ÓõæÑóÉõ ÇáäøöÓóÇÁö ãóÏóäöíøóÉñ

æóåöíó ãöÇÆóÉñ æóÓöÊøñ æóÓóÈúÚõæäó ÂíóÉð

سورة النساء

سورة النساء مائة وست وسبعون آية مدنية النساء الخيل ترهبون به عدو اللّه وعدوكم وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم من رابط يوما وليلة في سبيل اللّه كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه ولا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة واتقوا اللّه في مخالفة أمره على الإطلاق فيندرج فيه ما ذكر في تضاعيف السورة الكريمة أندراجا أوليا لعلكم تفلحون كى تنتظموا في زمرة المفلحين الفائزين بكل مطلوب الناجين من كل الكروب عن النبي صلى اللّه عليه و سلم من قرأ سورة آل عمران أعطى بكل آية منها أمانا على جسر جهنم وعنه من قرأ السورة التى يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى عليه وملائكته حتى تحجب الشمس واللّه أعلم

بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

١

يأيها الناس خطاب يعم حكمة جميع المكلفين عند النزول ومن سينتظم في سلكهم من الموجودين حينئذ والحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامة عند انتظامهم فيه لكن لا بطريق الحقيقة فإن خطاب المشافهة لا يتناول القاصرين عن درجة التكليف إلا عند الحنابلة بل إما بطريق تغليب الفريق الأول على الأخيرين

وأما بطريق تعميم حكمه لهما بدليل خارجى فإن الإجماع منعقد على أن آخر الأمة مكلف بما كلف به أولها كما ينبئ عنه قوله عليه السلام الحلال ما جرى على لسانى إلى يوم القيامة والحرام ما جرى على لسانى إلى يوم القيامة وقد فصل في موضعه

وأما الأمم الدارجة قبل النزول فلاحظ لهم في الخطاب لاختصاص الأوامر والنواهي بمن يتصور منه الامتثال

وأما اندراجهم في خطاب ما عداهما مما له دخل في تأكيد التكليف وتقوية الإيجاب فستعرف حالة ولفظ الناس ينتظم الذكور والإناث حقيقة

وأما صيغة جمع المذكر في قوله تعالى

اتقوا ربكم فوارده على طريقة التغليب لعدم تناولها حقيقة للإناث عند غير الحنابلة

وأما إدخالهن في الأمر بالتقوى بما ذكر من الدليل الخارجي وإن كان فيه مراعاة جانب الصيغة لكنه يستدعى تخصيص لفظ الناس ببعض أفراده والمأمور به إما مطلق التقوى التى هي التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك

وأما التقوى فيما يتعلق بحقوق أبناء الجنس أى اتقوه في مخالفة أوامره ونواهيه على الإطلاق أو في مخالفة تكاليفه الواردة ههنا وأيا ما كان فالتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية والتربية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال به على طريقة الترغيب

والترهيب وكذا وصف الرب بقوله تعالى

الذي خلقكم من نفس واحدة فإن خلقه تعالى إياهم على هذا النمط البديع لإنبائه عن قدرة شاملة لجميع المقدورات التى من جملتها عقابهم على معاصيهم وعن نعمة كاملة لا يقادر قدرها من أقوى الدواعي إلى الاتقاء من موجبات نقمته وأتم الزواجر عن كفران نعمته وكذا جعله تعالى إياهم صنوانا مفرغة من أرومة واحدة هي نفس آدم عليه السلام من موجبات الاحتراز عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوة وتعميم الخطاب في ربكم وخلقكم للأمم السالفة أيضا مع اختصاصه فيما قبل بالمأمورين بناء على أن تذكير شمول ربوبيته تعالى وخلقه للكل من مؤكدات الأمر بالتقوى وموجبات الامتثال به تفكيك للنظم الكريم مع الاستغناء عنه لأن خلقه تعالى للمأمورين من نفس آدم عليه السلام حيث كان بواسطة ما بينهم وبينه عليه السلام من الآباء والأمهات كان التعرض لخلقهم متضمنا للتعرض لخلق الوسايط جميعا وكذا التعرض لربوبيته تعالى لأصولهم قاطبة لا سيما وقد نطق بذلك قوله عز و جل

وخلق منها زوجها فإنه مع ما عطف عليه صريح في ذلك وهو معطوف إما على مقدر ينبئ عنه سوق الكلام لأن تفريع الفروع من أصل واحد يستدعي إنشاء ذلك الأصل لا محالة كأنه قيل خلقكم من نفس واحدة خلقها أولا وخلق منها زوجها الخ وهو أستئناف مسوق لتقرير وحدة المبدأ وبيان كيفية خلقهم منه وتفصيل ما أجمل أولا أو صفة لنفس مفيدة لذلك

وأما على خلقكم داخل معه في حيز الصلة مقرر و مبين لما ذكر وإعادة الفعل مع جواز عطف مفعوله على مفعول الفعل الأول كما في قوله تعالى يأيها الناس أعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم الخ لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت فإن الأول بطريق التفريع من الأصل والثاني بطريق الإنشاء من المادة فإن تعالى خلق حواء من ضلع آدم عليه السلام روى أنه عز و جل لما خلقه عليه السلام وأسكنه الجنة ألقي عليه النوم فبينما هو بين النائم واليقظان خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى فلما أنتبه وجدها عنده وتأخير ذكر خلقها عن ذكر خلقهم لما أن تذكير خلقهم أدخل في تحقيق ما هو المقصود من حملهم على الأمتثال بالأمر بالتقوى من تذكير خلقها وتقديم الجار و المجرور للأعتناء ببيان مبدئيته عليه السلام لها مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر كما مر مرارا وإيرادها بعنوان الزوجية تمهيد لما بعده من التناسل

وبث منهما أي نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها بطريق التوالد والتناسل

رجالا كثيرا نعت لرجالا مؤكدة لما أفاده التنكير من الكثرة والإفراد باعتبار معنى الجمع أو العدد

وقيل هو نعت لمصدر مؤكد للفعل أي بثا كثيرا

ونساء أي كثيرة وترك التصريح بها للاكتفاء بالوصف المذكور وإيثارهما على ذكورا وإناثا لتأكيد الكثرة والمبالغة فيها بترشيح كل فرد من الأفراد المبثوثة لمبدئية غيره وقرئ وخالق وباث على حذف المبتدأ أي وهو خالق وباث

واتقوا اللّه الذي تساءلون به تكرير للأمر وتذكير لبعض آخر من موجبات الامتثال به فإن سؤال بعضهم بعضا باللّه تعالى بان يقولوا أسألك باللّه وأنشدك اللّه على سبيل الاستعطاف يقتضى الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه وتعليق الاتقاء بالاسم الجليل لمزيد التأكيد والمبالغة في الحمل على الامتثال بتربية المهابة وإدخال الروعة لوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته وتساءلون أصله تتساءلون فطرحت إحدى التاءين تخفيفيا وقرئ بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس

وقرئ تسألون من الثلاثى أي تسألون به غيركم وقد فسر به القراءة الأولى والثانية وحمل صيغة التفاعل على اعتبار الجمع كما في قولك رأيت الهلال وتراءيناه وبه فسر عم يتساءلون على وجه وقرئ تسلون بنقل حركة الهمزة إلى السين

والأرحام بالنصب عطفا على محل الجار والمجرور كقولك مررت بزيد وعمرا وينصره قراءة تساءلون به وبالأرحام فانهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة باللّه عز و جل ويقولون أسالك باللّه وبالرحم أو عطفا على الاسم الجليل أي اتقوا اللّه والأرحام وصلوها ولاتقطعوها فإن قطيعتها مما يجب أن يتقى وهو قول مجاهد وقتادة والسدى والضحاك والفراء والزجاج وقد جوز الواحدى نصبه على الإغراء أي والزموا الأرحام وصلوها وقرئ بالجر عطفا على الضمير المجرور بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره والأرحام كذلك أي مما يتقى أو يتساءل به ولقد نبه سبحانه وتعالى حيث قرنها باسمه الجليل على أن صلتها بمكان منه كما في قوله تعالى أن لاتعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا وعنه عليه السلام الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلنى وصله اللّه ومن قطعنى قطعة اللّه

إن اللّه كان عليكم رقيبا أي مراقبا وهي صيغة مبالغة من رقب يرقب رقبا إذا أحد النظر لأمر يريد تحقيقة أي حافظا مطلعا على جميع ما يصدر عنكم من الأفعال والأقوال وعلى ما في ضمائركم من النيات مريدا لمجازاتكم بذلك وهو تعليل للأمر ووجوب الامتثال به وإظهار الاسم الجليل لتأكيده وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل

٢

وآتوا اليتامى أموالهم شروع في تفصيل موارد الاتقاء ومظانه بتكليف ما يقابلها أمرا ونهيا عقيب الأمر ينفسه مرة بعد أخرى وتقديم ما يتعلق باليتامى لأظهار كمال العناية بأمرهم ولملابستهم بالأرحام إذ الخطاب للأولياء والأوصياء وقلما تفوض الوصاية إلى الأجانب واليتيم من مات أبوه من اليتم وهو الانفراد ومنه الدرة اليتيمة وجمعه على يتامى إما لأنه لما جرى مجرى السماء جمع على يتأتم ثم قلب فقيل يتامى أو لأنه لما كان من وادى الآفات جمع على يتمى ثم جمع يتمى على يتامى والاشتقاق يقتضى صحة إطلاقه على الكبار أيضا واختصاصه بالصغار مبنى على العرف

وأما قوله عليه السلام لا يتم بعد الحلم فتعليم للشريعة لا تعيين لمعنى اللفظ أي لا يجرى على اليتيم بعده حكم الايتام والمراد بإيتاء أموالهم قطع المخاطبين أطماعهم الفارغة عنها وكف أكفهم الخاطفة عن اختزالها وتركها على حالها غير متعرض لها بسوء حتى تأتيهم وتصل إليهم سالمة كما ينبئ عنه ما بعده من النهى عن التبدل والأكل لا الإعطاء بالفعل فإنه مشروط بالبلوغ وإيناس الرشد على ما ينطق به قوله تعالى حتى إذا بلغوا الآية وإنما عبر عما ذكر بالإيتاء مجازا للإيذان بأنه ينبغى ان يكون مرادهم بذلك إيصالها إليهم لا مجرد ترك التعرض لها فالمراد بهم إما الصغار على ما هو المتبادر والأمر خاص بمن يتولى أمرهم من الأولياء والأوصياء وشمول حكمة لأولياء من كان بالغا عند نزول الآية بطريق الدلالة دون العبارة

وأما من جرى عليه اليتم في الجملة مجازا أعم من

أن يكون كذلك عند النزول أو بالغا فالأمر شامل أولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من حفظ أموالهم والتحفظ عن إضاعتها مطلقا

وأما وجوب الدفع إلى الكبار فمستفاد مما سيأتى من الأمر به

وقيل المراد بهم الصغار وبالإيتاء الإعطاء في الزمان المسقبل

وقيل أطلق اسمهم على الكبار بطريق الإتساع لقرب عهدهم باليتم حثا للأولياء على المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم أول ما بلغوا قبل أن يزول عنهم اسمهم المعهود فالإيتاء بمعنى الإعطاء بالفعل ويأباهما ما سيأتى من قوله تعالى وابتلوا اليتامى الخ فإن ما فيه من الأمر بالدفع وارد على وجه التكليف الابتدائي لا على وجه تعيين وقته أو بيان شرطه فقط كما هو مقتضى القولين

وأما تعميم الاسم للصغار والكبار مجازا بطريق التغليب مع تعميم الإيتاء للإيتاء حالا وللإيتاء مآلا وتعميم الخطاب لأولياء كلا الفريقين على أن من بلغ منهم فوليه مأمور بالدفع إليه بالفعل وأن من لم يبلغ بعد فوليه مأمور بالدفع إليه عند بلوغه رشيدا فمع ما سبق تكلف لا يخفى فالأنسب ما تقدم من حمل إيتاء أموالهم إليهم على مايؤدى إليه من ترك التعرض لها بسوء كما يلوح به التعبير عن الإعطاء بالفعل بالدفع سواء أريد باليتامى الصغار أوما يعم الصغار والكبار حسبما ذكر آنفا

وأما ما روى من ان رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له فلما بلغ طلب منه ماله فمنعه فنزلت فلما سمعها قال أطعنا اللّه وأطعنا الرسول نعوذ باللّه من الحوب الكبير فغير قادح في ذلك لما أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب

ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب نهى عن أخذ مال اليتيم على الوجه المخصوص بعد النهى الضمنى عن أخذه على الإطلاق وتبدل الشئ بالشئ واستبداله به أخذ الأول بدل الثاني بعد ان كان حاصلا له أو في شرف الحصول يستعملان أبدا بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالباء كما في قوله تعالى ومن يتبدل الكفر بالإيمان الخ وقوله تعالى أتستبدلون الذي هو ادنى بالذي هو خير

وأما التبديل فيستعمل تارة كذلك كما في قوله تعالى وبدلناهم بجنتيهم جنتين الخ وأخرى بالعكس كما في قولك بدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتما نص عليه الأزهرى وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعولية بنفسه كما في قوله تعالى يبدل اللّه سيئاتهم حسنات والمراد بالخبيث والطيب إن كان هو الحرام والحلال فالمنهى عنه استبدال مال اليتيم بمال أنفسهم مطلقا كما قاله الفراء والزجاج

وقيل معناه لا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموالهم فالمنهى عنه أكل ماله مكان ما لهم المحقق أو المقدر

وقيل هو اختزال ما له مكان حفظه وأيا ما كان فأنما عبر عنهما بهما تنفيرا عما أخذوه وترغيبا فيما أعطوه وتصويرا لمعاملتهم بصورة مالا يصدر عن العاقل وإن كان هو الردئ والجيد فمورد النهى ما كانوا عليه من أخذ الجيد من مال اليتيم وإعطاء الردئ من مال أنفسهم وبه قال سعيد بن المسيب والنخعى والزهرى والسدي وتخصيص هذه المعاملة بالنهى لخروجها مخرج العادة لا لإباحة ما عداها

وأما التعبير عنها بتبدل الخبيث بالطيب مع أنها تبديلة به أو تبدل الطيب بالخبيث فللإيذان بأن الأولياء حقهم أن يكونوا في المعاوضات عاملين لليتيم لا لأنفسهم مراعين لجانبه قاصدين لجلب المجلوب إليه مشترى كان أو ثمنا لا لسلب المسلوب عنه

ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم نهى عن منكر آخر كانوا يتعاطونه أى لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم ولا تسووا بينهما وهذا حلال وذاك حرام وقد خص من ذلك مقدار أجر المثل عند كون الولي فقيرا

انه أي الاكل المفهوم من النهي

كان حوبا أي ذنبا عظيما وقرئ بفتح الحاء وهو مصدر حاب حوبا وقرئ حابا وهو ايضا مصدر كقال قولا وقالا

كبيرا مبالغة في بيان عظم ذنب الاكل المذكور كأنه قيل من كبار الذنوب العظيمة لا من إفنائها

٣

وان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى الاقساط العدل وقرئ بفتح التاء فقيل هو من قسط أي جار ولا مزيدة كما في قوله تعالى لئلا يعلم

وقيل هو بمعنى اقسط فإن الزجاج حكى أن قسط يستعمل استعمال اقسط والمراد بالخوف العلم كما في قوله تعالى فمن خاف من موص جنفا عبر عنه بذلك ايذانا بكون المعلوم مخوفا محذورا لا معناه الحقيقي لأن الذي علق به الجواب هو العلم بوقوع الجور المخوف لا الخوف منه والا لم يكن الأمر شاملا لمن يصر على الجور ولا يخافه وهذا شروع في النهي عن منكر آخر كانوا يباشرونه متعلق بأنفس اليتامى اصالة وبأموالهم تبعا عقيب النهى عما يتعلق بأموالهم خاصة وتأخيره عنه لقلة وقوع المنهي عنه بالنسبة الى الأول ونزوله منه بمنزلة المركب من المفرد وذلك أنهم كانوا يتزوجون من تحل لهم من اليتامى اللاتي يلونهن لكن لا لرغبة فيهن بل في مالهن ويسيئون في الصحبة والمعاشرة ويتربصون بهن ان يمتن فيرثوهن وهذا قول الحسن

وقيل هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدنى من سنة نسائها فنهوا أن ينكحوهن الا أن يقسطوا لهن في اكمال الصداق وامروا ان ينحكوا ما سواهن من النساء وهذا قول الزهري رواية عن عروة عن عائشة رضي اللّه عنها

وأما اعتبار اجتماع عدد كثير منهن كما أطبق عليه أكثر اهل التفسير حيث قالوا كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال ويكون وليها فيتزوجها ضنا بها عن غيره فربما اجتمعت عنده عشر منهن الخ فلا يساعده الأمر بنكاح غيرهن فإن المحذور حينئذ يندفع بتقليل عددهن وان خفتم ألا تعدلوا في حق اليتامى اذا تزوجتم بهن بإساءة العشرة أو بنقص الصداق

فانكحوا ما طاب لكم ما موصولة أو موصوفة ما بعدها صلتها أو صفتها أو أوثرت على من ذهابا الى الوصف وايذانا بأنه المقصود بالذات والغالب في الاعتبار لا بناء على ان الاناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء لإخلاله بمقام الترغيب فيهن وقرا ابن ابي عبلة من طاب ومن في قوله تعالى

من النساء بيانية

وقيل تبيضية والمراد بهن غير اليتامى بشهادة قرينة المقام أي فانكحوا من استطابتها نفوسكم من الأجنبيات وفي ايثار الأمر بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى مع أنه المقصود بالذات مزيد لطف في استنزالهم عن ذلك فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه كما ان وصف النساء بالطيب على الوجه الذي أشير اليه فيه مبالغة في الاستمالة اليهن والترغيب فيهن وكل ذلك للإعتناء بصرفهم عن نكاح اليتامى وهو السر في توجيه النهي الضمني الى النكاح المترقب مع ان سبب النزول هو النكاح المحقق لما فيه من المسارعة الى دفع الشر قبل وقوعه فرب واقع لا يرفع والمبالغة في بيان حال النكاح المحقق فإن محظورية المترقب حيث كانت للجور المترقب فيه فمحظورية المحقق مع تحقق الجور فيه أولى

وقيل المراد بالطيب الحل أى ما حل لكم شرعا لأن ما استطابوه شامل للمحرمات ولا مخصص له بمن عداهن وفيه فرار من محذور من محذور ووقوع فيما هو أفضع منه لأن ماحل لهم مجمل وقد تقرر أن النص إذا تردد بين الإجمال والتخصيص يحمل على الثاني لأن العالم المخصوص حجة في غير محل التخصيص والمجمل ليس بحجة قبل ورود البيان أصلا ولئن جعل قوله تعالى حرمت عليكم الخ دالا على التفصيل بناء على ادعاء تقدمه في التنزيل فليجعل دالا على التخصيص

مثنى وثلاث ورباع معدولة عن أعداد مكررة غير منصرفة لما فيها من العدلين عدلها عن صيغها وعدلها عن تكررها

وقيل للعدل والصفة فإنها بنيت صفات وإن لم تكن أصولها كذلك وقرئ وثلث وربع على القصر من ثلاث ورباع ومحلهن النصب على أنها حال من فاعل طاب مؤكدة لما أفادة وصف الطيب من الترغيب فيهن والاستمالة إليهن بتوسيع دائرة الإذن أى فانحكوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا حسبما تريدون على معنى أن لكل واحد منهم ان يختار أي عدد شاء من الأعداد المذكورة لا أن بعضها لبعض منهم وبعضها لبعض آخر كما في قولك اقتسموا هذه البدرة درهمين درهمين وثلاثا ثلاثا وأربعة أربعة ولو أفردت لفهم منه تجويز الجمع بين تلك الأعداد دون التوزيع ولو ذكرت بكلمة أو لفات تجويز الاختلاف في العدد هذا وقد قيل في تفسير الآية الكريمة لما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير أخذ الأولياء يتحرجون من ولايتهم خوفا من لحوق الجوب بترك الإقساط مع انهم كانوا لايتحرجون من ترك العدل في حقوق النساء حيث كان تحت الرجل منهم عشر منهن فقيل لهم إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضا ترك العدل بين النساء فقللوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرج ولا تائب عنه

وقيل كانوا لا يتحرجون من الزنى وهم يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنى فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحرموا حول المحرمات ولا يخفى أنه لا يساعدهما جزالة النظم الكريم لابتنائهما على تقدم نزول الآية الأولى وشيوعها بين الناس مع ظهور توقف حكمها على ما بعدها من قوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم إلى قوله تعالى وكفى باللّه حسيبا

فإن خفتم ألا تعدلوا أي فيما بينهن ولو في أقل الأعداد المذكورة كما خفتموه في حق اليتامى أو كما لو تعدلوا في حقهن أو كما لم تعدلوا فيما فوق هذه الأعداد

فواحدة أي فالزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجميع بالكلية وقرئ بالرفع أي فالمقنع واحدة أو فحسبكم واحدة

أو ما ملكت إيمانكم أ يمن السرارى بالغة ما بلغت من مراتب العدد وهو عطف على واحده على ان اللزوم والاختيار فيه بطريق التسرى لا بطريق النكاح كما فيما عطف عليه لا ستلزمه ورود ملك النكاح على ملك اليمين بموجب اتحاد المخاطبين في الموضعين بخلاف ما سيأتى من قوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم فإن المأمور بالنكاح هناك غير المخاطبين بملك اليمين وإنما سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين السرارى من غير حصر في عدد لقلة تبعتهن وخفة مؤنتهن وعدم وجوب القسم فيهن وقرئ أو من ملكت أيمانكم وما في القراءة المشهورة للإيذان بقصور رتبتهن عن رتبة العقلاء

ذلك إشارة إلى اختيار الواحدة والتسرى

ادنى ألا تعولوا العول الميل من قولهم عال الميزان عولا إذا مال وعال في الحكم أي جار والمراد هنا الميل المحظور المقابل للعدل أي ما ذكر من اختيار الواحدة والتسرى أقرب بالنسبة إلى ما عداهما من ان لا تميلوا ميلا محظورا لانتفائه رأسا بانتفاء محله في الأول وانتفاء خطره في الثاني بخلاف اختيار العدد في المهائر فإن الميل المحظور متوقع فيه لتحقق المحل والخطر ومن ههنا تبين أن مدار الأمر هو عدم العول لا تحقق العدل كما قيل وقد فسر بأن لا يكثر عيالكم على أنه من عال الرجل عياله يعولهم أى مانهم فعبر عن كثرة العيال بكثرة المؤنة على طريقة الكناية ويؤيده قراءة أن لاتعيلوا من أعال الرجل إذا كثر عياله ووجه كون التسرى مظنة قلة العيال مع جواز الاستكثار من السرارى أنه يجوز العزل عنهن بغير رضاهن ولا كذلك المهائر والجملة مستأنفة جارية مما قبلها مجرى التعليل

٤

وآتوا النساء أي اللاتى أمر بنكاحهن

صدقاتهن جمع صدقة كسمرة وهي المهر وقرئ بسكون الدال على التخفيف وبضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة كغرفة وبضمها على التوحيد وهو تثقيل صدقة كظلمة في ظلمة

نحلة قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وإبن زيد فريضة من اللّه لأنها مما فرضه اللّه في النحلة أي الملة والشرعة والديانة فانتصابها على الحالية من الصدقات أي اعطوهن مهورهن حال كونها فريضة منه تعالى وقال الزجاج تدينا فانتصابها على أنها مفعول له أي أعطوهن ديانة وشرعة وقال الكلبى نحلة أي هبة وعطية من اللّه تعالى وتفضلا منه عليهن فانتصابه على الحالية منها أيضا

وقيل عطية من جهة الأزواج من نحلة كذا إذا أعطاه إياه ووهبة له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلا والتعبير عن إيتاء المهور بالنحلة مع كونها واجبة على الأزواج لإفادة معنى الإيتاء عن كمال الرضا وطيب الخاطر وانتصابها على المصدرية لأن الإيتاء والنحلة بمعنى الإعطاء كأنه قيل وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم أو على الحالية من ضمير آتوا أى آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبى النفوس بالإعطاء أو من الصدقات أى منحولة معطاة عن طيبة الأنفس فالخطاب للأزواج

وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم وكانوا يقولون هنيئا لك النافجة لمن يولد له بنت يعنون تأخذ مهرها فتنفج به مالك أي تعظمه

فإن طبن لكم عن شئ منه الضمير للصدقات وتذكيره لإجرائه مجرى ذلك فإنه قد يشار به إلى المتعدد كما في قوله عز و جل قل اؤنبئكم بخير من ذلكم بعد ذكر الشهوات المعدودة وقد روى عن رؤية أنه حين قيل له في قوله

 ... فيها خطواط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق ...

إن أردت الخطوط ينبغى أن تقول كأنها وإن أردت السواد والبلق ينبغى أن تقول كأنهما قال لكنى أردت كأن ذلك أو للصداق الواقع موقعه صدقاتهن كأنه قيل وآتوا النساء صداقهن كما في قوله تعالى فأصدق وأكن حيث عطف أكن على ما دل عليه المذكور ووقع موقعه كأنه قيل ان أخرتنى أصدق وأكن واللام متعلقة بالفعل وكذا عن لكن بتضمينه معنى التجافى والتجاوز ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لشئ أي كائن من الصداق وفيه بعث لهن على تقليل الموهوب

نفسا تمييز والتوحيد لما أن المقصود بيان الجنس أي وإن وهبن لكم شيئا من الصداق متجافيا عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى البذل من شكاسة اخلاقكم وسوء معاشرتكم لكن عدل عن لفظ الهبة والسماحة إلى ما عليه النظم الكريم إيذانا بأن العمدة في الأمر إنما هو طيب النفس وتجافيها عن الموهوب بالمرة

فكلوه أي فخذوا ذلك الشئ الذي طابت به نفوسهن وتصرفوا فيه تملكا وتخصيص الأكل بالذكر لأنه معظم وجوه التصرفات المالية

هنيئا مريئ صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا تنغيص فيه

وقيل الهنئ الذي يلذه الأكل والمرئ ما يحمده عاقبته

وقيل ما ينساغ في مجراه الذي هو المرء وهو ما بين الحلقوم إلى فم المعدة سمي بذلك لمروء الطعام فيه أي إنسياغه ونصبهما على أنهما صفتان للمصدر أي أكلا هنيئا مريئا أو على انهما حالان من الضمير المنصوب أي كلوة وهو هنئ مرئ وقد يوقف على كلوةويبتدأ هنيئا مريئا على الدعاء وعلى انهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل هنأ ومرأ وهذه عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعية وروى أن ناسا كانوا يتأثمون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئا مما ساقه إليها فنزلت

٥

ولا تؤتوا السفهاء اموالكم رجوع إلى بيان بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى وتفصيل ما أجمل فيما سبق من شرط إيتائها ووقته وكيفيته إثر بيان بعض الأحكام المتعلقة بأنفسهن أعني نكاحهن وبيان بعض الحقوق المتعلقة بغيرهن من الأجنبيات من حيث النفس ومن حيث المال استطرادا والخطاب للأولياء نهوا أن يؤتوا المبذرين من اليتامى أموالهم مخافة أن يضيعوها وإنما أضيفت إليهم وهي لليتامى لا نظرا إلى كونها تحت ولايتهم كما قيل فإنه غير مصحح لأتصافها بالوصف الآتي بل تنزيلا لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بالأولياء فكأن اموالهم عين أموالهم لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسي والنسبي مبالغة في حملهم على المحافظة عليها كما في قوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم أي لا يقتل بعضكم بعضا حيث عبر عن بني نوعهم بأنفسهم مبالغة في زجرهم عن قتلهم فكأن قتلهم قتل أنفسهم وقد أيد ذلك حيث عبر عن جعلها مناطا لمعاش أصحابها بجعلها مناطا لمعاش الأولياء فقيل

التي جعل اللّه لكم قياما أي جعلها اللّه شيئا تقومون به وتنتعشون على حذف المفعول الأول فلو ضيعتموه لضعتم ثم زيد في المبالغة حتى جعل ما به القيام قياما فكأنها في أنفسها قيامكم وانتعاشكم

وقيل إنما أضيفت إلى الأولياء لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم حيث لم يقصد بها الخصوصية الشخصية بل الجنسية التي هي معنى ما يقام به المعاش وتميل إليه القلوب ويدخر لأوقات الإحتياج وهي بهذا الأعتبار لا تختص باليتامى وأنت خبير بأن ذلك بمعزل من حمل الأولياء على المحافظة المذكورة كيف لا والوحدة الجنسية المالية ليست مختصة بما بين أموال اليتامى وأموال الأولياء بل هي متحققة بين أموالهم واموال الأجانب فإذن لا وجه لاعتبارها أصلا وقرئ اللاتي واللواتي وقرئ قيما بمعنى قياما كما جاء عوذا بمعنى عياذا وقرئ قواما بكسر القاف وهو ما يقام به الشيء أو مصدر قاوم وقرئ بفتحها

وارزقوهم فيها واكسوهم أي واجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا وتتربحوا حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من صلب المال

وقيل الخطاب لكل أحد كائنا من كان والمراد نهيه عن أن يفوض أمر ماله إلى من لا رشد له من نسائه واولاده ووكلائه وغير ذلك ولا يخفى أن ذلك مخل بجزالة النظم الكريم

وقولوا لهم قول معروفا أي كلاما لينا تطيب به نفوسهم وعن سعيد بن جبير ومجاهد وابن جريج عدوهم عدة جميلة بأن تقولوا إذا صلحتم ورسدتم سلمنا إليكم أموالكم وكل ما سكنت إليه النفس لحسنه شرعا أو عقلا من قول أو عمل فهو معروف وما أنكرته لقبحه شرعا أو عقلا فهو منكر

٦

وابتلوا اليتامى شروع في تعيين وقت تسليم أموال اليتامى إليهم وبيان شرطه بعد الأمر بإيتائها على الإطلاق والنهي عنه عند كون أصحابها سفهاء أي واختبروا من ليس منهم بين السفه قبل البلوغ بتتبع احوالهم في صلاح الدين والإهتداء إلى ضبط المال وحسن التصرف فيه وجربوهم بما يليق بحالهم فإن كانوا من أهل التجارة فبأن تعطوهم من المال ما يتصرفون فيه بيعا وابتياعا وإن كانوا ممن له ضياع وأهل وخدم فبأن تعطوهم منه ما يصرفونه إلى نفقة عبيدهم وخدمهم وأجرائهم وسائر مصارفهم حتى تتبين لكم كيفية أحوالهم

حتى إذا بلغوا النكاح بأن يحتلموا لأنهم يصلحون عنده للنكاح

فإن آنستم أي شاهدتم وتبينتم وقرئ أحستم بمعنى أحسستم كما في قول من قال

 ... خلا أن العتاق من المطايا ... أحسن به وهن إليه شوس ...

منهم رشدا أي اهتداء إلى وجوه التصرفات من غير عجز وتبذير وتقديم الجار والمجرور على المفعول للإهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أو للإعتداد بمبدئيته له والتنوين للدلالة على كفاية رشد في الجملة وقرئ بفتح الراء والشين وبضمها

فادفعوا إليهم أموالهم من غير تأخير عن حد البلوغ وفي إيثار الدفع على الأيتاء الوارد في أول الأمر إيذان بتفاوتهما بحسسب المعنى كما اشير إليه فيما سلف ونظم الآية الكريمة أن حتى هي التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله

 ... فما زالت القتلى تمج دماءها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل ...

وما بعدها جملة شرطية جعلت غاية للآبتلاء وفعل الشرط بلغوا وجوابه الشرطية الثانية كأنه قيل وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد وظاهر الآية الكريمة أن من بلغ غير رشيد إما بالتبذير أو بالعجز لا يدفع إليه ماله أبدا وبه أخذ أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة ينتظر إلى خمس وعشرين سنة لأن البلوغ بالسن ثماني عشرة سنة فإذا زادت عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة في احوال الإنسان لما قاله عليه الصلاة والسلام مروهم بالصلاة لسبع دفع إليه ماله إونس منه رشد أو لم يؤنس

ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا أي مسرفين ومبادرين كبرهم أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا والجملة تأكيد للأمر بالدفع وتقرير لها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى

ومن كان غنيا فليستعفف الخ أي من كان من الأولياء والأوصياء غنيا فليتنزه عن أكلها وليقنع بما آتاه اللّه تعالى من الغنى والرزق إشفاقا على اليتيم وإبقاء على ماله

ومن كان من الأولياء والأوصياء

فقيرا فليأكل بالمعروف بقدر حاجته الضرورية وأجرة سعيه وخدمته وفي لفظ الإستعفاف والأكل بالمعروف ما يدل على أن للوصي حقا لقيامه عليها عن النبي صلى اللّه عليه و سلم ان رجلا قال له إن في حجري يتيما أفآكل من ماله قال بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن ولي يتيم قال له أفأشرب من لبن إبله قال إن كنت تبغي ضالتها وتلوط حوضها وتهنأ جر باها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضل بنسل ولا ناهك في الحلب وعن محمد بن كعب يتقرم كما تتقرم البهيمة وينزل نفسه منزلة ألأجير فيما لابد منه وعن الشعبي يأكل من ماله بقدر ما يعين فيه وعنه كالميتة يتناول عند الضرورة ويقضي وعن مجاهد يستسلف فإذا أيسر أدى وعن سعيد بن جبير إن شاء شرب فضل اللبن وركب الظهر ولبس ما يستره من الثياب وأخذ القوت ولا يجاوزه فإن أيسر قضاه وإن أعسر فهو في حل وعن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أني أنزلت نفسي من مال اللّه تعالى منزلة ولي اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف وإذا أيسرت قضيت واستعف أبلغ من عف كأنه يطلب زيادة العفة

فإذا دفعتم إليهم أموالهم بعد ما راعيتم الشرائط المذكورة وتقديم الجار والمجرور عن المفعول الصريح للإهتمام به

فأشهدوا عليهم بأنهم تسلموها وقبضوها وبرئت عنها ذممكم لما أن ذلك أبعد من التهمة وانفى للخصومة وادخل في الأمانة وبراءة الساحة وإن لم يكن ذلك واجبا عند اصحابنا فإن الوصي مصدق في الدفع مع اليمين خلافا لمالك والشافعي رحمهما اللّه

وكفى باللّه حسيبا أي محاسبا فلا تخالفوا ما أمركم به ولا تجاوزا ما حد لكم

٧

للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون شروع في بيان أحكام المواريث بعد بيان احكام أموال اليتامى المنتقلة إليهم بالإرث والمراد بالأقربين المتوارثون منهم ومن في مما متعلقة بمحذوف وقع صفة لنصيب أي لهم نصيب كائن مما ترك وقد جوز تعلقها بنصيب

وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون إيراد حكمهن على الإستقلال دون الدرج في تضاعيف أحكامهم بأن يقال للرجال والنساء الخ للإعتناء بأمرهن والإيذان بأصالتهن في استحقاق الإرث والإشارة من أول الأمر إلى تفاوت ما بين نصيبي الفريقين والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون إنما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة روى أن أوس بن ثابت الأنصاري خلف زوجته أم كحة وثلاث بنات فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة أو قتادة وعرفجة ميراثه عنهن على سنة الجاهلية فجاءت أم كحة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فشكت إليه فقال ارجعي حتى أنظر ما يحدثه اللّه تعالى فنزلت فأرسل إليهما إن اللّه قد جعل لهن نصيبا ولم يبين فلا تفرقا من مال أوس شيئا حتى يبين فنزل يوصيكم اللّه الخ فأعطى أم كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي لا بنى العم وهو دليل على جواز تأخير البيان عن الخطاب وقوله تعالى

مما قل منه أو كثر بدل من ما الأخيرة بإعادة الجار وإليها يعود الضمير المجرور وهذا البدل مراد في الجملة الأولى أيضا محذوف للتعويل على المذكور وفائدته دفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة كالخيل وآلات الحرب للرجال وتحقيق أن لكل من الفريقين حقا من كل ما جل ودق

نصيبا مفروضا نصب على أنه مصدر مؤكد كقوله تعالى فريضة من اللّه كأنه قيل قسمة مفروضة أو على الحالية إذ المعنى ثبت لهم نصيب كائن مما ترك الوالدان والأقربون حال كونه مفروضا أو على الاختصاص أي اعنى نصيبا مقطوعا مفروضا واجبا لهم وفيه دليل على ان الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه

٨

وإذا حضر القسمة أي قسمة التركة وإنما قدمت مع كونها مفعولا لأنها المبحوث عنها ولأن في الفاعل تعددا فلو روعى الترتيب يفوت أطراف الكلام

أولو القربى ممن لا يرث

واليتامى والمساكين من الأجانب

فارزقوهم منه أي أعطوهم شيئا من المال المقسوم المدلول عليه بالقسمة

وقيل الضمير لما وهو امر ندب كلف به البالغون من الورثة تطييبا لقوب الطوائف المذكورة وتصدقا عليهم

وقيل أمر وجوب ثم اختلف في نسخة

وقولوا لهم قولا معروفا وهو أن يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ويعتذروا من ذلك ولا يمنوا عليهم

٩

وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم أمر للأوصياء بأن يخشوا اللّه تعالى ويتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم أو لمن حضر المريض من العواد عند الايصاء بان يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضر بهم بصرف المال عنهم أو للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم هل يجوزون حرمانهم أو للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية ولو بما في حيزها صلة للذين على معنى وليخش الذين حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ورثة ضعافا خافوا عليهم الضياع وفي ترتيب الأمر عليه إشارة إلى المقصود إلى المقصود منه والعلة فيه وبعث على

الترحم وأن يحب لأولاد غيره ما يحب لأولاد نفسه وتهديد للمخالف بحال أولاده وقرئ ضعفاء وضعافى وضعافى

فليتقوا اللّه في ذلك والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها

وليقولوا قولا سديدا أمرهم بالتقوى التى هي غاية الخشية بعد ما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى إذ لانفع للأول بدون الثاني ثم أمرهم بان بقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولاودهم بالشفقة وحسن الأدب أو للمريض ما يصده عن الإسراف في الوصية وتضييع الورثة ويذكره التوبة وكلمة الشهادة أو لحاضرى القسمة عذرا ووعدا حسنا أو يقولوا في الوصية مالا يؤدى إلى تجاوز الثلث وقوله تعالى

١٠

إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما أي على وجه الظلم أو ظالمين استئناف جئ به لتقرير مضمون ما فصل من الأوامر والنواهي

إنما يأكلون في بطونهم أي ملء بطونهم

نارا أي ما يجر إلى النار ويؤدى إليها وعن أبي بردة أنه قال يبعث اللّه تعالى قوما من قبورهم تتأجج أفواههم نارا فقيل من هم فقال عليه السلام ألم ترأن اللّه يقول إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا

وسيصلون سعيرا أي سيدخلون نارا هائلة مبهمة الوصف وقرئ بضم الياء مخففا ومشددا من الإصلاء والتصلية يقال صلى النار قاسى حرها وصليته شويته وأصليته ألقيته فيها والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا ألهبتها روى ان آكل مال اليتم يبعث يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأنفه وأذنيه وعينيه فيعرف الناس أنه كان ياكل مال اليتيم في الدنيا وروى انه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى وإن تخالطوهم الآية

١١

يوصيكم اللّه شروع في تفصيل أحكام المواريث المجلمة في قوله تعالى للرجال نصيب الخ وأقسام الورثة ثلاثة قسم لا يسقط بحال وهم الآباء والأولاد والأزواج فهؤلاء قسمان والثالث الكلالة أي يامركم ويعهد إليكم

في أولادكم أولاد كل واحد منكم أي في شأن ميراثهم بدئ بهم لأنهم أقرب الورثة إلى الميت وأكثرهم بقاء بعد المورث

للذكر مثل حظ الأنثيين جملة مستأنفة جئ بها لتبيين الوصية وتفسيرها

وقيل محلها النصب بيوصيكم على أن المعنى يفرض عليكم ويشرع لكم هذا الحكم وهذا قريب مما رآه الفراء فإنه يجرى ما كان بمعنى القول من الأفعال مجراه في حكاية الجملة بعده ونظيره

قوله تعالى وعد اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة الآية وقوله تعالى للذكر لا بد له من ضمير عائد إلى الأولاد محذوف ثقة بظهوره كما في قولهم السمن منوان بدرهم أي للذكر منهم

وقيل الألف واللام قائم مقامى والأصل لذكرهم ومثل صفة لموصوف محذوف أ ي للذكر منهم حظ مثل حظ الأنثيين والبداءة ببيان حكم الذكر لإظهار مزيته على الأنثى كما انها المناط في تضعيف حظة وايثار اسمى الذكر والأنثى على ما ذكر أولا من الرجال والنساء للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلا كما هو زعم أهل الجاهلية حيث كانوا لا يورثون الأطفال كالنساء

فإن كن أي الأولاد والتأنيث باعتبار الخبر وهو قوله تعالى

نساء أي خلصا ليس معهن ذكر

فوق اثنتين خبر ثان أو صفة لنساء أي نساء زائدات على اثنتين

فلهن ثلثا ما ترك أي المتوفى المدلول عليه بقرينة المقام

وإن كانت أي المولودة

واحدة أي أمرأة واحدة ليس معها اخ ولا اخت وعدم التعرض للموصوف لظهوره مما سبق

فلها النصف مما ترك وقرئ واحدة على كان التامة واختلف في الثنتين فقال ابن عباس حكمهما حكم الواحدة لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما وقال الجمهور حكمهما حكم ما فوقهما لأنه تعالى لما بين حظ الذكر مثل حظ الأنثيين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان اقتضى ذلك أن فرضهما الثلثان ثم لما أوهم ذلك أن يزاد النصيب بزيادة العدد رد ذلك بقوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين ويؤيد ذلك أن البنت الواحدة لما استحقت الثلث مع أخيها الأقوى منها في الاستحقاق فلأن تستحقه مع مثلها أولى وأحرى وأن البنتين أمس رحما من الأختين وقد فرض اللّه لهما الثلثين حيث قال تعالى فلهما الثلثان مما ترك

ولأبوية أي لأبوى الميت غير النظم الكريم لعدم اختصاص حكمه بما قبله من الصور

لكل واحد منهما بدل منه بتكرير العامل وسط بين المبتدأ الذي هو قوله تعالى

السدس وبين خبره الذي هو لأبويه ونقل الخبرية إليه تنصيصا على استحقاق كل منهما السدس وتأكيدا له بالتفصيل بعد الإجمال وقرئ السدس بسكون الدال تخفيفا وكذلك الثلث والربع والثمن

مما ترك متعلق بمحذوف وقع حالا من السدس والعامل الاستقرارالمعتبر في الخبر أي كائنا مما ترك المتوفى

إن كان له ولد أو ولد ابن ذكرا كان أوانثى واحدا أو متعددا غير أن الأب في صورة الأنوثة بعد ما أخذ فرضه المذكور ياخذ ما بقى من ذوى الفروض بالعصوبة

فإن لم يكن له ولد ولا ولد ابن

وورثه أبواه فحسب

فلأمه الثلث مما ترك والباقي للأب وإنما لم يذكر لعدم الحاجة إليه لأنه لما فرض انحصار الوارث في أبويه وعين نصيب الأم علم أن الباقى للأب وتخصيص جانب الأم بالذكر وإحالة جانب الأب على دلالة الحال مع حصول البيان بالعكس أيضا لما أن حظها أخصر واستحقاقه أتم وأوفر أو لأن استحقاقه بطريق العصوبة دون الفرض هذا إذا لم يكن معهما أحد الزوجين أما إذا كان معهما ذلك فللأم ثلث ما بقى بعد فرض أحدهما لا ثلث الكل كما قاله ابن عباس رضى اللّه عنهما فإنه يفضى إلى تفضيل الأم على الأب مع كونه أقوى منها في الإرث بدليل اضعافة عليها عند انفرادهما عن أحد الزوجين وكونه صاحب فرض وعصبة وذلك خلاف وضع الشرع

فإن كان له أخوة أي عدد ممن له أخوة من غير اعتبار التثليث سواء كانت من جهة الأبوين أو من جهة أحدهما وسواء كانوا ذكورا أو إناثا مختلطين وساء كان لهم ميراث أو كانوا محجوبين بالأب

فلأمه السدس

وأما السدس الذي حجبوها عنه فهو للأب عند وجوده ولهم عند عدمه وعليه الجمهور وعند ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه لهم على كل حال خلا أن هذا الحجب عنده لا يتحقق بما دون الثلاث وبالأخوات الخلص وقرئ فلأمه بكسر الهمزة اتباعا لما قبلها

من بعد وصية خبر مبتدأ محذوف والجملة متعلقة بما تقدم جميعا لا بما يليها وحده أي هذه الأنصباء للورثة من بعد إخراج وصية

يوصى بها أي الميت وقرئ مبنيا للمفعول مخففا ومبنيا للفاعل مشددا وفائدة الوصف الترغيب فى الوصية والندب إليها أودين عطف على وصيه إلا أنه غير مقيد بما قيدت به من الوصف بل هو مطلق يتناول ما ثبت بالبينة أو الإقرار في الصحة وإيثار أو المفيدة للإباحة على الواو للدلالة على تساويهما في الوجوب وتقدمهما على القسمة مجموعين أو منفردين وتقديم الوصية على الدين ذكرا مع تأخرها عنه حكما لأظهار كمال العناية بتنفيذها لكونها مظنة للتفريط في أدائها ولاطرادها بخلاف الدين

آباؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا الخطاب للورثة فآباؤكم مبتدأ

وأبناؤكم عطف عليه ولا يدرون خبره وأيهم مبتدأ وأقرب خبره ونفعا نصب على التمييز منه وهو منقول من الفاعلية كأنه قيل أيهم أقرب لكم نفعةوالجملة في حيز النصب

بلا تدرون والجملة الكبيرة اعتراضية مؤكدة لوجوب تنفيذ الوصية أي أصولكم وفروعكم الذين يتوفون لا تدرون أيهم أنفع لكم أمن يوصى ببعض ماله فيعرضكم لثواب الآخرة بتنفيذ وصيته أم من لا يوصى بشىء فيوفر عليكم عرض الدنيا وليس المراد بنفى الدراية عنهم بيان اشتباه الأمر عليهم وكون أنفعية كل من الأول والثاني في حيز الاحتمال عندهم من غير رجحان أحدهما على الآخر كما في قوله عليه الصلاة و السلام مثل أمتى مثل المطر لا يدرى أوله خير ام آخره فإن ذلك بمعزل من إفادة التأكيد المذكور والترغيب في تنفيذ الوصية بل تحقيق أنفعية الأول في ضمن التعريض بأن لهم اعتقادا بأنفعية الثاني مبنيا على عدم الدراية وقد أشير إلى ذلك حيث عبر عن الأنفعية بأقربيه النفع تذكير المناط زعمهم وتعيينا لمنشأ خطئهم ومبالغة في الترغيب المذكور بتصوير الثواب الآجل بصورة العاجل لما أن الطباع مجبولة على حب الخير الحاضر كأنه قيل لاتدرون أيهم أنفع لكم فتحكمون نظرا إلى ظاهر الحال وقرب المنال بأنفعية الثاني مع ان الأمر بخلافة فإن ثواب الآخرة لتحقق وصوله إلى صاحبه ودوام تمتعه به مع غاية قصر مدة ما بينهما من الحياة الدنيا أقرب وأحضر وعرض الدنيا لسرعة نفاده وفنائه أبعد وأقصى

وقيل الخطاب للمورثين والمعنى لاتعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم عاجلا وآجلا فتحروا في شأنهم ما أوصاكم اللّه تعالى به ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمان بعض روى أن أحد المتوالدين إذا كان أرفع درجة من الآخر في الجنة سأل اللّه تعالى أن يرفع إليه صاحبه فيرفع إليه بشفاعته قيل فالجملة الاعتراضية حينئذ مؤكدة لأمر القسمة وأنت خبير بأنه مشعر بأن مدار الإرث ما ذكر من أقربيه النفع مع أنه العلاقة النسبية

فريضة من اللّه نصبت نصب مصدر مؤكد لفعل محذوف أي فرض اللّه ذلك فرضا أو لقوله تعالى يوصيكم اللّه فإنه في معنى يأمركم ويفرض عليكم

إن اللّه كان عليما أي بالمصالح والرتب

حكيما في كل ما قضى وقدر فيدخل فيه الأحكام المذكورة دخولا أوليا

١٢

ولكم نصف ماترك أزواجكم من المال شروع في بيان أحكام القسم الثاني من الورثة ووجه تقديم حكم ميراث الرجال مما لاحاجة إلى ذكره

إن لم يكن لهن ولد أي ولد وارث من بطنه أو من صلب بنيها أو بنى بنيها وإن سفل ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو متعددا لأن لفظ الولد ينتظم الجميع منكم أو من غيركم والباقى لورثهتن من ذوى الفروض والعصبات أو غيرهم ولبيت المال إن لم يكن لهن وارث آخر أصلا

فإن كان لهن ولد على نحو ما فصل والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ذكر تقدير عدم الولد وبيان حكمه مستتبع لتقدير وجوده وبيان حكمه

فلكم الربع مما تركن من المال والباقى لباقى الورثة

من بعد وصية متعلق بكلتا الصورتين لابما يليه وحده

يوصين بها في محل الجر على انه صفة لوصية وفائدتها ما مر من ترغيب الميت في الوصية وحث الورثة على تنفيذها

أو دين عطف على وصية سواء كان ثبوته بالبينة أو بالإقرار وإيثار أو على الواو لما ذكر من إبراز كمال العناية بتنفيذها

ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد على التفصيل المذكور آنفا والباقى لبقية ورثتكم من أصحاب الفروض والعصبات أو ذوى الأرحام أو لبيت المال إن لم يكن لكم وارث آخر أصلا

فإن كان لكم ولد على النحو الذي فصل

فلهن الثمن مما تركتم من المال للباقين

من بعد وصية توصون بها أو دين الكلام فيه كما فصل في نظيريه فرض للرجل بحق الزواج ضعف ما فرض للمرأة كما في النسب لمزيته عليها وشرفه الظاهر ولذلك اختص بتشريف الخطاب وهكذا قياس كل رجل وامرأة اشتركا في الجهة ولا يستثنى منه إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة وتستوى الواحدة والعدد منهن في الربع والثمن

وإن كان رجل شروع في بيان أحكام القسم الثالث من الورثة المحتمل للسقوط ووجه تأخيره عن الأولين بين والمراد بالرجل الميت وقوله تعالى

يورث على البناء للمفعول من ورث لامن اورث خبر كان أي يورث منه

كلالة الكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الإعياء استعيرت للقرابة من غير جهة الوالد والولد لضعفها بالإضافة إلى قرابتهما وتطلق على من لم يخلف ولدا ولا والدا وعلى من ليس بوالد ولا ولد من المخلفين بمعنى ذي كلالة كما تطلق القرابة على ذوى القرابة وقد جوز كونها صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق فنصبها إما على أنها مفعول له أى يورث منه لأجل القرابة المذكورة أو على انها حال من ضمير

يورث أي حال كونه ذا كلالة أو على أنها خبر لكان ويورث صفة لرجل أي إن كان رجل موروث ذا كلالة ليس له والد ولا ولد وقرئ يورث على البناء للفاعل مخففا ومشدا فانتصاب كلالة إما على أنها حال من ضمير الفعل والمفعول محذوف أي يورث لأجل الكلالة

أو امرأة عطف على رجل مقيد بما قيد به أى أو امرأة تورث كذلك ولعل فصل ذكرها عن ذكره للإيذان بشرفه وأصالته في الأحكام

وله أي للرجل ففيه تأكيد للإيذان المذكور حيث لم يتعرض لها بعد جريان ذكرها أيضا

وقيل الضمير لكل منهما

أخ أو أخت أي من الأم فحسب وقد قرئ كذلك فإن أحكام بنى الأعيان والعلات هي التى ذكرت في آخر السورة الكريمة والجملة في محل النصب على أنها حال من ضمير يورث أو من رجل على تقدير كون يورث صفة له ومساقها لتصوير المسألة وذكر الكلالة لتحقيق جريان الحكم المذكور وإن كان مع من ذكر ورثة أخرى بطريق الكلالة

وأما جريانه في صورة وجود الأم أو الجده مع ان قرابتهما ليست بطريق الكلالة فبالإجماع

فلكل واحد منهما من الأخ والأخت

السدس من غير تفضيل للذكر على الأنثى لأن الإدلاء إلى الميت بمحض الأنوثة

فإن كانوا أكثر من ذلك أي أكثر من الأخ أو الأخت المنفردين بواحد أو بأكثر والفاء لما مر من أن ذكر احتمال الإنفراد مستتبع لذكر احتمال التعدد

فهم شركاء في الثلث يقتسمونه بالسوية والباقى لبقية الورثة من أصحاب الفروض والعصبات هذا

وأما تجويز أن يكون يورث في القراءة المشهورة مبنيا للمفعول من أورث على أن المراد به الوارث والمعنى وإن كان رجل يجعل وارثا لأجل الكلالة أو ذا كلالةة أى غير والده أو ولده ولذلك الوارث أخ أ أو أخت فلكل واحد من ذلك الوراث وأخيه أو أخته السدس فإن كانوا أكثر من ذلك أي من الإثنين بأن كانوا ثلاثة أو أكثر فهم شركاء في الثلث الموزع للاثنين لايزاد عليه شئ فبمعزل من السداد اما أولا فلأن المعتبر على ذلك التقدير إنما هي الأخوة بين الوارث وبين شريكه في الإرث من أخيه أو أخته لا ما بينه وبين مورثه من الأخوة التى عليها يترتب حكم الإرث وبها يتم تصوير المسألة وإنما المعتبر بينهما الوراثة بطريق الكلالة وهي عامة لجميع صور القرابات التى لا تكون بالولادة فلا يكون نصيبه ولا نصيب شريكه مما ذكر بعينه ومن ادعى اختصاصها بالأخوة لأم متمسكا بالإجماع على أن المراد بالكلالة ههنا أولاد الأم فقد اعترف ببطلان رأية من حيث لا يحتسب كيف لا ومبناه إنما هو الإجماع على أن المراد بالأخوة في قوله تعالى وله أخ أو أخت هو الأخوة لأم خاصة حسبما شهدت به القراءة المحكية والآية الآتية في آخر السورة الكريمة ولولا ان الرجل عبارة عن الميت والأخوة معتبرة بينه وبين ورثته لما أمكن كون الكل أولاد الأم ثم إن الكلالة كما نبهت عليه باقية على إطلاقها ليس فيها شائبة اختصاص بأولاد الأم فضلا عن الإجماع على ذلك وإلا لاقتصر البيان على حكم صورة انحصار الورثة فيهم وإنما الإجماع فيما ذكر من أن المراد بالأخ والأخت من كان لأم خاصة وأنتخبير بأن ذلك في قوة الإجماع على أن يورث من ورث لا من أورث فتدبروا أما ثانيا فلأنه يقتضى أن يكون المعتبر في استحقاق الورثة في الفرض المذكور اخوة بعضهم لبعض من جهة الأم لما ذكر من الإجماع مع ثبوت الاستحقاق على تقدير الأخوة من الجهتين

وأما ثالثا فلأن حكم صورة انفراد الوارث عن الأخ والأخت يبقى حينئذ غير مبين وليس من ضرورة كون حظ كل منهما السدس عند الإجماع كونه كذلك عند الانفراد إلا يرى أن حظ كل من الأختين الثلث عند الاجتماع والنصف عند الانفراد

وأما رابعا فلأن تخصيص أحد الورثة بالتورث وجعل غيره تابعا له فيه مع اتحاد الكل في الإدلاء إلى المورث مما لا عهد به

من بعد وصية يوصى بها أو دين الكلام فيه كالذي مر في نظائره خلا ان الدين ههنا موصوف بوصف الوصية جريا على قاعدة تقييد المعطوف بما قيد به المعطوف عليه لاتفاق الجمهور على اعتبار عدم المضارة فيه أيضا وذلك إنما يتحقق فيما ثبوته بالإقرار في المرض كأنه قيل أو دين يوصى به

غير مضار حال من فاعل فعل مضمر يدل عليه المذكور وما حذف من المعطوف اعتمادا عليه كما أن رجال في قوله تعالى يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال على قراءة المبنى للمفعول فاعل لفعل ينبى عنه المذكور ومن فاعل الفعل المذكور والمحذوف اكتفاء به على قراءة البناء للفاعل أي يوصى بما ذكر من الوصية والدين حال كونه غير مضار للورثة أي بأن يوصى بما زاد على الثلث أو تكون الوصية لقصد الإضرار بهم دون القربة وبأن يقر في المرض بدين كاذبا وتخصيص هذا القيد بهذا المقام لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم

وصية من اللّه مصدر مؤكد لفعل محذوف وتنوينه للتفخيم ومن متعلقة بمضمر وقع صفة له مؤكدة لفخامته الذاتية بالفخامة الإضافية أي يوصيكم بذلك وصية كائنة من اللّه كقوله تعالى فريضة من اللّه ولعل السر في تخصيص كل منهما بمحله الإشعار بما بين الأحكام المتعلقة بالأصول والفروع وبين الأحكام المتعلقة بغيرهم من التفاوت حسب تفاوت الفريضة والوصية وإن كانت كلتاهما واجبة المراعاة أو منصوب بغير مضار على انه مفعول به فإنه اسم فاعل معتمد على ذي الحال أو منفى معنى فيعمل في المفعول الصريح ويعضده القراءة بالإضافة أي غير مضار لوصية اللّه وعهده لا فى شأن الآولاد فقط كما قيل إذ لا تعلق لهم بالمقام بل في شأن الورثة المذكورة ههنا فإن الأحكام المفصلة كلها مندرجة تحت قوله تعالى يوصيكم اللّه جارية مجرى تفسيره وبيانه ومضارتها الإخلال بحقوقهم ونقصها بما ذكر من الوصية بما زاد على الثلث والوصية لقصد الإضرار دون القربة والإقرار بالدين كاذبا وإيقاعها على الوصية مع أنها واقعة على الورثة حقيقة كما في قوله يار سارق الليلة أهل الدار للمبالغة في الزجر عنها بإخراجها مخرج مضارة أمراللّه تعالى ومضادته وجعل الوصية عبارة عن الوصية بالثلث فما دونه يقتضى ان يكون غير مضار حالا من ضمير الفعل المتعلق بالوصية فقط وذلك يؤدى إلى الفصل بين الحال وعاملها بأجنبى هو المعطوف على وصية مع أنه لا تنحسم به مادة المضارة لبقاء الإفرار بالدين على إطلاقة

واللّه عليم بالمضار وغيره

حليم لا يعاجل بالعقوبة فلا يغتر بالإمهال وإيراد الاسم الجليل مع كفاية الإضمار لادخال الروعة وتربية المهابة

١٣

تلك إشارة إلى الأحكام التى تقدمت في شئون اليتامى والمواريث وغير

حدود اللّه أي شرائعه المحدودة التى لاتجوز مجاوزتها

ومن يطع اللّه ورسوله في جميع الأوامر والنواهي التى من جملتها ما فصل ههنا وإظهار الاسم الجليل لما ذكر آنفا

يدخله جنات نصب على الظرفية عند الجمهور وعلى المفعولية عند الأخفش

تجرى من تحتها الأنهار صفة لجنات منصوبة حسب انتصابها

خالدين فيها حال مقدرة من مفعول يدخله وصيغة الجمع بالنظر إلى جمعية من بحسب المعنى كما ان إفراد الضمير بالنظر إلى إفراده لفظا

وذلك إشارة إلى مامر من دخول الجنات الموصوفة بما ذكر على وجه الخلود وما فيه من معنى البعد للإيذانب كمال علو درجته

الفوز العظيم الذى لا وصف وراءه وصف الفوز وهو الظفر بالخير بالعظيم إما باعتبار متعلقة أو باعتبار ذاته فإن الفوز بالعظيم عظيم والجملة اعتراض

١٤

ومن يعص اللّه ورسوله ولو في بعض الأوامر والنواهي قال مجاهد فيما اقتص من المواريث وقال عكرمة عن ابن عباس من لم يرض بقسم اللّه تعالى ويتعد ماقاله اللّه تعالى وقال الكلبى يعنى ومن يكفر بقسمة اللّه المواريث ويتعد حدوده استحلالا والإظهار في موقع الإضمار للمبالغة في الزجر بتهويل الأمر وتربية المهابة

ويتعد حدوده شرائعه المحدودة في جميع الأحكام فيدخل فيها ما نحن فيه دخولا أوليا

يدخله وقرئ بنون العظمة في الموضعين

نارا أي عظيمة هائلة لايقادر قدرها

خالدا فيها حال كما سبق ولعل إيثار الإفراد ههنا نظرا إلى ظاهر اللفظ واختيار الجمع هناك نظرا إلى المعنى للإيذان بأن الخلود في دار الثواب بصفة الاجتماع أجلب للأنس كما أن الخلود في دار العذاب بصفة الانفراد أشد في استجلاب الوحشة

وله عذاب مهين أي وله مع عذاب الحريق الجسماني عذاب آخر مبهم لايعرف كنهه وهو العذاب الروحاني كما يؤذن به وصفه والجملة حالية

١٥

والآتى ياتين الفاحشة من نسائكم شروع في بيان بعض آخر من الأحكام المتعلقة بالنساء إثر بيان أحكام المواريث والآتى جمع التى بحسب المعنى دون اللفظ

وقيل جمع على غير قياس والفاحشة الفعلة القبيحة أريد بها الزنا لزيادة قبحه والإتيان الفعل والمباشرة يقال أتى الفاحشة أي فعلها وباشرها وكذا جاءها ورهقها وغشيها وقرئ بالفاحشة فالإتيان بمعناه المشهور ومن متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل يأتين أى اللآتى يفعلن الزنا كائنات من نسائكم أي من أزواجكم كما في قوله تعالى والذين يظاهرون من نسائهم وقوله تعالى من نسائكم اللآتى دخلتم بهن وبه قال السدى

فاستشهدوا عليهن أربعة منكم خبر للموصول والفاء للدلالة على سببية ما في حيز الصلة للحكم أي فاطلبوا أن يشهد عليهن بإتيانها أربعة من رجال المؤمنين وأحرارهم

فإن شهدوا عليهن بذلك

فأمسكوهن في البيوت أي فاحبسوهن فيها واجعلوها سجنا عليهن

حتى يتوفاهن أي إلى ان يستوفى أرواحهن

الموت وفيه تهويل للموت وإبراز له في صورة من يتولى قبض الأرواح وتوفيها أو يتوفاهن ملائكة الموت

أو يجعل اللّه لهن سبيلا أي يشرع لهن حكما خاصا بهن ولعل التعبير عنه بالسبيل للإيذان بكونه طريقا مسلوكا فليس فيه دلالة على كونه أخف من الحبس كما قاله أبو مسلم

١٦

واللذان يأتيانها منكم هما الزاني والزانية بطرق التغليب قال السندي أريد بهما البكران منهما كما ينبىء عنه كون عقوبتها أخف من الحبس المخلد وبذلك يندفع التكرار خلا أنه يبقى حكم الزانى المحصن مبهما لاختصاص العقوبة الأولى بالمحصنات وعدم ظهور الحاقه باحد الحكمين دلالة لخفاء الشركة في المناط

فآذوهما أي بالتوبيخ والتقريع

وقيل بالضرب بالنعال أيضا وظاهر أن إجراء هذا الحكم أيضا إنما يكون بعد الثبوت لكن ترك ذكره تعويلا على ما ذكر آنفا

فإن تابا عما فعلا من الفاحشة بسبب ما لقيا من زواجر الأذية وقوارع التوبيخ كما ينبئ عنه الفاء

وأصلحا أي أعمالهما

فأعرضوا عنهما بقطع الأذية والتوبيخ فإن التوبة والصلاح مما يمنع استحقاق الذم والعقاب وقد جوز أن يكون الخطاب للشهود الواقفين على هناتهما ويراد بالإيذاء ذمهما وتعنيفهما وتهديدهما بالرفع إلى الولاة وبالإعراض عنهما ترك التعرض لهما بالرفع إليهما قيل كانت عقوبة الفريقين المذكورين في أوائل الإسلام على مامر من التفصيل ثم نسخ بالحد لما روى ان النبي قال خذوا عنى خذوا عنى قد جعل اللّه لهن سبيلا الثيب ترجم والبكر تجلد

وقيل هذه الآية سابقة على الأولى نزولا وكانت عقوبة الزناة مطلقا الأذى ثم الحبس ثم الجلد ثم الرجم وقد جوز ان يكون الأمر بالحبس غير منسوخ بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوما بالكتاب والسنة ويوصى بإمساكهن في البيوت بعد إقامة الحد صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال ولا يخفى أنه مما لا يساعده النظم الكريم وقال أبو مسلم وقد عزاه إلى مجاهد أن الأولى في السحاقات وهذه في اللواطين وما في سورة النور في الزناة والزواني متمسكا بأن المذكور في الولى صيغة الإناث خاصة وفي الثانية صيغة الذكور ولا ضرورة إلى المصير إلى التغليب على انه لا أمكان له في الأولى ويأباه الأمر باستشهاد الأربعة فإنه غير معهود في الشرع فيما عدا الزنا

إن اللّه كان توابا مبالغا في قبول التوبة

رحيما واسع الرحمة وهو تعليل للأمر بالإعراض

١٧

إنما التوبة على اللّه استئناف مسوق لبيان أن قبول التوبة من اللّه تعالى ليس على إطلاقه كما ينبئ عنه وصفه تعالى بكونه توابا رحيما بل هو مقيد بما سينطق به النص الكريم فقوله تعالى التوبة مبتدأ وقوله تعالى

لذين يعملون السوء خبره وقوله تعالى على اللّه متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار فإن تقديم الجار والمجرور على عاملة المعنوى مما لا نزاع في جوازة وكذا الظرف أو بمحذوف وقع حالا من ضمير المبتدأ المستكن فيما تعلق به الخبر على رأى من جوز تقديم الحال على عاملها المعنوى عند كونها ظرفا

أو حرف جر كما سبق في تفسير قوله تعالى وللّه على الناس حج البيت وأيا ما كان فمعنى كون التوبة عليه سبحانه صدور القبول عنه تعالى وكلمة على للدلالة على التحقيق البتة بحكم جرى العادة وبسق الوعد حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه وهذا مراد من قال كلمة على بمعنى من

وقيل هي بمعنى عند وعن الحسن يعني التوبة التي يقبلها اللّه تعالى

وقيل هي التوبة التي أوجب اللّه تعالى على نفسه بفضله قبولها وهذا يشير إلى أن قوله تعالى على اللّه صفة للتوبة بتقديرر متعلقة معرفة على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته أي إنما التوبة الكائنة على اللّه والمراد بالسؤ المعصية صغيرة كانت أو كبيرة

وقيل الخبر على اللّه وقوله تعالى للذين متعلق بما تعلق به الخبر أو بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في متعلق الخبر وليس فيه ما في الوجه الأول من تقديم الحال على العامل المعنوي إلا أن الذي يقتضيه المقام ويستدعيه النظام هو الأول لما أن ما قبله من وصفة تعالى بكونه توابا رحيما إنما يقتضي بيان أختصاص قبول التوبة منه تعالى بالمذكورين وذلك إنما يكون بجعل قوله تعالى للذين الخ خبرا إلا يرى إلى قوله عز و جل وليست التوبة للذين يعملون السيئات الخ فإنه ناطق بما قلنا كأنه قيل إنما التوبة لهؤلاء لالهؤلاء

بجهالة متعلق يمحذوف وقع حالا من فاعل يعملون أي يعملون السوء ملتبسين بها أي جاهلين سفهاء أو بيعملون على أن الباء سببية أي بعملونه بسبب الجهالة لأن ارتكاب الذنب مما يدعو إليه الجهل وليس المراد به عدم العلم بكونه سوءا بل عدم التفكر في العاقبة كما يفعله الجاهل قال قتادة اجتمع أصحاب الرسول فرأوا أن كل شئ عصى به ربه فهو جهالة عمدا كان أو خطأ وعن مجاهد من عصى اللّه تعالى فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته وقال الزجاج يعنى بقوله بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية

ثم يتوبون من قريب أي من زمان قريب وهو ما قبل حضور الموت كما ينبى عنه ما يسأتي من قوله تعالى حتى إذا حضر أحدهم الموت الخ فإنه صريح في أن وقت الاختصار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة فبقى ماوراءه في حيز القبول وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما قبل أن ينزل به سلطان الموت وعن الضحاك كل توبة قبل الموت فهو قريب وعن إبراهيم النخعى مالم يؤخذ بكظمة وهو مجرى النفس وروى أبو أيوب عن النبي صلى اللّه عليه و سلم إن اللّه تعالى يقبل توبة العبد مالم يغرغر وعن عطاء ولو قبل موته بفواق ناقة وعن الحسن أن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده فقال تعالى وعزتى لا أغلق عليه باب التوبة مالم يغرغر ومن تبعيضية أي يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى مابين وجود المعصية وبين حضور الموت زمانا قريبا ففى أي جزء تاب من أجزاء هذا الزمان فهو تائب

فأولئك إشارة إلى المذكورين من حيث اتصافهم بما ذكر وما فيه من معنى البعد باعتبار كونهم بانقضاء ذكرهم في حكم البعيد والخطاب للرسول أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب وهو مبتدأ خبره قوله تعالى

يتوب اللّه عليهم وما فيه من تكرير الإسناد لتقوية الحكم وهذا وعد بقبول توبتهم إثر بيان أن التوبة لهم والفاء للدلالة على سببيتها للقبول

وكان اللّه عليما حكيما مبالغا في العلم والحكمة فيبنى أحكامه وأفعاله على أساس الحكمة والمصلحة والجملة اعتراضية مقررة لمضمون ما قبلها وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية منشأ لاتصافه تعالى بصفات الكمال

١٨

وليست التوبة للذين يعملون السيئات تصريح بما فهم من قصر القبول على توبة من تاب من قريب وزيادة تعيين له ببيان أن توبة من عداهم بمنزلة العدم وجمع السيئات باعتبار تكرر وقوعها في الزمان المديدلا لأن المراد جميع أنواعها وبما مر من السوء نوع منها

حتى إذا حضر أحدكم الموت قال إنى تبت الآن حتى حرف ابتداء والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها أي ليس قبول التوبة للذين يعملون السيئات إلى حضور موتهم وقولهم حينئذ إنى تبت الآن وذكر الآن لمزيد تعيين الوقت وإيثار قال على تاب لإسقاط ذلك عن درجة الاعتبار والتحاشى عن تسميته توبة

ولا الذين يموتون وهم كفار عطف على الموصول الذي قبله أي ليس قبول التوبة لهؤلاء ولا لهؤلاء وإنما ذكر هؤلاء مع أنه لا توبة لهم راسا مبالغة في بيان عدم قبول توبة المسوفين وإيذانا بأن وجودها كعدمها بل في تكرير حرف النفى في المعطوف إشعار خفى بكون حال المسوفين في عدم استتباع الجدوى أقوى من حال الذين يموتون على الكفر والمراد بالموصولين إما الكفار خاصة

وأما الفساق وحدهم وتسميتهم في الجملة الحالية كفارا للتغليظ كما في قوله تعالى ومن كفر فإن اللّه غنى عن العالمين

وأما ما يعم الفريقين جميعا فالتسمية حينئذ للتغليب ويجوز أن يراد بالأول الفسقة وبالثاني الكفرة ففيه مبالغة أخرى

أولئك إشارة إلى الفريقين وما فيه من معنى البعد للإيذان بترامى حالهم في الفظاعة وبعد منزلتهم في السوء وهو مبتدأ خبره

أعتدنا لهم أي هيأنا لهم

عذابا أيما تكرير الإسناد لما مر من تقوية الحكم وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لإظهار الإعتناء بكون العذاب معدا لهم وتنكير العذاب ووصفه للتفخيم الذاتي والوصفى

١٩

يأيها الذين أمنوا لايحل لكم أن ترثوا النساء كرها كان الرجل إذا مات قريبه يلقى ثوبه على أمراتة أو على خبائها ويقول أرث امرأته كما أرث ماله فيصير بذلك أحق بها من كل أحد ثم أن شاء تزوجها بلا صداق غير الصداق الأول وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئا وأن شاء عضلها لتفتدى بما ورثت من زوجها وإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل إلقاء الثوب فهى أحق بنفسها فنهوا عن ذلك

وقيل لهم لا يحل لكم ان تأخذوا بطريق الإرث على زعمكم كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك أو مكرهات عليه وقرىء لاتحل بالتاء الفوقانية على أن ان ترثوا بمعنى الوراثة وقرئ كرها بضم الكاف وهي لغة كالضعف والضعف وكان الرجل إذا تزوج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العشرة والقهر وضيق عليها

لتفتدى منه بما لها وتختلع فقيل لهم

ولا تعضلوهن عطفا على ترثوا ولا لتأكيد النفى والخطاب للأزواج والعضل الحبس والتضييق ومنه عضلت المرأة بولدها إذا اختنقت رحمها فخرج بعضه وبقى بعضه أي ولا أن تضيقوا عليهن

لتذهبوا ببعض ما تيتموهن أي من الصداق بأن يدفعن إليكم بعضه اضطرارا فتأخذوه منهن وإنما لم يتعرض لفعلهن إيذانا بكونه بمنزلة العدم لصدوره عنهن اضطرارا وإنما عبر عن ذلك بالذهاب به لا بالأخذ ولا بالإذهاب للمبالغة في تقبيحة ببيان تضمنه لأمرين كل منهما محظور شنيع الأخذ والإذهاب منهن لأنه عبارة عن الذهاب مستصحبا به

إلا أن يأتين بفاحشة مبينة على صيغة الفاعل من بين بمعنى تبين وقرئ على صيغة المفعول وعلى صيغة الفاعل من أبان بمعنى تبين أي بينة القبح من النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهلة بالبذاء والسلاطة ويعضده قراءة أبي إلا أن يفحشن عليكم

وقيل الفاحشة الزنا وهو استئناء من أعم الأحوال أو أعم الأوقات أو أعم العلل أي ولا يحل لكم عضلهن في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات أولعلة من العلل إلا في حال إتيانهن بفاحشة أو إلا في وقت إتيانهن أو إلا لإتيانهن بها فإن السبب حينئذ يكون من جهتهن وأنتم معذورن في طلب الخلع

وعاشروهن بالمعروف خطاب للذين يسيئون العشرة معهن والمعروف مالا ينكره الشرع والمروءة والمراد ههنا النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في المقال ونحو ذلك

فإن كرهتموهن وسئمتم صحبتهن بمقتضى الطبيعة من غير أن يكون من قبلهن ما يوجب ذلك من الأمور المذكورة فلا تفارقوهن بمجرد كراهة النفس واصبروا على معاشرتهن

فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل اللّه فيه خيرا كثيرا علة للجزاء أقيمت مقامه للإيذان بقوة استلزامها إياه كأنه قيل فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة فلعل لكم فيما تكرهونه خيرا كثيرا ليس فيما تحبونه وعسى تامة رافعة لما بعدها مستغنية عن تقدير الخبر أبي فقد قربت كراهتكم شيئا وجعل اللّه فيه خيرا كثيرا فإن النفس ربما تكره ما هو أصلح في الدين وأحمد عاقبة وأدنى إلى الخير و تحب ما هو بخلافة فليكن نظركم إلى ما فيه خير وصلاح دون ما تهوى أنفسكم وذكر الفعل الأول مع الاستغناء عنه وانحصار العلية في الثاني للتوسل إلى تعميم مفعوله ليفيد أن ترتيب الخير الكثير من اللّه تعالى ليس مخصوصا بمكروه دون مكروه بل هو سنة إلهية جارية على الإطلاق حسب اقتضاء الحكمة وان ما نحن فيه مادة من موادها وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميم الإرشاد ما لايخفي وقرى ويجعل مرفوعا على أنه خبر لمبتدأ محذوف والجملة حالية تقديره وهو أي ذلك الشئ يجعل اللّه فيه خيرا كثيرا

وقيل تقديره واللّه يجعل بوضع المظهر موضع المضمر وتنوين خيرا لتفخيمة الذاتي ووصفه بالكثرة لبيان فخامته الوصفية والمراد به ههنا الولد الصالح

وقيل الألفة والمحبة

٢٠

وإن أردتم استبدال زوج أي تزوج امرأة ترغبون فيها

مكان زوج ترغبون عنها بأن تطلقوها

وآتيتم إحداهن أي أحدى الزوجات فإن المراد بالزوج هو الجنس

والجملة حالية بإضمار قد لامعطوفة على الشرط أي وقد آتيتم التي تريدون أن تطلقوها

قنطارا أي مالا كثيرا

فلا تأخذوا منه أي من ذلك القنطار

شيئا يسيرا فضلا عن الكثير

أتأخذونه بهتانا واثما مبينا استئناف مسوق لتقرير النهي والتنفير عن المنهي عنه والاستفهام للإنكار والتوبيخ أي أتأخذونه باهتين وآثمين أو للبهتان والاثم فإن أحدهم كان اذا تزوج امرأة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها الى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه الى تزوج الجديدة فنهوا عن ذلك والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه ويدهشه وقد يستعمل في الفعل الباطل ولذلك فسر ههنا بالظلم وقوله عز و جل

٢١

وكيف تأخذونه انكار لأخذه اثر انكار وتنفير عنه غب تنفير وقد بولغ فيه حيث وجه الانكار الى كيفية الأخذ ايذانا بأنه مما لا سبيل له الى التحقق والوقوع اصلا لأن ما يدخل تحت الوجود لابد أن يكون على حال من الأحوال فإذا لم يكن لشيء حال اصلا لم يكن له حظ من الوجود قطعا وقوله عز و جل

وقد أفضى بعضكم الى بعض حال من فاعل تأخذونه مفيدة لتأكيد النكير وتقرير الاستبعاد أي على أي حال أو في أي حال تأخذونه والحال أنه قد جرى بينكم وبينهن أحوال منافية له من الخلوة وتقرر المهر وثبوت حق خدمتهن لكم وغير ذلك

وأخذن منكم ميثاقا غليظا عطف على ما قبله داخل في حكمه أي أخذن منكم عهدا وثيقا وهو حق الصحبة والمعاشرة أو ما أوثق اللّه تعالى عليهم في شأنهن بقوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان أو ما أشار اليه النبي بقوله أخذتموهن بأمانة اللّه واستحللم فروجهن بكلمة اللّه تعالى

٢٢

ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم شروع في بيان من يحرم نكاحها من النساء ومن لا يحرم وانما خص هذا النكاح بالنهي ولم ينظم في سلك نكاح المحرمات الآتية مبالغة في الزجر عنه حيث كانوا مصرين على تعاطيه قال ابن عباس وجمهور المفسرين كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا عن ذلك واسم الآباء ينتظم الأجداد مجازا فتثبت حرمة ما نكحوها نصا واجماعا ويستقل في اثبات هذه الحرمة نفس النكاح اذا كان صحيحا

وأما اذا كان فاسدا فلا بد في اثباتها من الوطء أو ما يجري مجراه من التقبيل والمس بشهوة ونحوهما بل هو المثبت لها في الحقيقة حتى لو وقع شيء من ذلك بحكم ملك اليمين أو بالوجه المحرم تثبت به الحرمة عندنا خلافا للشافعي في المحرم أي لا تنكحوا التي نكحها آباؤكم وايثار ما على من للذهاب الى الوصف

وقيل ما مصدرية على ارادة المفعول من المصدر

من النساء بيان لما نكح على الوجهين

الا ما قد سلف استثناء مما نكح مفيد للمبالغة في التحريم بإخراج الكلام مخرج التعليق بالمحال على طريقة قوله

 ... ولا عيب فيهم غير أن سيوفيهم ... بهن فلول من قراع الكتائب ...

والمعنى لا تنكحوا حلائل آبائكم الا من ماتت منهن والمقصود سد طريق الاباحة بالكلية ونظيره قوله تعالى حتى يلج الجمل في سم الخياط

وقيل هو استثناء مما يستلزمه النهي ويستوجبه مباشرة المنهي عنه كأنه قيل لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء فإنه موجب للعقاب الا ما قد مضى فإنه معفو عنه

وقيل هو استثناء منقطع معناه لكن ما قد سلف لا مؤاخذة عليه لا أنه مقرر ويأباهما قوله تعالى

إنه كان فاحشة ومقتا فإنه تعليل للنهي وبيان لكون المنهي عنه في غاية القبح مبغوضا أشد البغض وأنه لم يزل في حكم اللّه تعالى وعلمه موصوفا بذلك ما رخص فيه لأمة من الأمم فلا يلائم أن يوسط بينهما ما يهون أمره من ترك المؤاخذة على ماسلف منه

وساء سبيلا في كلمة ساء قولان أحدهما أنها جارية مجرى بئس في الذم والعمل ففيها ضمير مبهم يفسره ما بعده والمخصوص بالذم محذوف تقديره وساء سبيلا سبيل ذلك النكاح كقوله تعالى بئس الشراب أي ذلك الماء وثانيهما أنها كسائر الأفعال وفيها ضمير يعود الى ما عاد اليه ضمير أنه وسبيلا تمييز والجملة اما مستأنفة لا محل لها من الاعراب أو معطوفة على خبر كان محكية بقول مضمر هو المعطوف في الحقيقة تقديره ومقولا في حقه ساء سبيلا فإن ألسنة الأمم كافة لم تزل ناطفة بذلك في الاعصار والأمصار قيل مراتب القبح ثلاث القبح الشرعي والقبح العقلي والقبح العادي وقد وصف اللّه تعالى هذا النكاح بكل ذلك فقوله تعالى فاحشة مرتبة قبحه العقلي وقوله تعالى ومقتا مرتبة قبحه الشرعي وقوله تعالى وساء سبيلا مرتبة قبحه العادي وما اجتمع فيه هذه المراتب فقد بلغ أقصى مراتب القبح

٢٣

حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالتكم وبنات الأخ وبنات الأخت ليس المراد تحريم ذواتهن بل تحريم نكاحهن وما يقصد به من التمتع بهن وبيان امتناع ورود ملك النكاح عليهن وانتفاء محليتهن له رأسا

وأما حرمة التمتع بهن بملك اليمين في المواد التي يتصور فيها قرار الملك كما في بعض المعطوفات على تقدير رقهن فثابتة بدلالة النص لاتحاد المدار الذي هو عدم محلية أبضاعهن للملك لا بعبارته بشهادة سباق النظم الكريم وسياقه وانما لم يوجب المدار المذكور امتناع ورود ملك اليمين رأسا ولا حرمة سببه الذي هو العقد أو ما يجري مجراه كما أوجب حرمة عقد النكاح وامتناع ورود حكمه عليهن لأن مورد ملك اليمين ليس هو البضع الذي هو مورد ملك النكاح حتى يفوت بفوات محليته له كملك النكاح فإنه حيث كان مورده ذلك فات بفوات محليته له قطعا وانما مورده الرقبة الموجودة في كل رقيق فيتحقق بتحقق محله حتما ثم يزول بوقوع العتق في المواد التي سبب حرمتها محض القرابة النسبية كالمذكورات ويبقى في البواقي على حاله مستتبعا لجميع أحكامه المقصودة منه شرعا

وأما حل الوطء فليس من تلك الأحكام فلا ضير في تخلفه عنه كما في المجوسية والأمهات تعم الجدات وإن علون والبنات تتناول بناتهن وإن سفلن والأخوات ينتظمن الأخوات من الجهات الثلاث وكذا الباقيات والعمة كل انثى ولدها من ولد والدك والخالة كل أنثى ولدها من ولد والدتك قريبا أو بعيدا وبنات الأخ وبنات الأخت تتناول القربى والبعدى

وأمهاتكم اللآتى أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة نزل اللّه تعالى الرضاعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أما للرضيع والمراضعة أختا وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته عمته وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم أخوته وأخواته لأبيه وام المرضعة جدته وأختها خالته وكل من ولد من هذا الزوج فهم أخوانه وأخواته لأبيه وأمه ومن ولدها من غيره فهم أخوته وأخواته لأمه ومنه قوله عليه السلام يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب وهو حكم كلى جار على عمومه

وأما أم أخيه لأب واخت ابنه لأم وأم أم ابنه وأم عمه وأم خاله لأب فليست حرمتهن من جهة النسب حتى يحل بعمومة ضرورة حلهن في صور الرضاع بل من جهة المصاهرة ألا يرى ان الأولى موطوءة أبيه والثانية بنت موطوءته والثالثة أم موطوءته والرابعة موطوءة جده الصحيح والخامسة موطوءة جده الفاسد

وأمهات نسائكم شروع في بيان المحرمات من جهة المصاهرة إثر بيان المحرمات من جهة الرضاعة التى لها لحمة كلحمة النسب والمراد بالنساء النكوحات على الإطلاق سواء كن مدخولا بهن أولا وعليه جمهور العلماء روى عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال في رجل تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها أنه لا بأس بأن يتزوج ابنتها ولا يحل له أن يتزوج أمها وعن عمر وعمران بن الحصين رضى اللّه عنهما أن الأم تحرم بنفس العقد وعن مسروق هي مرسلة فأرسلوا ما أرسل اللّه وعن ابن عباس أبهموا ما أبهم اللّه خلا أنه روى عنه وعن على وزيد وابن عمر وابن الزبير رضي اللّه عنهم أنهم قرءوا وأمهات نسائكم اللاتى دخلتم بهن وعن جابر روايتان وعن سعيد بن المسيب عن زيد أنه إذا ماتت عنده فاخذ ميراثها كره أن يخلف على امها وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل أقام الموت في ذلك مقام الدخول كما قام مقامه في باب المهر والعدة ويلحق بهن الموطوءات بوجه من الوجوه المعدودة فيما سبق والممسوسات ونظائرهن والأمهات تعم المرضعات كما تعم الجدات حسبما ذكر

وربائبكم اللاتى في حجوركم الربائب جمع ربيية فعيل بمعنى مفعول والتاء للنقل إلى الاسمية والربيب ولد المرأة من آخر سمى به لأنه يربه غالبا كما يرب ولده وإن لم يكن ذلك أمرا مطردا وهو المعنى بكونهن في الحجور فإن شأنهن الغالب المعتاد أن يكن في حضانة امهاتهن تحت حماية أزواجهن لاكونهن كذلك بالفعل وفائدة وصفهن بذلك تقوية علة الحرمة وتكميلها كما أنها النكتة في إيرادهن باسم الربائب دون بنات النساء فإن كونهن بصدد احتضانهم لهن وفي شرف التقلب في حجورهم وتحت حمايتهم وتربيتهم مما يقوى الملابسة والشبة بينهن وبين أولادهم ويستدعى إجراءهن مجرى بناتهم لا تقييد الحرمة بكونهن في حجورهم بالفعل كما روى عن على رضي اللّه عنه وبه أخذ داود ومذهب جمهور العلماء ما ذكر أولا بخلاف ما في قوله تعالى

من نسائكم اللآتى دخلتم بهن فإنه لتقييدها به قطعا فإن كلمة من متعلقة بمحذوف وقع حالا من ربائبكم أو من ضميرها المستكن في الظرف لأنه لما وقع صلة تحمل ضميرا أي وربائبكم اللآتى استقررن في حجوركم كائنات من نسائكم الخ ولا مساغ لجعله حالا من أمهات أو مما أضيفت هي إليه خاصة وهو بين لا سترة به ولا مع ما ذكر أولا ضرورة ان حاليته من ربائبكم أو من ضمير ما تقتضى كون كلمة من ابتدائية وحاليته من أمهات أو من نسائكم تستدعى كونها بيانية وادعاء كونها اتصالية منتظمة لمعنى الابتداء والبيان أو جعل الموصول صفة للنساء مع اختلاف عامليهما مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله مع أنه سعى في إسكات ما نطق به النبى واتفق عليه الجمهور حسبما ذكر فيما قبل

وأما ما نقل من القراءة فضعيفة الرواية وعلى تقدير الصحة محمولة على النسخ ومعنى الدخول بهن إدخالهن الستر والباء للتعدية وهي كناية عن الجماع كقولهم بنى عليها وضرب عليها الحجاب وفي حكمة اللمس ونظائرها كما مر فإن لم تكونوا أي فيما فبل دخلتم بهن أصلا

فلا جناح عليكم أي في نكاح الربائب وهو تصريح بما أشعر به ما قبله والفاء الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن بيان حكم الدخول مستتبع لبيان حكم عدمه

وحلائل أبنائكم أي زوجاتهم سميت الزوجة حليلة لحلها للزوج أو لحلولها في محله

وقيل لحل كل منهما إزار صاحبه وفي حكمهن مزنياتهم ومن يجرين مجراهن من الممسوسات ونظائرهن وقوله تعالى

الذين من اصلابكم لإخراج الأدعياء دون أبناء الأولاد والأبناء من الرضاع فإنهم وإن سفلوا في حكم الأنباء الصلبية

وأن تجمعوا بين الأختين في حيز الرفع عطفا على ما قبله من المحرمات والمراد به جمعهما في النكاح لا في ملك اليمن

وأما جمعهما في الوطء بملك اليمن فملحق به بطريق الدلالة لاتحادهما في المدار ولقوله عليه الصلاة و السلام من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يجمعن ماءه في رحم أختين بخلاف نفس ملك اليمين فإنه ليس في معنى النكاح في الإفضاء إلى الوطء ولا مستلزما له ولذلك يصح شراء المجوسية دون نكاحها حتى لو وطئهما لايحل له وطء إحداهما حتى يحرم عليه وطء الأخرى بسبب من الأسباب وكذا لو تزوج أخت أمته الموطوءة لا يحل له وطء إحداهما حتى يحرم عليه الأخرى لأن المنكوحة موطوءة حكما فكأنه جمعهما وطأ وإسناد الحرمة إلى جمعهما لا إلى الثانية منهما بأن يقال واخوات نسائكم للاحتراز عن إفادة الحرمة المؤبدة كما في المحرمات السابقة ولكونه بمعزل من الدلالة على حرمة الجمع بينهما على سبيل المعية ويشترك في هذا الحكم الجمع بين المرأة وعمتها ونظائرها بل أولى فإن العمة والخالة بمنزلة الأم فقوله عليه السلام لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها من قبيل بيان التفسير لابيان التغيير

وقيل هو مشهور يجوز به الزيادة على الكتاب

إلا ما قد سلف استثناء منقطع أي لكن ما قد مضى لاتؤاخذون به ولا سبيل إلى جعله متصلا بقصد التأكيد والمبالغة كما مر فيما سلف لأن قوله تعالى

أن اللّه كان غفورا رحيما تعليل لما أفاده الاستثناء فيتحتم الانقطاع وقال عطاء والسدى معناه إلا ما كان من يعقوب عليه السلام فإنه قد جمع بين ليا أم يهوذا وبين راحيل أم يوسف عليه الصلاة و السلام ولا يساعده التعليل لأن ما فعله يعقوب عليه السلام كان حلالا في شريعته وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما أهل الجاهلية يحرمون ما حرم اللّه

تعالى امرأة الأب والجمع بين الأختين وروى هشام بن عبد اللّه عن محمد بن الحسن أنه قال كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات إلا اثنتين نكاح امرأة الأب والجمع بين الأختين ألا يرى أنه قد عقب النهى عن كل منهما بقوله تعالى إلا ما قد سلف وهذا يشير إلى كون الاستثناء فيهما على سنن واحد ويأباه اختلاف التعليلين

٢٤

والمحصنات بفتح الصاد وهن ذوات الأزواج أحصنهن التزوج أو الأزواج أو الأولياء أعفهن عن الوقوع في الحرام وقرئ على صيغة اسم الفاعل فإنهن أحصن فروجهن عن غير أزواجهن أو أحصن أزواجهن

وقيل الصيغة للفاعل على القراءة الأولى أيضا وفتح الصاد محمول على الشذوذ كما في نظيريه ملقح ومسهب من القح وأسهب قيل ورد الإحصان في القرآن بإزاء أربعة معان

الأول التزوج كما في هذه الآية الكريمة

الثاني العفة كما في قوله تعالى محصنين غير مسافحين

الثالث الحرية كما في قوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات

والرابع الإسلام كما في قوله تعالى فإذا أحصن قيل في تفسيره أى أسلمن وهي معطوفة على المحرمات السابقة وقوله تعالى

من النساء متعلق بمحذوف وقع حالا منها أى كائنات من النساء وفائدته تأكيد عمومها لا دفع توهم شمولها للرجال بناء على كونها صفة للأنفس كما توهم

إلا ما ملكت أيمانكم استثناء من المحصنات استثناء النوع من الجنس أي ملكتموه وإسناد الملك إلى الإيمان لما أن سببه الغالب هو الصفة الواقعة بها وقد أشتهر ذلك في الأرقاء لاسيما في إناثهم وهن المرادات ههنا رعاية للمقابلة بينه وبين ملك النكاح الوارد على الحرائر والتعبير عنهن بما لإسقاطهن بما فيهن من قصور الرق عن رتبة العقلاء وهي إما عامة حسب عموم صلتها فالاستثناء حينئذ ليس لإخراج جميع أفرادها من حكم التحريم بطريق شمول النفى بل بطريق نفى الشمول المستلزم لإخراج بعضها أي حرمت عليكم المحصنات على الإطلاق إلا المحصنات اللآتى ملكتموهن فإنهن لسن من المحرمات على الإطلاق بل فيهن من لايحرم نكاحهن في الجملة وهن المسببات بغير أزواجهن أو مطلقا حسب اختلاف الرأيين

وأما خاصة بالمذكورات فالمعنى حرمت عليكم المحصنات إلا اللآتى سبين فإن نكاحهن مشروع في الجملة أي لغير ملاكهن

وأما حلهن لهم بحكم ملك اليمين فمفهوم بدلالة النص لاتحاد المناط لابعبارته لما عرفت من أن مساق النظم الكريم لبيان حرمة التمتع بالمحرمات المعدودة بحكم ملك النكاح وإنما ثبوت حرمة التمتع بهن بحكم ملك اليمن بطريق دلالة النص وذلك مما لا يجرى فيه الاستثناء قطعا

وأما عدهن من ذوات الأزواج مع تحقق الفرقة بينهن وبين أزواجهن قطعا بالتباين أو بالسبى على اختلاف الرأيين فمبنى على اعتقاد الناس حيث كانوا حينئذ غافلين عن الفرقة ألا يرى إلى ما روى عن أبي سعيد الخدرى رضى اللّه عنه من أنه قال أصبنا يوم أوطاس سبايا لهن أزواج فكرهنا أن تقع عليهن فسألنا النبي وفي رواية عنه قلنا يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كيف نقع على

نساء عرفنا أنسابهن وأزواجهن فنزلت والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم فاستحللناهن وفي رواية أخرى عنه ونادى منادى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ألا لاتوطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض فأباح وطأهن بعد الاستبراء وليس في ترتيب هذا الحكم على نزول الآية الكريمة ما يدل على كونها مسوقة له فإن ذلك إنما يتوقف على إفادتها له بوجه من وجوه الدلالة على إفادتها بطريق العبارة أو نحوها هذا وقد روى عن أبي سعيد رضى اللّه عنه أنه قال أنها نزلت في نساء كن يهاجرن إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ولهن أزواج فيتزوجهن بعض المسلمين ثم يقدم أزواجهن مهاجرين فنهى عن نكاحهن فالمحصنات حينئذ عبارة عن مهاجرات يتحقق أو يتوقع من أزواجهن الإسلام والمهاجرة ولذلك لم يزل عنهن اسم الإحصان والنهى لتحريم المحقق وتعرف حال المتوقع وإلا فما عداهن بمعزل من الحرمة واستحقاق إطلاق الاسم عليهن كيف لا وحين انقطعت العلاقة بين المسببة وزوجها مع اتحادهما في الدين فلأن تنقطع ما بين المهاجرة وزوجها أحق وأولى كما يفصح عنه قوله عز و جل فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لاهن حل لهم ولاهم يحلون لهن الآية

كتاب اللّه مصدر مؤكد أي كتب اللّه

عليكم تحريم هؤلاء كتابا وفرضة فرضا

وقيل منصوب على الإغراء بفعل مضمر أى مؤكد أي الزموا كتاب اللّه وعليكم متعلق إما بالمصدر

وأما بمحذوف وقع حالا منه

وقيل هو إغراء آخر مؤكد لما قبله قد حذف مفعوله لدلالة المذكور عليه أو بنفس عليكم على راى من جوز تقديم المنصوب في باب الإغراء كما في قوله

 ... يأيها امائح دلوى دونكا ... أنى رأيت الناس يحمدونكا ...

وقرئ كتب اللّه بالجمع والرفع أى هذه فرائض اللّه عليكم وقرئ كتب اللّه بلفظ الفعل

واحل لكم عطف على حرمت عليكم الخ وتوسيط قوله تعالى كتاب اللّه عليكم بينهما للمبالغة في الحمل على المحافظة على المحرمات المذكورة وقرئ على صيغة المبنى للفاعل فيكون معطوفا على الفعل المقدر

وقيل بل على حرمت الخ فإنهما جملتان متقابلتان مؤسستان للتحريم والتحليل المنوطين بأمر اللّه تعالى ولا ضير في اختلاف المسند إليه بحسب الظاهر لاسيما بعد ما أكدت الأولى بما يدل على أن المحرم هو اللّه تعالى

ماوراء ذلكم إشارة إلى ما ذكر من المحرمات المعدودة أي أحل لكم نكاح ما سواهن انفرادا وجمعا ولعل إيثار اسم الإشارة المتعرض لوصف المشار إليه وعنوانه على الضمير المتعرض للذات فقط لتذكير ما في كل واحدة منهن من العنوان الذي عليه يدور حكم الحرمة فيفهم مشاركة من في معناهن لهن فيها بطريق الدلالة فإن حرمة الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها ليست بطريق العبارة بل بطريق الدلالة كما سلف

وقيل ليس المراد بالإحلال الإحلال مطلقا أي على جميع الأحوال حتى يرد انه يلزم منه حل الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها بل إنما هو إحلالهن في الجملة أى على بعض الأحوال ولا ريب في حل نكاحهن بطريق الإنفراد ولا يقدح في ذلك حرمته بطريق الجمع إلا يرى أن حرمة نكاح المعتدة والمطلقة ثلاثا والخامسة ونكاح الأمة على الحرة ونكاح الملاعنة لاتقدح في حل نكاحهن بعد العدة وبعد التحليل وبعد تطليق الرابعة وانقضاء العدة وبعد تطليق الحرة وبعد إكذاب الملاعن نفسه وأنت خبير بان الحل يجب أن يتعلق ههنا بما تعلق به الحرمة فيما سلف وقد تعلق ههنا بالجمع فلا بد أن يتعلق الحل به أيضا

أن تبتغوا متعلق بالفعلين المذكورين على أنه مفعول له لكن باعتبار ذاتهما بل باعتبار بيانهما وإظهارهما أي بين لكم تحريم المحرمات المعدودة وإحلال ماسواهن إرادة أن تبتغوا بأموالكم والمفعول محذوف أي تبتغوا النساء أو متروك أى تفعلوا الابتغاء

باموالكم بصرفها إلى مهورهن أو بدا اشتمال مما وراء ذلكم بتقدير ضمير المفعول

محصنين حال من فاعل تبتغوا والاحصان العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم والعقاب

غير مسافحين حال ثانية منه أو حال من الضمير في محصنين والسفاح الزنا والفجور من السفح الذي هو صب المني سمى به لأنه الغرض منه ومفعول الفعلين محذوف أي محصنين فروجكم غير مسافحين الزواني وهي في الحقيقة حال مؤكدة لأن المحصن غير مسافح البتة وما في قوله تعالى

فما استمتعتم به منهن اما عبارة عن النساء أو عما يتعلق بهن من الأفعال وعلى التقديرين فهي اما شرطية ما بعدها شرطها

وأما موصولة ما بعدها صلتها وايا ما كان فهي مبتدأ خبرها على تقدير كونها شرطية اما فعل الشرط أو جوابه أو كلاهما على الخلاف المعروف وعلى تقدير كونها موصولة قوله تعالى

فآتوهن أجورهن والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط ثم على تقدير كونها عبارة عن النساء فالعائد الى المبتدأ هو الضمير المنصوب في فآتوهن سواء كانت شرطية أو موصولة ومن بيانية أو تبعيضية محلها النصب على الحالية من الضمير المجرور في به والمعنى فأي فرد استمتعتم به أو فالفرد الذي استمتعتم به حال كونه من جنس النساء أو بعضهن فآتوهن أجورهن وقد روعي تارة جانب اللفظ فأفرد الضمير أولا وأخرى جانب المعنى فجمع ثانيا وثالثا

وأما على تقدير كونها عبارة عما يتعلق بهن فمن ابتدائية متعلقة بالاستمتاع والعائد الى المبتدأ محذوف والمعنى أي فعل استمتعتم به من جهتهن من نكاح أو خلوة أو نحوهما أو فالفعل الذي استمتعتم به من قبلهن من الأفعال المذكورة فآتوهن أجورهن لأجله أو بمقابلته والمراد بالأجور المهور فإنها أجور ابضاعهن

فريضة حال من الأجور بمعنى مفروضة أو نعت لمصدر محذوف أي ايتاء مفروضا أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة أي لهن عليكم

ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به أي لا اثم عليكم فيما تراضيتم به من الحط عن المهر أو الابراء منه على طريقة قوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه اثر قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن وقوله تعالى الا أن يعفون وتعميمه للزيادة على المسمى لايساعده رفع الجناح عن الرجال لأنها ليست مظنة الجناح الا ان يجعل الخطاب للأزواج تغليبا فإن أخذ الزيادة على المسمى مظنة الجناح على الزوجة

وقيل فيما تراضيتم به من نفقة ونحوها

وقيل من مقام أو فراق ولا يساعده قوله تعالى

من بعد الفريضة اذ لا تعلق لهما بالفريضة الا أن يكون الفراق بطريق المخالعة

وقيل نزلت في المتعة التي هي النكاح الى وقت معلوم من يوم أو أكثر سميت بذلك لأن الغرض منها مجرد الاستمتاع بالمرأة واستمتاعها بما يعطى وقد ابيحت ثلاثة ايام حين فتحت مكة شرفها اللّه تعالى ثم نسخت لما روى أنه عليه السلام أباحها ثم أصبح يقول يا أيها الناس اني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء الا أن اللّه حرم ذلك الى يوم القيامة

وقيل ابيح مرتين وحرم مرتين وروى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه رجع عن القول بجوازه عند موته وقال اللّهم اني أتوب اليك من قولي بالمتعة وقولي في الصرف

ان اللّه كان عليما في مصالح العباد

حكيما فيما شرع لهم من الأحكام ولذلك شرع لكم هذه الأحكام اللائقة بحالكم

٢٥

ومن لم يستطع منكم من اما شرطية ما بعدها شرطها أو موصولة ما بعدها صلتها والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل يستطع أي حال كونه منكم وقوله تعالى

طولا أو غنى وسعة أي اعتلاء ونيلا وأصله الزيادة أي اعتلاء والفضل مفعول ليستطع وقوله عز و جل

ان ينكح المحصنات المؤمنات اما مفعول صريح لطولا فإن اعمال المصدر المنون شائع ذائع كما في قوله تعالى أو اطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة كأنه قيل ومن لم يستطع منكم أن ينال نكاحهن

وأما بتقدير حرف الجر أي ومن لم يستطع منكم غني الى نكاحهن أو لنكاحهن فالجار في محل النصب صفة لطولا أي طولا موصلا اليه أو كائنا له أو على نكاحهن على أن الطول بمعنى القدرة في القاموس الطول والطائل والطائلة الفضل والقدرة والغنى والسعة ومحل أن بعد حذف الجار نصب عند سيبويه والفراء وجر عند الكسائي والأخفش

وأما بدل من طولا لأن الطول فضل والنكاح قدرة

وأما مفعول ليستطع وطولا مصدر مؤكد له لأنه بمعناه اذ الاستطاعة هي الطول أو تمييز أي ومن لم يستطع منكم نكاحهن استطاعته أو من جهة الطول والغنى أي لا من جهة الطبيعة والمزاج فإن عدم الاستطاعة من تلك الجهة لا تعلق له بالمقام والمراد بالمحصنات الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات فإن حريتهن احصنتهن عن ذل الرق والابتذال وغيرهما من صفات القصور والنقصان وقوله عز و جل

فمن ما ملكت ايمانكم اما جواب للشرط أو خبر للموصول والفاء لتضمنه معنى الشرط والجار متعلق بفعل مقدر حذف مفعوله وما موصولة أي فلينكح امرأة أو امة من النوع الذي ملكته ايمانكم وهو في الحقيقة متعلق بمحذوف وقع صفة لذلك المفعول المحذوف ومن تبعيضيه أي فلينكح امرأة كائنة من ذلك النوع

وقيل من زائدة والموصول مفعول للفعل المقدر أي فلينكح ما ملكته ايمانكم وقوله تعالى

من فتياتكم المؤمنات في محل النصب على الحالية من الضمير المقدر ملكت الراجع الى ما

وقيل هو المفعول للفعل المقدر على زيادة من ومما ملكت متعلق بنفس الفعل ومن لابتداء الغاية أو بمحذوف وقع حالا من فتياتكم ومن للتبعيض أي فلينكح فتياتكم كائنات بعض ما ملكت ايمانكم والمؤمنات صفة لفتياتكم على كل تقدير

وقيل هو المفعول للفعل المقدر ومما ملكت على ما تقدم آنفا ومن فتياتكم حال من العائد المحذوف وظاهر النظم الكريم يفيد عدم جواز نكاح الأمة للمستطيع كما ذهب اليه الشافعي رحمه اللّه تعالى وعدم جواز نكاح الأمة الكتابية اصلا كما هو رأي أهل الحجاز وقد جوزهما أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى متمسكا بالعمومات فمحمل الشرط والوصف هو الأفضلية ولا نزاع فيها لأحد وقد روى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أنه قال ومما وسع اللّه على هذه الأمة نكاح الأمة واليهودية والنصرانية وإن كان موسرا وقوله تعالى

واللّه أعلم بإيمانكم جملة معترضة جئ بها لتأنيسهم بنكاح الإماء واستنزالهم من رتبة الاستنكاف منه ببيان أن مناط التفاضل ومدار التفاخر هو الإيمان دون الأحساب والأنساب على ما نطق به قوله عز قائلا يأيها الناس إنا خلقنالكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم والمعنى أنه تعالى اعلم منكم بمراتبكم في الإيمان الذى به تنتظم احوال العباد وعليه يدور فلك المصالح في المعاش والمعاد ولا تعلق له بخصوص الحرية والرق فرب امة يفوق إيمانها إيمان الحرائر وقوله تعالى

بعضكم من بعض إن أريد به الاتصال من حيث الدين فهو بيان لتناسبهم من تلك الحيثية إثر بيان تفاوتهم في ذلك وإن أريد به الاتصال من حيث النسب فهو اعتراض آخر مؤكد للتأنيس من جهة أخرى والخطاب في الموضعين إما لمن كما في الخطاب الذي يعقبه قد روعى فيما سبق جانب اللفظ وههنا جانب المعنى والالتفات للاهتمام بالترغيب والتأنيس

وأما لغيرهم من المسلمين كالخطابات السابقة لحصول الترغيب بخطابهم أيضا وإياما كان فإعادة الأمر بالنكاح على وجه الخطاب في قوله تعالى

فانكحوهن مع انفهامه من قوله تعالى فمما ملكت أيمانكم حسبما ذكر لزيادة الترغيب في نكاحهن وتقييده بقوله تعالى

بإذن أهلهن وتصديره بالفاء للإيذان بترتبه على ما قبله أي وإذ قد وقفتم على جلية الأمر فانكحوهن بإذن مواليهن ولاتترفعوا عنهن وفي اشتراط إذن الموالى دون مباشرتهم للعقد إشعار بجواز مباشرتهن له

وآتوهن اجورهن أي مهورهن

بالمعروف متعلق بآتوهن أي أدوا أليهن مهورهن بغير مطل وضرار والجاء إلى الاقتضاء واللز حسبما يقتضيه الشرع والعادة ومن ضرورته ان يكون الأداء إليهن بإذن الموالى فيكون ذكر إيتائهن لبيان جواز الأداء إليهن لا لكون المهور لهن

وقيل أصله آتوا مواليهن فحذف المضاف وأوصل الفعل إلى المضاف إليه

محصنات حال من مفعول فانكحوهن أي حال كونهن عفائف عن الزنا

غير مسافحات حال مؤكدة أى غير مجاهرات به

ولا متخذات اخدان عطف على مسافحات ولا لتأكيد ما في غير من معنى النفى الخدن الصاحب قال أبو زيد الأخدن الأصدقاء على الفاحشة والواحد خدن وخدين والجمع للمقابلة بالانقسام على معنى ان لا يكون لواحدة منهن خدن لا على معنى أن لا يكون لها أخدان أي غير مجاهرات بالزنا ولا مسرات له وكان الزنا في الجاهلية منقسما إلى هذين القسمين

فإذا أحصن أى بالتزويج وقرئ على البناء للفاعل أي أحصن فروجهن أو أزواجهن

فإن أتين بفاحشة أى فعلن فاحشة وهى الزنا

فعليهن فثابت عليهن شرعا

نصف ما على المحصنات أى الحرائر الأبكار

من العذاب من الحد الذي هو جلد مائة فنصفه خمسون كما هو كذلك قبل الإحصان فالمراد بيان عدم تفاوت حدهن بالاحصان كتفاوت حد الحرائر فالفاء في فإن أتين جواب إذا والثانية جواب أن والشرط الثاني مع جوابه مترتب على وجود الأول كما في قولك إذا اتيتنى فإن لم أكرمك فعبدى حر

ذلك أى نكاح الإماء

لمن خشى العنت منكم أى لمن خاف وقوعه في الإثم الذي تؤدى إليه غلبة الشهوة وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر يعترى الإنسان بعد

صلاح حاله ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم بارتكاب أفحش القبائح

وقيل أريد به الحد لأنه إذا هويها يخشى أن يواقعها فيحد والأول هو اللائق بحال المؤمن دون الثاني لإبهامه أن المحذور عنده الحد لا ما يوجبه

وأن تصبروا أى عن نكاحهن متعففين كافين أنفسكم عما تشتهيه من المعاصى

خير لكم من نكاحهن وإن سبقت كلمة الرخصة فيه لما فيه من تعريض الولد للرق قال عمر رضى اللّه عنه إيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه وقال سعيد بن جبير ما نكاح الأمة من الزنا إلا قريب ولآن حق المولى فيها أقوى فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر ولأن المولى يقدر على استخدامها كيفما يريد في السفر والحضر وعلى بيعها للحاضر والبادى وفيه من اختلال حال الزوج وأولاده مالا مزيد عليه ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة وذلك كله ذل ومهانة سارية إلى الناكح والعزة هي اللائقة بالمؤمنين ولأن مهرها لمولاها فلا تقدر على التمتع به ولا على هبته للزوج فلا ينتظم أمر المنزل وقد قال الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت

واللّه غفور مبالغ في المغفرة فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن مافى ذلك من الأمور المنافية لحال المؤمنين

رحيم مبالغ في الرحمة ولذلك رخص لكم في نكاحهن

 يريد اللّه ليبين لكم استئناف مسوق لتقرير ما سبق من الأحكام وبيان كونها جارية على مناهج المهتدين من الأنبياء والصالحين قيل أصل النظم الكريم يريد اللّه أن يبين لكم فزيدت اللام لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرداة ومفعول يبين محذوف ثقة بشهادة السباق والسياق اى يريد اللّه أن يبين لكم ما هو خفى عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم أو ما تعبدكم به من الحلال والحرام

وقيل مفعول يريد محذوف تقديره يريد اللّه تشريع ما شرع من التحريم والتحليل لأجل التبيين لكم وهذا مذهب البصريين ويعزى إلى سيبوية

وقيل إن اللام بنفسها ناصبة للفعل من غير إضمار ان وهي وما بعدها مفعول للفعل المتقدم فإن اللام قد تقام مقام ان في فعل الإرادة والأمر فيقال أؤدت لأذهب وأن أذهب وأمرتك لتقوم وإن تقوم قال تعالى يريدون ليطفئوا نور اللّه وفي موضع يريدون أن يطفئوا وقال تعالى وأمرنا لنسلم وفي موضع وأمرت أن أسلم وفي آخر وأمرت لأعدل بينكم اى ان أعدل بينكم وهذا مذهب الكوفيين ومنعه البصريون وقالوا إن وظيفة اللام هي الجر والنصب فيما قالوا بإضمار أن أى أمرنا بما أمرنا لنسلم ويريدون ما يريدون ليطفئو

وقيل يؤول الفعل الذي قبل اللام بمصدر مرفوع بالابتداء ويجعل ما بعده خبرا له كما في تسمع بالمعيدى خير من ان تراه أى ان تسمع به ويعزى به هذا الرأى إلى بعض البصريين

ويهديكم سنن الذين من قبلكم من الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم

ويتوب عليكم إذا تبتم إليه تعالى عما يقع منكم من النقصير والتفريط في مراعاة ماكلفتموه من الشرائع فإن المكلف قلما يخلو من تقصير يستدعى تلافيه بالتوبة ويغفر لكم ذنوبكم أو يرشدكم إلى ما يردعكم عن المعاصى ويحثكم على التوبة أو إلى ما يكون كفارة لسيئاتكم وليس الخطاب لجميع المكلفين حتى يتخلف مراده تعالى عن إرادته فيمن لم يتب منهم بل لطائفة معينة حصلت لهم هذه التوبة

واللّه عليم مبالغ في العلم بالأشياء التى من جملتها ما شرع لكم من الأحكام

حكيم مراع في جميع أفعالة الحكمة والمصلحة

٢٧

واللّه يريد أن يتوب عليكم جملة مبتدأة مسوقة لبيان كمال منفعة ما أراده اللّه تعالى وكمال مضرة مايريد الفجرة لا لبيان إراداته تعالى لتوبته عليهم حتى يكون من باب التكرير للتقرير ولذلك غير الأسلوب إلى الجملة الاسمية دلالة على دوام الإرادة ولم يفعل ذلك في قوله تعالى

ويريد الذين يتبعون الشهوات للإشارة إلى الحدوث وللإيماء إلى كمال المباينة مضمونى الجملتين كما مر في قوله تعالى اللّه ولى الذين آمنوا الآية والمراد بمبتعى الشهوات الفجرة فإن اتباعها الائتمار بها

وأما المتعاطى لما سوغه الشرع من المشهيات دون غيره فهو متبع له لا لها

وقيل هم اليهود والنصارى

وقيل هم المجوس حيث كانوا يحلون الأخوات من الأب وبنات الخ وبنات الأخت فلما حرمهن اللّه تعالى قالوا فإنكم تحلون بنت الخالة وبنت العمة مع أن العمة والخالة عليكم حرام فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلت

أن تميلوا عن الحق بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات وتكونوا زناة مثلهم وقرئ بالياء التحتانية والضمير للذين يتبعون الشهوات

ميلا عظيما أى بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة على ندرة بلا استحلال

٢٨

يريد اللّه أن يخفف عنكم بما مر من الرخص ما في عهدتكم من مشاق التكاليف والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب

وخلق الإنسان ضعيفا عاجزا عن مخالفة هواه غير قادر على مقابلة دواعيه وقواه حيث لا يصبر عن اتباع الشهوات ولا يستخدم قواه في مشاق الطاعات وعن الحسن أن المراد ضعف الخلقة ولا يساعده المقام فإن الجلمة اعتراض تذييلى مسوق لتقرير ما قبله من التخفيف بالرخصة في نكاح الإماء وليس لضعف البنية مدخل في ذلك وإنما الذى يتعلق به التخفيف في العبادات الشاقة

وقيل المراد به ضعفه في أمر النساء خاصة حيث لا يصبر عنهن وعن سعيد بن المسيب ما أيس الشيطان من بنى آدم قط إلا أتاهم من قبل النساء فقد اتى على ثمانون سنة وذهبت إحدى عينى وانا أعشوا بالأخرى وإن أخوف ما أخاف على فتنة النساء وقرا ابن عباس رضى اللّه عنهما وخلق الإنسان على البناء للفاعل والضمير له عز و جل وعنه رضى اللّه عنه ثمانى آيات في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت يريد اللّه ليبين لكم واللّه يريد أن يتوب عليكم يريد اللّه أن يخفف عنكم إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء إن اللّه لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ما يفعل اللّه بعذابكم إن شكرتم وآمنتم

٢٩

يأيها الذين أمنوا لاتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل شروع في بيان بعض الحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس إثر بيان الحرمات المتعلقة بالأبضاع وتصدير الخطاب بالنداء والتنبيه لإظهار كمال العناية بمضمونه والمراد بالباطل ما يخالف الشرع كالغصب والسرقة والخيانة والقمار وعقود الربا وغير ذلك مما لم يبحة الشرع أى لا يأكل بعضكم اموال بعض بغير طريق شرعى

إلا ان تكون تجارة عن تراض منكم استثناء منقطع وعن متعلقة بمحذوف وقع صفة لتجارة أى إلا ان تكون التجارة تجارة صادرة عن تراض كما في قوله

 ... إذا كان يوما ذا كواكب اشنعا ...

أي إذا كان اليوم يوما الخ أو الاأن تكون الأموال أموال تجارة وقرئ تجارة بالرفع على أن كان تامة أى ولكن اقصدوا كون تجارة عن تراض أى وقوعها أو ولكن وجود تجارة عن تراض غير منهى عنه وتخصيصها بالذكر من بيان سائر أسباب الملك لكونها معظمها وأغلبها وقوعا وأوافقها لذوى المروءات والمراد بالتراضى مراضاة المتبايعين فيما تعاقدا عليه في حال المبايعة وقت الإيجاب والقبول عندنا وعند الشافعى رحمه اللّه حالة الاقتراق عن مجلس العقد

ولا تقتلوا أنفسكم أى من كان من جنسكم من المؤمنين فإن كلهم كنفس واحدة وعن الحسن لاتقتلوا إخوانكم والتعبير عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعله عاقل أولا تهلكوا أنفسكم بتعريضها للعقاب باقتراف ما يفضى إليه فإنه القتل الحقيقى لها كما يشعر به إيراده عقيب النهى عن أكل الحرام فيكون مقررا للنهى السابق

وقيل لاتقتلوا أنفسكم بالبخع كما يفعله بعض الجهلة أو بارتكاب ما يؤدى إلى القتل من الجنايات

وقيل بإلقائها في التهلكة وايد بما روى عن عمر بن العاص انه تأوله بالتيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه النبى وقرئ ولا تقتلوا بالتشديد للتكثير وقد جمع في التوصية بين حفظ النفس وحفظ المال لما أنه شقيقها من حيث أنه سبب لقوامها وتحصيل كمالاته واستيفاء فضائلها وتقديم النهى عن التعرض له لكثرة وقوعه

إن اللّه كان بكم رحيما تعليل للنهى بطريق الاستئناف أى مبالغا في الرحمة والرأفة ولذلك نهاكم عما نهى فإن ذلك رحمة عظيمة لكم بالزجر عن المعاصى وللذين هم في معرض التعرض لهم بحفظ أموالهم وانفسهم

وقيل معناه إنه كان بكم يا أمة محمد رحيما حيث امر بنى إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم ولم يكلفكم تلك التكاليف الشاقة

٣٠

ومن يفعل ذلك إشارة إلى القتل خاصة أو لما قبله من أكل الأموال وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهما في الفساد

عدوانا وظلما أى إفراطا في التجاوز عن الحد وإتيانا بما لا يستحقه

وقيل أريد بالعدوان التعدى على الغير بالظلم الظلم على النفس بتعريضها للعقاب ومحلها النصب على الحالية أو على العلية أى معتديا وظالما أوللعدوان والظلم وقرئ عدوانا بكسر العين

فسوف نصليه جواب للشرط أى ندخله وقرئ بالتشديد من صلى وبفتح النون من صلاة يصليه ومنه شاة مصلية ويصليه بالياء والضمير للّه تعالى أو لذلك من حيث غنه سبب للصلى

نارا أى نارا مخصوصة هائلة شديدة العذاب

وكان ذلك أى إصلاؤه النار

على اللّه يسيرا لتحقق الداعى وعدم الصارف وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلى

٣١

إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه أى كبائر الذنوب التى نهاكم الشرع عنها مما ذكر ههنا ومالم يذكر وقرئ كبير على إرادة الجنس

نكفر عنكم بنون العظمة على طريقة الالتفات وقرئ بالياء بالإسناد إليه تعالى والتكفير إما طة المستحق من العقاب بثواب أزيد أو بتوبة أى نغفر لكم

سيئاتكم صغائركم ونمحها عنكم قال المفسرون الصلاة إلى الصلاة والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن من الصغائر إذا اجتنبت الكبائر واختلف في الكبائر والأقرب ان الكبيرة كل ذنب رتب الشارع عليه الحد أو صرح بالوعيد

وقيل ما علم حرمته بقاطع وعن النبى انها سبع الإشراك باللّه تعالى وقتل النفس التى حرمها اللّه تعالى وقذف المحصنات وأكل مال اليتيم والربا والفرار من الزحف وعقوق الوالدين وعن على رضى اللّه عنه التعقب بعد الهجرة مكان عقوق الوالدين وزاد ابن عمر رضى اللّه عنهما السحر واستحلال البيت الحرام وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما أن رجلا قال له الكبائر سبع قال هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع روى عنه إلى سبعين إذ لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار

وقيل أريد به أنواع الشرك لقوله تعالى إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء

وقيل صغر الذنوب وكبرها بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها وبحسب فاعلها بل بحسب الأوقات والأماكن أيضا فأكبر الكبائر الشرك وأصغر الصغار حديث النفس وما بينهما وسايط يصدق عليه الأمر أن فمن عن له أمر أن منها ودعت نفسه إليهما بحيث لا يتمالك فكفها عن أكبرهما كفر عنه ما ارتكبه لمااستحق على اجتناب الأكبر من الثواب

وندخلكم مدخلا بضم الميم اسم مكان هو الجنة

كريما أى حسنا مرضيا أو مصدر ميمى أى ادخالا مع كرامة وقرئ بفتح الميم وهو أيضا يحتمل المكان والمصدر ونصبه على الثاني بفعل مقدر مطاوع للمذكور أى ندخلكم فتدخلون مدخلا أو دخولا كريما كما في قوله

 ... وعضة دهر يأبن مروان لم تدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف ...

أي لم تدع فلم يبق إلا مسحت الخ

٣٢

ولا تتمنوا ما فضل اللّه به بعضكم على بعض أى عليكم ولعل إيثار الإبهام عليه للتفادى عن المواجهة بما يشق عليهم قال القفال لما نهاهم اللّه تعالى عن أكل أموال الناس بالباطل وقتل الأنفس عقبة بالنهى عما يؤدى إليه من الطمع في أموالهم وتمنيها

وقيل نهاهم أولا عن التعرض لأموالهم بالجوارح ثم عن التعرض لها بالقلب على سبيل الحسد لتطهير أعمالهم الظاهرة والباطنة فالمعنى لاتتمنوا ما أعطاه اللّه تعالى بعضكم من الأمور الدنيوية كالجاه والمال وغير ذلك مما يجرى فيه التنافس دونكم فإن ذلك قسمة من اللّه تعالى صادرة عن تدبير لائق بأحوال العباد مترتب على الإحاطة بجلائل شئونهم ودقائقها فعلى كل أحد من المفضل عليهم أن يرضى بما قسم اللّه له ولا يتمنى حظ المفضل ولا يحسده عليه لما أنه معارضة لحكم القدر المؤسس على الحكم البالغة لالأن عدمه خير له ولالأنه لو كان خلافة لكان مفسدة له كما قيل إذ لا يساعده ما سيأتى من الأمر بالسؤال من فضله تعالى فإنه ناطق بأن المنهى عنه تمنى نصيب الغير لاتمنى مازاد على نصيبه مطلقا هذا وقد قيل لما جعل اللّه تعالى في الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء نحن أحوج أن يكون لنا سهمان وللرجال سهم واحد لأنا ضعفاء وهم أقوياء وأقدر على طلب المعاش منا فنزلت وهذا هو الأنسب بتعليل النهى بقوله عز و جل

للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما الكتسبن فإنه صريح في جريان التمنى بين فريقى الرجال والنساء ولعل صيغة المذكر في النهى لما عبر عنهن بالبعض والمعنى لكل من الفريقين في الميراث نصيب معين المقدار مما أصابه بحسب استعداده وقد عبر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارة التبعية المبنية على تشبيه اقتضاء حاله لنصيبه باكتسابه اياه تأكيدا لاستحقاق كل منهما لنصيبه وتقوية لاختصاصه به بحيث لايتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجبه الانتهاء عن التمنى المذكور وقوله تعالى

واسألوا اللّه من فضله عطف على النهى وتوسيط التعليل بينهما لتقرير الانتهاء مع ما فيه من الترغيب في الامتثال بالأمر كأنه قيل لاتتمنوا ما يختص بغيركم من نصيبه المكتسب له واسألوا اللّه تعالى من خزائن نعمة التى لانفاد لها وحذف المفعول الثاني للتعميم أى واسألوه ما تريدون فإنه تعالى يعطيكموه أو لكونه معلوما من السياق أى واسألوه مثله

وقيل من زائدة والتقدير وأسألوه فضله وقد جاء في الحديث لا يتمنين أحدكم مال أخيه ولكن ليقل اللّهم ارزقنى اللّهم اعطنى مثله وعن ابن مسعود رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال سلوا اللّه من فضله فإنه يحب أن يسأل وافضل العبادة انتظار الفرج وحمل النصيب على الأجر الأخروي وإبقاء الاكتساب على حقيقته بجعل سبب النزول ما روى أن أم سلمة رضي اللّه عنها قالت ليت اللّه كتب علينا الجهاد كما كتبه على الرجال فيكون لنا من الأجر مثل ما لهم على أن المعنى لكل من الفريقين نصيب خاص به من الأجر مترتب على عمله فللرجال أجر بمقابلة ما يليق بهم من الأعمال كالجهاد ونحوه وللنساء أجر بمقابلة ما يليق بهن من الأعمال كحفظ حقوق الأزواج ونحوه فلا تتمنى النساء خصوصية أجر الرجال وليسألن من خزائن رحمته تعالى ما يليق بحالهن من الأجر لا يساعده سياق النظم الكريم المتعلق بالمواريث وفضائل الرجال

إن اللّه كان بكل شئ عليما ولذلك جعل الناس على طبقات ورفع بعضهم على بعض درجات حسب مراتب استعداداتهم الفائضه عليهم بموجب المشيئه المبنية على الحكم الأبية

٣٣

ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والأقربون جملة مبتدأة مقررة لمضمون ما قبلها ولكل مفعول ثان لجعلنا قدم عليه لتأكيد الشمول ودفع توهم تعلق الجهل بالبعض دون البعض كما في قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا أى ولكل تركة جعلنا ورثة متفاوتة في الدرجة يلونها ويحرزون منها أنصباءهم بحسب استحقاقهم المنوط بما بينهم وبين المورث من العلاقة ومما ترك بيان لكل قد فصل بينهما بما عمل فيه كما فصل في قوله تعالى قل أغير اللّه أتخذ وليا فاطر السموات والأرض بين لفظ الجلالة وبين صفته بالعامل فيما أضيف إليه أعنى غير أو ولكل قوم جعلناهم موالى اى وراثا نصيب معين مغاير لنصيب قوم آخرين مما ترك الوالدان والأقربون على أن جعلنا موالى صفة لكل والضمير الراجع إليه محذوف والكلام مبتدأ وخبر على طريقة قولك لكل من خلقه اللّه إنسانا من رزق اللّه أى حظ منه

وأما ما قيل من أن المعنى لكل أحد جعلنا موالى مما ترك اى وراثا منه على أن من صلة موالى لأنه في معنى الوارث ضمير مستكن عائد إلى كل وقوله تعالى الوالدان والأقربون استئناف مفسر للموالى كأنه قيل من هم فقيل الوالدان الخ ففيه تفكيك للنظم الكريم لأن ببيان الموالى بما ذكر يفوت الإبهام المصحح لاعتبار التفاوت بينهم وبه يتحقق الانتظام كما أشير إليه في تقرير الوجهين الأولين مع ما فيه من خروج الأولاد من الموالى إذ لا يتناولهم الأقربون كما لا يتناول الوالدين

والذين عقدت أيمانكم هم موالى الموالاة كان الحليف يورث السدس من مال حليفه فنسخ بقوله تعالى وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وعند أبي حنيفه رحمه اللّه إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على ان يرثه ويعقل عنه صح وعليه عقله وله إرثه إن لم يكن له وارث أصلا وإسناد العقد إلى الإيمان لأن المعتاد هو المماسحه بها عند العقد والمعنى عقدت أيمانكم وما سحتموه وهو مبتدأ مضمن لمعنى الشرط ولذلك صدر الخبر أعنى قوله تعالى

فآتوهم نصيبهم بالفاء أو منصوب بمضمر يفسره ما بعده كقولك زيدا فاضربه أو مرفوع معطوف على الوالدان والأقربون وقوله تعالى فآتوهم الخ جمله مبينة للجمله قبلها ومؤكدة لها والضمير للموالى

إن اللّه كان على كل شئ من الأشياء التي من جملتها الإيتاء والمنع

شهيدا ففيه وعد ووعيد

٣٤

الرجال قوامون على النساء كلام مستأنف مسوق لبيان سبب استحقاق الرجال الزيادة في الميراث تفصيلا إثر بيان تفاوت استحقاقهم إجمالا وإيراد الجمله اسميه والخبر على صيغة المبالغة للإيذان بعراقتهم في الاتصاف بما أسند إليهم ورسوخهم فيه أى شأنهم القيام عليهن بالأمر والنهى قيام الولاة على الرعية وعلل ذلك بأمرين وهبى وكسبى فقيل

بما فضل اللّه بعضهم على بعض الباء سببية متعلقة بقوامون أوبمحذوف وقع حالا من ضميره وما مصدرية والضمير البارز لكلا الفريقين تغليبا أى قوامون عليهن بسبب تفضبل اللّه تعالى إياهم عليهن أو ملتبسين بتفضيله تعالى الخ ووضع البعض موضع الضميرين للإشعار بغاية ظهور الأمر وعدم الحاجة إلى التصريح بالمفضل والمفضل عليه أصلا ولمثل ذلك لم يصرح بما به التفضيل من صفات كماله التي هي كمال العقل وحسن التدبير ورزانة الرأى ومزيد القوة في الأعمال والطاعات ولذلك خصوا بالنبوة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر والشهادة في جميع القضايا ووجوب الجهاد والجمعة وغير ذلك

وبماأنفقوا من أموالهم الباء متعلقة بما تعلقت به الأولى وما مصدرية أو موصولة حذف عائدها من الصلة ومن تبعيضية أو ابتدائية متعلقة بأنفقوا أو بمحذوف وقع حالا من العائد المحذوف أى وبسبب إنفاقهم من أموالهم أو بسبب ما أنفقوه من أموالهم أو كائنا من أموالهم وهو ما أنفقوه من المهر والنفقة روى أن سعد ابن الربيع أحد نقباء الأنصار رضي اللّه عنهم نشزت عليه امراته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وشكا فقال عليه السلام لتقتص منه فنزلت فقال عليه السلام أردنا أمرا وأراد اللّه أمرا والذي أراده اللّه خير

فالصالحات شروع في تفصيل أحوالهن وبيان كيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن أى فالصالحات منهن

قانتات أى مطيعات للّه تعالى قائمات بحقوق الأزواج

حافظات للغيب أى لموجب الغيب أى لما يجب عليهن حفظه في حال غيبة الأزواج من الفروج والأموال عن النبي صلى اللّه عليه و سلم خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها وتلا الآية

وقيل لأسرارهم وإضافة المال إليها ىللإشعار بأن ماله في حق التصرف في حكم مالها كما في قوله تعالى ولا تؤتوا السفاء أموالكم الآية

بما حفظ اللّه ما مصدرية أى بحفظه تعالى إياهم بالأمر بحفظ الغيب والحث عليه بالوعد والوعيد والتوفيق له أو موصولة أى بالذي حفظ اللّه لهن عليهم من المهر والنفقة والقيام بحفظهن والذب عنهن وقرئ بما حفظ اللّه بالنصب على حذف المضاف أى بالأمر الذي حفظ حق اللّه تعالى وطاعته وهو التعفف والشفقة على الرحال

واللآتى تخافون نشوزهن خطاب للأزواج وإرشاد لهم إلى طريق القيام عليهن والخوف حالة تحصل في القلب عند حدوث أمر مكروه أو عند الظن أو العلم بحدوثه وقد يراد به أحدهما أى تظنون عصيانهن وترفعهن عن مطاوعتكم من النشز وهو المرتفع من الأرض

فعظوهن فانصحوهن بالترغيب والترهيب

واهجروهن بعد ذلك إن لم ينفع الوعظ والنصيحة

في المضاجع أى في المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف ولا تباشروهن فيكون كناية عن الجمع

وقيل المضاجع المبايت أى لا تبايتوهن وقرئ في المضجع وفي المضطجع

واضريوهن أن لم ينجح ما فعلتم من العظة والهجران ضربا غير مبرح ولا شائن

فإن أطعنكم بذلك كما هو الظاهر لأنه منتهى ما يعد زاجرا

فلا تبغوا عليهن سبيلا بالتوبيخ والأذية أى فأزيلوا عنهن التعرض واجعلوا ما كان منهن كأنه لم يكن فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له

إن اللّه كان عليا كبيرا فاحذروه فإنه تعالى أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم أو أنه تعالى على علو شانه يتجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم عند توبتكم فأنتم أحق بالعفو عن أزواجكم عند إطاعتهن لكم أوأنه يتعالى ويكبر أن يظلم أحدا أو ينقص حقه وعدم التعرض لعدم إطاعتهن لهم للإيذان بأن ذلك ليس مما ينبغى أن يتحقق أو يفرض تحققه وأن الذى يتوقع منهن ويليق بشأنهن لاسيما بعد ما كان من الزواجر هو الإطاعة ولذلك صدرت الشرطية بالفاء المنبئة عن سببية ما قبلها لما بعدها

٣٥

وإن خفتم شقاق بينهما تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الحكام وارد على بناء

الأمر على التقدير المسكوت عنه اعنى عدم الإطاعة المؤدى إلى المخاصمة والمرافعة إليهم والشقاق المخالفة إما لأن كلا منهما يريد ما يشق على الآخر

وأما لأن كلا منهما في شق أي جانب غير شق الآخر والخوف ههنا بمعنى العلم قاله ابن عباس والجزم بوجود الشقاق لا ينافى بعث الحكمين لأنه لرجاء إزالته لالتعرف وجوده بالفعل

وقيل بمعنى الظن وضمير الثنية للزوجين وإن لم يجر لهما ذكر لجرى مايدل عليها وإضافة الشقاق إلى الظرف إما على إجرائه مجرى المفعول به كما في قوله

 ... يا سارق الليلة ...

أو مجرى الفاعل كما في قولك نهاره صائم أى إن علمتم أو ظننتم تأكد المخالفة بحيث لا يقدر الزوج على إزالتها

فابعثوا أى إلى الزوجين لإصلاح ذات البين

حكما رجلا وسطا صالحا للحكومة والإصلاح

من أهله من أهل الزوج

وحكما آخر على صفة الأول

من أهلها فإن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح وهذا على وجه الاستحباب فلو نصبا من الأجانب جاز واختلف في أنهما هل يليان الجمع والتفريق إن رأيا ذلك فقيل لهما ذلك وهو المروى عن على رضى اللّه عنه وبه قال الشعبى وعن الحسن يجمعان ولا يفرقان وقال مالك لهما أن يتخالعا إن كان الصلاح فيه

إن يريدا أى الحكمان

أصلاحا أى إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه اللّه تعالى

يوفق اللّه بينهما يوقع بين الزوجين الموافقة والألفة وألقى في نفوسهما المودة والرأفة وعدم التعرض لذكر عدم إرادتهما الإصلاح لما ذكر من الإيذان بان ذلك ليس مما ينبغى أن يفرض صدوره عنهما وأن الذي يليق بشانهما ويتوقع صدوره عنهما هو إرادة الإصلاح وفيه مزيد ترغيب للحكمين في الإصلاح وتحذير عن المساهلة كيلا ينسب اختلال الأمر إلى عدم إرادتهما فإن الشرطية الناطقة بدور أن وجود التوفيق على وجود الإرادة منبئة عن دوران عدمه على عدمها

وقيل كلا الضميرين للحكمين أى إن قصد الإصلاح يوفق اللّه بينهما فتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما

وقيل كلاهما للزوجين أى إن إرادا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع اللّه تعالى بينهما الألفة والوفاق وفيه تنبيه على ان من أصلح نيته فيما يتوخاه وفقة اللّه لمبتغاه

إن اللّه كان عليما خبيرا بالظواهر والبواطن فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق

٣٦

واعبدوا اللّه ولاتشركوا به شيئا كلام مبتدأ مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بحقوق الوالدين والأقارب ونحوهم أثر بيان الأحكام المتعلقة بحقوق الأ زروج صدر بما يتعلق بحقوق اللّه عز و جل التى هي آكد الحقوق وأعظمهما تنبيها على جلالة شأن حقوق الوالدين بنظمها في سلكها كما في سائر المواقع وشيئا نصب على أنه مفعول أى لاتشركوا به شيئا من الأشياء صنما أو غيره أو على أنه مصدر أى لاتشركوا به شيئا من الإشراك جليا أو خفيا

وبالوالدين إحسانا أى أحسنوا بهما إحسانا

وبذى القربى أى بصاحب القرابة من أخ أو عم أو خال أو نحو ذلك

واليتامى والمساكين من الأجانب

والجار ذى القربى أى الذي قرب جواره

وقيل الذي له مع الجوار قرب واتصال بنسب أودين وقرئ بالنصب على الاختصاص تعظيما لحق الجار ذى القربى

والجار الجنب أى البعيد أو الذى لا قرابة له وعنه عليه الصلاة و السلام الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجار له حقان حق الجوار وحق الإسلام وجار له حق واحد وهو حق الجوار وهو الجار من أهل الكتاب وقرئ والجار الجنب

والصاحب بالجنب أى الرفيق في امر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر فإنه صحبك وحصل بجانبك ومنهم من قعد بجنبك في مسجد أو مجلس أو غير ذلك من ادنى صحبة التأمت بينك وبينه

وقيل هى المرأة

وابن السبيل هو المسافر المنقطع به أو الضيف

وما ملكت إيمانكم من العبيد والإماء

أن اللّه لا يحب من كان مختالا أى متكبرا يانف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولايلتفت إليهم

فخورا يتفاخر عليهم والجملة تعليل للآمر السابق

٣٧

الذين يبخلون ويامرون الناس بالبخل بضم الباء وسكون الخاء وقرئ بفتح الأول وبفتحهما وبضمهما والموصول بدل من قوله تعالى من كان أو نصب على الذم أو رفع عليه أى هم الذين أو مبتدأ خبره محذوف تقديره الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون احقاء بكل ملامة

يكتمون ما آتاهم اللّه من فضله أى من المال والغنى أو من نعوته عليه السلام التى بينها لهم في التوراة وهو أنسب بأمرهم للناس بالبخل فإن أحبارهم كانوا يكتمونها ويأمرون أعقابهم بكتمها

وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة اللّه تعالى ومن كان كافرا بنعمة اللّه تعالى فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء والاية نزلت في طائفة من اليهود وكانوا يقولون للأنصار بطريق النصيحة لاتنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر

وقيل في الذين كتموا نعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم والجملة اعتراض تذييلى مقرر لما قبلها

٣٨

والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس اى للفخار وليقال ما أسخاهم وما اجودهم لا لابتغاء وجه اللّه تعالى وهو عطف على الذين يبخلون أو على الكافرين وإنما شاركوهم في الذم والوعيد لأن البخل والسرف الذي هو الإنفاق فيما لا ينبغى من حيث أنهما طرفا تفريط وإفراط سواء في القبح واستتباع اللائمة والذم ويجوز أن يكون العطف بناء على إجراء التغاير الوصفى مجرى التغاير الذاتي كما في قوله

 ... إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتائب في المزدحم ...

اومبتدأ خبره محذوف يدل عليه قوله تعالى ومن يكن الخ كأنه قيل والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس

ولايؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ليتحروا بالإنفاق مراضيه تعالى وثوابه وهم مشركو مكة المنفقون أموالهم في عداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم

وقيل المنافقون

ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا أى فقرينهم الشيطان وإنما حذف للإيذان بظهوره واستغنائه عن التصريح به والمراد به إبليس وأعوانه حيث حملوها على تلك القبائح وزينوها لهم كما في قوله تعالى إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ويجوز ان يكون وعيدا لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار

٣٩

وماذا عليهم أى على من ذكر من الطوائف

لو آمنوا باللّه واليوم الآخر وانفقوا مما رزقهم اللّه أى ابتغاء لوجه اللّه تعالى وإنما لم يصرح به تعويلا على التفصيل السابق واكتفاء بذكر الإيمان باللّه واليوم الآخر فإنه يقتضى أن يكون الأنفاق لابتغاء وجهه تعالى وطلب ثوابه البتة أى ماالذى عليهم أو وأى تبعه ووبال عليهم في الإيمان باللّه والإنفاق في سبيله وهو توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشئ بخلاف ما هو عليه وتحريض على التفكر لطلب الجواب لعله يؤدى بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة والعوائد الجميلة وتنبيه على أن المدعو إلى أمر لاضرر فيه ينبغى أن يجيب إليه احتياطا فكيف إذا كان فيه منافع لاتحصى وتقديم الإيمان بهما لأهمية في نفسه ولعدم الاعتداد بالإنفاق بدونه

وأما تقديم إنفاقهم رئاء الناس على عدم إيمانهم بهما مع كون المؤخر أقبح من المقدم فلرعاية المناسبة بين إنفاقهم ذلك وبين ما قبله من بخلهم وأمرهم للناس به

وكان اللّه بهم وبأحوالهم المحققة

عليما فهو وعيد لهم بالعقاب أو بأعمالهم المفروضة فهو بيان لإثابته تعالى إياهم لو كانوا قد آمنوا وأنفقوا كما ينبئ عنه قوله تعالى

٤٠

أن اللّه لا يظلم مثقال ذرة المثقال مفعال من الثقل كالمقدار من القدر وانتصابه على أنه نعت للمفعول قائم مقامه سواء كان الظلم بمعنى النقص أو بمعنى وضع الشئ في غير موضعه أى لا ينقص من الأجر ولايزيد في العقاب شيئا مقدار ذرة أو على انه نعت للنصدر المحذوف نائب منابه أى لا يظلم ظلما مقدار ذرة وهي النملة الصغيرة أو كل جزء من أجزاء الهباء في الكوة وهو الأنسب بمقام المبالغة فإن قلته في الثقل أظهر من قلة النملة فيه وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما أنه أدخل يده في التراب ثم نفخ فيه فقال كل واحد من هؤلاء ذرة

وإن تك حسنة أى وإن تك مثقال ذرة حسنة أنث لتأنيث الخبر أو لإضافته إلى الذرة وحذف النون من غير قياس تشبيها بحروف العلة وتخفيفا لكثرة الاستعمال وقرئ حسنة بالرفع على أن كان تامة

يضاعفها أى يضاعف ثوابها جعل ذلك مضاعفة لنفس الحسنة تنبيها على كمال الاتصال بينهما كأنهما شئ واحد وقرئ يضعفها وكلاهما بمعنى واحد وقرئ نضاعفها بنون العظمة على طريقة الالتفات عن عثمان النهدى أنه قال لأبى هريرة رضى اللّه عنه بلغنى عنك انك تقول سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول إن اللّه تعالى يعطى عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة قال أبو هريرة لابل سمعته يقول يعطيه ألفى ألف حسنة ثم تلا هذه الآية الكريمة والمراد الكثرة لا التحديد

ويؤت من لدنه ويعط صاحبها من عنده على نهج التفضل زائدا على ما وعده في مقابلة العمل

أجرا عظيما عطاء جزيلا وإنما سماه اجرا لكونه تابعا للأجر مزيدا عليه

٤١

فكيف محلها إما الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف

وأما النصب بفعل محذوف على التشبيه بالحال كما هو راى سيبويه أو على التشبيه بالظرف كما هو رأى الأخفش أى فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم أو كيف يصنعون

إذا جئنا يوم القيامة

من كل أمة من الأمم بشهيد يشهد عليهم بكا كانوا عليه من فساد العقائد وقبائح الأعمال وهو نبيهم كما في قوله تعالى وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم والعامل في الظرف مضمون المبتدأ والخبر من هول الأمر وعظم الشأن أو الفعل المقدر ومن متعلقة بجئنا

وجئنا بك يا محمد

على هؤلاء إشارة إلى الشهداء المدلول عليهم بما ذكر

شهيدا تشهد على صدقهم لعلمك بعقائدهم لاستجماع شرعك لمجامع قواعدهم

وقيل إلى المكذبين المستفهم عن حالهم تشهد عليهم بالكفر والعصيان كما يشهد سائر الإنبياء على أممهم

وقيل إلى المؤمنين كما في قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا

٤٢

بومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول استئناف لبيان حالهم التى أشير إلى شدتها وفظاعتها بقوله تعالى فكيف فإن أريد بهم المكذبون لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فالتعبير عنهم بالموصول لاسيما بعد الإشارة إليهم بهولاء لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعلة ما اعتراهم من الحال الفظيعة والأمر الهائل وإيراده عليه السلام بعنوان الرسالة لتشريفة وزيادة تقبيح حال مكذبيه فإن حق الرسول أن يؤمن به ويطاع لاأن يكفر به ويعصى وإن أريد بهم جنس الكفرة فهم داخلون في زمرتهم دخولا أولياء والمراد بالرسول حينئذ الجنس المنتظم للنبي عليه السلام انتظاما أوليا وأيا ما كان ففيه من تهويل الأمر وتفظيع الحال مالا يقادر قدره وقوله تعالى وعصوا عطف على كفروا داخل معه في الصلة والمراد معاصيهم المغايرة لكفرهم ففيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع في حق المؤاخذة

وقيل حال من ضمير كفروا

وقيل صلة لموصول آخر أى يود في ذلك اليوم الذين جمعوا بين الكفر وعصيان الرسول أو الذين كفروا وقد عصوا الرسول أو الذين كفروا والذين عصوا الرسول ولو في قوله تعالى

لو تسوى بهم الأرض إن جعلت مصدرية فالجلمة مفعول ليود أى يودون ان يدفنوا فتسوى بهم الأرض كالموتى

وقيل يودون انهم لم يبعثوا أو لم يحلقوا وكأنهم والأرض سواء

وقيل تصير البهائم ترابا فيودون حالها وإن جعلت جارية على بابها فالمفعول محذوف لدلالة الجملة عليه اى يودون تسوية الأرض وجواب لو أيضا محذوف إيذانا بغاية ظهوره أى لسروا بذلك وقوله تعالى

ولا يكتمون اللّه حديثا عطف على يود أى ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم

وقيل الواو للحال أى يودون ان يدفنون في الأرض وهم لايكتمون منه تعالى حديثا ولا يكذبونه بقولهم واللّه رنبا ما كنا مشركين إذ روى أنهم إذا قالوا ذلك ختم اللّه على افواهم فتشهد عليهم جوارحهم فيشتد الامر عليهم فيتمنون أن تسوى بهم الأرض وقرئ تسوى على أن أصله تتسوى فأدغم التاء في السين وقرئ تسوى بحذف التاء الثانية يقال سويته فتسوى

٤٣

يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون لما نهوا فيما سلف عن الإشراك به تعالى نهوا ههنا عما يؤدى إليه من حيث لايحتسبون فإنه روى أن عبد الرحمن بن عوف رضى اللّه عنه صنع طعاما وشرابا حين كانت الخمر مباحة فدعا نفرا من الصحابة رضى اللّه عنهم فأكلوا وشربوا حتى ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب فتقدم أحدهمليصلى بهم فقرأ أعبد ما تعبدون فنزلت وتصدير الكلام بحر في النداء والتنبية للمبالغة في حملهم على العمل بموجب النهى عن قربان المساجد لقوله عليه السلام جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ويأباه قوله تعالى حتى تعلموا ما تقولون فالمعنى لا تقيموها في حالة السكر حتى تعلموا قبل الشروع ما تقولونه إذ بتلك التجربة يظهر انهم يعلمون ما سيقرءونه في الصلاة وحمل ما تقولون على ما في الصلاة يستدعى تقدم الشروع فيها على غاية النهى وحمل العلم على ما بالقوة على معنى حتى تكونوا بحيث تعلمون ما ستقرءون في الصلاة تطويل بلا طائل لأن تلك الحيثية إنما تظهر بما ذكر من التجربة على إيثار ما تقولون على ما تقرءون حينئذ يكون عاريا عن الداعى

وقيل المراد بالسكر سكر النعاس وغلبة النوم وأيا ما كان فليس مرجع النهى هو المقيد مع كأنه قيل يأيها الذين آمنوا لاتسكروا في أوقات الصلاة وقد روى انهم كانوا بعد مانزلت الآية لا يشربون الخمر في أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون ولا جنبا عطف على قوله تعالى وأنتم سكارى فإنه في حيز النصب كأنه قيل لاتقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا والجنب من أصابه الجنابة يستوى فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع لجريانه مجرى المصدر

إلا عابري سبيل استثناء مفرغ من أعم الأحوال محلة النصب على أنه حال من ضمير لاتقربوا باعتبار تقيده بالحال الثانية دون الأولى والعامل فيه فعل النهى أى لا تقربوا الصلاة جنبا في حال من الحوال إلا حال كونكم مسافرين على معنى أن في حالة السفر ينتهى حكم النهى لكن لا بطريق شمول النفى لجميع صورها بل بطريق نفى الشمول في الجلمة من غير دلالة على انتفاء خصوصية البعض المنتفى ولا على بقاء خصوصية البعض الباقي ولا على ثبوت نقيضه لا كليا ولا جزئيا فإن الاستثناء لا يدل على ذلك عبارة نعم يشير إلى مخالفة حكم ما بعده لما قبله إشارة إجمالية يكتفى بها فى المقامات الخطابية لا فى إثبات الأحكام الشرعية فإن ملاك الأمر في ذلك إنما هو الدليل وقد ورد عقيبه على طريقة البيان

وقيل هو صفة لجنبا على أن إلى بعنى غير أي وإلاجنبا غير عابرى سبيل ومن حمل الصلاة على مواضعها فسر العبور بالا جيتاز بها وجوز للجنب عبور المسجد وبه قال الشافعي رحمة اللّه وعندنا لا يجوز ذلك إلا أن يكون الماء أو الطريق فيه

وقيل إن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد وكان يصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرا إلا في المسجد فرخص لهم ذلك

حتى تغتسلوا غاية للنهى عن قربان الصلاة حالة الجنابة ولعل تقديم الاستشاء عليه للإيذان من أول الأمر بإن حكم النهى في هذه الصورة ليس على الإطلاق كما في صورة السكر تشويقا إلى البيان وروما لزبادة تقرره في الأذهان وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن المصلى حقه أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه وأن يزكى نفسه عما يدنسها ولايكتفى بأدنى مراتب التزكية عند إمكان اعاليها

وإن كنتم مرضى شروع في تفصيل ما أجمل في الاستئناف وبيان ما هو في حكم المستثنى من الأعذار والاقتصار فيما قبل على استئناء السفر مع مشاركة الباقي له في حكم الترخيص للإشعار بأنه العذر الغالب المنبئ عن الضرورة التي عليها يدور أمر الرخصة كأنه قيل ولا جنبا الا مضطرين وإليه مرجع ما قيل من انه جعل عابري سبيل كناية عن مطلق المعذورين والمراد بالمرض ما يمنع من استعمال الماء مطلقا سواء كان ذلك بتعذر الوصول التي اليه أو بتعذر استعماله

أو على سفر عطف على مرضى أي أو كنتم على سفر ما طال أو قصر وإيراده صريحا مع سبق ذكره بطريق الاستثناء لبناء الحكم الشرعي عليه وبيان كيفيته فإن الاستثناء كما اشير اليه بمعزل من الدلالة على ثبوته فضلا عن الدلالة على كيفيته وتقديم المرض عليه للإيذان بأصالته واستقلاله بأحكام لا توجد في غيره كالاشتداد باستعمال الماء ونحوه

أو جاء أحد منكم من الغائط هو المكان الغائر المطمئن والمجئ منه كناية عن الحدث لأن المعتاد أن من يريده يذهب اليه ليواري شخصه عن اعين الناس وإسناد المجئ منه الى واحد منهم من المخاطبين دونهم للتفادى عن التصريح بنسبتهم الى ما يستحيا منه أو يستهجن التصريح به وكذلك إيثار الكناية فيما عطف عليه من قوله عز و جل

أو لمستم النساء على التصريح بالجماع ونظمهما في سلك سببى سقوط الطهارة والمصير الى التيمم مع كونهما سببي وجوبها ليس باعتبار انفسهما بل باعتبار قيدهما المستفاد من قوله تعالى

فلم تجدوا ماء بل هو السبب في الحقيقة وإنما ذكرا تمهيدا له وتنبيها على أنه سبب للرخصة بعد انعقاد سبب الطهارة الصغرى والكبرى كأنه قيل أو لم تكونوا مرضى أو مسافرين بل كنتم فاقدين للماء بسبب من الاسباب مع تحقق ما يوجب استعماله وتخصيص ذكره بهذه الصورة مع أنه معتبر في صورة المرض والسفر ايضا لندرة وقوعه فيها واستغنائهما عن ذكره إما لان الجنابة معتبرة فيهما قطعا فيعلم من حكمها حكم الحدث الاصغر بدلالة النص لان تقدير النظم لا تقربوا الصلاة في حال الجناية إلا حال كونكم مسافرين فإن كنتم كذلك أو كنتم مرضى الخ

وأما لما قيل من أن عموم إعواز الماء في حق المسافر غالب والعجز عن استعمال الماء القائم مقام عدمه في حق المريض مغن عن ذكره لفظا وما قيل من أن هذا القيد راجع الى الكل وأن قيد وجوب التطهر المكنى عنه بالمجئ من الغائط والملامسة

معتبر في الكل مما لا يساعده النظم الكريم

فتيمموا صعيدا طيبا فتعمدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا قال الزجاج الصعيد وجه الأرض ترابا أو غيره وإن كان صخرا لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده عليه ومسح لكان ذلك طهوره وهو مذهب أبي حنيفة رحمه اللّه وعند الشافعي رحمه اللّه لا بد أن يعلق باليد شئ من التراب

فامسحوا بوجوهكم وأيديكم أى إلى المرفقين لما روى أنه تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه ولأنه بدل من الوضوء فيتقدر بقدره

إن اللّه كان عفوا غفورا تعليل للترخيص والتيسير وتقرير لهما فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين لا بد أن يكون ميسرا لا معسرا

وقيل هو كناية عنهما فإن الترفيه والمسامحة من روادف العفو وتوابع الغفران

٤٤

ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب كلام مسأنف مسوق لتعجيب المؤمنين من سوء حالهم والتحذير عن موالاتهم والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المؤمنين وتوجيهه إليه ههنا مع توجيهه فيما بعد إلى الكل معا للإيذان بكمال شهرة شناعة حالهم وأنها بلغت من الظهور إلى حيث يتعجب منها كل من يراها والرؤية بصرية أى ألم تنظر إليهم فإنهم أحقا أن تشاهدهم وتتعجب من أحوالهم وتجويز كونها قلبية على أن إلى لتضمنها معنى الانتهاء لما فعلوه يأباه مقام تشهير شنائعهم ونظمها في سلك الأمور المشاهدة والمراد بهم أحبار اليهود روى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أنها نزلت في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رأس المنافقين عبد اللّه بن أبي ورهطه يثبطانهم عن الإسلام وعنه رضى اللّه عنه أيضا أنها نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم كانا إذا تكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لويا لسانهما وعاباه والمراد بالكتاب هو التوراة وحمله على جنس الكتاب المنتظم لها انتظاما أوليا تطويل للمسافة وبالذي أوتوه ما بين لهم فيها من الأحكام والعلوم التي من جملتها ما علموه من نعوت النبي وحقيقة الإسلام والتعبير عنه بالنصيب المنبئ عن كونه حقا من حقوقهم التي يجب مراعاتها والمحافظه عليها للإيذان بكمال ركاكة آرائهم حيث ضيعوه تضييعا وتنوينه تفخيمي مؤيد للتشنيع عليهم والتعجيب من حاله فالتعبير عنهم بالموصول للتنبيه بما في حيز الصلة على كمال شناعتهم والإشعار بمكان ما طوى ذكره في المعامله المحكمية عنهم من الهدى الذي هو أحد العوضين وكلمه من متعلقة إما بأوتوا أو بمحذوف وقع صفة لنصيبا مبينة لفخامته الإضافيه إثر بيان فخامته الذاتية أى نصيبا كائنا من الكتاب وقوله تعالى

يشترون الضلالة قيل هو حال مقدرة من واو أوتوا ولا ريب في أن اعتبار تقدير اشترائهم وأنت خبير بأنه خال عن إفادة أن مادة التشنيع والتعجيب هو الاشتراء المذكور وما عطف عليه والذي تقتضيه جزالة النظم الكريم أنه استئناف مبين لمناط التشنيع ومدار التعجيب المفهومين من صدر الكلام على وجه الإجمال والإبهام مبنى على سئوال نشأ منه كأنه قيل ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم فقيل يأخذون الضلالة ويتركون ما أوتوه من الهداية وإنما طوى المتروك لغاية ظهور الأمر لا سيما بعد الإشعار المذكور والتعبير عن ذلك بالاشتراء الذي هو عبارة عن استبدال السلعة بالثمن أي أخذها بدلا منه أخذا ناشئا عن الرغبه فيها و الإعراض عنه للإيذان بكمال رغبتهم في الضلاله التي حقها أن يعرض عنها كل الإعراض و إعراضهم عن الهدايه التي يتنافس فيها المتنافسون و فيه من التسجيل على نهاية سخافة عقولهم و غاية ركاكة آرائهم ما لا يخفى حيث صورت حالهم بصورة ما لا يكاد يتعاطاه أحد ممن له أدنى تمييز و ليس المراد بالضلالة جنسها الحاصل لهم من قبل حتى يخل بمعنى الاشتراء المنبئ عن تأخرها عنه بل هو فردها الكامل و هو عنادهم و تماديهم في الكفر بعد ما علموا بشأن النبي و تيقنوا بحقية دينه و أنه هو النبي العربي المبشر به في التوراة و لا ريب في أن هذه الرتبة لم تكن حاصلة لهم قبل ذلك و قد مر في أوائل سورة البقرة ويريدون عطف على يشترون شريك له في بيان محل التشنيع و التعجيب و صيغة المضارع فيهما للدلالة على الاستمرار التجددي فإن تجدد حكم اشترائهم المذكور و تكرر العمل بموجبه في قوة تجدد نفسه و تكرره أي لا يكتفون بضلال أنفسهم بل يريدون بما فعلوا من كتمان نعوته عليه السلام

أن تضلوا أنتم أيضا أيها المؤمنون

السبيل المستقيم الموصل إلى الحق

٤٥

و اللّه أعلم أي منكم

بأعدائكم جميعا و من جملتهم هؤلاء و قد أخبركم بعداوتهم لكم و ما يريدون بكم لتكونوا على حذر منهم و من مخالطتهم أو هو أعلم بحالهم و مآل أمرهم و الجملة معترضة لتقرير ارادتهم المذكورة

و كفى باللّه وليا في جميع أموركم و مصالحكم

و كفى باللّه نصيرا في كل المواطن فثقوا به و اكتفوا بولايته و نصرته ولا تتولوا ولا تبالوا بهم و بما يسومونكم من السوء فإنه تعالى يكفيكم مكرهم و شرهم ففيه وعد و وعيد و الباء مزيدة في فاعل كفى لتأكيد الاتصال الإسنادي بالاتصال الإضافي و تكرير الفعل في الجملتين مع إظهار الجلالة في مقام الإضمار لا سيما في الثاني لتقوية استقلالها المناسب للإعتراض و تأكيد كفياتة عز و جل في كل من الولاية و النصرة و الإ شعار بعليتهما فإن الالوهية من موجباتهما لا محالة

٤٦

من الذين هادوا قيل هو بيان لأعدائكم و ما بينهما إعتراض و فيه أنه لا وجه لتخصيص علمه سبحانه بطائفة من أعدائهم لا سيما في معرض الإعتراض الذي حقه العموم و الإطلاق و إنتظام ما هو المقصود في المقام إنتظاما أوليا كما أشير اليه و قيل هو صلة لنصير أي ينصركم من الذين هادوا كما في قوله تعالى فمن ينصرني من اللّه و فيه ما فيه من تحجير واسع نصرته عز و جل مع أنه لا داعي إلى وضع الموصول موضع ضمير الأعداء لأن ما في حيز الصلة ليس بوصف ملائم للنصر و قيل هو خبر مبتدأ محذوف وقع قوله تعالى

يحرفون الكلم عن مواضعه صفة له أي من الذين هادوا قوم أو فريق يحرفون الخ و فيه أنه يقتضي كون الفريق السابق بمعزل من التحريف الذي هو المصداق لإشترائهم في الحقيقة فالذي يليق بشأن التنزيل الجليل أنه بيان للموصول الأول المتناول بحسب المفهوم لأهل الكتابين قد وسط بينهما ما وسط لمزيد الأعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين منهم وتحذيرهم عن مخالطتهم والإهتمام بحملهم على الثقة باللّه عز و جل والأكتفاء بولايته ونصرته وأن قوله تعالى يحرفون وما عطف عليه بيان لإشترائهم المذكور وتفصيل لفنون ضلالتهم وقدر وعيت في النظم الكريم طريقة التفسير بعد الإبهام والتفصيل إثر الإجمال وما لزيادة تقرير يقتضيه الحال والكلم اسم جنس واحده كلمة كتمر وتمرة وتذكير ضميره بإعتبار أفراده لفظا وجمعية مواضعه بإعتبار تعدده معنى وقرئ بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفبف كلمة وقرئ يحرفون الكلام والمراد به ههنا إما ما في التوراة خاصة

وأما ما هو أعم منه ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودة الصادرة عنهم في أثناء المحاورة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ولا مساغ لإرادة تلك الكلمات خاصة بأن يجعل عطف قوله تعالى

ويقولون سمعنا وعصينا الخ على ما قبله عطفا تفسيريا لما ستقف على سره فإن أريد به الأول كما هو رأي الجمهور فتحريفه إزالته عن مواضعه التي وضعه اللّه تعالى فيها من التوراة كتحريفهم في نعت النبي أسمر ربعة عن موضعه في التوراة بأن وضعوا مكانه آدم طوال وكتحريفهم الرجم بوضعهم بدله الحد أو صرفه عن المعنى الذي أنزله اللّه تعالى فيه إلى مالا صحة له بالتأويلات الزائغة الملائمة لشهواتهم الباطلة وإن أريد به الثاني فلا بد من أن يراد بمواضعه ما يليق به مطلقا سواء كان ذلك بتعيينه تعالى صريحا كمواضع ما في التوراة أو بتعيين العقل أو الدين كمواضع غيره وأياما كان فقولهم سمعنا وعصينا ينبغي ان يجري على إطلاقه من غير تقييد بزمان أو مكان ولا تخصيص بمادة دون مادة بل وأن يحمل على ما هو أعم من القول الحقيقي ومما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم ليندرج فيه ما نطقت به ألسنة حالهم عند تحريف التوراة فإن من لا يتفوه بتلك العظيمة لا يكاد يتجاسر على مثل هذه الجناية وإلا فحمله على ما قالوه في مجلس النبي من القبائح خاصة يستدعي اختصاص حكم الشرطية الآتية وما بعدها بهن من غير تعرض لتحريفهم التوراة مع أنه معظم جنايتهم المعدودة ومن ههنا انكشف لك السر الموعود فتأمل أي يقولون في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي أولا بلسان المقال أو الحال سمعنا وعصينا عنادا وتحقيقا للمخالفة وقوله تعالى

واسمع غير مسمع عطف على سمعنا وعصينا داخل تحت القول أي ويقولون ذلك في أثناء مخاطبته خاصة وهو كلام ذو وجهين محتمل للشر بأن يحمل على معنى اسمع حال كونك غير مسمع كلاما أصلا بصمم أو موت أي مدعوا عليك بلا سمعت أو غير مسمع كلاما ترضاه فحينئذ يجوز أن يكون نصبه على المفعولية وللخير بأن يحمل على اسمع منا غير مسمع مكروها كانوا يخاطبون به النبي استهزاء به مظهرين له إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون في أنفسهم المعنى الأول مطمئنون به

وراعنا عطف على اسمع غير مسمع أي ويقولون في أثناء خطابهم له هذا أيضا يوردون كلا من العظائم الثلاث في مواقعها وهي أيضا كلمة ذات وجهين محتملة للخير بحملها على معنى ارقبنا وانظرنا نكلمك وللشر يحملها على السب بالرعونة أي الحمق أو بإجرائها مجرى ما يشبهها من كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها وهي راعينا كانوا يخاطبونه بذلك ينوون الشتيمة والإهانة ويظهرون التوقير والإحترام ومصيرهم إلى مسلك النفاق في القولين الأخيرين مع تصريحهم بالعصيان في الأول لما قالوا من أن جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء

وقيل كانوا يقولون الأول فيما بينهم

وقيل يجوز أن لا ينطقوا بذلك ولكنهم لما لم يؤمنوا به جعلوا كأنهم نطقوا به

ليا بألسنتهم أي فتلا بها وصرفا للكلام عن نهجه إلى نسبة السب حيث وضعوا غير مسمع موضع لا أسمعت مكروها وأجروا راعنا المشابهة لراعينا مجرى انظرنا أو فتلا بها وضما لما يظهرونه من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرونه من السب والتحقير

وطعنا في الدين أي قدحا فيه بالإسنهزاء والسخرية وانتصابهما على العلية ليقولون باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين أي يقولون ذلك لصرف الكلام عن وجهه إلى السب والطعن في الدين أو على الحالية أي لاوين وطاعنين في الدين

ولو أنهم عندما سمعوا شيئا من أوامر اللّه تعالى ونواهيه

قالوا بلسان المقال أو بلسان الحال مكان قولهم سمعنا وعصينا

سمعنا وأطعنا إنما أعيد سمعنا مع أنه متحقق في كلامهم وإنما الحاجة إلى وضع أطعنا مكان عصينا لا للتنبيه على عدم اعتباره بل على اعتبار عدمه كيف لا وسماعهم سماع الرد ومرادهم بحكايته إعلام عصيانهم للأمر بعد سماعه والوقوف عليه فلا بد من إزالته وإقامة سماع القبول مقامه

واسمع أي لو قالوا عند مخاطبة النبي بدل قولهم اسمع غير مسمع اسمع

وانظرنا أي ولو قالوا ذلك بدل قولهم راعنا ولم يدسوا تحت كلامهم شرا وفسادا أي لو ثبت أنهم قالوا هذا مكان ما قالوا من الأقوال

لكان قولهم ذلك

خيرا لهم مما قالوا

وأقوم أي أعدل وأسد في نفسه وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفضل في المفضل عليه بناء على اعتقادهم أو بطريق التهكم

وأما بمعنى اسم الفاعل وإنما قدم في البيان حاله بالنسبة إليهم على حاله في نفسه لأن هممهم مقصورة على ما ينفعهم

ولكن لعنهم اللّه بكفرهم أي ولكن لم يقولوا ذلك واستمروا على كفرهم فخذلهم اللّه تعالى وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم بذلك

فلا يؤمنون بعد ذلك

إلا قليلا قيل أي إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به وهو الإيمان ببعض الكتب والرسل أو إلا زمانا قليلا وهو زمان الإحتضار فإنهم يؤمنون حين لا ينفعهم الإيمان قال تعالى وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته وكلاهما ليس بإيمان قطعا وقد جوز أن يراد بالقلة العدم بالكلية على طريقة قوله تعالى لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى أي إن كان الإيمان المعدوم إيمانا فهم يحدثون شيئا من الإيمان فهو في المعنى تعليق بالمحال وانت خبير بأن الكل يأباه ما يعقبه من الأمر بالإيمان بالقرآن الناطق بهذا لإفضائه إلى التكليف بالمحال الذي هو إيمانهم بعدم إيمانهم المستمر أما على الوجه الأخير فظاهر

وأما على الأولين فلأن أمرهم بالإيمان المنجز بجميع الكتب والرسل تكليف لهم بإيمانهم بعدم إيمانهم إلى وقت الإحتضار فالوجه أن يحمل القليل على من يؤمن بعد ذلك لكن لا يجعل المستثنى منه ضمير الفاعل في لا يؤمنون لإفضائه إلى وقوع إيمان من لعنة اللّه تعالى وخذله مع ما فيه من نسبة القراء إلى الإتفاق على غير المختار بل بجعله ضمير المفعول في لعنهم أي ولكن لعنهم اللّه إلا فريقا قليلا فإنه تعالى لم يلعنهم فلم ينسد عليهم باب الإيمان وقد آمن بعد ذلك فريق من الأحبار كعبد اللّه بن سلام وكعب وأضرابهما كما سيأتي

٤٧

يأيها الذين أوتوا الكتاب تلوين للخطاب وتوجيه له إما إلى من حكيت أحوالهم وأقوالهم خاصة بطريق الإلتفات ووصفهم تارة بإيتاء الكتاب أي التوراة وأخرى بإيتاء نصيب منها لتوفيه كل من المقامين حقه فإن المقصود فيما سبق بيان اخذهم الضلالة وإزالة ما أوتوه بمقابلتها بالتحريف وليس ما أزالوه بذلك كلها حتى يوصفوا بإيتائه بل هو بعضها فوصفوا بإيتائه

وأما ههنا فالمقصود تأكيد إيجاب الإمتثال بالأمر الذي يعقبه والتحذير عن مخالفته من حيث إن الإيمان بالمصدق موجب للإيمان بما يصدقه والكفر بالثاني مقتض للكفر بالأول قطعا ولا ريب في ان المحذور عندهم إنما هو لزوم الكفر بالتوراة نفسها لا ببعضها وذلك إنما يتحقق بجعل القرآن مصدقا لكلها وإن كان مناط التصديق بعضا منها ضرورة أن مصدق البعض مصدق للكل المتضمن له حتما

وأما إليهم وإلى غيرهم قاطبة وهو الأظهر وأياما كان فتفصيل ما فصل لما كان من مظان إقلاع كل من الفريقين عما كانوا عليه من الضلالة عقب ذلك بالأمر بالمبادرة إلى سلوك محجة الهداية مشفوعا بالوعيد الشديد على المخالفة فقيل

آمنوا بما نزلنا من القرآن عبر عنه بالموصول تشريفا له بما في حيز الصلة وتحقيقا لكونه من عنده عز و جل

مصدقا لما معكم من التوراة عبر عنها بذلك للإيذان بكمال وقوفهم على حقيقة الحال فإن المعية المستدعية لدوام تلاوتها وتكرير المراجعة إليها من موجبات العثور على ما في تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكون القرآن مصدقا لها ومعنى تصديقه إياها نزوله حسبما نعت لهم فيها أو كونه موافقا لها في القصص والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش

وأما ما يتراءى من مخالفته لها في جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأمم والأعصار فليست بمخالفة في الحقيقة بل هي عين الموافقة من حيث إن كلا منها حق بالإضافة إلى عصره متضمن للحكمة التي عليها يدور فلك التشريع حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم قطعا ولذلك قال لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي

من قبل أن نطمس وجوها متعلق بالأمر مفيد للمسارعة إلى الأمتثال به والجد في الإنتهاء عن مخالفته بما فيه من الوعيد الشديد الوارد على أبلغ وجه وآكده حيث لم يعلق وقوع المتوعد به بالمخالفة ولم يصرح بوقوعه عندها تنبيها على أن ذلك أمر محقق غني عن الإخبار به وانه على شرف الوقوع متوجه نحو المخاطبين وفي تنكير الوجوه المفيد للتكثير تهويل للخطب وفي إبهامها لطف بالمخاطبين وحسن استدعاء لهم إلى الإيمان وأصل الطمس محو الآثار وإزالة الأعلام أي آمنوا من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونزيل آثارها قال ابن عباس رضي اللّه عنهما نجعلها كخف البعير أو كحافر الدابة وقال قتادة والضحاك نعميها كقوله تعالى فطمسنا أعينهم

وقيل نجعلها منابت الشعر كوجوه القردة

فنردها على أدبارها فنجعلها على هيئة أدبارها وأقفائها مطموسة مثلها فالفاء للتسبيب أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع الأقفاء والأقفاء إلى موضعها وقد اكتفى بذكر أشدهما فالفاء للتعقيب

وقيل المراد بالوجوه الوجهاء على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارا وأدبارا أو نردهم من حيث جاءوا منه وهي أذرعات الشأم فالمراد بذلك إجلاء بني النضير ولا يخفى أنه لا يساعده مقام تشديد الوعيد وتعميم التهديد للجميع فالوجه ما سبق من الوجوه وقد اختلف في أن الوعيد هل كان بوقوعه في الدنيا أو في الآخرة فقيل كان بوقوعه في الدنيا ويؤيده ما روى أن عبد اللّه ابن سلام رضي اللّه تعالى عنه لما قدم من الشأم وقد سمع هذه الآية أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قبل أن يأتي أهله فأسلم وقال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي إلى قفاي وفي رواية جاء إلى النبي ويده على وجهه وأسلم وقال ما قال وكذا ما روى أن عمر رضي اللّه عنه قرأ هذه الآية على كعب الأحبار فقال كعب يا رب آمنت يا رب أسلمت مخافة أن يصيبه وعيدها ثم اختلفوا فقيل إنه منتظر بعد ولابد من طمس في اليهود ومسخ وهو قول المبرد وفيه أن انصراف العذاب الموعود عن أوائلهم وهم الذين باشروا أسباب نزوله وموجبات حلوله حيث شاهدوا شواهد النبوة في رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فكذبوها وفي التوراة فحرفوها وأصروا على الكفر والضلالة وتعلق بهم خطاب المشافهة بالوعيد ثم نزوله على من وجد بعد مئات من السنين من أعقابهم الضالين بإضلالهم العالمين بما مهدوا من قوانين الغواية بعيد من حكمة اللّه تعالى العزيز الحكيم

وقيل إن وقوعه كان مشروطا بعدم الإيمان وقد آمن من أحبارهم المذكوران وأضرابهما فلم يقع وفيه أن إسلام بعضهم إن لم يكن سببا لتأكد نزول العذاب على الباقين لتشديدهم النكير والعناد بعد ازدياد الحق وضوحا وقيام الحجة عليهم بشهادة أماثلهم العدول فلا أقل من أن لا يكون سببا لرفعه عنهم

وقيل كان الوعيد بوقوع أحد الأمرين كما ينطق به قوله تعالى

أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت فإن لم يقع الأمر الأول فلا نزاع في وقوع الثاني كيف لا وهم ملعونون بكل لسان في كل زمان وتفسير اللعن بالمسخ ليس بمقرر البتة وأنت خبير بأن المتبادر من اللعن المشبه بلعن أصحاب السبت هو المسخ وليس في عطفه على الطمس والرد على الأدبار شائبة دلالة على عدم إرادة المسخ ضرورة أنه تغيير مغاير لما عطف عليه على أن المتوعد به لا بد أن يكون أمرا حادثا مترتبا على الوعيد محذورا عندهم ليكون مزجرة عن مخالفة الأمر ولم يعهد أنه وقع عليهم لعن بهذا الوصف إنما الواقع عليهم ما تداولته الألسنة من اللعن المستمر الذي ألفوه وهو بمعزل من صلاحية ان يكون حكما لهذا الوعيد أو مزجرة للعنيد

وقيل إنما كان الوعيد بوقوع ما ذكر في الآخرة عند الحشر وسيقع فيها لا محالة أحد الأمرين أو كلاهما على سبيل التوزيع

وأما ما روي عن عبد اللّه بن سلام وكعب فمبني على الإحتياط اللائق بشأنهما والحق أن النظم الكريم ليس بنص في أحد الوجهين بل المتبادر منه بحسب المقام هو الأول لأنه أدخل في الزجر وعليه مبني ما روي عن الحبرين لكن لما لم يتضح وقوعه علم ان المراد هو الثاني واللّه تعالى اعلم وأيا ما كان فلعل السر في تخصيصهم بهذه العقوبة من بين العقوبات مراعاة المشاكلة بينهما وبين ما أوجبها من جنايتهم التي هي التحريف والتغيير واللّه هو العليم الخبير

وكان أمر اللّه أي ما أمر به كائنا ما كان أو أمره بإيقاع شئ ما من الأشياء

مفعولا نافذا كائنا لا محالة فيدخل فيه ما أوعدتم به

 دخولا أوليا فالجملة اعتراض تذييلي مقرر لما سبق ووضع الإسم الجليل موضع الضمير بطريق الإلتفات لتربية المهابة وتعليل الحكم وتقوية ما في الإعتراض من الإستقلال

٤٨

إن اللّه لا يغفر أن يشرك به كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من الوعيد و تأكيد وجوب الامتثال بالأمر بالإيمان ببيان استحالة المغفرة بدونه فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من التحريف و يطمعون في المغفرة كما في قوله تعالى فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى أي على التحريف و يقولون سيغفر لنا و المراد بالشرك مطلق الكفر المنتظم لكفر اليهود انتظاما أوليا فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبة و قضى بخلود أصناف الكفرة في النار و نزوله في حق اليهود كما قال مقاتل و هو الأنسب بسياق النظم الكريم و سياقه لا يقتضي اختصاصه بكفرهم بل يكفي اندراجه فيه قطعا بل لا وجه له أصلا لاقتضائه جواز مغفرة ما دون كفرهم في الشدة من أنواع الكفر أي لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة و إيمان لأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر و جواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدي إلى فتحه و لأن ظلمات الكفر و المعاصي إنما يسترها نور الإيمان فمن لم يكن له إيمان لم يغفر له شيء من الكفر و المعاصي

ويغفر ما دون ذلك عطف على خبر إن و ذلك إشارة إلى الشرك وما فيه من معنى البعد مع قربه في الذكر للإيذان ببعد درجته و كونه في أقصى مراتب القبح أي ويغفر ما دونه في القبح من المعاصي صغيرة كانت أو كبيرة تفضلا من لدنه و إحسانا من غير توبة عنها لكن لا لكل أحد بل

لمن يشاء أي لمن يشاء أن يغفر له ممن اتصف به فقط لا بما فوقه فإن مغفرتهما لمن اتصف بهما سواء في استحالة الدخول تحت المشيئة المبنية على الحكمة التشريعية فإن اختصاص مغفرة المعاصي من غير توبة بأهل الإيمان من الترغيب فيه و الزجر عن الكفر ومن علق المشيئة بكلا الفعلين و جعل الموصول الأول عبارة عمن لم يتب و الثاني عمن تاب فقد ضل سواء الصواب كيف لا و أن مساق النظم الكريم لإظهار كمال عظم جريمة الكفر و امتيازه عن سائر المعاصي ببيان استحالة مغفرته و جواز مغفرتها فلو كان الجواز على تقدير التوبة لم يظهر بينهما فرق للإجماع على مغفرتهما بالتوبة و لم يحصل ما هو المقصود من الزجر البليغ عن الكفر و الطغيان و الحمل على التوبة و الإيمان

ومن يشرك باللّه إظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لزيادة تقبيح الإشراك و تفظيع حال من يتصف به

فقد افترى إثما عظيما أي افترى و اختلق مرتكبا إثما لا يقادر قدره و يستحقر دونه جميع الآثام فلا تتعلق به المغفرة قطعا

٤٩

ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم تعجيب من حالهم المنافية لما هم عليه من الكفر و الطغيان و المراد بهم اليهود الذين يقولون نحن أبناء اللّه و أحباؤه و قيل ناس من اليهود جاءوا بأطفالهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا هل على هؤلاء ذنب فقال لا قالوا ما نحن إلا كهيئتهم ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار أي انظر إليهم فتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند اللّه تعالى مع ما هم عليه من الكفر و الإثم العظيم أو من ادعائهم التكفير مع استحالة أن يغفر للكافر شيء من كفره أو معاصيه و فيه تحذير من إعجاب المرء بنفسه و بعمله

بل اللّه يزكي من يشاء عطف على مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل هم لا يزكونها في الحقيقة لكذبهم و بطلان اعتقادهم بل اللّه يزكي من يشاء تزكيته ممن يستأهلها من المرتضين من عباده المؤمنين إذ هو العليم الخبير بما ينطوي عليه البشر من المحاسن و المساوى و قد وصفهم اللّه بما هم متصفون به من القبائح و أصل التزكية نفى ما يستقبح بالفعل أو القول

ولا يظلمون عطف على جملة قد حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها و إيذانا بأنها غنية عن الذكر أي يعاقبون بتلك الفعلة القبيحة و لا يظلمون في ذلك العقاب

فتيلا أي أدنى ظلم و أصغره و هو الخيط الذي فى شق النواة يضرب به المثل في القلة و الحقارة و قيل التقدير يثاب المزكون ولا ينقص من ثوابهم شيء أصلا و لا يساعده مقام الوعيد

٥٠

انظر كيف يفترون على اللّه الكذب كيف نصب إما على التشبيه بالظرف أ و بالحال على الخلاف المشهور بين سيبويه و الأخفش و العامل يفترون و به تتعلق على أي في أي حال أو على أي حال يفترون عليه تعالى الكذب و المراد بيان شناعة تلك الحال و كمال فظاعتها و الجملة في محل النصب بعد نزع الخافض و النظر متعلق بها و هو تعجيب إثر تعجيب و تنبيه على أن ما ارتكبوه متضمت لأمرين عظيمين موجبين للتعجب ادعاؤهم الاتصاف بما هم متصفون بنقيضه و افتراؤهم على اللّه سبحانه فإن ادعاءهم الزكاء عنده تعالى متضمن لادعائهم قبول اللّه و ارتضاءه إياهم تعالى عن ذلك علوا كبير ولكون هذا أشنع من الأول جرما و اعظم قبحا لما فيه من نسبته سبحانه وتعالى الى ما يستحيل عليه بالكلية من قبول الكفر و ارتضائه لعباده و مغفرة كفر الكافر و سائر معاصيه وجه النظر الى كيفيته تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب والتصريح بالكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا لللبالغة في تقبيح حالهم

وكفى به أى بافترائهم هذا من حيث هو افتراء عليه تعالى مع قطع النظر عن مقارنتة لتزكية أنفسهم وسائر آثامهم العظام

إثما مبينا ظاهرا بينا كونه إثما والمعنى كفى ذلك وحده في كونهم أشد إثما من كل كفار أثيم أو في استحقاقهم لأشد العقوبات لما مر سره وجعل الضمير لزعمهم مما لا مساغ له لإخلاله بتهويل أمر الافتراء فتدبر

٥١

ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب تعجيب من حال أخرى لهم ووصفهم بما ذكر من إيتاء النصيب لما مر من منافاته لما صدر عنهم من القبائح وقوله عز و جل

يؤمنون بالجبت والطاغوت اسئناف مبين لمادة التعجب مبنى على سؤال ينساق إليه الكلام كأنه قيل ماذا يفعلون حين ينظر إليهم فقيل يؤمنون الخ والجبت الأصنام وكل ما عبد من دون اللّه تعالى فقيل أصله الجبس وهو الذي

 لاخير عنده فأبدل السين تاء

وقيل الجبت الساحر بلغة الحبشة والطاغوت الشيطان قيل هو في الأصل كل ما يطغى الإنسان روى أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة في سبعين راكبا من اليهود ليحالفوا قريشا على محاربة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه فقالوا أنتم أهل الكتاب وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا نطمئن إليكم ففعلوا فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعو إبليس فيما فعلوا وقال أبو سفيان لكعب أنك أمرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا اهدى طريقا نحن أم محمد فقال ماذا يقول محمد قال يأمر بعباة اللّه وحده وينهى عن الشرك قال ومادينكم قالوا نحن ولاة البيت نسقى الحاج ونقرئ الضيف ونفك العانى وذكروا أفعالهم فقال أنتم أهدى سبيلا وذلك قوله تعالى

ويقولون للذين كفروا أى لأجلهم وفي حقهم

هؤلاء يعنونهم

أهدى من الذين آمنوا سبيلا أى أقوم دينا وأرشد طريقة وإبرادهم بعنوان الإيمان ليس من قبل القائلين بل من جهة اللّه تعالى تعريفا لهم بالوصف الجميل وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح القبائح

٥٢

اولئك غشارة إلى القائلين وما فيه من معنى البعد مع قربهم في الذكر للإشعار ببعد منزلتهم في الضلال وهو مبتدأ خبره قوله تعالى

الذين لعنهم اللّه أى أبعدهم عن رحمته وطردهم والجملة مستأنفة لبيان حالهم وإظهار مصيرهم ومآلهم

ومن يلعن اللّه أى يبعده عن رحمته

فلن تجد له نصيرا يدفع عنه العذاب دنيويا كان أو أخرويا لابشفاعة ولا بغيرها وفيه تنصيص على حرمانهم مما طلبوا من قريش وفي كلمة لن وتوجيه الخطاب إلى كل أحد ممن يتسنى له الخطاب وتوحيد النصر منكرا والتعبير عن عدمه بعدم الوجدان المنبئ عن سبق الطلب مسندا إلى المخاطب العام من الدلالة على حرمانهم الأبدى بالكلية ما لا يخفى

٥٣

أم لهم تنصيب من الملك شروع في تفصيل بعض آخر من قبائحهم وأم منقطعة وما فيها من بل للإضراب والانتقال من ذمهم بتزكيتهم أنفسهم وغيرها مما حكى عنهم إلى ذمهم بادعائهم نصيبا من الملك وبخلهم المفرط وشحهم البالغ والهزه لإنكار أن يكون لهم ما يدعونه وإبطال ما زعموا أن الملك سيصير إليهم وقوله تعالى

فإذن لا يؤتون الناس نقيرا بيان لعدم استحقاقهم له بل لاستحقاقهم الحرمان منه بسب أنهم من البخل والدناءة بحيث لو أوتوا شيئا من ذلك لما أعطوا الناس منه أقل قليل ومن حق من أوتى الملك أن يؤثر الغير بشئ منه فالفاء للسببية الجزائية لشرط محذوف أى إن جعل لهم نصيب منه فإذن لا يؤتون الناس مقدار ونقير وهو ما في ظهر النواة من النقرة ويضرب به المثل في القلة والحقارة وهذا هو البيان الكاشف عن كنه حالهم وإذا كان شأنهم كذلك وهم ملوك فما ظنك بهم وهو أذلاء متفاقرون ويجوز أن لا تكون الهمزة لإنكار الوقوع بل لإنكار الواقع والتوبيخ عليه أى لعدة منكرا غير لائق بالوقوع على أن الفاء للعطف والإنكار متوجه إلى مجموع المعطوفين على معنى ألهم نصيب وافر من الملك حيث كانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كالملوك فلا يؤتون الناس مع ذلك نقيرا كما تقول لغنى لا يراعى أباه ألك هذا القدر من المال فلا تنفق على أبيك شيئا وفائدة إذن تأكيد الإنكار والتوبيخ حيث يجعلون ثبوت النصيب سببا للمنع مع كونه سببا للإعطاء وهى ملغاة عن العمل كأنه قيل فلا يؤتون الناس إذن وقرئ فإذن لا يؤتون بالنصيب على إعمالها

٥٤

أم يحسدون الناس منقطعة ايضا مفيدة للانتقال من توبيخهم بما سبق إلى توبيخهم بالحسد الذى هو شر الرذائل وأقبحها لاسيما على ما هم بمعزل من استحقاقه واللام في الناس للعهد والإشارة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم والمؤمنين وحمله على الجنس إيذانا بحيازتهم الكمالات البشرية قاطبة فكأنهم هم الناس لا غيره لا يلائمه ذكر حديث آل إبراهيم فإن ذلك لتذكير ما بين الفريقين من العلامةالموجبة لاشتراكهما في استحقاق الفضل والهزة لإنكار الواقع واستقباحه فأنهم كانوا يطمعون أن يكون النبى الموعود منهم فلما خص اللّه تعالى بتلك الكرامة غيرهم حسدوهم أى بل أيحسدونهم

على ما آتاهم اللّه من فضله يعنى النبوة والكتاب وازدياد العز والنصر يوما فيوما وقوله تعالى تعالى

فقد آتينا تعليل للإنكار والاستقباح وإلزام لهم بما هومسلم عندهم وحسم لمادة حسدهم واستبعادهم المبنيين على توهم عدم استحقاق المحسود لما أوتى من الفضل ببيان استحقاقه له بطريق الوراثة كابرا عن كابر وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر والمعنى أن حسدهم المذكور في غاية القبح والبطلان فإنا قد آتينا من قبل هذا

آل إبراهيم الذين هم أسلاف محمد أو ابناء أعمامه

الكتاب والحكمة أى النبوة

وآتيناهم مع ذلك

ملكا عظيما لا يقادر قدره فكيف يستبعدون نوبته ويحسدونه على إيتائها وتكرير الإيتاء لما يقيتضيه مقام التفضيل مع الإشعار بما بين النبوة والملك من المغايرة فإن أريد به الإيتاء بالذات فالمراد بآل إبراهيم أنبياؤهم خاصة والضمير المنصوب في الفعل الثاني لبعضهم إما بحذف المضاف أو بطريق الاستخدام لما أن الملك لم يؤت كلهم قال ابن عباس رضى اللّه عنهما الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام وإن أريد به ما يعمه وغيره من الإيتاء بالواسطة وهو اللائق بالمقام والأوفق لما قبله من نسبة إيتاء الفضل إلى الناس فالمراد بآل إبراهيم كلهم فإن تشريف البعض بما ذكر من إيتاء النبوة والملك تشريف للكل لاعتنائهم بآثاره واقتباسهم من أنواره وفي تفصيل ما أوتوه وتكرير الفعل ووصف الملك بالعظم وتنكيره التفخيمى منن تأكيد الإلزام وتشديد الإنكار مالا يخفى هذا هو المتبادر من النظم الكريم وإليه جنح جمهور أئمة التفسير لكن الظاهر حينئذ أن يكون قوله تعالى

٥٥

فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه حكاية لما صدر عن أسلافهم عقيب وقع المحكى من غير ان يكون له دخل في الإلزام الذي سيق له الكلام أى فمن جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم من آمن بما اوتى آل إبراهيم ومنهم من أعرض عنه

وأما جعل الضميرين لما ذكر من حديث آل إبراهيم فيستدعى تراخى الآية الكريمة عما قبلها نزولا كيف لا وحكاية إيمانهم بالحديث المذكور وإعراضهم عنه بصيفة الماضى إنما يتصور بعد وقوع الإيمان والإعراض المتأخرين عن سماع الحديث المتأخر عن نزوله وكذا جعلهما رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذ الظاهر بيان حالهم بعد هذا الإلزام وحملة على حكاية حاهلم السابقة لاتساعده الفاء المرتبة لما بعدها على ما قبلها ولا يبعد كل البعد ان تكون الهمزة لتقرير حسدهم وتوبيخهم بذلك ويكون قوله تعالة فقد آتينا الآية تعليلا له بدلالته على إعراضهم عما أوتى آل إبراهيم وإن لم يذكر كونه بطريق الحسد كأنه قيل بل أيحسدون الناس على ما آتاهم اللّه من فضله ولا يؤمنون به وذلك ديدنهم المستمر فإنا قد آتينا آل إبراهيم ما آتينا فمنهم أى من جنسهم من آمن بما آتيناهم ومنهم من أعرض عنه ولم يؤمن به واللّه سبحانه أعلم وفيه تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم

وكفى بجهنم سعيرا نارا مسعرة يعذبون بها والجملة تذييل لما قبلها

٥٦

إن الذين كفروا بآياتنا إن أريد بهم الذين كفروا برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فالمراد بالايات إما القرآن أوما يعم كله وبعضه أو ما يعم سائر معجزاته أيضا وان أريد بهم الجنس المتناول لهم تناولا أوليا فالمراد بالايات ما يعم المذكورات وسائر الشواهد التى أوتيها الأنبياء عليهم السلام

سوف نصليهم نارا قال سيبويه سوف كلمة تذكر للتهديد والوعيد وينوب عنها السين وقد يذكران في الوعد فيفيدان التأكيد اى ندخلهم نارا عظيمة هائلة

نضجت جلودهم كلما أى احترقت وكلما ظرف زمان والعامل فيه

بدلناهم جلودا غيرها من قبيل بدله بخوفه أمنا لا من قبيل يبدل اللّه سئاتهم حسنات أى أعطيناهم مكان كل جلد محترق عند احتراقه جلدا جديدا مغايرا للمحترق صورة وإن كان عينه مادة بأن يزال عنه الاحتراق ليعود إحساسه للعذاب والجملة في محل النصب على أنها حال من ضمير نصليهم وقد جوز كونها لنارا على حذف العائد أى كلما نضجت فيها جلودهم فمعنى قوله تعالى

ليذوقوا العذاب ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك لللعزيز أعزك اللّه

وقيل يخلق مكانه جلدا آخر والعذاب للنفس العاصية لا لآلة إدراكها قال ابن عباس رضى اللّه تعالى عنهما يبدلون جلودا بيضاء كأمثال القراطيس وروى أن هذه الآية قرئت عند عمر رضى اللّه تعالى عنه فقال للقارئ أعدها فأعادها وكان عنده معاذ بن جبل فقال معاذ عندى تفسيرها يبدل في ساعة مائة مرة فقال عمر رضى اللّه عنه هكذا سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول وقال الحسن تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فيعودون كما كانوا وروى أبو هريرة عن النبى إن بين منكبى الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع وعن أبى هريرة أنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ضرس الكافر أو ناب الكافرمثل احد وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق ليس لبيان قلته بل لبيان أن أحساسهم بالعذاب في كل مرة كإحساس الذائق بالمذوق من حيث إنه لا يدخله نقصان لدوام الملابسة أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث إن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيرا أو على سرايته للباطن و لعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحاله مع الأحتراق ومع إبقاء أبدانهم على حالها مصونة عن الاحتراق أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونه عن التألم والعذاب بصيانة بدنها عن الاحتراق

إن اللّه كان عزيزا لا يمتنع عليه ما يريده ولا يمانعه أحد

حكيما يعاقب من يعاقبه على وفق حكمته والجملة تعليل لما قبلها من الإصلاء والتبديل وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتهويل الأمر وتربية المهابة وتعليل الحكم فإن عنوان الألوهية مناط لجميع صفات كماله تعالى

٥٧

والذين آمنوا وعملوا الصالحات عقب بيان سوء حال الكفرة بيان ببيان حسن حال المؤمنين تكميلا لمساءة الأولين ومسرة الآخرين أى الذين أمنوا بآياتنا وعملوا بمقتضياتها وهو مبتدأ خبره قوله تعالى

سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار وقرئ سيدخلهم بالياء ردا على الاسم الجليل وفي السين تأكيد للوعد

خالدين فيها أبدا حال مقدرة من الضمير المنصوب في سندخلهم و قوله عز وعلا

لهم فيها أزواج مطهرة أى مما في نساء الدنيا من الأحوال المستقذرة البدنية والأدناس الطبيعية في محل النصب على أنه حال من جنات أو حال ثانية من الضمير المنصوب أو على انه صفة لجنات بعد صفة أو في محل الرفع على أنه خبر للموصول بعد خبر

وندخلهم ظلا ظليلا أى فينانا لا جوب فيه دائما لا تنسخه شمس اللّهم ارزقنا ذلك بفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين والظليل صفة مشتقة من لفظ الظل للتأكيد كما في ليل أليل ويوم أيوم وقرئ يدخلهم بالياء وهو عطف على سيدخلهم لا على أنه غير الإدخال الأول بالذات بل بالعنوان كما في قوله تعالى ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ

٥٨

إن اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها في تصدير الكلام بكلمه التحقيق وإظهار الاسم الجليل وإيراد الأمر على صورة الإخبار من الفخامة وتأكيد وجوب الامتثال به والدلالة على الاعتناء بشأنه ما لا مزيد عليه وهو خطاب يعم حكمه المكلفين قاطبة كما أن الأمانات تعم جميع الحقوق المتعلقة بذمهم من حقوق اللّه تعالى وحقوق العباد سواء كانت فعلية أو قولية أو اعتقادية وإن ورد في شأن عثمان بن طلحة ابن عبد الدار سادن الكعبة المعظمة وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان رضى اللّه عنه باب الكعبة وصعد السطح وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال لو علمت أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لم أمنعه فلوى علي بن أبي طالب يده وأخذه منه وفتح ودخل النبي وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت فأمر عليا أن يرده إلى عثمان ويعتذر إليه فقال عثمان لعلى أكرهت وآذيت ثم جئت ترفو فقال لقد أنزل اللّه تعالى في شأنك قرآنا فقرأ عليه الآية فقال عثمان أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أن محمدا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فهبط جبريل عليه الصلاة و السلام وأخبر رسمل اللّه أن السدانه في اولاد عثمان أبدا وقرئ الأمانة على التوحيد والمراد الجنس لا المعهود

وقيل هو أمر للولاة بأداء الحقوق المتعلقة بذمهم من المناصب وغيرها إلى مستحقها كما أن قوله تعالى

وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل أمر لهم بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها وحيث كان المأمور به ههنا مختصا بوقت المرافعة قيد به بخلاف المأمور به أو لا فإنه لما لم يتعلق بوقت دون وقت أطلق إطلاقا فقوله تعالى ان تحكموا عطف على ان تؤدوا قد فصل بين العاطف والمعطوف بالظرف المعمول له عند الكوفيين والمقدر يدل هو عليه عند البصريين لأن ما بعد ان لا يعمل فيما قبلها عندهم اى وان تحكموا اذا حكمتم الخ وقوله تعالى بالعدل متعلق بتحكموا أو بمقدر وقع حالا من فاعله اى ملتبسين بالعدل والإنصاف

 ان اللّه نعما يعظكم به ما إما منصوبه موصوفه بيعظكم به أو مرفوعه موصوله به كأنه قيل نعم شيئا يعظكم به أو نعم الشئ الذى يعظكم به والمخصوص بالمدح محذوف اى نعما يعطكم به ذلك وهو المأمور به من اداء الأمانات والعدل في الحكومات وقرىء نعما بفتح النون والجمله مستأنفه مقرره لما قبلها متضمنه لمزبد لطف بالمخاطبين وحسن استدعاء لهم الى الأمتثال بالامر واظهار الأسم الجليل لتربية المهابه

ان اللّه كان سميعا لأقوالكم

بصيرا بأفعالكم فهو وعد ووعيد واظهار الجلاله لما ذكر آنفا فإن فيه تأكيدا لكل من الوعد والوعيد

٥٩

يأيها الذين آمنوا بعد ما أمر الولاة بطريق العموم أو بطريق الخصوص بإداء الأمانات والعدل في الحكومات أمر سائر الناس بطاعتهم لكن لا مطلقا بل في ضمن طاعة اللّه تعالى وطاعة رسول اله حيث قيل

اطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم وهم أمراء الحق وولاة العدل كالخلفاء الراشدين ومن يقتدى بهم من المهتدين

وأما أمراء الجور فبمعزل من استحقاق العطف على اللّه تعالى والرسول في وجوب الطاعة لهم

وقيل هم علماء الشرع لقوله تعالى ولو ردوه إلى الرسول وإلى اولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ويأباه قوله تعالى

فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى اللّه إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه إلا أن يجعل الخطاب لأولى الأمر بطريق الالتفات وفيه بعد وتصدير الشرطية بالفاء لترتبها على ما قبلها فإن بيان حكم طاعة أولى الأمر عند موافقتها لطاعة اللّه تعالى وطاعة الرسول يستدعى بيان حكمها عند المخالفة أى إن اختلفتم أنتم وأولوا الأمر منكم في أمر من أمور الدين فراجعوا فيه إلى كتاب اللّه

والرسول أى إلى سنته وقد استدل به منكرو القياس وهو في الحقيقة دليل على حجيته كيف لاورد المختلف فيه إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه وهو المعنى بالقياس ويؤيده الأمر به بعد الأمر بطاعة اللّه تعالى وبطاعة رسوله فإنه يدل على أن الأحكام ثلاثة ثابت بالكتاب وثابت بالسنة وثابت بالرد إليهما بالقياس

إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر متعلق بالأمر الأخير الوارد في محل النزاع إذ هو المحتاج إلى التحذير من المخالفة وجواب الشرط محذوف عند جمهور البصريين ثقة بدلالة المذكور عليه أى إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر فردوه إلخ فإن الإيمان بهما يوجب ذلك إما الإيمان باللّه تعالى فظاهر

وأما الإيمان باليوم الآخر فلما فيه من العقاب علىالمخالفة

ذلك اى الرد المأمور به

خير لكم وأصلح

وأحسن في نفسه

تأويلا أى عاقبة ومآلا وتقديم خيريته لهم على أحسنيته في نفسه لما مر من تعلق أنظارهم بما ينفعهم والمراد بيان اتصافه في نفسه بالخيرية الكاملة في حد ذاته من غير اعتبار فضله على شئ يشاركه في أصل الخيرية والحسن كما ينبئ عنه التحذير السابق

٦٠

ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما انزل من قبلك تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تعجيبا له من حال الذين يخالفون مامر من الأمر المحتوم ولا يطيعوناللّه ولا رسوله ووصفهم بادعاء الإيمان بالقرآن وبما أنزل من قبله أعنى التوراة لتأكيد التعجيب وتشديد التوبيخ والاستقباح ببيان كمال المباينة بين دعواهم وبين ما صدر عنهم وقرئ الفعلان على البناء للفاعل وقوله عز و جل

يريدون أن يتحاكمو إلى الطاغوت استئناف سيق لبيان محل التعجيب مبنى على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل ماذا يفعلون فقيل يريدون الخ روى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أن منافقا خاصم يهوديا فدعاه اليهودى إلى رسول اله ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ثم إنهما احتكما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقضى لليهودى فلم يرض به المنافق فدعاه إلى عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه فقال اليهودى قضى لى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فلم يرضى بقضائه فقال عمر للمنافق أهكذا قال نعم فقال عمر مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد ثم قال هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء اللّه وقضاء رسوله فنزلت فهبط جبريل عليه الصلاة و السلام وقال إن عمر فرق بين الحق والباطل فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنت الفاروق فالطاغوت كعب بن الأشرف سمى به لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أو على التشبيه بالشيطان والتسمية باسمه أو جعل اختيار التحاكم إلى غير النبى على التحاكم إليه تحاكما إلى الشيطان وقال الضحاك المراد بالطاغوت كهنة اليهود وسحرتهم وعن الشعبى ان المنافق دعا خصمه إلى كاهن في جهينة فتحاكما إليه وعن السدى أن الحادثة وقعت في قتيل بين بنى قريظة والنضير فتحاكم المسلمون من الفريقين إلى النبى وأبى المنافقون منهما إلا التحاكم إلى أبى بردة الكاهن الأسلمى فتحاكموا إليه فيكون الاقتصار حينئذ في معرض التعجيب والاستقباح على ذكر إرادة التحاكم دون نفسه مع وقوعه أيضا للتنبيه على ان إرادته مما يقضى منه العجب ولا ينبغى أن يدخل تحت الوقوع فما ظنك بنفسه وهذا أنسب بوصف المنافقين بادعاء الإيمان بالتوراة فإنه كما يقتضى كونهم من منافقى اليهود يقتضى كون ماصدر عنهم من التحاكم ظاهر المنافاة لا دعاء الإيمان بالتوراة وليس التحاكم إلى كعب بن الأشرف بهذه المثابة من الظهور وأيضا فالمتبادر من قوله تعالى

وقد أمروا أن يكفروا به كونهم مأمورين بكفره في الكتابين وما ذاك إلا الشيطان وأولياؤه المشهورون بولاته كالكهنة ونظائرهم لا من عداهم ممن لم يشتهر بذلك وقرئ أن يكفروا بها على أن الطاغوت جمع كما في قوله تعالى اولياؤهم الطاغوت يخرجونهم والجملة حال من ضمير يريدون مفيدة لتأكيد التعجيب وتشديد الاستقباح كالوصف السابق وقوله عز و جل

يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا عطف على يريدون داخل في حكم التعجيب فإن اتباعهم لمن يريد إضلالهم وإعراضهم عمن يريد هدايتهم أعجب من كل عجيب وضلالا

وأما مصدر مؤكد للفعل المذكور بحذف الزوائد كما في قوله تعالى وأنبتها نباتا حسنا أى إضلالا بعيدا

وأما مصدر مؤكد لفعله المدلول عليه بالفعل المذكور أى فيضلوا إضلالا وأياما كان فوصفه بالبعد الذى هو نعت موصوفه للمبالغة وقوله تعالى

٦١

وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل اللّه وإلى الرسول تكملة لمادة التعجيب ببيان إعراضهم صريحا عن التحاكم إلى كتاب اللّه تعالى ورسوله إثر بيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت وقرئ تعالوا بضم اللام على أنه حذف لام الفعل تخفيفا كما في قولهم ما باليت بالة أصلها بالية كعافية وكما قالوا في آية إن أصلها أيية فحذفت اللام ووقعت واو الجمع بعد اللام في تعالى فضمت فصار تعالوا ومنه قول أهل مكة للمرأة تعالى بكسر اللام وعليه قول أبى فراس الحمدانى

 ... أيا جارتى ما أنصف الدهر بيننا ... تعالى أقاسمك الهموم تعالى ...

رأيت المنافقين إظهار المنافقين في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق وذمهم به والإشعار بعلة الحكم والرؤية بصرية وقوله تعالى

يصدون عنك حال من المنافقين

وقيل الرؤية قلبية والجملة مفعول ثان لها والأول وهو الأنسب بظهور حالهم وقوله تعالى

صدودا مصدر مؤكد لفعله أى يعرضون عنك إعراضا واى إعراض

وقيل هو اسم للمصدر الذي هو الصد والأظهر أنه مصدر لصد اللازم والصد مصدر للمتعدى يقال صد عنه صدودا أى أعرض عنه وصده عنه صدا أى منعه منه وقوله تعالى

٦٢

فكيف شروع في بيان غائلة جنايتهم المحكية ووخامة عاقبتها اى كيف يكون حالهم

إذا أصابتهم مصيبة أى وقت إصابة المصيبة إياهم بافتضاحهم بظهور نفاقهم

بما قدمت أيديهم بسبب ما عملوا من الجنايات التى من جملتها التحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن حكمك

ثم جاءوك للاعتذار عما صنعوا

 من القبائح وهو عطف على أصابتهم والمراد تفظيع حالهم وتهويل مادهمهم من الخطب واعتراهم من شدة الأمر عند إصابة المصيبة وعند المجئ للاعتذار

يحلفون باللّه حال من فاعل جاءوك

إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أى ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الفصل بالوجه الحسن والتوفيق بين الخصمين ولم نرد مخالفة لك ولاتسخطا لحكمك فلا تؤاخذنا بما فعلنا وهذا وعيد لهم على ما فعلوا وأنهم سيندمون عليه حين لاينفعهم الندم ولا يغنى عنهم الاعتذار

وقيل جاء أولياء المنافق يطلبون بدمه وقد أهدره اللّه تعالى فقالوا ما أردنا أى ما أراد صاحبنا المقتول بالتحاكم إلى عمر رضى اللّه عنه تعالى إلا أن يحسن إليه ويوفق بينه وبين خصمه

٦٣

أولئك إشارة إلى المنافقين وما فيه من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتهم في الكفر والنفاق وهو مبتدأ خبره

الذين يعلم اللّه ما في قلوبهم أى من فنون الشرور والفسادات المنافية لما اظهروا لك من الأكاذيب

فأعرض عنهم جواب شرط محذوف أى إذا كان حالهم كذلك فأعرض عن قبول معذرتهم

وقيل عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم ولا تظهر لهم علمك بما في بواطنهم ولاتهتك سترهم حتى يبقوا على وجل وحذر

وعظهم اى أزجرهم عن النفاق والكيد

وقل لهم في أنفسهم في حق أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المنطوية على الشرور التى يعلمها اللّه تعالى أو في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم مسارا بالنصيحة لأنها في السر انجع

قولا بليغا مؤثرا واصلا إلى كنه المراد مطابقا لما سيق له من المقصود فالظرف على التقديرين متعلق بالأمر

وقيل متعلق ببليغا على رأى من يجيز تقديم معمول الصفة على الموصوف أى قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتنمون به اغتناما ويستشعرون منه الخوف استشعارا وهو التوعد بالقتل والاستئصال والإيذان بأن ما في قلوبهم من مكنونات الشر والنفاق غير خاف على اللّه تعالى وأن ذلك مستوجب لأشد العقوبات وإنما هذه المكافأة والتأخير لإظهارهم الإيمان والطاعة وإضمارهم الكفر ولئن أظهروا الشقاق وبرزوا بأشخاصهم من نفق النفاق ليمسنهم العذاب إن اللّه شديد العقاب

٦٤

وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن اللّه كلام مبتدا جىء به تمهيدا لبيان خطئهم في الاشتغال بستر جنايتهم بالاعتذار بالأباطيل وعدم تلافيها بالتوبة أى وما أرسلنا رسولا من الرسل لشئ من الأشياء إلا ليطاع بسبب إذنه تعالى في طاعته وأمره المرسل إليهم بان يطيعوه ويتبعوه لأنه مؤد عنه تعالى فطاعته طاعة اللّه تعالى ومعصيته معصيته تعالى من يطع الرسول فقد أطاع اللّه أو بتيسير اللّه تعالى وتوفيقه في طاعته

ولو انهم إذ ظلموا أنفسهم وعرضوها لعذاب على عذاب النفاق بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك

جاءوك من غير تأخير كما يفصح عنه تقديم الظرف متوسلين بك في التنصل عن جنايتهم القديمة والحادثة ولم يزدادوا جناية على جناية بالقصد إلى سترها بالاعتذار الباطل والإيمان الفاجر

فاستغفروا اللّه بالتوبة والإخلاص وبالغوا في التضرع إليك حتى انتصبت شفيعا لهم إلى اللّه تعالى واستغفرت لهم وإنما قيل

واستغفر لهم الرسول على طريقة لالتفات تفخيما لشأن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وتعظيما لاستغفاره وتنبيها على أن شفاعته في حيز القبول

لوجدوا اللّه توابا رحيما لعلموه مبالغا في القبول توبتهم والتفضل عليهم بالرحمة وإن فسر الوجدان بالمصادفة كان قوله تعالى توابا حالا ورحيما بدل منه أو حالا من الضمير فيه وأيا ما كان ففيه فضل ترغيب للسامعين في المسارعة إلى التوبة والاستغفار ومزيد تنديم لأولئك المنافقين على ما صنعوا لما أن ظهور تباشير قبول التوبة وحصول الرحمة لهم ومشاهدتهم لآثارهما نعمة زائدة عليهما موجبة لكمال الرغبة في تحصليها وتمام الحسرة على فواتها

٦٥

فلا وربك أى فوربك ولا مزيده لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد النفى في جوابه أعنى قوله لايؤمنون لأنها تزاد في الإثبات أيضا كما في قوله تعالى فلا أقسم بمواقع النجوم ونظائره

حتى يحكموك أى يتحاكموا إليك ويترافعوا إليك وإنما جئ بصيغة التحكيم مع أنه حاكم بامر اللّه سبحانه إيذانا بان حقهم أن يجعلوه حكما فيما بينهم ويرضوا بحكمه وإن قطع النظر عن كونه حاكما على الإطلاق

فيما شجر بينهم أى فيما اختلف بينهم من الأمور واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه

ثم لا يجدوا عطف على مقدر ينساق إليه الكلام اى فتقضى بينهم ثم لا يجدوا

في أنفسهم حرجا ضيقا

مما قضيت أى مما قضيت به أو من قضائك

وقيل شكا من أجله إذا الشاك في ضيق من أمره

ويسلموا أى ينقادوا لأمرك ويذعنوا له

تسليما تأكيد للفعل بمنزلة تكريره أى تسليما تاما بظاهرهم وباطنهم يقال سلم لأمر اللّه وأسلم له بمعنى وحقيقته سلم نفسه له إذا جعلها سالمة له خالصة أى ينقادوا لحكمك أنقيادا لا شبهة فيه بظاهرهم وباطنهم

وقيل نزلت في شأن المنافق واليهودى

وقيل في شان الزبير ورجل من الأنصار حين اختصما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في شراج من الحرة كانا يسقيان بها النخل فقال اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصارى وقال لأن كان ابن عمتك فتغير وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم قال اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر واستوف حقك ثم أرسله إلى جارك كان قد أشار على الزبير برأى فيه سعة له ولخصمه فلما أحفظ رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مستوعب للزبير حقه في صريح الحكم ثم خرجا فمرا على المقدار بن السود فقال لمن القضاء فقال الأنصارى قضى لابن عمته ولوى شدقه ففطن يهودى كان مع المقداد فقال قاتل اللّه هؤلاء يشهدون أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثم يتهمونه في قضاء يقضى بينهم وايم اللّه لقد اذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى فدعانا إلى التوبة منه وقال اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضى عنا فقال ثابت بن قيس بن شماس اما واللّه إن اللّه ليعلم منى الصدق لو أمرنى محمد أن اقتل نفسى لقتلتها وروى انه قال ذلك ثابت وابن مسعود وعمار بن ياسر

 رضى اللّه عنهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم والذى نفسى بيده إن من أمتى رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسى فنزلت في شأن هؤلاء

٦٦

ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم أى لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على نبى إسرائيل من قتلهم أنفسهم أو خروجهم من ديارهم حين استتابتهم من عبادة العجل وأن مصدرية أو مفسرة لأن كتبنا في معنى أمرنا

ما فعلوه أى المكتوب المدلول عليه بكتبنا أو أحد مصدرى الفعلين

إلا قليل منهم أى إلا أناس قليل منهم وهم المخلصون من المؤمنين وروى عن عمر رضى اللّه عنه أنه قال واللّه لو أمرنا ربنا لفعلنا والحمد للّه الذى لم يفعل بنا ذلك

وقيل معنى اقتلوا أنفسكم تعرضوا بها للقتل بالجهاد وهو بعيد وقرئ إلا قليلا بالنصب على الاستثناء أوإلا فعلا قليلا

ولوانهم فعلوا ما يوعظون به من متابعة الرسول وطاعته والانقياد لما يراه ويحكم به ظاهراوباطنا وسميت أوامر اللّه تعالى ونواهيه مواعظ لاقترانهما بالوعد والوعيد

لكان أى فعلهم ذلك

خيرا لهم عاجلا وآجلا

واشد تثبيتا لهم على الإيمان وأبعد من الاضطراب فيه وأشد تثبيتا لثواب أعمالهم

٦٧

وإذا لأتيناهم من لدنا أجرا عظيما جواب لسؤال مقدر كأنه قيل وماذا يكون لهم بعد التثبيت فقيل وإذن لو ثبتوا لآتيناهم فإن إذن جواب وجزاء

٦٨

ولهديناهم صراطا مستقيما يصلون بسلوكه إلى عالم القدس ويفتح لهم أبواب الغيب قال من عمل بما علم ورثه اللّه تعالى علم مالم يعلم

٦٩

ومن يطع اللّه والرسول كلام مستأنف فيه فضل ترغيب في الطاعة ومزيد تشويق إليها ببيان أن نتيجتها أقصى ما ينتهى إليه همم الأمم وأرفع ما يمتد إليه أعناق عزائمهم من مجاورة أعظم الخلائق مقدارا وأرفعهم منارا متضمن لتفسير ما أبهم في جواب الشرطية السابقة وتفصيل مااجمل فيه والمراد بالطاعة هو الانقياد التام والامتثال الكامل لجميع الأوامر والنواهي

فأولئك إشارة إلى المطيعين والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في فعل الشرط باعتبار لفظها وما فيه من معنى البعد مع القرب في الذكر للإيذان بعلو درجتهم وبعد منزلتهم في الشرف وهو مبتدأ خبره

مع الذين انعم اللّه عليهم والجملة جواب الشرط وترك ذكر المنعم به للإشعار بقصور العبارة عن تفصيله وبيانه

من النبيين بيان للمنعم عليهم والتعرض لمعية سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع ان الكلام في بيان حكم طاعة نبينا لجريان ذكرهم في

 سبب النزول مع ما فيه من الإشارة إلى أن طاعته متضمنة لطاعتهم لاشتمال شريعته على شرائعهم التي لا تتغير بتغير الأعصار روى أن نفرا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قالوا يا نبي اللّه إن صرنا إلى الجنة تفضلنا بدرجات النبوة فلا نراك وقال الشعبي جاء رجل من الأنصار إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وهو يبكي فقال ما يبكيك يا فلان فقال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم باللّه الذي لا إله إلا هو لأنت أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي وولدي وإني لأذكرك وأنا في أهلي فيأخذني مثل الجنون حتى أراك وذكرت موتي وإنك ترقع مع النبيين وإني إن أدخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك فلم يرد النبي فنزلت وروى أن ثوبان مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كان شديد الحب له عليه الصلاة و السلام قليل الصبر عنه فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في وجهه فسأله رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن حاله فقال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما بي من وجع غير أني إذا لم أراك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك فذكرت الآخرة فخفت أن لا اراك هناك لأني عرفت انك ترفع مع النبيين وإن أدخلت الجنة كنت في منزلة دون منزلك وإن لم أدخل فذاك حين لا أراك أبدا فنزلت فقال عليه الصلاة و السلام والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين وحكى ذلك عن جماعة من الصحابة رضي اللّه عنهم وروى أن أنسا قال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الرجل يحب قوما ولما يلحق بهم قال عليه الصلاة و السلام المرء مع من أحب

والصديقين أي المتقدمين في تصديقهم المبالغين في الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال وهم أفاضل أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأماثل خواصهم المقربين كأبي بكر الصديق رضي اللّه عنه

والشهداء الذين بذلوا أرواحهم في طاعة اللّه تعالى وإعلاء كلمته

والصالحين الصارفين اعمارهم في طاعته واموالهم في مرضاته وليس المراد بالمعية الإتحاد في الدرجة ولا مطلق الإشتراك في دخول الجنة بل كونهم فيها بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وزيارته متى أراد وإن بعد ما بينهما من المسافة

وحسن أولئك رفيقا الرفيق الصاحب مأخوذ من الرفق وهو لين الجانب واللطافة في المعاشرة قولا وفعلا فإن جعل أولئك إشارة إلى النبين ومن بعدهم على أن ما فيه من معنى البعد لما مر مرارا فرفيقا إما تمييز أو حال على معنى أنهم وصفوا بالحسن من وجهة كونهم رفقاء للمطيعين أو حال كونهم رفقاء لهم وإفراده لما أنه كالصديق والخليط والرسول يستوي فيه الواحد والمتعدد أو لأنه إريد حسن كل واحد منهم رفيقا وإن جعل إشارة إلى المطيعين فهو تمييز على معنى إنهم وصفوا بحسن الرفيق من النبيين ومن بعدهم لا بنفس الحسن فلا يجوز دخول من عليه كما يجوز في الوجه الأول والجملة تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب والتشويق قيل فيه معنى التعجب كأنه قيل وما أحسن أولئك رفيقا ولاستقلاله بمعنى التعجب قرئ وحسن بسكون السين

٧٠

ذلك إشارة إلى ما للمطيعين من عظيم الأجر ومزيد الهداية ومرافقة هؤلاء المنعم عليهم أو إلى فضلهم ومزيتههم وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته في الشرف وهو مبتدأ وقوله تعالى

الفضل صفته وقوله تعالى

من اللّه خبره أي ذلك الفضل العظيم من اللّه

 تعالى لا من غيره أو الفضل خبره ومن اللّه متعلق بمحذوف وقع حالا منه والعامل فيه معنى الإشارة أي ذلك الذي ذكر الفضل كائنا من اللّه تعالى لا أن أعمال المكلفين توجبه

وكفى باللّه عليما بحزاء من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق اهله

٧١

يأيها الذين آمنوا خذوا حذركم الحذر و الحذر واحد كالأثر والأثر والشبه والشبه أي تيقظوا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم يقال أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه

وقيل هو ما يحذر به من السلاح والحزم أي استعدوا للعدو

فانفروا بكسر الفاء وقرئ بضمها أي اخرجوا إلى الجهاد عند خروجكم

ثبات جمع ثبة وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة ووزنها في الأصل فعلة كحطمة حذفت لامها وعوض عنها تاء التأنيث وهل هي واو أو ياء فيه قولان قيل إنها مشتقة من ثبا يثبو كحلا يحلو أي اجتمع

وقيل من ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه كأنك جمعت محاسنه ويجمع أيضا على ثبين جبرا لما حذف من عجزه ومحلها النصب على الحالية أي انفروا جماعات متفرقة سرية بعد سرية

أو انفروا جميعا أي مجتمعين كوكبة واحدة ولا تتخاذلوا فتلقوا بأنفسكم إلى التهلكة

٧٢

وإن منكم لمن ليبطئن أي ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد من بطأ بمعنى أبطأ كعتم بمعنى أعتم والخطاب لعسكر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كلهم المؤمنين منهم والمنافقين والمبطئون منافقوهم الذين تثاقلوا وتخلفوا عن الجهاد أو ليبطئن غيره ويثبطنه من بطأ منقولا من بطؤ كثقل من ثقل كما بطأ ابن أبي ناسا يوم أحد والأول أنسب لما بعده واللام الأولى للإبتداء دخلت على اسم إن للفصل بالخبر والثانية جواب قسم محذوف والقسم بجوابه صلة من والراجع إليه ما استكن في ليبطئن والتقدير وإن منكم لمن أقسم باللّه ليبطئن

فإن أصابتكم مصيبة كقتل وهزيمة

قال أي المبطئ فرحا بصنعه وحامدا لرأيه

قد أنعم اللّه علي أي بالقعود

إذ لم أكن معهم شهيدا أي حاضرا في المعركة فيصيبني ما أصابهم والفاء في الشرطية لترتيب مضمونها على ما قبلها فإن ذكر التبطئة مستتبع لذكر ما يترتب عليها كما ان نفس التبطئة مستدعية لشئ ينتظر المبطئ وقوعه

٧٣

ولئن أصابكم فضل كفتح وغنيمة

من اللّه متعلق بأصابكم أو بمحذوف وقع صفة لفضل أي كائن من اللّه تعالى ونسبة إصابة الفضل إلى جناب اللّه تعالى دون إصابة المصيبة من العادات الشريفة التنزيلية كما في قوله سبحانه وإذا مرضت فهو يشفين وتقديم الشرطية الأولى لما أن مضمونها لمقصدهم أوفق وأثر نفاقهم فيها أظهر

ليقولن ندامة على تثبطه وقعوده وتهالكا على حطام الدنيا وتحسرا على فواته وقرئ ليقولن بضم اللام إعادة للضمير إلى معنى من وقوله تعالى

كأن لم تكن بينكم وبينه مودة اعتراض وسط بين الفعل ومفعوله الذى هو

ياليتنى كنت معهم فأفوز فوزا عظيما لئلا يفهم من مطلع كلامه ان تمنيه لمعية المؤمنين لنصرتهم ومظاهرتهم حسبما يقتضيه ما في البين من المودة بل هو للحرص على المال كما ينطق به آخره وليس إثبات المودة في البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكم

وقيل الجملة التشبيهية حال من ضمير ليقولن أى ليقولن مشبها بمن لامودة بينكم وبينه

وقيل هى داخلة في المقول أى ليقولن المثبط من المنافقين وضعفه المؤمنين كأن لم تكن بينكم وبين محمد مودة حيث لم يستصحبكم في الغزو حتى تفوزا بما فاز ياليتنى كنت معهم وغرضه إلقاء العدواة بينهم وبينه عليه الصلاة و السلام وتأكيدها وكأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشان وهو محذوف وقرئ لم يكن بالياء والبمادى في ياليتنى محذوف أى يا قوم قيا يا أطلق للتنبيه على الاتساع وقوله تعالى فأفوز نصب على جواب التنمنى وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أى فأنا أفوز في ذلك الوقت أو على أنه معطوف على كنت داخل معه تحت التمنى

٧٤

فليقاتل في سبيل اللّه قدم الظرف على الفاعل للاهتمام به

الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة أى يبيعونها بها وهم المؤمنون فالفاء جواب شرط مقدر أى إن بطأ هؤلاء عن القتال فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة أو الذين يشترونها ويختارونها على الاخرة وهم ا المبطئون فالفاء للتعقيب أى ليتركوا ما كانوا عليه من التثبيط والنفاق وليعقبوه بالقتال في سبيل اللّه

ومن يقاتل في سبيل اللّه فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه بنون العظمة التفاتا

أجرا عظيما لا يقادر قدرة وتعقيب القتال بأحد الأمرين للإشعار بأن المجاهد حقه أن يوطن نفسه بإحدى الحسنيين ولا يخطر بباله القسم الثالث أصلا وتقديم القتل للإيذان بتقدمه في استتباع الأجر روى أبو هريرة رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال تكفل اللّه تعالى لمن جاهد في سبيله لايخرجه إلا جهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذى خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة

٧٥

وما لكم خطاب للمأمورين بالقتال على طريقة الالتفات مبالغة في التحريض عليه وتأكيدا لوجوبه وهو مبتدأ وخبر وقوله عز و جل

لاتقاتلون في سبيل اللّه حال عاملها ما في الظرف من معنى الفعل والاستفهام للإنكار والنفى أى أى شئ لكم غير مقاتلين أى لا عذر لكم في ترك المقاتلة

والمستضعفين عطف على اسم اللّه أى في سبيل المستضعفين وهو تخليصهم من الأسر وصونهم عن العدو أو على السبيل بحذف المضاف أى في

 خلاص المستضعفين ويجوز نصبه على الاختصاص فإن سبيل اللّه يعم أبواب الخير وتخليص ضعفه المؤمنين من أيدى الكفرة أعظمها وأخصها

من الرجال والنساء والولدان بيان للمستضعفين أو حال منهم وهم المسلمون الذين بقوا بمكة لصد المشركين أو لضعفهم عن الهجرة مستذلين ممتهنين وإنما ذكر الولدان معهم تكميلا للاستعطاف واستجلاب المرحمة وتنبيها على تناهى ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان لإرغام آبائهم وأمهاتهم وإيذانا بإجابه الدعاء الآتى واقتراب زمان الخلاص ببيان شركتهم في التضرع إلى اللّه تعالى كل ذلك للمبالغة في الحث على القتال

وقيل المراد بالولدان العبيد والإماء إذ يقال لهما الوليد والوليدة وقد غلب الذكور على الإناث فاطلق الوالدن على الولائد أيضا

الذين محله الجر على أنه صفة للمستضعفين أو لما في حيز البيان أو النصب على الاختصاص

يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها بالشرك الذى هو ظلم عظيم وبأذيه المسلمين وهى مكة والظالم صفتها وتذكيرة لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل والمفعول إذا أجرى على غير من هو له كان كالفعل في التذكير والتأنيث بحسب ما عمل فيه واجعل لنا من لدنك وليا كلا الجارين متعلق باجعل لاختلاف معنييهما وتقديم المجرورين على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة في المؤخر بتقديم أحواله فإن تأخير ما حقه التقديم عما هو من أحواله المرغبة فيه كما يورث شوق السامع إلى وروده ينبئ عن كمال رغبة المتكلم فيه واعتنائه بحصوله لا محالة وتقديم اللام على من للمسارعة إلى إبراز كون المسئول نافعا لهم مرغوبا فيه لديهم ويجوز أن تتعلق كلمة من بمحذوف وقع حالا من وليا قدمت عليه لكونه نكرة وكذا الكلام في قوله تعالى

واجعل لنا من لدنك نصيرا قال ابن عباس رضى اللّه عنهما أى ول علينا واليا من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا وشرعنا وينصرنا على أعدائنا ولقد استجاب اللّه عز و جل دعاءهم حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة وجعل لمن بقى منهم خير ولى وأعز ناصر ففتح مكة على يدى نبيه فتولاهم أى تول ونصرهم آية نصرة ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها

وقيل المراد واجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة أى كن أنت ولينا وناصرنا وتكرير الفعل ومتعلقيه للمبالغة في التضرع والابتهال

٧٦

الذين آمنوا يقاتلون في سبيل اللّه كلام مبتدأ سيق لترغيب المؤمنين في القتال وتشجيعهم ببيان كمال قوتهم بإمداد اللّه تعالى ونصرته وغاية ضعف أعدائهم أى المؤمنون إنما يقاتلون في دين اللّه الحق الموصل لهم إلى اللّه عز و جل وفي أعلاء كلمته فهو وليهم وناصرهم لا محالة

والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت أى فيما يوصلهم إلى الشيطان فلا ناصر لهم سواه والفاء في قوله تعالى

فقاتلوا أولياء الشيطان لبيان استتباع ما قبلها لما بعدها وذكرهم بهذا العنوان للدلالة على أن ذلك نتيجة لقتالهم في سبيل الشيطان والإشعار بأن المؤمنين أولياء اللّه تعالى لما أن قتالهم في سبيله وكل ذلك لتأكيد رغبة المؤمنين في القتال و تقوية عزائمهم عليه فإن ولاية اللّه تعالى علم في العزة و القوة كما أن ولاية الشيطان مثل في الذلة و الضعف كأنه قيل إذا كان الأمر كذلك فقاتلوا يا أولياء اللّه أولياء الشيطان ثم صرح بالتعليل فقيل

إن كيد الشيطان كان ضعيفا أي في حد ذاته فكيف بالقياس الى قدرة اللّه تعالى ولم يتعرض لبيان قوة جنابه تعالى إيذانا بظهورها قالوا فائدة إدخال كان في أمثال هذه المواقع التأكيد ببيان أنه منذ كان كان كذلك فالمعنى إن كيد الشيطان منذ كان موصوفا بالضعف

٧٧

ألم تر الى الذين قيل لهم كفوا أيديكم تعجيب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من إحجامهم عن القتال مع أنهم كانوا قبل ذلك راغبين فيه حراصا عليه بحيث كادوا يباشرونه كما ينبئ عنه الأمر بكف الأيدي فإن ذلك مشعر بكونهم بصدد بسطها الى العدو بحيث يكادون يسطون بهم قال الكلبي إن جماعة من أصحاب النبي منهم عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي و قدامة بن مظعون الجمحى وسعد بن أبى وقاص الزهرى رضى اله تعالى عنهم كانوا يلقون من مشركى مكة قبل الهجرة إذى شديدا فيشكون ذلك إلى النبى ويقولون أئذن لنا في قتالهم ويقول لهم النبى كفوا أيديكم

وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فإنى لم أومر بقتالهم وبناء القول للمفعول مع أن القائل هو النبي للإيذان بكون ذلك بأمر اللّه سبحانه وتعالى ولأن المقصود بالذات والمعتبر في التعجيب إنما هو كمال رغبتهم في القتال وكونههم بحيث احتاجوا إلى النهى عنه وإنما ذكر في حيز الصلة الأمر بكف الأيدى لتحقيقة وتصويره على طريقة الكناية فلا يتعلق ببيان خصوصة الآمر غرض وكانوا في مدة إقامتهم بمكة مستمرين على تلك الحالة فلما هاجروا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى المدينة وأمروا بالقتال في وقعة بدر كرهه بعضهم وشق ذلك عليه لكن لاشكا في الدين ولا رغبة بل نفورا عن الإخطار بالأرواح وخوفا من الموت بموجب الجبلة البشرية وذلك قوله تعالى

فلما كتب عليهم القتال الخ وهو عطف على قيل لهم كفوا أيديكم باعتبار مدلوله الكنائى إذ حينئذ يتحقق التباين بين مدلولى المعطوفين وعليه يدور أمر التعجيب كأنه قيل ألم تر إلى الذين كانوا حراصا على القتال فلما كتب عليهم كرهه بعضهم وقوله تعالى

إذا فريق منهم يخشون الناس جواب لما على أن فريق مبتدأ ومنهم متعلق بمحذوف وقع صفة له ويخشون خبره وتصديره بإذا المفاجأة لبيان مسارعتهم إلى الخشية آثر ذى أثير من غير تلعثم وتردد أى فاجأ فريق منهم أن يخشوا الكفار أن يقتلوهم ولعل توجيه التعجيب إلى الكل مع صدور الخشية عن بعضهم للإيذان بانه ما كان ينبغى أن يصدر عن أحدهم ما ينافى حالتهم الأولى وقوله تعالى

كخشية اللّه مصدر مضاف إلى المفعول محله النصب على أنه حال من فاعل يخشون أى يخشونهم مشبهين لأهل خشية اللّه تعالى وقوله تعالى

أو أشد خشية عطف عليه بمعنى أو أشد خشية من أهل

 خشية اللّه أو على أنه مصدر مؤكد على جعل الخشية ذات خشية مبالغة كما في جد جده أى يخشونهم خشية مثل خشية اللّه أو خشية أشد خشية من خشية اللّه وأيا ما كان فكلمه أو أما للتنويع على معنى أن خشية بعضهم كخشية اللّه وخشية بعضهم أشد منها

وأما للإبهام على السامع وهو قريب مما في قوله تعالى وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون يعنى ان من يبصرهم يقول إنهم مائة ألف أو يزيدون

وقالوا عطف على جواب لما أى فلما كتب عليهم القتال فاجأ فريق منهم خشية الناس وقالوا

ربنا لم كتبت علينا القتال في هذا الوقت لا على وجه الاعتراض على حكمه تعالى والإنكار لإيجابه بل على طريق تمنى التخفيف

لولا أخرتنا إلى أجل قريب استزادة في مدة الكف واستمهال إلى وقت آخر حذرا من الموت وقد جوز أن يكون هذا مما نطقت به ألسنة حالهم من غير أن يتفوهوا به صريحا

قل أى تزهيدا لهم فيما يؤملونه بالقعود من المتاع الفانى وترغيبا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقى

متاع الدنيا أى ما يتمتع وينتفع به في الدنيا

قليل سريع التقضى وشيك الانصرام وإن أخرتم إلى ذلك الأجل

والآخرة أى ثوابها الذى من جملته الثواب المنوط بالقتال

خير أى لكم من ذلك المتاع القليل لكثرته وعدم انقطاعه وصفائه عن الكدورات وإنما قيل

لمن اتقى حثا لهم على اتقاء العصيان والإحلال بمواجب التكليف

ولا تظلمون فتيلا عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أى تجزون فيها ولا تنقصون إدنى شئ من أجور أعمالكم التى من جملتها مسعاكم في شأن القتال فلا ترغبوا عنه والفتيل ما في شق النواة من الخيط يضرب به المثل في القلة والحقارة وقرئ يظلمون بالياء إعادة للضمير إلى ظاهر من

٧٨

أينما تكونوا يدرككم الموت كلام مبتدأ مسوق من قبله تعالى بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى المخاطبين اعتناء بالزامهم أثر بيان حقارة الدنيا وعلو شأن الآخرة بواسطته فلا محل له من الإعراب أو في محل النصب داخل تحت القول المأمور به اى أينما تكونوا في الحضر والسفر يدرككم الموت الذى لأجله تكرهون القتال زعما منكم أنه من مظانه وتحبون القعود عنه على زعم انه منجاه منه وفي لفظ الادراك إشعار بأنهم في الهرب من الموت وهو مجد في طلبهم وقرئ بالرفع على حذف الفاء كما في قوله

 ... من يفعل الحسنات اللّه يشكرها ...

أو على اعتبار وقوع إينما كنتم في موقع أينما تكونوا أو على أنه كلام مبتدأ وأينما تكونوا متصل بلا تظلمون أى لاتنقصون شيئا مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم الحروب ومعارك الخطوب

ولو كنتم في بروج مشيدة في حصون رفيعة أو قصور محصنة وقال السدى وقتادة بروج السماء يقال شاد البناء وأشادة وشيده رفعه وقرئ مشيدة بكسر الياء وصف لها بفعل فاعلها مجازا كما في قصيدة شاعرة ومشيدة من شاد القصر إذا رفعه أو طلاه بالشيد وهو الجص وجواب لو محذوف اعتمادا على دلالة

 ما قبله عليه أى ولو كنتم في بروج مشيدة يدرككم الموت والجملة معطوفة على أخرى مثلها أى لو لم تكونوا في بروج مشيدة ولو كنتم الخ وقد اطرد حذفها لدلالة المذكور عليها دلالة واضحة فإن الشئ إذا تحقق المانع فلأن يتحقق عند عدمه أولى وعلى هذه النكته يدور ما في لو الوصلية من التأكيد والمبالغة وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون

وإن تصبهم حسنة يقولون هذه من عند اللّه كلام مبتدأ جئ به عقيب ما حكى عن المسلمين لما بينهما من المناسبة في اشتمالها على إسناد ما يكرهونه إلى بعض الأمور وكراهتهم له بسبب ذلك والضمير لليهود والمنافقين روى أنه كان قد بسط عليهم الرزق فلما قدم النبى المدينة فدعاهم إلى الإيمان فكفروا أمسك عنهم بعض الإمساك فقالوا مازلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم هذا الرجل وأصحابه وذلك قوله تعالى

وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك أى وإن تصبهم نعمة ورخاء نسبوها إلى اللّه تعالى وإن تصبهم بلية من جدب وغلاء أضافوها إليك كما حكى عن أسلافهم بقوله تعالى وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه فأمر النبى بأن يرد زعمهم الباطل ويرشدهم إلى الحق ويلقمهم الحجر ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال إذ لا يجترئون على معارضة أمر اللّه عز و جل حيث قيل

قل كل من عند اللّه اى كل واحدة من النعمة والبلية من جهة اللّه تعالى خلقا وإيجادا من غير أن يكون لى مدخل في وقوع شئ منهما بوجه من الوجوه كما تزعمون بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلى بها عقوبة كما سيأتى بيانه فهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل ردا على أسلافهم من قوله تعالى إلا إنما طائرهم عند اللّه أى أنما سبب خيرهم وشرهم أو سبب إصابة السيئة التى هى ذنوبهم عند اللّه تعالى لا عند غيره حتى يسندوها إليه ويطيروا به وقوله تعالى

فما لهؤلاء القوم الخ كلام معترض بين المبين وبيانه مسوق من جهته تعالى لتعييرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجيب من كمال غباوتهم والفاء لترتيبه على ما قبله وقوله تعالى

لايكادون يفقهون حديثا حال من هؤلاء والعامل فيها ما في الظرف من معنى الاستقرار أى وحيث كان الأمر كذلك فأى شئ حصل لهم حال كونهم بمعزل من أن يفقهوا حديثا أو استئناف مبني على سؤال نشأ من الاستفهام كأنه قيل ما بالهم وماذا يصنعون حتى يتعجب منه أو يسأل عن سببه فقيل لا يكادون يفقهون حديثا من الأحاديث أصلا فيقولون ما يقولون إذ لو فقهوا شيئا من ذلك لفهموا هذا النص وما في معناه وما هو أوضح منه من النصوص القرآنية الناطقة بان الكل فائض من عند اللّه تعالى وأن النعمة منه تعالى بطريق التفضل والإحسان والبلية بطريق العقوبة على ذنوب العباد لاسيما النص الوارد عليهم في صحف موسى وإبراهيم الذى وفي لا تزر وازرة وزر أخرى ولم يسندوا جناية أنفسهم إلى غيرهم وقوله تعالى

٧٩

ما أصابك من حسنة الخ بيان للجواب المجمل المأمور به واجراؤه

على لسان النبي ثم سوق البيان من جهته عز و جل بطريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى كل واحد من الناس والالتفات لمزيد الاعتناء به والاهتمام برد مقالتهم الباطلة والإيذان بأن مضمونه مبنى على حكمة دقيقة حقيقية بأن يتولى بيانها علام الغيوب وتوجيه الخطاب إلى كل واحد منهم دون كلهم كما في قوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم للمبالغة في التحقيق بقطع احتمال سببية معصية بعضهم لعقوبة الآخرين أى ما أصابك من نعمة من النعم

فمن اللّه أى فهي منه تعالى بالذات تفصيلا وإحسانا من غير استيجاب لها من قبلك كيف لا وأن كل ما يفعله المرء من الطاعات التي يفرض كونها ذريعة إلى إصابة نعمة ما فهي بحيث لا تكاد تكافئ نعمة حياته المقارنه لأدائها ولا نعمة إقداره تعالى إياه على أدائها فضلا عن استيجابها لنعمة أخرى ولذلك قال ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة اللّه تعالى قيل ولا أنت يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ولا أنا

وما أصابك من سيئة أى بلية من البلايا

فمن نفسك أى فهي منها بسبب اقترافها المعاصي الموجبة لها وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى نازلة من عنده عقوبة كقوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وعن عائشة رضي اللّه عنها ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو اللّه عنه أكثر

وقيل الخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كما قبله وما بعده لكن لا لبيان حاله بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير ولعل ذلك لإظهار كمال السخط والغضب عليهم والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استقاق الخطاب لا سيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة

وأرسلناك للناس رسولا بيان لجلالة منصبه ومكانته عند اللّه عز و جل بعد بيان بطلان زعمهم الفاسد في حقه بناء على جهلهم بشأنه الجليل وتعريف الناس للاستغراق والجار إما متعلق برسولا قدم عليه للاختصاص الناظر إلى قيد العموم اى مرسلا لكل الناس لا لبعضهم فقط كما في قوله تعالى وما أرسلناك إلا كافة للناس

وأما بالفعل فرسولا حال مؤكدة وقد جوز أن يكون مصدرا مؤكدا كما في قوله

 ... لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول ...

أى بإرسال بمعنى رسالة

وكفى باللّه شهيدا أى على رسالتك بنصب المعجزات التي من جملتها هذا النص الناطق والوحي الصادق والالتفات لتربية المهابة وتقوية الشهادة والجملة اعتراض تذييلى

٨٠

من يطع الرسول فقد أطاع اللّه بيان لأحكام رسالته إثر بيان تحققها وثبوتها وإنما كان كذلك لأن الآمر والناهي في الحقيقة هو اللّه تعالى وإنما هو مبلغ لأمره ونهيه فمرجع الطاعة وعدمها هو اللّه سبحانه روى أنه قال من أحبني فقد أحب اللّه ومن أطاعني فقد أطاع اللّه فقال المنافقون ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل لقد قارف الشرك وهو ينهي أن يعبد غير اللّه ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى فنزلت والتعبير عنه بالرسول دون الخطاب للإيذان بأن مناط كون طاعته طاعة له تعالى ليس خصوصية ذاته بل من حيثية رسالته وإظهار الجلالة لتربية المهابة وتأكيد وحوب الطاعة بذكر عنوان الألوهية وحمل الرسول على الجنس المنتظم له انتظاما أوليا يأباه تخصيص الخطاب به في قوله تعالى

ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا وجواب الشرط محذوف والمذكور تعليل له أى ومن أعرض عن الطاعة فأعرض عنه إنما أرسلناك رسولا مبلغا لاحفيظا مهيمنا تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم بحسبها وحفيظا حال من الكاف وعليهم متعلق به قدم عليه رعاية للفاصلة وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن الإفراد في تولى باعتبار لفظه

٨١

ويقولون شروع في بيان معاملتهم مع الرسول بعد بيان وجوب

طاعته أى يقولون إذا أمرتهم بشئ طاعة أى امرنا وشأننا طاعة أو منا طاعة والأصل النصب على المصدر والرفع للدلالة على الثبات كسلام

فإذا برزوا من عندك أى خرجوا من مجلسك

بيت طائفة منهم أى من القائلين المذكورين وهم رؤساؤهم

غير الذى تقول أى زورت طائفة منهم وسوت خلاف ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة لأنهم مصرون على الرد والعصيان وإنما يظهرون ما يظهرون على وجه النفاق أو خلاف ما قلت لها والتبييت إما من البيتوتة لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل يقال هذا أمر بيت بليل

وأما من بيت الشعر لأن الشاعر يدبره ويسوبه وتذكير الفعل لأن تأنيث الطائفة غير حقيقى وقرئ بادغام التاء في الطاء لقرب المخرج وإسناده إلى طائفة منهم لبيان أنهم المتصدون له بالذات والباقون أتباع لهم في ذلك لا لأن الباقبن ثابتون على الطاعة

واللّه يكتب ما يبيتون أى يكتبه في جمله ما يوحى إليك فيطلعك على أسراراهم فلا يحسبوا أن مكرهم يخفى عليكم فيجدوا بذلك إلى الإصرار بكم سبيلا أو يثبته في صحائفهم فيجازيهم عليه وأيا ما كان فالجملة اعتراضية

فأعرض عنهم أى لاتبال بهم وبما صنعوا أو تجاف عنهم ولا تتصد للانتقام منهم والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها

وتوكل على اللّه في كل ما تأتى وما تذر لاسيما في شأنهم وإظهار الجلالة في مقام الإضمار للإشعار بعلة الحكم

وكفى باللّه وكيلا فيكفيك معرفتهم وينتقم لن منهم والإظهار ههنا أيضا لما مر والتنبية على استقلال الجملة واستغنائها عما عداها من كل وجه

٨٢

أفلا يتدبرون القرآن إنكار واستقباح لعدم تدبرهم القرآن وإعراضهم عن التأمل فيما فيه من موجبات الإيمان وتدبر الشئ تأمله والنظر في أدباره وما يؤول إليه في عاقبته ومنتهاه ثم استعمل في كل تفكر ونظر والفاء للعطف على مقدر أى أيعرضون عن القرآن فلايتأملون فيه ليعلموا كونه من عند اللّه تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التى من جملتها هذا الوحى الصادق والنص الناطق بنفاقهم المحكى على ما هو عليه

ولوكان أى القرآن

من عند غير اللّه كما يزعمون

لوجدوا فيه اختلافا كثيرا بأن يكون بعض أخباره غير مطابق للواقع إذ لا علم با لأمور الغيبية ماضية كانت أو مستقبلة لغيره سبحانه وحيث كانت مطابقة للواقع تعين كونه من عنده تعالى قال الزجاج ولولا أنه من عند اللّه تعالى لكان ما فيه من الإخبار بالغيب مما يسره المنافقون وما يبيتونه مختلفا بعضه حق وبعضه باطل لأن الغيب لا يعلمه إلا اللّه تعالى وقال أبو بكر الأصم إن هؤلاء المنافقين كانوا يتواطؤون في السر على أنواع كثيرة من الكيد والمكر وكان اللّه تعالى يكلع الرسول على ذلك ويخبره بها مفصله فقيل لهم إن ذلك لو ما لم يحصل بأخبار اللّه تعالى لما أطرد الصدق فيه ولوقع فيه الاختلاف فلما لم يقع ذلك قط علم أنه بإعلامه تعالى هذا هو الذى يستدعيه جزالة النظم الكريم

وأما حمل الاختلاف على التناقض وتفاوت النظم في البلاغة بان كان بعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعانى وبعضه على معنى فاسد غير ملتئم وبعضه بالغا حدا لإعجاز وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته كما جنح إليه الجمهور فمما لا يساعده السباق ولا السياق ومن رام التقريب وقال لعل ذكره ههنا للتنبيه على ان اختلاف ما سبق من الأحكام ليس لتناقض في الحكم بل لاختلاف في الحكم والمصالح المقتضية لذلك فقد أبعد عن الحق بمراحل

٨٣

 وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف اذاعوا به يقال أذاع السر وأذاع أى أشاعه وأفشاه

وقيل معنى إذاعوا به فعلوا به الإذاعة وهو أبلغ من أذاعوه هو كلام مسوق لدفع ما عسى يتوهم في بعض المواد من شائبة الاختلاف بناء على عدم فهم المراد ببيان أن ذلك لعدم وقوفهم على معنى الكلام لا لتخلف مدلوله عنه وذلك أن ناسا من ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالأحوال كانوا إذا أخبرهم الرسول بما اوحى إليه من وعد بالظفر أو تخويف من لكفرة يذيعونه من غير فهم لمعناه ولا ضبط لفحواه على حسب ما كانوا يفهمونه ويحملونه عليه من المحامل وعلى تقدير الفهم قد يكون ذلك مشروطا بأمور تفوت بالإذاعة فلا يظهر أثره المتوقع فيكون ذلك منشأ لتوهم الاختلاف فنعى عليهم ذلك

وقيل

ولو ردوه أى ذلك الأمر الذى جاءهم

إلى الرسول أى عرضوه على رأية مستكشفين لمعناه وما ينبغى له من التدبير والالتفات لما ان عنوان الرسالة من موجبات الرد والمراجعة إلى رأيه

وإلى أولى الأمر منهم وهم كبراء الصحابة البصراء في الأمور رضى اللّه تعالى عنهم

لعلمه أى لعلم الرادون معناه وتدبيره وإنما وضع موضع ضميرهم الموصول فقيل

الذين يستبطونه منهم للإيذان بانه ينبغى أن يكون قصدهم برده إليهم استكشاف معناه واستيضاح فحواه أى لعلمه أولئك الرادون الذين يستبطونه أى يتلقونه ويستخرجون علمه وتدبيره منهم أى من جهة الرسول وأولى الأمر من صحابته رضوان اللّه عليهم أجمعين ولما فعلوا في حقه ما فعلوا فلم يقع ما وقع من الاشتباه وتوهم الاختلاف

وقيل لعلمه الذين يستخرجون تدبيره بفظنهم وتجاربهم ومعرفتهم بامور الحرب ومكايدها فكلمة من في منهم بيانية

وقيل أنهم كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أمن وسلامة أو خوف وخلل أذاعوا به وكانت إذاعتهم مفسدة ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وإلى اولى الأمر لعلم تدبير ما أخبروا به الذين يستنبطونه أى بستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها

وقيل كانوا يقفون من رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وأولى الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء أو على خوف فيذيعونه فينتشر فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا العلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون وما يذرون فيه

وقيل كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنونا غير معلوم الصحة فيذيعونه فيعود ذلك وبالا على المؤمنين ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر وقالوا نسكت حتى نسمعه منهم ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع لعلم صحته وهل مما يذاع أولا يذاع هؤلاء المذيعون وهم الذين يسنبطونه من الرسول وأولى الأمر أى يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم فمساق النظم الكريم حينئذ لبيان جناية تلك الطائفة وسوء تدبيرهم إثر بيان جناية المنافقين ومكرهم والخطاب في قوله تعالى

ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته للطائفة المذكورة على طريقة الالتفات أى لولا فضله تعالى عليكم ورحمته بإرشادكم إلى طريق الحق الذى هو المراجعة في مظان الاشتباه إلى الرسول وأولى الأمر

لاتبعتم الشيطان وعملتم بآراء المنافقين فيما تأتون وما تذرون ولم تهتدوا إلى سنن الصواب

إلا قليلا وهم أولو الأمر الواقفون على أسرار الكتاب الراسخون في معرفة أحكامه فالاستثناء منقطع

وقيل ولولا فضله تعالى عليكم ورحمته بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لاتبعتم الشيطان وبقيتم على الكفر والضلالة إلا قليلا منكم قد تفضل عليه بعقل راجح اهتدى به إلى طريق الحق والصواب وعصمه من متابعة الشيطان كقس ابن ساعدة الأيادى وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وأضرابهم فالخطاب للكل والاستثناء متصل

وقيل المراد بالفضل والرحمة النصرة والظفر بالأعداء أى ولولا حصول النصر والظفر على التواتر والتتابع لاتبعتم الشيطان وتركتم الدين إلا قليلا منكم وهم أولوا البصائر الناقدة والنيات القوية والعزائم الماضية من أفاضل المؤمنين الواقفين على حقية الدين البالغين إلى درجة حق اليقين المستغنين عن مشاهدة آثار حقيته من الفتح والظفر

وقيل إلا اتباعا قليلا

٨٤

فقاتل في سبيل اللّه تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بطريق الالتفات وهو جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم أى إذا كان الأمر كما حكى من عدم طاعة المنافقين وكيدهم وتقصير الآخرين في مراعاة أحكام الإسلام فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا وقوله تعالى

لا تكلف إلا نفسك أى إلا فعل نفسك استئناف مقرر لما قبله فإن اختصاص تكليفه بفعل نفسه من موجبات مباشرته للقتال وحده وفيه دلالة على أن ما فعلوا من التثبيط لا يضره ولا يؤاخذ به

وقيل هو حال من فاعل قاتل أى فقاتل غير مكلف إلا نفسك وقرئ لا تكلف بالجزم على النهى

وقيل على جواب الأمر وقرئ بنون العظمة أى لانكلفك إلا فعل نفسك لا على معنى لا نكلف أحدا إلا نفسك

وحرض المؤمنين عطف على الأمر السابق داخل في حكمه فإن كون حال الطائفتين كما

 حكى سبب للأمر بالقتال وحده وبتحريض خلص المؤمنين التحريض على الشئ الحث عليه والترغيب فيه قال الراغب كأنه في الأصل إزالة الحرض وهو مالا خير فيه ولا يعتد به أي رغبهم في القتال ولا تعنف بهم وإنما لم يذكر المحرض عليه لغاية ظهوره وقوله تعالى

عسى اللّه أن يكف بأس الذين كفروا عدة منه سبحانه وتعالى محققة الإنجاز بكف شدة الكفرة ومكرهم فإن ما صدر بلعل وعسى مقرر الوقوع من جهته عز و جل وقد كان كذلك حيث روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وأعد ابا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في سبعين راكبا ووافوا الموعد وألقى اللّه تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب فرجعوا من مر الظهران وروى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وافى بجيشه بدرا وأقام بها ثماني ليال وكانت معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا كثيرا وقد مر في سورة آل عمران

واللّه أشد بأسا أي من قريش

وأشد تنكيلا أي تعذيبا وعقوبة تنكل من يشاهدها عن مباشرة ما يؤدي إليها والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبلها وإظهار الإسم الجليل لتربية المهابة وتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة وتكرير الخبر لتأكيد التشديد وقوله تعالى

٨٥

من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها أي من ثوابها جملة مستأنفة سيقت لبيان أن له فيما أمر به من تحريض المؤمنين حظا موفورا فإن الشفاعة هي التوسط بالقول في وصول شخص إلى منفعة من المنافع الدنيوية أو الأخروية أو خلاصه من مضرة ما كذلك من الشفع كأن المشفوع له كان فردا فجعله الشفيع شفعا والحسنة منها ما كانت في أمر مشروع روعي بها حق مسلم ابتغاء لوجه اللّه تعالى من غير أن يتضمن غرضا من الأغراض الدنيوية وأي منفعة أجل مما قد حصل للمؤمنين بتحريضه على الجهاد من المنافع الدنيوية والأخروية وأي مضرة أعظم مما تخلصوا منه بذلك منه بذلك من التثبط عنه ويندرج فيها الدعاء للمسلم فإنه شفاعة إلى اللّه سبحانه وعليه مساق آية التحية الآتية روى أنه قال من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك وهذا بيان لمقدار النصيب الموعود

ومن يشفع شفاعة سيئة وهي ما كانت بخلاف الحسنة

يكن له كفل منها أي نصيب من وزرها مساو لها في المقدار من غير أن ينقص منه شئ

وكان اللّه على كل شيئ مقيتا أي مقتدرا من أقات على الشيء إذا اقتدر عليه أو شهيدا حفيظا واشتقاقه من القوت فإنه يقوى البدن ويحفظه والجملة تذييل مقرر لما قبلها على كلا المعنيين

٨٦

وإذا حييتم بتحية ترغيب في فرد شائع من أفراد الشفاعة الحسنة إثر ما رغب فيها على الإطلاق وحذر عما يقابلها من الشفاعة السيئة وإرشاد إلى توفية حق الشفيع وكيفية أدائه فإن تحية الإسلام من المسلم شفاعة منه لأخيه إلى اللّه تعالى والتحية مصدر حيى أصلها تحيية كتسمية من سمى وأصل الأصل تحيي بثلاث ياءات فحذفت الأخيرة وعوض عنها تاء التأنيث وأدغمت الأولى في الثانية بعد نقل حركتها إلى الحاء قال الراغب أصل التحية الدعاء بالحياة وطولها ثم استعملت في كل دعاء وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضا يقول حياك اللّه ثم استعملها الشرع في السلام وهي تحية الإسلام قال تعالى تحيتهم فيها سلام وقال تحيتهم يوم يلقونه سلام وقال فسلموا على أنفسكم تحية من عند اللّه قالوا في السلام مزية على التحية لما أنه دعاء بالسلامة من الآفات الدينية والدنيوية وهي مستلزمة لطول الحياة وليس في الدعاء بطول الحياة ذلك ولأن السلام من أسمائه تعالى فالبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته أي إذا سلم عليكم من جهة المؤمنين

فحيوا بأحسن منها أي بتحية أحسن منها بأن تقولوا وعليكم السلام ورحمة اللّه إن اقتصر المسلم على الأول وبأن تزيدوا وبركاته إن جمعها المسلم وهي النهاية لإنتظامها لجميع فنون المطالب التي هي السلامة عن المضار ونيل المنافع ودوامها ونماؤها

أو ردوها أي أجيبوها بمثلها روى أن رجالا قال أحدهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم السلام عليك فقال وعليك السلام ورحمة اللّه وقال الآخر السلام عليك ورحمة اللّه فقال وعليك السلام ورحمة اللّه وبركاته وقال الآخر السلام عليك ورحمة اللّه وبركاته فقال وعليك فقال الرجل نقصتني فأين ما قال اللّه تعالى وتلا الآية فقال إنك لم تترك لي فضلا فرددت عليك مثله وجواب التسليم واجب وإنما التخيير بين الزيادة وتركها وعن النخعي ان السلام سنة والرد فريضة وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما الرد واجب وما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلا نزع اللّه منهم روح القدس وردت عليه الملائكة ولا يرد في الخطبة وتلاوة القرآن جهرا ورواية الحديث وعند دراسة العلم والأذان والإقامة ولا يسلم على لاعب النرد والشطرنج والمغني والقاعد لحاجته ومطير الحمام والعاري في الحمام وغيره قالوا ويسلم الرجل على إمرأته لا على الأجنبية والسنة أن يسلم الماشي على القاعد والراكب على الماشي وراكب الفرس على راكب الحمار والصغير على الكبير والقليل على الكثير وإذا التقيا ابتدرا وعن أبي حنيفة رضي اللّه عنه لا يجهر بالرد يعني الجهر الكثير وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم أي وعليكم ما قلتم حيث كان يقول بعضهم السلام عليكم وروى لا تبدأ اليهودي بالسلام وإذا بدأك فقل وعليك وعن الحسن أنه يجوز أن يقول للكافر وعليك السلام دون الزيادة

وقيل التحية بالأحسن عند كون المسلم مسلما ورد مثلها عند كونه كافرا

إن اللّه كان على كل شئ حسيبا فيحاسبكم على كل شئ من أعمالكم التي من جملتها ما أمرتم به من التحية فحافظوا على مراعاتها حسبما أمرتم به

٨٧

اللّه لا إله إلا هو مبتدأ وخبر وقوله تعالى

ليجمعنكم إلى يوم القيامة جواب قسم محذوف أي واللّه ليحشرنكم من قبوركم إلى يوم القيامة

وقيل إلى بمعنى في والجملة القسمية إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب أو خبر ثان للمبتدأ أو هي الخبر ولا إله إلا هو اعتراض وقوله تعالى

لا ريب فيه أي في يوم القيامة أو في الجمع حال من اليوم أو صفة للمصدر أي جمعا لا ريب فيه

ومن أصدق من اللّه حديثا إنكار لأن يكون أحد اصدق منه تعالى في وعده وسائر

 أخباره وبيان لاستحالته كيف لا والكذب محال عليه سبحانه دون غيره

٨٨

فما لكم مبتدأ وخبر والإستفهام للإنكار والنفي والخطاب لجميع المؤمنين لكن ما فيه من معنى التوبيخ متوجه إلى بعضهم وقوله تعالى

في المنافقين متعلق إما بما تعلق به الخبر أي أي شئ كائن لكم فيهم أي في أمرهم وشأنهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه

وأما بما يدل عليه قوله تعالى

فئتين من معنى الإفتراق أي فما لكم تفترقون في المنافقين

وأما بمحذوف وقع حالا من فئتين أي كائنتين في المنافقين لأنه في الأصل صفة فلما قدمت انتصبت حالا كما هو شأن صفات النكرات على الإطلاق أو من الضمير في تفترقون وانتصاب فئتين عند البصريين على الحالية من المخاطبين والعامل ما في لكم من معنى الفعل كما في قوله تعالى فما لهم عن التذكرة معرضين وعند الكوفيين على خبرية كان مضمرة أي فما لكم في المنافقين كنتم فئتين والمراد إنكار أن يكون للمخاطبين شئ مصحح لاختلافهم في أمر المنافقين وبيان وجوب بت القول بكفرهم وإجرائهم مجرى المجاهرين بالكفر في جميع الأحكام وذكرهم بعنوان النفاق باعتبار وصفهم السابق روى أنهم قوم من المنافقين استأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في الخروج إلى البدو معتلين بإجتواء المدينة فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة فمرحلة حتى لحقوا بالمشركين فاختلف المسلمون في امرهم

وقيل هم قوم هاجروا من مكة الى المدينة ثم بدا لهم فرجعوا و كتبوا الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إنا على دينك و ما أخرجنا إلا اجتواء المدينة و الاشتياق الى بلدنا و قيل هم ناس اظهروا الإسلام و قعدوا عن الهجرة و قيل هم قوم خرجوا مع الرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم أحد ثم رجعوا ويأباه ما سيأتى من جعل هجرتهم غاية للنهى عن تولهم

وقيل هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا راعى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ويرده ما سيأتى من الآيات الناطقة بكيفية المعاملة معهم من السلم والحرب وهؤلاء قد اخذوا وفعل بهم ما فعل من المثلة والقتل ولم ينقل في أمرهم اختلاف المؤمنين

واللّه أركسهم حال من المنافقين مفيدة لتأكيد الإنكار السابق واستبعاد وقوع المنكر ببيان وجود الباقى بعد بيان عدم الداعى

وقيل من ضمير المخاطبين والرابط هو الواو أى أى شئ يدعوكم إلى الاختلاف في كفرهم مع تحقق ما يوجب اتفاقكم على كفرهم وهو ان اللّه تعالى قد ردهم في الكفر كما كانوا

بما كسبوا بسبب ما كسبوه من الارتداد واللحوق بالمشركين ولاحتيال على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم والعائد إلى الموصول محذوف

وقيل ما صدرية أى بكسبهم

وقيل معنى أركسهم نكسهم بأن صيرهم للنار وأصل الركس رد الشئ مقلوبا وقرئ ركسهم مشددا وركسهم أيضا مخففا

أتريدون أن تهدوا من أضل اللّه تجريد للخطاب وتخصيص له بالقائلين بإيمانهم من الفئتين وتوبيخ لهم على زعمهم ذلك وإشعار بأنه يؤدى إلى محاولة المحال الذى هو هداية من أضله اللّه تعالى وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم وهم بمعزل من ذلك سعى في هدايتهم وإرادة لها ووضع الموصول موضع ضمير المنافقين لتشديد الإنكار

وتأكي استحالة الهداية بما ذكر في حيز الصلة وتوجيه الإنكار إلى الإرادة لا إلى متعلقها بأن يقال أتهدون الخ للمبالغة في إنكاره ببيان أنه مما لا يمكن إرادته فضلا عن إمكان نفسه وحمل الهداية والإضلال على الحكم بهما يأباه قوله تعالى

ومن يضلل اللّه فلن تجد له سبيلا أى ومن يخلق فيه الضلال كائنا من كان فلن تجد له سبيلا من السبل فضلا عن أن تهديه إليه وفيه من الإفصاح عن كمال الاستحالة ما ليس في قوله تعالى ومن يضلل اللّه فما له من هاد ونظائره وحمل إضلاله تعالى على حكمه وقضائه بالضلال مخل بحسن المقابلة بين الشرط والجزاء وتوجيه الخطاب إلى كل واحد من المخاطبين للإشعار بشمول عدم الوجدان للكل على طريق التفصيل والجملة إما حال من فاعل تريدون أو تهتدوا والرابط هو الواو أو اعتراض تذييلى مقرر للإنكار السابق ومؤكده لاستحالة الهداية فحينئذ يجوز أن يكون الخطاب لكل أحد ممن يصلح له من المخاطبين أولا ومن غيرهم

٨٩

ودوا لو تكفرون كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالهم في أنفسهم وكلمة لو مصدرية غنية عن الجواب وهى مع ما بعدها نصب على المفعولية أى ودوا أن تكفروا وقوله تعالى

كما كفروا نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أى كفر مثل كفرهم أو حال من ضمير ذلك المصدر كما هو رأى سيبويه وقوله تعالى

فتكونون سواء عطف على تكفرون داخل في حكمه أى ودوا أن تكفروا فتكونوا سواء مستوين في الكفر والضلال

وقيل كلمة لو على بابها وجوابها محذوف كمفعول ودوا لتقدير ودوا كفركم لو تكفرون كما كفروا لسروا بذلك

فلا تتخذوا منهم أولياء الفاء جواب شرط محذوف وجمع أولياء لمراعاة جمع المخاطبين فإن المراد نهى ان يتخذ واحد من المخاطبين وليا واحدا منهم أى إذا كان حالهم ما ذكر من ودادة كفركم فلا توالوهم

حتى يهاجروا في سبيل اللّه أى حتى يؤمنوا ويحققوا إيمانهم بهجرة كائنة للّه تعالى ورسوله لالغرض من أغراض الدنيا

فإن تولوا أى عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحية المستقيمة

فخذوهم أى إذأ قدرتم عليهم

واقتلوهم حيث وجدتموهم من الحل والحرم فإن حكمهم حكم سائر المشركين أسرا وقتلا

ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا أى جانبوهم مجانبة كلية ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة أبدا

٩٠

إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق استثناء من قوله تعالى فخذوهم واقتلوهم أى إلا الذين يتصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم الأسلميون كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وقت خروجه من مكة قد وادع هلال بن عويمرالأسلمى على أنه لايعينه ولا يعين عليه وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذى لهلال

وقيل هم بنو بكر بن زيد مناة

وقيل هم خزاعة

أو جاءوكم عطف على الصلة أى أو الذين جاءوكم كافين عن قتالكم وقتال قومهم استثنى من المأمور باخذهم وقتلهم فريقان أحدهما من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين والآخر من اتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين أو على صفة قوم كأنه قيل إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين أو إلى قوم كافين عن القتال لكم والقتال عليكم والأول هو الأظهر لما سيأتى من قوله تعالى فإن اعتزلوكم الخ فإنه صريح في أن كفهم عن القتال أحد سببى استحقاقهم لنفى التعرض لهم وقرئ جاءوكم بغير عاطف على أنه صفة بعد صفة أو بيان ليصلون أو استئناف

حصرت صدورهم حال بإضمار قد يدليل أنه قرئ حصرة صدورهم وحصرات صدورهم وحاصرات صدورهم وقيل صفة لموصوف محذوف هو حال من فاعل جاءوا أى أو جاءوكم قوما حصرت صدورهم

وقيل هو بيان لجاءوكم وهم بنو مدلج جاءوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم غير مقاتلين والحصر الضيق والانقباض

أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم أى من أن يقاتلوكم أو لأن يقاتلوكم أو كراهة ان يقاتلوكم الخ ولو شاء اللّه لسلطنهم عليكم جملة مبتدأة جارية مجرى التعليل لا ستثناء الطائفة الأخيرة من حكم الأخذ والقتل ونظمهم في سلك الطائفة الأولى الجارية مجرى المعاهدين مع عدم تعلقهم بنا ولا بمن عاهدونا كالطائفة الأولى أى ولو شاء اللّه لسلطهم عليكم ببسط صدورهم وتقوية قلوبهم وإزالة الرعب عنها

فلقاتلوكم عقيب ذلك ولم يكفوا عنكم واللام جواب لو على التكرير أو الإبدال من الأولى وقرئ فلقتلوكم بالخفيف والتشديد

فإن اعتزلوكم ولم يتعرضوا لكم

فلم يقاتلوكم مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة اللّه عز و جل

وألقوا إليكم السلم أى الانقياد والاستسلام وقرئ بسكون اللام

فما جعل اللّه لكم عليهم سبيلا طريقا بالأسر أو بالقتل فإن مكافتهم عن قتالكم وأن يقاتلوا قومهم أيضا وإلقاءهم إليكم السلم وإن لم يعاهدوكم كافية في استحقاقهم لعدم تعرضكم لهم

٩١

ستجدون آخرين يريدون ان يامنوكم ويامنوا قومهم هم قوم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسليمن فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم ليأمنوا قومهم

وقيل هم بنو عبد الدار وكان ديدنهم ما ذكر

كلما ردوا إلى الفتنة أى دعوا إلى الكفر وقتال المسلمين

أركسوا فيها قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه وكانوا فيها شرا من كل عدو شرير

فإن لم يعتزلوكم بالكف عن التعرض لكم بوجه ما

ويلقوا إليكم السلم أى لم يلقوا إليكم الصلح والعهد بل نبذوه إليكم

ويكفوا أيديهم أى لم يكفوها عن قتالكم

فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم أى تمكنتم منهم

وأوولئكم الموصوفون بما عدد من

 الصفات القبيحة

جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا حجة واضحة في الإيقاع بهم قتلا وسببا لظهور عدواتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر وإضرارهم بأهل الإسلام أو تسلطا ظاهرا حيث أذنا لكم في أخذهم وقتلهم

٩٢

وما كان لمؤمن اى وما صح له ولا لاق بحاله

أن يقتل مؤمنا بغير حق فإن الإيمان زاجر عن ذلك

إلا خطأ فإنه ربما يقع لعدم دخول الاحتراز عنه بالكلية تحت الطاقة البشرية وانتصابه إما على أنه حال أى وما كان له أن يقتل مؤمنا في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ أو على أنه مفعول له أى وما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ أو على أنه صفة للمصدر أى إلا قتلا خطأ

وقيل إلا بمعنى ولا والتقدير وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عمدا ولا خطأ

وقيل ما كان نفى في معنى النهى والاستثناء منقطع أى لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر والخطأ مالا يقارنه القصد إلى الفعل أو إلى الشخص أولا يقصد به زهوق الروح غالبا أو لا يقصد به محظور كرمى مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه وقرئ خطأ بالمد وخطا كعصا بتخفيف الهمزة روى أن عياش بن أبى ربيعة وكان اخا أبى جهل لأمه أسلم وهاجر إلى المدينة خوفا من أهله وذلك قبل هجرة النبى فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا يأويها سقف حتى يرجع فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبى أنيسه فأتياه وهو في أطم ففتل منه أبو جهل في الذروة والغارب وقال أليس محمد يحثك على صلة الرحم انصرف وبر أمك وأنت على دينك حتى نزل وذهب معهما فلما فسحا من المدينة كتفاه وجلده فقال للحرث هذا أخي فمن أنت يا حرث للّه على إن وجدتك خاليا ان أقتلك و قدما به على أمه فحلفت لا يحل كتافه أو يرتد ففعل بلسانه ثم هاجر بعد ذلك و اسلم الحرث و هاجر فلقيه عياش بظهر قباء و لم يشعر بإسلامه فأنحى عليه فقتله ثم أخبر بإسلامه فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال قتلته ولم أشعر بإسلامه فنزلت

ومن قتل مؤمنا خطا فتحرير رقبة أى فعلية أو فموجبة تحرير رقبة أى إعتاق نسمة عبر عنها بها كما يعبر عنها بالرأس

مؤمنة أى محكوما بإسلامها وإن كانت صغيرة

ودية مسلمة إلى أهله مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كسائر المواريث لقول ضحاك بن سفيان الكلابى كتب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يامرنى أن أورث امرأة أشيم الضبابى من عقل زوجها

إلا أن يصدقوا اى إلا أن يتصدق أهله عليه سمى العفو عنها صدقة حثا عليه وتنبيها على فضله وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم كل معروف صدقة وقرئ إلا أن يتصدقوا وهو متعلق بعلية أو بمسلمة أى تجب الدية أو يسلمها إلى أهله إلا وقت تصدقهم عليه فهو في محل النصب على الظرفية أو الإ حال كونهم متصدقين عليه فهو حال من الأهل أو القاتل

فإن كان أى المقتول

من قوم عدو لكم كفار محاربين

وهو مؤمن ولم يعلم به القاتل لكونه بين اظهر قومه

 بأن أسلم فيما بينهم و لم يفارقهم أو بأن أتاهم بعد ما فارقهم لمهم من المهمات

فتحرير رقبة مؤمنة أى فعلى قاتله الكفارة دون الدية إذ لا وراثة بينه و بين أهله لأنهم محاربون

و إن كان أى المقتول المؤمن

من قوم كفرة

بينكم و بينهم ميثاق أى عهد مؤقت أو مؤبد

فدية أى فعلى قاتله دية

مسلمة إلى أهله من أهل الإسلام إن وجدوا و لعل تقديم هذا الحكم ههنا مع تأخيره فيما سلف لللإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية تحاشيا عن توهم نقض الميثاق

و تحرير رقبة مؤمنة كما هو حكم سائر المسلمين و لعل إفراده بالذكر مع اندراجه فى حكم ما سبق من قوله تعالى و من قتل مؤمنا خطأ الخ لبيان أن كونه فيما بين المعاهدين لا يمنع وجوب الدية كما منعه كونه فيما بين المحاربين و قيل المراد بالمقتول الذمى أو المعاهد لئلا يلزم التكرار بلا فائدة و لا التوريث بين المسلم و الكافر و قد عرفت عدم لزومها

فمن لم يجد أى رقبة ليحررها بأن لم يملكها و لا ما يتوصل به إليها من الثمن

فصيام أى فعليه صيام

شهرين متتابعين لم يتخلل بين يومين من أيامهما إفطار

توبة نصب على أنه مفعول له أى شرع لكم ذلك توبة أى قبولا لها من تاب اللّه عليه إذا قبل توبته أو مصدر مؤكد لفعل محذوف أى تاب عليكم توبة و قيل على أنه حال من الضمير المجرور في عليه بحذف المضاف أى فعليه صيام شهرين ذا توبة و قوله تعالى

من اللّه متعلق بمحذوف وقع صفة لتوبة أى كائنة منه تعالى

وكان اللّه عليما بجميع الأشياء التى من جملتها حاله

حكيما فى كل ما شرع وقضى من الشرائع و الأحكام التى من جملتها ما شرعه في شأنه

٩٣

ومن يقتل مؤمنا متعمدا لما بين حكم القتل خطأ وفصل أقسامه الثلاثة عقب ذلك ببيان القتل عمدا خلا أن حكمه الدنيوي لما بين في سورة البقرة أقتصر ههنا على حكمه الأخروي روى أن مقيس بن ضبابة الكناني وكان قد أسلم هو وأخوه هشام وجد أخاه قتيلا في بني النجار فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وذكر له القصة فأرسل عليه السلام معه زبير بن عياض الفهري وكان من أصحاب بدر إلى بني النجار يأمرهم بتسليم القاتل إلى مقيس ليقتص منه إن علموه و بأداء الدية إن لم يعلموه فقالوا سمعا وطاعة للّه تعالى ولرسوله عليه السلام ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي ديته فأتوه بمائة من الأبل فانصرفا راجعين إلى المدينة حتى أذا كانا ببعض الطريق أتي الشيطان مقيسا فوسوس إليه فقال أتقبل دية أخيك فيكون مسبه عليك أقتل الذي معك فيكون نفسا بنفس وفضل الدية فتغفل الفهري فرماه بصخرة فشدخة ثم ركب بعيرا من الأبل وأستاق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا وهو يقول

 ... قتلت به فهرا وحملت عقله ... سراة بني النجار أصحاب قارع

 ... وأدركت ثأري وأضطجعت موسدا ... وكنت إلى الأوثان أول راجع ...

فنزلت وهو الذي أستثناه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يوم الفتح ممن آمنه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة وقوله تعالى معتمدا حال من فاعل يقتل وروى عن الكسائي سكون التاء كأنه فر من توالي الحركات

فجزاؤه الذي يستحقه بجنايته

جهنم وقوله تعالى

خالدا فيها حال مقدرة من فاعل فعل مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل فجزاؤه أن يدخل جهنم خالدا فيها

وقيل هو حال من ضمير يجزاها

وقيل من مفعول جازه وأيد ذلك بأنه أنسب بعطف ما بعده عليه لموافقته له صيغة ولا يخفى أن ما يقدر للحال أو العطف عليه حقه أن يكون مما يقتضيه المقام أقتضاء ظاهرا و يدل عليه الكلام دلالة بينه و ظاهر أن كون جزائه ما ذكر لا يقتضي وقوع الجزاء البتة كما ستقف عليه حتى يقدر يجزاها أو جازاه بطريق الإخبار عن وقوعه

وأما قوله تعالى

وغضب اللّه عليه فعطف على مقدر يدل عليه الشرطيه دلالة واضحة كأنه قيل بطريق الاستئناف تقريرا و تأكيدا لمضمونها حكم اللّه بأن جزاءه ذلك و غضب عليه أي انتقم منه

ولعنه أى أبعده عن الرحمة بجعل جزائه ما ذكر و قيل هو و ما بعده معطوف على الخبر بتقدير أن و حمل الماضي على معنى المستقبل كما في قوله تعالى ونفخ فى الصور و نظائره أى فجزاؤه جهنم و أن يغضب اللّه عليه الخ

و أعد له فى جهنم

عذابا عظيما لا يقادر قدره و لما ترى فى الآية الكريمة من التهديد الشديد و الوعيد الأكيد و فنون الإبراق و الإرعاد و قد تأيدت بما روى من الأخبار الشداد كقوله و الذي نفسي بيده لزوال الدنيا عند اللّه أهون من قتل مؤمن و قوله لو أن رجلا قتل بالمشرق و آخر رضى بالمغرب لأشرك فى دمه و قوله من أعان على قتل مؤمن و لو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة اللّه تعالى و بنحو ذلك من القوارع تمسكت الخوارج و المعتزلة بها فى خلود من قتل المؤمن عمدا فى النار ولا متمسك لهم فيها إلا لما قيل من أنها فى حق المستحل كما هو راى عكرمة و أضرابه بدليل أنها نزلت فى مقيس بن ضبابة الكناني المرتد حسبما مرت حكايته فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب بل لأن المراد بالخلود هو المكث الطويل لا الدوام لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم وما روى عن أبن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا وكذا ما روى عن سفيان أن أهل العلم كانوا إذا سئلوا قالوا لا توبة له محمول على الأقتداء بسنة اللّه تعالى في التشديد والتغليظ وعليه يحمل ما روى عن أنس رضي اللّه تعالى عنه أن النبي قال أبي اللّه أن يجعل لقاتل المؤمن توبة كيف لا وقد روى عن أبن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن رجلا سأله ألقاتل المؤمن توبة قال لا وسأله آخر القاتل المؤمن توبة فقال نعم فقيل له قلت لذلك كذا ولهذا كذا قال كان الأول لم يقتل بعد فقلت ما قلت كيلا يقتل وكان هذا قد قتل فقلت له ما قلت لئلا ييأس وقد روى عنه جواز المغفرة بلا توبه أيضا حيث قال في قوله تعالى فجزاؤه جهنم الآية هي جزاؤه فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له وروى مرفوعا عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال هو جزاؤه أن جازاه وبه قال عون بن عبد اللّه وبكر بن عبد اللّه وأبو صالح قالوا قد يقول الأنسان لمن يزجره عن أمر إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذبا قال الواحدي و الأصل في ذلك أن اللّه عز و جل يجوز أن يخلف الوعيد وإن أمتنع أن يخلف الوعد بهذا وردت السنة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في حديث أنس رضي اللّه عنه أنه قال من وعده اللّه تعالى على عمله ثوابا فهو منجزه له ومن أوعده على عمله عقابا فهو بالخيار والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل المذكور لأنه إخبار منه تعالى بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه بذلك كيف لا وقد قال اللّه تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها ولو كان هذا إخبارا بأنه تعالى يجزي كل سيئة بمثلها لعارض قوله تعالى و يعفو عن كثير

٩٤

يأيها الذين آمنوا إثر ما بين حكم القتل بقسميه وأن ما يتصور صدوره عن المؤمن إنما هو القتل خطأ شرع في التحذير عما يؤدي إليه من قلة المبالاه في الأمور

إذا ضربتم في سبيل اللّه أي سافرتم في الغزو ولما في إذا من معنى الشرط صدر قوله تعالى

فتبينوا بالفاء أى فاطلبوا بيان الأمر في كل ما تأتون وما تذرون ولا تعجلوا فيه بغير تدبر وروية وقرئ فتثبتوا أى أطلبوا إثباته وقوله تعالى

ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام نهى عما هو نتيجة لترك المامور به وتعيين لمادة مهمة من المواد التى يجب فيها التبيين وقرئ السلم بغير ألف وبكسر السين وسكون اللام أى لا تقولوا بغير تأمل لمن حياكم بتحية الإسلام أو لمن إلقى إليكم مقاليد الاستسلام والانقياد

لست مؤمنا وإنما أظهرت ما أظهرت متعوذا بل أقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه وقرئ مؤمنا بالفتح أى مبذولا لك الأمان وهذا انسب بالقراءتين الأخرتين ولاقتصار على ذكر تحية الإسلام في القراءة الأولى مع كونها مقرونة بكلمتى الشهادة كما سيأتى في سبب النزول للمبالغة في النهى والزجر والتنبيه على كمال ظهور خطئهم ببيان أن تحية الإسلام كانت كافية في المكافة والانزجار عن التعرض لصاحبها فكيف وهي مقرونة بهما وقوله تعالى

تبتغون عرض الحيوة الدنيا حال من فاعل لاتقولوا منبئ عما يحملهم على العجلة وترك التأنى لكن لا على أن يكون النهى راجعا إلى القيد فقط كما في قولك لا تطلب العلم تبتغى به الجاه بل إليهما جميعا أى لا تقولوا له ذلك حال كونكم طالبين لماله الذى هو حطام سريع النفاذ وقوله تعالى

فعند اللّه مغانم كثيرة تعليل للنهى عن ابتغاء ماله بما فيه من الوعد الضمنى كأنه قيل لا تبتغوا ماله فعند اللّه مغانم كثيرة يغنمكموها فيغنيكم عن ارتكاب ما أرتكبتموه وقوله تعالى

كذلك كنتم من قبل فمن اللّه عليكم تعليل للنهى عن القول المذكور ولعل تأخيره لما فيه من نوع تفصيل ربما يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم مع مافيه من مراعاة المقارنة بين التعليل السابق وبين ما علل به كما في قوله تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين أسودت وجوهم الخ وتقديم خبر كان للقصر المفيد لتأكيد المشابهة بين طرفى التشبيه وذلك إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة والفاء في فمن للعطف على كنتم أى مثل ذلك إلذى ألقى إليكم السلام كنتم أنتم أيضا في مبادى إسلامكم لايظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم من تحية الإسلام ونحوها فمن اللّه عليكم بأن قبل منكم تلك المرتبة وعصم بها دماءكم وأموالكم ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم والفاء في قوله تعالى

فتبينوا فصيحة أى إذا كان الأمر كذلك فاطلبوا بيان هذا الأمر البين وقيسوا حاله بحالكم وافعلوا به ما فعل بكم في أوائل أموركم من قبول ظاهر الحال من غير وقوف على تواطؤ الظاهر والباطن هذا هو الذى تقتضيه جزالة التنزيل وتستدعيه فخامة شأنه الجليل ومن حسب أن المعنى أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم فمن اللّه عليكم بالاستقامة والاشتهار بالإيمان والتقدم فيه وإن صرتم أعلاما فيه فعليكم ان تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في المكافة ولا تقولوا الخ فقد أبعد عن الحق لأن المراد كما عرفت أن تحصين الدماء والأموال حكم مترتب على ما فيه المماثلة بينه وبينهم من مجرد التفوه بكلمة الشهادة وإظهار أن ترتبه عليه في حقهم يقتضى ترتبه عليه في حقه أيضا إلزاما لهم وإظهارا لخطئهم ولا يخفى أن ذلك إنما يتأتى بتفسير منه تعالى عليهم المترتب على كونهم مثله بتحصين دمائهم وأموالهم حسبما ذكر حتى يظهر عندهم وجوب تحصين دمه وماله أيضا بحكم المشاركة فيما يوجبه وحيث لم يفعل ذلك بل فسره بما فسره به لم يبق في النظم الكريم ما يدل على ترتب تحصين دمائهم وأموالهم على ما ذكر فمن أين له أن يقول فحصنت دماءكم وأموالكم حتى يتأتى البيان وارتكاب تقديره بناء على اقتضاء ما ذكر في تفسير المن إياه بناء على أساس واه كيف لا وإنما ذكره بصدد التفسير وإن كان أمرا متفرعا على ما فيه المماثلة مبنيا عليه في حقهم لكنه ليس بحكم أريد إثباته في وجوب بناء على ثبوته في حقهم كالتحصين المذكور حتى يستحق أن يتعرض له ولا بأمر له دخل في وجوب اعتبار ظاهر الإسلام من الداخلين فيه حتى يصح نظمه في سلك ما فرع عليه قوله فعليكم أن تفعلوا الخ وحمل الكلام على معنى أنكم في أول الأمر كنتم مثله في قصور الرتبة في الإسلام فمن اللّه عليكم وبلغتم هذه الرتبة العالية منه فلا تستقصروا حالته نظرا إلى حالتكم هذه بل اعتدوا بها نظرا إلى حالتكم السابقة يرده أن قتله لم يكن لاستقصار إسلامه بل لتوهم عدم مطابقة قلبه للسانه فإن الآية الكريمة نزلت في شأن مرداس ابن نهيك من أهل فدك وكان قد أسلم ولم يسلم من قومه غيره فغزتهم سرية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عليهم غالب ابن فضالة الليثى فهربوا وبقى مرداس لثقته بإسلامه فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد فلما تلاحقوا وكبروا وأكبر وقال لا أله إلا اللّه محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم السلام عليكم فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه فأخبروا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فوجد وجدا شديدا وقال قتلتموه إرادة ما معه فقال أسامة بن زيد إنه قال بلسانه دون قلبه وفي رواية أنما قالها خوفا من السلاح فقال هلا شققت عن قلبه وفي رواية أفلا شققت عن قلبه ثم قرأ الآية على أسامة فقال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم استغفر لى فقال كيف بلا إله ألا اللّه قال أسامة فما زال يعيدها حتى وددت أن لم اكن أسلمت إلا يومئذ ثم استغفر لى وقال اعتق رقبة

وقيل نزلت في رجل قال يارسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كنا نطلب القوم وقد هزمهم اللّه تعالى فقصدت رجلا فلما احس بالسيف قال إنى مسلم فقتلته فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أقتلت مسلما قال إنه كان متعوذا فقال أفلا شققت عن قلبه

إن اللّه كان بما تعملون من الأعمال الظاهرة والخفية وبكيفياتها

خبيرا فيجازيكم بحسبها إن خيرا فخير وإن شرا فشر فلا تتهاونوا في القتل واحتاطوا فيه والجملة تعليل لما قبلها بطريق الاستئناف وقرئ بفتح أن على أنها معمولة لتبينوا أو على حذف لام التعليل

٩٥

لايستوى القاعدون بيان لتفاوت طبقات المؤمنين بحسب تفاوت درجات مساعيهم في الجهاد بعد ما مر من الأمر به وتحريض المؤمنين عليه ليأنف القاعد عنه ويترفع بنفسه عن انحطاط رتبته فيهتزله رغبة في ارتفاع طبقته والمراد بهم الذين إذن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم قال ابن عباس رضى اللّه تعالى عنهما هم القاعدون عن بدر والخارجون إليها وهو الظاهر الموافق لتاريخ النزول لا ما روى عن مقاتل من أنهم الخارجون إلى تبوك فإنه مما لا يوافقه التاريخ ولا يساعده الحال إذ لم يكن للمتخلفين يومئذ هذه الرخصة وقوله تعالى

من المؤمنين متعلق بمحذوف وقع حالا من القاعدين أى كائنين من المؤمنين وفائدتها الإيذان من أول الأمر بعدم إخلال وصف القعود بإيمانهم والإشعار بعلة استحقاقهم لما سيأتى من الحسنى

غير أولى الضرر صفة للقاعدون لجريانه مجرئ النكرة حيث لم يقصد به قوم باعيانهم أو بدل منه وقرئ بالنصب على أنه حال منه أو استثناء وبالجر على أنه صفة للمؤمنين أو بدل منه والضرر المرض أو العاهة من عمى أو عرج أو زمانه أو نحوها وفي معناه العجز عن الأهبة عن زيد بن ثابت رضى اللّه تعالى عنه أنه قال كنت إلى جنب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فغشيته السكينة فوقعت فخذه على فخذى حتى خشيت أن ترضها ثم سرى عنه فقال اكتب فكتبت لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون فقال ابن أم مكتوم وكان أعمى يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين فغشيته السكينة كذلك ثم سرى عنه فقال اكتب لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر

والمجاهدون إيرادهم بهذا العنوان دون الخروج المقابل لوصف المعطوف عليه كما وقع في عبارة ابن عباس رضى اللّه تعالى عنهما وكذا تقييد المجاهدة بكونها

في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم لمدحهم بذلك والإشعار بعلة استحقاقهم لعلو المرتبة مع ما فيه من حسن موقع السبيل في مقابلة القعود وتقديم القاعدين في الذكر والإيذان من أول الأمر بان القصور الذى ينبئ عنه عدم الاستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر وعليه قوله تعالى هل يستوى الأعمى والبصير أم هل تستوى الظلمات والنور إلى غير ذلك

وأما قوله تعالى هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون فلعل تقديم الفاضل فيه لأن صلته ملكة لصلة المفضول وقوله عز و جل

فضل اللّه المجاهدين باموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة استئناف مسوق لتفضيل ما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر عدم استوائهما إجمالا ببيان كيفيته وكميته مبنى على سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل كيف وقع ذلك فقيل اللّه الخ

وأما تقدير ما لهم لا يستووى فإنما يليق بجعل الاستئناف تعليلا لعدم الاستواء مسوقا لإثباته وفيه تعكيس ظاهر فإن الذي يحق أن يكون مقصودا بالذات إنما هو بيان تفاضل الفريقين على درجات متفاوته

وأما عدم استوائهما فقصارى أمره أن يكون توطئه لذكره ولام المجاهدين والقاعدين للعهد فقيد كون الجهاد في سبيل اللّه معتبر في الأول كما أن قيد عدم الضرر معتبر في الثاني ودرجة نصب على المصدريه لوقوعها موقع المرة من التفضيل أي فضل اللّه تفضيله أو على نزع الخافض أي بدرجة

وقيل على التمييز

وقيل على الحالية من المجاهدين أي ذوي درجة وتنوينها للتفخيم وقوله تعالى

وكلا مفعول اول لما يعقبه قدم عليه لإفادة القصر تأكيدا للوعد أي كل واحد من المجاهدين والقاعدين

وعد اللّه الحسنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة لا احدهما فقط كما في قوله تعالى وارسلناك للناس رسولا على أن اللام متعلقة برسولا والجملة اعتراض جئ به تداركا لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول وقوله عز و جل

وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين عطف على قوله تعالى فضل اللّه الخ واللام في الفريقين مغنية لهما عن ذكر القيود التي تركت على سبيل التدريج وقوله تعالى

أجرا عظيما مصدر مؤكد لفضل على انه بمعنى اجر وإيثار على ما هو مصدر من فعله للإشعار بكون ذلك التفضيل أجرا لأعمالهم أو مفعول ثان له بتضمينه معنى الإعطاء أي اعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما

وقيل هو منصوب بنزع الخافض أي فضلهم بأجر عظيم وقوله تعالى

٩٦

درجات بدل من أجرا بدل الكل مبين لكمية التفضيل وقوله تعالى

منه متعلق بمحذوف وقع صفة لدرجات دالة على فخامتها وجلالة قدرها أي درجات كائنة منه تعالى قال ابن محير يزهي سبعون درجة ما بين كل درجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين خريفا وقال السدى هي سبعمائة درجة وعن ابي هريرة رضي اللّه عنه أن النبي قال إن في الجنة مائة درجة أعدها اللّه تعالى للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بين السماء والارض ويجوز أن يكون انتصاب درجات على المصدرية كما في قولك ضربه أسواطا أي ضربات كأنه قيل فضلهم تفضيلات وقوله تعالى

ومغفرة بدل من أجرا بدل البعض لأن بعض الأجر ليس من باب المغفرة أي مغفرة لما يفرط منهم من الذنوب التي لا سائر الحسنات التي يأتي بها القاعدون ايضا حتى تعد من خصائصهم وقوله تعالى

ورحمة بدل الكل من أجرا مثل درجات ويجوز أن يكون انتصابهما بإضمار فعلهما أي غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة هذا ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة وتقييده تارة بدرجة واخرى بدرجات مع اتحاد المفضل والمفضل عليه حسبما يقتضيه الكلام ويستدعيه حسن النظام إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزله الاختلاف الذاتي تمهيدا لسلوك طريق الإبهام ثم التفسير روما لمزيد التحقيق والتقرير كما في قوله تعالى وَلَمَّا جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ كأنه قيل فضل اللّه المجاهدين على القاعدين درجة لا يقادر قدرها ولا يبلغ كنهها وحيث كان تحقق هذا البون البعيد بينهما موهما لحرمان القاعدين قيل وكلا وعد اللّه الحسنى ثم اريد تفسير ما أفاده التنكير بطريق الإبهام بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة فقيل ما قيل وللّه در شأن التنزيل

وأما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم اللّه تعالى عاجلا في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيق بكونه درجة واحدة وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العالية الفائتة للحصر كما ينبئ عنه تقديم الأول وتأخير الثاني وتوسيط الوعد بالجنة بينهما كأنه قيل وفضلهم عليهم في الدنيا درجة واحدة وفي الآخرة درجات لا تحصى وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود أعني الواعد بالجنة توضيحا لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول واللّه سبحانه اعلم هذا ما بين المجاهدين وبين القاعدين غير أولى الضرر

وأما أولوا الضرر فهم مساوون للمجاهدين عند القائلين بمفهوم الصفة وبأن الاستثناء من النفي إثبات

وأما عند من لا يقول بذلك فلا دلالة لعبارة النص عليه وقد روى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لقد خلفتم في المدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم وكانت أفئدتهم تهوى الى الجهاد وبهم ما يمنعهم من المسير من ضرار أو غيره و بعبارة اخرى إن في المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه قالوا يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وهم بالمدينة قال نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر قالوا هذه المساواة مشروطة بشريطة اخرى سوى الضرر قذ ذكرت في قوله تعالى ليس على الضعفاء ولا على المرضى الى قوله اذا نصحوا للّه ورسوله

وقيل القاعدون الأول هم الاضراء والثاني غيرهم وفيه من تفكيك النظم الكريم ما لا يخفى ولا ريب في أن الأضراء من غيرهم درجة كما لا ريب في أنهم دون المجاهدين بحسب الدرجة الدنيوية

وكان اللّه غفورا رحيما تذليل مقرر لما وعد من المغفرة والرحمة

٩٧

إن الذين توفاهم الملائكة بيان لحال القاعدين عن الهجرة إثر بيان حال القاعدين عن الجهاد وتوفاهم يحتمل أن يكون ماضيا ويؤيده قرأ توفتهم وأن يكون مضارعا قد حذف منه احدى التاءين واصله تتوفاهم على حكاية الحال الماضية والقصد الى استحضار صورتها ويعضده قراءة من قرأ توفاهم على مضارع وفيت بمعنى أن اللّه تعالى يرفى الملائكة انفسهم فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها

ظالمي انفسهم حال من ضمير توفاهم فإنه وإن كان مضافا الى المعرفة الا أنه نكرة في الحقيقة لأن المعنى على الانفصال وان كان موصولا في اللفظ كما في قولة تعالى غير محلى الصيد وهديا بالغ الكعبه وثانى عطفه أي محلين الصيد وبالغا الكعبة وثانيا عطفه كأنه قيل ظالمين انفسهم وذلك بترك الهجرة واختيار مجاورة الكفرة الموجبة للإخلال بأمور الدين فإنها نزلت في ناس من مكة قد اسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة

قالوا أي الملائكة للمتوفين تقريرا لهم بتقصيرهم في إظهار إسرمهم وإقامة احكامه من الصلاة ونحوها وتوبيخها لهم بذلك

فيم كنتم أي في أي شئ كنتم من امور دينكم

قالوا استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية سؤال الملائكة كأنه قيل فماذا قالوا في الجواب فقيل قالوا متجانفين عن الإقرار

 الصريح بما هم فيه من التقصير متعللين بما يوجبه على زعمهم

كنا مستضعفين في الأرض أى في أرض مكة عاجزين عن القيام بمواجب الدين فيما بين أهلها

قالوا إبطالا لتعللّهم وتبكيتا لهم

ألم تكن أرض اللّه واسعة فتهاجروا فيها إلى قطر آخر منها تقدرون فيه على إقامة أمور الدين كما فعله من هاجر إلى المدينة وإلى الحبشة

وأما حمل تعللّهم على إظهار العجز عن الهجرة وجعل جواب الملائكة تكذيبا لهم في ذلك فيردوه أن سبب العجز عنها لا ينحصر في فقدان دار الهجرة بل قد يكون لعدم الاستطاعة للخروج بسب الفقر أو لعدم تمكين الكفرة منه فلا يكون بيان سعة الأرض تكذيبا لهم وردا عليهم بل لا بد من بيان استطاعتهم أيضا حتى يتم التبكيت

وقيل كانت الطائفة المذكورة قد خرجوا مع المشركين إلى بدر منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة وأشباههما فقتلوا فيها فضربت الملائكة وجوهم وأدبارهم وقالوا لهم ماقالوا فيكون ذلك منهم تقريعا وتوبيخا لهم بما كانوا فيه من مساعدة الكفرة وانتظامهم في عسكرهم ويكون جوابهم بالاستضعاف تعللا بانهم كانوا مقهورين تحت أيديهم وأنهم أخرجوا كارهين فرد عليهم بانهم كانوا بسبيل من الخلاص عن قهرهم متمكنين من المهاجرة

فأولئك الذين حكيت أحوالهم الفظيعة

مأواهم أى في الآخرة

جهنم كما أن مأواهم في الدنيا دار الكفر لتركهم الفريضة المحتومة فمأواهم مبتدأوجهنم خبره والجملة خبر لأولئك وهذه الجملة خبر إن والفاء فيه لتضمن اسمها معنى الشرط وقوله تعالى قالوا فيم كنتم حال من الملائكة بإضمار قد عند من يشترطه أو هو الخبر والعائد منه محذوف أى قالوا لهم والجملة المصدرة بالفاء معطوفة عليه مستنتجة منه ومما في حيزه

وساءت مصيرا أى مصيرهم أى جهنم وفي الآية الكريمة إرشاد إلى وجوب المهاجرة من موضع لايتمكن الرجل من إقامة أمور دينه بأى سبب كان وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة وكان رفيق إبراهيم ونبيه محمد

٩٨

إلا المستضعفين استثناء منقطع لعدم دخولهم في الموصول وضميره والإشارة إليه ومن في قوله تعالى

من الرجال والنساء والولدان متعلقة بمحذوف وقع حالا من المستضعفين أى كائنين منهم وذكر الولدان أن اريد بهم المماليك أو المراهقون ظاهر

وأما إن أريد بهم الأطفال فللمبالغة في أمر الهجرة وإبهام انها بحيث لو استطاعها غير المكلفين لوجبت عليهم والإشعار بانهم لا محيص لهم عنها البتة عليهم كما بلغوا حتى كأنها واجبة عليهم قبل البلوغ لو استطاعوا وأن قومهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت وقوله تعالى

لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا صفة للمستضعفين فإن ما فيه من اللام ليس للتعريف أو حال منه أو من الضمير المستكن فيه

وقيل تفسير لنفس المستضعفين لكثرة وجوه الاستضعاف واستطاعة الحيلة وجدان أسباب الهجرة ومباديها واهتداء السبيل معرفة طريق الموضع المهاجر إليه بنفسه أو بدليل

٩٩

فأولئك إشارة إلى المستضعفين الموصوفين بما ذكر من صفات العجز

عسى اللّه أن يعفو عنهم جئ بكلمة الإطماع ولفظ العفو إيذانا بأن الهجرة من تأكد الوجوب بحيث ينبغى أن يعد تركها ممن تحقق عدم وجوبها عليه ذنبا يجب طلب العفو رجاء وطمعا لا جزما وقطعا

وكان اللّه عفوا غفورا تذييل مقرر لما قبله

١٠٠

ومن يهاجر في سبيل اللّه يجد في الأرض مراغما كثيرا ترغيب في المهاجرة وتأنيس لها أى يجد فيها متحولا ومهاجرا وإنما عبر عنه بذلك تأكيد للترغيب لما فيه من الإشعار بكون ذلك المتجول بحيث يصل فيه المهاجر من الخير والنعمة إلى ما يكون سببا لرغم آنف قومه الذين هاجروهم والرغم الذل والهوان وأصله لصوق الآنف بالرغام وهو التراب

وقيل يجد فيها طريقا يراغم بسلوكه قومه أى يفارقهم على رغم أنوفهم

وسعة أى من الرزق

ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى اللّه ورسوله ثم يدركه الموت أى قبل أن يصل إلى المقصد وإن كان ذلك خارج بابه كما ينبئ عنه إيثار الخروج من بيته على المهاجرة وهو عطف على فعل الشرط وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف

وقيل هو حركة الهاء نقلت إلى الكاف على نية الوقف كما في قوله

... من عنزى سبنى لم أضربه عجيب والدهر كثير عجبه

وقرى بالنصب على إضمار أن كما في قوله

وألحق بالحجاز فأستريحا ...

فقد وقع أجره على اللّه أى ثبت ذلك عنده تعالى ثبوت الأمر الواجب روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لما بعث بالايات المتقدمة إلى مسلمى مكة قال جندب بن ضمرة لبنيه وكان شيخا كبيرا احملونى فإنى لست من المستضعفين وإنى لأهتدى الطريق واللّه لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة فلما بلغ التنعيم أشرف على الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال اللّهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك رسولك فمات حميدا فبلغ خبره أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقالوا لو توفى بالمدينة لكان أتم أجرا فنزلت قالوا كل هجرة في غرض دينى من طلب علم أو حج أو جهاد أونحو ذلك فهى هجرة إلى اللّه عز و جل وإلى رسوله

وكان اللّه غفورا مبالغا في المغفرة فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التى من جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج

رحيما مبالغا في الرحمة فيرحمه بإكمال ثواب هجرته

١٠١

وإذا ضربتم في الأرض شروع في بيان كيفية الصلاة عند الضرورات من السفر ولقاء العدو والمرض والمطر وفيه تأكيد لعزيمة المهاجر على المهاجرة وترغيب له فيها لما فيه من تخفيف أونه أى إذا سافرتم أى مسافرة كانت ولذلك لم يقيد بما قيد به المهاجرة

فليس عليكم جناح أى حرج أو اثم

أن تقصروا أى في أن تقصروا والقصر خلاف المد يقال قصرت الشئ اى جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه فمتعلق القصر حقيقة إنما هو ذلك الشئ لا بعضه فإنه متعلق الحذف دون القصرو على هذا فقوله تعالى

من الصلوة ينبغى أن يكون مفعولا لتقصروا على زيادة من حسبما رآه الأخفش

وأما على تقدير ان تكون تبعيضية ويكون المفعول محذوفا كما هو رأى سيبويه أى شيئا من الصلاة فينبغى أن يصار إلى وصف الجزء بصفة الكل أو يراد بالقصر معنى الحبس يقال قصرت الشئ إذا حبسته أو يراد بالصلاة الجنس ليكون المقصور بعضا منها وهى الرباعيات اى فليس عليكم جناح في أن تقصروا بعض الصلاة بتنصيفها وقرئ تقصروا من الإقصار وتقصروا من التقصير والكل بمعنى وادنى مدة السفر الذى ينعلق به القصر عند أبى حنيفة مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشى الإقدام بالاقتصاد وعند الشافعى مسيرة يومين وظاهر الآية الكريمة التخيير وأفضلية الإتمام وبه تعلق الشافعى وبما روى عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه اتم في السفر وعن عائشة رضى اللّه عنها أنها أتمت تارة وقصرت أخرى وعن عثمان رضى اللّه عنه أنه كان يتم ويقصر وعندنا يجب القصر لا محالة خلا أن بعض مشايخنا سماه عزيمة وبعضهم رخصه إسقاط بحيث لا مساغ للإتمام لارخصة ترفية إذ لا معنى للتخيير بين الأخف والأثقل وهو قول عمر وعلى وابن عباس وابن عمر وجابر ورضوان اللّه عليهم وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة وهو قول مالك وقد روى عن عمر رضى اللّه عنه صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وعن أنس رضى اللّه عنه خرجنا مع النبى من المدينة إلى مكة فكان يصلى ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة وعن عمران بن حصين رضى اللّه عنه ما رأيت النبى يصلى في السفر إلا ركعتين وصلى بمكة ركعتين ثم قال اتموا فإنا قوم سفر وحين سمع بن مسعود ان عثمان رضى اللّه عنه صلى بمنى أربع ركعات أسترجع ثم قال صليت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بمنى ركعتين وصليت مع أبى بكر رضى اللّه عنه بمنى ركعتين وصليت مع عمر رضى اللّه عنه بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان وقد أعتذر عثمان رضي اللّه عنه عن إتمامه بأنه تأهل بمكة وعن الزهرى أنه إنما اتم لأنه أزمع الإقامة بمكة وعن عائشة رضى اللّه عنها أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر وفي صحيح البخارى أنها قالت فرض اللّه الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر

وأما ماروى عنها من الإتمام فقد اعتذرت عنه وقالت أنا أم المؤمنين فحيث حللت فهى دارى وإنما ورد ذلك بنفى الجناح لما أنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة أن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فصرح بنفى الجناح عنهم لتطيب به نفوسهم ويطمئنوا إليه كما في قوله تعالى فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما مع أن ذلك الطواف واجب عندنا ركن عند الشافعى وقوله تعالى

إن خفتم ان يفتنكم الذين كفروا جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أى إن خفتم ان يتعرضوا لكم بما تكرهونه من القتال وغيره فليس عليكم جناح الخ وهو شرط معتبر في شرعية ما يذكر بعده من صلاة الخوف المؤداة بالجماعة

وأما في حق مطلق القصر فلا اعتبار له اتفاقا لتظاهر السنن على مشروعيته حسبما وقفت على تفصيلها وقد ذكر الطحاوى في شرح الاثار مسندا إلى يعلى بن أمية أنه قال قلت لعمر بن الخطاب رضى اللّه عنه إنما قال اللّه فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا وقد أمن الناس فقال عمر رضى اللّه عنه عجبت مما عجبت منه فسألت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال صدقة تصدق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته و فيه دليل على عدم جواز الإكمال لأن التصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد كما حقق في موضعه ولا يتوهمن أنه مخالف للكتاب لأن التقييد بالشرط عندنا إنما يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط

وأما عدمه عند عدمه فساكت عنه فإن وجد له دليل ثبت عنده ايضا وإلا يبقى على حاله لعدم تحقق دليله لا لتحقق دليل عدمه وناهيك بما سمعت من الأدلة الواضحة

وأما عند القائلين بالمفهوم فلأنه إنما يدل على نفي الحكم عند عدم الشرط اذا لم يكن له فائدة اخرى وقد خرج الشرط ههنا مخرج الأغلب كما في قوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن اردن تحصنا بل نقول ان الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته وفي حق ما يتعلق به من الصلوات وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر فكل ما ورد عنه من القصر في حال الامن من وتخصيصه بالرباعيات على وجه التصنيف وبالضرب في المدة المعينة بيان لإجمال الكتاب وقد قيل إن قوله تعالى إن خفتم الخ متعلق بما بعده من صلاة الخوف منفصل عما قبله فإنه روى عن ابي ايوب الانصارى رضي اللّه عنه انه قال نزل قوله تعالى وإذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ثم سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بعد حول فنزل إن خفتم الخ أي إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فليس عليكم جناح الخ وقد قرئ من الصلاة أن يفتنكم بغير ان خفتم على انه مفعول له لما دل عليه الكلام كأنه قيل شرع لكم ذلك كراهة أن يفتنكم الخ فإن استمرار الاشتغال بالصلاة مظنة لاقتدارهم على ايقاع الفتنة وقوله تعالى

إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا تعليل لذلك باعتبار تعللّه بما ذكر أو لما يفهم من الكلام من كون فتنتهم متوقعة فإن كمال عداوتهم للمؤمنين من موجبات التعرض لهم بسوء وقوله تعالى

١٠٢

وإذا كنت فيهم بيان لما قبله من النص المجمل الوارد في مشروعية القصر بطريق التفريع وتصوير لكيفيته عند الضرورة التامة وتخصيص البيان بهذه الصورة مع الاكتفاء فيما عداها بالبيان بطريق السنة لمزيد حاجتها اليه لما فيها من كثرة التغيير عن الهيئة الاصلية ومن ههنا ظهر لك ان مورد النص الشريف على المقصورة وحكم ما عداها مستفاد من حكمها والخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بطريق التجريد وبظاهره يتعلق من لا يرى صلاة الخوف بعده ولا يخفى ان الأئمة بعده نوابه قوام بما كان يقوم به فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له كما في قوله تعالى خذ من اموالهم صدقة وقد روى ان سعيد بن العاص لما اراد

أن يصلي بطيرستان صلاة الخوف قال من شهد منكم صلاة الخوف مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقام حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه فوصف له ذلك فصلى بهم كما وصف وكان ذلك بحضرة الصحابة رضي اللّه عنهم فلم ينكره احد فحل محل الإجماع وروى في السنن انهم غزوا مع عبد الرحمن بن سمرة بابل فصلى بهم صلاة الخوف

فأقمت لهم الصلاة أي اردت أن تقيم بهم الصلاة

فلتقم طائفة منهم معك بعد أن جعلتهم طائفتين و لتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدو ليحرسوكم منهم و إنما لم يصرح به لظهوره

وليأخذوا أي الطائفة القائمة معك

اسلحتهم أي لا يضعوها ولا يلقوها وإنما عبر عن ذلك بالأخذ للإيذان بالاعتناء باستصحابها كأنهم يأخذونها ابتداء

فإذا سجدوا أي القائمون معك واتموا الركعة

فليكونوا من ورائكم أي فلينصرفوا الى مقابلة العدو للحراسة

ولتأت طائفة اخرى لم يصلوا بعد وهي الطائفة الواقفة تجاه العدو للحراسة وإنما لم تعرف لما أنها لم تذكر فيما قبل

فليصوا معك الركعة الباقية ولم يبين في الآية الكريمة حال الركعة الباقية لكل من الطائفتين وقد بين ذلك بالسنة حيث روى عن ابن عمرو ابن مسعود رضى اللّه عنهم أن النبى حين صلى صلاة الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الأخرى ركعة كما في الآية الكريمة ثم جاءت الطائفة الأولى وذهبت هذه إلى مقابلة العدو حتى قضت الأولى الركعة الأخيرة بلا قراءة وسلموا ثم جاءت الطائفة الأخرى وقضوا الركعة الأولى بقراءة حتى صار لكل طائفة ركعتان

وليأخذوا أى هذه الطائفة

حذرهم وأسلحتهم لعل زيادة الأمر بالحذر في هذه المرة لكونها مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبى في شغل شاغل

وأما قبلها فربما يظنونهم قائمين للحرب وتكليف كل من الطائفتين بما ذكر لما أن الاشتغال بالصلاة مظنة لإلقاء السلاح والإعراض عن غيرها ومئنة لهجوم العدو كما ينطق به قوله تعالى

ود الذين كفروا لو تغفلون عن اسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة فإنه اسئناف مسوق لتعليل الأمر المذكور والخطاب للفريقين بطريق الالتفات اى تمنوا أن ينالوا غرة وينتهزوا فرصة فيشدوا عليكم شدة واحدة والمراد بالأمتعة ما يتمتع به في الحرب لا مطلقا وهذا الأمر الموجوب لقوله تعالى

ولا جناح عليكم إن كان بكم اذى من مطرا أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم حيث رخص لهم في وضعها إذا ثقل عليهم استصحابها بسبب المطر أو مرض وأمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياط فقيل

وخذوا حذركم لئلا يهجم العدو عليكم غيلة روى الكلبى عن أبى صالح ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم غزا محاربا وبنى إنما فنزلوا ولا يرون من العدو احدا فوضع الناس اسلحتهم وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لحاجة له وقد وضع سلاحه حتى قطع الوادى والسماء ترش فحال الوادى بينه وبين أصحابه فجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فبصر به غورث بن الحرث المحاربى فقال قتلنى اللّه إن لم أقتلك ثم انحدر من الجبل ومعه السيف فلم يشعر به رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلا وهو قائم على رأسه وقد سل سيفه من غمده فقال يا محمد من يعصمك منى الآن فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم اللّه عز و جل ثم قال اللّهم اكفنى غورث بن الحرث بما شئت ثم أهوى بالسيف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليضربه فأكب لوجهه من زلخة زلخها بين كتفيه فبدر سيفه فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فأخذه ثم قال يا غورث من يمنعك منى الآن قال لا أحد قال تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله وأعطيك سيفك قال لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوا فأعطاه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سيفه فقال غورث واللّه لأنت خير منى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنا أحق بذلك منك فرجع غورث إلى أصحابه فقص عليهم قصته فآمن بعضهم قال وسكن الوادى فقطع عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى أصحابه وأخبرهم بالخبر وقوله تعالى

إن اللّه أعد للكافرين عذابا مهينا تعليل للأمر بأخذ الحذر أعد لهم عذابا مهينا بأن يخذلهم وينصركم عليهم فاهتموا باموركم ولا تهملوا في مباشرة الأسباب كى يحل بهم عذابه بأيديكم

وقيل لما كان الأمر بالحذر من العدو موهما لتوقع غلبته واعتزازه نفى ذلك الإيهام بان اللّه تعالى ينصرهم ويهين عدوهم لتقوى قلوبهم

١٠٣

فإذا قضيتم الصلاة أى صلاة الخوف أى أديتموها على الوجه المبين وفرغتم منها

فاذكروا اللّه قياما وقعودا وعلى جنوبكم أى فداوموا على ذكر اللّه تعالى وحافظوا على مراقبته ومناجاته ودعائه في جميع الأحوال حتى في حال المسايفة والقتال كما في قوله تعالى إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا اللّه كثيرا لعلكم تفلحون

فإذا اطمأننتم سكنت قلوبكم من الخوف وأمنتم بعد ما وضعت الحرب أوزارها

فأقيموا الصلاة أى الصلاة التى دخل وقتها حينئذ أى ادوها بتعديل أركانها ومراعاة شرائطها

وقيل المراد بالذكر في الأحوال الثلاثة الصلاة فيها أى فإذ اردتم اداء الصلاة فصلوا قياما عند المسايفة وقعودا جاثين على الركب عند المراماة وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح فإذا اطمأننتم في الجملة فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التى هي أحوال القلق والانزعاج وهو رأى الشافعى رحمه اللّه وفيه من البعد مالا يخفى

أن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا أى فرضا مؤقتا قال مجاهد وقته اللّه عليهم فلا بد من إقامتها في حالة الخوف أيضا على الوجه المشروح

وقيل مفروضا مقدرا في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين فلا بد أن تؤدى في كل وقت حسبما قدر فيه

١٠٤

ولاتهنوا في ابتغاء القوم أى لاتضعفوا ولاتتوانوا في طلب الكفار بالقتال والتعرض لهم بالحراب وقوله تعالى

إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من اللّه مالا يرجون تعليل للنهى وتشجيع لهم أى ليس ما تقاسونه من الآلام مختصا بكم بل هو مشترك بينكم وبينهم ثم أنهم يصبرون على ذلك فما لكم لاتصبرون مع أنكم أولى به منهم حيث ترجون من اللّه من إظهار دينكم على سائر الأديان ومن الثواب في الآخرة مالا يخطر ببالهم وقرئ أن تكونوا بفتح الهمزة أى لاتهنوا لأن تكونوا تألمون وقوله تعالى فإنهم تعليل للنهى عن الوهن لأجله والاية نزلت في بدر الصغرى

وكان اللّه عليما مبالغا في العلم فيعلم أعمالكم وضمائركم

حكيما فيما يأمر وينهى فجدوا في الأمتثال بذلك فإن فيه عواقب حميدة

١٠٥

إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق روى أن رجلا من الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق من بنى ظفر سرق درعا من جاره قتادة بن النعمان في جراب دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه فخبأها عند زيد بن السمين اليهودى فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وما له بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى أنتهى إلى منزل اليهودى فأخذوها فقال دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود فقالت بنو ظفر انطلقوا بنا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وشهدوا ببراءته وسرقة اليهودى فهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن يفعل فنزلت وروى ان طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله

وقيل نزل على رجل من بنى سليم من اهل مكة يقال له الحجاج بن علاط فنقب بيته فسقط عليه حجر فلم يستطع الدخول ولا الخروج فأخذ ليقتل فقيل دعه فإنه قد لجأ إليك فتركه وأخرجوه من مكة فالتحق بتجار من قضاعة نحو الشام فنزلوا منزلا فسرق بعض متاعهم وهرب فأخذوه ورجموه بالحجارة حتى قتلوه

وقيل إنه ركب سفينة إلى جده فسرق فيها كيسا فيه دنانير فأخذ وألقى في البحر

لتحكم بين الناس بما أراك اللّه أى بما عرفك وأوحى به إليك

ولا تكن للخائنين أى لأجلهم والذب عنهم وهم طعمة ومن يعينه من قومه أو هو ومن يسير بسيرته

خصيما مخاصما للبرآء أي لاتخاصم اليهود لأجلهم والنهى معطوف على أمر ينسحب عليه النظم الكريم كأنه قيل فاحكم به ولا تكن الخ

١٠٦

واستغفر اللّه مما هممت به تعويلا على شهادتهم

إن اللّه كان غفور رحيما مبالغا في المغفرة والرحمة لمن يستغفره

١٠٧

ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم أى يخونونها بالمعصية كقوله تعالى علم اللّه أنكم كنتم تختانون أنفسكم جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم كما جعلت ظلما لها لرجوع ضررها إليهم والمراد بالموصول إما طعمة وأمثاله

وأما هو ومن عاونه وشهد ببراءته من قومه فإنهم شركاء له في الإثم والخيانة

إن اللّه لا يحب من كان خوانا مفرطا في الخيانة مصرا عليها

أثيما منهمكا فيه وتعليق عدم المحبة الذى هو كناية عن البغض والسخط بالمبالغ في الخيانة والإثم ليس لتخصيصه به بل لبيان إفراط طعمه وقومه فيهما

١٠٨

يستخفون من الناس يستترون منهم حياء وخوفا من ضررهم

ولا يستخفون من اللّه أى لا يستحيون منه سبحانه وتعالى وهو أحق بان يستحيا منه ويخاف من عقابه

وهو معهم عالم بهم وباحوالهم فلا طريق إلى

الاستخفاء سوى ترك ما يستقبحه ويؤاخذ به

إذ يبيتون يدبرون ويزورون

مالا يرضى من القول من رمى البرئ والحلف الكاذب وشهادة الزور

وكان اللّه بما يعملون من الأعمال الظاهرة والخافية

محيطا لا يعزب عنه شئ منها ولا يفوت

١٠٩

هأنتم هؤلاء تلوين للخطاب وتوجيه له إليهم بطريق الالتفات إيذانا بان تعديد جنايتهم يوجب مشافهتهم بالتوبيخ والتقريع والجملة مبتدأ وخبر وقوله تعالى

جادلتم عنهم في الحيوة الدنيا جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا ويجوز أن يكون أولاء اسما موصولا بمعنى الذين وجادلتم الخ صلة له والمجادلة أشد المخاصمة والمعنى هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وأمثاله في الدنيا

فمن يجادل اللّه عنهم يوم القيامة فمن يخاصم عنهم يومئذ عند تعذيبهم وعقابهم

أم من يكون عليهم وكيلا حافظا ومحاميا من بأس اللّه تعالى وانتقامه

١١٠

ومن يعمل سوءا قبيحا يسوء به غيره كما فعل طعمة بقتادة واليهودى

أو يظلم نفسه بما يختص به كالحلف الكاذب

وقيل السوء مادون الشرك والظلم الشرك

وقيل هما الصغيرة والكبيرة

ثم يستغفر اللّه بالتوبة الصادقة

يجد اللّه غفورا لذنوبه كائنة ماكانت

رحيما متفضلا عليه وفيه مزيد ترغيب لطعمة وقومه في التوبة والاستغفار لما أن مشاهدة التائب لآثار المغفرة والرحمة نعمة زائدة كما مر

١١١

ومن يكسب إثما من الآثام

فإنما يكسبه على نفسه حيث لا يتعدى ضرره ووباله إلى غيره فليحترز عن تعريضها للعقاب والعذاب عاجلا وآجلا

وكان اللّه عليما مبالغا في العلم

حكيما مراعيا للحكمة في كل ما قدر وقضى ولذلك لا يحمل وازرة وزر اخرى

١١٢

ومن يكسب خطيئة صغيرة أو مالا عمد فيه من الذنوب وقرئ ومن يكسب بكسر الكاف وتشديد السين وأصله يكتسب

أو إثما كبيرة أو ما كان من عمد

ثم يرم به أى يقذف به ويسنده وتوحيد الضمير مع تعدد المرجع لمكان أو وتذكيره لتغليب الإثم على الخطيئة كأنه قيل ثم يرم بأحدهما وقرئ يرم بهما

وقيل الضمير للكسب المدلول عليه بقوله تعالى يكسب وثم للتراخى في الرتبة

بريئا اى مما رماه به ليحمله عقوبته العاجلة كما فعله طعمة بزيد

فقد احتمل أى بما فعل من تحميل جريرته على البرئ

بهتانا وهو الكذب على الغير بما يبهت منه ويتحير عند سماعه لفظاعته وهوله

وقيل هو الكذب الذى يتحير في عظمة

وإثما مبينا أى بينا فاحشا وهو صفة لإثما وقد اكتفى في بيان عظم البهتان بالتنكير التفخيمى كأنه قيل بهتانا لا يقادر قدره وإثما مبينا على أن وصف الإثم بما ذكر بمنزلة وصف البهتان به لأنهما عبارة عن امر واحد هو رمى البرئ بجناية نفسه قد عبر عنه بهما تهويلا لأمره وتفظيعا لحاله فمدار العظم والفخامة كون المرمى به للرامي فإن رمى البرئ بجناية ما خطيئة كانت أو إثما بهتان وإثم في نفسه أما كونه بهتانا فظاهر

وأما كونه إثما فلأن كون الذنب بالنسبة الى من فعله خطيئة لا يلزم منه كونه بالنسبة الى من نسبه الى البرئ منه ايضا كذلك بل لا يجوز ذلك قطعا كيف لا وهو كذب محرم في جميع الاديان فهو في نفسه بهتان وإثم لا محالة وبكون تلك الجناية للرامي يتضاعف ذلك شدة ويزداد قبحا لكن لا لانضمام جنايته المكسوبة الى رمى البرئ وإلا لكان الرمي بغير جناية مثله في العظم ولا لمجرد اشتماله على تبرئة نفسه الخاطئة وإلا لكان الرمى بغير جناية مع تبرئة نفسه كذلك في العظم بل لاشتماله على قصد تحميل جنايته على البرئ وأجراء عقوبتها عليه كما ينبئ عنه إيثار الاحتمال على الاكتساب ونحوه لما فيه من الإيذان بانعكاس تقديره على ما فيه من الإشعار بثقل الوزر وصعوبة الأمر نعم بما ذكر من انضمام كسبه وتبرئة نفسه الى رمى البرئ تزداد الجناية قبحا لكن تلك الزيادة وصف للمجموع لا للاثم

١١٣

ولولا فضل اللّه عليك ورحمته بإعلامك ما هم عليه بالوحي وتنبيهك على الحق

وقيل بالنبوة والعصمة

لهمت طائفة منهم أي من بني ظفر وهم الذابون عن طعمة وقد جوز إن يكون المراد بالطائفة كلهم ويكون الضمير راجعا الى الناس

وقيل هم وفد بني ثقيف قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وقالوا جئناك لنبايعك على أن لا تكسر أصنامنا ولا تعشرنا فردهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم

أن يضلوك أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق مع علمهم بكنه الأمر والجملة جواب لولا وإنما نفى همهم مع إن المنفي إنما هو تأثيره فقط إيذانا بانتفاء تأثيره بالكلية

وقيل المراد هو الهم المؤثر ولا ريب في إنتفائه حقيقة

وقيل الجواب محذوف أي لأضلوك وقوله تعالى لهمت جملة مستأنفة أي لقد همت طائفة الخ

وما يضلون إلا أنفسهم لاقتصار وبال مكرهم عليهم من غير أن يصيبك منهم شئ والجملة اعتراض وقوله تعالى

وما يضرونك من شئ عطف عليه ومحل الجار والمجرور النصب على المصدريه أي وما يضرونك شيئا من الضرر لما أنه تعالى عاصمك

وأما ما خطر ببالك فكان عملا منك بظاهر الحال ثقة بأقوال القائلين من غير أن يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك

وأنزل اللّه عليك الكتاب والحكمة أي القرآن الجامع بين العنوانين

وقيل المراد بالحكمة السنة

وعلمك بالوحي من خفيات الأمور التي من جملتها وجوه إبطال كيد المنافقين أو من أمور الدين وأحكام الشرع

ما لم تكن تعلم ذلك الى وقت التعليم

وكان فضل اللّه عليك عظيما إذ لا فضل أعظم من النبوة العامة ووالرياسة التامة

١١٤

لاخير في كثير من نجواهم أي في كثير من تناجي الناس

إلا من أمر أي إلا في نجوى من أمر

بصدقه أو معروف

وقيل المراد بالنجوى المتناجون بطريق المجاز

وقيل النجوى جمع نجى نقله الكرماني وأيا ما كان فالاستثناء متصل ويجوز الانقطاع ايضا على معنى لكن من أمر بصدقة الخ ففي نجواة الخير والمعروف كل ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل فينتظم اصناف الجميل وفنون اعمال البر وقد فسر ههنا بالقرض وإعاثة الملهوف وصدقة التطوع على أن المراد بالصدقة الواجبة

أو إصلاح بين الناس عندوقوع المشاقة والمعاداة بينهم من غير أن يجاوز في ذلك حدود الشرع الشريف وبين إما متعلق بنفس إصلاح يقال أصلحت بين القوم أو بمحذوف هو صفة له أي كائن بين الناس عن أبي ايوب الأنصاري رضي اللّه تعالى عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال له الا أدلك على صدقة خير لك من حمر النعم فقال بلى يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا قالوا ولعل السر في إفراد هذه الاقسام الثلاثة بالذكر أن عمل الخير المتعدي الى الناس إما لإيصال المنفعة أو لدفع المضرة والمنفعة إما جسمانية كإعطاء المال واليه الإشارة الى قوله تعالى الا من امر بصدفة

وأما روحانية وإليه الإشارة بالأمر بالمعروف

وأما دفع الضرر فقد اشير اليه بقوله تعالى أو إصلاح بين الناس

ومن يفعل ذلك إشارة الى الأمور المذكورة اعنى الصدقة والمعروف والأصلاح فإنه يشاربه الى متعدد وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بها للإيذان ببعد منزلتها ورفعة شأنها وترتيب الوعد على فعلها إثر بيان خيرية الأمر بها لما أن المقصود الأصلى هو الترغيب في الفعل وبيان خيرية الأمر به للدلالة على خيريته بالطريق الأولى لما أن مدار حسن الأمر وقبحة حسن المأمور به وقبحه فحيث ثبت خيرية الأمر بالأمور المذكورة فخيرية فعلها أثبت وفيه تحريض للآمر بها على فعلها أو إشارة إلى الأمر بها كأنه قيل ومن يامر بها والكلام في ترتيب الوعد على فعلها كالذى مر في الخيرية فإن استتباع الأمر بها للأجر العظيم إنما هو لكونه ذريعة إلى فعلها فاستتباعه له أولى وأحق

ابتغاء مرضاة اللّه علة للفعل والتقييد به لأن الأعمال بالنيات وأن من فعل خيرا لغير ذلك لم يستحق به غير الحرمان

فسوف نؤتيه بنون العظمة على الالتفات وقرئ بالياء

أجرا عظيما يقصر عنه الوصف

١١٥

ومن يشاقق الرسول التعرض لعنوان الرسالة لإظهار كمال شناعة ما اجترءوا عليه من المشاقة والمخالفة وتعليل الحكم الآتى بذلك

من بعد ما تبين له الهدى ظهر له الحق بالوقوف على المعجزات الدالة على نبوته

ويتبع غير سبيل المؤمين أى غير ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل وهو الدين القيم

نوله ماتولى أى نجعله واليا لما تولاه من الضلال ونخذله بان نخلى بينه وبين ما اختاره

ونصله جهنم أى ندخله إياها وقرئ بفتح النون من صلاه

وساءت مصيرا أى جهنم وفيها دلالة على حجية الإجماع وحرمة مخالفته

١١٦

إن اللّه لا يفغر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء قد مر تفسيره فيما سبق وهو تكرير للتأكيد والتشديد أو لقصة طعمة وقد مر موته كافرا وروى عن ابن عباس رضى اللّه تعالى عنهما ان شيخا من العرب جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال إنى شيخ منهمك في الذنوب إلا أنى لم أشرك باللّه شيئا منذ عرفته وآمنت به ولم اتخذ من دونه وليا ولم أواقع المعاصى جراءة على اللّه تعالى وما توهمت طرفة عين أنى أعجز اللّه هربا وإنى لنادم تائب مستغفر فما ترى حالى عند اللّه تعالى فنزلت

ومن يشرك باللّه فقد ضل ضلالا بعيدا عن الحق فإن الشرك اعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة كما أنه افتراء وإثم عظيم ولذلك جعل الجزاء في هذه الشرطية فقد ضل الخ وفيما سبق فقد افترى إثما عظيما حسبما يقتضيه سياق النظم الكريم وسياقه

١١٧

إن يدعون من دونه أى ما يعبدون من دونه عز و جل

إلا إناثا يعنى اللات والعزى ومناة ونحوها عن الحسن أنه لم يكن من أحياء العرب حى إلا كان لهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بنى فلان قيل لأنهم كانوا يقولون في أصنامهم هن بنات اللّه

وقيل لأنهم كانوا يلبسونها أنواع الحلى ويزينونها على هيآت النسوان

وقيل المراد الملائكة لقولهم الملائكة بنات اللّه

وقيل تسميتها إناثا لتأنيث أسمائها أو لأنها في الأصل جماد والجمادات تؤنث من حيث إنها ضاهت الإناث لانفعالها وإيرادها بهذا الاسم للتنبيه على فرط حماقة عبدتها وتناهى جهلهم والإناث جمع أنثى كرباب وربى وقرئ على التوحيد وأنثا أيضا على أنه جمع أنيث كقليب وقلب أو جمع إناث كثمار وثمر وقرئ وثنا واثنا بالتخفيف والتثقيل جمع وثن كقولك أسد وأسد وآسد على الأصل وقلب الواو ألفا نحو أجوه في وجوه

وإن يدعون وما يعبدون بعبادتها

إلا شيطانا مريدا إذ هو الذى أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها فكانت طاعتهم له عبادة والمريد والمارد هو الذى لا يعلق بخير وأصل التركيب للملاسة ومنه صرح ممرد وشجرة مرداء للتى تناثر ورقها

١١٨

لعنة اللّه صفة ثانية لشيطانا

وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا عطف على الجملة المتقدمة أى شيطانا مريدا جامعا بين لعنة اللّه وهذا القول الشنيع الصادر عنه عند اللعن ولقد برهن على أن عبادة الأصنام غاية الضلال بطريق التعليل بان ما يعبدونها ينفعل ولا يفعل فعلا اختياريا وذلك ينافى الألوهية غاية المنافاة ثم استدل عليه بان ذلك عبادة للشيطان وهو افظع الضلال من وجوه ثلاثة الأول أنه منهمك في الغى لا يكاد يعلق بشئ من الخير والهدى فتكون طاعته ضلالا بعيدا عن الحق والثاني أنه ملعون لضلالة فلا تستتبع مطاوعته سوى اللعن والضلال والثالث أنه في غاية السعى في أهلاكهم وإضلالهم فموالاة من هذا شأنه غاية الضلال فضلا عن عبادته والمفروض المقطوع أى نصيبا قدر لى وفرض من قولهم فرض له في العطاء

١١٩

ولأضلنهم ولأمنينهم الأمانى الباطلة كطول الحياة وأن لا بعث ولا عقاب ونحو ذلك

ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام أى فليقطعنها بموجب أمرى ويشقنها من غير تلعثم في ذلك ولا تأخير وذلك ما كانت العرب تفعله فيه بالبحائر والسوائب

ولآمرنهم فليغيرن ممتثلين به

خلق اللّه عن نهجة صورة أو صفة وينتظم فيه ما قيل من فقء عين الحامى وخصاء العبيد والوشم والوشر ونحو ذلك وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقا لكن الفقهاء رخصوا في البهائم لمكان الحاجة وهذه الجمل المحكية عن اللعين مما نطق به لسانه مقالا أو حالا وما فيها من اللامات كلها للقسم والمأمور به في الموضعين محذوف ثقة بدلالة النظم عليه

ومن يتخذ الشيطان وليا من دون اللّه بإيثار ما يدعوا إليه على ما امر اللّه تعالى به ومجاوزته عن طاعة اللّه تعالى إلى طاعته

فقد خسر خسرانا مبينا لأنه ضيع رأس ماله بالكلية واستبدل بمكانه من الجنة مكانة من النار

١٢٠

يعدهم أى مالا يكاد ينجزه

ويمنيهم أى الأمانى الفارغة أو يفعل لهم الوعد والتمنية على طريقة فلان يعطى ويمنع والضميران لمن والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في يتخذ وخسر باعتبار لفظها

وما يعدهم الشيطان إلا غرورا وهو أظهار النفع فيما فيه الضرر وهذا الوعد إما بإلقاء الخواطر الفاسدة أو بألسنة اوليائه وغرورا إما مفعول ثان للوعد أو مفعول لأجله أونعت لمصدر محذوف اى وعدا ذا غرور أو مصدر على غير لفظ المصدر لأن يعدهم في قوة يغرهم بوعده والجملة اعتراض وعدم التعرض للتمنية لأنها باب من الوعد

١٢١

أولئك إشارة إلى أولياء الشيطان وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلتهم في الخسران وهو مبتدأ وقوله تعالى

مأواهم مبتدأ ثان وقوله تعالى

جهنم خبر للثاني والجملة خبر للأول

ولا يجدون عنها محيصا أى معدلا ومهربا من حاص الحمار إذا عدل

وقيل خلص ونجا

وقيل الحيص هو الروغان بنفور وعنها متعلق بمحذوف وقع حالا من محيصا أى كائنا عنها ولا مساغ لتعلقه بمحيصا أما إذا كان اسم مكان فظاهر

وأما إذا كان مصدرا فلأنه لا يعمل فيما قبله

١٢٢

والذين آمنوا وعملوا الصالحات مبتدأ خبره قوله تعالى

سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قرن وعيد الكفرة بوعد المؤمنين زيادة لمسرة هؤلاء ومساءة أولئك

وعد اللّه حقا أى وعده وعدا وحق ذلك حقا فالأول مؤكد لنفسه لأن مضمون الجملة الاسمية وعد والثاني مؤكد لغيره ويجوز أن ينتصب الموصول بمضمر يفسره ما بعده وينتصب وعد اللّه بقوله تعالى سندخلهم لأنه في معنى نعدهم ادخال جنات الخ و حقا على أنه حال من المصدر

ومن أصدق من اللّه قيلا جملة مؤكدة بليغة والمقصود من الآية معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه بوعد اللّه الصادق لأوليائه والمبالغة في تأكيده ترغيبا للعباد في تحصيله والقيل مصدر كالقول والقال وقال ابن السكيت القيل والقال اسمان لا مصدران ونصبه على التمييز وقرئ بإشمام الصاد وكذا كل صاد ساكنة بعدها دال

١٢٣

ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب أي ليس ما وعد اللّه تعالى من الثواب يحصل بأمانيكم أيها المسلمون ولا بأماني أهل الكتاب وانما يحصل بالإيمان والعمل الصالح ولعل نظم أماني أهل الكتاب في سلك أماني المسلمين مع ظهور حالها للإيذان بعدم اجداء اماني المسلمين أصلا كما في قوله تعالى ولا الذين يموتون وهم كفار كما سلف وعن الحسن ليس الايمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل ان قوما ألهتهم اماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا نحسن الظن باللّه وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل

وقيل ان المسلمين وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى باللّه تعالى منكم فقال المسلمون نحن أولى منكم نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب المتقدمة فنزلت

وقيل الخطاب للمشركين ويؤيده تقدم ذكرهم أي ليس الأمر بأماني المشركين وهو قولهم لا جنة ولا نار وقولهم ان كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيرا منهم واحسن حالا وقولهم لأوتين مالا وولدا ولا أماني أهل الكتاب وهو قولهم لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى وقولهم لن تمسنا النار الا اياما معدودة ثم قرر ذلك بقوله تعالى

من يعمل سوءا يجز به عاجلا أو آجلا لما روى أنه لما نزلت قال أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه فمن ينجو مع هذا يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أما تحزن أو تمرض أو يصيبك البلاء قال بلى يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال هو ذاك

ولا يجد له من دون اللّه أي مجاوزا لموالاة اللّه ونصرته

وليا يواليه

ولا نصيرا ينصره في دفع العذاب عنه

١٢٤

ومن يعمل من الصالحات أي بعضها أو شيئا منها فإن كل أحد لا يتمكن من كلها وليس مكلفا بها

من ذكر أو أنثى في موضع الحال من المستكن في يعمل ومن للبيان أو من الصالحات فمن للابتداء أي كائنة من ذكر الخ

وهو مؤمن حال شرط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب المذكور تنبيها على أنه لا اعتداد به دونه

فأولئك اشارة الى من بعنوان اتصافه بالايمان والعمل الصالح والجمع باعتبار معناها كما أن الافراد فيما سبق باعتبار لفظها وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة من الاشعار بعلو رتبة المشار اليه وبعد منزلته في الشرف

يدخلون الجنة وقرئ يدخلون مبنيا للمفعول من الادخال

ولا يظلمون نقيرا لا ينقصون شيئا حقيرا من ثواب اعمالهم فإن النقير علم في القلة والحقارة واذا لم ينقص ثواب المطيع فلأن لا يزاد عقاب العاصي أولى وأحرى كيف لا والمجازي أرحم الراحمين وهو السر في الاقتصار على ذكره عقيب الثواب

١٢٥

ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه للّه أي أخلص نفسه له تعالى لا يعرف له ربا سواه

وقيل بذل وجهه له في السجود

وقيل أخلص عمله له عز و جل

وقيل فوض أمره اليه تعالى وهذا انكار واستبعاد لأن يكون أحد أحسن دينا ممن فعل ذلك أو مساويا له وان لم يكن سبك التركيب متعرضا لإنكار المساواة ونفيها يرشدك اليه العرف المطرد والاستعمال الفاشي فإنه اذا قيل من أكرم من فلان أولا أفضل من فلان فالمراد به حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وعليه مساق قوله تعالى ومن أظلم ممن افترى ونظائره ودينا نصب على التمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير ومن دينه أحسن من دين من أسلم الخ فالتفضيل في الحقيقة جار بين الدينين لا بين صاحبيهما ففيه تنبيه على أن ذلك أقصى ما تنتهى اليه القوة البشرية

وهو محسن أي آت بالحسنات تارك للسيئات أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي وقد فسره بقوله أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك والجملة حال من فاعل اسلم

واتبع ملة ابراهيم الموافقة لدين الاسلام المتفق عل صحتها وقبولها

حنيفا مائلا عن الاديان الزائغة وهو حال من فاعل اتبع أو من ابراهيم

واتخذ اللّه ابراهيم خليلا اصطفاه وخصه بكرامات تشبه كرامات الخليل عند خليله واظهاره في مواقع الاضمار لتفخيم شأنه والتنصيص على أنه الممدوح وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية والخلة من الخلال فإنه ود تخلل النفس وخالطها

وقيل من الخلل فإن كل واحد من الخليلين يسد خلل الآخر أو من الخل وهو الطريق في الرمل فإنهما يتوافقان في الطريقة أو من الخلة

بمعنى الخصلة فإنهما يتوافقان في الخصال وفائدة الاعتراض جملة من جملتها الترغيب في اتباع ملته عليه السلام فإن من بلغ من الزلفى عند اللّه تعالى مبلغا مصححا لتسميته خليلا حقيق بان يكون اتباع طريقته أهم مايمتد إليه أعناق الهمم وأشرف ما يرمق نحوه أحداق الأمم قيل إنه عليه الصلاة و السلام بعث إلى خليل له بمصر في ازمة أصابت الناس يمتار منه فقال خليله لو كان إبراهيم يطلب الميرة لنفسه لفعلت ولكنه يريدها للأضياف وقد أصابنا ما أصاب الناس من الشدة فرجع غلمانه عليه الصلاة و السلام فاجتازوا ببطحاء لينة فملئوا منها الغرائر حياء من الناس وجاؤا بها إلى منزل إبراهيم عليه الصلاة و السلام وألقوها فيه وتفرقوا وجاء أحدهم فأخبر إبراهيم بالقصة فاغتم لذلك غما شديدا لاسيما لاجتماع الناس ببابه رجاء الطعام فغلبه عيناه وعمدت سارة إلى الغرائر فإذا فيها أجود ما يكون من الحوارى فاختبزت وفي رواية فأطعمت الناس وانتبه إبراهيم عليه السلام فاشتم رائحة الخبز فقال من أين لكم قالت سارة من خليلك المصرى فقال بل من عند خليلى اللّه عز و جل فسماه اللّه تعالى خليلا

١٢٦

وللّه ما في السموات وما في الأرض جملة مبتدأة سيقت لتقرير وجوب طاعة اللّه تعالى على أهل السموات والأرض ببين أن جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى خلقا وملكا لايخرج عن ملكوته شئ منها فيجازى كلا بموجب أعماله خيرا وشرا

وقيل لبيان أن اتخاذه عز و جل لإبراهيم عليه السلام خليلا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك في شأن من شئونه كما هو دأب الآدميين فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم بل لمجرد تكرمته وتشريفه عليه السلام

وقيل لبيان أن الخلة لا تخرجه عن رتبة العبودية

وقيل لبيان أن اصطفاءه عليه السلام للخلة بمحض مشيئته تعالى أى تعالى ما فيهما جميعا يختار منهما ما يشاء وقوله عز و جل

وكان اللّه بكل شئ محيطا تذييل مقرر لمضمون ماقبله على الوجوه المذكورة فإن إحاطته تعالى علما وقدرة بجميع الأشياء التى من جملتها ما فيهما من المكلفين وأعمالهم مما يقرر ذلك اكمل تقرير

١٢٧

ويستفتونك في النساء أى في حقهن على الإطلاق كما ينبئ عنه الأحكام الآتية لا في حق ميراثهن خاصة فإنه قد سئل عن أحوال كثيرة مما يتعلق بهن فما بين حكمة فيما سلف أحيل بيانه على ماورد في ذلك من الكتاب ومالم يبين حكمه بعد ههنا وذلك قوله تعالى

قل اللّه يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب بإسناد الإفتاء الذى هو تبيين المبهم وتوضيح المشكل إليه تعالى وإلى ما تلى من الكتاب فيما سبق باعتبارين على طريقة قولك أغنانى زيد وعطاؤه بعطف ما على المبتدأ أو ضميره في الخبر لمكان الفصل بالمفعول والجار

والمجرور وإيثار صيغة المضارع للإيذان باستمرار التلاوة ودوامها في الكتاب إما متعلق بيتلى أو بمحذوف وقع حالا من المستكن فيه أى يتلى كائنا فيه ويجوز ان يكون ما يتلى عليكم مبتدأ وفي الكتاب خبره على أن المراد به اللوح المحفوظ والجملة معترضة مسوقة لبيان عظم شأن المتلو عليهم وأن العدل في الحقوق المبينة فيه من عظائم الأمور التى تجب مراعاتها والمحافظة عليها فما يتلى حينئذ متناول لما تلى وما سيتلى ويجوز أن يكون مجرورا على القسم المنبئ عن تعظيم المقسم به وتفخيمه كأنه قيل قل اللّه يفتيكم فيهن وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب فالمراد بقوله تعالى يفتيكم بيانه السابق واللاحق ولا مساغ لعطفه على المجرور من فيهن لاختلاله لفظا ومعنى وقوله تعالى

في يتامى النساء على الوجه الأول وهو الأظهر متعلق بيتلى أى ما يتلى عليكم في شأنهن وعلى الأخيرين بدل من فيهن وهذه الإضافة بمعنى من لأنها إضافة الشئ إلى جنسه وقرئ ييامى على قلب همزة أيامى ياء

اللاتى لاتؤتونهن ما كتب لهن أى ما فرض لهن من الميراث وغيره

وترغبون عطف على الصلة عطف جملة مثبتة على جملة منفية

وقيل حال من فاعل تؤتونهن بتأويل وأنتم ترغبون و لاريب في أنه لا يظهر لتقييد عدم الإيتاء بذلك فائدة إلا إذا أريد بما كتب لهن صداقهن

أن تنكحوهن أى في ان تنكحوهن لالأجل التمتع بهن بل لأكل ما لهن أوفي أن تنكحوهن بغير إكمال الصداق وذلك ما روى عن عائشة رضى اللّه تعالى عنها من أنها اليتيمة تكون في حجر وليها هو وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد ان ينكحها بأدنى من سنة نسائها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق أو عن أن تنكحوهن وذلك ماروى عنها رضى اللّه عنها انها يتيمة يرغب وليها عن نكاحها ولا ينكحها فيعضلها طمعا في ميراثها وفي رواية عنها رضى اللّه عنه هو الرجل يكون عنده يتيمة ووارثها وشريكها في المال حتى في العذق فيرغب ان ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها فالمراد بما كتب لهن على الوجه الأول والأخير ميراثهن وبما يتلى في حقهن قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم وقوله تعالى ولا تأكلوها ونحوهما من النصوص الدالة على عدم التعرض لأموالهم وعلى الوجه الثاني صداقهن وبما يتلى فيهن قوله تعالى وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى الآية

والمستضعفين من الولدان عطف على يتامى النساء وما يتلى في حقهم قوله تعالى يوصيكم اللّه الخ وقد كانوا في الجاهلية لا يورثونهم كما لا يورثون النساء وإنما يورثون الرجال القوام بالأمور روى أن عيينة بن حصن الفزاري جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال أخبرنا بأنك تعطي الإبنة النصف والأخت النصف وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة فقال كذلك أمرت

وأن تقوموا لليتامى بالقسط بالجر عطف على ما قبله وما يتلى في حقهم قوله تعالى ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ونحو ذلك مما لا يكاد يحصر هذا على تقدير كون في يتامى النساء متعلقا بيتلى

وأما على تقدير كونه بدلا من فيهن فالوجه نصبه عطفا على موضع فيهن أي يفتيكم أن تقوموا ويجوز نصبه بإضمار فعل أي ويأمركم وهو خطاب للولاة أو للأولياء والأوصياء

وما تفعلوا في حقوق المذكورين

من خير حسبما أمرتم به أو ما تفعلوه من خير على الإطلاق فيندرج فيه ما يتعلق بهم اندراجا أوليا

فإن اللّه كان به عليما فيجازيكم بحسبه

١٢٨

وإن امرأة خافت شروع في بيان ما لم يبين فيما سلف من الأحكام أي إن توقعت امرأة

من بعلها نشوزا أي تجافيا عنها وترفعا عن صحبتها كراهة لها ومنعا لحقوقها

أو إعراضا بأن يقل محادثتها ومؤانستها لما يقتضي ذلك من الدواعي والأسباب

فلا جناح عليهما حينئذ

أن يصلحا بينهما صلحا أي في أن يصلحا بينهما بأن تحط له المهر أو بعضه أو القسم كما فعلت سودة بنت زمعة حين كرهت أن يفارقها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فوهبت يومها لعائشة رضي اللّه عنها أو بأن تهب له شيئا تستميله وقرئ يصالحا من يتصالحا ويصلحا من يصطلحا ويصالحا من المفاعلة وصلحا إما منصوب بالفعل المذكور على كل تقدير على أنه مصدر منه بحذف الزوائد وقد يعبر عنه بإسم المصدر كأنه قيل إصلاحا أو تصلحا أو إصطلاحا حسبما قرئ الفعل أو بفعل مترتب على المذكور أي فيصلح حالهما صلحا وبينهما ظرف للفعل أو حال من صلحا والتعرض لنفي الجناح عنهما مع أنه ليس من جانبها الأخذ الذي هو المظنة للجناح لبيان أن هذا الصلح ليس من قبيل الرشوة المحرمة للمعطى والآخذ

والصلح خير أي من الفرقة أو من سوء العشرة أو من الخصومة فاللام للعهد أو هو خير من الخيور فاللام للجنس والجملة اعتراض مقرر لما فبله وكذا قوله تعالى

وأحضرت الأنفس الشح أي جعلت حاضرة له مطبوعة عليه لا تنفك عنه أبدا فلا المراة تسمح بحقوقها من الرجل ولا الرجل يجود بحسن المعاشرة مع دمامتها فإن فيه تحقيقا للصلح وتقريرا له بحث كل منهما عليه لكن لا بالنظر إلى حال نفسه فإن ذلك يستدعي التمادي في المماكسة والشقاق بل بالنظر إلى حال صاحبه فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير استمالة مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته وكذا شح نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقتنع من قبلها بشيء يسير ولا يكلفها بذل الكثير فيتحقق بذلك الصلح

وأن تحسنوا في العشرة

وتتقوا النشوز والإعراض وإن تعاضدت الأسباب الداعية إليهما وتصبروا على ذلك مراعاة لحقوق الصحبة ولم تضطروهن إلى بذل شئ من حقوقهن

فإن اللّه كان بما تعملون أي من الإحسان والتقوى أو بما تعملون جميعا فيدخل ذلك فيه دخولا أوليا

خبيرا فيجازيكم ويثيبكم على ذلك البتة لإستحالة أن يضيع أجر المحسنين وفي خطاب الأزواج بطريق الإلتفات والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان ولفظ التقوى المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه وترتيب الوعد الكريم عليه من لطف الإستمالة والترغيب في حسن المعاملة مالا يخفى روى أنها نزلت في عمرة بنت محمد بن مسلمة وزوجها سعد بن الربيع تزوجها وهي شابة فلما علاها الكبر تزوج شابة وآثرها عليها وجفاها فأتت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وشكت إليه ذلك

وقيل نزلت في أبي السائب كانت له امرأة قد كبرت وله منها أولاد فأراد أن يطلقها ويتزوج غيرها فقالت لا تطلقني ودعني على أولادي فأقسم لي من كل شهرين إن شئت وإن شئت فلا تقسم لي فقال إن كان

يصلح ذلك فهو أحب إلي فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فذكر له ذلك فنزلت

١٢٩

ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء أى محال أن تقدورا على أن تعدلوا بينهن بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب إحداهن في شأن من الشئون البتة وقد كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول اللّهم هذا قسمى فيما أملك فلا تؤاخذنى فيما تملك ولا أملك وفي رواية وأنت أعلم بما لاأملك يعنى فرط محبته لعائشة رضى اللّه عنها

ولو حرصتم أى على إقامة العدل وبالغتم في ذلك

فلا تميلوا كل الميل أى فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور واعدلوا ما استطعتم فإن عجزكم عن حقيقة العدل إنما يصحح عدم تكليفكم بها لا بما دونها من المراتب الداخلة تحت استطاعتكم

فتذروها اى التى ملتم عنها

كالمعلقة التى ليست ذات بعل أو مطلقة وقرئ كالمسجونة وفي الحديث من كانت له أمرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل

وأن تصلحوا ما كنتم تفسدون من أمورهن

وتتقوا الميل فيما يستقبل

فإن اللّه كن غفورا يغفر لكم ما فرط منكم من الميل

رحيما يتفضل عليكم برحمته

١٣٠

وإن يتفرقا وقرئ يتفارقا أى وإن يفارق كل منهما صاحبه بأن لم يتفق بينهما وفاق بوجه ما من الصلح وغيره

يغن اللّه كلا منهما أى يجعله مستغنيا عن الآخر ويكفيه مهماته

من سعته من غناه وقدرته وفيه زجر لهما عن المفارقة رغما لصاحبه

وكان اللّه واسعا حكيما مقتدرا متقنا في أفعاله وأحكامه وقوله تعالى

١٣١

وللّه ما في السموات وما في الأرض أى من الموجودات كائنا ما كان من الخلائق وأرزاقهم وغير ذلك جملة مستأنفة منبهة على كمال سعته وعظم قدرته

ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أى أمرناهم في كتابهم وهم اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم واللام في الكتاب للجنس ومن متعلقة بوصينا أو بأوتوا

وإياكم عطف على الموصول

أن اتقوا اللّه أى وصينا كلا منكم بان اتقوا اللّه على أن أن مصدرية حذف عنها الجار ويجوز أن تكون مفسرة لأن التوصية في معنى القول فقوله تعالى

وإن تكفروا فإن للّه ما في السموات وما في الأرض حينئذ من تتمة القول المحكى أى ولقد قلنا لهم ولكم اتقوا اللّه وإن تكفروا إلى آخر الآية وعلى تقدير كون أن مصدرية مبنى الكلام إرادة القول أى أمرناهم وإياكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم إن تكفروا الآية

وقيل هي جملة مستأنفة خوطب بها هذه الأمة وأيما ما كان فالمترتب على كفرهم ليس مضمون قوله تعالى فإن للّه الآية بل هو الأمر بعلمه كأنه قيل وإن تكفروا فاعلموا أن للّه ما في السموات وما في الأرض من الخلائق قاطبة مفتقرون إليه في الوجود وسائر النعم المتفرعة عليه لا يستغنون عن فيضه طرفة عين فحقه أن يطاع ولا يعصى ويتقى عقابه ويجى ثوابه وقد قرر ذلك بقوله تعالى

وكان اللّه غنيا اى عن الخلق وعبادتهم

حميدا محمودا في ذاته حمدوه أو لم يحمدوه فلا يتضرر بكفرهم ومعاصيهم كما لا ينتفع بشكرهم وتقواهم وإنما وصاهم بالتقوى لرحمته لا لحاجته

١٣٢

وللّه ما في السموات وما في الأرض كلام مبتدأ مسوق للمخاطبين توطئة لما بعده من الشرطية غير داخل تحت القول المحكى اى له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقا وملكا يتصرف فيهم كيفما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة

وكفى باللّه وكيلا في تدبير أمور الكل وكل الأمور فلا بد من أن يتوكل عليه لا على أحد سواه

١٣٣

إن يشأ يذهبكم أيها الناس أى يفنكم ويستأصلكم بالمرة

ويآت بآخرين اى يوجد دفعة مكانكم قوما آخرين من البشر أو خلقا آخرين مكان الإنس ومفعول المشئية محذوف لكونه مضمون الجزاء أى أن يشأ إفناءكم وإيجاد آخرين يذهبكم الخ يعنى ان إبقاءكم على أما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم ولعدم تعلق مشيئته المبنية على الحكم البالغة بإفنائكم لا لعجزه سبحانه تعالى عن ذلك علوا كبيرا

وكان اللّه على ذلك أى على إفناءكم بالمرة وإيجاد آخرين دفعة مكانكم

قديرا بليغ القدرة وفيه لا سيما في توسيط الخطاب بين الجزاء وما عطف عليه من تشديد التهديد ما لا يخفى

وقيل هو خطاب لمن عادى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من العرب أى إن يشأ يمتكم ويأت بأناس آخرين يوالونه فمعناه هو معنى قوله تعالى وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ويروى أنها لما نزلت ضرب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بيده على ظهر سلمان وقال إنهم قوم هذا يريد أبناء فارس

١٣٤

من كان يريد ثواب الدنيا كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة

فعند اللّه ثواب الدنيا والآخرة أى فعنده تعالى ثوابهما له إن أراده فما له يطلب أخسهما فليطلبهما كمن يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة أو ليطلب أشرفهما فإن من جاهد خالصا لوجه اللّه تعالى لم تخطئه الغنيمة وله في الآخرة ما هي في جنبه كلا شئ أى فعند اللّه ثواب الدارين فيعطى كلا ما يريده كقوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه الآية

وكان اللّه سميعا بصيرا عالما بجميع المسموعات والمبصرات فيندرج فيها ما صدر عنهم من الأقوال والأعمال المتعلقة بمراداتهم اندراجا اوليا

١٣٥

يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط مبالغين في العدل وإقامة القسط في جميع الأمور مجتهدين في ذلك حق الاجتهاد

شهداء للّه بالحق تقيمون شهاداتكم لوجه اللّه تعالى وهو خبر ثان

وقيل حال

ولو على أنفسكم أى ولو كانت الشهادة على أنفسكم بأن تقروا عليها على أن الشهادة عبارة عن الإخبار بحق الغير سواء كان ذلك عليه أو على ثالث بأن يكون الشهادة مستتبعة لضرر ينالكم من جهة المشهود عليه

أو الوالدين والأقربين أى ولو كان على والديكم وأقاربكم

إن يكن أى المشهود عليه

غنيا ينبغى في العادة رضاه ويتقى سخطه

أو فقيرا يترحم عليه غالبا وقرئ إن يكن غنى أو فقير على أن كان تامة وجواب الشرط محذوف لدلالة قوله تعالى

فاللّه أولى بهما عليه أى فلا تمنعوا عنها طلبا لرضا الغنى أو ترحما على الفقير فإن اللّه تعالى أولى بجنسى الغنى والفقير المدلول عليهما بما ذكر ولولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها وقرئ أولى بهم

فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا أى مخافة أن تعدلوا عن الحق فإن اتباع الهوى من مظان الجور الذى حقه أن يخاف ويحذر

وقيل كراهة أن تعدلوا بين الناس أو إرادة ان تعدلوا عن الحق

وإن تلووا أى ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل بأن تأتوا بها لا على وجهها وقرئ وإن تلوا من الولاية والتصدى أى وإن وليتم إقامة الشهادة

أو تعرضوا أى عن إقامتها رأسا

فإن اللّه كان بما تعملون من لى الألسنة والإعراض بالكلية أو من جميع الأعمال التى من جملتها ما ذكر

خبيرا فيجازيكم لا محالة على ذلك فهو على القراءة المشهورة وعيد محض وعلى القراءة الأخيرة متضمن للوعيد

١٣٦

يأيها الذين آمنوا خطاب لكافة المسلمين فمعنى قوله تعالى

آمنوا باللّه ورسوله والكتاب الذى نزل على رسوله والكتاب الذى أنزل من قبل اثبتوا على الإيمان بذلك وداوموا عليه وازدادوا فيه طمأنينة ويقينا أو آمنوا بما ذكر مفصلا بناء على أن إيمان بعضهم إجمالى والمراد بالكتاب الثاني الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية لقوله تعالى وكتبه بالإيمان به الإيمان بأن كل كتاب من تلك الكتب منزل منه تعالى على رسول معين لإرشاد أمته إلى ما شرع لهم من الدين بالأومر والنواهى لكن لا على أن مدار الإيمان بكل واحد من تلك الكتب خصوصية ذلك الكتاب ولا على أن أحكام تلك الكتب وشرائعها باقية بالكلية ولا على أن الباقى منها معتبر بالإضافة إليها بل على أن الإيمان بالكل مندرج تحت الإيمان بالكتاب المنزل على رسوله وأن أحكام كل منها كانت حقه ثابتة إلى ورود ما نسخها وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتة من حيث أنها من أحكام هذا الكتاب الجليل المصون عن النسخ والتبديل كما مر في تفسير خاتمة سورة البقرة وقرئ نزل وأنزل على البناء للمفعول

وقيل هو خطاب لؤمنى أهل الكتاب لما أن عبد اللّه بن سلام وابن اخته سلامة وابن أخيه سلمة وأسدا وأسيدا ابنى كعب وثعلبة بن قيس ويامين بن يامين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وقالوا يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فقال بل آمنوا باللّه ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا لا نفعل فنزلت فآمنوا كلهم فامرهم بالإيمان بالكتاب المتناول للتوراة مع أنهم مؤمنون بها من قبل ليس لكون المراد بالإيمان ما يعم إنشاءه والثبات عليه ولالأن متعلق الأمر حقيقة هو الإيمان بما عداها كأنه قيل آمنوا بالكل ولا تخصوه بالبعض بل لأن المأمور به إنما هو الإيمان بها في ضمن الإيمان بالقرآن على الوجه الذى أشير أليه آنفا لا إيمانهم السابق ولأن فيه حملا لهم على التسوية بينهما وبين سائر الكتب في التصديق لاشتراك الكل فيما يوجبه وهو النزول من عند اللّه تعالى

وقيل خطاب لأهل الكتابين فالمعنى آمنوا بالكل لا ببعض دون بعض وأمر كل طائفة بالإيمان بكتابه في ضمن الأمر بالإيمان بجنس الكتاب لما ذكر

وقيل هو للمنافقين فالمعنى آمنوا بقلوبكم لا بألسنتكم فقط

ومن يكفر باللّه وملائكة وكتبه ورسله واليوم الآخر أى بشئ من ذلك

فقد ضل ضلالا بعيدا عن المقصد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقة وزيادة الملائكة واليوم الآخر في جانب الكفر لما أن بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمان أصلا وجمع الكتب والرسل لما أن الكفر بكتاب أو برسول كفر بالكل وتقديم الرسول فيما سبق لذكر الكتاب بعنوان كونه منزلا عليه وتقديم الملائكة والكتب على الرسل لأنهم وسايط بين اللّه عز و جل وبين الرسل في إنزال الكتب

١٣٧

إن الذين آمنوا قال قتادة هم اليهود آمنوا بموسى

ثم كفروا بعبادتهم العجل

ثم آمنوا عند عودة إليهم

ثم كفروا بعيسى والإنجيل

ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد

وقيل هم قوم تكرر منهم الارتداد وأصروا على الكفر وازدادوا تماديا في الغى

لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا لما أنه يستبعد منهم أن يتوبوا عن الكفر ويثبتوا على الإيمان فإن قلوبهم قد ضربت بالكفر وتمرنت على الردة وكان الإيمان عندهم أهون شئ وأدونه لاانهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم وخبر كان محذوف أى مريدا ليغفر لهم وقوله عز و جل

١٣٨

بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما يدل على أن المراد بالمذكورين الذين آمنوا في الظاهر نفاقا وكفروا في السر مرة بعد أخرى ثم ازدادوا كفرا ونفاقا ووضع

 بشر موضع أنذر تهكما بهم

١٣٩

الذين يتخذون الكافرين أولياء في محل النصب أو الرفع على الذم بمعنى أريد بهم الذين أوهم الذين

وقيل نصب على انه صفة للمنافقين وقوله تعالى

من دون المؤمنين حال من فاعل يتخذون أى يتخذون الكفرة أنصارا متجاوزين ولاية المؤمنين وكانوا يوالونهم ويقول بعضهم لبعض لايتم أمر محمد فتولوا اليهود

أيبتغون عندهم العزة إنكار لرأيهم وإبطال له وبيان لخيبة رجائهم وقطع لأطماعهم الفارغة والجملة معترضة مقررة لما قبلها أى أيطلبون بموالاة الكفرة القوة والغلبة قال الواحدى أصل العزة الشدة ومنه قيل للأرض الشديدة الصلبة عزاز وقوله تعالى

فإن العزة للّه جميعا تعليل لما يفيده الاستفهام الإنكارى من بطلان رأيهم وخيبة رجائهم فإن انحصار جميع أفراد العزة في جنابة عز وعلا بحيث لا ينالها إلا أولياؤه الذين كتب لهم العزة والغلبة قال تعالى وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين يقضى ببطلان التعزز بغيره سبحانه وتعالى واستحالة الانتفاع به

وقيل هو جواب شرط محذوف كأنه قيل إن يبتغوا عندهم عزة فإن العزة للّه وجميعا حال من المستكن في قوله تعالى للّه لاعتماده على المبتدأ

١٤٠

وقد نزل عليكم خطاب للمنافقين بطريق الالتفات مفيد لتشديد التوبيخ الذى بستدعيه تعداد جناياتهم وقرئ مبنيا للمفعول من التنزيل والإنزال ونزل أيضا مخففا والجملة حال من ضمير يتخذون أيضا مفيدة لكمال قباحة حالهم ونهاية استعصائهم عليه سبحانه بييان أنهم فعلوا ما فعلوا من موالاة الكفرة مع تحقق ما يمنعهم من ذلك وهو وردود النهى الصريح عن مجالستهم المستلزم للنهى عن موالاتهم على أبلغ وجه وآكده إثر بيان انتفاء ما يدعوهم إليه بالجملة المعترضة كأنه قيل تتخذونهم أولياء والحال أنه تعالى قد نزل عليكم قبل هذا بمكة

في الكتاب أى القرآن الكريم

ان إذا سمعتم آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره وذلك قوله تعالى وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم الآية وهذا يقتضى الانزجار عن مجالستهم في تلك الحالة القبيحة فكيف بموالاتهم والاعتزاز بهم وأن هى المخففة من ان وضمير الشأن الذى هو اسمها محذوف والجملة الشرطية خبرها وقوله تعالى يكفر بها حال من آيات اللّه وقوله تعالى ويستهزأ بها عطف عليه داخل في حكم الحالية وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتشريفها وإبانة خطرها وتهويل أمر الكفر بها أى نزل عليكم في الكتاب أنه إذا سمعتم آيات اللّه مكفورا بها ومستهزأ بها وفيه دلالة على أن المنزل على النبى وإن خوطب به خاصة منزل على الأمة وأن مدار الإعراض عنهم هو العلم بخوضهم في الآيات ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية

وأخرى بالسماع وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالسهم لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط والضمير في معهم للكفرة المدلول عليهم بقوله تعالى يكفر بها ويستهزأ بها

إنكم إذا مثلهم جملة مستأنفة سيقت لتعليل النهى غير داخلة تحت التنزيل وإذن ملغاة عن العمل لوقوعها بين المبتدأ والخبر أى لا تقعدوا معهم في ذلك الوقت إنكم إن فعلتموه كنتم مثلهم في الكفر واستتباع العذاب وإفراد المثل لأنه كالمصدر أو للاستغناء بالإضافة إلى الجمع وقرئ شاذا مثلهم بالفتح لإضافته إلى غير متمكن كما في قوله تعالى مثل ما انكم تنطقون

وقيل هو منصوب علىالظرفية اى في مثل حالهم

وقوله تعالى إن اللّه جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا تعليل لكونهم مثلهم في الكفر ببيان ما يستلزمه من شركتهم لهم في العذاب والمراد بالمنافقين إما المخاطبون وقد وضع موضع ضميرهم المظهر تسجيلا بنفاقهم وتعليلا للحكم بمأخذ الاشتقاق

وأما الجنس وهم داخلون تحته دخولا أوليا وتقديم المنافقين على الكافرين لتشديد الوعيد على المخاطبين ونصب جميعا مثل ما قبله

١٤١

الذين يتربصون بكم تلوين للخطاب وتوجيه له إلى المؤمنين بتعديد بعض آخر من جنايات المنافقين وقبائحهم وهو إما بدل من الذين يتخذون أو صفة للمنافقين فقط إذ هم المتربصون دون الكافرين أو موفوع أو منصوب على الذم أى ينتظرون أمركم وما يحدث لكم من ظفر أو إخفاق والفاء في قوله تعالى

فإن كان لكم فتح من اللّه لترتيب مضمونه على ما قبلها فإن حكاية تربصهم مستتبعة لحاية ما يقع بعد ذلك كما ان نفس التربص يستدعى شيئا ينتظر المتربص وقوعه

قالوا أى لكم

ألم نكن معكم أى مظاهرين لكم فأسهموا لنا في الغنيمة

وإن كان للكافرين نصيب من الحرب فإنها سجال

قالوا أى للكفرة

ألم نستحوذ عليكم أى الم نغلبكم ونتمكن من قتالكم وأسركم فابقينا عليكم

ونمنعكم من المؤمين بأن ثبطناهم عنكم وخيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم ومرضوا في قتالكم وتوانينا في مظاهرتهم وإلا لكنتم نهبة للنوائب فهاتوا نصيبا لنا مما أصبتم وتسمية ظفر المسلمين فتحا وما للكافرين نصيبا لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين وقرئ ونمنعكم بإضمار أن

فاللّه يحكم بينكم يوم القيامة حكما يليق بشأن كل منكم من الثواب والعقاب

وأما في الدنيا فقد أجرى على من تفوه بكلمة الإسلام حكمه ولم يضع السيف على من تكلم بها نفاقا

ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا حينئذ كما قد يجعل ذلك في الدنيا بطريق الابتلاء والاستدراج أو في الدنيا على ان المراد بالسبيل الحجة

١٤٢

إن المنافقين يخادعون اللّه وهو خادعهم كلام مبتدأ سيق لبيان طرف

 آخر من قبائح أعمالهم أى يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطال نقيضه واللّه فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم في الدنيا معصومى الدماء والأموال وأعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار وقد مر التحقيق في صدر سورة البقرة

وقيل يعطون على الصراط نورا كما يعطى المؤمنون فيمضون بنورهم ثم يطفأ نورهم ويبقى نور المؤمنين فينادون انظرونا نقتبس من نوركم

وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى متثاقلين كالمكرة على الفعل وقرئ بفتح الكاف وهما جمعا كسلان

يراءون الناس ليحسبوهم مؤمنين والمراءاة مفاعلة بمعنى التفعيل كنعم وناعم أو للمقابلة فإن المرئى يرى غيره عمله وهو يريه استحسانه والجملة اما استئناف مبنى على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل فماذا يريدون بقيامهم إليها كسالى فقيل يراءون الخ أو حال من ضمير قاموا

ولا يذكرون اللّه إلا قليلا عطف على يراءون أى لا يذكرونه سبحانه إلا ذكرا قليلا وهو ذكرهم باللسان فإنه بالإضافة إلى الذكر بالقلب قليل أو إلا زمانا قليلا أو لا يصلون إلا قليلا لأنهم لايصلون إلا بمر أى من الناس وذلك قليل

وقيل لا يذكرونه تعالى في الصلاة إلا قليلا عند التكبير والتسليم

١٤٣

مذبذبين بين ذلك حال من فاعل يراءون أو منصوب على الذم وذلك إشارة إلى الإيمان والكفر المدلول عليهما بمعونة المقام أى مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان وحقيقة المذبذب ما يذب ويدفع عن كلا الجانبين مرة بعد أخرى وقرئ بكسر الذال أى مذبذبين قلوبهم أو رأيهم أو دينهم أو هو بمعنى متذبذبين كما جاء صلصل بمعنى نصلصل وفي مصحف ابن مسعود رضى اللّه عنه متذبذبين وقرئ مدبدبين بالدال غير المعجمة وكأن المعنى أخذ بهم تارة في دبة أى طريقة وأخرى في أخرى

لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء اى لامنسوبين إلى المؤمنين ولا منسوبين إلىالكافرين أولا صائرين إلى الأولين ولا إلى الآخرين فمحله النصب على أنه حال من ضمير مذبذبين أو على أنه بدل منه أو بيان وتفسيرله

ومن يضلل اللّه لعدم استعداده للّهداية والتوفيق

فلن تجد له سبيلا موصلا إلى الحق والصواب فضلا عن أن تهديه إليه والخطاب لكل من يصلح له كائنا من كان

١٤٤

يأيها الذين آمنوا لاتتخذوا الكافرين اولياء من دون المؤمنين نهوا عن موالاة الكفرة صريحا وإن كان في بيان حال المنافقين مزجرة عن ذلك مبالغة في الزجر والتحذير

أتريدون أن تجعلوا للّه عليكم سلطانا مبينا أى أتريدون بذلك أن تجعلوا للّه عليكم حجة بينه على أنكم منافقون فإن موالاتهم أوضح أدلة النفاق أو سلطانا يسلط عليكم عقابه وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال أتجعلون المبالغة في إنكاره وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل أرادته فضلا عن صدور نفسه كما في قوله عز و جل أم تريدون أن تسألوا رسولكم

١٤٥

إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار وهو الطبقة التى في قعر جهنم وإنما كان كذلك لأنهم أخبث الكفرة حيث ضموا إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله وخداعهم

وأما قوله ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم انه مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان ونحوه فمن باب التشديد والتهديد والتغليظ مبالغة في الزجر وتسمية طبقاتها السبع دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض وقرئ بفتح الراء وهو لغة كالسطر والسطر ويعضده أن جمعه أدراك

ولن تجد لهم نصيرا يخلصهم منه والخطاب كما سبق

١٤٦

إلا الذين تابوا أى عن النفاق وهو استثناء من المنافقين بل من ضميرهم في الخبر

واصلحوا ما أفسدوا من أحوالهم في حال النفاق

واعتصموا باللّه أى وثقوا به وتمسكوا بدينه

وأخلصوا دينهم أي جعلوه خالصا للّه لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه

فأولئك إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة وعلو الطبقة

مع المؤمنين أى المؤمنين المعهودين الذين لم يصدر عنهم نفاق أصلا منذ آمنوا وإلا فهم أيضا مؤمنون أى معهم في الدرجات العالية من الجنة وقد بين ذلك بقوله تعالى

وسوف يؤتى اللّه المؤمنين أجرا عظيما لا يقادر قدره فيساهمونهم فيه

١٤٧

ما يفعل اللّه بعذابكم إن شكرتم وآمنتم استئناف مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم لاشئ آخر فيكون مقررا لما قبله من إثابتهم عن توبيتهم وما استفهامية مفيدة للنفى على أبلغ وجه وآكده اى أى شئ يفعل اللّه سبحانه بتعذيبكم أيتشفى به من الغيظ ام يدرك به الثأر أم يستجلب به نفعا أم يستدفع به ضررا كما هو شان الملوك وهو الغنى المتعالى عن أمثال ذلك وإنما هوأمر يقتضيه كفركم فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر انتفى التعذيب لامحالة وتقديم الشكر على الإيمان لما أنه طريق موصل إليه فإن النظر يدرك اولا ما عليه من النعم الأنفسية والافاقية فيشكر شكرا مبهما ثم يترقى إلى معرفة المنعم فيؤمن به وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه

وكان اللّه شاكرا الشكر من اللّه سبحانه هو الرضا باليسير من طاعة عباده وإضعاف الثواب بمقابلته

عليما مبالغا في العلم بجميع المعلومات التى من جملتها شكركم وإيمانكم فيستحيل أن لا يوفيكم أجوركم

لا يحب اللّه الجهر بالسوء من القول عدم محبته تعالى لشيء كناية عن سخطه والباء متعلقة بالجهر  ومن بمحذوف وقع حالا من السوء أى لا يحب اللّه تعالى أن يجهر أحد بالسوء كائنا من القول

إلا من ظلم أى إلا جهر من ظلم بأن يدعو على ظالمه أو يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء فإن ذلك غير مسخوط عنده سبحانه

وقيل هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم ولمن انتصر بعد ظلمه الآية

وقيل ضاف رجلا قوما فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب على الشكاية فنزلت وقرئ إلا من ظلم على البناء للفاعل فالاستثناء منقطع أى ولكن الظالم يرتكب مالا يحبه اللّه تعالى فيجهر بالسوء

وكان اللّه سميعا لجميع المسوعات فيندرج فيها كلام المظلوم والظالم

عليما بجميع المعلومات التى من جملتها حال المظلوم والظالم فالجملة تذييل مقرر لما يفيده الاستثناء

١٤٩

إن تبدوا خيرا أى خير كان من القوال والأفعال

أو تخفوه أو تعفوا عن سوء مع ما سوغ لكم من مؤاخذة المسئ والتنصيص عليه مع اندراجه في إبداء الخير وإخفائه لما انه الحقيق بالبيان وإنما ذكر إبداء الخير وإخفاؤه بطريق التسبيب له كما ينبئ عنه قوله عز و جل

فإن اللّه كان عفوا قديرا فإن إيراده في معرض جواب الشرط يدل على أن العمدة هو العفو مع القدرة أى كان مبالغا في العفو مع كمال قدرته على المؤاخذة وقال الحسن يعفو عن الجانين مع قدرته على الإنتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة اللّه تعالى وقال الكلبى هو اقدر على عفو ذنوبكم منكم على عفو ذنوب من ظلمكم

وقيل عفوا عمن عفا قديرا على إيصال الثواب إليه

 إن الذين يكفرون باللّه ورسله أى يؤدى إليه مذهبهم ويقتضيه رأيهم لاانهم يصرحون بذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى

ويريدون ان يفرقوا بين اللّه ورسله أى بأن يؤمنوا به تعالى ويكفروا بهم لكن لا بان يصرحوا بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبة بل بطريق الاستلزام كما يحكيه قوله تعالى

ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض أى نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعضهم كما قالت اليهود نؤمن بموسى والتوراة وعزير ونكفر بما وراء ذلك وما ذاك إلا كفر باللّه تعالى ورسله وتفريق بين اللّه تعالى ورسله في الإيمان لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم السلام وما من نبى من الأنبياء إلا وقد أخبر قومه بحقية دين نبينا محمد وعليهم أجعين فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وباللّه تعالى ايضا من حيث لايحتسب

ويريدون بقولهم ذلك

أن يتخذوا بين ذلك أى بين الإيمان والكفر

سبيلا يسلكونه مع انه لا واسطة بينهما قطعا إذ الحق لا يختلف وماذا بعد الحق إلا الضلال

١٥١

أولئك الموصوفون بالصفات القبيحة

هم الكافرون الكاملون في الكفر لا عبرة بمايدعونه ويسمونه إيمانا أصلا

حقا مصدر مؤكد لمضمون الجملة أى حق ذلك أى كونهم كاملين في الكفر حقا أو صفة لمصدر الكافرين اى هم الذين كفروا حقا أى

 ثابتا يقينا لا ريب فيه

واعتدنا للكافرين أى لهم وإنما وضع المظهر مكان المضمر ذما وتذكيرا لوصفهم أو لجميع الكافرين وهم داخلون في زمرتهم دخولا أولياء

عذابا مهينا سيذوقونه عند حلوله

١٥٢

والذين آمنوا باللّه ورسله أى على الوجه الذى بين في تفسير قوله تعالى يأيها الذين آمنوا آمنواباللّه ورسوله الآية

ولم يفرقوا بين أحد منهم بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا بآخرين كما فعله الكفرة ودخول بين على احد قد مر تحقيقه في سورة البقرة بما لا مزيد عليه

أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة

سوف يؤتيهم أجورهم الموعودة لهم وتصديره بسوف لتأكيد الوعد والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تراخى وقرئ نؤتيهم بنون العظمة

وكان اللّه غفورا لما فرط منهم

رحيما مبالغا في الرحمة عليهم بتضعيف حسناتهم

١٥٣

يسألك أهل الكتاب أن تزل عليهم كتابا من السماء نزلت في أحبار اليهود حين قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى عليه الصلاة و السلام

وقيل كتابا محررا بخط سماوى على اللوح كما نزلت التوراة أو كتابا نعايته حين ينزل أو كتابا إلينا بأعياننا بأنك رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وما كان مقصدهم بهذه العظيمة إلا التحكم والتعنت قال الحسن ولو سألوه لكى يتبينوا الحق أعطاهم وفيما آتاهم كفاية

فقد سألوا موسى أكبر من ذلك جواب شرط مقدر أى إن استكبرت ماسألوه منك فقد سألوا موسى شيئا اكبر

وقيل تعليل للجواب أى فلا تبال بسؤالهم فقد سألوا موسى أكبر وهذه المسألة وإن صدرت عن أسلافهم لكنهم لما كانوا مقتدين بهم في كل ما يأتون وما يذرون أسندت إليهم والمعنى أن لهم في ذلك عرقا راسخا وأن ما اقترحوا عليك ليس أول جهالاتهم

فقالوا أرنا اللّه جهرة أى أرناه نره جهرة أى عيانا أو مجاهرين معاينين له والفاء تفسيرية

فأخذتهم الصاعقة أى النار التى جاءت من السماء فأهلكتهم وقرئ الصعقة

بظلمهم أى بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم لما يستحيل في تلك الحالة التى كانوا عليها وذلك لا يقتضى امتناع الرؤية مطلقا

ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات أى المعجزات التى أظهرها لفرعون من العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها لاالتوراة لأنها لم تنزل عليهم بعد

فعفونا عن ذلك ولم نستأصلهم وكانوا احقاء به قيل هذا استدعاء لهم إلى التوبة كأنه قيل إن أولئك أجرموا تابوا فعفونا عنهم فتوبوا أنتم أيضا حتى نعفو عنكم

وآتينا موسى سلطانا مبينا سلطانا ظاهرا عليهم حيث أمرهم بأن يقتلوا

 أنفسهم توبة عن معصيتهم

١٥٤

ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم أى بسبب ميثاقهم ليعطوه علىماروى أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع اللّه تعالى عليهم الطور فقبلوها أو ليخافوا فلا ينقضوه على ما روى أنهم هموا بنقضه فرفع اللّه تعالى عليهم الجبل فخافوا وأقلعوا عن النقض وهو الأنسب بما سيأتى من قوله عز و جل وأخذنا منهم ميثاقا غليظا

وقلنا لهم على لسان موسى عليه السلام والطور مظل عليهم

ادخلوا الباب قال قتادة كنا نحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس

وقيل هو إيليا

وقيل هو أريحا

وقيل هو اسم قرية

وقيل باب القبة التى كانوا يصلون إليها فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام

سجدا أى متطامنين خاضعين

وقلنا لهم لا تعدوا أى لاتظلموا باصطياد الحيتان

في السبت وقرئ لاتعتدوا بفتح العين وتشديد الدال علىأن أصله تعتدوا فأدغمت التاء في الدال لتقاربهما في المخرج بعد نقل حركتها إلىالعين

وأخذنا منهم علىالامتثال بما كلفوه

ميثاقا غليظا مؤكدا وهو العهد الذى أخذه اللّه عليهم في التوراة قيل إنهم أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عن الدين فاللّه تعالى يعذبهم بأى انواع العذاب أراد

١٥٥

فبما نقضهم ميثاقهم ما مزيدة للتأكيد أو نكرة تامة ونقضهم بدل منها والباء متعلقة بفعل محذوف أى فبسبب نقضهم ميثاقهم ذلك فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والمسخ وغيرهما من العقوبات النازلة عليهم أو على أعقابهم روى انهم اعتدوا في السبت في عهد داود عليه السلام فلعنوا ومسخوا قردة

وقيل متعلقة بحرمنا على أن قوله تعالى فبظلم بدل من قوله تعالى فيما وما عطف عليه فيكون التحريم معللا بالكل ولا يخفى أن قولهم إنا قتلنا المسيح *  وقولهم على مريم البهتان متأخر عن التحريم ولامساغ لتعلقها بما دل عليه قوله تعالى بل طبع اللّه عليها بكفرهم لأنه رد لقولهم قلوبنا غلف فيكون من صلة قوله تعالى وقولهم المعطوف على المجرور فلا يعمل في جاره

وكفرهم بآيات اللّه أى بالقرآن أو بما في كتابهم

وقتلهم الأنبياء بغير حق كزكريا ويحيى عليهما السلام

وقولهم قلوبنا غلف جمع أغلف أى هي مغشاة بأغشية جبلية لايكاد يصل إليها ماجاء به محمد أو هو تخفيف غلف جمع غلاف أى هي أوعية للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره قاله ابن عباس وعطاء وقال الكلبى يعنون أن قلوبنا بحيث لا يصل إليها حديث إلا وعته ولو كان في حديثك خير لوعته أيضا

بل طبع اللّه عليها بكفرهم كلام معترض بين المعطوفين جئ به على وجه الاستطراد مسارعة إلى رد زعمهم الفاسد أى ليس كفرهم وعدم وصول الحق إلى قلوبهم لكونها غلفا بحسب الجبلة بل الأمر بالعكس حيث ختم اللّه عليها بسبب كفرهم أو ليست قلوبهم كما زعموابل هي مطبوع عليها

 بسبب كفرهم

فلا يؤمنون إلا قليلا منهم كعبد اللّه بن سلام وأضرابه أو إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به

١٥٦

وبكفرهم أي بعيسى عليه السلام وهو عطف على قولهم وإعادة الجار لطول ما بينهما بالاستطراد وقد جوز عطفه على بكفرهم فيكون هو ما عطف عليه من أسباب الطبع

وقيل هذا المجموع معطوف على مجموع ما قبله وتكرير ذكر الكفر للإيذان بتكرر كفرهم حيث كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد عليهم الصلاة والسلام

وقولهم على مريم بهتانا عظيما لا يقادر قدره حيث نسبوها إلى ما هي عنه بألف منزل

وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم نظم قولهم هذا في سلك سائر جناياتهم التي نعيت عليهم ليس لمجرد كونه كذبا بل لتضمنه لابتهاجهم بقتل النبي عليه السلام والاستهزاء به فإن وصفهم له بعنوان الرسالة إنما هو بطريق التهكم به عليه السلام كما في قوله تعالى يا أيها الذي نزل عليه الذكر الخ ولإنبائه عن ذكرهم له عليه السلام بالوجه القبيح على ما قيل من أن ذلك وضع للذكر جميل من جهته تعالى مكان ذكرهم القبيح

وقيل نعت له عليه السلام من جهته تعالى مدحا له ورفعا لمحله عليه السلام وإظهارا لغاية جراءتهم في تصديهم لقتله ونهاية وقاحتهم في افتخارهم بذلك

وما قتلوه وما صلبوه حال واعتراض

ولكن شبه لهم روى أن رهطا من اليهود سبوه عليه السلام وأمه فدعا عليهم فمسخهم اللّه تعالى قردة وخنازير فأجمعت اليهود على قتله فأخبره اللّه تعالى بأنه يرفعه إلى السماء فقال لأصحابه أيكم يرضى بأن يلقى عليه شبهي فيقتل فيصلب ويدخل الجنة فقال رجل منهم أنا فألقى اللّه تعالى عليه شبهه فقتل وصلب

وقيل كان رجل ينافق عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتله قال أنا أدلكم عليه فدخل بيت عيسى عليه السلام فرفع عيسى عليه السلام وألقى شبهة على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى عليه السلام

وقيل إن طيطانوس اليهودي دخل بيتا كان هو فيه فلم يجده فألقى اللّه تعالى عليه شبهه فلما خرج ظن أنه عيسى عليه السلام فأخذ وقتل وأمثال هذه الخوارق لا تستبعد في عصر النبوة

وقيل إن اليهود لما هموا بقتله عليه السلام فرفعه اللّه تعالى الى السماء خاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة بين عوامهم فأخذوا إنسانا فقتلوه وصلبوه ولبسوا على الناس وأظهروا لهم أنه هو المسيح وما كانوا يعرفونه إلا بالاسم لعدم مخالطته عليه السلام لهم إلا قليلا وشبه مسندا إلى الجار والمجرور كأنه قيل ولكن وقع لهم التشبيه بين عيسى عليه السلام والمقتول أوفى الأمر على قول من قال لم يقتل أحد ولكن أرجف بقتله فشاع بين الناس أو إلى ضمير المقتول لدلالة إنا قتلنا على أن ثم مقتولا

وإن الذين اختلفوا فيه أي في شأن عيسى عليه السلام فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعض اليهود إنه كان كذبا فقتلناه حتما وتردد آخرون فقال بعضهم إن كان هذا عيسى

فأين صاحبنا وقال بعضهم الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا وقال من سمع منه عليه السلام إن اللّه يرفعني إلى السماء إنه رفع الى السماء وقال قوم صلب الناسوت وصعد اللاهوت

لفي شك منه لفي تردد والشك كما يطلق على ما لم يترجح أحد طرفيه يطلق على مطلق التردد وعلى ما يقابل العلم ولذلك أكد بقوله تعالى

ما لهم به من علم إلا اتباع الظن استثناء منقطع أي لكنهم يتبعون الظن ويجوز أن يفسر الشك بالجهل والعلم بالاعتقاد الذي تسمن إليه النفس جزما كان أو غيره فالاستثناء حينئذ متصل

وما قتلوه يقينا أي قتلا يقينا كما زعموا بقولهم إنا قتلنا المسيح

وقيل معناه وما علموه يقينا كما في قوله من قال كذاك تخبر عنها العالمات بها وقد قتلت بعلمي ذلكم يقنا من قولهم قتلت الشيء علما ونحرته علما إذا تبالغ علمك فيه وفيه تهكم بهم لإشعاره بعلمهم في الجملة وقد نفي ذلك عنهم بالكلية

بل رفعه اللّه إليه رد وإنكار لقتله وإثبات الرفعة

وكان اللّه عزيزا لا يغالب فيما يريده

حكيما في جميع أفعاله فيدخل فيها تدبيراته تعالى في أمر عيسى عليه السلام دخولا أوليا

١٥٩

وأن من أهل الكتاب أي من اليهود والنصارى وقوله تعالى

إلا ليؤمنن به قبل موته جملة قسمية وقعت صفة لموصوف محذوف إليه يرجع الضمير الثاني والأول لعيسى عليه السلام أي وما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى عليه السلام قبل أن تزهق روحه بأنه عبد اللّه ورسوله ولات حين إيمان لانقطاع وقت التكليف ويعضده بأنه قرئ ليؤمنن قبل موتهم بضم النون لما أن أحدا في معنى الجمع وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنه فسره كذلك فقال له عكرمة فإن أتاه رجل فضرب عنقه قال لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه قال فإن خر من فوق بيت أو احترق أو أكله سبع قال يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به وعن شهر بن حوشب قال لي الحجاج آية ما قرأتها إلا تخالج في نفسي شيء منها يعني هذه الآية وقال إني أوتى بالاسير من اليهود والنصارى فأضرب عنقه فلا أسمع منه ذلك فقلت إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا يا عدو اللّه أتاك عيسى عليه السلام نبيا فكذبت به فيقول آمنت أنه عبد نبي وتقول للنصراني أتاك عيسى عليه السلام نبيا فزعمت أنه اللّه وابن اللّه فيؤمن أنه عبد اللّه ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه قال وكان متكئا فاستولا جالسا فنظر إلي وقال ممن سمعت هذا قلت حدثني محمد بن علي بن الحنفية فأخذ ينكث الارض بقضيبه ثم قال لقد أخذتها من عين صافية والإخبار بحالهم هذه وعيد لهم وتحريض على المسارعة إلى الإيمان به قبل أن يضطروا إليه مع انتفاء جدواه

وقيل كلا الضميرين لعيسى والمعنى وما من أهل الكتاب الموجودين عند نزول عيسى عليه السلام أحد إلا ليؤمنن به قبل موته روي أنه عليه السلام ينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام ويهلك اللّه في زمانه الدجال وتقع الأمنة حتى ترتع الاسود مع الإبل والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم ويعلب الصبيان بالحيات ويلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه

وقيل الضمير الأول يرجع الى اللّه تعالى

وقيل إلى محمد صلى اللّه عليه و سلم

ويوم القيامة يكون أي عيسى عليه السلام

عليهم على أهل الكتاب

شهيدا فيشهد على اليهود بالتكذيب وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن اللّه تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا

١٦٠

فبظلم من الذين هادوا لعل ذكرهم بهذا العنوان للإيذان بكمال عظم ظلمهم بتذكير وقوعه بعد أن هادوا أي تابوا من عبادة العجل مثل تلك التوبة الهائلة المشروطة ببخع النفوس إثر بيان عظمه في حد ذاته بالتنوين التفخيمي أي بسبب ظلم عظيم خارج عن حدود الإشباه والإشكال الصادر عنهم

حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ولمن قبلهم لا بشيء غيره كما زعموا فإنهم كانوا كلما ارتكبوا معصية من المعاصي التي اقترفوها يحرم عليهم نوع من الطيبات التي كانت محللة لهم ولمن تقدمهم من أسلافهم عقوبة لهم وكانوا مع ذلك يفترون على اللّه سبحانه ويقولون لسنا بأول من حرمت عليه وإنما كان على نوح وإبراهيم من بعدهما حتى انتهى الامر إلينا فكذبهم اللّه عز و جل في مواقع كثيرة وبكتهم بقوله تعالى كُلُّ الطعام كان حلا لبني اسرائيل إلا ما حرم اسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين أي في ادعاكم أنه تحريم قديم روي أنه عليه السلام لما كلفهم إخراج التوراة لم يجسر أحد على إخراجها لما أن كون التحريم بظلمهم كان مسطورا فيها فبهتوا وانقلبوا صاغرين

وبصدهم عن سبيل اللّه كثيرا أي ناسا كثيرا أو صدا كثيرا

١٦١

وأخذهم الربا وقد نهوا عنه فإن الربا كان محرما عليهم كما هو محرم علينا وفيه دليل على أن النهي يدل على حرمة المنهي عنه

وأكلهم أموال الناس بالباطل بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة

وأعتدنا للكافرين منهم أي للمصرين على الكفر لا لمن تاب وآمن من بينهم

عذابا أليما سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا في الدنيا عقوبة التحريم

١٦٢

لكن الراسخون في العلم منهم استدراك من قوله تعالى واعتدنا الخ وبيان لكون بعضهم على خلاف حالهم عاجلا أو آجلا أي لكن الثابتون في العلم منهم المتقنون المستبصرون فيه غير التابعين للظن كأولئك الجهلة والمراد بهم عبد اللّه بن سلام وأصحابه

والمؤمنون أي منهم وصفوا بالإيمان بعد ما وصفوا بما يوجبه من الرسوخ في العلم بطريق العطف المنبئ عن المغايرة بين المعطوفين تنزيلا للاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي وقوله تعالى

يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك حال من المؤمنون مبينة لكيفية إيمانهم

وقيل اعتراض مؤكد لما قبله وقوله عز و جل

والمقيمين الصلوة قيل نصب بإضمار فعلى تقديره وأعني المقيمين الصلاة على أن الجملة معترضة بين المبتدأوالخبر

وقيل هو عطف على ما أزل إليك على أن المراد بهم الأنبياء عليهم السلام أي يؤمنون بالكتب وبالانبياء أو الملائكة قال مكي أي ويؤمنون بالملائكة الذين صفتهم إثامة الصلاة لقوله تعالى يسبحون الليل والنهار لا يفترون

وقيل عطف على الكاف في إليك أي يؤمنون بما أنزل إليه وإلى المقيمين الصلاة وقرئ بالرفع على أنه معطوف على المؤمنون بناء على ما مر من تنزيل التغاير العنواني في منزلة التغاير الذاتي وكاذ الحال فيما سيأتي من المعطوفين فإن قوله تعالى

والمؤتون الزكاة عطف على المؤمنون مع اتحاد الكل ذاتا وكذا الكلام في قوله تعالى

والمؤمنون باللّه واليوم الآخر فإن المراد بالكل مؤمنو أهل الكتاب قد وصفوا أولا بكونهم راسخين في علم الكتاب إيذانا بأن ذلك موجب للإيمان حتما وأن من عداهم إنما بقوا مصرين على الكفر لعدم رسوخهم فيه ثم بكونهم مؤمنين بجميع الكتب المنزلة على الانبياء ثم بكونهم عاملين بما فيها من الشرائع والاحكام واكتفى من بينها بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المستتبعين لسائر العبادات البدنية والمالية ثم بكونهم مؤمنين بالمبدأ والمعاد تحقيقا لحيازتهم الإيمان بقطريه وإحاطتهم به من طرفيه وتعريضا بأن من عداهم من أهل الكتاب ليسوا بمؤمنين بواحد منهما حقيقة فإنهم بقولهم عزير ابن اللّه مشركون باللّه سبحانه وبقولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة كافرون باليوم الآخر وقوله تعالى

أولئك أشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما عدد من الصفات الجميلة وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى

سنؤتيهم أجرا عظيما خبره والجملة خبر للمبتدأ الذي هو الراسخون وما عطف عليه والسين لتأكيد الوعد وتنكير الأجر للتفخيم وهذا أنسب بتجاوب طرفي الاستدراك حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم ووعد الآخرون بالأجر العظيم كأنه قيل أثر قوله تعالى وأعتدنا للكافرين منهم عذابا إليما لكن المؤمنون منهم سنؤتيهم أجرا عظيما

وأما ما اجتح إليه الجمهور من جعل قوله تعالى يؤمنون بما أنزل إليك الخ خبرا للمبتدأففي كمال السداد خلا أنه غير معترض لتقابل الطرفين وقرئ سيؤتيهم بالياء مراعاة لظاهر قوله تعالى والمؤمنون باللّه

١٦٣

إنا أوحينا إليك كما أوجينا إلإى نوح والنبيين من بعده جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء واحتجاج عليهم بأنه ليس بدعا من الرسل وإنما شأنه في حقيقة الإرسال وأصل الوحي كشأن سائر مشاهير الانبياء الذين لا ريب لأحد في نبوتهم والكاف في محل النصب على أنه نعب لمصدر محذوف أي إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح أو على أنه حال من ذلك المصدر المقدر معرفا كما هو رأي سيبويه أي أوحينا الإيحاء حال كونه مشبها بإيحائنا الخ ومن بعده متعلق بأوحينا وإنما بدئ بذكر نوح لأنه أبو البشر وأول نبي شرع اللّه تعالى على لسانه الشرائع والاحكام وأول نبي عذبت أمته لردهم دعوته وقد أهلك اللّه بدعائه أهل الأرض

وأوحينا إلى إبراهيم عطف على أوحينا إلى نوح داخل معه في حكم التشبيه أي وكما أوحينا إلى إبراهيم

وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وهم أولاد يعقوب عليهم السلام

وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان خصوا بالذكر مع ظهور انتظامهم في سلك النبيين تشريفا لهم وإظهارا لفضلهم كما في قوله تعالى من كان عدوا للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكال وتصريحا بمن ينتمي إليهم اليهود من الانبياء وتكرير الفعل لمزيد تقرير الايحاء والتنبيه على أنهم طائفة خاصة مستقلة بنوع مخصوص من الوحي

وآتينا داود زبورا قال القرطبي كان فيه مائة وخمسون ليس فيها حكم من الأحكام إنما هي حكم ومواعظ وتحميد وتمجيد وثناء على اللّه تعالى وقرئ بضم الزاء وهو جمع زبر بمعنى مزبور والجملة عطف على أوحينا داخل في حكمه لأن إيتاء الزبور من باب الإيحاء أي وكما آتينا داود زبورا وإيثاره على وأوحينا إلى داود لتحقيق المماثلة في أمر خاص هو إيتاء الكتاب بعد تحقيقها في مطلق الإيحاء ثم أشير إلى تحقيقها في أمر لازم لهما لزوما كليا وهو الإرسال فإن قوله تعالى

١٦٤

ورسلا نصب بمضمر يدل عليه أوحينا معطوف عليه داخل معه في حكم التشبيه كما قبله أي وكما أرسلنا رسلا لا بما يفسره قوله تعالى

قد قصصناهم عليك أي وقصصنا رسلا كما قالوا وفرعوا عليه أن قوله تعالى قد قصصناهم على الوجه الأول منصوب على أنه صفة لرسلا وعلى الوجه الثاني لا محل له من الاعراب فإنه مما لا سبيل إليه كما ستقف عليه وقرئ برفع رسل وقوله تعالى

من قبل متعلق بقصصنا أي قصصنا من قبل هذه السورة أو اليوم

ورسلا لم نقصصهم عليك عطف على رسلا منصوب بناصبه

وقيل كلاهما منصوب بنزع الخافض والتقدير كما أوحينا إلى نوح وإلى الرسل الخ والحق أن يكون انتصابهما بأرسلنا فإن فيه تحقيقا للمماثلة بين شأنه عليه الصلاة و السلام وبين شؤون من يعترفون بنبوته من الأنبياء عليهم السلام في مطلق الإيحاء ثم في إيتاء الكتاب ثم في الإرسال فإن قوله تعالى إنا أوحينا إليك منتظم بمعنى آتيناك وأرسلناك حتما كأنه قيل إنا أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده وآتيناك وأرسلناك حتما كأنه قيل إنا أوحينا إليك إيحاء مثل ما أوحينا إلى نوح ومثل ما أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده وآتيناك الفرقان إيتاء مثل ما آتينا داود زبورا وأرسلناك إرسالا مثل ما أرسلنا رسلا قد قصصناهم عليك من قبل رسلنا وآخرين لم نقصصهم عليك من غير تفاوت بيك وبينهم في حقيقة الإيحاء وأصل الإرسال فما للكفرة يسألونك شيئا لم يعطه أحد من هؤلاء الرسل عليهم السلام ومن ههنا اتضح أن رسلا لا يمكن نصبه بقصصنا فإن ناصبه أن يكون معطوفا على أوحينا داخلا معه في حكم التشبيه الذي عليه يدور فلك الاحتجاج على الكفرة ولا ريب في أن قصصنا لا تعلق له بشيء من الإيحاء والإيتاء حتى يمكن اعتباره في ضمن

 قوله تعالىإنا أوحينا إليك ثم يعتبر بينه وبين المذكور مماثلة مصححة للتشبيه على أن تقديره في رسلا الأول يقتضي تقدير نفيه في الثاني وذلك أشد استحالة وأظهر بطلانا

وكلم اللّه موسى برفع الجلالة ونصب موسى وقرئ على القلب وقوله تعالى

تكليما مصدر مؤكد رافع لاحتمال المجاز قال الفراء العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل مالم يؤكد بالمصدر فإذا أكد به لم يكن إلا حقيقة الكلام والجملة إما معطوفة على قوله تعالى إنا أوحينا إليك عطف القصة على القصة لا على آتينا وما عطف عليه

وأما حال بتقدير قد كما ينبئ عنه تغيير الاسلوب بالالتفات والمعنى أن التكليم بغير واسطة منتهى مراتب الوحي خص به موسى من بينهم فلم يكن ذلك قادحا في نبوة سائر الانبياء علهم السلام فكيف يتوهم كون نزول التوراة عليه عليه السلام جملة قادحا في صحة نبوة من أنزل عليه الكتاب مفصلا مع ظهور أن نزولها كذلك لما آمنوا بها ومع ذلك ما آمنوا بها إلا بعد اللئيا والتي وقد فضل اللّه تعالى نبينا محمد صلى اللّه عليه و سلم بأن أعطاه مثل ما أعطى كل واحد منهم صلى اللّه عليه و سلم تسليما كثيرا

١٦٥

رسلا مبشرين ومنذرين نصب على المدح أو بإضمار أرسلنا أو على الحال بأن يكون رسلا موطئا لما بعده أو على البداية من رسلا الأول أي مبشرين لأهل الطاعة بالجنة ومنذرين للعصاة بالنار

لئلا يكون للناس على اللّه حجة أي معذرة يعتذرون بها قائلين لولا أرسلت إلينا رسولا فيبين لنا شرائعك ويعلمنا مالم نكن مالم نكن نعلم من أحكامك لقصور القوة البشرية عن إدراك كلياتها كما في قوله عز و جل ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك الآية وإنما سميت حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه حجة في فعل من أفعاله بل له أن يفعل ما يشاء كما يشاء للتنبيه على أن المعذرة في القبول عنده تعالى بمقتضى كرمه ورحمته لعباده بمنزلة الحجة القاطعة التي لا مرد لها ولذلك قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا قال النبي صلى اللّه عليه و سلم ما أحد أغير من اللّه تعالى ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما أحد أحب إليه المدح من اللّه تعالى ولذلك مدح نفسه وما أحد أحب إليه العذر من اللّه تعالى ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب فاللام متعلقة بأرسلنا

وقيل بقوله تعالى مبشرين ومنذرين وحجة اسم كان وللناس خبرها وعلى اللّه متعلق بمحذوف وقع حالا من حجة كائنة على اللّه أو هو الخبر وللناس حال على الوجه المذكور ويجوز أن يتعلق كل منهما بما تعلق به الآخر الذي هو الخبر ولا يجوز التعلق بحجة لأن المعمول المصدر لا يتقدم عليه وقوله تعالى

بعد الرسل أي بعد إرسالهم وتبليغ الشرائع إلى الأمم على ألسنتهم متعلق بحجة أو بمحذوف وقع صفة لها لأن الظروف يوصف بها الأحداث كما يخبر بها عنها نحو القتال يوم الجمعة

وكان اللّه عزيزا لا يغالب في أمر من أموره ومن قضيته الامتناع عن الإجابة إلى مسألة المتعنتين

حكيما في جميع أفعاله التي من جملتها إرسال الرسل وإنزال الكتب فإن تعدد الرسل والكتب واختلافها في كيفية النزول وتغايرها في بعض الشرائع والأحكام إنما لتفاوت طبقات الأمم في الأحوال التي عليها يدور فلك التكليف فكما أنه سبحانه وتعالى برأهم على أنحاء شتى وأطوار متباينة حسبما تقتضيه الحكمة التكوينية كذلك تعبدهم بما يليق بشأنهم وتقتضيه أحوالهم المتخالفة واستعداداتهم المتغايرة من الشرائع والأحكام حسبما تستدعيه الحكمة التشريعية وراعى في إرسال الرسل وإنزال الكتب وغير ذلك من الأمور المتعلقة بمعاشهم ومعادهم ما فيه مصلحتهم فسؤال تنزيل الكتاب جملة اقتراح فاسد إذ حينئذ تتعاقم التكاليف فيثقل على المكلف قبولها والخروج عن عهدتها

وأما التنزيل المنجم الواقع حسب الأمور الداعية إليه فهو أيسر قبولا واسهل امتثالا

١٦٦

لكن اللّه يشهد بتخفيف النون ورفع الجلالة وقرئ بتشديد النون ونصب الجلالة وهو استدراك عما يفهم مما قبله كأنهم لما تعنتوا عليه بما سبق من السؤال واحتج عليهم بقوله تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلخ قيل أنهم لا يشهدون بذلك لكن اللّه يشهد

بما أزل إليك على البناء للفاعل وقرئ على البناء للمفعول والباء صلة للشهادة أي يشهد بحقية ما أنزل إليك من القرآن المعجز الناطق بنبوتك

وقيل لما نزل قوله تعالى إنا أوحينا إليك قالوا ما نشهد لك بهذا فنزل لكن اللّه يشهد

أنزله بعلمه أي ملتبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره وهو تأليفه على نمط بديع يعجز عنه كل بليغ أو بعلمه بحال من أنزله عليه واستعداده لاقتباس الانوار القدسية أو بعلمه الذي يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعادهم فالجار والمجرور على الأولين حال من الفاعل وعلى الثالث من المفعول والجملة في موقع التفسير لما قبلها وقرئ نزله وقوله تعالى

والملائكة يشهدون أي بذلك مبتدأوخبر والجملة عطف على ما قبلها

وقيل حال من مفعول أنزله أي أنزله والملائكة يشهدون بصدقه وحقيته

وكفى باللّه شهيدا على صحة نبوتك حيث نصب لها معجزات باهرة وحججا ظاهرة مغنية عن الاستشهاد بغيرها

١٦٧

إن الذين كفروا أي بما أنزل اللّه تعالى وشهد به أو بكل ما يجب الإيمان به وهو داخل فيه دخولا أوليا والمراد بهم اليهود حيث كفروا به

وصدوا عن سبيل اللّه وهو دين الإسلام من أراد سلوكه بقولهم ما نعرف صفة محمد في كتابنا وقرئ صدوا مبنيا للمفعول

قد ضلوا بما فعلوا من الكفر والصد عن طريق الحق

ضلالا بعيدا لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال ولأن المضل يكون أعرق في الضلال وأبعد من الإقلاع عنه

١٦٨

إن الذين كفروا أي بما ذكر آنفا

وظلموا أي محمدا صلى اللّه عليه و سلم بإنكار نبوته وكتمان نعوته الجليلة ووضع غيرها مكانها أو الناس بصدهم عما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد

لم يكن اللّه ليغفر لهم لاستحالة تعلق المغفرة بالكافر

ولا ليهديهم طريقا

١٦٩

إلا طريق جهنم لعدم استعدادهم للّهداية إلى الحق والأعمال الصالحة التي هي طريق الجنة والمراد بالهداية المفهومة من الاستثناء بطريق الاشارة خلقه تعالى لأعمالهم السيئة المؤدية بهم إلى جهنم عند صرف قددرتهم واختيارهم إلى اكتسابها أو سوقهم إليها يوم القيامة بواسطة الملائكة والطريق على عمومه والاستثناء متصل

وقيل خاص بطريق الحق والاستثناء منقطع

خالدين فيها حال مقدرة من الضمير المنصوب والعامل فيها ما دل عليه الاستثناء دلالة واضحة كأنه قيل يدخلهم جهنم خالدين فيها الخ وقوله تعالى

أبدا نصب على الظرفية رافع لاحتمال حمل الخلود على المكث الطويل

وكان ذلك أي جعلهم خالدين في جهنم

على اللّه يسيرا لاستحالة أن يتعذر عليه شيء من مراداته تعالى

١٧٠

يا أيها الناس بعد ما حكى لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تعلل اليهود بالأباطيل واقتراحهم الباطل تعنتا ورد عليهم ذلك بتحقيق نبوته عليه الصلاة و السلام وتقرير رسالته ببيان أن شأنه عليه الصلاة و السلام في أمر الوحي والإرسال كشئون من يعترفون بنبوته من مشاهير الأنبياء عليهم السلام وأكد ذلك بشهادته سبحانه وشهادة الملائكة أمر المكلفون كافة على طريق تلوين الخطاب بالإيمان بذلك أمرا مشفوعا بالوعد بالإجابة والوعيد على الرد تنبيها على أن الحجة قد لزمت ولم يبق بعد ذلك لأحد عذر في عدم القبول وقوله عز و جل

قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم تكرير للشهادة وتقرير لحقية المشهود به وتمهيد لما يعقبه من الأمر بالإيمان وإيراده عليه الصلاة و السلام بعنوان الرسالة لتأكيد وجوب طاعته والمراد بالحق هو القرآن الكريم والباء متعلقة بجاءكم فهي للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من الرسول أي ملتبسا بالحق ومن أيضا متعلقة إما بالعقل

وأما بمحذوف هو حال من الحق أي جاءكم به من عنده تعالى أو جاءكم بالحق ومن أيضا متعلقة إما بالفعل

وأما بمحذوف هو حال من الحق أي جاءكم به من عنده تعالى أو جاءكم بالحق كائنا من عنده تعالى والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين للإيذان بأن ذلك لتربيتهم وتبليغهم إلى كمالهم اللائق بهم ترغيبا لهم في الامتثال بما بعده من الأمر والفاء في قوله عز و جل

فآمنوا للدلالة على إيجاب ما قبلها لما بعدها أي فآمنوا به وبما ءجاء به من الحق وقوله تعالى

خيرا لكم منصوب على أنه مفعول لفعل واجب الإضمار كما هو رأي الخليل وسيبويه أي اقصدوا أو ائتوا أمرا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر أو على أنه نعت لمصدر محذوف كما هو في رأي الفراء أي آمنوا إيمانا خيرا لكم أو على أنه خبر كان المضمرة الواقعة جوابا للأمر لاجزاء للشرط الصناعي وهو رأي الكسائي وأبي عبيدة أي يكن الإيمان خيرا لكم

وإن تكفروا أي إن تصروا وتستمروا على الكفر به

فإن للّه ما في السموات والأرض من الموجودات سواء كانت داخلة في حقيقتهما وبذلك يعلم حال أنفسهما على أبلغ وجه وآكده أو خارجة عنهما متسقرة فيهما من العقلاء وغيرهم فيدخل في جملتهم المخاطبون دخولا أوليا أي كلها له عز و جل خلقا وملكا وتصرفا لا يخرج من ملكوته وقهره شيء منها فمن هذا شأنه فهو قادر على تعذيبكم بكفركم لا محالة أو فمن كان كذلك فهو غني عنكم وعن غيركم لا يتضرر بكفركم ولا ينتفع بإيمانكم

وقيل فمن كان كذلك فله عبيد يعبدونه وينقادون لأمره

وكان اللّه عليما مبالغا في العلم فهو أعلم بأحوال الكل فيدخل في ذلك علمه تعالى بكفرهم دخولا أوليا حكيما مراعيا للحكمة في جميع أفعاله التي من جملتها تعذيبه تعالى إياهم بكفرهم

١٧١

يا أهل الكتاب تجريد للخطاب وتخصيص له بالنصارى زجرا لهم عما هم عليه من الكفر والضلال

لا تغلوا في دينكم بالإفراط في رفع شأن عيسى عليه السلام وادعاء ألوهيته

وأما غلو اليهود في حط رتبته عليه السلام ورميهم له بأنه ولد لغير رشدة فقد نعى عليهم ذلك فيما سبق

ولا تقولوا على اللّه إلا الحق أي لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد بل نزهوه عن جميع ذلك

إنما المسيح قد مر تفسير في سورة آل عمران وقرئ بكسر الميم وتشديد السين كالسكيت على صيغة المبالغة وهو مبتدأ وقوله تعالى

عيسى بدل منه أو عطف بيان له وقوله تعالى

رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خبر للمبتدأ والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي عن القول الباطل المستلزم للأمر بضده أعني الحق أي أنه مقصور على رتبة الرسالة لا يتخطاها

وكلمته عطف على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أي مكون بكلمته وأمره الذي هو كن من غير واسطة أب ولا نطفة

ألقاها إلى مريم أي أوصلها إليها وحصلها فيها بنفخ جبريل عليه السلام

وقيل أعلمها إياها وأخبرها بها بطريق البشارة وذلك قوله تعالى إن اللّه يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيس بن مريم

وقيل الجملة حال من ضميره عليه السلام المستكن فيما دل عليه وكلمته من معنى المشتق الذي هو العامل فيها وقد مقدرة معها

وروح منه قيل هو الذي نفخ جبريل عليه السلام في درع مريم فحملت بإذن اللّه تعالى سمى النفخ روحا لأنه ريح تخرج من الروح ومن لابتداء الغاية مجازا لا تبعيضية كما زعمت النصارى يحكى أن طبيبا حاذقا نصرانيا للرشيد ناظر علي بن حسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى وتلا هذه الآية فقرأ الواقدي وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه فقال إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءا من اللّه تعالى علوا كبيرا فانقطع النصراني فأسلم وفرح الرشيد فرحا شديدا ووصل الواقدي بصلة فاخرة وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة لروح أي كائنة من جهته تعالى جعلت منه تعالى وإن كانت بنفخ جبريل عليه السلام لكون النفخ بأمره سبحانه

وقيل سمي روحا لإحيائه الأموات

وقيل لإحيائه القلوب كما سمي به القرآن

 لذلك في قوله تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا

وقيل أريد بالروح الذي أوحي إلى مريم بالبشارة

وقيل جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وف شيء بغاية الطهارة والنظافةقالوا إنه روح فلما كان عيسى عليه السلام متكونا من النفخ لا من النطفة وصف بالروح وتقديم كونه عليه السلام رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في الذكر مع تأخره عن كونه كلمته تعالى وروحا منه في الوجود لتحقيق الحق من أول الأمر بما هو نص فيه غير محتمل للتأويل وتعيين مآل ما يحتمله وسد باب التأويل الزائغ

فآمنوا باللّه وخصوه بالألوهية

ورسله أجمعين وصفوهم بالرسالة ولا تخرجوا بعضهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية

ولا تقولوا ثلاثة أي الآلهة ثلاثة اللّه والمسيح ومريم كما ينبئ عنه قوله تعالى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون اللّه ثلاثة إن صح أنهم يقولون اللّه جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم الروح القدس وأنهم يريدون بالأول الذات

وقيل الوجود وبالثاني العلم وبالثالث الحياة

انتهوا أي عن التثليث

خيرا لكم قد مر وجوه انتصابه

إنما اللّه إله واحد أي بالذات منزه عن التعدد بوجه من الوجوه فاللّه مبتدأوإله خبره وواحد نعت أي منفرد في ألوهيته

سبحانه أن يكون له ولد أي أسبحه تسبيحا من ذلك فإنه إنما يتصور فيمن يماثله شيء ويتطرق إليه فناء واللّه سبحانه منزه عن أمثاله وقرئ أن يكون اي سبحانه ما يكون له ولد وقوله تعالى

له ما في السموات وما في الأرض جملة مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه وتقريره أي له ما فيهما من الموجودات خلقا وملكا وتصرفا لا يخرج عن ملكوته شيء من الأشياء التي من جملتها عيسى عليه السلام فكيف يتوهم كونه ولدا له تعالى

وكفى باللّه وكيلا إليه يكل كل الخلق مورهم وهو غني عن العالمين فأني يتصور في حقه اتخاذ الولد الذي هو شأن المعجزة المحتاجين في تدبير أمورهم إلى من يخلفهم ويقوم مقامهم

١٧٢

لن يستنكف المسيح استئناف مقرر لما سبق من التنزيه والاستنكاف الأنفة والترفع من نكفت الدمع إذا نجيته عن وجهك بالأصبع أي لن يأنف ولن يترفع

أن يكون عبدا للّه أي أن يكون عبدا له تعالى مستمرا على عبادته وطاعته حسبما هو وظيفة العبودية كيف وأن ذلك أقصى مراتب الشرف والاقتصار على ذكر عدم استنكافه عليه السلام عنه مع أن شأنه عليه السلام المباهاة به كما يدل عليه أحواله ويفصح عنه أقواله أو لا يرى أن أول مقالة قالها للناس قوله إني عبد اللّه آتاني الكتاب وجعلني نبيا لوقوعه في موقع الجواب عما قاله الكفرة روى أن وفد نجران قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لم تعيب صاحبنا قال ومن صاحبكم قالوا عيسى قال وأي شيء أقول قالوا تقول إنه عبد اللّه قال إنه ليس بعار أن يكون عبدا للّه قالوا بلى فنزلت وهو السر في جعل المستنكف عنه كونه عليه السلام عبدا له تعالى دون أن يقال عن عبادة اللّه ونحو ذلك مع إفادة فائدة جليلة هي كمال نزاهته عليه السلام عن الاستنكاف بالكلية فإن كونه عبدا له تعالى مستمرة لدوام العبادة قطعا فعدم الاستنكاف عنه مستلزم لعدم الاستنكاف عن عبادته تعالى كما أشير إليه بخلاف عبادته تعالى فإنها حالة متجددة غير مستلزمة للدوام يكفي في اتصاف موصوفها بها تحققها مرة فعدم الاستنكاف عنها لا يستلزم عن دوامها

ولا الملائكة المقربون عطف على المسيح أي ولا يستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا للّه تعالى

وقيل إن أريد بالملائكة كل واحد منهم لم يحتج إلى التقدير واحتج بالآية من زعم فضل الملائكة على الانبياء عليهم السلام وقال مسافة لرد النصارى في رفع المسيح عن مقام العبودية وذلك يقتضي أن يكون المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه حتى يكون عدم استنكافهم مستلزما لعدم استنكافه عليه السلام وأجيب بأن مناط كفر النصارى ورفعهم له عليه السلام عن رتبة العبودية لما كان اختصاصه عليه السلام وامتيازه عن سائر أفراد البشر بالولادة من غير أب وبالعلم من المغيبات وبالرفع الى السماء عطف على عدم استنكافه عن عبوديته تعالى عدم استنكاف من هو أعلى درجة منه فيما ذكر فإن الملائكة مخلوقون من غير أب ولا أم وعالمون بما لا يعلمه البشر من المغيبات ومقارهم السموات العلا ولا نزاع لأحد في علو درجتهم من هذه الحيثية وإنما النزاع في علوها من حيث كثرة الثواب على الطاعات وبأن اآية ليست للرد على النصارى فقط بل على عبدة الملائكة أيضا فلا اتجاه لما قالوا حينئذ وإن سلم اختصاصها بالرد على النصارى فلعله أريد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير والتفصيل لا باعتبار التكبير والتفضيل كما في قولك أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرءوس ولئن سلم إرادة التفضيل فغاية الأمر الدلالة على أفضلية المقربين منهم وهم الكروبيون الذين حول العرش أو من هو أعلى منهم رتبة من الملائكة عليهم السلام على المسيح من الأنبياء عليهم السلام وليس يلزم من ذلك فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا وهل التشاجر إلا فيه

ومن يستنكف عن عبادته أي عن طاعته فيشمل جميع الكفرة لعدم طاعتهم الثبوت للكفرة فإن عدم طاعتهم له تعالى مما لا سبيل لهم إن إنكار اتصافهم به إن قيل لم عبر عن عدم طاعتهم له تعالى بالاستنكاف عنها مع أن ذلك منهم كان بطريق إنكار كون الأمر من جهته تعالى لا بطريق الاستنكاف قلنا لأنهم كانوا يستنكفون عن طاعة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وهل هو الإستنكاف عن طاعة اللّه تعالى إذ لا أمر له عليه الصلاة و السلام سوى أمره تعالى من يطع الرسول فقد أطاع اللّه

ويستكبر الاستكبار الأنفة عما لا ينبغي أن يؤنف عنه وأصله طلب الكبر لنفسه بغير استحقاق له لا بمعنى طلب تحصيله مع اعتقاد عدم حصوله فيه بل بمعنى عد نفسه كبيرا واعتقاده كذلك وإنما عبر عنه بما يدل على الطلب للإيذان بأن مآله محض الطلب بدون حصول المطلوب وقد عبر عن مثل ذلك بنفس الطلب في قوله تعالى يصدون عن سبيل اللّه ويبغونها عوجا فإنهم ما كانوا يطلبون ثبوت العوج لسبيل اللّه مع اعتقادهم لاستقامتها بل كانوا يعدونها ويعتقدونها معوجة ويحكمون بذلك ولكن عبر عن ذلك بالطلب لما ذكر من الإشعار بأن ليس هناك شيء سوى الطلب والاستكبار دون الاستنكاف المنبئ عن توهم لحقوق العار والنقص من المستنكف عنه

فسيحشرهم اليه جميعا أي المستنكفين ومقابليهم المدلول عليه بذكر عدم استنكاف المسيح والملائكة عليهم السلام وقد ترك ذكر أحد الفريقين في المفصل تعويلا على إنباء التفصيل عنه وثقة بظهور اقتضاء حشر أحدهما لحشر الآخر ضرورة عموم الحشر للخلائق كافة كما ترك ذكر أحد الفريقين في التفصيل عند قوله تعالى فأما الذين آمنوا باللّه الآية مع عموم الخطاب لهما اعتمادا على ظهور اقتضاء إثابة أحدهما لعقاب الآخر ضرورة شمول الجزاء للكل

وقيل الضمير للمستنكفين وهناك مقدر اقتضاء إثابة أحدهما لعقاب الآخر ضرورة شمول الجزاء للكل

وقيل الضمير للمستنكفين وهناك مقدر معطوف عليه والتقدير فسيحشرهم وغيرهم

وقيل المعنى فسيحشرهم إليه يوم يحشر العباد لمجازاتهم وفيه إن الأنسب بالتفصيل الآتي اعتبار حشر الكل في الإجمال على نهج واحد وقرئ فسيحشرهم بنون العظمة بطريق الالتفات

١٧٣

فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات بيان لحال الفريق المطوي ذكره في الإجمال قدم على بيان حال ما يقابله إبانة لفضله ومسارعة إلى بيان كونه حشره أيضا معتبرا في الإجمال وإيراده بعنوان الإيمان والعمل الصالح لا بوصف عدم الاستنكاف المناسب لما قبله وما بعده للتنبيه على أنه المستتبع لما يعقبه من الثمرات

فيوفيهم أجورهم من غير أن ينقص منها شيئا أصلا

ويزيدهم من فضله بتضعيفها أضعافا مضاعفة وبإعطاء ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر

وأما الذين استنكفوا أي عن عبادته عز و جل

واستكبروا فيعذبهم بسبب استنكافهم واستكبارهم

عذابا أليما لا يحيط به الوصف

ولا يجدون لهم من دون اللّه وليا بلى أمورهم ويدبر مصالحهم

ولا نصيرا بنصرهم من بأسه تعالى وينجيهم من عذابه

١٧٤

يأيها الناس تلوين للخطاب وتوجيه له إلى كافة المكلفين إثر بيان بطلان ما عليه الكفرة من فنون والضلال وإلزامهم بالبراهين القاطعة التي تخر لها صم الجبال وإزاحة شبههم الواهية بالبينات الواضحة وتنبيه لهم على أن الحجة قد تمت فلم يبق بعد ذلك عله لمتعلل ولا عذر لمعتذر

قد جاءكم أي وصل إليكم وتقرر في قلوبكم بحيث لا سبيل لكم إلى الإنكار

برهان البرهان ما يبرهن به على المطلوب والمراد به القرآن الدال على صحة نبوة النبي صلى اللّه عليه و سلم المثبت لما فيه من الاحكام التي من جملتها ما أشير إليه مما أثبتته الآيات الكريمة من حقية الحق وبطلان الباطل وروي عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أن النبي صلى اللّه عليه و سلم عبر عنه به لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه

وقيل هو المعجزات التي اظهرها

وقيل هو دين الحق الذي أتى به وقوله تعالى

من ربكم إما متعلق بجاءكم أو بمحذوف وقع صفة مشرفة لبرهان مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائن منه تعالى على أن من لابتداء الغاية مجازا وقد جوز على الثاني كونها تبعيضية بحذف المضاف أي كائن من براهين ربكم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار اللطف بهم والإيذان بأن مجيئه إليهم لتربيتهم وتكميلهم

وأنزلنا إليكم نورا مبينا أريد به أيضا القرآن الكريم عبر عنه تارة بالبرهان لما أشير إليه آنفا وأخرى بالنور المنير بنفسه المنور لغيره إيذانا بأنه بين بنفسه مستغن في ثبوت حقيته وكونه من عند اللّه تعالى بإعجازه غير محتاج إلى غيره مبين لغيره من الأمور المذكورة وإشعارا بهدايته للخلق ووإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان وقد سلك به مسلك العطف المبني على تغاير الطرفين تنزيلا للمغايرة العنوانية منزلة المغايرة الذاتية وعبر عن ملابسته للمخاطبين تارة بالمجيء المسند إليه المنبء عن كمال قوته في البرهانية كأنه يجيء بنفسه فيثبت أحكامه من غير أن يجيء به أحد على شبه الكفرة بالإبطال وأخرى بالإنزال الموقع عليه الملائم لحيثية كونه نورا توقيرا له باعتبار كل واحد من عنوانيه حظه اللائق به وإسناد إنزاله إليه تعالى بطريق الالتفات لكمال تشريفه هذا على تقدير كون البرهان عبارة عن القرآن العظيم

وأما على تقدير كونه عبارة عن الرسول صلى اللّه عليه و سلم أو عن المعجزات الظاهرة على يده أو عن الدين الحق فالأمر هين وقوله تعالى إليكم متعلق بإنزالنا فإن إنزاله بالذات وإن كان إلى النبي صلى اللّه عليه و سلم لكنه منزل إليهم أيضا بواسطته عليه الصلاة و السلام وإنما اعتبر حاله لإظهار كمال اللطف بهم والتصريح بوصوله إليهم مبالغا في الأعذار وتقديمه على المفعول الصريح مع أن حقه التأخر عنه لما مر غير مرة من الاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر وللمحافظة على فواصل الآي الكريمة

١٧٥

فأما الذين آمنوا باللّه حسبما يوجبه البرهان الذي أتاهم

واعتصموا به أي عصموا به أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان وغيره

فسيدخلهم في رحمة منه وفضل قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما هي الجنة وما يتفضل عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وعبر عن إفاضة الفضل بالإدخال على طريقة قوله علفتها تبنا وماء باردا وتنوين رحمة وفضل تفخيمي ومنه متعلق بمحذوف وقع صفة مشرفة لرحمة

ويهديهم إليه أي إلى اللّه عز و جل

وقيل إلى الموعود

وقيل إلى عبادته

صراطا مستقيما هو الإسلام والطاعة في الدنيا وطريق الجنة في الآخرة وتقديم ذكر الوعد بإدخال الجنة على الوعد بالهداية إليها على خلاف الترتيب في الوجود بين الموعودين للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصلي قبل انتصاب صراطا على أنه مفعول لفعل محذوف ينبئ عنه يهديهم أي يعرفهم صراطا مستقيما

١٧٦

يستفتونك أي في الكلالة استغنى عن ذكره بوروده في قوله تعالى

قل اللّه يفتيكم في الكلالة وقد مر تفسيرها في مطلع السورة الكريمة والمستفتي جابر بن عبد اللّه رضي اللّه تعالى عنه يروى

أنه أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في طريقمكة عام حجة الوداع فقال إن لي أختا فكم آخذ من ميراثها إن ماتت

وقيل كان مريضا فعاده رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال إني كلالة فكيف أصنع في مالي وروي عنه رضي اللّه عنه أنه قال عادني رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب من وضوئه علي فعقلت فقلت يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لمن الميراث وإنما يرثني كلالة فنزلت وقوله تعالى

إن امرؤ هلك استئناف مبين للفتيا وارتفع امرؤ أنه مفسر للمحذوف غير مقصود في الكلام أي إن هلك امرؤ غير ذي

ولد ذكرا كان أو أنثى واقتصر على ذكر عدم الولد مع أن عدم الولد أيضا معتبر في الكلالة ثقة بظهور الأمر ودلالة تفصيل الورثة عليه وقوله تعالى

وله أخت عطف على قوله تعالى ليس له ولد أو حال والمراد بالأخت من ليست لأم فقط فإن فرضها السدس وقد مر بيانه في صدر السورة الكريمة

فلها نصف ما ترك أي بالفرض والباقي للعصبة أولها بالردد إن لم يكن له عصبة

وهو أي المرء المفروض

يرثها أي أخته المفروضة إن فرض هلاكها مع بقائه

إن لم يكن لها ولد ذكرا كان أو أنثى فالمراد بإرثه لها إحراز جميع ما لها إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية لا إرثه لها في الجملة فإنه يتحقق مع وجود بنتها وليس في الآية ما يدل على سقوط الأخوة بغير الولد ولا على عدم سقوطهم وإنما دلت على سقوطهم مع الأب السنة الشريفة

فإن كانتا اثنتين عطف على الشرطية الأولى أي اثنتين فصاعدا

فلهما الثلثان مما ترك الضمير لمن يرث بالأخوة والتأنيث والتثنية باعتبار المعنى قيل وفائدة الإخبار عنها باثنتين مع دلالة ألف التثنية على الأثنينية التنبيه على أن المعتبر في اختلاف الحكم هو العدد دون الصغر والكبر وغيرهما

وإن كانوا أي من يرث بطريق الأخوة

أخوة أي مختلطة

رجالا ونساء بدل من أخوة والأصل وإن كانوا أخوة وأخوات فغلب المذكر على المؤنث

فللذكر أي فللذكر منهم

مثل حظ الأنثيين يقتسمون التركة على طريقة التعصيب وهذا آخر ما أنزل من كتاب اللّه تعالى في الأحكام روي أن الصديق رضي اللّه تعالى عنه قال في خطبته ألا إن الآية التي أنزلها اللّه تعالى في سورة النساء في الفرائض فأولها الولد والوالد وثانيها في الزوج والزوجة والأخوة من الأم والآية التي ختم بها السورة في الأخوة والأخوات لأبوين أو لأب والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام يبين اللّه لكم أي حكم الكلالة أو أحكامه وشرائعه التي من جملتها حكمها

أن تضلوا أي كراهة أن تضلوا في ذلك وهذا رأي البصريين صرح به المبرد وذهب الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين إلى تقدير اللام في طرفي أن أي لئلا تزولا وقال أبو عبيد رويت للكسائي حديث ابن عمر رضي اللّه تعالى عنهما وهو لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من اللّه إجابة أي لئلا يوافق فاستحسنه وليس ما ذكر من الآية والحديث نصا فيما ذهب إليه الكسائي واضرابه فإن التقدير فيهما عند البصريين كراهة أن تزولا وكراهة أن يوافق الخ

وقيل ليس هناك حذف ولا تقدير وإنما هو مفعول يبين أي يبين لكم ضلالكم الذي هو من شأنكم إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا عنه وتتحروا خلافه وأنت خبير بأن ذلك إنما يليق بيما إذا كان بيانه تعالى تعيين على طريقة مواقع الخطأ والضلال من غير تصريح بما هو الحق والصواب وليس كذلك

واللّه بكل شيء من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم ومماتكم

عليم مبالغ في العلم فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من قرأ سورة النساء فكأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة ورث ميراثا وأعطى من الأجر كمن اشترى محررا وبرئ من الشرك وكان في مشيئة اللّه تعالى من الذين يتجاوز عنهم واللّه أعلم

﴿ ٠