٤٧ يأيها الذين أوتوا الكتاب تلوين للخطاب وتوجيه له إما إلى من حكيت أحوالهم وأقوالهم خاصة بطريق الإلتفات ووصفهم تارة بإيتاء الكتاب أي التوراة وأخرى بإيتاء نصيب منها لتوفيه كل من المقامين حقه فإن المقصود فيما سبق بيان اخذهم الضلالة وإزالة ما أوتوه بمقابلتها بالتحريف وليس ما أزالوه بذلك كلها حتى يوصفوا بإيتائه بل هو بعضها فوصفوا بإيتائه وأما ههنا فالمقصود تأكيد إيجاب الإمتثال بالأمر الذي يعقبه والتحذير عن مخالفته من حيث إن الإيمان بالمصدق موجب للإيمان بما يصدقه والكفر بالثاني مقتض للكفر بالأول قطعا ولا ريب في ان المحذور عندهم إنما هو لزوم الكفر بالتوراة نفسها لا ببعضها وذلك إنما يتحقق بجعل القرآن مصدقا لكلها وإن كان مناط التصديق بعضا منها ضرورة أن مصدق البعض مصدق للكل المتضمن له حتما وأما إليهم وإلى غيرهم قاطبة وهو الأظهر وأياما كان فتفصيل ما فصل لما كان من مظان إقلاع كل من الفريقين عما كانوا عليه من الضلالة عقب ذلك بالأمر بالمبادرة إلى سلوك محجة الهداية مشفوعا بالوعيد الشديد على المخالفة فقيل آمنوا بما نزلنا من القرآن عبر عنه بالموصول تشريفا له بما في حيز الصلة وتحقيقا لكونه من عنده عز و جل مصدقا لما معكم من التوراة عبر عنها بذلك للإيذان بكمال وقوفهم على حقيقة الحال فإن المعية المستدعية لدوام تلاوتها وتكرير المراجعة إليها من موجبات العثور على ما في تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكون القرآن مصدقا لها ومعنى تصديقه إياها نزوله حسبما نعت لهم فيها أو كونه موافقا لها في القصص والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وأما ما يتراءى من مخالفته لها في جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأمم والأعصار فليست بمخالفة في الحقيقة بل هي عين الموافقة من حيث إن كلا منها حق بالإضافة إلى عصره متضمن للحكمة التي عليها يدور فلك التشريع حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم قطعا ولذلك قال لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي من قبل أن نطمس وجوها متعلق بالأمر مفيد للمسارعة إلى الأمتثال به والجد في الإنتهاء عن مخالفته بما فيه من الوعيد الشديد الوارد على أبلغ وجه وآكده حيث لم يعلق وقوع المتوعد به بالمخالفة ولم يصرح بوقوعه عندها تنبيها على أن ذلك أمر محقق غني عن الإخبار به وانه على شرف الوقوع متوجه نحو المخاطبين وفي تنكير الوجوه المفيد للتكثير تهويل للخطب وفي إبهامها لطف بالمخاطبين وحسن استدعاء لهم إلى الإيمان وأصل الطمس محو الآثار وإزالة الأعلام أي آمنوا من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونزيل آثارها قال ابن عباس رضي اللّه عنهما نجعلها كخف البعير أو كحافر الدابة وقال قتادة والضحاك نعميها كقوله تعالى فطمسنا أعينهم وقيل نجعلها منابت الشعر كوجوه القردة فنردها على أدبارها فنجعلها على هيئة أدبارها وأقفائها مطموسة مثلها فالفاء للتسبيب أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع الأقفاء والأقفاء إلى موضعها وقد اكتفى بذكر أشدهما فالفاء للتعقيب وقيل المراد بالوجوه الوجهاء على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارا وأدبارا أو نردهم من حيث جاءوا منه وهي أذرعات الشأم فالمراد بذلك إجلاء بني النضير ولا يخفى أنه لا يساعده مقام تشديد الوعيد وتعميم التهديد للجميع فالوجه ما سبق من الوجوه وقد اختلف في أن الوعيد هل كان بوقوعه في الدنيا أو في الآخرة فقيل كان بوقوعه في الدنيا ويؤيده ما روى أن عبد اللّه ابن سلام رضي اللّه تعالى عنه لما قدم من الشأم وقد سمع هذه الآية أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قبل أن يأتي أهله فأسلم وقال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي إلى قفاي وفي رواية جاء إلى النبي ويده على وجهه وأسلم وقال ما قال وكذا ما روى أن عمر رضي اللّه عنه قرأ هذه الآية على كعب الأحبار فقال كعب يا رب آمنت يا رب أسلمت مخافة أن يصيبه وعيدها ثم اختلفوا فقيل إنه منتظر بعد ولابد من طمس في اليهود ومسخ وهو قول المبرد وفيه أن انصراف العذاب الموعود عن أوائلهم وهم الذين باشروا أسباب نزوله وموجبات حلوله حيث شاهدوا شواهد النبوة في رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فكذبوها وفي التوراة فحرفوها وأصروا على الكفر والضلالة وتعلق بهم خطاب المشافهة بالوعيد ثم نزوله على من وجد بعد مئات من السنين من أعقابهم الضالين بإضلالهم العالمين بما مهدوا من قوانين الغواية بعيد من حكمة اللّه تعالى العزيز الحكيم وقيل إن وقوعه كان مشروطا بعدم الإيمان وقد آمن من أحبارهم المذكوران وأضرابهما فلم يقع وفيه أن إسلام بعضهم إن لم يكن سببا لتأكد نزول العذاب على الباقين لتشديدهم النكير والعناد بعد ازدياد الحق وضوحا وقيام الحجة عليهم بشهادة أماثلهم العدول فلا أقل من أن لا يكون سببا لرفعه عنهم وقيل كان الوعيد بوقوع أحد الأمرين كما ينطق به قوله تعالى أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت فإن لم يقع الأمر الأول فلا نزاع في وقوع الثاني كيف لا وهم ملعونون بكل لسان في كل زمان وتفسير اللعن بالمسخ ليس بمقرر البتة وأنت خبير بأن المتبادر من اللعن المشبه بلعن أصحاب السبت هو المسخ وليس في عطفه على الطمس والرد على الأدبار شائبة دلالة على عدم إرادة المسخ ضرورة أنه تغيير مغاير لما عطف عليه على أن المتوعد به لا بد أن يكون أمرا حادثا مترتبا على الوعيد محذورا عندهم ليكون مزجرة عن مخالفة الأمر ولم يعهد أنه وقع عليهم لعن بهذا الوصف إنما الواقع عليهم ما تداولته الألسنة من اللعن المستمر الذي ألفوه وهو بمعزل من صلاحية ان يكون حكما لهذا الوعيد أو مزجرة للعنيد وقيل إنما كان الوعيد بوقوع ما ذكر في الآخرة عند الحشر وسيقع فيها لا محالة أحد الأمرين أو كلاهما على سبيل التوزيع وأما ما روي عن عبد اللّه بن سلام وكعب فمبني على الإحتياط اللائق بشأنهما والحق أن النظم الكريم ليس بنص في أحد الوجهين بل المتبادر منه بحسب المقام هو الأول لأنه أدخل في الزجر وعليه مبني ما روي عن الحبرين لكن لما لم يتضح وقوعه علم ان المراد هو الثاني واللّه تعالى اعلم وأيا ما كان فلعل السر في تخصيصهم بهذه العقوبة من بين العقوبات مراعاة المشاكلة بينهما وبين ما أوجبها من جنايتهم التي هي التحريف والتغيير واللّه هو العليم الخبير وكان أمر اللّه أي ما أمر به كائنا ما كان أو أمره بإيقاع شئ ما من الأشياء مفعولا نافذا كائنا لا محالة فيدخل فيه ما أوعدتم به دخولا أوليا فالجملة اعتراض تذييلي مقرر لما سبق ووضع الإسم الجليل موضع الضمير بطريق الإلتفات لتربية المهابة وتعليل الحكم وتقوية ما في الإعتراض من الإستقلال |
﴿ ٤٧ ﴾