي منها مقام إبراهيم أو بدل من آيات بدل البعض من الكل أو عطف بيان إما وحدة باعتبار كونه بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة اللّه تعالى وعلى نبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى إن إبراهيم كان أمة قانتا أو باعتبار اشتماله على آيات كثيرة فإن كل واحد من أثر قدميه في صخرة صماء وغوصه فيها إلى الكعبين وإلانه بعض الصخور دون بعض وإبقائه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام وحفظه مع كثرة الأعداء ألوف سنة آية مستقلة ويؤيده القراءة على التوحيد وأما بما يفهم من قوله عز و جل ومن دخله كان آمنا المعنى فإنه وإن كان جملة مستأنفة ابتدائية أو شرطية لكنها في قوة أن يقال وأمن من دخله فتكون بحسب المعنى والمآل معطوفة على مقام ابراهيم ولا يخفى أن الاثنين نوع من الجمع فيكتفي بذلك أو يحمل على أنه ذكر من تلك الآيات اثنتان وطوى ذكر ما عداهما دلالة على كثرتها ومعنى أمن داخله أمنه من التعرض له كما في قوله تعالى أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم وذلك بدعوة ابراهيم عليه السلام رب اجعل هذا البلد آمنا وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ الى الحرم لم يطلب وعن عمر رضي اللّه عنه لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب مامسسته حتى يخرج منه ولذلك قال أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى من لزمه القتل في الحل بقصاص أو ردة أو زنى فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له إلا أنه لا يؤوى ولايطعم ولايسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج وقيل أمنه من النار وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا وعنه عليه الصلاة و السلام الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة عن ابن مسعود رضي اللّه عنه وقف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة فقال يبعث اللّه تعالى من هذه البقعه ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتي عام وللّه على الناس حج البيت جملة من مبتدأ هو حج وخبر هو للّه وقوله تعالى على الناس متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار أو بمحذوف هو حال من الضمير المستكن في الجار والعامل فيه ذلك الاستقرار ويجوز أن يكون على الناس هو الخبر وللّه متعلق بما تعلق به الخبر ولا سبيل إلى أن يتعلق بمحذوف هو حال من الضمير المستكن في على الناس لاستلزامه تقديم الحال على العامل المعنوي وذلك مما لا مساغ له عند الجمهور وقد جوزة ابن مالك إذا كانت هي ظرفا أو حرف جر وعاملها كذلك بخلاف الظرف وحرف الجر فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوى واللام في البيت للعهد وحجة قصده للزيارة على الوجه المخصوص المعهود وكسر الحاء لغة نجد وقيل هو اسم للمصدر وقرئ بفتحها من استطاع إليه سبيلا في محل الجر على انه بدل من الناس بدل البعض من الكل مخصص لعمومه فالضمير العائد إلى المبدل منه محذوف أي من استطاع منهم وقيل بدل الكل على أن المراد بالناس هو البعض المستطيع فلا حاجة إلىالضمير وقيل في محل الرفع على انه خبر مبتدأ مضمر أي هم من استطاع الخ وقيل في حيز النصب بتقدير أعنى وقيل كلمة من شرطية والجزاء محذوف لدلالة المذكور عليه وكذا العائد إلى الناس أي من استطاع منهم إليه سبيلا فللّه عليه حج البيت وقد رجح هذا بكون ما بعده شرطية والضمير المجرور في إليه راجع إلى البيت أو إلى حج والجار متعلق بالسبيل قدم عليه اهتماما بشأنه كما في قوله عز و جل فهل إلى خروج من سبيل وهل إلى مرد من سبيل لما فيه من معنى الإفضاء والإيصال كيف لا وهو عبارة عن الوسيلة من مال أو غيره فإنه قد روى أنس بن مالك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال السبيل الزاد والراحلة وروى ابن عمر رضي اللّه عنهما أن رجلا قال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما السبيل قال الزاد والرحلة وهو المراد بما روى أنه عليه السلام فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة وهكذا روى عن ابن عباس وابن عمر رضي اللّه عنهم وعليه أكثر العلماء خلا أن الشافعي أخذ بظاهرة فأوجب الاستنابة على الزمن القادر على اجره من ينوب عنه والظاهر أن عدم تعرضه عليه السلام لصحة البدن لظهور الأمر كيف لا والمفسر في الحقيقة هو السبيل الموصل لنفس المستطيع إلى البيت وذا لا يتصور بدون الصحة وعن ابن الزبير أنه على قدر القوة ومذهب مالك أن الرجل إذا وثق بقوته لزمه وعنه ذلك على قدر الطاقة وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر وقد يقدر عليه من لا راحلة له ولا زاد وعن الضحاك أنه إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع ومن كفر وضع من كفر موضع من لم يحج تأكيدا لوجوبه وتشديدا على تاركه ولذلك قال عليه السلام من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا وروى عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه انه عليه السلام قال في خطبته أيها الناس إن اللّه فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا فإن اللّه غنى عن العالمين وعن عبادتهم وحيث كان من كفر من جملتهم داخلا فيها دخولا أوليا اكتفى بذلك عن الضمير الرابط بين الشرط والجزاء ولقد حازت الآية الكريمة من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بامر الحج والتشديد على تاركه مالا مزيد عليه حيث أوثرت صيغة الخبر الدالة على التحقيق أو برزت في صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبات والاستمرار على وجه يفيد أنه حق واجب للّه سبحانه في ذمم الناس لا انفكاك لهم عن أدائة والخروج عن عهدته وسلك بهم مسلك التعميم ثم التخصيص والإبهام ثم التبيين والإجمال ثم التفصيل لما في ذلك من مزيد تحقيق وتقرير وعبر عن تركه بالكفر الذي لا قبيح وراءه وجعل جزاءه استغناءه تعالى المؤذن بشدة المقت وعظم السخط لا عن تاركه فقط فإنه قد ضرب عنه صفحا إسقاطا له عن درجة الاعتبار واستهجانا بذكره بل عن جميع العالمين ممن فعل وترك ليدل على نهاية شدة الغضب هذا وقال ابن عباس والحسن وعطاء رضي اللّه عنهم ومن كفر أي جحد فرض الحج وزعم انه ليس بواجب وعن سعيد بن المسيب نزلت في اليهود فإنهم قالوا الحج إلى مكة غير واجب وروى انه لما نزل قوله تعالى وللّه على الناس حج البيت جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال إن اللّه كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا لا نؤمن به ولا نصلى إليه ولا نحجة فنزل ومن كفر و عن النبي صلى اللّه عليه و سلم حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع إلى السماء في الثالثة وروى حجوا قبل أن يمنع البر جانبه وعن ابن مسعود حجوا هذا البيت قبل ان ينبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت وعن عمر رضي اللّه عنه لو ترك الناس الحج عاما واحدا مانوظروا ٩٨ قل يأهل الكتاب هم اليهود والنصارى وإنما خوطبوا بعنوان أهليه الكتاب الموجبة للإيمان به وبما يصدقه من القرآن العظيم مبالغة في تقبيح حالهم في كفرهم بها وقوله عز و جل لم تكفرون بآيات اللّه توبيخ وإنكار لأن يكون لكفرهم بها سبب من الأسباب وتحقيق لما يوجب الاجتناب عنه بالكلية والمراد بآياته تعالى ما يعم الآيات القرآنية التي من جملتها ما تلى في شأن الحج وغيره وما في التوراة والإنجيل من شواهد نبوته عليه السلام وقوله تعالى واللّه شهيد على ما تعملون حال من فاعل تكفرون مفيدة لتشديد التوبيخ وتأكيد الإنكار وإظهار الجلالة في موقع الإضمار لتربية المهابة وتهويل الخطب وصيغة المبالغة في شهيد للتشديد في الوعيد وكلمة ما إما عبارة عن كفرهم أو هي على عمومها وهو داخل فيها دخولا أوليا والمعنى لأى سبب تكفرون بآياته عز و جل والحال أنه تعالى مبالغ في الإطلاع على جميع أعمالكم وفي مجازاتكم عليها ولاريب في أن ذلك يسد جميع أنحاء ما تأتونه ويقطع أسبابه بالكلية ٩٩ قل بأهل الكتاب أمر بتوبيخهم بالإضلال إثر توبيخهم بالضلال والتكرير للمبالغة في حمله عليه السلام على تقريعهم وتوبيخهم وترك عطفه على الأمر السابق للإيذان باستقلالهم كما ان قطع فوله تعالى لم تصدون عن قوله تعالى لم تكفرون للإشعار بأن كل واحد من كفرهم وصدهم شناعة على حيالها مستقلة في استتباع اللأئمة والتقريع وتكرير الخطاب بعنوان أهلية الكتاب لتأكيد الاستقلال وتشديد التشنيع فإن ذلك العنوان كما يستدعى الإيمان بما هو مصدق لما معهم يستدعى ترغيب الناس فيه فصدهم عنه في أقصى مراتب القباحة ولكون صدهم في بعض الصور بتحريف الكتاب والكفر بالايات الدالة على نبوته عليه السلام وقرئ تصدون من أصده عن سبيل اللّه أي دينه الحق الموصل إلى السعادة الأبدية وهو التوحيد وملة الإسلام من آمن مفعول لتصدون قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام به كانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون لصدهم عنه ويمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم ويقولون إن صفته عليه السلام ليست في كتابهم ولا تقدمت البشارة به عندهم وقيل أتت اليهود الأوس والخزرج فذكروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا إلى ماكانوا فيه تبغونها على إسقاط الجار وإيصال الفعل إلى الضمير كما في قوله ... فتولى غلامهم ثم نادى ... أظليما أصيدكم أم حمارا ... بمعنى أصيد لكم أي تطلبون لسبيل اللّه التى هي أقوم السبل عوجا اعوجاجا بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أن فيه ميلا عن الحق بنفى النسخ وتغيير صفة الرسول عن وجهها ونحو ذلك والجملة حال من فاعل تصدون وقيل من سبيل اللّه وانتم شهداء حال من فاعل تصدون باعتبار تقييده بالحال الأولى أو من فاعل تبغونها أي والحال أنكم شهداء تشهدون بانها سبيل اللّه لا يحوم حولها شائبة اعوجاج وأن الصد عنها إضلال قال ابن عباس رضي اللّه عنهما اى شهداء ان في التوراة ان دين اللّه الذي لا يقبل غيره هو الإسلام أو وأنتم عدول فيما بينكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا وعظائم الأمور وما اللّه بغافل عما تعملون اعتراض تذييلي فيه تهديد ووعيد شديد قيل لما كان صدهم للمؤمنين بطريق الخفية ختمت الآية الكريمة بما يحسم مادة حيلتهم من إحاطة علمه تعالى بأعمالهم كما ان كفرهم بآيات اللّه تعالى لما كان بطريق العلانية ختمت الآية السابقة بشهادته تعالى على ما يعملون ١٠٠ يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين تلوين للخطاب وتوجيه له إلى المؤمنين تحذيرا لهم عن طاعة أهل الكتاب والافتتان بفتنتهم إثر توبيخهم بالإغواء والإضلال ردعا لهم عن ذلك وتعليق الرد بطاعة فريق منهم للمبالغة في التحذير عن طاعتهم وإيجاب الاجتناب عن مصاحبتهم بالكلية فإنه في قوة ان يقال لا تطيعوا فريقا الخ كما أن تعميم التوبيخ فيما قبله للمبالغة في الزجر أو للمحافظة على سبب النزول فإنه روى أن نفرا من الأوس والخزرج كانوا جلوسا يتحدثون فمر بهم شاس بن قيس اليهودي وكان عظيم الكفر شديد الحسد للمسلمين فغاظة ما راى منهم من تألف القلوب واتحاد الكلمة واجتماع الرأى بعد ما كان بينهم من العداوة والشنآن فأمر شابا يهوديا كان معه بأن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وكان ذلك يوما عظيما اقتتل فيه الحيان وكان الظفر فيه للأوس وينشدهم ما قيل فيه من الأشعار ففعل فتفاخر القوم وتغاضبوا حتى تواثبوا وقالوا السلاح السلاح فاجتمع من القبيلتين خلق عظيم فعند ذلك جاءهم النبي وأصحابه فقال أتدعون الجاهلية وأنا بين اظهركم بعد ان أكرمكم اللّه تعالى بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم فعلموا انها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فألقوا السلاح واستغفروا وعانق بعضهم بعضا وانصرفوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال الإمام الواحدى اصطفوا للقتال فنزلت الآية إلى قوله تعالى لعلكم تهتدون فجاء النبي حتى قام بين الصفين فقرأهن ورفع صوته فلما سمعوا صوت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنصتوا له وجعلوا يستمعون له فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجعلوا يبكون وقوله تعالى كافرين إما مفعول ثان ليردوكم على تضمين الرد معنى التصيير كما في قوله ... رمى الحدثان نسوة آل سعد ... بمقدار سمدن له سمودا ... فرد شعورهن السود بيضا ورد وجوههن البيض سودا ... أو حال من مفعول والأول أدخل في تنزيه المؤمنين عن نسبتهم إلى الكفر لما فيه من التصريح بكون الكفر المفروض بطريق القسر وإيراد الظرف مع عدم الحاجة إليه ضرورة سبق الخطاب بعنوان المؤمنين واستحالة تحقق الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان مع توسيطه بين المفعولين لإظهار كمال شناعة الكفر وغاية بعده من الوقوع إما لزيادة قبحه الصارف العاقل عن مباشرته أو لممانعة الإيمان له كأنه قيل بعد إيمانكم الراسخ وفيه من تثبيت المؤمنين مالا يخفى ١٠١ وكيف تكفرون استفهام إنكارى بمعنى إنكار الوقوع كما في قوله تعالى كيف يكون للمشركين عهد الخ لا بمعنى إنكار الواقع كما في قوله تعالى كيف تكفرون باللّه وكنتم أمواتا الخ وفي توجيه الإنكار والاستبعاد إلى كيفية الكفر من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال أتكفرون لأن كل موجود لا بد أن يكون وجوده على حال من الأحوال فإذا أنكر ونفى جميع أحوال وجوده فقد انتفى وجوده بالكلية على الطريق البرهاني وقوله تعالى وأنتم تتلى عليكم آيات اللّه جملة وقعت حالا من ضمير المخاطبين في تكفرون مؤكدة للإنكار والاستبعاد بما فيها من الشئون الداعية إلى الثبات على الإيمان الوازعة عن الكفر وقوله تعالى وفيكم رسوله معطوف عليها داخل في حكمها فإن تلاوة آيات اللّه تعالى عليهم وكون رسوله عليه الصلاة و السلام بين أظهرهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم بتحقيق الحق وإزاحة الشبة من أقوى الزواجر عن الكفر وعدم إسناد التلاوة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم للإيذان باستقلال كل منهما في الباب ومن يعتصم باللّه أي ومن يتمسك بدينه الحق الذي بينه بآياته على لسان رسوله عليه الصلاة و السلام وهو الإسلام والتوحيد المعبر عنه فيما سبق بسبيل اللّه فقد هدى جواب للشرط وقد لإفادة معنى التحقيق كأن الهدى قد حصل فهو يخبر عنه حاصلا ومعنى التوقع فيه ظاهر فإن المعتصم به تعالى متوقع للّهدى كما ان قاصد الكريم متوقع للندى إلى صراط مستقيم موصل إلى المطلوب والتنوين للتفخيم والوصف بالاستقامة للتصريح بالرد على الذين يبغون له عوجا وهذا وإن كان هو دينه الحق في الحقيقة والاهتداء إليه هو الاعتصام به بعينه لكن لما اختلف الاعتباران وكان العنوان الأخير مما يتنافس فيه المتنافسون ابرز في معرض الجواب للحث والترغيب على طريقة قوله تعالى فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ١٠٢ يأيها الذين آمنوا تكرير الخطاب بعنوان الإيمان تشريف إثر تشريف اتقوا اللّه الاتقاء افتعال من الوقاية وهي فرط الصيانة حق تقاته أي حق تقواه وما يجب منها وهو استفراغ الوسع في القيام بالموجب والاجتناب عن المحارم كما في قوله تعالى فاتقوا اللّه ما استطعتم وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه هو ان يطاع ولا يعصى ويذكر ولا ينسى ويشكر ولا يكفر وقد روى مرفوعا إليه عليه السلام وقيل هو ان لاتأخذه في اللّه لومة لائم ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو ابيه وقيل هو أن ينزه الطاعة عن الالتفات إليها وعن توقع المجازاة وقد مر تحقيق الحق في ذلك عند قوله عز و جل هدى للمتقين والتقاة من اتقى كالتؤدة من اتأد و أصلها وقيه قلبت واوها المضمومة تاء كما في تهمة وتخمة وياؤها المفتوحة ألفا ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون أي مخلصون نفوسكم للّه تعالى لا تجعلون فيها شركة لما سواه أصلا كما في قوله تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه للّه وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لاتموتن على حال من الأحوال الا حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه كما ينبئ عنه الجملة الاسمية ولو قيل إلا مسلمين لم يفد فائدتها والعامل في الحال ما قبل إلا بعد النقض وظاهر النظم الكريم وإن كان نهيا عن الموت المقيد بقيد هو الكون على أي حال من غير حال الإسلام لكن المقصود هو النهى عن ذلك القيد عند الموت المستلزم للأمر بضده الذي هو الكون على حال الإسلام حينئذ وحيث كان الخطاب للمؤمنين كان المراد إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت وتوجيهه النهى إلى الموت للمبالغة في النهى عن قيده المذكور فإنه النهى عن المقيد في أمثاله نهى عن القيد ورفع له من أصله بالكلية مفيد لما لا يفيده النهى عن نفس القيد فإن قولك لاتصل إلا وانت خاشع يفيد من المبالغة في إيجاب الخشوع في الصلاة مالا يفيده قولك لا تترك الخشوع في الصلاة لما أن هذا نهى عن ترك الخشوع فقط وذاك نهى عنه وعما يقارنه ومفيد لكون الخشوع هو العمدة في الصلاة وأن الصلاة بدونه حقها أن لا تفعل وفيه نوع تحذير عما وراء الموت وقوله عز و جل ١٠٣ واعتصموا بحبل اللّه أي بدين الإسلام أو بكتابه لقوله عليه الصلاة و السلام القرآن حبل اللّه المتين لاتنقضى عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد من قال به صدق ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم إما تمثيل للحالة الحاصلة من استظهارهم به ووثوقهم بحمايته بالحالة الحاصلة من تمسك المتدلى من مكان رفيع بحبل وثيقمأمون الانقطاع من غير اعتبار مجاز في المفردات وأما استعارة للحبل لما ذكر من الدين أو الكتاب والاعتصام ترشيح لها أو مستعار للوثوق به والاعتماد عليه جميعا حال من فاعل اعتصموا أي مجتمعين في الاعتصام ولا تفرقوا أي لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية يحارب بعضكم بعضا أو لا تحدثوا ما يوجب التفريق ويزيل الألفة التى أنتم عليها واذكروا نعمة اللّه مصدر مضاف إلى الفاعل وقوله تعالى عليكم متعلق به أو بمحذوف وقع حالا منه وقوله تعالى إذ كنتم ظرف له أو للاستقرار في عليكم أي اذكروا إنعامه عليكم أو اذكروا إنعامة متسقرا عليكم وقت كونكم أعداء في الجاهلية بينكم إلامن والعداوات والحروب المتواصلة وقيل هم الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم فوقعت بين أولادهما العداوة والبغضاء وتطاولت الحروب فيما بينهم مائة وعشرين سنة فألف بين قلوبكم بتوفيقكم للإسلام فأصبحتم أي فصرتم بنعمته التى هي ذلك التأليف إخوانا خبر أصبحتم أي إخوانا متحابين مجتمعين على الأخوة في اللّه متراحمين متناصحين متفقين على كلمة الحق وقيل معنى فأصبحتم فدخلتم في الصباح فالباء حينئذ متعلقة بمحذوف وقع حالا من الفاعل وكذا إخوانا أي فأصبحتم ملتبسين حال كونكم إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار شفا الحفرة وشفتها حرفها أي كنتم مشرفين على الوقوع في نار جهنم لكفرهم إذ لم أدرككم الموت على تلك الحالة لوقعتهم فيها فأنقذكم بأن هداكم للإسلام منها الضمير للحفرة أو للنار أو للشفا والتأنيث للمضاف إليه كما في قوله ... كما شرقت صدر القتا من الدم ... أو لأنه بمعنى الشفة فإن شفا البئر وشفتها جانبها كالجانب وأصله شفو قلبت الواو ألفا في المذكر وحذفت في المؤنث كذلك إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده وما فيه من معني البعد بعلو درجة المشار اليه وبعد منزلته في الفضل وكمال تميزة به عما عداه وانتظامه بسببه في سلك الأمور المشاهدة والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحلها النصب على أنها صفة لمصدر محذوف أي مثل ذلك التبيين الواضح يبين اللّه لكم آياته أى دلائلة لعلكم تهتدون طلبا لثباتكم على الهدى وازديادكم فيه ١٠٤ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير أمرهم اللّه سبحانه بتكميل الغير وإرشادة إثر أمرهم بتكميل النفس وتهذيبها بما قبله من الأوامر والنواهي تثبيتا للكل على مراعاة ما فيها من الأحكام بان يقوم بعضهم بمواجبها ويحافظ على حقوقها وحدودها ويذكرها الناس كافة ويردعهم عن الإخلال بها والجمهور على إسكان لام الأمر وقرئ بكسرها على الأصل وهو من كان التامة ومن تبعيضية متعلقة بالأمر أو بمحذوف وقع حالا من الفاعل وهو أمة ويدعون صفتها اى لتوجد منكم امة داعية الى الخير والأمة هي الجماعة التى يؤمها فرق الناس اى يقصدنها ويقتدون بها أو من الناقصة وأمة اسمها ويدعون خبرها أي لتكن منكم أمة داعين إلى الخير وأيا ما كان فتوجيه الخطاب إلى الكل مع إسناد الدعوة إلى البعض لتحقيق معنى فرضيتها على الكفاية وانها واجبة على الكل لكن بحيث إن أقامها البعض سقطت عن الباقين ولو أخل بها الكل أثموا جميعا لا بحيث يتحتم على الكل إقامتها على ما ينبئ عنه قوله عز و جل وما كان المؤمنون لينفروا كافة الآية ولأنها من عظائم الأمور وعزائمها التى لايتولاها إلا العلماء باحكامه تعالى ومراتب الاحتساب وكيفية إقامتها فإن من لايعلمها يوشك أن يأمر بمنكر وينهى عن معروف ويغلظ في مقام اللين ويلين في مقام الغلظة وينكر على من لا يزيده الإنكار إلا التمادى والإصرار وقيل من بيانية كما في قوله تعالى وعد اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم الآية والأمر من كان الناقصة والمعنى كونوا أمة يدعون الآية كقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس الآية ولا يقتضى ذلك كون الدعوة فرض عين فإن الجهاد من فروض الكفاية مع ثبوته بالخطابات العامة والدعاء إلى الخير عبارة عن الدعاء إلى ما فيه صلاح دينى أو دنيوى فعطف الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر عليه بقوله تعالى ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر مع اندراجهما فيه من باب عطف الخاص على العام لإظهار فضلهما وإنافتهما على سائر الخيرات كعطف جبريل وميكال على الملائكة عليهم السلام وحذف المفعول الصريح من الأفعال الثلاثة إما للإيذان بظهورة أي يدعون الناس ويأمرونهم وينهونهم وأما للقصد إلى إيجاد نفس الفعل كما في قولك فلان يعطى ويمنع أي يفعلون الدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأولئك إشارة إلى الأمة المذكورة باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الفاضلة وكمال تميزهم بذلك عمن عداهم وانتظامهم بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم في الفضل والإفراد في كاف الخطاب اما لأن المخاطب كل من يصلح للخطاب وأما لأن التعيين غير مقصود أي أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكاملة هم المفلحون أي هم الأخصاء بكمال الفلاح وهم ضمير فصل يفصل بين الخبر والصفة ويؤكد النسبة ويفيد اختصاص المسند بالمسند إليه أو مبتدأ خبره المفلحون والجملة خبر لأولئك وتعريف المفلحون إما للعهد أو للإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين روى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه سئل عن خير الناس فقال آمرهم بالمعروف وانهاهم عن المنكر واتقاهم اللّه وأوصلهم للرحم وعنه عليه السلام من أمر بالمعرف ونهى عن المنكر فهو خليفة اللّه في ارضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه وعنه عليه السلام والذي نفسى بيده لتأ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن اللّه ان يبعث عليكم عذابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم وعن على رضي اللّه عنه أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ومن شنأ الفاسقين وغضب للّه غضب اللّه له والأمر بالمعروف في الوجوب والندب تابع للمأمور به وأما النهى عن المنكر فواجب كله فإن جميع ما أنكره الشرع حرام والعاصي يجب عليه النهى عما أرتكبه إذ يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك أحدهما وجوب شئ منهما والتوبيخ في قوله تعالى أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم إنما هو على نسيان أنفسهم لا على أمرهم بالبر وعن السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا ١٠٥ ولا تكونوا كالذين تفرقوا هم أهل الكتابين حيث تفرقت اليهود فرقا والنصارى فرقا واختلفوا باستخراج التأويلات الزائغة وكتم الآيات الناطقة وتحريفها بما أخلدوا إليه من حطام الدنيا الدنيئة من بعد ما جاءهم البينات أى الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه واتحاد الكلمة فالنهى متوجه إلى المتصدين للدعوة أصالة وإلى أعقابهم تبعا ويجوز تعميم الموصول للمختلفين من الأمم السالفة المشار إليهم بقوله عز و جل وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات وقيل هم المبتدعة من هذه الأمة وقيل هم الحرورية وعلى كل تقدير فالمنهى عنه انما هو الاختلاف في الاصول دون الفروع الا ان يكون مخالفا للنصوص البينه أو الاجماع لقوله عليه الصلاة و السلام اختلاف أمتي رحمه وقوله عليه السلام من اجتهد فاصاب فله اجران ومن اخطأ فله اجر واحد واولئك اشاره الى المذكورين باعتبار اتصافهم بما فى حيز الصلة وهو مبتدأ وقوله تعالى لهم خبره وقوله تعالى عذاب عظيم مرتفع بالظرف على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ أو مبتدا والظرف خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول وفيه من التأكيد والمبالغة في وعيد المتفرقين والتشديد في تهديد المشبهين بهم مالا يخفى ١٠٦ يوم تبيض وجوه أي وجوه كثيرة تبياض وتسود وجوه كثيرة وقرئ تسواد وعن عطاء تبيض وجوه المهاجرين والأنصار وتسود وجوه بنى قريظة والنضير ويوم منصوب على أنه ظرف للاستقرار في لهم أي لثبوت العذاب العظيم لهم أو على انه مفعول لمضمر خوطب به المؤمنون تحذيرا لهم عن عاقبة التفريق بعد مجئ البينات وترغيبا في الأتفاق على التمسك بالدين أي اذكروا يوم تبيض الخ وبياض الوجه وسواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف فيه وقيل يوسم أهل الحق ببياض الوجه والصحيفة وإشراق البشرة وسعى النور بين يديه وبيمينه وأهل الباطل بأضداد ذلك فأما الذين اسودت وجوههم تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإشارة إليها إجمالا وتقديم بيان هؤلاء لما أن المقام مقام التحذير عن التشبه بهم مع ما فيه من الجمع بين الإجمال والتفصيل والإفضاء إلى ختم الكلام بحسن حال المؤمنين كما بدئ بذلك عند الإجمال أكفرتم بعد إيمانكم على إرادة القول أي فيقال لهم ذلك والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم والظاهر أنهم أهل الكتابين وكفرهم بعد إيمانهم كفرهم برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعد إيمان أسلافهم أو إيمان أنفسهم به قبل مبعثه عليه الصلاة و السلام أو جميع الكفرة حيث كفروا بعد ما أقروا بالتوحيد يوم الميثاق أو بعد ما تمكنوا من الايمان بالنظر الصحيح والدلائل الواضحة والآيات البنية وقيل المرتدون وقيل أهل البدع والأهواء والفاء في قوله عز وعلا فذوقوا العذاب أي العذاب المعهود الموصوف بالعظم الدلالة على ان الأمر بذوق العذاب على طريق الإهانة مترتب على كفرهم المذكور كما ان قوله تعالى بما كنتم تكفرون صريح في أن نفس الذوق معلل بذلك والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على إستمرار كفرهم أو على مضية في الدنيا ١٠٧ وأما الذين أبيضت وجوههم ففى رحمة اللّه أعنى الجنة والنعيم المخلد عبر عنها بالرحمة تنبيها على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة اللّه تعالى فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمته تعالى وقرئ ابياضت كما قرئ اسوادت هم فيها خالدون استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من السياق كأنه قيل كيف يكونون فيها فقيل هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون وتقديم الظرف للمحافظة على رءوس الآى ١٠٨ تلك إشارة إلى الآيات المشتملة على تنعيم الأبرار وتعذيب الكفار ومعنى البعد للإيذان بعلو شأنها وسمو مكانها في الشرف وهو مبتدأ وقوله تعالى آيات اللّه خبرة وقوله تعالى نتلوها جملة حالية من الآيات والعامل فيها معنى الإشارة أو هي الخبر وآيات اللّه بدل من اسم الإشارة والالتفات إلى التكلم بنون العظمة مع كون التلاوة على لسان جبريل عليه السلام لإبراز كمال العناية بالتلاوة وقرئ يتلوها على إسناد الفعل إلى ضميره تعالى وقوله تعالى عليك متعلق بنتلوها وقوله تعالى بالحق حال مؤكدة من فاعل نتلوها أو من مفعوله أي ملتبسين أو ملتبسة بالحق والعدل ليس في حكمها شائبة جور بنقص ثواب المحسن أو بزيادة عقاب المسئ أو بالعقاب من غير جرم بل كل ذلك موفى لهم حسب استحقاقهم بأعمالهم بموجب الوعد والوعيد وقوله تعالى وما اللّه يريد ظلما للعالمين تذييل مقرر لمضمون ما قبله على أبلغ وجه وآكده فإن تنكير الظلم وتوجيه النفى إلى إرادته بصيغة المضارع دون نفسه وتعليق الحكم بآحاد الجمع المعرف والالتفات إلى الاسم الجليل إشعارا بعلة الحكم بيان لكمال نزاهتة عز و جل عن الظلم بما لا مزيد عليه أي ما يريد فردا من افراد الظلم لفرد من أفراد العالمين في وقت من الأوقات فضلا عن أن يظلمهم فإن المضارع كما يفيد الاستمرار في الإثبات يفيده في النفى بحسب المقام كما أن الجملة الاسمية تدل بمعونة المقام على دوام الثبوت وعند دخول حرف النفى تدل على دوام الانتفاء لا على انتفاء الدوام وفي سبك الجملة نوع إيماء إلى التعريض بأن الكفرة هم الظالمون ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد كما في قوله تعالى إن اللّه لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ١٠٩ وللّه ما في السموات وما في الأرض أي له تعالى وحده من غير شركة أصلا ما فيهما من المخلوقات الفائنة للحصر ملكا وخلقا إحياء وإماتة وإثابة وتعذيبا وإيراد كلمة ما أما لتغليب غير العقلاء على العقلاء وأما لتنزيلهم منزلة غيرهم إظهارا لحقارتهم في مقام بيان عظمته تعالى وإلى اللّه أي إلى حكمه وقضائه لا إلى غيره شركة أو استقلالا ترجع الأمور أي أمورهم فيجازى كلا منهم بما وعد له وأوعده من غير دخل في ذلك لأحد قط فالجملة مقررة لمضمون ما ورد في جزاء الفريقين وقيل هي معطوفة على ما قبلها مقررة لمضمونه فإن كون العالمين عبيده تعالى ومخلوقه ومرزوقه يستدعى إرادة الخير بهم ١١٠ كنتم خير أمة كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوة إلى الخير وكنتم من كان الناقصة التى تدل على تحقق شئ بصفة في الزمان الماضي من غير دلالة على عدم سابق أو لاحق كما في قوله تعالى وكان اللّه غفورا رحيما وقيل كنتم كذلك في علم اللّه أو في اللوح أو فيما بين الأمم السالفة وقيل معناه أنتم خير أمة أخرجت للناس صفة لأمة واللام متعلقة بأخرجت أي أظهرت لهم وقيل بخير أمة أي كنتم خير الناس فهو صريح في أن الخيرية بمعنى النفع للناس وإن فهم ذلك من الإخراج لهم أيضا أي أخرجت لأجلهم ومصلحتهم قال أبو هريرة رضي اللّه عنه معناه كنتم خير الناس تأتون بهم في السلاسل فتدخلونهم في الإسلام وقال قتادة هم أمة محمد لم يؤمر نبى قبله بالقتال فهم يقاتلون الكفار فيدخلونهم في الإسلام فهم خير امة للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر استئناف مبين لكونم خير أمة كما يقال زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم أو خبر ثان لكنتم وصيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار وخطاب المشافهة وإن كان خاصا بمن شاهد الوحى من المؤمنين لكن حكمة عام للكل قال ابن عباس رضي اللّه عنهما يريد أمة محمد وقال الزجاج أصل هذا الخطاب لأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وهو يعم سائر أمته وروى الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده انه سمع النبي يقول في قوله تعالى كنتم خير أمة اخرجت للناس أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على اللّه تعالى وظاهر أن المراد بكل أمة أوائلهم وأواخرهم لاأوائلهم فقط فلا بد ان تكون أعقاب هذه الأمة أيضا داخلة في الحكم وكذا الحال فيما روى ان مالك بن الصيف ووهب ابن يهوذا اليهوديين مرا بنفر من أصحاب النبي فيهم ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة رضوان اللّه عليهم فقالا لهم نحن أفضل منكم وديننا خير مما تدعوننا إليه وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما كنتم خير أمة الذين هاجروا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى المدينة وروى عن الضحاك أنهم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خاصة الرواة والدعاة الذين امر اللّه المسلمين بطاعتهم وتؤمنون باللّه أي إيمانا متعلقا بكل ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب وحساب وجزاء وإنما لم يصرح به تفصيلا لظهور أنه الذي يؤمن به المؤمنون وللإيذان بأنه هو الإيمان باللّه تعالى حقيقة وأن ما خلا عن شئ من ذلك كإيمان أهل الكتاب ليس من الإيمان به تعالى في شئ قال تعالى ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وإنما أخر ذلك عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة لأن دلالتهما على خيريتهم للناس أظهر من دلالته عليها وليقترن به قوله تعالى ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم أي لو آمنوا كإيمانكم لكان ذلك خيرا لهم مما هم عليه من الرياسة واستتباع العوام ولازدادت رياستهم وتمتعهم بالحظوظ الدنيوية مع الفوز بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين وقيل مما هم فيه من الكفر فالخيرية إنما هي باعتبار زعمهم وفيه ضرب تهكم بهم وإنما لم يتعرض للمؤمن به أصلا للإشعار بظهور أنه الذي يطلق عليه اسم الإيمان لا يذهب الوهم إلى غيره ولو فصل المؤمن به ههنا أو فيما قبل لربما فهم أن لأهل الكتاب ايضا إيمانا في الجملة لكن إيمان المؤمنين خير منه وهيهات ذلك منهم المؤمنون جملة مستأنفة سيقت جوابا عما نشأ من الشرطية الدالة على انتفاء الخيرية لانتفاء الإيمان عنهم كأنه قيل هل منهم من آمن أو كلهم على الكفر فقيل منهم المؤمنون المعهودون الفائزون بخير الدارين كعبد اللّه بن سلام وأصحابه وأكثرهم الفاسقون المتمردون في الكفر الخارجون عن الحدود ١١١ لن يضروكم الا أذى استثناء مفرغ من المصدر العام أي لن يضروكم أبدا ضررا ما الا ضرر أذى لا يبالي به من طعن وتهديد لا أثر له وان يقاتلوكم يولوكم الأدبار أي ينهزمون من غير أن ينالوا منكم شيئا من قتل أو أسر ثم لا ينصرون عطف على الشرطية وثم للتراخي في الرتبة أي لا ينصرون من جهة أحد ولا يمنعون منكم قتلا وأخذا وفيه تثبيت لمن آمن منهم فإنهم كانوا يؤذونهم بالتلهي بهم وتوبيخهم وتضليلهم وتهديدهم وبشارة لهم بأنهم لا يقدرون على أن يتجاوزوا الأذى بالقول الى ضرر يعبأ به مع أنه وعدهم الغلبة عليهم والانتقام منهم وأن عاقبة أمرهم الخذلان والذل وانما لم يعطف نفي منصوريتهم على الجزاء لأن المقصود هو الوعد بنفي النصر مطلقا ولو عطف عليه لكان مقيدا بمقاتلتهم كتولية الأدبار وكم بين الوعدين كأنه قيل ثم شأنهم الذي أخبركم عنه وأبشركم به أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعد ذلك بجناح ولا يقومون على ساق ولا يستقيم لهم أمر وكان كذلك حيث لقى بنو قريظة والنضير وبنو قينقاع ويهود خيبر ما لقوا ١١٢ ضربت عليهم الذلة أي هدر النفس والمال والأهل أو ذل التمسك بالباطل اينما ثقفوا أي وجدوا إلا بحبل من اللّه وحبل من الناس استثناء من أعم الأحوال أي ضربت عليهم الذلة ضرب القبة على من هي عليه في جميع الأحوال الا حال كونهم معتصمين بذمة اللّه أو كتابه الذي أتاهم وذمة المسلمين أو بذمة الاسلام واتباع سبيل المؤمنين وباءوا بغضب من اللّه أي رجعوا مستوجبين له والتنكير للتفخيم والتهويل ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لغضب مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة والهول أي كائن من اللّه عز و جل وضربت عليهم المسكنة فهي محيطة بهم من جميع جوانبهم واليهود كذلك في غالب الحال مساكين تحت أيدي المسلمين والنصارى ذلك اشارة الى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم والبوء بالغضب العظيم بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه أي ذلك الذي ذكر كائن بسبب كفرهم المستمر بآيات اللّه الناطقة بنبوة محمد وتحريفهم لها وبسائر الآيات القرآنية ويقتلون الأنبياء بغير حق أي في اعتقادهم ايضا واسناد القتل مع أنه فعل اسلافهم لرضاهم به كما أن التحريف مع كونه من افعال أحبارهم ينسب الى كل من يسير بسيرتهم ذلك اشارة الى ما ذكر من الكفر والقتل بما عصوا وكانوا يعتدون أي كائن بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود اللّه تعالى على الاستمرار فإن الاصرار على الصغائر يفضي الى مباشرة الكبائر والاستمرار عليها يؤدي الى الكفر وقيل معناه أن ضرب الذلة والمسكنة في الدنيا واستيجاب الغضب في الآخرة كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو مسبب عن عصيانهم واعتدائهم من حيث أنهم مخاطبون بالفروع من حيث المؤاخذة ١١٣ ليسوا سواء جملة مستأنفة سيقت تمهيدا لتعداد محاسن مؤمني أهل الكتاب وتذكيرا لقوله تعالى منهم المؤمنون والضمير في ليسوا لأهل الكتاب جميعا لا للفاسقين منهم خاصة وهو اسم ليس وخبره سواء وانما أفرد لأنه في الأصل مصدر والمراد بنفى المساواة نفى المشاركة في أصل الاتصاف بالقبائح المذكورة لا نفى المساواة في مراتب الاتصاف بها مع تحقق المشاركة في أصل الاتصاف بها أي ليس جميع أهل الكتاب متشاركين في الاتصاف بما ذكر من القبائح والابتلاء بما يترتب عليها من العقوبات وقوله تعالى من أهل الكتاب أمة قائمة استئناف مبين لكيفية عدم تساويهم ومزيل لما فيه من الإبهام كما ان ما سبق من قوله تعالى تأمرون بالمعروف الآية مبين لقوله تعالى كنتم خير امة الخ ووضع أهل الكتاب موضع الضمير العائد إليهم لتحقيق ما به الاشتراك بين الفريقين والإيذان بان تلك الأمة ممن أوتى نصيبا وافرا من الكتاب لا من أرذالهم والقائمة المستقيمة العادلة من أقمت العود فقام بمعنى استقام وهم الذين أسلموا منهم كعبد اللّه بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن عبيد وأضرابهم وقيل هم أربعون رجلا من أهل نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثلاثة من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا محمدا عليهما الصلاة والسلام وكان من الأنصار فيهم عدة قبل قدوم النبي منهم أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ومحمد بن مسلمة وأبو قيس صرمة ابن أنس كانوا موحدين يغتسلون من الجنابة ويقومون بما يعرفون من شرائع الحنيفية حتى بعث اللّه النبي فصدقوه ونصروه وقوله تعالى يتلون آيات اللّه في محل الرفع على أنه صفة أخرى لأمة وقيل في محل النصب على انه حال منها لتخصصها بالنعت والعامل فيه الاستقرار الذي يتضمنه الجار أو من ضميرها في قائمة أو من المستكن في الجار لوقوعه خبرا لأمة والمراد بآيات اللّه القرآن وقوله تعالى آناء الليل ظرف ليتلون أي في ساعاته جمع أنى بزنة عصا أو أنى بزنة معى أو أنى بزنة ظبى أو أنى بزنة نحى أو أنو بزنة جرو وهم يسجدون أي يصلون إذ لا تلاوة في السجود قال ألا إنى نهيت أن أقرأ راكعا وساجدا وتخصيص السجود بالذكر من بين سائر أركان الصلاة لكونه أدل على كمال الخضوع والتصريح بتلاوتهم آيات اللّه في الصلاة مع انها مشتملة عليها قطعا لزيادة تحقيق المخالفة وتوضيح عدم المساواة بينهم وبين الذين وصفوا آنفا بالكفر بها وهو السر في تقديم هذا النعت على نعت الإيمان والمراد بصلاتهم التهجد اذا هو ادخل في مدحهم وفيه يتسنى لهم التلاوة فإنها في المكتوبة وظيفة الإمام واعتبار حالهم عند الصلاة على الانفراد يأباه مقام المدح وهو الأنسب بالعدول عن إيرادها باسم الجنس المتبادر منه الصلاة المكتوبة وبالتعبير عن وقتها بالآناء المبهمة وقيل صلاة العشاء لأن أهل الكتاب لا يصلونها لما روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم آخرها ليلة ثم خرج فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال إما أنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر اللّه هذه الساعة غيركم وقرا هذه الآية وإيراد الجملة اسمية للدلالة على الاستمرار وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وتأكيده وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والجملة حال من فاعل يتولون وقيل هي مستأنفة والمعنى أنهم يقومون تارة ويسجدون أخرى يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع للّه عز و جل كما في قوله تعالى والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما وقيل المراد بالسجود هو الخضوع كما في قوله تعالى وللّه يسجد ما في السموات والأرض ١١٤ يؤمنون باللّه واليوم الآخر صفة أخرى لأمة مبينة لمباينتهم اليهود من جهة أخرى أي يؤمنون بها على الوجه الذي نطق به الشرع والإطلاق للإيذان بالغنى عن التقييد لظهور أنه الذي يطلق عليه الإيمان بهما لا يذهب الوهم إلى غيره وللتعريض بان إيمان اليهود بهما مع قولهم عزير ابن اللّه وكفرهم ببعض الكتب والرسل ووصفهم اليوم الآخر بخلاف صفته ليس من الإيمان بهما في شئ أصلا ولو قيد بما ذكر لربما توهم أن المنتفى عنهم هو القيد المذكور مع جواز إطلاق الإيمان على إيمانهم بالأصل وهيهات ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر صفتان أخريان لأمة أجريتا عليهم تحقيقا لمخالفتهم اليهود في الفضائل المتعلقة بتكميل الغير إثر بيان مباينتهم لهم في الخصائص المتعلقة بتكميل النفس وتعريضا بمداهنتهم في الاحتساب بل بتعكيسهم في الأمر بإضلال الناس وصدهم عن سبيل اللّه فإنه أمر بالمنكر ونهى عن بالمعروف ويسارعون في الخيرات صفة أخرى لأمة جامعة لفنون المحاسن المتعلقة بالنفس وبالغير والمسارعة في الخير فرط الرغبة فيه لأن من رغب في الأمر سارع في توليته والقيام به وآثر الفور على النراخي اى يبادرون مع كمال الرغبة في فعل أصناف الخيرات اللازمة والمتعدية وفيه تعريض بتباطؤ اليهود فيها بل بمبادتهم إلى الشرور وإيثار كلمة في على ما وقع في قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة الخ للإيذان بأنهم مستقرون في أصل الخير متقلبون في فنونه المترتبة في طبقات الفضل لا أنهم خارجون عنها منتهون إليها وأولئك إشارة إلى الأمة باعتبار اتصافهم بما فصل من النعوت الجليلة وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وسمو طبقتهم في الفضل وإيثاره على الضمير للإشعار بعلة الحكم والمدح أي أولئك المنعوتون بتلك الصفات الفاضلة بسبب أتصافهم بها من الصالحين أي من جملة من صلحت أحوالهم عند اللّه عز و جل واستحقوا رضاه وثناءه ١١٥ وما يفعلوا من خير كائنا ما كان مما ذكر أو لم يذكر فلن يكفروه أي لن يعدموا ثوابه البتة عبر عنه بذلك كما عبر عن توفية الثواب بالشكر اظهارا لكمال تنزهه سبحانه وتعالى عن ترك اثابتهم بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من القبائح وتعديته الى مفعولين بتضمين معنى الحرمان وايثار صيغة البناء للمفعول للجرى على سنن الكبرياء وقرئ الفعلان على صيغة الخطاب واللّه عليم بالمتقين تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن علمه تعالى بأحوالهم يستدعي توفية أجورهم لا محالة والمراد بالمتقين اما الأمة المعهودة وضع موضع الضمير العائد اليهم مدحا لهم وتعيينا لعنوان تعلق العلم بهم واشعارا بمناط اثابتهم وهو التقوى المنطوي على الخصائص السالفة وأما جنس المتقين عموما وهم مندرجون تحت حكمه اندارجا أوليا ١١٦ إن الذين كفروا أي بما يجب أن يؤمن به قال ابن عباس رضي اللّه عنهما هم بنو قريظة والنضير فإن معاندتهم كانت لأجل المال وقيل هم مشركو قريش فإن ابا جهل كان كثير الافتخار بماله وقيل ابو سفيان واصحابه فإنه انفق مالا كثيرا على الكفار يوم بدر واحد وقيل هم الكفار كافة فإنهم فاخروا بالاموال والاولاد حيث قالوا نحن اكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين فرد اللّه عز و جل عليهم وقال لن تغني عنهم أي لن تدفع عنهم أموالهم ولاأولادهم من اللّه أي من عذابه تعالى شيئا أي شيئا يسيرا منه أو شيئا من الإغناء وأولئك اصحاب النار أي مصاحبوها على الدوام وملازموها هم فيها خالدون أبدا ١١٧ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا بيان لكيفية عدم إغناء أموالهم التي كانوا يعولون عليها في جلب المنافع ودفع المضار ويعلقون بها أطماعهم الفارغة وما موصولة اسمية حذف عائدها أي حال ما ينفقه الكفرة قربة أو مفاخرة وسمعة أو المنافقون رياء وخوفا وقصته العجيبة التي مجرى المثل في الغرابة كمثل ريح فيها صر أي برد شديد فإنه في الاصل مصدر وإن شاع إطلاقه على الريح الباردة كالصر صر وقيل كلمة في تجريدية كما في قوله تعالى لقد كان لكم في رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أسوة حسنة أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي فباءوا بغضب من اللّه وإنما وصفوا بذلك لأن الإهلاك عن سخط اشد وأفظع فأهلكته عقوبة لهم ولم تدع منه أثرا ولا عثيرا والمراد تشبيه ما أنفقوا في ضياعه وذهابه بالكلية من غير أن يعود إليهم نفع ما بحرث كفار ضربته صر فاستأصلته ولم يبق لهم فيه منفعة ما بوجه من الوجوه وهو من التشبيه المركب الذي مر تفصيله في تفسير قوله تعالى كمثل الذي استوقد نارا ولذلك لم يبال بإيلاء كلمة التشبيه الريح دون الحرث ويجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث وقرئ تنفقون وما ظلمهم اللّه بما بين من ضياع ما أنفقوا من الأموال ولكن أنفسهم يظلمون لما أنهم أضاعوها بإنفاقها لا على ما ينبغي وتقديم المفعول لرعاية الفواصل لا للتخصيص إذ الكلام في الفعل باعتبار تعلقه بالفاعل لا بالمفعول أي ما ظلمهم اللّه ولكن ظلموا أنفسهم وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار وقد جوز ان يكون المعنى وما ظلم اللّه تعالى أصحاب الحرث بإهلاكه ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة ويأباه أنه قد مر التعرض له تصريحا وإشعارا وقرئ ولكن بالتشديد على أن أنفسهم اسمها ويظلمون خبرها والعائد محذوف للفاصلة أي ولكن أنفسهم يظلمونها وأما تقدير ضمير الشأن فلا سبيل أليه لاختصاصه بالشعر ضرورة كما في قوله ... ولكن من يبصر جفونك يعشق ١١٨ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة بطانة الرجل ووليجته من يعرفه أسراره ثقة به شبه ببطانة الثوب كما شبه بالشعار قال الأنصار شعار والناس دثار قال ابن عباس رضي اللّه عنهما كان رجال من المؤمنين يواصلون اليهود لما بينهم من القرابة والصداقة والحلف فانزل اللّه تعالى هذه الآسية وقال مجاهد نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يواصلون المنافقين فنهو عن ذلك ويؤيده قوله تعالى وإذا لقوكم قالوا آمنا واذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ وهي صفة المنافق وايا ما كان فالحكم عام للكفرة كافة من دونكم أي من دون المسلمين وهو متعلق بلا تتخذوا أو بمحذوف وقع صفة لبطانة أي كائنة من دونكم مجاوزة لكم لا يألونكم خبالا جملة مستأنفة مبينة لحالهم داعية الى الاجتناب عنهم أو صفة بطانة يقال الا في الأمر إذا قصر فيه ثم استعمل معدي الى المفعولين في قولهم لا آلوك نصحا ولا آلوك جهدا على تضمين معنى المنع والنقص والخبال الفساد أي لا يقصرون لكم في الفساد ودوا ما عنتم أي تمنوا عنتكم أي مشقتكم وشدة ضرركم وهو ايضا استئناف مؤكد للنهي موجب لزيادة الاجتناب عن المنهي عنه قد بدت البغضاء من أفواههم استئناف آخر مفيد لمزيد الاجتناب عن المنهي عنه أي قد ظهرت البغضاء في كلامهم لما أنهم لا يتمالكون مع مبالغتهم في ضبط أنفسهم وتحاملهم عليها أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين وقرئ قد بدا البغضاء والأفواه جمع فم وأصله فوه فلامه هاء يدل على ذلك جمعه على أفواه وتصغيره على فويه والنسبة اليه فوهي وما تخفى صدورهم أكبر مما بدا لأن بدوه ليس عن روية واختيار قد بينا لكم الآيات الدالة على وجوب الاخلاص في الدين وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين إن كنتم تعقلون أي ان كنتم من أهل العقل أو إن كنتم تعقلون ما بين لكم من الآيات والجواب محذوف لدلالة المذكور عليه ١١٩ هأنتم أولاء جملة من مبتدأ وخبر صدرت بحرف التنبيه اظهارا لكمال العناية بمضمونها أي انتم أولاء المخطئون في موالاتهم وقوله تعالى تحبونهم ولا يحبونكم بيان لخطئهم في ذلك وهو خبر ثان لأنتم أو خبر لأولاء والجملة خبر لأنتم كقولك أنت زيد تحبه أو صلة له أو حال والعامل معنى الاشارة ويجوز أن ينتصب أولاء بفعل يفسره ما بعده وتكون الجملة خبرا وتؤمنون بالكتاب كله أي بجنس الكتب جميعا وهو حال من ضمير المفعول في لا يحبونكم والمعنى لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم وفيه توبيخ بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم واذا لقوكم قالوا آمنا نفاقا واذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ أي من أجله تأسفا وتحسرا حيث لم يجدوا الى التشفي سبيلا قل موتوا بغيظكم دعاء عليهم بدوام الغيظ وزيادته بتضاعيف قوة الإسلام وأهله إلى أن يهلكوا به أو باشتداده إلى ان يهلكهم ان اللّه عليم بذات الصدور فيعلم ما في صدوركم من العداوة والبغضاء والحنق وهو يحتمل أن يكون من المقول أى وقل لهم إن اللّه تعالى عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل عيظا وأن يكون خارجا عنه بمعنى لا تتعجب من إطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بذات الصدور وقيل هو أمر لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد اللّه تعالى أن يهلكوا غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به من غير أن يكون ثمة قول كأنه قيل حدث نفسك بذلك ١٢٠ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها بيان لتناهي عداوتهم إلى حد حسد وامانا لهم من خير ومنفعة وشمتوا بما أصابهم من ضر وشدة وذكر المس مع الحسنة والإصابة مع السئية إما للإيذان بأن مدار مساءتهم أدنى مراتب إصابة الحسنة ومناط فرحهم تمام إصابة السيئة وأما لأن المس مستعار لمعنى الإصابة وإن تصبروا أى على عداتهم أو على مشاق التكاليف وتتقوا ما حرم اللّه تعالى عليكم ونهاكم عنه لا يضركم كيدهم مكرهم وحيلتهم التى دبروها لأجلكم وقرئ لا يضركم بكسر الضاد وجزم الراء على جواب الشرط من ضاره يضيره بمعنى ضره يضره وضمه الراء في القراءة المشهورة للاتباع كضمة مد شيئا نصب على المصدرية أي لايضركم شيئا من الضرر بفضل اللّه وحفظه الموعود للصابرين والمتقين ولأن المجد في الأمر المتدرب بالاتقاء والصبر يكون جريئا على الخصم إن اللّه بما يعلمون في عداوتكم من الكيد محيط علما فيعاقبهم على ذلك وقرئ بالتاء الفوقائية أي بما تعملون من الصبر والتقوى فيجازيكم بما أنتم أهله ١٢١ وإذ غدوت كلام مستأنف سيق للاستشهاد بما فيه من استتباع عدم الصبر والتقوى للضرر على أن وجودهما مستتبع لما وعد من النجاة من مضرة كيد الأعداء وإذ نصب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي خاصة مع عموم الخطاب فيما قبله وما بعده له وللمؤمنين لاختصاص مضمون الكلام به عليه السلام أي واذكر لهم وقت غدوك ليتذكروا ما وقع فيه من الأحوال الناشئة عن عدم الصبر فيعلمون أنهم إن لزموا الصبر والتقوى لا يضرهم كيد الكفرة وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرها واستحضار الحادثة بتفاصيلها كما سلف بيانه في تفسير قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة الخ والمراد به خروجه عليه السلام إلى أحد وكان ذلك من منزل عائشة رضي اللّه عنها وهو المراد بقوله تعالى من أهلك أي من عند أهلك تبوئ المؤمنين أي تنزلهم أو تهيئ وتسوى لهم مقاعد ويؤيد قراءة من قرأ تبوئ للمؤمنين والجملة حال من فاعل غدوت لكن لا على أنها حال مقدرة أي ناويا و قاصدا للتبوئة كما قيل بل على أن المقصود تذكير الزمان الممتد المتسع لابتداء الخروج والتبوئة وما يترتب عليها إذ هو المذكر للقصة وإنما عبر عنه بالغدو الذي هو الخروج غدوة مع كون خروجه عليه السلام بعد صلاة الجمعة كما ستعرفه إذ حينئذ وقعت التبوئة التي هي العمدة في الباب إذ المقصود بتذكير الوقت تذكير مخالفتهم لأمرالنبي وتزايلهم عن أحيازهم المعينة لهم عند التبوئة وعدم صبرهم وبهذا يتبين خلل رأى من احتج به على جواز أداء صلاة الجمعة قبل الزوال واللام في قوله تعالى للقتال إما متعلقة بتبوىء أي لأجل القتال وأما بمحذوف وقع صفة لمقاعد أي كائنة ومقاعد القتال أماكنه ومواقفه فإن استعمال المقعد والمقام بمعنى المكان اتساعا شائع ذائع كما في قوله تعالى في مقعد صدق وقوله تعالى قبل أن تقوم من مقامك روى أن المشركين نزلوا باحد يوم الأربعاء فاستشار رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اصحابه ودعا عبد اللّه بن أبي بن سلول ولم يكن دعاه قبل ذلك فاستشاره فقال عبد اللّه وأكثر الأنصار يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم فواللّه ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة وإن رجعوا رجعوا خائبين وقال بعضهم يارسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم فقال أني قد رأيت في منامي بقرا مذبحة حولى فأولتها خيرا ورأيت في ذباب سيفى ثلما فأولته هزيمة ورأيت كأنى ادخلت يدى في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة فتدعوهم فقال رجال من المسلمين قد فاتتهم بدر وأكرمهم اللّه تعالى بالشهادة يومئذ أخرج بنا إلى أعدائنا وقال النعمان بن مالك الأنصارى رضي اللّه عنه يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لاتحرمنى الجنة فوالذي بعثك بالحق لأدخلن الجنة ثم قال بقولى أشهد ان لا إله إلا اللّه وأنى لا أفر من الزحف فلم يزالوا به عليه السلام حتى دخل فلبس لأمته فلما رأوه كذلك ندموا وقالوا بئسما صنعنا نشير على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم والوحى يأتيه وقالوا اصنع يارسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما رأيت فقال ما ينبغى لنبى أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال لسنة ثلاث من الهجرة فمشى على رجليه فجعل يصف أصحابه للقتال فكأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا قال تأخر وكان نزوله في عدوة الوادى وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وأمر عبد اللّه بن جبير على الرماة وقال لهم انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا ولا تبرحوا من مكانكم فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم واللّه سميع لأقوالكم عليم بضمائركم والجملة اعتراض للإيذان بانه قد صدر عنهم هناك من الأقوال والأفعال مالا ينبغى صدوره عنهم ١٢٢ إذ همت بدل من إذ غدوت مبين لما هو المقصود بالتذكير أو ظرف لسميع عليم على معنى أنه تعالى جامع بين سماع الأقوال والعلم بالضمائر في ذلك الوقت إذ لا وجه لتقييد كونه تعالى سميعا عليما بذلك الوقت قال الفراء معنى قولك ضربت وأكرمت زيدا أن زيدا منصوب بهما تسلطا عليه معا طائفتان منكم ان تفشلا متعلق بهمت والباء محذوفة أي بأن تفشلا أي تجبنا وتضعفا وهما حيان من الأنصار بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وهما الجناحان من عسكر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وكانوا ألف رجل وقيل تسعمائة وخمسين وعدهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الفتح أن صبروا فلما قاربوا عسكر الكفرة وكانوا ثلاثة آلاف انخذل عبد اللّه بن أبي بثلث الناس فقال يا قوم علام نقتل أنفسنا وأولادنا فتبعهم عمرو بن حزم الأنصارى فقال أنشدكم اللّه في نبيكم وأنفسكم فقال عبد اللّه لو نعلم قتالا لأتبعناكم فهم الحيان باتباع عبد اللّه فعصمهم اللّه تعالى فمضوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أضمروا أن يرجعوا فعزم اللّه لهم على الرشد فثبتوا والظاهر أنها ما كانت إلا همة وحديث نفس قلما تخلو النفس عنه عند الشدائد واللّه وليهما أي عاصمهما عن إتباع تلك الخطرة والجملة اعتراض ويجوز أن تكون حالا من فاعل همت أو من ضميره في تفشلا مفيدة لاستبعاد فشلهما أو همهما به مع كونهما في ولاية اللّه تعالى وقرئ واللّه وليهم كما في قوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا وعلى اللّه وحده دون ما عداه مطلقا استقلالا أو اشتراكا فليتوكل المؤمنون في جميع أمورهم فإنه حسبهم وإظهار الأسم الجليل للتبرك والتعليل فإن الألوهية من موجبات التوكل عليه تعالى واللام في المؤمنين للجنس فيدخل فيه الطائفتان دخولا أوليا وفيه إشعار بأن وصف الإيمان من دواعي التوكل وموجباته ١٢٣ ولقد نصركم اللّه ببدر جملة مستأنفة سيقت لإيجاب الصبر والتقوى بتذكير ما ترتب عليهما من النصر اثر تذكير ما ترتب على عدمهما من الضرر وقيل لإيجاب التوكل على اللّه تعالى بتذكير ما يوجبه وبدر إسم ماء بين مكة والمدينة كان لرجل إسمه بدر بن كلدة فسمي باسمه وقيل سمي به لصفائه كالبدر واستدارته وقيل هو اسم الموضع أو الوادي وكانت وقعة بدر في السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة وأنتم أذلة حال من مفعول نصركم وأذلة جمع ذليل وإنما جمع جمع قلة للإيذان بإتصافهم حينئذ بوصفي القلة والذلة إذ كانوا ثلثمائة وبضعة عشر وكان ضعف حالهم في الغاية خرجوا على النواضح يتعقب النفر منهم على البعير الواحد ولم يكن في العسكر إلا فرس واحد وقيل فرسان للمقداد ومرثد وتسعون بعيرا وست ادرع وثمانية سيوف وكان العدو زهاء ألف ومعهم مائة فرس وشكة وشوكة فاتقوا اللّه اقتصر على الأمر بالتقوى مع كونه مشفوعا بالصبر فيما سبق وما لحق للإشعار بإصالته وكون الصبر من مباديه اللازمة له ولذلك قدم عليه في الذكر وفي ترتيب الأمر بالتقوى على الإخبار بالنصر إيذان بأن نصرهم المذكور كان بسبب تقواهم أي إذا كان الأمر كذلك فاتقوا اللّه كما اتقيتم يومئذ لعلكم تشكرون أي راجين أن تشكروا ما ينعم به عليكم بتقواكم من النصرة كما شكرتم فيما قبل أو لعلكم ينعم اللّه عليكم بالنصر كما فعل ذلك من قبل فوضع الشكر موضع سببه الذي هو الإنعام ١٢٤ إذ تقول تلوين للخطاب بتخصيصه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لتشريفه والإيذان بأن وقوع النصر كان ببشارته عليه السلام وإذ ظرف لنصركم قدم عليه الأمر بالتقوى لإظهار كمال العناية به والمراد به الوقت الممتد الذي وقع فيه ما ذكر بعده وما طوى ذكره تعويلا على شهادة الحال مما يتعلق به وجود النصر وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لإستحضار صورتها أي نصركم وقت قولك للمؤمنين حين أظهروا العجز عن المقاتلة قال الشعبي بلغ المؤمنين أن كرز بن جابر الحنفي يريد ان يمد المشركين فشق ذلك على المؤمنين فنزل حينئذ ثم حكى ههنا ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف الكفاية سد الخلة والقيام بالأمر والإمداد في الأصل إعطاء الشئ حالا بعد حال قال المفضل ما كان منه بطريق التقوية والإعانة يقال فيه أمده يمده إمدادا وما كان بطريق الزيادة يقال فيه مده يمده مدا ومنه والبحر يمده من بعده سبعة أبحر وقيل المد في الشر كما في قوله تعالى ويمدهم في طغيانهم يعمهون وقوله و نمد له من العذاب مدا والإمداد في الخير كما في قوله تعالى وأمددناكم بأموال وبنين والتعرض لعنوان الربوبية ههنا وفيما سيأتي مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار العناية بهم والإشعار بعلة الإمداد والمعنى إنكار عدم كفاية الإمداد بذلك المقدار ونفيه وكلمة لن للإشعار بأنهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لضعفهم وقلتهم وقوة العدو وكثرتهم من الملائكة بيان أو صفة لآلاف أو لما اضيف إليه أي كائنين من الملائكة منزلين صفة لثلاثة آلاف وقيل حال من الملائكة وقرئ منزلين بالتشديد للتكثير أو للتدريج قيل امدهم اللّه تعالى أولا بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف وقرئ مبنيا للفاعل من الصيغتين أي منزلين النصر ١٢٥ بلى إيجاب لما بعد لن وتحقيق له أي بلى يكفيكم ذلك ثم وعد لهم الزيادة بشرط الصبر والتقوى حثا لهم عليهما وتقوية لقلوبهم فقال إن تصبروا على لقاء العدو ومناهضتهم وتتقوا معصية اللّه ومخالفة نبيه عليه الصلاة و السلام ويأتوكم أي المشركين من فورهم هذا أي من ساعتهم هذه وهو في الأصل مصدر فارت القدر أي اشتد غليانها ثم استعير للسرعة ثم اطلق على كل حالة لا ريث فيها اصلا ووصفه بهذا لتأكيد السرعة بزيادة تعيينه وتقريبه ونظم إتيانهم بسرعة في سلك شرطي الإمداد المستتبعين له وجودا وعدما أعنى الصبر والتقوى مع تحقق الإمداد لا محالة سواء أسرعوا أو أبطئوا لتحقيق سرعة الإمداد لا لتحقيق أصله أو لبيان تحققه على أي حال فرض على أبلغ وجه وآكده بتعليقه بأبعد التقادير ليعلم تحققه على سائرها بالطريق الأولى فإن هجوم الاعداء وإتيانهم بسرعة من مظان عدم لحوق المدد عادة فعلق به تحقق الإمداد إيذانا بأنه حيث تحقق مع ما ينافيه عادة فلأن يتحقق بدونه أولى وأحرى كما إذا أردت وصف درع بغاية الحصانة تقول أن لبستها وبارزت بها الأعداء فضربوك بأيد شداد وسيوف حداد لم تتأثر منها قطعا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين من التسويم الذي هو إظهار سيما الشيء أي معلمين أنفسهم أو خيلهم فقد روى أنهم كانوا بعمائم بيض إلا جبريل عليه السلام فإنه كان بعمامة صفراء على مثال الزبير بن العوام وروى أنهم كانوا على خيل باق قال عروة بن الزبير كانت الملائكة على خيل بلق عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم وقال هشام بن عروة عمائم صفر وقال قتادة والضحاك وكانوا قد أعلموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها روى أن النبي قال لأصحابه تسوموا فإن الملائكة قد تسومت وقرئ مسومين على البناء للمفعول ومعناه معلمين من جهته سبحانه وقيل مرسلين من التسويم بمعنى الإسامة ١٢٦ وما جعله اللّه كلام مبتدأ غير داخل في حيز القول مسوق من جنابه تعالى لبيان ان الأسباب الظاهرة بمعزل من التأثير وإن حقيقة النصر مختص به عز و جل ليثق به المؤمنون ولا يقنطوا منه عند فقدان أسبابه وأماراته معطوف على فعل مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام فإن الأخبار بوقوع النصر على الإطلاق وتذكير وقته وحكاية الوعد بوقوعه على وجه مخصوص هو الإمداد بالملائكة مرة بعد اخرى وتعيين وقته فيما مضى يقضي بوقوعه حينئذ قضاء قطعيا لكن لم يصرح به تعويلا على تعاضد الدلائل وتآخذ الإمارات والمخايل وإيذانا بكمال الغنى عنه بل إحترازا عن شائبة التكرير أو عن إيهام احتمال الخلف في الوعد المحتوم كأنه قيل عقيب قوله تعالى يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين فأمدكم بهم وما جعله اللّه الخ والجعل متعد إلى واحد وهو الضمير العائد إلى مصدر ذلك الفعل المقدر وأما عودة إلى المصدر المذكور أعني قوله تعالى أن يمدكم أو إلى المصدر المدلول عليه بقوله تعالى يمددكم كما قيل فغير حقيق بجزالة التنزيل لأن الهيئة البسيطة متقدمة على المركبة فبيان العلة الغائبة لوجود الإمداد كما هو المراد بالنظم الكريم حقه ان يكون بعد بيان وجوده في نفسه ولا ريب في ان المصدر بن المذكورين غير معتبرين من حيث الوجود والوقوع كمصدر الفعل المقدر حتى يتصدى لبيان أحكام وجودهما بل الأول معتبر من حيث الكفاية والثاني من حيث الوعد على أن الأول هو الإمداد بثلاثة آلاف والواقع هو الإمداد بخمسة آلاف وقوله تعالى إلا بشرى لكم استثناء مفرغ من أعم العلل وتلوين الخطاب لتشريف المؤمنين وللإيذان بأنهم المحتاجون إلى البشارة وتسكين القلوب بتوفيق الأسباب الظاهرة وان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم غني عنه بماله من التأييد الروحاني أي وما جعل إمدادكم بإنزال الملائكة عيانا لشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بأنكم تنصرون ولتطمئن قلوبكم به أي بالإمداد وتسكن إليه كما كانت السكينة لبني أسرائيل كذلك فكلاهما علة غائية للجعل وقد نصب الأول لإجتماع شرائطه من اتحاد الفاعل والزمان وكونه مصدرا مسوقا للتعليل وبقي الثاني على حاله لفقدانها وقيل للإشارة أيضا إلى أصالته في العلية وأهميته في نفسه كما في قوله تعالى والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة وفي قصر الإمداد عليهما إشعار بأن الملائكة عليهم السلام لم يباشروا يومئذ القتال وانما كان إمدادهم بتقوية قلوب المباشرين بتكثير السواد ونحوه كما هو رأي بعض السلف رضي اللّه عنه وقيل الجعل متعد إلى اثنين وقوله عز و جل إلا بشرى لكم استثناء من اعم المفاعيل أي وما جعله اللّه تعالى شيئا من الأشياء إلا بشارة لكم فاللام في قوله تعالى ولتطمئن متعلقة بمحذوف تقديره ولتطمئن قلوبكم به فعل ذلك وما النصر أي حقيقة النصر على الإطلاق فيندرج في حكمه النصر المعهود إندراجا أوليا إلا من عند اللّه أي إلا كائن من عنده تعالى من غير ان يكون فيه شركة من جهة الأسباب والعدد وإنما هي مظاهر له بطريق جريان سنته تعالى أو و ما النصر المعهود إلا من عنده تعالى لا من عند الملائكة فإنهم بمعزل من التأثير وإنما قصارى أمرهم ما ذكر من البشارة وتقوية القلوب العزيز أي الذي لا يغالب في حكمه وأقضيته وإجراء هذا الوصف عليه تعالى للإشعار بعلة اختصاص النصر به تعالى كما أن وصفه بقوله الحكيم أي الذي يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة للإيذان بعلة جعل النصر بإنزال الملائكة فأن ذلك من مقتضيات الحكم البالغة ١٢٧ ليقطع متعلق بقوله تعالى ولقد نصركم وما بينهما تحقيق لحقيقته وبيان لكيفية وقوعه والمقصور على التعليل بما ذكر من البشرى والإطمئنان إنما هو الإمداد بالملائكة على الوجه المذكور فلا يقدح ذلك في تعليل أصل النصر بالقطع وما عطف عليه أو بما تعلق به الخبر في قوله عز وعلا وما النصر إلا من عند اللّه على تقدير كونه عبارة عن النصر المعهود وقد أشير إلى أن المعلل بالبشارة وألإطمئنان إنما هو الإمداد الصوري لا ما في ضمنه من النصر المعنوي الذي هو ملاك الأمر وأما تغلقه بنفس النصر كما قيل فمع ما فيه من الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي هو الخبر مخل بسداد المعنى كيف لا ومعناه قصر النصر المخصوص المعلل بعلل معينة على الحصول من جهته تعالى وليس المراد إلا قصر حقيقة النصر أو النصر المعهود على ذلك والمعنى لقد نصركم اللّه يومئذ أو وما النصر الظاهر عند إمداد الملائكة إلا ثابت من عند اللّه ليقطع أي يهلك وينقص طرفا من الذين كفروا أي طائفة منهم بقتل وأسر وقد وقع ذلك حيث قتل من رؤسائهم وصناديدهم سبعون وأسر سبعون أو يكبتهم أي يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة فإن الكبت شدة غيظ أو وهن يقع في القلب من كبته بمعنى كبده إذا ضرب كبده بالغيظ والحرقة وقيل الكبت الإصابة بمكروه وقيل هو الصرع للوجه واليدين فالتاء حينئذ غير مبدلة وإو للتنويع فينقلبوا خائبين أي فينهزموا منقطعي الآمال غير فائزين من مبتغاهم بشئ كما في قوله تعالى ورد اللّه الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ١٢٨ ليس لك من الأمر شيء اعتراض وسط بين المعطوف عليه المتعلق بالعاجل والمعطوف المتعلق بالآجل لتحقيق أن لا تأثير للمنثورين إثر بيان أن لا تأثير للناصرين وتخصيص النفي برسول على طريق تلوين الخطاب للدلالة على الإنتفاء من غيره بالطريق الأولى وإنما خص الإعتراض بموقعه لأن ما قبله من القطع والكبت من مظان ان يكون فيه لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ولسائر مباشري القتال مدخل في الجملة أو يتوب عليهم أو يعذبهم عطف على يكبتهم والمعنى أن مالك أمرهم على الإطلاق هو اللّه عز و جل نصركم عليهم ليهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم والمراد بتعذيبهم التعذيب السديد الأخروي المخصوص بأشد الكفرة كفرا وإلا فمطلق التعذيب الأخروي متحقق في الفريقين الأولين أيضا ونظم التوبة والتعذيب المذكور في سلك العلة الغائبة للنصر المترتبة عليه في الوجود من حيث إن قبول توبتهم فرع تحققها الناشئ من علمهم بحقية الإسلام بسبب غلبة أهله المترتبة على النصر وان تعذيبهم بالعذاب المذكور مترتب على إصرارهم على الكفر بعد تبين الحق على الوجه المذكور هذا وقيل إن عتبة بن أبي وقاص شج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم أحد وكسر رباعيته فجعل يمسح الدم عن وجهه وسالم مولى حذيفة يغسل عن وجهه الدم وهو يقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم فنزلت ليس لك من الأمر شيء الآية كأنه نوع معاتبة على إنكاره عليه السلام لفلاحهم وقيل أراد أن يدعو عليهم فنهاه اللّه تعالى لعلمه بأن منهم من يؤمن فقوله تعالى أو يتوب عليهم حينئذ معطوف على الأمر أو على شيء بإضمار أن أي ليس لك من أمرهم أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذبهم ونقل عن الفراء وابن الأنبارى ان أو بمعنى الا ان المهنى ليس لك من امرهم شىء إلا أن يتوب اللّه عليهم فتفرح به أو يعذبهم فتشفى منهم وأيا ما كان فهو كلام مستأنف سيق لبيان بعض الأمور المتعلقة بغزوة احد إثر بيان بعض ما يتعلق بغزوة بدر لما بينهما من التناسب الظاهر لأن كلا منهما مبني على اختصاص الأمر كله باللّه تعالى ومنبئ عن سلبه عمن سواه وأما تعلق كل القصة بغزوة احد على أن قوله تعالى إذ تقول بدل ثان من إذ غدوت وإن ما حكى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد وقع يوم أحد وأن الإمداد الموعود كان مشروطا بالصبر والتقوى فلما لم يفعلوا لم يتحقق الموعود كما قيل فلا يساعده النظم الكريم اما أولا فلأن المشروط بالصبر والتقوى إنما هو الإمداد بخمسة آلاف لا بثلاثة آلاف مع أنه لم يقع الإمداد يومئذ ولا بملك واحد وأما ثانيا فلأنه كان ينبغي حينئذ أن ينعى عليهم جناياتهم وحرمانهم بسببها تلك النعمة الجليلة ودعوى ظهوره مع عدم دلالة السباق والسياق عليه بل مع دلالتهما على خلافه مما لا يكاد يسمع وأما ثالثا فلأنه لا سبيل إلى جعل الضمير في قوله تعالى وما جعله اللّه الخ عائدا إلى الإمداد الموعود لأنه لم يتحقق فكيف يبين علته الغائية ولا إلى الوعد به على معنى أنه تعالى إنما جعل ذلك الوعد لبشارتكم واطمئنان قلوبكم فلم تفعلوا ما شرط عليكم من الصبر والتقوى فلم يقع إنجاز الموعود لما أن قوله تعالى وما النصر إلا من عند اللّه العزيز الحكيم صريح في أنه قد وقع الإمداد الموعود لكن أثره إنما هو مجرد البشارة والإطمئنان وقد حصلا وأما النصر الحقيقي فليس ذلك إلا من عنده تعالى وجعله استئنافا مقررا لعدم وقوع الإمداد على معنى أن التصر الموعود مخصوص به تعالى فلا ينصر من خالف امره بترك الصبر والتقوى اعتساف بين يجب تنزيه التنزيل عن امثاله على ان قوله تعالى ليقطع طرفا الآية متعلق حينئذ بما تعلق به قوله تعالى من عند اللّه من الثبوت والإستقرار وضرورة أن تعلقه بقوله تعالى ولقد نصركم اللّه ببدر الآية مع كون ما بينهما من التفصيل متعلقا بوقعة احد من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه فلا بد من إعتبار وجود النصر قطعا لأن تفصيل الأحكام المتريبة على وجود شيء بصدد بيان انتفائه مما لم يعهد في كلام الناس فضلا عن الكلام المجيد فالحق الذي لا محيد عنه أن قوله تعالى إذ تقول ظرف لنصركم وأن ما حكى في أثنائه إلى قوله تعالى خائبين متعلق بيوم بدر قطعا وما بعده محتمل الوجهين المذكورين وقوله تعالى فإنهم ظالمون تعليل على كل حال لقوله تعالى أو يعذبهم مبين لكون ذلك من جهتهم وجزاء لظلمهم ١٢٩ وللّه ما في السموات وما في الأرض كلام مستأنف سيق لبيان اختصاص ملكوت كل الكائنات به عز و جل إثر بيان اختصاص طرف من ذلك به سبحانه تقريرا لما سبق وتكمله له وتقديم الجار للقصر وكلمة ما شاملة للعقلاء أيضا تغليبا أي له ما فيهما من الموجودات خلقا وملكا لا مدخل فيه لأحد أصلا فله الأمر كله يغفر لمن يشاء أن يغفر له مشيئة مبنية على الحكم والمصالح ويعذب من يشاء أن يعذبه بعمله مشيئة كذلك وإيثار كلمة من في الموضعين لاختصاص المغفرة والتعذيب بالعقلاء وتقديم المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق رحمته تعالى غضبه و بأنها من مقتضيات الذات دونه فإنه من مقتضيات سيئات العصاة وهذا صريح في نفي وجوب التعذيب والتقييد بالتوبة وعدمها كالمنافي له واللّه غفور رحيم تذييل مقرر لمضمون قوله تعالى يغفر لمن يشاء مع زيادة وفي تخصيص التذييل به دون قرينة من الأعتناء بشأن المغفرة والرحمة ما لا يخفى ١٣٠ يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا كلام مبتدأ مشتمل على ما هو ملاك الأمر في كل باب لا سيما في باب الجهاد من التقوى والطاعة وما بعدهما من الأمور المذكورة على نهج الترغيب والترهيب جيء به في تضاعيف القصة مسارعة إلى إرشاد المخاطبين إلى ما فيه وإيذانا بكمال وجوب المحافظة عليه فيما هم فيه من الجهاد فإن الأمور المذكورة فيه مع كونها مناطا للفوز في الدارين على الإطلاق عمدة في أمر الجهاد عليها يدور فلك النصرة والغلبة كيف لا و لو حافظوا على الصبر والتقوى وطاعة الرسول لما لقوا ما لقوا ولعل إيراد النهي عن الربا في أثنائها لما ان الترغيب في الإنفاق في السراء والضراء الذي عمدته الإنفاق في سبيل الجهاد متضمن للترغيب في تحصيل المال فكان مظنة مبادرة الناس إلى طرق الأكتساب ومن جملتها الربا فنهوا عن ذلك والمراد بأكله أخذه وإنما عبر عنه بالأكل لما أنه معظم ما يقصد بالأخذ ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة تشنيع وقوله عز و جل أضعافا مضاعفة ليس لتقييد النهي به بل لمراعاة ما كانوا عليه من العادة توبيخا لهم بذلك إذ كان الرجل يربي إلى أجل فإذا حل قال للمدين زدني في المال حتى أزيدك في الأجل فيفعل وهكذا عند محل كل أجل فيستغرق بالشيء الطفيف ماله بالكلية ومحله النصب على الحالية من الربا وقرئ مضعفة واتقوا اللّه فيما نهيتم عنه من الأمور التي من جملتها الربا لعلكم تفلحون راجين للفلاح ١٣١ واتقوا النار التي أعدت للكافرين بالتحرز عن متابعتهم وتعاطي ما يتعاطونه كان أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى يقول هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد اللّه المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه ١٣٢ وأطيعوا اللّه في كل ما أمركم به ونهاكم عنه والرسول الذي يبلغكم أوامره ونواهيه لعلكم ترحمون راجين لرحمته عقب الوعيد بالوعد ترهيبا عن المخالفة وترغيبا في الطاعة وإيراد لعل في الموضعين للإشعار بعزة منال الفلاح والرحمة قال محمد بن اسحق هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين امرهم بما امرهم يوم أحد ١٣٣ وسارعوا عطف على أطيعوا وقرئ بغير واو على وجه الإستئناف أي بادروا وأقبلوا وقرئ سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة أي إلى ما يؤدي إليهما وقيل إلى الإسلام وقيل إلى التوبة وقيل إلى الإخلاص وقيل إلى الجهاد وقيل إلى أداء جميع الواجبات وترك جميع المنهيات فيدخل فيها ما مر من الأمور المأمور بها والمنهي عنها دخولا أوليا وتقديم المغفرة على الجنة لما ان التخلية متقدمة على التحلية ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لمغفرة أي كائنة من ربكم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار مزيد اللطف بهم وقوله تعالى عرضها السموات والأرض أي كعرضهما صفة لجنة وتخصيص العرض بالذكر للمبالغة في وصفها بالسعة والبسطة على طريقة التمثيل فإن العرض في العادة ادنى من الطول وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما كسبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض أعدت للمتقين في حيز الجر على انه صفة أخرى لجنة أو في محل النصب على الحالية منها لتخصصها بالصفة أي هيئت لهم وفيه دليل على ان الجنة مخلوقة الآن وانها خارجة عن هذا العالم ١٣٤ الذين ينفقون في محل الجر على انه نعت للمتقين مادح لهم أو بدل منه أو بيان أو في حيز النصب أو الرفع على المدح ومفعول ينفقون محذوف ليتناول كل ما يصلح للإنفاق أو متروك بالكلية كما في قولك يعطي ويمنع في السراء والضراء في حالتي الرخاء والشدة واليسر والعسر أو في الأحوال كلها إذ الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة أي لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير والكاظمين الغيظ عطف على الموصول والعدول إلى صيغة الفاعل للدلالة على الإستمرار وأما الإنفاق فحيث كان أمرا متجددا عبر عنه بما يفيد الحدوث والتجدد والكظم الحبس يقال كظم غيظه أي حبسه قال المبرد تأويله أنه كتمه على امتلائه منه يقال كظمت السقاء إذا ملأته وشددت عليه أي الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة عليه وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم من كظم غيظا وهو قادر على إنفاذه ملأ اللّه قلبه أمنا وإيمانا والعافين عن الناس أي التاركين عقوبة من استحق مؤاخذته روى انه ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت اجورهم على اللّه تعالى فلا يقوم إلا من عفا وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم إن هؤلاء في امتي قليل إلا من عصم اللّه وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت وفي هذين الوصفين إشعار بكمال حسن موقع عفوه عليه الصلاة و السلام عن الرماة وترك مؤاخذتهم بما فعلوا مخالفة أمره عليه السلام وندب له عليه السلام إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين بما فعلوا بحمزة رضي اللّه عنه حيث قال حين رآه قد مثل به لأمثلن بسبعين مكانك واللّه يحب المحسنين اللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولا إوليا وأما للعهد عبر عنهم بالمحسنين إيذانا بأن النعوت المعدودة من باب الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي وقد فسره عليه السلام بقوله أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها ١٣٥ والذين مرفوع على الإبتداء وقيل مجرور معطوف على ما قبله من صفات المتقين وقوله تعالى واللّه يحب المحسنين اعتراض بينهما مشير إلى ما بينهما من التفاوت فإن درجة الأولين من التقوى أعلى من درجة هؤلاء وحظهم اوفى من حظهم أو على نفس المتقين فيكون التفاوت أكثر وأظهر
إذا فعلوا فاحشة أي فعلة بالغة في القبح كالزنا أو ظلموا انفسهم بأن أتوا ذنبا أي ذنب كان وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة أو الفاحشة ما يتعدى إلى الغير وظلم النفس ما ليس كذلك قيل قال المؤمنون يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كانت بنو إسرائيل أكرم على اللّه تعالى منا كان احدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره افعل كذا فانزل اللّه تعالى هذه الآية وقيل إن نبهان التمار أتته امرأة حسناء تطلب منه تمرا فقال لها هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له إتق اللّه فتركها وندم على ذلك وأتى النبي وذكر له ذلك فنزلت وقيل جرى مثل هذا بين أنصاري وإمرأة ورجل ثقفي كان بينهما مؤاخاة فندم الأنصاري وحثا على رأسه التراب وهام على وجهه وجعل يسيح في الجبال تائبا مستغفرا ثم أتى النبي فنزلت وأيا ما كان فإطلاق اللفظ ينتظم ما فعله الزناة انتظاما اوليا ذكروا اللّه تذكروا حقه العظيم وجلاله الموجب للخشية والحياء أو وعيده أو حكمه وعقابه فاستغفروا لذنوبهم بالتوبة والندم والفاء للدلالة على أن ذكره تعالى مستتبع للإستغفار لا محالة ومن يغفر الذنوب استفهام إنكاري والمراد بالذنوب جنسها كما في قولك فلان يلبس الثياب ويركب الخيل لا كلها حتى يخل بما هو المقصود من استحالة صدور مغفرة فرد منها عن غيره تعالى وقوله تعالى إلا اللّه بدل من الضمير المستكن في يغفر أي لا يغفر جنس الذنوب أحد إلا اللّه خلا أن دلالة الإستفهام على الإنتفاء أقوى وأبلغ لإيذانه بأن كل أحد ممن له حظ من الخطاب يعرف ذلك الإنتفاء فيسارع إلى الجواب به والمراد به وصفه سبحانه بغاية سعة الرحمة وعموم المغفرة والجملة معترضة بين المعطوفين أو بين الحال وصاحبها لتقرير الإستغفار والحث عليه والإشعار بالوعد بالقبول ولم يصروا عطف على فاستغفروا وتأخيره عنه مع تقدم عدم الإصرار على الإستغفار رتبة لإظهار الإعتناء بشأن الإستغفار واستحقاقه للمسارعة إليه عقيب ذكره تعالى أو حال من فاعله أي ولم يقيموا أو غير مقيمين على ما فعلوا أي ما فعلوه من الذنوب فاحشة كانت أو ظلما أو على فعلهم روى عن النبي صلى اللّه عليه و سلم انه قال ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة وأنه لا كبيرة مع الإستغفار ولا صغيرة مع الإصرار وهم يعلمون حال من فاعل يصروا أي لم يصيروا على ما فعلوا وهم عالمون بقبحه والنهي عنه والوعيد عليه والتقييد بذلك لما أنه قد يعذر من لا يعلم ذلك إذا لم يكن عن تقصير في تحصيل العلم به ١٣٦ أولئك إشارة إلى المذكورين آخرا باعتبار أتصافهم بما مر من الصفات الحميدة وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلتهم وعلو طبقتهم في الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى جزاؤهم بدل إشتمال منه وقوله تعالى مغفرة خبر له أو جزاؤهم مبتدأ ثان ومغفرة خبر له والجمله خبر لأولئك وهذه الجملة خبر لقوله تعالى والذين إذا فعلوا الخ على الوجه الأول و هو الأظهر الأنسب بنظم المغفرة المنبئة عن سابقة الذنب في سلك الجزاء إذ على الوجهين الأخريين يكون قوله تعالى أولئك الخ جملة مستأنفة مبينة لما قبلها كاشفة عن حال كلا الفريقين المحسنين والتائبين ولم يذكر من اوصاف الأولين ما فيه شائبة الذنب حتى يذكر في مطلع الجزاء الشامل لها المغفرة و تخصيص الإشارة بالآخرين مع أشتراكهما في حكم إعداد الجنة لهما تعسف ظاهر من ربهم متعلق بمحذوف وقع صفة لمغفرة مؤكدة لما إفادة التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائنة من جهته تعالى والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة الحكم والتشريف وجنات تجري من تحتها الأنهار عطف على مغفرة والتنكر المشعر بكونها أدنى من الجنة مما يؤيد رجحان الوجه الأول خالدين فيها حال مقدرة من الضمير في جزاؤهم لأنه مفعول به في المعنى لأنه في قوة يجزيهم اللّه جنات خالدين فيها ولا مساغ لأن يكون حالا من جنات في اللفظ وهي لأصحابها في المعنى إذ لو كان كذلك لبرز الضمير ونعم أجر العاملين المخصوص بالمدح محذوف أي ونعم أجر العاملين ذلك أي ما ذكر من المغفرة و الجنات والتعبير عنهما بالأجر المشعر بأنهما يستحقان بمقابلة العمل وإن كان بطريق التفضل لمزيد الترغيب في الطاعات والزجر عن المعاصي والجملة تذييل مختص بالتائبين حسب أختصاص التذييل السابق بالأولين وناهيك مضمونها دليلا على مابين الفريقين من التفاوت النير والتبايبن البين شتان بين المحسنين الفائزين بمحبة اللّه عز و جل وبين العاملين الحائزين لأجرتهم وعمالتهم ١٣٧ قد خلت من قبلكم سنن رجوع إلى تفصيل بقية القصة بعد تمهيد مبادئ الرشد و الصلاح وترتيب مقدمات الفوز والفلاح والخلو المضى والسنن والوقائع وقيل الأمم والظرف إما متعلق بخلت أو بمحذوف وقع حالا من سنن أي قد مضت من قبل زمانكم أو كائنة من قبلكم وقائع سنها اللّه تعالى في الأمم المكذبة كما في قوله تعالى وقتلوا تقتيلا سنة اللّه في الذين خلوا الخ والفاء في قوله تعالى فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين للدلالة على سببية خلوها للسير والنظر أو للأمر بهما وقيل المعنى على الشرط أي إن شككتم فسيروا الخ وكيف خبر مقدم لكان معلق لفعل النظر والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض لأن الأصل استعماله بالجار ١٣٨ هذا إشارة إلى ما سلف من قوله تعالى قد خلت إلى آخره بيان للناس أي تبيين لهم على أن اللام متعلقة بالمصدر أو كائن لهم على انها متعلقة بمحذوف وقع صفة له وتعريف الناس للعهد وهم المكذبون أي هذا إيضاح لؤ عاقبة ما هم عليه من التكذيب فإن الأمر بالسير والنظر وإن كان خاصا بالمؤمنين لكن العمل بموجبه غير مختص بواحد دون واحد ففيه حمل للمكذبين أيضا على أن ينظروا في عواقب من قبلهم من أهل التكذيب و يعتبروا بما يعاينون من أثار دمارهم و إن لم يكن الكلام مسوقا لهم و هدى وموعظة أي و زيادة بصيرة وموعظة لكم وإنما قيل للمتقين للإيذان بعلة الحكم فإن مدار كونه هدى وموعظة لهم إنما هو تقواهم ويجوز أن يراد بالمتقين الصائرين إلى التقوى والهدى والموعظة على ظاهرهما أي هذا بيان لمآل أمر الناس وسوء مغبته وهداية لمن اتقى منهم وزجر لهم عما هم عليه من التكذيب وان يراد به ما يعمهم وغيرهم من المتقين بالفعل ويراد بالهدى والموعظة أيضا ما يعم ابتداءهما والزيادة فيهما وإنما قدم كونه بيانا للمكذبين مع أنه غير مسوق له على كونه هدى وموعظة للمتقين مع أنه المقصود بالسياق لأن أول ما يترتب على مشاهدة آثار هلاك أسلافهم ظهور حال أخلافهم وأما زيادة الهدى أو أصله فأمر مترتب عليه وتخصيص البيان للناس مع شموله للمتقين أيضا لما أن المراد به مجرد البيان العاري عن الهدى والعظة والاقتصار عليهما في جانب المتقين مع ترتبهما على البيان لما انهما المقصد الأصلى ويجوز أن يكون تعريف الناس للجنس أي هذا بيان للناس كافة وهدى وموعظة للمتقين منهم خاصة وقيل كلمة هذا إشارة إلى ما لخص من أمر المتقين والتائبين والمصرين وقوله تعالى قد خلت الآية اعتراض للبعث على الإيمان وما يستحق به ما ذكر من أجر العاملين وأنت خبير بأن الاعتراض لا بد أن يكون مقررا لمضمون ما وقع في خلالة ومعاينة آثار هلاك المكذبين مما لا تعلق له بحال أحد الأصناف الثلاثة للمؤمنين وإن كان باعثا على الإيمان زاجرا عن التكذيب وفيل إشارة إلى القرآن ولا يخفى بعده ١٣٩ ولا تهنوا ولا تحزنوا تشجيع للمؤمنين وتقوية لقلوبهم وتسلية عما أصابهم يوم أحد من القتل والقرح وكان قد قتل يومئذ خمسة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير صاحب راية رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وعبد اللّه بن جحش ابن عمة النبى وعثمان بن شماس وسعد مولى عتبه رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين ومن الأنصار سبعون رجلا رضي اللّه عنهم أي لا تضعفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح ولا تحزنوا على من قتل منكم وأنتم الأعلون جملة حالية من فاعل الفعلين أي والحال انكم الاعلون الغالبون دون عدوكم فإن مصير امرهم الى الدمار حسبما شاهدتم من أحوال اسلافهم فهو تصريح بالوعد بالنصر والغلبة بعد الإشعار به فيما سبق أو وأنتم المعهودون بغاية علوا الشأن لما انكم على الحق وقتالكم للّه عز و جل وقتلاكم في الجنة وهم على الباطل و قتالهم للشيطان وقتلاهم في النار وقيل وأنتم الأعلون حالا منهم حيث أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم اليوم إن كنتم مؤمنون متعلق بالنهى أو بالأعلون وجوابه محذوف لدلالة ما تعلق به عليه أي إن كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا فإن الإيمان يوجب قوة القلب والثقة بصنع اللّه تعالى وعدم المبالاة بأعدائه أو ان كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون فإن الإيمان يقتضي العلو لا محالة أو إن كنتم مصدقين بوعد اللّه تعالى فأنتم الأعلون وأيا ما كان فالمقصود تحقيف المعلق بناء على تحقيق المعلق به كما في قول الأجير إن كنت عملت لك فأعطني أجري و لذلك قيل معناه إذ كنتم مؤمنين وقيل معناه إن بقيتم على الإيمان ١٤٠ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله القرح بالفتح والضم لغتان كالضعف والضعف وقد قرئ بهما وقيل هو بالفتح والجراح وبالضم ألمها وقرئ بفتحين وقيل القرح والقرح كالطرد والطرد والمعنى إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أحق بأن لا تضعفوا فإنكم ترجون من اللّه مالا يرجون وقيل كلا المسين كان يوم أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قتلوا منهم نيفا وعشرين رجلا منهم صاحب لوائهم وجرحوا عددا كثيرا وعقروا عامة خيلهم بالنبل وتلك الأيام إشارة إلى الأيام الجارية فيما بين الأمم الماضية والآتية كافة لا إلى الأيام المعهودة خاصة من يوم بدر ويوم أحد بل هي داخلة فيها دخولا أوليا والمراد بها أوقات الظفر والغلبة نداولها بين الناس نصرفها بينهم نديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى كقول من قال ... فيوما علينا ... ويوما لنا ويوما نساء ويوما نسر ... والمداولة كالمعاورة يقال داولته بينهم فتداولوه أي عاورته فتعاوره واسم الإشارة مبتدأ والأيام إما صفة له أو بدل منه أو عطف بيان له فنداولها خبره أو خبر فنداولها حال من الأيام والعامل معنى اسم الإشارة أو خبر بعد خبر وصيغة المضارع الدالة على التجدد والإستمرار للإيذان بأن تلك المداولة سنة مسلوكة فيما بين الأمم قاطبة سابقتها ولاحقتها وفيه ضرب من التسلية وقوله عز و جل وليعلم اللّه الذين آمنوا إما من باب التمثيل أي ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم أو العلم فيه مجاز عن التمييز يطريق إطلاق اسم السبب على المسبب أي ليميز الثابتين على الإيمان من غيرهم كما في قوله تعالى ما كان اللّه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب أو هو على حقيقته معتبر من حيث تعلقه بالمعلوم من حيث إنه موجود بالفعل إذ هو الذي يدور عليه فلك الجزاء لا من حيث إنه موجود بالقوة وإطلاق الإيمان مع أن المراد هو الرسوخ والأخلاص فيه للإيذان بأن أسم الإيمان لا ينطلق على غيره والألتفات إلى الغيبة بإسناده إلى أسم الذات المستجمع للصفات لتربية المهابة و الإشعار بأن صدور كل واحد مما ذكر بصدد التعليل من أفعاله تعالى باعتبار منشأ معين من صفاته تعالى مغاير لمنشأ الآخر و الجملة عله لما هو فرد من أفراد مطلق المداولة التي نطق بها قوله تعالى نداولها بين الناس من المداولة المعهودة الجارية بين لفريقي المؤمنين والكافرين واللام متعلقة بما دل عليه المطلق من الفعل المقيد بالوقوع بين الفريقين المذكورين أو بنفس الفعل المطلق باعتبار وقوعه بينهما والجملة معطوفة على علة أخرى لها معتبرة إما على الخصوص والتعيين محذوفة لدلالة المذكورة عليها لكونها من مباديها كأنه قيل نداولها بينكم وبين عدوكم ليظهر امركم وليعلم الخ فإن ظهور أعمالهم وخروجها من القوة إلى الفعل من مبادى تمييزهم عن غيرهم ومواجب تعلق العلم الأزلى بها من تلك الحيثية وكذا الحال في باب التمثيل فتأمل وأما على العموم والإبهام للتنبيه على أن العلل غير منحصرة فيها عدد من الأمور وأن العبد يسوءه ما يجرى عليه من النوائب ولا يشعر بأن اللّه تعالى جعل له في ذلك من الألطاف الخفية مالا يخطر بالبال كأنه قيل نداولها بينكم ليكون من المصالح كيت وكيت وليعلم الخ وفيه من تأكيد التسلية ومزيد التبصرة مالا يخفى وتخصيص البيان بعلة هذا الفرد من مطلق المداولة دون سائر أفرادها الجارية فيما بين بقية الأمم تعيينا أو إبهاما لعدم تعلق الغرض العلمى ببيانها ولك أن تجعل المحذوف المبهم عبارة عن علل سائر أفرادها للإشارة إجمالا إلى أن كل فرد من أفرادها له علة داعية إليه كأنه قيل نداولها بين الناس كافة ليكون كيت وكيت من الحكم الداعية إلى تلك الافراد وليعلم الخ فاللام الأولى متعلقة بالفعل المطلق باعتبار تقييده بتلك اللإفراد والثانية باعتبار تقييده بالفرد المعهود وقيل هي متعلقة بمحذوف مؤخر تقديره وليعلم اللّه الذين آمنوا فعل ذلك ويتخذ منكم شهداء جمع شهيد أي ويكرم ناسا منكم بالشهادة وهم شهداء أحد فمن ابتدائية أو تبعيضية متعلقة بيتخذ أو بمحذوف وقع حالا من شهداء أو جمع شاهد أى ويتخذ منكم شهودا معدلين بما ظهر منهم من الثبات على الحق والصبر على الشدائد وغير ذلك من شواهد الصدق ليشهدوا على الأمم يوم القيامة فمن بيانية لأن تلك الشهادة وظيفة الكل دون المستشهدين فقط وأيا ما كان ففي لفظ الاتخاذ المنبئ عن الاصطفاء والتقريب من تشريفهم وتفخيم شأنهم مالا يخفى وقوله تعالى واللّه لا يحب الظالمين اعتراض مقرر لمضمون ما قبله ونفى المحبة كناية عن البغض وفي إيقاعه على الظالمين تعريض بمحبته تعالى لمقابليهم والمراد بهم إما غير الثابتين على الإيمان فالتقرير من حيث أن بغضه تعالى لهم من دواعى إخراج المخلصين المصطفين للشهادة من بينهم وأما الكفرة الذين أديل لهم فالتقرير من حيث إن ذلك ليس بطريق النصرة لهم فإنها مختصة بأوليائه تعالى بل لما ذكر من الفوائد العائدة إلى المؤمنين وقوله تعالى ١٤١ وليمحص اللّه الذين آمنوا أي ليصفيهم ويطهرهم من الذنوب عطف على يتخذ وتكرير اللام لتذكير التعليل لوقوع الفصل بينهما بالاعتراض وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لإبراز مزيد الاعتناء بشأن التمحيص وهذه الأمور الثلاثة علل للمداولة المعهودة باعتبار كونها على المؤمنين قدمت في الذكر لأنها المحتاجة إلى البيان ولعل تأخير العلة الأخيرة عن الاعتراض لئلا يتوهم اندراج المذنبين في الظالمين أو ليقترن بقوله عز و جل ويمحق الكافرين فإن التمحيص فيه محو الاثار وإزالة الأوضار كما أن المحق عبارة عن النفص والإذهاب قال المفضل وهو أن يذهب الشئ بالكلية حتى لا يرى منه شئ ومنه قوله تعالى يمحق اللّه الربا أي يستأصله وهذه علة للمداولة باعتبار كونها على الكافرين والمراد بهم الذين حاربوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم أحد وأصروا على الكفر وقد محقهم اللّه عز و جل جميعا ١٤٢ أم حسبتم كلام مستأنف سيق لبيان ما هي الغاية القصوى من المداولة والنتيجة لما ذكر من تمييز المخلصين وتمحيصهم واتخاذ الشهداء وإظهار عزة منالها والخطاب للذين انهزموا يوم أحد وأم منقطعة وما فيها من كلمة بل للإضراب عن التسلية ببيان العلل فيما لقوا من الشدة إلى تحقيق أنها من مبادى الفوز بالمطلب الأسنى والهمزة للإنكار والاستبعاد أي بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة وتفوزوا بنعيمها وقوله تعالى ولما يعلم اللّه الذين جاهدوا منكم حال من ضمير تدخلوا مؤكدة للإنكار فإن رجاء الأجر بغير عمل ممن يعلم أنه منوط به مستبعد عند العقول وعدم العلم كناية عن عدم المعلوم لما بينهما من اللزوم المبنى على لزوم تحقق الأول لتحقق الثاني ضرورة استحالة تحقق شئ بدون علمه تعالى به وإيثارها على التصريح للمبالغة في تحقيق المعنى المراد فإنها إثبات لعدم جهادهم بالبرهان وللإيذان بأن مدار ترتب الجزاء على الأعمال إنما هو علم اللّه تعالى بها كأنه قيل والحال أنه لم يوجد الذين جاهدوا منكم وإنما وجه النفى إلى الموصوفين مع أن المنفى هو الوصف فقط وكان يكفى أن يقال ولما يعلم اللّه جهادكم كناية عن معنى ولما تجاهدوا للمبالغة في بيان انتفاء الوصف وعدم تحققه أصلا وفي كلمة لما إيذان بان الجهاد متوقع منهم فيما يستقبل إلا أنه غير معتبر في تأكيد الإنكار وقرئ يعلم بفتح الميم على أن أصله يعلمن فحذفت النون أو على طريقة اتباع الميم لما قبلها في الحركة لإبقاء تفخيم اسم اللّه تعالى ومنكم حال من الذين ويعلم الصابرين منصوب بإضمار أن على أن الواو للجمع كما في قولك لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن والمعنى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر أي الجمع بينهما وإيثار اسم الفاعل على الموصول للدلالة على أن المعتبر هو الاستمرار على الصبر وللمحافظة على الفواصل وقيل مجزوم معطوف على المجزوم قبله قد حرك لالتقاء الساكنين بالفتح للخفة والاتباع كما مر ويؤيده القراءة بالكسر على ما هو الأصل في تحريك الساكن وقرئ يعلم بالرفع على ان الواو للحال وصاحبها الموصول والمبتدأ محذوف أي وهو يعلم الصابرين كأنه قيل ولما تجاهدوا وأنتم صابرون ١٤٣ ولقد كنتم تمنون الموت أي تتمنون الحرب فإنها من مبادئ الموت أو الموت بالشهادة والخطاب للذين لم يشهدوا بدرا وكانوا يتمنون أن يشهدوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مشهدا لينالوا ما ناله شهداء بدر من الكرامة فألحوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في الخروج ثم ظهر منهم خلاف ذلك من قبل أن تلقوه متعلق بتمنون مبين لسبب إقدامهم على التمنى من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا هوله وشدته وقرئ تلاقوة فقد رأيتموه أي ما تتمنونه من أسباب الموت أو الموت بمشاهدة أسبابه وقوله تعالى وأنتم تنظرون حال من ضمير المخاطبين وفي إيثار الرؤية على الملاقاة وتقييدها بالنظر مزيد مبالغة في مشاهدتهم له والفاء فصيحة كأنه قيل إن كنتم صادقين في تمنيكم ذلك فقد رأيتموه معاينين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا فلم فعلتم ما فعلتم وهو توبيخ لهم على تمنيهم الحرب وتسببهم لها ثم جبنهم وانهزامهم لا على تمنى الشهادة بناء على تضمنها لغلبة الكفار لما أن مطلب من يتمناها نيل كرامة الشهداء من غير أن يخطر بباله شئ غير ذلك فلا يستحق العتاب من تلك الجهة ١٤٤ وما محمد إلا رسول مبتدأ وخبر ولا عمل لما بالاتفاق لانتقاض نفيه بالإ وقوله تعالى قد خلت من قبله الرسل صفة لرسول منبئة عن كونه في شرف الخلو فإن خلو مشاركيه في منصب الرسالة من شواهد خلوة عليه الصلاة و السلام لا محالة كأنه قيل قد خلت من قبله أمثاله فسيخلو كما خلوا والقصر قلبى فإنهم لما انقلبوا على أعقابهم فكأنهم اعتقدوا أنه عليه الصلاة و السلام رسول لا كسائر الرسل في أنه يخلو كما خلوا ويحب التمسك بدينه بعده كما يجب التمسك بدينهم بعدهم فرد عليهم بأنه ليس إلا رسولا كسائر الرسل فسيخلو كما خلوا ويجب التمسك بدينه كما يجب التمسك بدينهم وقيل هو قصر إفراد فإنهم لما استعظموا عدم بقائه عليه الصلاة و السلام لهم نزلوا منزلة المستبعدين لهلاكه كأنهم يعتقدون فيه عليه الصلاة و السلام وصفين الرسالة والبعد عن الهلاك فرد عليهم بأنه مقصور على الرسالة لايتجاوزها إلى البعد عن الهلاك فلا بد حينئذ من جعل قوله تعالى قد خلت الخ كلاما مبتدأ مسوقا لتقرير عدم براءته عليه الصلاة و السلام من الهلاك وبيان كونه أسوة لمن قبله من الرسل عليهم السلام وأيا ما كان فالكلام يخرج على خلاف مقتضى الظاهر أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم إنكار لارتدادهم وانقلابهم عن الدين بخلوة بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به وقيل الفاء للسببية والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابهم بعد وفاته مع كونه سببا في الحقيقة لثباتهم على الدين وإيراد الموت بكلمة أن مع علمهم به البتة لتنزيل المخاطبين منزلة المترددين فيه لما ذكر من استعظامهم إياه وهكذا الحال في سائر الموارد فإن كلمة إن في كلام اللّه تعالى لا تجرى على ظاهرها قط ضرورة علمه تعالى بالوقوع أو اللاوقوع بل تحمل على اعتبار حال السامع أو أمر آخر يناسب المقام وتقديم تقدير الموت مع أن تقدير القتل هو الذي ثار منه الفتنة وعظم فيه المحنة لما أن الموت في شرف الوقوع فزجر الناس عن الانقلاب عنده وحملهم على التثبيت هناك أهم ولأن الوصف الجامع بينه وبين الرسل عليهم السلام هو الخلو بالموت دون القتل روى أنه لما التقى الفئتان حمل أبو دجانة في نفر من المسلمين على المشركين فقاتل قتالا شديدا وقاتل على بن أبي طالب رضي اللّه عنه قتالا عظيما حتى التوى سيفه وكذا سعد بن أبي وقاص فقتلوا جماعة من المشركين وهزموهم فلما نظر الرماة إليهم ورأوا أنهم قد انهزموا أقبلوا على النهب ولم يلتفتوا إلى نهى أميرهم عبد اللّه بن جبير فلم يبق منهم عنده إلا ثمانية نفر فلما رآهم خالد بن الوليد قد اشتغلوا بالغنيمة حمل عليهم في مائتين وخمسين فارسا من المشركين من قبل الشعب وقتلوا من بقى من الرماة ودخلوا خلف أقفية المسلمين ففرقوهم وهزموهم وحملوا على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وقاتلوهم حتى أصيب هناك نحو ثلاثين رجلا كل منهم يجثوا بين يديه ويقول وجهى لوجهك وقاء ونفسي لنفسك فداء وعليك سلام اللّه غير مودع ورمى عبد اللّه بن قميئة الحارثي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه الكريم فذب عنه مصعب بن عمير رضي اللّه عنه وكان صاحب الراية حتى قتله ابن قميئة وهو يزعم أنه قتل النبي فقال قتلت محمدا وصارخ قيل إنه إبليس ألا إن محمدا قد قتل فانكفأ الناس وجعل الرسول يدعو إلى عباد اللّه قال كعب بن مالك كنت أول من عرف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من المسلمين فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين هذا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه وحموه حتى كشفوا عنه المشركين وتفرق الباقون وقال بعضهم ليت بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان وقال ناس من المنافقين لو كان نبيا لما قتل ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم فقال أنس بن النضر وهو عم أنس بن مالك يا قوم إن كان قتل محمد فإن رب محمد حى لا يموت وما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا كراما على ما مات عليه ثم قال اللّهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل وتجويزهم لقتله عليه الصلاة و السلام مع قوله تعالى واللّه يعصمك من الناس لما أن كل آية ليس يسمعها كل أحد ولا كل من يسمعها يستحضرها في كل مقام لاسيما في مثل ذلك المقام الهائل وقد غفل عمر رضى اللّه عنه عن هذه الآية الكريمة عند وفاته عليه الصلاة و السلام وقام في الناس فقال إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم توفى وإن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع واللّه ليرجعن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ولأقطعن أيدى رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مات ولم يزل يكرر ذلك إلى أن قام أبو بكر رضي اللّه عنه فحمد اللّه عز و جل وأثنى عليه ثم قال أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد اللّه فإن اللّه حى لايموت ثم تلا وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية قال الراوى واللّه لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حتى تلاها أبو بكر وقال عمر رضي اللّه عنه واللّه ما هو إلا أن سمعت أبا بكر رضي اللّه عنه يتلو فعقرت حتى ماتحملنى رجلاى وعرفت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قد مات ومن ينقلب على عقبيه بإدباره عما كان يقبل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أمر الجهاد وغيره وقيل بارتداده عن الإسلام وما أرتد يومئذ أحد من المسلمين إلا ما كان من المنافقين فلن يضر اللّه بما فعل من الانقلاب شيئا أي شيئا من الضرر وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب وسيجزى اللّه الشاكرين أي الثابتين على دين الإسلام الذي هو أجل نعمة وأعز معروف سموا بذلك لأن الثبات عليه شكر له وعرفان لحقه وفيه إيماء إلى كفران المنقلبين وروى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أن المراد بهم الطائعون للّه تعالى من المهاجرين والأنصار وعن على رضي اللّه عنه أبو بكر وأصحابه رضي اللّه عنهم وعنه رضي اللّه عنه أنه قال أبو بكر من الشاكرين ومن أحباء اللّه تعالى وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لإبراز مزيد الاعتناء بشأن جزائهم ١٤٥ وما كان لنفس أن تموت كلام مستأنف سيق للتنبيه على خطئهم فيما فعلوا حذرا من قتلهم وبناء على الإرجاف بقتله عليه الصلاة و السلام ببيان أن موت كل نفس منوط بمشيئة اللّه عز و جل لايكاد يقع بدون تعلقها به وإن خاضت موارد الخوف واقتحمت مضايق كل هول مخوف وقد أشير بذلك إلى أنها لم تكن متعلقة بموتهم في الوقت الذي حذروه فيه ولذلك لم يقتلوا حينئذ لا لإحجامهم عن مباشرة القتال وكلمة كان ناقصة اسمها أن تموت وخبرها الظرف على انه متعلق بمحذف وقوله تعالى الا بإذن اللّه استثناء مفرغ من اعم الأسباب أي وما كان الموت حاصلا لنفس من النفوس بسبب من الأسباب إلا بمشيئه تعالى على ان الإذن مجاز منها لكونها من لوازمه أو إلا بإذنه لملك الموت في قبض روحها وسوق الكلام مساق التمثيل بتصوير الموت بالنسبة إلى النفوس بصورة الأفعال الاختيارية التى لا يتسنى للفاعل إيقاعها والإقدام عليها بدون إذنه تعالى أو بتنزيل إقدامها على مباديه أعنى القتال منزلة الإقدام على نفسه للمبالغة في تحقيق المرام فإن موتها حيث استحال وقوعه عند إقدامها عليه أو على مباديه وسعيها في إيقاعه فلأن يستحيل عند عدم ذلك أولى وأظهر وفيه من التحريض على القتال مالا يخفى كتابا مصدر مؤكد لمضمون ما قبله أي كتبه اللّه كتابا مؤجلا موقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر ولو ساعة وقرئ موجلا بالواو بدل الهمزة على قياس التخفيف وبعد تحقيق أن مدار الموت والحياة محض مشيئة اللّه عز و جل من غير أن يكون فيه مدخل لأحد أصلا أشير إلى أن توفية ثمرات الأعمال دائرة على إرادتهم ليصرفوها عن الأغراض الدنية إلى المطالب السنية فقيل ومن يرد أي بعمله ثواب الدنيا نؤته بنون العظمة على طريق الإلتفات منها أي من ثوابها ما نشاء أن نؤتيه إياه كما في قوله عز و جل من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد وهو تعريض بمن شغلتهم الغنائم يومئذ وقد مر تفصيله ومن يرد أي بعمله ثواب الآخرة نؤته منها أي من ثوابها ما نشاء من الأضعاف حسبما جرى به الوعد الكريم وسنجزي الشاكرين نعمة الإسلام الثابتين عليه الصارفين لما آتاهم اللّه تعالى من القوى والقدر إلى ما خلقت هي لأجله من طاعة اللّه تعالى لا يلويهم عن ذلك صارف أصلا والمراد بهم إما المجاهدون المعهودون من الشهداء وغيرهم وأما جنس الشاكرين وهم داخلون فيه دخولا أوليا والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبله ووعد بالمزيد عليه وفي تصديرها بالسين وإبهام الجزاء من التأكيد والدلالة على فخامة شأن الجزاء وكونه بحيث يقصر عنه البيان مالا يخفى وقرئ الأفعال الثلاثة بالياء ١٤٦ وكأين كلام مبتدأ ناع عليهم تقصيرهم وسوء صنيعهم في صدودهم عن سنن الربانيين المجاهدين في سبيل اللّه مع الرسل الخالية عليهم السلام وكأين لفظة مركبة من كاف التشبيه وأي حدث فيها بعد التركيب معنى التكثير كما حدث في كذا وكذا والنون تنوين أثبتت في الخط على غير قياس وفيها خمس لغات هي إحداهن والثانية كائن مثل كاعن والثالثة كأين مثل كعين والرابعة كيئن بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة وهي قلب ما قبلها والخامسة كأن مثل كعن وقد قرئ بكل منها ومحلها الرفع بالإبتداء وقوله تعالى من نبي تمييز لها لأنها مثل كم الخبرية وقد جاء تمييزها منصوبا كما في قوله ... أطرد اليأس بالرجاء فكأين ... أملاحم يسره بعد عسره ... وقوله تعالى قاتل معه ربيون كثير خبر لها على أن الفعل مسند إلى الظاهر والرابط هو الضمير المجرور في معه وقرئ قتل وقتل على صيغة المبني للمفعول مخففة ومشددة والربي منسوب إلى الرب كالرباني وكسر الراء من تغييرات النسب وقرئ بضمها وبفتحها أيضا على الأصل وقيل هو منسوب إلى الربة وهي الجماعة أي كثير من الأنبياء قاتل معه لإعلاء كلمة اللّه وإعزاز دينه علماء أتقياء أو عابدون أو جماعات كثيرة فالظرف متعلق بقاتل أو بمحذوف وقع حالا من فاعله كما في القراءتين الأخيرتين إذ لا احتمال فيهما لتعلقه بالفعل أي قتلوا أو قتلوا كائنين معه في القتال لا في القتل قال سعيد بن جبير ما سمعنا بنبي قتل في القتال وقال الحسن البصري وجماعة من العظماء لم يقتل نبي في حرب قط وقيل الفعل مسند إلى ضمير النبي والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا منه والرابط هو الضمير المجرور الراجع إليه وهذا واضح على القراءة المشهورة بلا خلاف أي كم من نبي قاتل كائنا معه في القتال ربيون كثير وأما على القراءتين الأخيرتين فغير ظاهر لا سيما على قراءة التشديد وقد جوزه بعضهم وأيده بان مدار التوبيخ اتخذالهم للإرجاف بقتله عليه السلام أي كم من نبي قتل كائنا معه في القتل أو في القتال ربيون الخ وقوله تعالى فما وهنوا عطف عل قاتل على أن المراد به عدم الوهن المتوقع من القتال كما في قولك وعظته فلم يتعظ وصحت به فلم ينزجر فإن الإتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه بحسب الظاهر لكنه بحسب الحقيقة صنع جديد مصحح لدخول الفاء المرتبة له على ما قبله أي فما فتروا وما انكسرت همتهم لما أصابهم في أثناء القتال وهو علة للمنفي دون النفي نعم يشعر بعلته قوله تعالى في سبيل اللّه فإن كون ذلك في سبيله عز و جل مما يقوي قلوبهم ويزيل وهنهم وما موصولة أو موصوفة فإن جعل الضميران لجميع الربيين فهي عبارة عما عدا القتل من الجراح وسائر المكاره المعترية للكل وإن جعلا للبعض الباقين بعد ما قتل الآخرون كما هو الأنسب بمقام توبيخ المنخذلين بعد ما استشهد الشهداء فهي عبارة عما ذكر مع ما اعتراهم من قتل إخوانهم من الخوف والحزن وغير ذلك هذا على القراءة المشهورة وأما على القراءتين الأخيرتين فإن أسند الفعل إلى الربيين فالضميران للباقين منهم حتما وإن أسند إلى ضمير النبي كما هو النسب بالتوبيخ على الإنخذال بسبب الإرجاف بقتله عليه الصلاة و السلام فهما للباقين أيضا إن اعتبر كون الربيين مع النبي في القتل وللجميع إن اعتبر كونهم معه في القتال وما ضعفوا عن العدو وقيل عن الجهاد وقيل في الدين وما استكانوا أي وما خضعوا للعدو وأصله استكن من السكون لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده والألف من إشباع الفتحة أو استكون من الكون لأنه يطلب ان يكون لمن يخضع له وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والإنكسار عند استيلاء الكفرة عليهم والإرجاف بقتل النبي وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم حين أرادوا أن يعتضدوا بابن أبي المنافق في طلب الأمان من أبي سفيان واللّه يحب الصابرين أي على مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره في سبيل اللّه فينصرهم ويعظهم قدرهم والمراد بالصابرين إما المعهودون والإظهار في موضع الإضمار للثناء عليهم بحسن الصبر والإشعار بعلة الحكم وأما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا والجملة تذييل لما قبلها ١٤٧ وماكان قولهم كلام مبين لمحاسنهم القولية معطوف على ما قبله من الجمل المبينة لمحاسنهم الفعلية وقولهم بالنصب خبر لكان واسمها أن وما بعدها في قوله تعالى إلا أن قالوا والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء ما كان قولا لهم عند أي لقاء للعدو واقتحام مضايق الحرب وإصابة ما أصابهم من فنون الشدائد والأهوال شئ من الأشياء إلا ان قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا أي صغائرنا وإسرافنا في أمرنا أي تجاوزنا الحد في ركوب الكبائر أضافوا الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين برءاء من التفريط في جنب اللّه تعالى هضما لها واستقصارا لهممهم وإسنادا لما أصابهم إلى أعمالهم وقدموا الدعاء بمغفرتها على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقولهم وثبت أقدامنا أي في مواطن الحرب بالتقوية والتأييد من عندك أو ثبتنا على دينك الحق وانصرنا على القوم الكافرين تقريبا له إلى حيز القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة والمعنى لم يزالوا مواظبين على هذا الدعاء من غير أن يصدر عنهم قول يوهم شائبة الجزع والخور والتزلزل في مواقف الحرب ومراصد الدين وفيه من التعريض بالمهزمين مالا يخفى وقرا ابن كثير وعاصم في رواية عنهما برفع قولهم على أنه الاسم والخبر أن وما في حيزها أي ما كان قولهم حينئذ شيئا من الأشياء الا هذا القول المنبىء عن أحاسن المحاسن وهذا كما ترى أقعد بحسب المعني وأوفق بمقتضي المقام لما ان الإخبار بكون قولهم المطلق خصوصية قولهم المحكى عنهم مفصلا كما تفيده قراءتهما اكثر إفادة للسامع من الأخبار بكون خصوصية قولهم المذكور قولهم لما أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل الخبرية هو الخبر فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدث وأوفر اشتمالا على نسب خاصة بعيدة من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامع ولا يخفى أن ذلك ههنا في أن مع ما في حيزها أتم وأكمل وأما ما تفيده الاضافة من لنسبة المطلقة الإجمالية فحيث كانت سهلة الحصول خارجا و ذهنا كان حقها أن تلاحظ ملاحظة جمالية وتجعل عنوانا للموضوع لا مقصودا بالذات في باب البيان وإنما اختار الجمهور ما اختاره لقاعدة صناعية هي أنه إذا اجتمع معرفتان فالأعراف منهما أحق بالاسمية ولاريب في أعرفيه أن قالوا لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث ولأنه يشبه المضمر من حيث أنه لايوصف ولا يوصف به وقولهم مضاف إلى مضمر فهو بمنزلة العلم فتأمل ١٤٨ فآتاهم اللّه بسبب دعائهم ذلك ثواب الدنيا أي النصر والغنيمة والعز والذكر الجميل وحسن ثواب الآخرة أي وثواب الاخرة الحسن وهو الجنة والنعيم المخلد وتخصيص وصف الحسن به للإيذان بفضله ومزيته وإنه المعتد به عنده تعالى واللّه يحب المحسنين تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن محبة اللّه تعالى للعبد عبارة عن رضاه عنه وإرادة الخير به فهى مبدأ لكل سعادة واللام إما للعهد وإنما وضع المظهر موضع ضمير المعهودين للإشعار بان ما حكى عنهم من الأفعال والأقوال من باب الإحسان وأما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وهذا أنسب بمقام ترغيب المؤمنين في تحصيل ما حكى عنهم من المناقب الجليلة ١٤٩ يأيها الذين آمنوا شروع في زجرهم عن متابعة الكفار ببيان استتباعها لخسران الدنيا والآخرة أثر ترغيبهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان إفضائه إلى فوزهم بسعادة الدارين وتصدير الخطاب بالنداء والتنبيه لإظهار الاعتناء بما في حيزة ووصفهم بالإيمان لتذكير حالهم وتثبيتهم عليها بإظهار مباينتها لحال أعدائهم كما أن وصف المنافقين بالكفر في قوله تعالى إن تطيعوا الذين كفروا لذلك قصدا إلى مزيد التنفير عنهم والتحذير عن طاعتهم قال على رضي اللّه عنه نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم فوقوع قوله تعالى يردوكم على أعقابكم جوابا للشرط مع كونه في قوة أن يقال إن تطيعوهم في قولهم ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم يدخلوكم في دينهم باعتبار كونه تمهيدا لقوله تعالى فتنقلبوا خاسرين أي للدنيا والآخرة غير فائزين بشئ منهما واقعين في العذاب الخالد على أن الارتداد على العقب علم في انتكاس الأمر ومثل في الحور بعد الكور وقيل المراد بهم اليهود والنصارى حيث كانوا يستغوونهم ويوقعون لهم الشبة في الدين ويقولون لو كان نبيا حقا لما غلب ولما أصابه واصحابه ما أصابهم وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوما عليه ويوما له وقيل أبو سفيان وأصحابه والمراد بطاعتهم استئمانهم والاستكانة لهم وقيل الموصول على عمومه والمعنى نهى المؤمنين عن طاعتهم في أمر من الأمور حتى لا يستجروهم إلى الإرتداد عن الدين فلا حاجة على هذه التقادير إلى ما مر من البيان ١٥٠ بل اللّه مولاكم إضراب عما يفهم من مضمون الشرطية كأنه قيل فليسوا أنصاركم حتى تطيعوهم بل اللّه ناصركم لا غيره فأطيعوه واستغنوا به عن موالاتهم وقرئ بالنصب كأنه قيل فلا تطيعوهم بل أطيعوا اللّه ومولاكم نصب على أنه صفة له وهو خير الناصرين فخصوه بالطاعة والاستعانة ١٥١ سنلقى بنون العظمة على طريقة الالتفات جريا على سنن الكبرياء لتربية المهابة وقرئ بالياء والسين لتأكيد الإلقاء في قلوب الذين كفروا الرعب بسكون العين وقرئ بضمها على الصل وهو ما قذف في قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب ولهم القوة والغلبة وقيل ذهبوا إلى مكة فلما كانوا ببعض الطريق قالوا ما صنعنا شيئا قتلنا منهم ثم نركناهم ونحن قاهرون ارجعوا فاستأصلوهم فعند ذلك ألقى اللّه تعالى في قلوبهم الرعب فأمسكوا فلا بد من كون نزول الآية في تضاعيف الحرب أو عقيب انقضائه وقيل هو ما ألقى في قلوبهم من الرعب يوم الأحزاب بما أشركوا باللّه متعلق بنلقى دون الرعب وما مصدرية أي بسبب إشراكهم به تعالى فإنه من موجبات خذلانهم ونصر المؤمنين عليهم وكلاهما من دواعى الرعب ما لم ينزل به أ بي إشراكه سلطانا أي حجة سميت به لوضوحها وإنارتها أو لقوتها أو لحدتها ونفوذها وذكر عدم تنزيلها مع استحالة تحققها في نفسها من قبيل قوله ... ولا ترى الضب بها ينجر ... أي لاضب ولا انحجار وفيه إيذان بأن المتبع في الباب هو البرهان السماوي دون الاراء والأهواء الباطلة ومأواهم بيان لأحوالهم في الآخرة إثر بيان أحوالهم في الدنيا وهي الرعب أي ما يأوون إليه في الآخرة النار لا ملجأ لهم غيرها وبئس مثوى الظالمين أى مثواهم وإنما وضع موضعه المظهر المذكور للتغليظ والتعليل والإشعار بأنهم في إشراكهم ظالمون واضعون للشئ في غير موضعه والمخصوص بالذم محذوف أي بئس مثوى الظالمين النار وفي جعلها مثواهم بعد جعلها مأواهم نوع رمز إلى خلودهم فيها فإن المثوى مكان الإقامة المنبئة عن المكث وأما المأوى فهو المكان الذى يأوى إليه الإنسان ١٥٢ ولقد صدقكم وعده نصب على أنه مفعول ثان لصدق صريحا وقيل بنزع الجار أى في وعده نزلت حين قال ناس من المؤمنين عند رجوعهم إلى المدينة من أين أصابنا وقد وعدنا اللّه تعالى بالنصر وهو ما وعدهم على لسان نبيه غليه السلام من النصر حيث قال للرماة لا تبرجوا مكانكم فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وفي رواية أخرى لا تبرحوا عن هذا المكان فإنا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان وقد كان كذلك فإن المشركين لما أقبلوا جعل الرماة يرشقونهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمين على آثارهم يقتلونهم قتلا ذريعا وذلك قوله تعالى إذ تحسونهم أي تقتلونهم قتلا كثيرا فاشيا من حسه إذا أبطل حسه وهو ظرف لصدقكم وقوله تعالى بإذنه أي بتيسيره وتوفيقه لتحقيق أن قتلهم بما وعدهم اللّه تعالى من النصر وقيل هو ما وعدهم بقوله تعالى إن تصبروا وتتقوا الآية وقد مر تحقيق أن ذلك كان يوم بدر كيف لا والموعود بما ذكر إمداده عز و جل بإنزال الملائكة عليهم السلام وتقييد صدق وعده تعالى بوقت قتلهم بإذنه تعالى صريح في أن الموعود هو النصر المعنوى والتيسير لا الإمداد بالملائكة وقيل هو ما وعده تعالى بقوله سنلقى الخ وأنت خبير بإن ألقاء الرعب كان عند تركهم القتال ورجوعهم من غير سبب أو بعد ذلك في الطريق على اختلاف الروايتين وأيا ما كان فلا سبيل إلى كونه مغيا بقوله تعالى حتى إذا فشلتم أي جبنتم وضعف رأيكم أو ملتم إلى الغنيمة فإن الحرص من ضعف القلب وتنازعتم في الأمر فقال بعض الرماة حين انهزم المشركون وولوا هاربين والمسلمون على أعقابهم قتلا وضربا فما موقفنا ههنا بعد هذا وقال أميرهم عبد اللّه بن جبير رضي اللّه عنه لا نخالف أمر الرسول فثبت مكانه في نفر دون العشرة من أصحابه ونفر الباقون للنهب وذلك قوله تعالى وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون أي من الظفر والغنيمة وانهزام العدو فلما رأى المشركون ذلك حملوا عليهم من قبل الشعب وقتلوا أمير الرماة ومن معه من أصحابه حسبما فصل في تفسير قوله تعالى أَفَاِئنْ مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم وجواب إذا محذوف وهو منعكم نصره وقيل هو امتحنكم ويرده جعل الابتداء غاية للصرف المترتب على منع النصر وقيل هو انقسمتم إلى قسمين كما ينبئ عنه قوله تعالى منكم من يريد الدنيا وهم الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب ومنكم من يريد الآخرة وهم الذين ثبتوا مكانهم حتى نالوا شرف الشهادة هذا على تقدير كون إذا شرطية وحتى ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية وقيل إذا اسم كما في قولهم إذا يقوم زيد يقوم عمرو وحتى حرف جر بمعنى إلى متعلقة بقوله تعالى صدقكم باعتبار تضمنه لمعنى النصر كأنه قيل لقد نصركم اللّه إلى وقت فشلكم وتنازعكم الخ وعلى هذا فقوله تعالى ثم صرفكم عنهم عطف على ذلك وعلى الأول عطف على الجواب المحذوف كما أشير إليه والجملتان الظرفيتان اعتراض بين المتعاطفين أي كفكم عنهم حتى حالت الحال ودالت الدولة وفيه من اللطف بالمسلمين مالا يخفى ليبتليكم أي يعاملكم معاملة من يمتحنكم بالمصائب ليظهر ثباتكم على الإيمان عندها ولقد عفا عنكم تفضلا ولما علم من ندمكم على المخالفة واللّه ذو فضل على المؤمنين تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومؤذن بأن ذلك العفو بطريق التفضل والإحسان لا بطريق الوجوب عليه أي شأنه أن يتفضل عليهم بالعفو أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال أديل لهم أو اديل عليهم إذ الابتلاء أيضا رحمة والتنكير للتفخيم والمراد بالمؤمنين إما المخاطبون والإظهار في موقع الإضمار للتشريف والإشعار بعلة الحكم وأما الجنس وهم داخلون في الحكم دخولا أوليا ١٥٣ إذ تصعدون متعلق بصرفكم أو بقوله تعالى ليبتليكم أو بمقدر كما ذكروا والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض وقرىء تصعدون من الثلاثى أي في الجبل وقرئ تصعدون من التفعل بطرح إحدى التاءين وقرئ يصعدون بالالتفات إلى الغيبة ولا تلوون على أحد أي لا تلتفتون إلى ماوراءكم ولا يقف واحد منكم لواحد وقرئ تلون بواو واحدة بقلب الواو المضمومة همزة وحذفها تخفيفا وقرئ يلوون كيصعدون والرسول يدعوكم كان عليه الصلاة و السلام يدعوهم إلى عباد اللّه إلى عباد اللّه أنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من يكر فله الجنة وايراده عليه السلام بعنوان الرسالة للإبذان بأن دعوته عليه السلام كانت بطريق الرسالة من جهته سبحانه إشباعا في توبيخ المنهزمين في أخراكم في ساقتكم وجماعتكم الأخرى فأثابكم عطف على صرفكم اى فجازا كم اللّه تعالى بما صنعتم غما موصولا بغم من الاغتمام يالقتل والجرح وظفر المشركين والإرجاف بقتل الرسول وفوت الغنيمة فالتنكير للتكثير أو غما بمقابلة غم أذقتموه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعصيانكم له لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم أي لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا على نفع فات أو ضر آت وقيل لا زائدة والمعنى لتتأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ماأصابكم من الجراح والهزيمة عقوبة لكم وقيل الضمير في أثابكم للرسول أي واساكم في الاغتمام فاغتم بما نزل عليكم كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثربكم على عصيانكم تسلية لكم وتنفيسا عنكم لئلا تحزنزا على ما فاتكم من النصر وما أصابكم من الجراح وغير ذلك واللّه خبير بما تعملون أي عالم بأعمالكم وبما قصدتم بها ١٥٤ ثم أنزل عليكم عطف على قوله تعالى فأثابكم والخطاب للمؤمنين حقا من بعد الغم أي الغم المذكور والتصريح بتأخر الإنزال عنه مع دلالة ثم عليه وعلى تراخيه عنه لزيادة البيان وتذكير عظم النعمة كما في قوله تعالى ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا الآية أمنه أي أمنا نصب على المفعولية وقوله تعالى نعاسا بدل منها أو عطف بيان وقيل مفعول له أو هو المفعول وأمنه حال منه متقدمة عليه أو مفعول له أو حال من المخاطبين على تقدير مضاف أي ذوى أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة وقرئ بسكون الميم كأنها مرة من الأمن وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر غير مرة من الاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر وتخصيص الخوف من بين فنون الغم بالإزالة لأنه المهم عندهم حينئذ لما أن المشركين لما أنصرفوا كانوا يتوعدون المسلمين بالرجوع فلم يأمنوا اكرتهم وكانوا تحت الحجف متأهبين للقتال فانزل اللّه تعالى عليهم الأمنة فأخذهم النعاس قال ابن عباس رضي اللّه عنهما أمنهم يومئذ بنعاس تغشاهم بعد خوف وإنما ينعس من أمن والخائف لا ينام وقال الزبير رضي اللّه عنه كنت مع النبي حين اشتد الخوف فانزل اللّه علينا النوم واللّه لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه الا كالحلم يقول لو كان لنا من ألمر شيء ما قلنا إنى ههنا وقال أبو طلحة رضى اللّه عنه رفعت رأسى يوم احد فجعلت لا أرى أحدا من القوم إلا وهو يميد تحت حجفته من النعاس قال وكنت ممن ألقى عليه النعاس يومئذ فكان السيف يسقط من يدى فآخذه ثم يسقط السوط من يدى فآخذه وفيه دلالة على أن من المؤمنين من لم يلق عليه النعاس كما ينبئ عنه قوله عز و جل يغشى طائفة منكم قال ابن عباس هم المهاجرون وعامة الأنصار ولا يقدح ذلك في عموم الإنزال للكل والجملة في محل النصب على انها صفة لنعاسا وقرئ بالتاء على أنها صفة لأمنه وفيه أن الصفة حقها أن تتقدم على البدل وعطف البيان وأن لا يفصل بينها وبين الموصوف بالمفعول له وأن المعهود أن يحدث عن البدل دون المبدل منه وطائفة قد أهمتهم أنفسهم أي أوقعتهم في الهموم والأحزان أو ما بهم إلا هم أنفسهم وقصد خلاصها من قولهم همنى الشئ أي كان من همتى وقصدى والقصر مستفاد بمعونة المقام وطائفة مبتدأ وما بعدها اما خبرها وإنما جاز ذلك مع كونها نكرة لاعتمادها على واو الحال كما في قوله ... سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا ... محياك أخفى ضوءه كل شارق ... أو لوقوعها في موضع التفصيل كما في قوله ... إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق ... وشق عندنا لم يحول ... وأما صفتها والخبر محذوف أي ومعكم طائفة أو وهناك وقيل تقديره ومنكم طائفة وفيه أنه يقتضى دخول المنافقين في الخطاب بإنزال الأمنة وأيا ما ما كان فالجملة إما حالية مبينة لفظاعة الهول مؤكدة لعظم النعمة في الخلاص عنه كما في قوله تعالى أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم وأما مستأنفة مسوقة لبيان حال المنافقين وقوله عز و جل يظنون باللّه حال من ضمير أهمتهم أو من طائفة لتخصصها بالصفة أو صفة أخرى لها أو خبر بعد خبر أو استئناف مبين لما قبله وقوله تعالى غير الحق في حكم المصدر أي يظنون به تعالى غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به سبحانه وقوله تعالى ظن الجاهلية بدل منه وهو الظن المختص بالملة الجاهلية والإضافة كما في حاتم الجود ورجل صدق وقوله تعالى يقولون بدل من يظنون لما ان مسئلتهم كانت صادرة عن الظن أي يقولون لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على صورة الاسترشاد هل لنا من الأمر أي من أمراللّه تعالى ووعده من النصر والظفر من شئ أي من نصيب قط أو هل لنا من التدبير من شئ وقوله تعالى قل إن الأمر كله للّه أي الغلبة بالآخرة للّه تعالى ولأوليائه فإن حزب اللّه هم الغالبون أو ان التدبير كله للّه فإنه تعالى قد دبر الأمر كما جرى في سابق قضائه فلا مرد له وقرئ كله بالرفع على الابتداء وقوله تعالى يخفون في أنفسهم أي يضمرون فيها أو يقولون فيما بينهم بطريق الخفية مالا يبدون لك استئناف أو حال من ضمير يقولون وقوله تعالى إن الأمرالخ اعتراض بين الحال وصاحبها أي يقولون ما يقولون مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب وقوله تعالى يقولون استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل أي شئ يخفون فقيل يحدثون أنفسهم أو يقول بعضهم لبعض فيما بينهم خفية لو كان لنا من الأمر شئ كما وعد محمد عليه الصلاة و السلام من ان الغلبة للّه تعالى ولأوليائه وأن الأمر كله للّه أو لو كان لنا من التدبير والراى شئ ما قتلنا ههنا أي ما غلبنا أو ما قتل من قتل منا في هذه المعركة على أن النفى راجع إلى نفس القتل لا إلى وقوعه فيها فقط ولما برحنا من منازلنا كما رآه ابن أبي ويؤيده تعيين مكان القتل وكذا قوله تعالى قل لو كنتم في بيوتكم أي لو لم تخرجوا إلى أحد وقعدتم بالمدينة كما يقولون لبرز الذين كتب عليهم القتل أى في اللوح المحفوظ بسبب من الأسباب الداعية إلى البروز إلى مضاجعهم إلى مصارعهم التى قدر اللّه تعالى قتلهم فيها وقتلوا هنالك البتة ولم تنفع العزيمة على الإقامة بالمدينة قطعا فإن قضاء اللّه تعالى لا يرد وحكمه لا يعقب وفيه مبالغة في رد مقالتهم الباطلة حيث لم يقتصر على تحقيق نفس القتل كما في قوله عز و جل أينما تكونوا يدرككم الموت بل عين مكانه أيضا ولا ريب في تعين زمانه أيضا لقوله تعالى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون روى أن ملك الموت حضر مجلس سليمان عليه الصلاة و السلام فنظر إلى رجل من أهل المجلس نظرة هائلة فلما قام قال الرجل من هذا فقال سليمان عليه السلام ملك الموت قال ارسلنى مع الريح إلى عالم آخر فإني رأيت منه مراى هائلا فأمرها عليه السلام فألقته في قطر سحيق من أقطار العالم فما لبث أن عاد ملك الموت إلى سليمان عليه السلام فقال كنت أمرت بقبض روح ذلك الرجل في هذه الساعة في أرض كذا فلما وجدته في مجلسك قلت متى يصل هذا إليها وقد أرسلته بالريح إلى ذلك المكان فوجدته هناك فقضى أمر اللّه عز و جل في زمانه ومكانه من غير إخلال بشئ من ذلك وقرئ كتب على البناء للفاعل ونصب القتل وقرئ كتب عليهم القتال وقرئ لبرز بالتشديد على البناء للمعفول وليبتلى اللّه ما في صدوركم أي ليعاملكم معاملة من يبتلى ما في صدوركم من الإخلاص والنفاق ويظهر ما فيها من السرائر وهو علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل لها أخرى مطوية للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لمصالح جمة وليبتلى الخ وجعلها عللا لبرز يا باه الذوق السليم فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذ من الشدة والهول لا بيان حكمة البروز المفروض أو لفعل مقدر بعدها أي وللابتلاء المذكور فعل ما فعل لا لعدم العناية بأمر المؤمنين ونحو ذلك وتقدير الفعل مقدما خال عن هذه المزية وليمحص ما في قلوبكم من مخفيات الأمور ويكشفها أو يخلصها من الوساوس واللّه عليم بذات الصدور أي السرائر والضمائر الخفية التى لا تكاد تفارق الصدور بل تلازمها وتصاحبها والجمة إما اعتراض للتنبيه على أن اللّه تعالى غنى إن الابتلاء وإنما يبرز صورة الابتلاء لتمرين المؤمنين وإظهار حال المنافقين أو حال من متعلق الفعلين اي فعل ما فعل للابتلاء والتمحيص والحال أنه تعالى غنى غنهما محيط بخفيات الأمور وفيه وعد ووعيد إن ١٥٥ الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان وهم الذين انهزموا يوم أحد حسبما مرت حكايتهم إنما استزلهم الشيطان أي إنما كان سبب انهزامهم أن الشيطان طلب منهم الزلل ببعض ما كسبوا من الذنوب والمعاصي التى هي مخالفة أمر النبي وترك المركز والحرص على الغنيمة أو الحياة فحرموا التأييد وقوة القلب وقيل استزلال الشيطان توليهم وذلك بذنوب تقدمت لهم فإن المعاصى يجر بعضها إلى بعض كالطاعة وقيل استزلهم بذنوب سبقت منهم وكرهوا القتل قبل إخلاص التوبة والخروج من المظلمة ولقد عفا اللّه عنهم لتوبتهم واعتذارهم إن اللّه غفور للذنوب حليم لا يعاجل بعقوبة المذنب ليتوب والجملة تعليل لما قبلها على سبيل التحقيق وفي إظهار الجلالة تربية للمهابة وتأكيد للتعليل ١٥٦ يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وهم المنافقون القائلون لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا ههنا وإنما ذكر في صدر الصلة كفرهم تصريحا بمباينة حالهم لحال المؤمنين وتنفيرا عن مماثلتهم أثر ذي أثير وقوله تعالى وقالوا لأخوانهم تعيين لوجه الشبه والمماثلة التى نهوا عنها أي قالوا لأجلهم وفي حقهم ومعنى أخوتهم أتفاقهم نسبا أو مذهبا أذا ضربوا في الأرض أي سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها وإيثار إذا المفيدة لمعنى الاستقبال على إذا المفيدة المعنى لحكاية الحال الماضية إذ المراد بها الزمان المستمر المنتظم للحال الذي عليه يدور أمر استحضار الصورة قال الزجاج إذا ههنا تنوب عما مضى من الزمان وما يستقبل يعنى أنها لمجرد الوقت أو يقصد بها الاستمرار وظرفيتها لقولهم إنما هي باعتبار ما وقع فيها بل التحقيق أنها ظرف له لا لقولهم كأنه قيل قالوا لأجل ما أصاب إخوانهم حين ضربوا الخ أو كانوا أي إخوانهم غزا جمع غاز كعفى جمع عاف قال ... ومغبرة الآفاق خاشعة الصوى ... لها قلب عفى الحياض أجون ... وقرئ بتخفيف الزاى على حذف التاء من غزاة وإفراد كونهم غزاة بالذكر مع اندراجه تحت الضرب في الأرض لأنه المقصود بيانه في المقام وذكر الضرب في الأرض توطئة له وتقديمه لكثرة وقوعه على أنه قد يوجد بدون الضرب في الأرض إذ المراد به السفر البعيد وإنما لم يقل أو غزوا للإيذان باستمرار أتصافهم بعنوان كونهم غزاة أو بانقضاء ذلك أي كانوا غزاة فيما مضى وقوله تعالى لو كانوا عندنا أي مقيمين ما ماتوا وما قتلوا مفعول لقالوا ودليل على أن هناك مضمرا قد حذف ثقة به أي إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزا فقتلوا وليس المقصود بالنهى عدم مماثلتهم في النطق بهذا القول بل في الاعتقاد بمضمونه والحكم بموجبه كما أنه المنكر على قائلية إلا يرى إلى قوله عز و جل ليجعل اللّه ذلك حسرة في قلوبهم فإنه الذي جعل حسرة فيها قطعا وإليه أشير كما نقل عن الزجاج أنه إشارة إلى ظنهم أنهم لو لم يحضروا القتال لم يقتلوا وتعلقه بقالوا ليس باعتبار نطقهم بذلك القول بل باعتبار ما فيه من الحكم والاعتقاد واللام لام العاقبة كما في قوله تعالى ليكون لهم عدوا وحزنا أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة في قلوبهم والمراد بالتعليل المذكور بيان عدم ترتب فائدة ما على ذلك أصلا وقيل هو تعليل للنهى بمعنى لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله اللّه تعالى حسرة في قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم فذلك كما مر إشارة إلى ما دل عليه قولهم من الاعتقاد ويجوز أن يكون إشارة إلى ما دل عليه النهى أي لا تكونوا مثلهم ليجعل اللّه انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم فإن مضادتكم لهم في القول والاعتقاد مما يغمهم ويغيظهم واللّه يحيى ويميت رد لقولهم الباطل إثر بيان غائلته أي هو المؤثر في الحياة والممات وحده من غير أن يكون للإقامة أو للسفر مدخل في ذلك فإنه تعالى قد يحيى المسافر والغازى مع اقتحامهما لموارد الحتوف ويميت المقيم والقاعد مع حيازتهما لأسباب السلامة واللّه بما تعملون بصير تهديد للمؤمنين على أن يماثلوهم وقرئ بالياء على أنه وعيد للذين كفروا وما يعملون عام متناول لقولهم المذكور ولمنشئه الذي هو اعتقادهم ولما ترتب على ذلك من الأعمال ولذلك تعرض لعنوان البصر لا لعنوان السمع وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربية المهابة وإلقاء الروعة والمبالغة في التهديد والتشديد في الوعيد ١٥٧ ولئن قتلتم في سبيل اللّه أو متم شروع في تحقيق أن ما يحذرون ترتبه على الغزو والسفر من القتل والموت في سبيل اللّه تعالى ليس مما ينبغى أن يحذر بل مما يجب أن يتنافس المتنافسون إثر إبطال ترتبه عليهما واللام هي الموطئة للقسم وما في قوله تعالى لمغفرة من اللّه ورحمة لام الابتداء والتنوين في الموضعين للتقليل ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة للمبتدأ وقد حذفت صفة رحمة لدلالة المذكور عليها والجملة جواب للقسم ساد مسد جواب الشرط والمعنى أن السفر والغزو ليس مما يجلب الموت ويقدم الأجل أصلا ولئن وقع ذلك بأمر اللّه تعالى لنفحة يسيرة من مغفرة ورحمة كائنتين من اللّه تعالى بمقابلة ذلك خيرمما يجمعون أي الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها مدة اعمارهم وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء وقرئ بالتاء أي مما تجمعونه أنتم لو لم تموتوا والاقتصار على بيان خيريتهما من ذلك بلا تعرض للإخبار بحصولهما لهم للإيذان بعدم الحاجة إليه بناء على استحالة التخييب منه تعالى بعد الأطماع وقد قيل لا بد من حذف آخر أي لمغفرة لكم من اللّه الخ وحينئذ يكون أيضا إخراج المقدر مخرج الصفة دون الخبر لنحو ما ذكر من ادعاء الظهور والغنى عن الإخبار به وتغيير الترتيب الواقع في قولهم ما ماتوا وما قتلوا المبنى على كثرة الوقوع وقلته للمبالغة في الترغيب في الجهاد ببيان زيادة مزية القتل في سبيل اللّه وإنافته في استجلاب المغفرة والرحمة وفيه دلالة واضحة على ما مر من أن المقصود بالنهى إنما هو عدم مماثلتهم في الاعتقاد بمضمون القول المذكور والعمل بموجبه لا في النطق به وإضلال الناس به ١٥٨ ولئن متم أو قتلتم أي على أي وجه أتفق هلاككم حسب تعلق الإرادة الإلهية وقرئ متم بكسر الميم من مات يمات لإلى اللّه أي إلى المعبود بالحق العظيم الشأن الواسع الرحمة الجزيل الإحسان تحشرون لا إلى غيره فيوفيكم أجوركم ويجزل لكم عطاءكم والكلام في لامى الجملة كما مر في أختها ١٥٩ فبما رحمة من اللّه لنت لهم تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم والفاء لترتيب مضمون الكلام على ما ينبئ عنه السياق من استحقاقهم اللأئمة والتعنيف بموجب الجبلة البشرية أو من سعة ساحة مغفرته تعالى ورحمته والباء متعلقة بلنت قدمت عليه للقصر وما مزيدة للتوكيد أو نكرة ورحمة بدل منها مبين لإبهامها والتنوين للتفخيم ومن متعلقه بمحذوف وقع صفة لرحمة أي فبرحمة عظيمة لهم كائنة من اللّه تعالى وهي ربطه على جأشه وتخصيصه بمكارم الأخلاق كنت لين الجانب لهم وعاملتهم بالرفق والتلطف بهم حيث اغتممت لهم بعد ما كان منهم ما كان من مخالفة أمرك وإسلامك للعدو ولو لم تكن كذلك بل كنت فظا جافيا في المعاشرة قولا وفعلا وقال الراغب الفظ هو الكريه الخلق وقال الواحدى هو الغليظ الجانب السئ الخلق غليظ القلب قاسية وقال الكلبى فظا في القول غليظ القلب في الفعل لانفضوا من حولك لتفرقوا من عندك ولم يسكنوا إليك وتردوا في مهاوى الردى والفاء في قوله عز و جل فاعف عنهم لترتيب العفو أو الأمر به على ما قبله أي إذا كان الأمر كما ذكر فاعف عنهم فيما يتعلق بحقوقك كما عفا اللّه عنهم واستغفر لهم اللّه فيما يتعلق بحقوقه تعالى إتماما للشفقة عليهم وإكمالا للبر بهم وشاورهم في الأمر أي في أمر الحرب إذ هو المعهود أو فيه وفي أمثاله مما تجرى فيه المشاورة عادة استظهارا بآرائهم وتطييبا لقلوبهم وتمهيدا لسنة المشاورة للأمة وقرئ وشاورهم في بعض الأمر فإذا عزمت أي عقيب المشاورة على شئ وأطمأنت به نفسك فتوكل على اللّه في إمضاء أمرك على ما هو أرشد لك وأصلح فإنه علمه مختص به سبحانه وتعالى وقرئ فإذا عزمت على صيغة التكلم أي عزمت لك على شئ وأرشدتك إليه فتوكل على ولا تشاور بعد ذلك أحدا والالتفات لتربية المهابة وتعليل التوكل أو الأمر به فإن عنوان الألوهية الجامعة لجميع صفات الكمال مستدع للتوكل عليه تعالى أو الأمر به إن اللّه يحب المتوكلين عليه تعالى فينصرهم ويرشدهم إلى ما فيه خير لهم وصلاح والجملة تعليل للتوكل عليه تعالى وقوله تعالى ١٦٠ إن ينصركم اللّه فلا غالب لكم جملة مستأنفة سيقت بطريق تلوين الخطاب تشريفا للمؤمنين لإيجاب توكلهم عليه تعالى وحثهم على اللجأ إليه وتحذيرهم عما يفضى إلى خذلانه أي إن ينصركم كما نصركم يوم بدر فلا أحد يغلبكم على طريق نفى الجنس المنتظم لنفى جميع أفراد الغالب ذاتا وصفة ولو قيل فلا يغلبكم أحد لدل على نفى الصفة فقط ثم المفهوم من ظاهر النظم الكريم وإن كان نفى مغلوبيتهم من غير تعرض لنفى المساواة أيضا وهو الذي يقتضيه المقام لكن المفهوم منه فهما قطعيا هو نفى المساواة وإثبات الغالبية للمخاطبين فإذا قلت لا أكرم من فلان أولا أفضل منه فالمفهوم منه حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وهذا أمر مطرد في جميع اللغات ولا اختصاص له بالنفى لصريح بل هو مطرد فيما ورد على طريق الاستفهام الإنكاري كما في قوله تعالى ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا في مواقع كثيرة من التنزيل ومما هو نص قاطع فيما ذكرنا ما وقع في سورة هود حيث قيل بعده في حقهم لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون فإن كونهم أخسر من كل خاسر يستدعى قطعا كونهم أظلم من كل ظالم وإن يخذلكم كما فعل يوم أحد وقرئ يخذلكم من أخذله إذا جعله مخذولا فمن ذا الذي ينصركم استفهام إنكاري مفيد لانتفاء الناصر ذاتا وصفة بطريق المبالغة من بعده أي من بعد خذلانه تعالى أو من بعد اللّه تعالى على معنى إذا جاوزتموه وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون تقديم الجار والمجرور على الفعل لإفادة قصره عليه تعالى والفاء لترتيبه أو ترتيب الأمر به على ما مر من غلبة المخاطبين على تقدير نصرته تعالى لهم ومغلوبيتهم على تقدير خذلانه تعالى اياهم فإن العلم بذلك مما يقتضى قصر التوكل عليه تعالى لا محالة والمراد بالمؤمنين إما الجنس والمخاطبون داخلون فيه دخولا أوليا وأما هم خاصة بطريق الالتفات وايا ما كان ففيه تشريف لهم بعنوان الايمان اشتراكا أو استقلالا وتعليل لتحتم التوكل عليه تعالى فإن وصف الايمان مما يوجبه قطعا ١٦١ وما كان لنبي أي وما صح لنبي من الأنبياء ولا استقام له أن يغل أي يخون في المغنم فإن النبوة تنافيه منافاة بينه يقال غل شيئا من المغنم يغل غلولا وأغل إغلالا إذا أخذه خفية والمراد اما تنزيه ساحة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عما ظن به الرماة يوم أحد حين تركوا المركز وأفاضوا في الغنيمة وقالوا نخشى أن يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أخذ شيئا فهو له ولا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر فقال لهم النبي ألم أعهد اليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري فقالوا تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال عليه السلام بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم بينكم وأما المبالغة في النهي لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على ما روى أنه بعث طلائع فغنم النبي بعدهم غنائم فقسمها بين الحاضر ولم يترك للطلائع شيئا فنزلت والمعنى ما كان لنبي أن يعطي قوما من العسكر ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بين الكل بالسوية وعبر عن حرمان بعض الغزاة بالغلول تغليظا وأما ما قيل من أن المراد تنزيهه عليه السلام عما تفوه به بعض المنافقين اذ روى أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض المنافقين لعل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أخذها فبعيد جدا وقرئ على البناء للمفعول والمعنى ما كان له أن يوجد غالا أو ينسب الى الغلول ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة يأت بالذي غله بعينه يحمله على عنقه كما ورد في الحديث الشريف وروى أنه عليه السلام قال ألالا أعرفن أحدكم يأتي ببعير له رغاء وببقرة لها خوار وبشارة لها ثغاء فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من اللّه شيئا فقد بلغتك أو يأت بما احتمل من اثمه ووباله ثم توفى كل نفس ما كسبت أي تعطى وافيا جزاء ما كسبت خيرا أو شرا كثيرا أو يسيرا ووضع المكسوب موضع جزائه تحقيقا للعدل ببيان ما بينهما من تمام التناسب كما وكيفا كأنهما شيء واحد وفي اسناد التوفية الى كل كاسب وتعليقها بكل مكسوب مع أن المقصود بيان حال الغال عند اتيانه بما غله يوم القيامة من الدلالة على فخامة شأن اليوم وهول مطلعه والمبالغة في بيان فظاعة حال الغال مالا يخفى فإنه حيث وفى كل كاسب جزاء ما كسبه ولم ينقص منه شيء وان كان جرمه في غاية القلة والحقارة فلأن لا ينقص من جزاء الغال شيء وجرمه من أعظم الجرائم وأظهر وأجلى وهم أي كل الناس المدلول عليهم بكل نفس لا يظلمون بزيادة عقاب أو بنقص ثواب ١٦٢ أفمن اتبع رضوان اللّه أي سعى في تحصيله وانتحى نحوه حيثما كان بفعل الطاعات وترك المنكرات كالنبي ومن يسير بسيرته كمن باء أي رجع بسخط عظيم لا يقادر قدره كائن من اللّه تعالى بسبب معاصيه كالغال ومن يدين بدينه والمراد تأكيد نفي الغلول عن النبي صلى اللّه عليه و سلم عليه الصلاة و السلام وتقريره بتحقيق المباينة الكلية بينه وبين الغال حيث وصف كل منهما ما وصف به الآخر فقوبل رضوانه تعالى بسخطه والاتباع بالبوء والجمع بين الهمزة والفاء لتوجيه الانكار الى ترتب توهم المماثلة بينهما والحكم بها على ما ذكر من حال الغال كأنه قيل أبعد ظهور حاله يكون من ترقي الى أعلى عليين كمن تردى الى اسفل سافلين واظهار الاسم الجليل في موضع الاضمار لإدخال الروعة وتربية المهابة ومأواه جهنم اما كلام مستأنف مسوق لبيان مآل أمر من باء بسخطه تعالى وأما معطوف على قوله تعالى باء بسخط عطف الصلة الاسمية على الفعلية وايا ما كان فلا محل له من الاعراب وبئس المصير اعتراض تذييلي والمخصوص بالذم محذوف أي وبئس المصير جهنم والفرق بينه وبين المرجع أن الأول يعتبر فيه الرجوع على خلاف الحالة الأولى بخلاف الثاني ١٦٣ هم راجع الى الموصولين باعتبار المعنى درجات عند اللّه أي طبقات متفاوتة في علمه تعالى وحكمه شبهوا في تفاوت الأحوال وتباينها بالدرجات مبالغة وايذانا بأن بينهم تفاوتا ذاتيا كالدرجات أو ذوو درجات واللّه بصير بما يعملون من الأعمال ودرجاتها فيجازيهم بحسبها ١٦٤ لقد من اللّه جواب قسم محذوف أي واللّه لقد من أي أنعم على المؤمنين أي من قومه عليه السلام اذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم أي من نسبهم أو من جنسهم عربيا مثلهم ليفقهوا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على حاله في الصدق والامانة مفتخرين به وفي ذلك شرف لهم عظيم قال اللّه تعالى وانه لذكر لك ولقومك وقرئ من أنفسهم أي أشرفهم فإنه عليه السلام كان من أشرف قبائل العرب وبطونها وقرئ لمن من اللّه على المؤمنين إذ بعث الخ على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي منه إذ بعث الخ أو على أن إذ في محل الرفع على الابتداء بمعنى لمن من اللّه على المؤمنين من وقت بعثه وتخصيصهم بالامتنان مع عموم نعمة البعثة للأسود والأحمر لما مر من مزيد أنتفاعهم بها وقوله تعالى من أنفسهم متعلق بمحذوف وقع صفة لرسولا أي كائنا من أنفسهم وقوله تعالى يتلو عليهم آياته صفة أخرى أي يتلو عليهم القرآن بعدما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحى ويزكيهم عطف على يتلو أى يطهرهم من دنس الطبائع وسوء العقائد وأوضارالأوزار ويعلمهم الكتاب والحكمة أى القرآن والسنة وهو صفة أخرى لرسولا مترتبة في الوجود على التلاوة وإنما وسط بينهما التزكية التى هى عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كل واحد من الأمورالمترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر فلو روعى ترتيب الوجود كما فى قوله تعالى ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم لتبادر إلى الفهم عد الجميع نعمة واحدة وهو السر فى التعبير عن القرآن بالآيات تارة وبالكتاب والحكمة أخرى رمزا إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة ولا يقدح في ذلك شمول الحكمة لما فى مطاوى الأحاديث الكريمة من الشرائع كما سلف في سورة البقرة وان كانوا من قبل أي من قبل بعثته عليه السلام وتزكيته وتعليمه لفي ضلال مبين أي بين لا ريب في كونه ضلالا وان هي المخففة من المثقلة وضمير الشأن محذوف واللام فارقة بينها وبين النافية والظرف الأول لغو متعلق بكان والثاني خبرها وهي مع خبرها خبر لأن المخففة التي حذف اسمها اعني ضمير الشأن وقيل هي نافية واللام بمعنى الا أي وما كانوا من قبل الا في ضلال مبين وايا ما كان فالجملة اما حال من الضمير المنصوب في يعلمهم أو مستأنفة وعلى التقديرين فهي مبينة لكمال النعمة وتمامها ١٦٥ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم اني هذا كلام مبتدأ مسوق لإبطال بعض ما صدر عنهم من الظنون الفاسدة والأقاويل الباطلة الناشئة منها إثر إبطال بعض آخر منها والهمزة للتقريع والتقرير والواو عاطفة لمدخولها على محذوف قبلها ولما ظرف لقلتم مضاف إلى ما بعده وقد أصبتم فى محل الرفع على أنه صفة لمصيبة والمراد بها ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم وبمثليها ما أصاب المشركين يوم بدر من قتل سبعين منهم وأسر سبعين وأنى هذا مقول قلتم وتوسيط الظرف وما يتعلق به بينه وبين الهمزة مع أنه المقصود إنكاره والمعطوف بالواو حقيقة لتأكيد النكير وتشديد التقريع فإن فعل القبيح في غيره وقته أقبح والإنكار على فاعله أدخل والمعنى أحين أصابكم من المشركين نصف ما قد أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم وقلتم من أين أصابنا هذا وقد تقدم الوعد بالنصر على توجيه الإنكار والتقريع إلى صدور ذلك القول عنهم في ذلك الوقت خاصة بناء على عدم كونه مظنة له داعيا إليه بل على كونه داعيا إلى عدمه فإن كون مصيبة عدوهم ضعف مصيبتهم مما يهون الخطب ويورث السلوة أو أفعلتم ما فعلتم ولما أصابتكم غائلته أنى هذا على توجيه الإنكار إلى استبعادهم الحادثة مع مباشرتهم لسببها وتذكير اسم الإشارة في أنى هذا مع كونه إشارة إلى المصيبة ليس لكونها عبارة عن القتل ونحوه بل لما أن إشارتهم ليست إلا إلى ما شاهدوه في المعركة من حيث هو هو من غير أن يخطر ببالهم تسميته باسم ما فضلا عن تسميته باسم المصيبة وإنما هي عند الحكاية وقوله عز و جل قل هو من عند أنفسكم أمر لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بأن يجيب عن سؤالهم الفاسد إثر تحقيق فساد بالإنكار والتقريع ويبكتهم أن ما نالهم إنما نالهم من جهتهم بتركهم المركز وحرصهم على الغنيمة وقيل باختيارهم الخروج من المدينة ويأباه أن الوعد بالنصر كان بعد ذلك كما ذكر عند قوله تعالى ولقد صدقكم اللّه وعده الآية وأن عمل النبي بموجبه قد رفع الخطر عنه وخفف جنايتهم فيه على أن اختيار الخروج والإصرار عليه كان ممن أكرمهم اللّه تعالى بالشهادة يومئذ وأين هم من التفوه بمثل هذه الكلمة وقيل بأخذهم الفداء يوم بدر قبل أن يؤذن لهم والأول هو الأظهر الأقوى وإنما يعضده توسيط خطاب الرسول بين الخطابين المتوجهين إلى المؤمنين وتفويض التبكيت إليه عليه السلام فإن توبيخ الفاعل على الفعل إذا كان ممن نهاه عنه كان أشد تأثيرا إن اللّه على كل شئ قدير ومن جملته النصر عند الطاعة والخذلان عند المخالفة وحيث خرجتم عن الطاعة أصابكم منه تعالى ما أصابكم والجملة تذييل والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها داخل تحت الأمر ١٦٦ وما أصابكم رجوع إلى خطاب المؤمنين إثر خطابه عليه السلام بسر يقتضيه وإرشاد لهم إلى طريق الحق فيما سألوا عنه وبيان لبعض ما فيه من الحكم والمصالح ودفع لما عسى أن يتوهم من قوله تعالى هو من عند أنفسكم من استقلالهم في وقوع الحادثة والعدول عن الإضمار إلى ما ذكر للتهويل وزيادة التقرير ببيان وقته بقوله تعالى يوم التقى الجمعان أي جمعكم وجمع المشركين فبإذن اللّه أي فهو كائن بقضائه وتخليته الكفار سمى ذلك إذنا لكونها من لوازمه وليعلم المؤمنين عطف على قوله تعالى فبإذن اللّه عطف المسبب على السبب والمراد بالعلم التمييز والإظهار فيما بين الناس ١٦٧ وليعلم الذين نافقوا عطف على ما قبله من مثله وإعادة الفعل لتشريف المؤمنين وتنزيههم عن الانتظام في قرن المنافقين وللإيذان باختلاف حال العلم بحسب التعلق بالفريقين فإنه متعلق بالمؤمنين على نهج تعلقه السابق وبالمنافقين على وجه جديد وهو السر في إيراد الأولين بصيغة اسم الفاعل المنبئة عن الاستمرار والآخرين بموصول صلته فعل دال على الحدث والمعنى وما
أصابكم يومئذ فهو كائن لتمييز الثابتين على الإيمان والذين أظهروا النفاق وقيل لهم عطف على نافقوا داخل معه في حيز الصلة أو كلام مبتدأ قال ابن عباس رضى اللّه عنهما هم عبد اللّه بن أبي وأصحابه حيث انصرفوا يوم أحد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال لهم عبد اللّه بن عمرو بن حرام أذكركم اللّه أن لاتخذلوا نبيكم وقومكم ودعاهم إلى القتال وذلك قوله تعالى تعالوا قاتلوا في سبيل اللّه أو ادفعوا قال السدى ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا وقيل أو ادفعوا عن أهلكم وبلدكم وحريمكم إن لم تقاتلوا في سبيل اللّه تعالى وترك العطف بين تعالوا وقاتلوا لما أن المقصود بهما واحد وهو الثاني وذكر الأول توطئة له وترغيب فيه لما فيه من الدلالة على التظاهر والتعاون قالوا استئناف وقع جوابا عن سؤال ينسحب عليه الكلام كأنه قيل فماذا صنعوا حين خيروا بين الخصلتين المذكورتين فقيل قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم أي لو نحسن قتالا ونقدر عليه وإنما قالوه دغلا واستهزاء وإنما عبر عن نفى القدرة على القتال بنفى العلم به لما أن القدرة على الأفعال الاختيارية مستلزمة للعلم بها أو لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لاتبعناكم ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتال أصلا وإنما هو إلقاء النفس إلى التهلكة وفي جعلهم التالى مجرد الاتباع دون القتال الذي هو المقصود بالدعوة دليل على كمال تثبيطهم عن القتال حيث لا ترضي نفوسهم بجعله تاليا لمقدم مستحيل الوقوع هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان الضمير مبتدأ وأقرب خبره واللام في للكفر وللإيمان متعلقة به وكذا يومئذ ومنهم وعدم جواز تعلق حرفين متحدين لفظا ومعنى بعامل واحد بلا عطف أو بدلية إنما هو فيما عدا أفعل التفضيل من العوامل لاتحاد حيثية عملها وأما أفعل التفضيل فحيث دل على أصل الفعل وزيادته جرى مجرى عاملين كأنه قيل قربهم للكفر زائدة على قربهم للإيمان وقيل تعلق الجارين به لشبههما بالظرفين أي هم للكفر يوم إذ قالوا ما قالوا أقرب منهم للإيمان فإنهم كانوا قبل ذلك يتظاهرون بالإيمان وما ظهرت منهم أمارة مؤذنة بكفرهم فلما انخذلوا عن عسكر المسلمين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر وقيل هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان لأن تقليل سواد المسلمين بالانخذال تقوية للمشركين وقوله تعالى يقولون بافواههم ما ليس في قلوبهم جمله مستانفه مقرره لمضمون ما قبلها وذكر الافواه والقلوب تصوير لنفاقهم وتوضيح لمخالفه ظاهرهم لباطنهم وما عباره عن القول والمراد به إما نفس الكلام الظاهر في اللسان وتارة وفي القلب أخرى فالمثبت والمنفى متحدان ذاتا وإن اختلفا مظهرا وأما القول الملفوظ فقط فالمنفى حينئذ منشؤه الذي لا ينفك عنه القول أصلا وإنما عبر عنه به إبانة لما بينهما من شدة الاتصال أي يتفوهون بقول لا وجود له أو لمنشئه في قلوبهم أصلا من الأباطيل التى من جملتها ما حكى عنهم آنفا فأنهم أظهروا فيه أمرين ليس في قلوبهم شئ منهما أحدهما عدم العلم بالقتال والآخر الاتباع على تقدير العلم به وقد كذبوا فيهما كذبا بينا حيث كانوا عالمين به غير ناوين للاتباع بل كانوا مصرين مع ذلك على الانخذال عازمين على الارتداد وقوله عز و جل واللّه أعلم بما يكتمون زيادة تحقيق لكفرهم ونفاقهم ببيان اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد إثر بيان خلوها عما يوافقها وصيغة التفضيل لما أن بعض ما يكتمونه من أحكام النفاق وذم المؤمنين وتخطئة آرائهم والشماتة بهم وغير ذلك يعلمه المؤمنون على وجه الإجمال وأن تفاصيل ذلك وكيفياته مختصة بالعلم الإلهى ١٦٨ الذين قالوا مرفوع على أنه بدل من واو يكتمون أو خبر لمبتدأ محذوف وقيل مبتدأ خبره قل فادرؤا بحذف العائد تقديره قل لهم الخ أو منصوب على الذم أو على أنه نعت للذين نافقوا أو بدل منه وقيل مجرور على أنه بدل من ضمير أفواهم أو قلوبهم كما في قوله ... على جوده لضن بالماء حاتم ... والمراد بهم عبد اللّه بن أبي وأصحابه لإخوانهم أي لأجلهم وهم من قتل يوم أحد من جنسهم أو من أقاربهم فيندرج فيهم بعض الشهداء وقعدوا حال من ضمير قالوا بتقدير قد أي قالوا وقد قعدوا عن القتال بالانخذال لو أطاعونا أي فيما أمرناهم به ووافقونا في ذلك ما قتلوا كما لم نقتل وفيه إيذان بأنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا وأغووهم كما غووا وحمل القعود على ما استصوبه ابن أبي عند المشاورة من الإقامة بالمدينة ابتداء وجعل الإطاعة عبارة عن قبول رأية والعمل به يرده كون الجملة حالية فإنها لتعيين ما فيه العصيان والمخالفة مع أن ابن أبى ليس من القاعدين فيها بذلك المعنى على أن تخصيص عدم الطاعة بإخوانهم ينادى باختصاص الأمر أيضا بهم فيستحيل أن يحمل على ما خوطب به النبى عند المشاورة قل تبكيتا لهم وإظهار لكذبهم فادرءوا عن أنفسكم الموت جواب لشرط قد حذف تعويلا على ما بعده من قوله تعالى إن كنتم صادقين كما أنه شرط حذف جوابه لدلالة الجواب المذكور عليه أي أن كنتم صادقين فيما ينبئ عنه قولكم من أنكم قادرون على دفع القتل عمن كتب عليه فادفعوا عن أنفسكم الموت الذي كتب عليكم معلقا بسبب خاص موقتا بوقت معين بدفع سببه فإن اسباب الموت في إمكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء وأنفسكم أعز عليكم من إخوانكم وأمرها أهم لديكم من أمرهم والمعنى أن عدم قتلكم كان بسبب أنه لم يكن مكتوبا عليكم لا بسبب أنكم دفعتموه بالقعود ودمع كتابته عليكم فإن ذلك مما لا سبيل اليه بل قد يكون القتال سببا للنجاة والقعود مؤديا الى الموت روى انه مات يوم قالوا ما قالوا سبعون منافقا وقيل اريد إن كنتم صادقين في مضمون الشرطية والمعنى انهم لو اطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين كما قتلوا مقاتلين فقوله تعالى فادرءوا عن انفسكم الموت حينئذ استهزاء بهم أي إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت فادرءوا جميع اسبابه حتى لا تموتوا كما درأتم في زعمكم هذا السبب الخاص ١٦٩ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل اللّه امواتا كلام مستأنف مسوق لبيان أن القتل الذي يحذرونه ويحذرون الناس منه ليس مما يحذر بل هو من أجل المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون إثر بيان أن الحذر لا يجدى ولا يغني وقرئ ولا تحسبن بكسر السين والمراد بهم شهداء أحد وكانوا سبعين رجلا اربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطالب ومصعب بن عمير وعثمان بن شهاب وعبداللّه بن جحش وباقيهم من الانصار رضوان اللّه تعالى عليهم اجمعين والخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أو لكل احد ممن له حظ من الخطاب وقرئ بالياء على الإسناد الى ضميره عليه السلام أو ضمير من يحسب وقيل الى الذين قتلوا والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عندالقرينة والتقدير ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتا أي لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا على أن المراد من توجيه النهي اليهم تنبيه السامعين على أنهم احقاء بأن يسلوا بذلك ويبشروا بالحياة الأبدية والكرامة السنية والنعيم المقيم لكن لا في جميع أوقاتهم بل عند ابتداء القتل إذ بعد تبين حالهم لهم لا يبقى لأعتبار تسليتهم وتبشيرهم فائدة ولا لتنبيه السامعين وتذكيرهم وجه وقرئ قتلوا بالتشديد لكثرة المقتولين بل أحياء أي بل هم احياء وقرئ منصوبا أي بل احسبهم احياء على أن الحسبان بمعنى اليقين كما في قوله ... حسبت التقى والمجد خير تجارة ... رباحا إذا ما المرء اصبح ثاقلا ... أو على انه وارد على طريق المشاكلة عند ربهم في محل الرفع على أنه خبر ثان للمبتدأ المقدر أو صفة لأحياء أو في محل النصب على انه حال من الضمير في أحياء وقيل هو ظرف لأحياء أو للفعل بعده والمراد بالعندية التقرب والزلفى وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ الى الكمال مع الإضافة الى ضميرهم مزيد تكرمة لهم يرزقون أي من الجنة وفيه تأكيد لكونهم احياء وتحقيق لمعنى حياتهم قال الإمام الواحدي الأصح في حياة الشهداء ما روى عن النبي صلى اللّه عليه و سلم من أن ارواحهم في اجواف طيور خضر وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون وروى عنه عليه السلام أنه قال لما اصيب إخوانكم بأحد جعل اللّه ارواحهم في اجواف طيور خضر تدور في أنهار الجنة وروى ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح من الجنة حيث شاءت وتأوى الى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش وفيه دلالة على أن روح الإنسان جسم لطيف لا يفنى بخراب البدن ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه ومن قال بتجريد النفوس البشرية يقول المراد أن نفوس الشهداء تتمثل طيورا خضرا أو تتعلق بها فتلتذ بما ذكر وقيل المراد انها تتعلق بالافلاك والكواكب فتلتذ بذلك وتكتسب زيادة كمال ١٧٠ فرحين بما آتاهم اللّه من فضله وهو شرف الشهادة والفوز بالحياة الأبدية والزلفى من اللّه عز و جل والتمتع بالنعيم المخلد عاجلا ويستبشرون يسرون بالبشارة بالذين لم يلحقوا بهم أي بإخوانهم الذين لم يقتلوا بعد في سبيل اللّه فيلحقوا بهم من خلفهم متعلق بيلحقوا والمعنى انهم بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم أو بمحذوف وقع حالا من فاعل يلحقوا أي لم يلحقوا بهم حال كونهم متخلفين عنهم باقين في الدنيا أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون بدل من الذين بدل اشتمال مبين لكون استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم وأن هي المخففة من أن واسمها ضمير الشأن المحذوف وخبرها الجملة المنفية أي ويستبشرون بما تبين لهم من حسن حال إخوانهم الذين تركوهم وهو أنهم عند قتلهم يفوزون بحياة ابدية لا يكدرها خوف وقوع محذور ولا حزن فوات مطلوب أو لا خوف عليهم في الدنيا من القتل فإنه عين الحياة التي يجب أن يرغب فيها فضلا عن أن تخاف وتحذر أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا انه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون والمراد بيان دوام انتفاء الخوف والحزن لا بيان انتفاء دوامهما كما يوهمه كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا فإن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام ١٧١ يستبشرون بنعمة كرر لبيان أن الاستبشار المذكور ليس بمجرد عدم الخوف والحزن بل به وبما يقارنه من نعمة عظيمة لا يقادر قدرها وهي ثواب اعمالهم وقد جوز أن يكون الأول متعلقا بحال إخوانهم وهذا بحال انفسهم بيانا لبعض ما أجمل في قوله تعالى فرحين بما آتاهم اللّه من فضله من اللّه متعلق بمحذوف وقع صفة لنعمة مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائنة منه تعالى وفضل أي زيادة عظيمة كما في قوله تعالى للذين احسنوا الحسنى وزيادة وأن اللّه لا يضيع أجر المؤمنين بفتح أن عطف على فضل منتظم معه في سلك المستبشر به والمراد بالمؤمنين إما الشهداء والتعبير عنهم بالمؤمنين للإيذان بسمو رتبة الإيمان وكونه مناطا لما نالوه من السعادة وأما كافة أهل الإيمان من الشهداء وغيرهم ذكرت توفية اجورهم على ايمانهم وعدت من جملة ما يستبشر به الشهداء بحكم الأخوة في الدين وقرئ بكسرها على أنه استئناف معترض دال على أن ذلك اجر لهم على إيمانهم مشعر بأن من لا إيمان له أعماله محبطة لا أجر لها وفيه من الحث على الجهاد والترغيب في الشهادة والبعث على ازدياد الطاعة وبشرى المؤمنين بالفلاح ما لا يخفى ١٧٢ الذين استجابوا للّه والرسول من بعد ما أصابهم القرح صفة مادحة للمؤمنين لا مخصصة أو نصب على المدح أو رفع على الابتداء والخبر قوله تعالى للذين احسنوا منهم واتقوا أجر عظيم بجملته ومن للبيان والمقصود من الجمع بين الوصفين المدح والتعليل لا التقييد لأن المستجيبين كلهم محسنون ومتقون روى أن ابا سفيان واصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فأراد أن يرهبهم من نفسه واصحابه قوة فندب اصحابه للخروج في طلب ابي سفيان وقال لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية اميال وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على انفسهم حتى لا يفوتهم الاجر والقى اللّه تعالى الرعب في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت ١٧٣ الذين قال لهم الناس يعني الركب الذين استقبلوهم من عبد قيس أو نعيم بن مسعود الأشجعي وإطلاق الناس عليه لما أنه من جنسهم وكلامه كلامهم يقال فلان يركب الخيل ويلبس الثياب وماله سوى فرس فرد وغير ثوب واحد أو لأنه انضم اليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم روى أن ابا سفيان نادى عند انصرافه من أحد يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت فقال عليه السلام ان شاء اللّه تعالى فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مر الظهران فألقى اللّه تعالى في قلبه الرعب وبدا له أن يرجع فمر به ركب من بنى عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من زبيب أن ثبطوا المسلمين وقيل لقى نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فسأله ذلك والتزم له عشرا من الإبل وضمنها منه سهيل بن عمرو فخرج نعيم ووجد المسلمين يتجهزون للخروج فقال لهم أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد أفترون ان تخرجوا وقد جمعوا لكم ففروا فقال عليه السلام والذي نفسى بيده لأخرجن ولو لم يخرج معى أحد فخرج في سبعين راكبا كلهم يقولون حسبنا اللّه ونعم الوكيل قيل هي الكلمة التى قالها إبراهيم عليه الصلاة و السلام حين ألقى في النار فزادهم إيمانا الضمير المستكن للمقول أو لمصدر قال أو لفاعله إن أريد به نعيم وحده والمعنى أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك بل ثبت به يقينهم باللّه تعالى وازداد اطمئنانهم وأظهروا حمية الإسلام وأخلصوا النية عنده وهو دليل على أن الإيمان يتفاوت زيادة ونقصانا فإن ازدياد اليقين بالإلف وكثرة التأمل وتناصر الحجج مما لا ريب فيه ويعضده قول ابن عمر رضي اللّه عنهما قلنا يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الإيمان يزيد وينقص قال نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار وقالوا حسبنا اللّه أي محسبنا اللّه وكافيا من أحسبه إذا كفاه والدليل على أنه بمعنى المحسب أنه لا يستفيد بالإضافة تعريفا في قولك هذا رجل حسبك ونعم الوكيل أي نعم الموكول إليه والمخصوص بالمدح محذوف أي اللّه عز و جل ١٧٤ فانقلبوا عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي فخرجوا إليهم ووافوا الموعد روى أنه عليه الصلاة و السلام وافى بجيشه بدرا وأقام بها ثمانى ليال وكانت معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا كثيرا والباء في قوله تعالى بنعمة متعلقة بمحذوف وقع حالا من الضمير في فانقلبوا والتنوين للتفخيم أي فرجعوا من مقصدهم ملتبسين بنعمة عظيمة لا يقادر قدرها وقوله عز و جل من اللّه متعلق بمحذوف وقع صفة لنعمة مؤكدة لفخامتها الذاتية التى يفيدها التنكير بالفخامة الإضافية أي كائنة من اللّه تعالى وهي العافية والثبات على الإيمان والزيادة فيه وحذر العدو منهم وفضل أي ربح في التجارة وتنكيره أيضا للتفخيم لم يمسسهم سوء حال أخرى من الضمير في فانقلبوا أومن المستكن في الحال كأنه قيل منعمين حال كونهم سالمين عن السوء والحال إذا كان مضارعا منفيا بلم وفيه ضمير ذي الحال جاز فيه دخول الواو كما في قوله تعالى أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شئ وعدمه كما في هذه الآية الكريمة وفي قوله تعالى ورد اللّه الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا واتبعوا في كل ما اتوا من قول وفعل رضوان اللّه الذي هو مناط الفوز بخير الدارين واللّه ذو فضل عظيم حيث تفضل عليهم بالتثبيت وزيادة الإيمان والتوفيق للمبادرة إلى الجهاد والتصلب في الدين وإظهار الجراءة على العدو وحفظهم عن كل ما يسوءهم مع إصابة النفع الجليل وفيه تحسير لمن تخلف عنهم وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء وروى أنهم قالوا هل يكون هذا غزوا فأعطاهم اللّه تعالى ثواب الغزو ورضى عنهم ١٧٥ إنما ذلكم إشارة إلى المثبط أو إلى من حمله على التثبيط والخطاب للمؤمنين وهو مبتدأ وقوله تعالى الشيطان إما خبره وقوله تعالى يخوف أولياءه جملة مستأنفة مبينة لشيطنته أو حال كما في قوله تعالى فتلك بيوتهم خاوية الخ وأما صفته والجملة خبره ويجوز أن تكون الإشارة إلى قوله على تقدير مضاف أي إنما ذلكم قول الشيطان أي إبليس والمستكن في يخوف إما المقدار وأما الشيطان بحذف الراجع إلى المقدر أي يخوف به والمراد بأوليائه إما أبو سفيان وأصحابه فالمفعول الأول محذوف أي يخوفكم أولياءه كما هو قراءة ابن عباس وابن مسعود ويؤيده قوله تعالى فلا تخافوهم أي أولياءه وخافون في مخالفة أمرى وأما القاعدون فالمفعول الثاني محذوف أي يخوفهم الخروج مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم والضمير البارز في فلا تخافوهم للناس الثاني أي فلا تخافوهم فتقعدوا عن لاقتال وتجنبوا وخافوني فجاهدوا مع رسولى وسارعوا إلى ما يأمركم به والخطاب لفريقى الخارجين والقاعدين والفاء لترتيب النهى أو الانتهاء على ماقبلها فغن كون المخوف شيطانا مما يوجب عدم الخوف والنهى عنه إن كنتم مؤمنين فإن الإيمان يقتضى إيثار خوف اللّه تعالى على خوف غيره ويستدعى الأمن من شر الشيطان وأوليائه ١٧٦ ولا يحزنك تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لتشريفه بتخصيصه بالتسلية والإيذان بأصالته في تدبير أمور الدين والاهتمام بشئونه الذين يسارعون في الكفر أي يقعون فيه سريعا لغاية حرصهم عليه وشدة رغبتهم فيه وإيثار كلمة في على ما وقع في قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة الآية للإشعار باستقرارهم في الكفر ودوام ملابستهم له في مبدأ المسارعة ومنتهاها كما في قوله تعالى أولئك يسارعون في الخيرات فإن ذلك مؤذن بملابستهم للخيرات وتقلبهم في فنونها في طرفى المسارعة وتضاعيفها وأما إيثار كلمة إلى في قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة الخ فلأن المغفرة والجنة منتهى المسارعة وغايتها والمراد بالموصول المنافقون من المتخلفين وطائفة من اليهود حسبما عين في قوله تعالى يأيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواهم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا وقيل قوم ارتدوا عن الإسلام والتعبير عنهم بذلك للإشارة بما في حيز الصلة إلى مظنة وجود المنهى عنه واعترائه لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أي لا يحزنوك بمسارعتهم في الكفر ومبادرتهم إلى تمشية أحكامه ومظاهرتهم لأهله وتوجيه النهى إلى جهتهم مع ان المقصود نهيه عليه الصلاة و السلام عن التأثر منهم للمبالغة في ذلك لما ان النهى عن التأثير نهى عن التأثر بأصله ونفى له بالمرة وقد يوجه النهى إلى اللازم والمراد هو النهى عن الملزوم كما في قولك لا أرينك ههنا وقرا لا يحزنك من أحزن المنقول من حزن بكسر الزاى والمعنى واحد وقيل معنى حزنه جعل فيه حزنا كما في دهنه أي جعل فيه دهنا ومعنى أحزنه جعله حزينا وقيل معنى حزنه أحدث له الحزن ومعنى أحزنه عرضه للحزن أنهم لن يضروا اللّه تعليل للنهى وتكميل للتسلية بتحقيق نفى ضررهم أبدا أي لن يضروا بذلك اولياء اللّه البتة وتعليق نفى الضرر به تعالى لتشريفهم والإيذان بان مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه وفيه مزيد مبالغة في التسلية وقوله تعالى شيئا في حيز النصب على المصدرية أي شيئا من الضرر والتنكير لتأكيد ما فيه من القلة والحقارة وقيل على نزع الجار أي بشئ ما أصلا وقيل المعنى لن ينقصوا بذلك من ملكه تعالى وسلطانه شيئا كما روى أبو ذر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال يقول اللّه تعالى لو أن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكى شيئا ولو أن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا والأول هو الأنسب بمقام التسلية والتعليل يريد اللّه أن لا يجعل لهم حظأ في الآخرة استئناف مبين لسر ابتلائهم بما هم فيه من الانهماك في الكفر وفي ذكر الارادة من الإيذان بكمال خلوص الداعى إلى حرمانهم وتعذيبهم حيث تعلقت بهما إرادة أرحم الراحمين مالا يخفى وصيغة الاستقبال للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها أي يريد اللّه بذلك ان لا يجعل لهم في الاخرة حظأ من الثواب ولذلك تركهم في طغيانهم يعمهون إلى أن يهلكوا على الكفر ولهم مع ذلك الحرمان الكى عذاب عظيم لا يقادر قدرة قيل ما دلت المسارعة في الشئ على عظم شأنه وجلالة قدره عند المسارع وصف عذابه بالعظم رعاية للمناسبة وتنبيها على حقارة ما سارعوا فيه وخساسته في نفسه والجملة إما مبتدأة مبينة لحظهم من العقاب إثر بيان أن لاشئ لهم من الثواب وأما حال من الضمير في لهم أي يريد اللّه حرمانهم من الثواب معدا لهم عذاب عظيم ١٧٧ إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان أي أخذوه بدلا منه رعبة فيما أخذوه وإعراضا عما تركوه وقد مر تحقيق القول في هذه الاستعارة في تفسير قوله عز و جل أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى مستوفى لن يضروا اللّه شيئا تفسيره كما مر غير أن فيه تعريضا ظاهرا باقتصار الضرر عليهم كأنه قيل وإنما يضرون أنفسهم فإن جعل الموصول عبارة عن المسارعين المعهودين بأن يراد باشتراء الكفر بالإيمان إيثاره عليه إما بأخذه بدلا من الإيمان الحاصل بالفعل كما هو حال المرتدين أو بالقوة القريبة منه الحاصله بمشاهدة دلائلة في التوراة كما هو شأن اليهود ومنافقيهم فالتكرير لتقرير الحكم وتأكيده ببيان علته بتغيير عنوان الموضوع فإن ما ذكر في حيز الصلة من الاشتراء المذكور صريح في لحوق ضرره بأنفسهم وعدم تعديه إلى غيرهم أصلا كيف لا وهو علم في الخسران الكلى والحرمان الأبدى دال على كمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم فكيف يتأتى منهم ما يتوقف على قوة الحزم ورزانة الرأى ورصانة التدبير من مضارة حزب اللّه تعالى وهي أعز من الأبلق الفرد وأمنع من عقاب الجو وإن أجرى الموصول على عمومه بأن يراد بالاشتراء المذكور القدر المشترك الشامل للمعنيين المذكورين ولأخذ الكفر بدلا مما نزل منزلة نفس الإيمان من الاستعداد القريب له الحاصل بمشاهدة الوحى الناطق وملاحظة الدلائل المنصوبة في الافاق والأنفس كما هو دأب جميع الكفرة فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها تقرير القواعد الكلية لما اندرج تحتها من جزئيات الأحكام هذا وقد جوز كون الموصول الأول عاما للكفار والثاني خاصا بالمعهودين وأنت خبير بأنه مع خلوه عن النكت المذكورة مما لا يليق بفخامة شأن التنزيل لما ان صدور المسارعة في الكفر بالمعنى المذكور وكونها مظنة لإيراث الحزن لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كما يفهم من النهى عنه إنما يتصور ممن علم اتصافه بها وأما من لا يعرف حاله من الكفرة الكائنين في الأماكن البعيدة فإسناد المسارعة المذكورة إليهم باعتبار كونها من مبادى حزنه عليه السلام ومما لا وجه له وقوله تعالى ولهم عذاب أليم جملة مبتدأة مبينة لكمال فظاعة عذابهم بذكر غاية إيلامه بعد ذكر نهاية عظمه قيل لما جرت العادة باغتباط المشترى بما اشتراه وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة وبتألمه عند كونها خاسرة وصف عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك ١٧٨ ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملى لهم خير لأنفسهم عطف على قوله تعالى ولا يحزنك الذين الآية والفعل مسند إلى الموصول وأن بما في حيزها سادة مسد مفعولية عند سيبوية لتمام المقصود بها وهو تعلق الفعل القلبي بالنسبة بين المبتدأ والخبر أو مسد أحدهما والآخر محذوف عند الأخفش وما مصدرية أو موصولة حذف عائدها ووصلها في الكتابة لاتباع الإمام أي لايحسبن الكافرون إن إملاءنا لهم أو أن ما نمليه لهم خيرلأنفسهم أولا يحسبن الكافرون خيرية إملائنا لهم أو خيرية ما نمليه لهم ثابتة أو واقعة ومآله نهيهم عن السرور بظاهر إملائه تعالى لهم بناء على حسبان خيريته لهم وتحسيرهم ببيان أنه شر بحت وضرر محض كما أن مآل المعطوف عليه نهى الرسول عن الحزن بظاهر حال الكفرة بناء على توهم الضرر من قبلهم وتسليته عليه السلام ببيان عجزهم عن ذلك بالكلية والمراد بالموصول إما جنس الكفرة فيندرج تحت حكمة الكلى أحكام المعهودين اندراجا أوليا وأما المعهود دون خاصة فإيثار الإظهار على الإضمار لرعاية المقارنة الدائمة بين الصلة وبين الأملاء الذى هو عبارة عن إمهالهم وتخليتهم وشانهم دهرا طويلا فإن المقارن له دائما إنما هو الكفر المستمر لا المسارعة المذكورة ولا الاشتراء المذكور فإنهما من الأحوال المتجددة المنقضية في تضاعيف الكفر المستمر وقرئ لا تحسبن بالتاء والخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وهو الأنسب بمقام التسلية أو لكل من يتأتى منه الحسبان قصدا إلى إشاعة فظاعة حالهم والموصول مفعول وإنما نملى لهم إما بدل منه وحيث كان التعويل على البدل وهو ساد مسد المفعولين كما في قوله تعالى أم تحسب أن أكثرهم يسمعون اقتصر على مفعول واحد كما في قولك جعلت المتاع بعضه فوق بعض وأما مفعول ثان بتقدير مضاف إما فيه أي لاتحسبن الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم أو في المفعول الأول أي لاتحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم ومعنى التفضيل باعتبار زعمهم إنما نملى لهم ليزدادوا إثما استئناف مبين لحكمة الإملاء وما كافة واللام لام الإرادة وعند المعتزلة لام العاقبة وقرئ بفتح الهمزة ههنا على ايقاع الفعل عليه وكسرها فيما سبق على انه اعتراض بين الفعل ومعموله مفيد لمزيد الاعتناء بإبطال الحسبان ورده على معنى لايحسبن الكافرون أن إملاءنا لهم لازدياد الإثم حسبما هو شأنهم بل إنما هو لتلافى ما فرط منهم بالتوبة والدخول في الإيمان ولهم في الآخرة عذاب مهين لما تضمن الإملاء التمتيع بطيبات الدنيا وزينتها وذلك مما يستدعى التعزز والتجبر وصف عذابهم بالإهانة ليكون جزاؤهم جزاء وفاقا والجملة إما مبتدأة مبينة لحالهم إثر بيان حالهم في الدنيا وأما حال من الواو ليزيدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين وهذا متعين على القراءة الأخيرة ١٧٩ ما كان اللّه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه كلام مستأنف مسوق لوعده المؤمنين ووعيده المنافقين بالعقوبة الدنيوية التى هي الفضيحة والخزى إثر بيان عقوبتهم الأخروية والمراد بالمؤمنين المخلصون وأما الخطاب فقد قيل إنه لجمهور المصدقين من أهل الإخلاص وأهل النفاق ففيه التفات في ضمن التلوين والمراد بما هم عليه اختلاط بعضهم بعضا واستواؤهم في إجراء أحكام الإسلام عليهم إذ هو القدر المشترك بين الفريقين وقيل أنه للكفار والمنافقين وهو قول ابن عباس والضحاك ومقاتل والكلبى وأكثر المفسرين ففيه تلوين فقط ولعل المنافقين عطف تفسيرى للكفار وإلا فلا شركة بين المؤمنين والمنافقين في أمر من الأمور والمراد بما هم عليه ما مر من القدر المشترك فإنه كما يجوز نسبته إلى الفريقين معا يجوز نسبته إلى كل منهما لا الكفر والنفاق كما قيل فإن المؤمنين ما كانوا مشاركين لهم في ذلك حتى لا يتركوا عليه وقيل إنه للمؤمنين خاصة وهو قول أكثر أهل المعاني ففيه تلوين والتفات كما مر والتعرض لإيمانهم قبل الخطاب للإشعار بعلة الحكم والمراد بما هم عليه ما مر غيره مرة والأول هو الأقرب وإليه جنح المحققون من أهل التفسير لكونه صريحا في كون المراد بما هم عليه ما ذكر من القدر المشترك بين الفريقين من حيث هو مشترك بينهما بخلاف القولين الأخيرين فإنهما بمعزل من ذلك كيف لا والمفهوم مما عليه المنافقين هو الكفر والنفاق ومما عليه المؤمنون هو الإيمان والإخلاص لا القدر المشترك بينهما ولئن فهم ذلك فإنما يفهم من حيث الانتساب إلى أحدهما لا من حيث الانتساب إليهما معا وعليه يدور أمر الاختلاط المحوج إلى الإفراز واللام في ليذر إما متعلقة بالخبر المقدر لكان كما هو رأى البصرية وانتصاب الفعل بعدها بان المقدرة أي ما كان اللّه مريدا أو متصديا لأن يذر المؤمنين الخ ففى توجيه النفى إلى إرادة الفعل تأكيد ومبالغة ليست في توجيهه إلى نفسه وأما مزيدة للتأكيد ناصبة للفعل بنفسها كما هو رأى الكوفية ولا يقدح في ذلك زيادتها كما لا يقدح زيادة حروف الجر في عملها وقوله عز و جل حتى يميز الخبيث من الطيب غاية لما يفيده النفى المذكور كأنه قيل ما يتركهم اللّه تعالى على ذلك الاختلاط بل يقدر الأمور ويرتب الأسباب حتى يعزل المنافق من المؤمن وفي التعبير عنهما بما ورد به النظم الكريم تسجيل على كل منهما بما يليق به وإشعار بعلة الحكم وإفراد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل منهما وتكثره لا سيما بعد ذكر ما أريد بأحدهما أعنى المؤمنين بصيغة الجمع للإيذان بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو أتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد أحادهما كما في مثل قوله تعالى ذلك أدنى أن لا تعولوا ونضيره قوله تعالى تذهل كل مرضعة عما أرضعت حيث قصد الدلالة على الأتصاف بالوصف من غير تعرض لكون الموصوف من العقلاء أو غيرهم وتعليق الميز بالخبيث المعبر به عن المنافق مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الأختلاط تعليقه بهم وأفرازهم عن المنافقين لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال مغايرة للأولى مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان وإن ظهر مزيد إخلاصهم لا بالتصرف فيهم وتغييرهم من حال إلى حال أخرى مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الأستتار ولأن فيه مزيد تأكيد للوعيد كما أشير إليه في قوله تعالى واللّه يعلم المفسد من المصلح وإنما لم ينسب عدم الترك إليهم لما أنه مشعر بالأعتناء بشأن من نسب إليه فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة كما يشهد به الذوق السليم وقرئ حتى يمسز من التمييز وقوله تعالى وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب تمهيد لبيان الميز الموعود على طريق تجريد الخطاب للمخلصين تشريفا لهم وقوله عز و جل ولكن اللّه يجتبى من رسله ما يشاء إشارة إلى كيفية وقوعه على سبيل الأجمال وأظهار الأسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة فالمعنى ما كان اللّه ليترك المخلصين على الأختلاط بالمنافقين بل يرتب المبادئ حتى يخرج المنافقين من بينهم وما يفعل ذلك بإطلاعكم على ما في قلوبهم من الكفر والنفاق ولكنه تعالى يوحي إلى رسوله عليه السلام فيخبره بذلك وبما ظهر منهم من الأقوال وألأفعال حسبما حكى عنهم بعضه فيما سلف فيفضحهم على رءوس الإشهاد ويخلصكم من خسة الشركاء وسوء جوارهم والتعرض للأجتباء للأيذان بأن الوقوف على أمثال تلك الأسرار الغيبية لا يتأتي إلى ممن رشحه اللّه تعالى لمنصب جليل تقاصرت عنه همم الأمم وأصطفاه على الجماهير لإرشادهم وتعميم الإجتباء لسائر الرسل عليهم السلام للدلالة على أن شأنه عليه السلام في هذا الباب أمر متين له أصل أصيل جار على سنة اللّه تعالى المسلوكة فيما بين الرسل الخالية عليهم السلام وتعميم الأمر في قوله تعالى فأمنوا باللّه ورسله مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبى لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل لأنه مصدق لما بين يديه من الرسل وهم شهداء بصحة نبوته عليه الصلاة و السلام والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة و السلام فيدخل فيه تصديقه عليه السلام فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولا أوليا هذا هو الذي يقتضيه جزالة النظم الكريم وقد جوز أن يكون المعنى لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بان يكلفكم التكاليف الصعبة التى لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن اللّه تعالى قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد وإنفاق الأموال في سبيل اللّه تعالى فيجعل ذلك عيارا على عقائدكم وشاهدا بضمائركم حتى يعلم بعضكم بما في قلب بعض بطريق الاستدلال لا من جهة الوقوف على ذات الصدور فإن ذلك مما استأثر اللّه تعالى به وأنت خبير بأن الاستدراك باجتباء الرسل المنبئ عن مزيد مزيتهم وفضل معرفتهم على الخلق إثر بيان قصور رتبتهم عن الوقوف على خفايا السرائر صريح في ان المراد إظهار تلك السرائر بطريق الوحى لا بطريق التكليف بما يؤدى إلى خروج أسرارهم عن رتبة الخفاء وأقرب من ذلك حمل الآية الكريمة على أن تكون مسوقة لبيان الحكمة في إملائة تعالى للكفرة إثر بيان شريته لهم فالمعنى ما كان اللّه ليذر المخلصين على الاختلاط أبدا كما تركهم كذلك إلى الآن لسر يقتضيه بل يفرز عنهم المنافقين ولذلك فعله يومئذ حيث خلى الكفرة وشانهم فأبرز لهم صورة الغلبة فأظهر من في قلوبهم مرض ما فيها من الخبائث وافتضحوا على رءوس الأشهاد وقيل قال الكافرون إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر فنزلت وإن تؤمنوا أي بما ذكر حق الإيمان وتتقوا أي عدم مراعاة حقوقه أو النفاق فلكم بمقابلة ذلك الإيمان والتقوى أجر عظيم لا يبلغ كنهه ١٨٠ ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيرا لهم بيان لحال البخل ووخامة عاقبته وتخطئة لأهله في توهم خيريته حسب بيان حال الإملاء وإيراد ما بخلوا به بعنوان إيتاء اللّه تعالى إياه من فضله للمبالغة في بيان سوء صنيعهم فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله كما في قوله تعالى وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه والفعل مسند إلى الموصول والمفعول الأول محذوف لدلالة الصلة عليه وضمير الفصل راجع إليه أي لا يحسبن الباخلون بما آتاهم اللّه من فضله من غير أن يكون لهم مدخل فيه أو استحقاق له هو خيرا لهم من إنفاقه وقيل الفعل مسند إلى ضمير النبى أو إلى ضمير من يحسب والمفعول الأول هو الموصول بتقدير مضاف والثاني ما ذكر كما هو كذلك على قراءة الخطاب أي ولايحسبن بخل الذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم التنصيص على شريته لهم مع انفهامها من نفى خيريته للمبالغة في ذلك والتنوين للتفخيم وقوله تعالى سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة بيان لكيفية شريته أي سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق على أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه للإيذان بكمال المناسبة بينهما وروى عن النبى أنه قال ما من رجل لا يؤدى زكاة ماله إلا جعل اللّه له شجاعا في عنقه يوم القيامة وقيل يجعل ما بخل به من الزكاة حية في عنقه تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر راسه وتقول أنا مالك وللّه وحده لا لأحد غيره استقلالا أو اشتراكا ميراث السموات والأرض أي ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره من الرسالات التى يتوارثها أهل السموات والأرض فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله أو أنه يرث منهم ما يمسكونه ولا ينفقونه في سبيله تعالى عند هلاكهم وتبقى عليهم الحسرة والندامة واللّه بما تعملون من المنع والبخل خبير فيجازيكم على ذلك وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة والالتفات للمبالغة في الوعيد والإشعار باشتداد غضب الرحمن الناشئ من ذكر قبائحهم وقرئ بالياء على الظاهر ١٨١ لقد سمع اللّه قول الذين قالوا إن اللّه فقير ونحن أغنياء قالته اليهود لما سمعوا قوله تعالى من ذا الذي يقرض اللّه قرضا حسنا وروى انه عليه السلام كتب مع أبي بكر رضي اللّه عنه إلى يهود بنى قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا اللّه قرضا حسنا فقال فنحاص إن اللّه فقير حتى سألنا القرض فلطمه أبو بكر رضي اللّه عنه في وجهه وقال لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك فشكاه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وجحد ما قاله فنزلت والجمع حينئذ مع كون القائل واحدا لرضا الباقين بذلك والمعنى أنه لم يخف عليه تعالى واعد له من العذاب كفأه والتعبير عنه بالسماع للإيذان بأنه من الشناعة والسماحة بحيث لا يرضى قائله بأن يسمعه سامع والتوكيد القسمى للتشديد في التهديد والمبالغة في الوعيد سنكتب ما قالوا أي سنكتب ما قالوه من العظيمة الشنعاء في صحائف الحفظة أو سنحفظه ونثبته في علمنا لاننساه ولا نهمله كما يثبت المكتوب والسين للتأكيد أي لن يفوتنا أبدا تدوينه وإثباته لكونه في غاية العظم والهول كيف لا وهو كفر باللّه تعالى واستهزاء بالقرآن العظيم والرسول الكريم ولذلك عطف عليه قوله تعالى وقتلهم الأنبياء إيذانا بأنهما في العظم أخوان وتنبيها على أنه ليس بأول جريمة ارتكبوها بل لهم فيه سوابق وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه أمثال هذه العظائم والمراد بقتلهم الأنبياء رضاهم بفعل أسلافهم وقوله تعالى بغير حق متعلق بمحذوف وقع حالا من قتلهم أي كائنا بغير حق في اعتقادهم أيضا كما هو في نفس الأمر وقرئ سيكتب على البناء للفاعل وسيكتب على البناء للمفعول وقتلهم بالرفع ونقول ذوقوا عذاب الحريق أي وننتقم منهم بعد الكتبة بأن نقول لهم ذوقوا العذاب المحرق كما أذقتم المسلمين الغصص وفيه من المبالغات مالا يخفى وقرئ ويقول بالياء ويقال على البناء للمفعول ١٨٢ ذلك إشارة إلى العذاب المذكور وما فيه من معنى البعد للدلالة على عظم شأنه وبعد منزلته في الهول والفظاعة وهو مبتدأ خبره قوله تعالى بما قدمت أيديكم أي بسبب ما اقترفتموه من قتل الأنبياء والتفوه بمثل تلك العظيمة وغيرها من المعاصي والتعبير عن الأنفس بالأيدى لما ان عامة أفاعيلها تزاول بهن ومحل أن في قوله تعالى وأن اللّه ليس بظلام للعبيد الرفع على انه خبر مبتدأ محذوف والجملة اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبلها أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم والتعبير عن ذلك بنفى الظلم مع ان تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلا عن كونه ظلما بالغا لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال على الأعمال بإضاعتها مع ان الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها صياغها وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم وقيل هي لرعاية جمعية العبيد من قولهم فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده على أنها للمبالغة كما لا كيفا هذا وقد قيل محل أن الجر بالعطف على ما قدمت وسببيته للعذاب من حيث أن نفى الظلم مستلزم للعدل المقتضى لإثابة المحسن ومعاقبة المسئ وفساده ظاهر فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا حتى ينتهض نفى الظلم سببا للتعذيب حسبما ذكره القائل في سورة الأنفال وقيل سببية ذنوبهم لعذابهم مقيدة بانضمام انتفاء ظلمه تعالى إليها إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم وأنت خبير بأن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعه لا ينافى كون تعذيب هؤلاء الكفرة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه معه وإنما يحتاج إلى ذلك أن لو كان المدعى أن جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين ١٨٣ الذين قالوا نصب أو رفع على الذم وهم كعب بن الأشرف ومالك بن صيفى وحيي بن أخطب وفنحاص بن عازوراء ووهب بن يهوذا إن اللّه عهد إلينا أي أمرنا في التوراة وأوصانا أن لانؤمن لرسول حتى ياتينا بقربان تأكله النار كما كان عليه أمر أنبياء بنى إسرائيل حيث كان يقرب بالقربان فيقوم النبى فيدعو فتنزل نار من السماء فتأكله أي تحيله إلى طبعها بالإحراق وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم فإن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات سواء ولماكان محصل كلامهم الباطل أن عدم إيمانهم برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لعدم إتيانه بما قالوا ولو تحقق الإتيان به لتحقق الإيمان رد عليهم بقوله تعالى قل أي تبكيتا لهم وإظهارا لكذبهم قد جاءكم رسل كثيرة العدد كبيرة المقدار من قبلى بالبينات أى المعجزات الواضحة وبالذي قلتم بعينه من القربان الذي تأكله النار فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين فيما يدل عليه كلامكم من أنكم تؤمنون لرسول يأتيكم بما اقترحتموه فإن زكريا ويحيى وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد جاءوكم بما قلتم مع معجزات أخر فما لكم لم تؤمنوا لهم حتى اجترأتم على قتلهم ١٨٤ فإن كذبوك شروع في تسلية رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إثر ما أوحى إليه ما يحزنه عليه الصلاة و السلام من مقالات الكفرة من المشركين واليهود وقوله تعالى فقد كذب رسل من قبلك تعليل لجواب الشرط أي فتسل فقد كذب الخ ومن متعلقة بكذب أو بمحذوف صفة لرسل أي كائنة من قبلك جاءوا بالبينات أي المعجزات الواضحات صفة لرسل والزبر هو جمع زبور وهو الكتاب المقصود على الحكم من زبرته إذا حسنته وقيل زبر المواعظ والزواجر من زبرته إذاز جرته والكتاب قيل أي التوراة والإنجيل والزبور والكتاب في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام ولذلك جاء الكتاب والحكمة متعاطفين في عامة وقرئ وبالزبر بإعادة الجار دلالة على أنها مغايرة بالذات ١٨٥ كل نفس ذائقة الموت وعد ووعيد للمصدق والمكذب وقرئ ذائقة الموت بالتنوين وعدمه كما في قوله ... ولا ذاكر اللّه إلا قليلا ... وإنما توفون أجوركم أي تعطون أجزية أعمالكم على التمام والكمال يوم القيامة أي يوم قيامكم من القبور وفي لفظ التوفية إشارة إلى أن بعض أجورهم يصل إليهم قبله كما ينبئ عنه قوله عليه الصلاة و السلام القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران فمن زحزح عن النار أي بعد عنها يومئذ ونجى والزحزحة في الأصل تكرير الزح وهو الجذب بعجلة وأدخل الجنة فقد فاز بالنجاة ونيل المراد والفوز الظفر بالبغية وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم من أحب ان يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن باللّه واليوم الآخر ويأتى إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه وما الحياة الدنيا أي لذاتها وزخارفها إلا متاع الغرور شبهت بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه وهذا لمن آثرها على الآخرة فأما من طلب بها الآخرة فهى له متاع بلاغ والغرور إما مصدر أو جمع غار ١٨٦ لتبلون شروع في تسلية رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ومن معه من المؤمنين عما سيلقونه من جهة الكفرة من المكاره إثر تسليتهم عما قد وقع منهم ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ويستعدوا للقائة ويقابلوه بحسن الصبر والثبات فإن هجوم الأوجال مما يزلزل أقدام الرجال والاستعداد للكروب مما يهون الخطوب وأصل الابتلاء الاختبار أي تطلب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه غالبا ملابستة ومقارفته وذلك إنما يتصور حقيقة مما لا وقوف له على عواقب الأمور وأما من جهة العليم الخبير فلا يكون إلا مجازا من تمكينه للعبد من اختيار أحد الأمرين أو الأمور قبل أن يرتب عليه شيئا هو من مباديه العادية كما مر والجملة جواب قسم محذوف أي واللّه لتبلون أي لتعاملن معاملة معملة المختبر ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق والأعمال الحسنة وفائدة التوكيد إما تحقيق معنى الابتلاء تهوينا للخطب وأما تحقيق وقوع المبتلى به مبالغة في الحث على ما أريد منهم من التهيئو والاستعداد في اموالكم بما يقع فيها من ضروب الآفات المؤدية إلى هلاكها وأما إنفاقها في سبيل الخير مطلقا فلا يليق نظما في سلك الابتلاء لما أنه من باب الأضعاف لا من قبيل الاتلاف وأنفسكم بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد ونحو ذلك وتقديم الأموال لكثرة وقوع الهلكة فيها ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أى من قبل إيتائكم القرآن وهم اليهود والنصارى عبر عنهم بذلك للإشعار بمدار الشقاق والإيذان بأن بعض ما يسمعونه منهم مستند على زعمهم إلى الكتاب كما في قوله تعالى إن
اللّه عهد إلينا الخ والتصريح بالقبلية لتأكيد الإشعار وتقوية المدار فإن قدم نزول كتابهم مما يؤيد تمسكهم به ومن الذين أشركوا أذى كثيرا من الطعن في الدين الحنيف والقدح في أحكام الشرع الشريف وصد من أراد أن يؤمن وتخطئة من آمن وما كان من كعب بن الأشرف وأضرابه من هجاء المؤمنين وتحريض المشركين على مضادة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ونحو ذلك مما لا خير فيه وإن تصبروا أي على تلك الشدائد والبلوى عند ورودها وتقابلوها بحسن التجمل وتتقوا أي تتبتلوا إلى اللّه تعالى بالكلية معرضين عما سواه بالمرة بحيث يتساوى عندكم وصول المحبوب ولقاء المكروه فإن ذلك إشارة إلى الصبر والتقوى وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهما وبعد منزلتهما وتوحيد حرف الخطاب إما باعتبار كل واحد من المخاطبين وأما لأن المراد بالخطاب مجرد التنبيه من غير ملاحظة خصوصية أحوال المخاطبين من عزم الأمور من معزوماتها التى يتنافس فيها المتنافسون أى مما يحب أن يعزم عليه كل أحد لما فيه من كمال المزية والشرف أو مما عزم اللّه تعالى عليه وأمر به وبالغ فيه يعنى أن ذلك عزمه من عزمات اللّه تعالى لا بد أن تصبروا وتتقوا والجملة تعليل لجواب الشرط واقع موقعه كأنه قيل وإن تصبرواوتتقوا فهو خير لكم أو فافعلوا أو فقد أحسنتم أو فقد أصبتم فإن ذلك الخ ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى صبر المخاطبين وتقواهم فالجملة حينئذ جواب الشرط وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعبادة ما لا يخفى ١٨٧ واذ أخذ اللّه كلام مستأنف سيق لبيان بعض أذياتهم وهو كتمانهم ما في كتابهم من شواهد نبوته عليه الصلاة و السلام وغيرها وإذ منصوب على المفعولية بمضمر أمر به النبى خاصة بطريق تجريد الخطاب إثر الخطاب الشامل له عليه الصلاة و السلام وللمؤمنين لكون مضمونه من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة و السلام وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرها على ما مر بيانه في تفسير قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل الخ أي اذكر وقت اخذه تعالى ميثاق الذين أوتوا الكتاب وهم علماء اليهود والنصارى ذكروا بعنوان إيتاء الكتاب مبالغة في تقبيح حالهم لتبيننه حكاية لما خوطبوا به والضمير للكتاب وهو جواب لقسم ينبئ عنه أخذ الميثاق كأنه قيل لهم باللّه لتبيننه للناس تظرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التى من جملتها امر نبوته عليه الصلاة و السلام وهو المقصود بالحكاية وقرئ بالياء لأنهم غيب ولا تكتمونه عطف على الجواب وإنما لم يؤكد بالنون لكونه منفيا كما في قولك واللّه لا يقوم زيد وقيل اكتفى بالتأكيد في الأول لأنه تأكيد له وقيل هو حال من ضمير المخاطبين إما على إضمار مبتدأ بعد الواو أي وأنتم لا تكتمونه وأما على راى من جوز دخول الواو على المضارع المنفى عند وقوعه حالا أي لتبيننه غير كاتمين والنهى عن الكتمان بعد الأمر بالبيان وأما للمبالغة في إيجاب المأمور به وأما المراد بالبيان المأمور به ذكر الآيات الناطقة بنبوته عليه الصلاة و السلام وبالكتمان المنهى عنه إلقاء التأويلات الزائغة والشبهات الباطلة وقرئ بالياء كما قبله فنبذوه النبذ الرمى والإبعاد أي طرحوا ما أخذ منهم من الميثاق الموثق بفنون التأكيد وألقوه وراء ظهورهم ولم يراعوه ولم يلتفتوا إليه أصلا فإن نبذ الشئ وراء الظهر مثل في الاستهانة به والإعراض عنه بالكلية كما أن جعله نصب العين علم في كمال العناية به وفيه من الدلالة على تحتم بيان الحق على علماء الدين وإظهار ما منحوه من العلم للناس أجمعين وحرمه كتمانه لغرض من الأغراض الفاسدة أو لطمع في عرض من الأعراض الفانية الكاسدة مالا يخفى وعن النبى من كتم علما عن أهله ألحجم بلجام من نار وعن طاوس أنه قال لوهب بن منبه إنى أرى اللّه سوف يعذبك بهذه الكتب وقال واللّه لو كنت نبيا فكتمت العلم كما تكتمه لرأيت أن اللّه سيعذبك وعن محمد بن كعب لا يحل لأحد من العماء أن يسكت على علمه ولا يحل لجاهل ان يسكت على جهلة حتى يسأل وعن على رضي اللّه عنه ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا واشتروا به أي بالكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عن كتمانه فإن ذكر نبذ الميثاق يدل على ذلك دلالة واضحة وإيقاع الفعل على الكل مع ان المراد به كتم بعضه كدلائل نبوته عليه الصلاة و السلام ونحوها لما أن ذلك كتم للكل إذ به يتم الكتاب كما أن رفض بعض أركان الصلاة رفض لكلها أو بمنزلة كتم الكل من حيث إنهما سيان في الشناعة واستجرار العقاب كما في قوله تعالى وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والاشتراء مستعار لاستبدال متاع الدنيا بما كتموه أى تركوا ما امروا به وأخذوا بدله ثمنا قليلا أي شيئا تافها حقيرا من حطام الدنيا وأعراضها وفي تصوير هذه المعاملة بعقد المعاوضة لاسيما بالاشتراء المؤذن بالرغبة في المأخوذ والإعراض عن المعطى والتعبير عن المشترى الذي هو العمدة في العقد والمقصود بالمعاملة بالثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إليه وجعل الكتاب الذي حقه أن يتنافس فيه المتنافسون مصحوبا بالباء الداخلة على الالآت والوسائل من نهاية الجزالة والدلالة على كمال فظاعة حالهم وغاية قبحها بإيثارهم الدنئ الحقير على الشريف الخطير وتعكيسهم بجعلهم المقصد الأصلى وسيلة والوسيلة مقصدا ما لا يخفى جلالة شأنه ورفعه مكانه فبئس ما يشترون ما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس ويشترون صفته والمخصوص بالذم محذوف أي بئس يشترونه ذلك الثمن ١٨٨ لاتحسبن الخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أو لكل احد ممن يصلح له الذين يفرحون بما أتوا أي بما فعلوا كما في قوله تعالى إنه كان وعده مأتيا ويدل عليه قراءة أبي يفرحون بما فعلوا وقرئ بما آتوا بمعنى أعطوا وبما أوتوا أى أي بما أوتوه من علم التوراة قال ابن عباس رضي اللّه عنهما هم اليهود حرفوا التوراة وفرحوا بذلك وأحبوا أن يوصفوا بالديانة والفضل روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سأل اليهود عن شئ مما في التوراة فكتموا
الحق وأخبروه بخلافة وأروه أنهم قد صدقوه واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا وقيل فرحوا بكتمان النصوص الناطقة بنبوته عليه الصلاة و السلام وأحبوا أن يحمدوا بأنهم متبعون ملة إبراهيم عليه السلام فالموصول عبارة عن المذكورين أو عن مشاهيرهم وضع موضع ضميرهم والجملة مسوقة لبيان ما تستتبعه أعمالهم المحكية من العقاب الأخروى أثر بيان قباحتها وقد أدمج فيها بيان بعض آخر من شنائعهم وهو إصرارهم على ماهم عليه من القبائح وفرحهم بذلك ومحبتهم لأن يوصفوا بما ليس فيهم من الأوصاف الجميلة وقد نظم ذلك في سلك الصلة التى حقها أن تكون معلومة الثبوت للموصول عند المخاطب إيذانا بشهرة اتصافهم بذلك وقيل هم قوم تخلفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم أو المصلحة في ذلك واستحمدوا به وقيل هم المنافقون كافة وهو الأنسب بظاهر قوله تعالى ويحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا لشهرة أنهم كانوا يفرحون بما فعلوا من إظهار الإيمان وقلوبهم مطمئنة بالكفر ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان وهم عن فعله بألف معزل وكانوا يظهرون محبة المؤمنين وهم في الغاية القاصية من العداوة فالموصول عبارة عن طائفة معهودة من المذكورين وغيرهم فإن أكثر المنافقين كانوا من اليهود ولعل الأولى إجراء الموصول على عمومه شاملا لكل من يأتى بشيء من الحسنات فيفرح به فرح إعجاب ويود أن يمدحه الناس بما هو عار منه من الفضائل منتظما للمعهودين انتظاما أوليأ وأيا ما كان فهو مفعول أول لتحسبن وقوله تعالى فلا تحسبنهم تأكيد له والفاء زائدة والمفعول الثاني قوله تعالى بمفازة من العذاب أي ملتبسين بنجاة منه على أن المفازة مصدر ميمي ولا يضر تأنيثها بالتاء لما أنها مبنية عليها وليست للدلالة على الوحدة كما في قوله ... فلولا رجاء النصر منك ورهبة ... عقابك قد كانوا لنا بالموارد ... ولا سبيل إلى جعلها اسم مكان على أن الجار متعلق بمحذوف وقع صفة لها أي بمفازة كائنة من العذاب لأنها ليست من العذاب وتقدير فعل خاص ليصح به المعنى أي بمفازة منجية من العذاب مع كونه خلاف الأصل تعسف مستغنى عنه وقرئ بضم الباء في الفعلين على أن الخطاب شامل للمؤمنين أيضا وقرئ بياء الغيبة وفتح الباء فيهما على أن الفعل له عليه الصلاة و السلام أو لكل أحد ممن يتأتى منه الحسبان ومفعولاه كما ذكر و قرئ بضم الباء في الثاني فقط على أن الفعل للموصول والمفعول الأول محذوف لكونه عين الفاعل والثاني بمفازة أي لا يحسبن الذين يفرحون أنفسهم فائزين وقوله تعالى فلا يحسبنهم تأكيد للأول والفاء زائدة كما مر ويجوز أن يحمل الفعل الأول على حذف المفعولين معا اختصارا لدلالة مفعولى الثاني عليهما على عكس ما في قوله ... بأى كتاب أو بأية سنة ... ترى حبهم عارا على وتحسب ... حيث حذف فيه مفعولا الثاني لدلالة مفعولى الأول عليهما أو على ان الفعل الأول للرسول أو لكل حاسب ومفعوله الأول الموصول والثاني محذوف لدلالة مفعول الفعل الثاني عليه والفعل الثاني مسند إلى ضمير الموصول والفاء للعطف لظهور تفرع عدم حسبانهم على عدم حسبانه عليه السلام ومفعولاه الضمير المنصوب وقوله تعالى بمفازة وتصدير الوعيد بنهيهم عن الحسبان المذكور للتنبيه على بطلان آرائهم الركيكة وقطع أطماعهم الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرة كما نجوا به من المؤاخذة الدنيوية وعليه كان مبنى فرحهم وأما نهيه عليه السلام فللتعريض بحسبانهم المذكور لالاحتمال وقوع الحسبان من جهته عليه السلام ولهم عذاب أليم بعد ما أشير إلى عدم نجاتهم من مطلق العذاب حقق ان لهم فردا منه لاغايةله في المدة والشدة كما تلوح به الجملة الاسمية والتنكير التفخيمى والوصف ١٨٩ وللّه أي خاصة ملك السموات والأرض أي السلطان القاهر فيهما بحيث يتصرف فيهما وفيما فيهما كيفما يشاء ويريد إيجادا وإعداما إحياء وإماته تعذيبا وإثابة من غير أن يكون لغيره شائبة دخل في شئ من ذلك بوجه من الوجوه فالجملة مقررة لما قبلها وقوله تعالى واللّه على كل شئ قدير تقرير لاختصاص ملك العالم الجثماني المعبر عنه بقطرية به سبحانه وتعالى فإن كونه تعالى قادرا على الكل بحيث لا يشذ من ملكوته شئ من الأشياء يستدعى كون ما سواه كائنا ما كان مقدورا له ومن ضرورته اختصاص القدرة به تعالى واستحالة أن يشاركه شئ من الأشياء في القدرة على شئ من الأشياء فضلا عن المشاركة في ملك السموات والأرض وفيه تقريره لما مر من ثبوت العذاب الأليم لهم وعدم نجاتهم منه أثر تقرير وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربية المهابة والإشعار بمناط الحكم فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من أحكام الألولهية مع ما فيه من الإشعار باستقلال كل من الجملتين بالتقرير ١٩٠ إن في خلق السموات جملة مستأنفة سيقت لتقرير ما سبق من اختصاصه تعالى بالسلطان القاهر والقدرة التامة صدرت بكلمة التأكيد اعتناء بتحقيق مضمونها أي في إنشائها على ما هي عليه في ذواتها وصفاتها من الأمور التى يحار في فهم أجلاها العقول والأرض على ما هي عليه ذاتا وصفة واختلاف الليل والنهار أي في تعاقبهما في وجه الأرض وكون كل منهما خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين لحركات لسموات وسكون الأرض أو في تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده باختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا وبعدا بحسب الأزمنة أو في اختلافهما وتفاوتهما بحسب الأمكنة إما في الطول والقصر فإن البلاد القريبة من القطب الشمالى أيامها الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها وأما في أنفسها فإن كرية الأرض تقتقض أن يكون بعض الوقات في بعض الأماكن ليلا وفي مقابلة نهارا وفي بعضها صباحا وفي بعضها ظهرا أو عصرا أو غير ذلك والليل قيل أنه اسم جنس يفرق بين واحده وجمعه بالتاء كتمر وتمرة والليالى جمع جمع والصحيح أنه مفرد ولا يحفظ له جمع والليالى جمع ليلة وهو جمع غريب كأنهم توهموا أنها ليلاه كما في كيكة وكياكى كأنها جمع كيكاه والنهار اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس قاله الراغب وقال ابن فارس هو ضياء ما بينهما وتقديم الليل على النهار إما لأنه الأصل فإن غرر الشهور تظهر في الليالى وأما لتقدمه في الخلفية حسبما ينبئ عنه قوله تعالى وآية لهم الليل نسلخ منه النهار أي نزيلة منه فيخلفه لآيات اسم إن دخلته اللام لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كما وكيفا أي لآيات كثيرة عظيمة لا يقادر قدرها دالة على تعاجيب شعونه التى من جملتها ما مر من اختصاص الملك العظيم والقدرة التامة به سبحانه وعدم التعرض لما ذكر في سورة البقرة من الفلك والمطر وتصريف الرياح والسحاب لما أن المقصود ههنا بيان استبداده تعالى بما ذكر من الملك والقدرة فاكتفى بمعظم الشواهد الدالة على ذلك وأما هناك فقد قصد في ضمن بيان اختصاصه تعالى بالألوهية بيان اتصافه تعالى بالرحمة الواسعة فنظمت دلائل الفضل والرحمة في سلك دلائل التوحيد فإن ما فصل هناك من آيات رحمته تعالى كما أنه آيات ألوهيته ووحدته لأولى الألباب أي لذوى العقول المجلوة الخالصة عن شوائب الحس والوهم المتجردين عن العلائق النفسانية المتخلصين من العوائق الظلمانية المتأملين في أحوال الحقائق وأحكام النعوت المراقبين في أطوار الملك وأسرار الملكوت المتفكرين في بدائع صنائع الملك الخلاق المتدبرين في روائع حكمه المودعة في الأنفس والآفاق الناظرين إلى العالم بعين الاعتبار والشهود المتفحصين عن حقيقة سر الحق في كل موجود المثابرين على مراقبته وذكراه غير ملتفتين إلى شئ مما سواه إلا من حيث إنه مرآة لمشاهدة جماله وآله لملاحظة صفات كماله فإن كل كا ظهر في مظاهر الإبداع وحضر محاضر التكوين والاختراع سبيل سوى إلى عالم التوحيد ودليل قوى على الصانع المجيد ناطق بآيات قدرته فهل من سامع واع ومخبر بأنباء علمه وحكمته فهل له من داع يكلم الناس على قدر عقولهم ويرد جوابهم بحسب مقولهم يحاور تارة بأوضح عبارة ويلوح أخرى بألطف إشارة مراعيا في الحوار وإبهامهم وتصريحهم وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لاتفقهون تسبيحهم فتأمل في هذه الشئون والأسرار إن في ذلك لعبرة لأولى البصار عن عائشة رضى اللّه عنها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال هل لك يا عائشة أن تأذنى لى الليلة في عبادة ربى فقلت يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنى لأحب قربك وأحب هواك قد أذنت لك فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلى فقرأ من القرآن وجعل يبكى حتى بلغ الدموع حقوية ثم جلس فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه وجعل يبكى ثم رفع يديه يبكى حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكى فقال له يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أتبكى وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا ثم قال وما لى لا أبكى وقد أنزل اللّه تعالى على في هذه الليلة إن في خلق السموات والأرض الخ ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وروى ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها وعن على رضي اللّه عنه أن النبى كان إذا قام من الليل يتسول ثم ينظر إلى السماء ثم يقول إن في خلق السموات والأرض ١٩١ الذين يذكرون اللّه الموصول إما موصول بأولى الإلباب مجرور على أنه نعت كاشف له بما في حيز الصلة وأما مفصول عنه مرفوع أو منصوب على المدح أو مرفوع على انه خبر لمبتدأ محذوف وقيل هو مرفوع على الإبتداء والخبر هو القول المقدر قبل قوله تعالى ربنا وفيه من تفكيك النظم الجليل مالا يخفى وأيا ما ما كان فقد أشير بما في حيز صلته أن المراد بهم الذين لا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم لاطمئنان قلوبهم بذكره واستغراف سرائرهم في مراقبته لما أيقنوا بان كل ما سواه فائض منه وعائد إليه فلا يشاهدون حالا من الأحوال في أنفسهم وإليه أشير بقوله عز و جل قياما وقعودا وعلى جنوبهم ولا في الآفاق وإليه أشير بما بعده إلا وهم يعاينون في ذلك شأنا من شئونه تعالى فالمراد به ذكره تعالى مطلقا سواء كان ذلك من حيث الذات أو من حيث الصفات والأفعال وسواء قارنه الذكر اللساني أولا وأما ما يحكى عن ابن عمر وعروة بن الزبير وجماعة رضى اللّه عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون اللّه تعالى فقال بعضهم إما قال اللّه تعالى الذين يذكرون اللّه قياما وقعودا فقاموا يذكرون اللّه على أقدامهم فليس مرادهم به تفسير الآية وتحقيق مصداقها على التعيين وإنما أرادوا به التبرك بنوع موافقة لها في ضمن الإيتان بفرد من افراد مدلولها وأما حمل الذكر على الصلاة في هذه الأحوال حسب الاستطاعة كما قال عليه السلام لعمران بن الحصين صل قائما فإن لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماء فمما لا يساعده سباق لنظم الجليل ولا سياقة ولا قيام والقعود جمع قائم وقاعد كنيام ورقدو جمع نائم وانتصابهما على الحالية من ضمير يذكرون أى يذكرونه قائمين وقاعدين وقوله تعالى وعلى جنوبهم متعلق بمحذوف معطوف على الحالين أي وكائنين على جنوبهم أي مضطجعين والمراد تعميم الذكر للأوقات كما مر وتخصيص الأحوال المذكورة بالذكر ليس لتخصيص الذكر بها بل لأنها الأحوال المعهودة التى لا يخلو عنها الإنسان غالبا ويتفكرون في خلق السموات عطف على يذكرون منتظم معه في حيز الصلة فلا محل له من الإعراب وقيل محله النصب على أنه معطوف على الأحوال السابقة وليس بظاهر وهو بيان لتفكرهم في أفعاله سبحانه إثر بيان تفكرهم في ذاته تعالى على الإطلاق وإشارة إلى نتيجته التى يؤدى إليها من معرفة احوال المعاد حسبما نطقت به ألسنة الرسل وآيات الكتب فكما أنها آيات تشريعية هادية للخلق إلى معرفته تعالى ووجوب طاعته كذلك المخلوقات آيات تكوينية مرشدة لهم إلى ذلك فالأولى منبهات لهم على الثانية ودواع إلى الاستشهاد بها كهذه الآية الكريمة ونحوها مما ورد في مواضع غير محصورة من التنزيل والثانية مؤيدات للأولى وشواهد دالة على صحة مضمونها وحقية مكنونها فإن من تأمل في تضاعيف خلق العالم على هذا النمط البديع قضى باتصاف خالقه تعالى بجميع ما نطقت به الرسل والكتب من الوجوب الذاتي والوحدة الذاتية والملك القاهر والقدرة التامة والعلم الشامل والحكمة البالغة وغير ذلك من صفات الكمال وحكم بأن من قدر على إنشائه بلا مثال يحتذيه أو قانون ينتحيه فهو على إعادته بالبعث أقدر وحكم بان ذلك ليس إلا لحكمة باهرة هي جزاء المكلفين بحسب استحقاقهم المنوط بأعمالهم أي علومهم واعتقاداتهم التابعة لأنظارهم فيما نصب لهم من الحجج والدلائل والأمارات والمخايل وسائر أعمالهم المتفرعة على ذلك فإن العمل غير مختص بعمل الجوارح بل متناول للعمل القلبى بل هو أشرف أفراده لما أن لكل من القلب والقالب عملا خاصا به ومن قضية كون الأول أشرف من الثاني كون عمله أيضا أشرف من عمله كيف ولا ولا عمل بدون معرفته تعالى التى هي أول الواجبات على العباد والغاية القصوى من الخلق على ما نطق به عز و جل وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي ليعرفون كما أعرب عنه قوله عليه الصلاة و السلام يقول اللّه تعالى كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف وإنما طريقها النظر والتفكر فيما ذكر من شئونه تعالى وقد روى عنه عليه السلام انه قال لا تفضلونى على يونس بن متى فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض قالوا وإنما كان ذلك التفكر في أمر اللّه تعالى ولذلك قال عليه السلام لاعبادة مثل التفكر وقد عرفت أنه مستتبع لتحقيق ما جاءت به الشريعة الحقة وإلا لما فسر النبى قوله تعالى وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا بقوله عليه الصلاة و السلام أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم اللّه تعالى فإن التورع عن محارمه سبحانه موقوف على معرفة الحلال والحرام المنوط بالكتاب والسنة فحينئذ تتصادق الآيات التكوينية وتتوافق الأدلة السمعية والعقلية وهو السر في نظم ما حكى عن المتفكرين من الأمور المستدعية للإيمان بالشريعة في سلك نتيجة تفكرهم كما ستقف عليه وإظهار خلق السموات والأرض مع كفاية الإضمار لإبراز كمال العناية ببيان حالهم والإيذان بكون تفكرهم على وجه التحقيق والتفصيل وعدم التعرض لإدراج اختلاف الملوين في سلك التفكر مع ذكره فيما سلف إما للإيذان بظهور اندراجه فيه لما أن ذلك من الأحوال التابعة لأحوال السموات والأرض كما أشير إليه وأما للإشعار بمسارعتهم إلى الحكم بالنتيجة بمجرد تفكرهم في بعض الآيات من غير حاجة إلى بعض آخر منها في إثبات المطلوب والخلق مصدر على حاله أي يتفكرون في إنشائهما وإبداعهما بما فيهما من عجائب المصنوعات وقيل بمعنى المخلوق على أن الإضافة بمعنى في أي يتفكرون فيما خلق فيهما أعم من أن يكون بطريق الجزئية منهما أو بطريق الحلول فيهما أو على انها بيانية ربنا ما خلقت هذا باطلا كلمة هذا إشارة إلى السموات والأرض متضمنة لضرب من التعظيم كما في قوله تعالى إن هذا القرآن يهدي للتى هي أقوم والتذكير لما أنهما باعتبار تعلق الخلق بهما فى معنى المخلوق وباطلا إما صفة لمصدر مؤكد محذوف أو حال من المفعول به أي ما خلقت هذا المخلوق البديع العظيم الشأن عبثا عاريا عن الحكمة خاليا عن المصلحة كما ينبئ عنه أوضاع الغافلين عن ذلك المعرضين عن التفكر فيه بل منتظما لحكم جليلية ومصالح عظيمة من جملتها أن يكون مدارا لمعايش العباد ومنارا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد حسبما افصحت عنه الرسل والكتب الإلهية كما تحققته مفصلا والجملة بتمامها في حيز النصب بقول مقدر هو على تقدير كون الموصول نعتا لأولى الألباب استئناف مبين لنتيجة التفكر ومدلول الآيات ناشئ مما سبق فإن النفس عند سماع تخصيص الآيات المنصوبة في خلق العالم بأولى الألباب ثم وصفهم بذكر اللّه تعالى والتفكر في محال الآيات تبقى مترقبة لما يظهر منهم من آثارها وأحكامها كأنه قيل فماذا يكون عند تفكرهم في ذلك وماذا يترتب عليه من النتيجة فقيل يقولون كيت وكيت مما ينبئ عن وقوفهم على سر الخلق المؤدى إلى معرفة صدق الرسل وحقية الكتب الناطقة بتفاصيل الأحكام الشرعية على التفصيل الذي وقفت عليه هذا وأما جعله حالا من المستكن في الفعل كما أطبق عليه الجمهور فمما لا يساعده النظم الكريم لما أن ما في حيز الصلة وما هو قيد له حقه أن يكون من مبادى الحكم الذي أجرى على الموصول ودواعى ثبوته له كذكرهم اللّه عز و جل في عامة أوقاتهم وتفكرهم في خلق السموات والأرض فإنهما مما يؤدى إلى اجتلاء تلك الآيات والاستدلال بها على المطلوب ولا ريب في أن قولهم ذلك ليس من مبادى الاستدلال المذكور بل من نتائجه المترتبة عليه فاعتباره قيدا لما في حيز الصلة مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل نعم هو حال من ذلك على تقدير كون الموصول مرفوعا أو منصوبا على المدح أو مرفوعا على أنه خبر لمبتدأ محذوف إذ لااشتباه في أن قولهم ذلك من مبادى مدحهم ومحاسن مناقبهم وفي إبراز هذا القول في معرض الحال دون الخبر إشعار بمقارنته لتفكرهم من غير تلعثم وتردد في ذلك وقوله تعالى سبحانك أي تنزيها لك عما لا يليق بك من الأمور التى من جملتها خلق مالا حكمة فيه اعتراض مؤكدة لمضمون ما قبله وممهد لما بعده من قوله تعالى فقنا عذاب النار فإن معرفة سر خلق العالم وما فيه من الحكمة البالغة والغاية الحميدة والقيام بما تقتضيه من الأعمال الصالحة وتنزيه الصانع تعالى عن العبث من دواعى الاستعاذة مما يحيق بالمخلين بذلك من وجهين أحدهما الوقوف على تحقق العذاب فالفاء لترتيب الدعاء على ما ذكر والثاني الاستعداد لقبول الدعاء فالفاء لترتيب المدعو أعنى الوقاية على ذلك كأنه قيل وإذ قد عرفنا سرك وأطعنا أمرك ونزهناك عما لا ينبغى فقنا عذاب النار الذي هو جزاء الذين لا يعرفون ذلك ١٩٢ ربنا أنك من تدخل النار فقد اخزيته مبالغة في استدعاء الوقاية وبيان لسببه وتصدير الجملة بالنداء للمبالغة في التضرع والجؤار وتأكيدها لإظهار كمال اليقين بمضمونها والإيذان بشدة الخوف وإظهار النار في موضع الإضمار لتهويل أمرها وذكر الإدخال في مورد العذاب لتعيين كيفيته وتبيين غاية فظاعته قال الواحدى للإخزاء معان متقاربة يقال أخزاه اللّه أي أبعده وقيل أهانة وقيل أهلكه وقيل فضحة قال ابن الأنبارى الخزى لغة الهلاك بتلف أو بانقطاع حجة أو بوقوع في بلاء والمعنى فقد أخزيته خزيا لا غاية وراءه كقولهم من أدرك مرعى الضمان فقد أدرك أى المرعى الذي لا مرى على بعده وفيه من الإشعار بفظاعة العذاب الروحاني مالا يخفى وقوله تعالى وما للظالمين من أنصار تذييل لإظهار نهاية فظاعة حالهم ببيان خلود عذابهم بفقدان من ينصرهم ويقوم بتخليصهم وغرضهم تأكيد الاستدعاء ووضع الظالمين موضع ضمير المدخلين لذمهم والإشعار بتعليل دخولهم النار بظلمهم ووضعهم الأشياء في غير مواضعها وجمع الأنصار بالنظر إلى جمع الظالمين أي ما لظالم من الظالمين نصير من الأنصار والمراد به من ينصر بالمدافعة والقهر فليس في الآية دلالة على نفى الشفاعة على أن المراد بالظالمين هم الكفار ١٩٣ ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للإيمان حكاية لدعاء آخر لهم مبنى على تأملهم في الدليل السمعى بعد حكاية دعائهم السابق البمنى على التفكر في الإدلة العقلية وتصدير مقدمة الدعاء بالنداء لإظهار كمال الضراعة والابتهال والتأكيد للإيذان بصدور المقال عنهم بوفور الرغبة وكمال النشاط والمراد بالنداء الدعاء وتعديتهما بإلى لتضمنهما معنى الإنهاء وباللام لاشتمالهما على معنى الاختصاص والمراد بالمنادى الرسول وتنوينه للتفخيم وإيثاره على الداعى للدلالة على كمال اعتنائه بشان الدعوة وتبليغها إلىالدانى والقاصى لما فيه من الإيذان برفع الصوت وينادى صفة لمناديا عند الجمهور كما في قولك سمعت رجلا يقول كيت وكيت ولو كان معرفة لكان حالا منه كما إذا قلت سمعت زيدا يقول الخ ومفعول ثان لسمعنا عند الفارسى وأتباعه وهذا أسلوب بديع يصار إليه للمبالغة في تحقيق السماع والإيذان بوقوعه بلا واسطة عند صدور المسموع عن المتكلم وللتوسل إلى تفصيله واستحضار صورته وقد اختص النظم الكريم بمزية زائدة على ذلك حيث عبر عن المسموع منه بالمنادى ثم وصف بالنداء للإيمان على طريقة قولك سمعت متكلما يتكلم بالحكمة لما أن التفسير بعد الإبهام والتقييد بعد الإطلاق أوقع عند النفس وأجدر بالقبول وقيل المنادى القرآن العظيم أن آمنوا أي آمنوا على أن أن تفسيرية أو بأن آمنوا على أنها مصدرية بربكم بما لكم ومتولى أموركم ومبلغكم ومبلغكم إلى الكمال وفي إطلاق الإيمان ثم قييده تفخيم لشأنه فآمنا أي فامتثلنا بأمره وأجبنا نداءه ربنا تكرير للتضرع واظهار لكمال الخضوع وعرض للاعتراف بربوبيته مع الإيمان به والفاء في قوله تعالى فاغفر لنا لترتيب المغفرة أو الدعاء بها على الإيمان به تعالى والإقرار بربوبيته فإن ذلك من دواعى المغفرة والدعاء بها ذنوبنا أي كبائرها فإن الإيمان يجب ما قبله وكفر عنا سيئاتنا أي صغائرنا فإنها مكفرة عن مجتنب الكبائر وتوفنا مع الأبرار أي مخصوصين بصحبتهم مغتنمين لجوارهم معدودين من زمرتهم وفيه إشعار بأنهم كانوا يحبون لقاء اللّه ومن أحب لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه والأبرار جمع بار أو بر كأصحاب وأرباب ١٩٤ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك حكاية لدعاء آخر لهم مسبوق بما قبله معطوف عليه لتأخر التحلية عن التخلية وتكرير النداء لما مر مرارا والمراد بالموعود الثواب وعلى إما متعلقة بالوعد كما في قولك وعد اللّه الجنة على الطاعة أي وعدتنا على تصديق رسلك أو بمحذوف وقع صفة لمصدر مؤكد محذوف أي وعدتنا وعدا كائنا على ألسنة رسلك وقيل التقدير منزلا على رسلك أو محمولا على رسلك ولا يخفى أن تقدير الأفعال الخاصة في مثل هذه المواقع تعسف وجمع الرسل مع ان المنادى هو الرسول وحده لما ان دعوته عليه السلام لاسيما في باب التوحيد وما اجمع عليه الكل من الشرائع منطوية على دعوة الكل فتصديقه تصديق لهم عليهم السلام كيف لا وقد أخذ منهم الميثاق بالإيمان به عليه السلام لقوله تعالى وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب الآية وكذا الموعود على لسانه من الثواب موعود على ألسنة الكل وإيثار الجمع لأظهار كمال الثقة بانجاز الموعود بناء على كثرة الشهود ولاتخزنا يوم القيامة قصدوا بذلك تذكير وعده تعالى بقوله يوم لا يخزى اللّه النبى والذين آمنوا معه مظهرين أنهم ممن آمن معه رجاء للأنتظام في سلكهم يومئذ وقوله تعالى إنك لاتخلف الميعاد تعليل لتحقيق ما نظموا في سلك الدعاء وهذه الدعوات وما في تضاعيفها من كمال الضراعة والابتهال ليست لخوفهم من أخلاف الميعاد بل لخوفهم من أن لا يكونوا من جملة الموعودين بتغير الحال وسوء الخاتمة والمآل فمرجعها الى الدعاء بالتثبيت أو للمبالغة في التعبد والخشوع والميعاد الوعد وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه البعث بعد الموت وفي الآثار عن جعفر الصادق من حزبه أمر فقال ربنا خمس مرات أنجاه اللّه مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرا هذه الآية ١٩٥ فاستجاب لهم ربهم الاستجابة بمعنى الاجابة وقال تاج القراء الاجابة عامة والاستجابة خاصة بإعطاء المسئول وتتعدى باللام وبنفسها كما في قوله ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب ... وهو عطف على الاستئناف المقدر فيما سلف مترتب على ما في حيزه من الأدعية كما أن قوله عز و جل ثم قيل للذين ظلموا الخ عطف على قيل المقدر قبل آلآن أي قيل لهم آلآن آمنتم به ثم قيل الآية وكما أن قوله تعالى في سورة الاعراف على قلوبهم معطوف على ما دل عليه معنى أو لم يهد الخ كأنه قيل يغفلون عن الهداية ونطبع ونطيع الخ ولا ضير في اختلافهما صيغة لما أن صيغة المستقبل هناك للدلالة على الاستمرار المناسب لمقام الدعاء وصيغة الماضي ههنا للإيذان بتحقق الاستجابة وتقررها كما لا ضير في الاختلاف بين قوله تعالى إذ تستغيثون ربكم وبين ما عطف عليه من قوله تعالى فاستجاب لكم كما سيأتي ويجوز أن يكون معطوفا على مضمر ينساق اليه الذهن أي دعوا بهذه الادعية فاستجاب الخ وأما على تقرير كون المقدر حالا فهو عطف على يتفكرون باعتبار مقارنته لما وقع حالا من فاعله أعني قوله تعالى ربنا ربنا الخ فإن الاستجابة مترتبة على دعواتهم لا على مجرد تفكرهم وحيث كانت هي من أوصافهم الجميلة المترتبة على أعمالهم بالآخرة استحقت الانتظام في سلك محاسنهم المعدودة في أثناء مدحهم وأما على تقدير كون الموصول نعتا لأولى الألباب فلا مساغ لهذا العطف أصلا لما عرفت من أن حق ما في حيز الصلة أن يكون من مبادي جريان الحكم على الموصول وقد عرفت أن دعواتهم السابقة ليست كذلك فأين الاستجابة المتأخرة عنها وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ الى الكمال مع الاضافة الى ضميرهم من تشريفهم واظهار اللطف بهم مالا يخفى أني لا أضيع عمل عامل منكم أي بأني وهكذا قرأ أبي رضي اللّه عنه والباء للسببية كأنه قيل فاستجاب لهم ربهم بسبب لأنه لا يضيع عمل عامل منهم أي سنته السنية مستمرة على ذلك والالتفات الى التكلم والخطاب لإظهار كمال الاعتناء بشأن الاستجابة وتشريف الداعين بشرف الخطاب والمراد تأكيدها ببيان سببها والاشعار بأن مدارها أعمالهم التي قدموها على الدعاء لا مجرد الدعاء وتعميم الوعد لسائر العاملين وان لم يبلغوا درجة أولى الالباب لتأكيد استجابة الدعوات المذكورة والتعبير عن ترك الاثابة بالاضاعة مع أنه ليس بإضاعة حقيقية اذ الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها ضياعها لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه من القبائح وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه وقرئ بكسرالهمزة على إرادة القول أي قائلا أنى الخ فلا التفات حينئذ وقرئ لا أضيع بالتشديد ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لعامل أي عامل كائن منكم وقوله تعالى من ذكر أو أنثى بيان لعامل وتأكيد لعمومه وقوله تعالى بعضكم من بعض جملة معترضة مبينة لسبب انتظام النساء في سلك الرجال في الوعد فإن كون كل منهما من الآخر لتشعبهما من أصل واحد أو لفرط الإتصال بينهما أو لإتفاقهما في الدين والعمل مما يستدعي الشركة والإتحاد في ذلك روى أن أم سلمة رضي اللّه عنها قالت لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إني أسمع اللّه تعالى يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت وقوله تعالى فالذين هاجروا ضرب تفصيل لما أجمل في العمل وتعداد لبعض أحاسن أفراده على وجه المدح والتعظيم أي فالذين هاجروا الشرك أو الأوطان والعشائر للدين وقوله تعالى وأخرجوا من ديارهم على الأول عبارة عن نفس الهجرة وعلى الثاني عن كيفيتها وكونها بالقسر والإضطرار وأوذوا في سبيلي أي بسبب إيمانهم باللّه ومن أجله وهو متناول لكل أذية نالتهم من قبل المشركين وقاتلوا أي الكفار في سبيل اللّه تعالى وقتلوا استشهدوا في القتال وقرئ بالعكس لما أن الواو لا تستدعي الترتيب أو لأن المراد قتل بعضهم وقتال آخرين إذ ليس المعنى على اتصاف كل فرد من أفراد الموصول المذكور بكل واحد مما ذكر في حيز الصلة بل على اتصاف الكل بالكل في الجملة سواء كان ذلك باتصاف كل فرد من الموصول بواحد من الأوصاف المذكورة أو باثنين منها أو بأكثر إما بطريق التوزيع أو بطريق حذف بعض الموصولات من البين كما هو رأي الكوفيين كيف لا ولو أدير الحكم على اتصاف كل فرد بالكل لكان قد أضيع عمل من اتصف بالبعض وقرئ وقتلوا بالتشديد لأكفرن عنهم سيئاتهم جواب قسم محذوف أي واللّه لأكفرن والجملة القسمية خبر للمبتدأ الذي هو الموصول وهذا تصريح بوعد ما سأله الداعون بخصوصه بعد ما وعد ذلك عموما وقوله تعالى ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار إشارة إلى ما عبر عنه الداعون فيما قبل بقولهم وآتنا ما وعدتنا على رسلك وتفسير له ثوابا مصدر مؤكد لما قبله فإن تكفير السيئات وإدخال الجنة في معنى الإثابة وقوله تعالى من عند اللّه متعلق بمحذوف هو صفة له مبينة لشرفه أي لأثيبنهم إثابة كائنة أو تثويبا كائنا من عنده تعالى بالغا إلى المرتبة القاصية من الشرف وقوله تعالى واللّه عنده حسن الثواب اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله والإسم الجليل مبتدأ خبره عنده وحسن الثواب مرتفع بالظرف على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ وهو مبتدأ ثان والظرف خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول والعندية عبارة عن الأختصاص به تعالى مثل كونه بقدرته تعالى وفضله بحيث لا يقدر عليه غيره بحال شيء يكون بحضرة أحد لا يد عليه لغيره فالإختصاص مستفاد من التمثيل سواء جعل عنده خبرا مقدما لحسن الثواب أولا وفي تصدير الوعد الكريم بعدم إضاعة العمل ثم تعقيبه بمثل هذا الإحسان الذي لا يقادر قدره من لطف المسلك المنبئ عن عظم شان المحسن ما لا يخفى ١٩٦ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد بيان لقبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا وكشف عن حقارة شأنها وسوء مغبتها إثر بيان حسن ما أوتي المؤمنون من الثواب والخطاب للنبي على أن المراد تثبيته على ما هو عليه كقوله تعالى فلا تطع المكذبين أو على أن المراد نهي المؤمنين كما يوجه الخطاب إلى مداره القوم ورؤسائهم والمراد أفناؤهم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب من المؤمنين والنهي للمخاطب وإنما جعل للتقلب مبالغة أي لا تنظر إلى ما عليه الكفرة من السعة ووفور الحظ ولا تغتر بظاهر ما ترى منهم من التبسط في المكاسب والمتاجر والمزارع روى أن بعض المؤمنين كانوا يرون المشركين في رخاء ولين عيش فيقولون إن أعداء اللّه تعالى فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت وقرئ ولا غرنك بالنون الخفيفة ١٩٧ متاع قليل خبر لمبتدأ محذوف أي هو متاع قليل لا قدر له في جنب ما ذكر من ثواب اللّه تعالى قال عليه السلام ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع فإذن لا يجدي وجوده لواجديه ولا يضر فقدانه لفاقديه ثم مأواهم أي مصيرهم الذي يأوون إليه لا يبرحونه جهنم التي لا يوصف عذابها وقوله تعالى وبئس المهاد ذم لها وإيذان بأن مصيرهم إليها مما جنته انفسهم وكسبته أيديهم والمخصوص بالذم محذوف أي بئس ما مهدوا لأنفسهم جهنم ١٩٨ لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بيان لكمال حسن حال المؤمنين غب بيان وتكرير له إثر قرير مع زيادة خلودهم في الجنات ليتم بذلك سرورهم ويزداد تبجحهم ويتكامل به سوء حال الكفرة وإيراد التقوى في حيز الصلة للإشعار بكون الخصال المذكورة من باب التقوى والمراد به الإتقاء من الشرك والمعاصي فالموصول مبتدأ والظرف خبره وجنات مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ أو الظرف خبر لجنات والجملة خبر للموصول وخالدين فيها أي في الجنات حال مقدرة من الضمير أو من جنات لتخصصها بالوصف والعامل ما في الظرف من معنى الاستقرار نزلا من عند اللّه وقرئ بسكون الزاي وهو ما يعد للنازل من طعام وشراب وغيرهما قال أبو الشعر الضبي ... وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا ... وانتصابه على الحالية من جنات لتخصصها بالوصف والعامل فيه ما في الظرف من معنى الإستقرار وقيل هو مصدر مؤكد كأنه قيل رزقا أو عطاء من عند اللّه وما عند اللّه خير مبتدأ وخبر وقوله تعالى للأبرار متعلق بمحذوف هو صفة لخير أي ما عنده تعالى من الأمور المذكورة الدائمة خير كائن للأبرار أي مما يتقلب فيه الفجار من المتاع القليل الزائل والتعبير عنهم بالأبرار للإشعار بأن الصفات المعدودة من أعمال البر كما أنها من قبيل التقوى والجملة تذييل لما قبلها ١٩٩ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن باللّه جملة مستأنفة سيقت لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت هناتهم من نبذ الميثاق وتحريف الكتاب وغير ذلك بل منهم من له مناقب جليلة قيل هم عبد اللّه ابن سلام وأصحابه وقيل هم أربعون من أهل نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فأسلموا وقيل المراد به أصحمه النجاشي فإنه لما مات نعاه جبريل إلى النبي عليه السلام فقال عليه السلام اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم فخرج إلى البقيع فنظر إلى ارض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه واستغفر له فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط وليس على دينه فنزلت وإنما دخلت لام الابتداء على اسم إن لفصل الظرف بينهما كما في قوله تعالى وإن منكم لمن ليبطئن وما أنزل إليكم من القرآن وما أنزل إليهم من الكتابين وتأخير إيمانهم بهما عن إيمانهم بالقرآن في الذكر مع أن الأمر بالعكس في الوجود لما انه عيار ومهيمن عليهما فإن إيمانهم بهما إنما يعتبر بتبعية إيمانهم به إذ لا عبرة بأحكامهما المنسوخة وما لم ينسخ منها إنما يعتبر من حيث ثبوته بالقرآن ولتعلق ما بعده بهما والمراد بإيمانهم بهما إيمانهم بهما من غير تحريف ولا كتم كما هو ديدن المحرفين وأتباعهم من العامة خاشعين للّه حال من فاعل يؤمن والجمع باعتبار المعنى لا يشترون بآيات اللّه ثمنا قليلا تصريح بمخالفتهم للمحرفين والجملة حال كما قبله ونظمها في سلك محاسنهم ليس من حيث عدم الإشتراء فقط بل لتضمن ذلك لإظهار ما في الكتابين من شواهد نبوته عليه السلام أولئك إشارة إليهم من حيث اتصافهم بما عد من صفاتهم الحميدة وما فيه من معنى البعد للدلالة على علو رتبتهم وبعد منزلتهم في الشرف والفضيلة وهو مبتدأ خبره قوله تعالى لهم وقوله أجرهم أي المختص بهم الموعود لهم بقوله تعالى أولئك يؤتون أجرهم مرتين وقوله تعالى يؤتكم كفلين من رحمته مرتفع بالظرف على الفاعلية أو على الإبتداء والظرف خبره والجلة خبره لأولئك وقوله تعالى عند ربهم نصب على الحالية من أجرهم والمراد به التشريف كالصفة إن اللّه سريع الحساب لنفوذ علمه بجميع الأشياء فهو عالم بما يستحقه كل عامل من الأجر من غير حاجة إلى تأمل والمراد بيان سرعة وصول الأجر الموعود إليهم ٢٠٠ يأيها الذين آمنوا إثر ما بين في تضاعيف السورة الكريمة فنون الحكم والأحكام ختمت بما يوجب المحافظة عليها فقيل اصبروا أي على مشاق الطاعات وغير ذلك من المكاره والشدائد وصابروا أي غالبوا أعداء اللّه تعالى بالصبر في مواطن الحروب وأعدى عدوكم بالصبر على مخالفة الهوى وتخصيص المصابرة بالأمر بعد الأمر بمطلق الصبر لكونها أشد منه وأشق ورابطوا أي أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين للغزو مستعدين له قال تعالى ومن رباط |
﴿ ٠ ﴾