١٧٩

ما كان اللّه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه كلام مستأنف مسوق لوعده المؤمنين ووعيده المنافقين بالعقوبة الدنيوية التى هي الفضيحة والخزى إثر بيان عقوبتهم الأخروية والمراد بالمؤمنين المخلصون

وأما الخطاب فقد قيل إنه لجمهور المصدقين من أهل الإخلاص وأهل النفاق ففيه التفات في ضمن التلوين والمراد بما هم عليه اختلاط بعضهم بعضا واستواؤهم في إجراء أحكام الإسلام عليهم إذ هو القدر المشترك بين الفريقين

وقيل أنه للكفار والمنافقين وهو قول ابن عباس والضحاك ومقاتل والكلبى وأكثر المفسرين ففيه تلوين فقط ولعل المنافقين عطف تفسيرى للكفار وإلا فلا شركة بين المؤمنين والمنافقين في أمر من الأمور والمراد بما هم عليه ما مر من القدر المشترك فإنه كما يجوز نسبته إلى الفريقين معا يجوز نسبته إلى كل منهما لا الكفر والنفاق كما قيل فإن المؤمنين ما كانوا مشاركين لهم في ذلك حتى لا يتركوا عليه

وقيل إنه للمؤمنين خاصة وهو قول أكثر أهل المعاني ففيه تلوين والتفات كما مر والتعرض لإيمانهم قبل الخطاب للإشعار بعلة الحكم والمراد بما هم عليه ما مر غيره مرة والأول هو الأقرب وإليه جنح المحققون من أهل التفسير لكونه صريحا في كون المراد بما هم عليه ما ذكر من القدر المشترك بين الفريقين من حيث هو مشترك بينهما بخلاف القولين الأخيرين فإنهما بمعزل من ذلك كيف لا والمفهوم مما عليه المنافقين هو الكفر والنفاق ومما عليه المؤمنون هو الإيمان والإخلاص لا القدر المشترك بينهما ولئن فهم ذلك فإنما يفهم من حيث الانتساب إلى أحدهما لا من حيث الانتساب إليهما معا وعليه يدور أمر الاختلاط المحوج إلى الإفراز واللام في ليذر إما متعلقة بالخبر المقدر لكان كما هو رأى البصرية وانتصاب الفعل بعدها بان المقدرة أي ما كان اللّه مريدا أو متصديا لأن يذر المؤمنين الخ ففى توجيه النفى إلى إرادة الفعل تأكيد ومبالغة ليست في توجيهه إلى نفسه

وأما مزيدة للتأكيد ناصبة للفعل بنفسها كما هو رأى الكوفية ولا يقدح في ذلك زيادتها كما لا يقدح زيادة حروف الجر في عملها وقوله عز و جل

حتى يميز الخبيث من الطيب غاية لما يفيده النفى المذكور كأنه قيل ما يتركهم اللّه تعالى على ذلك الاختلاط بل يقدر الأمور ويرتب الأسباب حتى يعزل المنافق من المؤمن وفي التعبير عنهما بما ورد به النظم الكريم تسجيل على كل منهما بما يليق به وإشعار بعلة الحكم وإفراد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل منهما وتكثره لا سيما بعد ذكر ما أريد بأحدهما أعنى المؤمنين بصيغة الجمع للإيذان بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو أتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد أحادهما كما في مثل قوله تعالى ذلك أدنى أن لا تعولوا ونضيره قوله تعالى تذهل كل مرضعة عما أرضعت حيث قصد الدلالة على الأتصاف بالوصف من غير تعرض لكون الموصوف من العقلاء أو غيرهم وتعليق الميز بالخبيث المعبر به عن المنافق مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الأختلاط تعليقه بهم وأفرازهم عن المنافقين لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال مغايرة للأولى مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان وإن ظهر مزيد إخلاصهم لا بالتصرف فيهم وتغييرهم من حال إلى حال أخرى مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الأستتار ولأن فيه مزيد تأكيد للوعيد كما أشير إليه في قوله تعالى واللّه يعلم المفسد من المصلح وإنما لم ينسب عدم الترك إليهم لما أنه مشعر بالأعتناء بشأن من نسب إليه فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة كما يشهد به الذوق السليم وقرئ حتى يمسز من التمييز وقوله تعالى

وما كان اللّه ليطلعكم على الغيب تمهيد لبيان الميز الموعود على طريق تجريد الخطاب للمخلصين تشريفا لهم وقوله عز و جل

ولكن اللّه يجتبى من رسله ما يشاء إشارة إلى كيفية وقوعه على سبيل الأجمال وأظهار الأسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة فالمعنى ما كان اللّه ليترك المخلصين على الأختلاط بالمنافقين بل يرتب المبادئ حتى يخرج المنافقين من بينهم وما يفعل ذلك بإطلاعكم على ما في قلوبهم من الكفر والنفاق ولكنه تعالى يوحي إلى رسوله عليه السلام فيخبره بذلك وبما ظهر منهم من الأقوال وألأفعال حسبما حكى عنهم بعضه فيما سلف فيفضحهم على رءوس الإشهاد ويخلصكم من خسة الشركاء وسوء جوارهم والتعرض للأجتباء للأيذان بأن الوقوف على أمثال تلك الأسرار الغيبية لا يتأتي إلى ممن رشحه اللّه تعالى لمنصب جليل تقاصرت عنه همم الأمم وأصطفاه على الجماهير لإرشادهم وتعميم الإجتباء لسائر الرسل عليهم السلام للدلالة على أن شأنه عليه السلام في هذا الباب أمر متين له أصل أصيل جار على سنة اللّه تعالى المسلوكة فيما بين الرسل الخالية عليهم السلام وتعميم الأمر في قوله تعالى

فأمنوا باللّه ورسله مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبى لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل لأنه مصدق لما بين يديه من الرسل وهم شهداء بصحة نبوته عليه الصلاة و السلام والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة و السلام فيدخل فيه تصديقه عليه السلام فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولا أوليا هذا هو الذي يقتضيه جزالة النظم الكريم وقد جوز أن يكون المعنى لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بان يكلفكم التكاليف الصعبة التى لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن اللّه تعالى قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد وإنفاق الأموال في سبيل اللّه تعالى

فيجعل ذلك عيارا على عقائدكم وشاهدا بضمائركم حتى يعلم بعضكم بما في قلب بعض بطريق الاستدلال لا من جهة الوقوف على ذات الصدور فإن ذلك مما استأثر اللّه تعالى به وأنت خبير بأن الاستدراك باجتباء الرسل المنبئ عن مزيد مزيتهم وفضل معرفتهم على الخلق إثر بيان قصور رتبتهم عن الوقوف على خفايا السرائر صريح في ان المراد إظهار تلك السرائر بطريق الوحى لا بطريق التكليف بما يؤدى إلى خروج أسرارهم عن رتبة الخفاء وأقرب من ذلك حمل الآية الكريمة على أن تكون مسوقة لبيان الحكمة في إملائة تعالى للكفرة إثر بيان شريته لهم فالمعنى ما كان اللّه ليذر المخلصين على الاختلاط أبدا كما تركهم كذلك إلى الآن لسر يقتضيه بل يفرز عنهم المنافقين ولذلك فعله يومئذ حيث خلى الكفرة وشانهم فأبرز لهم صورة الغلبة فأظهر من في قلوبهم مرض ما فيها من الخبائث وافتضحوا على رءوس الأشهاد

وقيل قال الكافرون إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر فنزلت

وإن تؤمنوا أي بما ذكر حق الإيمان

وتتقوا أي عدم مراعاة حقوقه أو النفاق

فلكم بمقابلة ذلك الإيمان والتقوى

 أجر عظيم لا يبلغ كنهه

﴿ ١٧٩