ÓõæÑóÉõ íõæäõÓó Úóáóíúåö ÇáÓøóáóÇãõ

ãóßøöíøóÉñ æóåöíó ãöÇÆóÉñ æóÊöÓúÚõ ÂíÇóÊò

سورة يونس Úóáóíúåö ÇáÓøóáóÇãõ

سورة يونس عليه السلام مكية وهى مائة وتسع آيات

بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

١

الر بتفخيم الراء المفتوحة وقرىء بالإمالة إجراء للأصلية مجرى المنقلبة عن الياء وقرىء بين بين وهو إما مسرود على نمط التعديد بطريق التحدى على أحد الوجهين المذكورين في فاتحة سورة البقرة فلا محل له من الإعراب

وأما اسم للسورة كما عليه إطباق الأكثر فمحله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أى هذه السورة مسماة بآلر وهو أظهر من الرفع على الابتداء لعدم سبق العلم بالتسمية بعد فحقها الإخبار بها لا جعلها عنوان الموضوع لتوقفه على علم المخاطب بالانتساب كما مر والإشارة إليها قبل جريان ذكرها لما أنها باعتبار كونها على جناح الذكر وبصدده صارت في حكم الحاضر كما يقال هذا ما اشترى فلان أو النصب بتقدير فعل لائق بالمقام نحو اذكر أو اقرأ وكلمة

تلك إشارة إليها أما على تقدير كون آلر مسرودة على نمط التعديد فقد نزل حضور مادتها التى هى الحروف المذكورة منزلة ذكرها فأشير إليها كأنه قيل هذه الكلمات المؤلفة من جنس هذه الحروف المبسوطة الخ

وأما على تقدير كونه اسما للسورة فقد نوهت بالإشارة إليها بعد تنويهها بتعيين اسمها أو الأمر بذكرها أو بقراءتها وما فى اسم الإشارة من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتها فى الفخامة ومحله الرفع على أنه مبتدأ خبره قوله تعالى

آيات الكتاب وعلى تقدير كون آلر مبتدأ فهو مبتدأ ثان أو بدل من الأول والمعنى هى آيات مخصوصة منه مترجمة باسم متسقل والمقصود ببيان بعضيتها منه وصفها بما اشتهر اتصافه به من النعوت الفاضلة والصفات الكاملة والمراد بالكتاب إما جميع القرآن العظيم وإن لم ينزل الكل حينئذ إما باعبتار تعينه وتحققه في علم اللّه عز وعلا أو فى اللوح أو باعتبار أنه أنزل جملة إلى السماء الدنيا كما هو المشهور فإن فاتحة الكتاب كانت مسماة بهذا الاسم وبأم القرآن في عهد النبوة ولما يحصل المجموع الشخصى إذ ذاك فلا بد من ملاحظة كل من الكتاب والقرآن بأحد الاعتبارات المذكورة

وأما جميع القرآن النازل وقتئذ المتفاهم بين الناس إذ ذاك فإنه كما يطلق على المجموع الشخصى يطلق على مجموع ما نزل فى كل عصر ألا يرى إلى ما روى عن جابر رضى اللّه عنه أنه قال كان النبي صلى اللّه عليه و سلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد فى ثوب واحد ثم يقول أيهم أكثر أخذا للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه فى اللحد فإن ما يفهمه الناس من القرآن فى ذلك الوقت ويحافظون على التفاوت فى أخذه إنما هو المجموع النازل حينئذ من غير ملاحظة لتحقق المجموع الشخصى في علم اللّه سبحانه أو فى اللوح ولا لنزوله جملة إلى السماء الدنيا

الحكيم ذى الحكمة وصف به لاشتماله على فنون الحكم الباهرة ونطقه بها أو هو من باب وصف الكلام بصفة صاحبه أو من باب الاستعارة المكنية المبنية على تشبيه الكتاب بالحكيم الناطق بالحكمة هذا وقد جعل الكتاب عبارة عن نفس السورة وكلمة تلك إشارة إلى من ضمنها من الآى فإنها فى حكم الحاضر لا سيما بعد ذكر ما يتضمنها من السورة عند بيان اسمها أو الأمر بذكرها أو بقراءتها وينبغى أن يكون المشار إليه حينئذ كل واحدة منها لا جميعها من حيث هو جميع لأنه عين السورة فلا يكون للإضافة وجه ولا لتخصيص الوصف بالمضاف إليه حكمة فلا يتأتى ما قصد من مدح المضاف بما للمضاف إليه من صفات الكمال ولأن فى بيان اتصاف كل منها بالكمال من المبالغة ما ليس فى بيان اتصاف الكل بذلك والمتبادر من الكتاب عند الإطلاق وإن كان كله بأحد الوجهين المذكورين لكن صحة إطلاقه على بعضه أيضا مما لا ريب فيها والمعهود المشهور وإن كان اتصاف الكل بأحد الاعتبارين بما ذكر من نعوت الكمال إلا أن شهرة اتصاف كل سورة منه بما اتصف به الكل مما لا ينكر وعليه يدور تحقق مدح السورة بكونها بعضا من القرآن الكريم إذ لولا أن بعضه منعوت بنعت كله داخل تحت حكمه لما تسنى ذلك وفيه ما لا يخفى من التكلف والتعسف

٢

أكان للناس عجبا الهمزة لإنكار تعجبهم ولتعجب السامعين منه لكونه فى غير محله والمراد بالناس كفار مكة وإنما عبر عنهم باسم الجنس من غير تعرض لكفرهم مع أنه المدار لتعجبهم كما تعرض له فى قوله عز و جل قال الكافرون الخ لتحقيق ما فيه الشركة بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وتعيين مدار التعجب فى زعمهم ثم تبيين خطئهم وإظهار بطلان زعمهم بإيراد الإنكار والتعجيب واللام متعلقة بمحذوف وقع حالا من عجبا

وقيل بعجبا على التوسع المشهور فى الظروف

وقيل المصدر إذا كان بمعنى اسم الفاعل أو اسم المفعول جاز تقديم معموله عليه

وقيل متعلقة بكان وهو مبنى على دلالة كان الناقصة على الحدث

أن أوحينا اسم كان قدم عليه خبرها اهتماما بشأنه لكونه مدار الإنكار والتعجيب وتشويقا إلى المؤخر ولأن فى الاسم ضرب تفصيل ففى مراعاة الأصل نوع إخلال بتجاوب أطراف الكلام وقرىء برفع عجب على أنه الاسم وهو نكرة والخبر أن أوحينا وهو معرفة لأن أن مع الفعل فى تأويل المصدر المضاف إلى المعرفة البتة والمختار حينئذ أن تجعل كان تامة وأن أوحينا متعلقا بعجب على حذف حرف التعليم أي أحدث للناس عجب لأن أوحينا أو من أن أوحينا أو بدلا من عجب لكن لا على توجيه الإنكار والتعجيب إلى حدوثه بل إلى كونه عجبا فإن كون الإبدال فى حكم تنحية المبدل منه ليس معناه إهداره بالمرة وإنما قيل للناس لا عند الناس للدلالة على أنهم اتخذوه أعجوبة لهم وفيه من زيادة تقبيح حالهم ما لا يخفى

إلى رجل منهم أي إلى بشر من جنسهم كقولهم أبعث اللّه بشرا رسولا أو من أفنائهم من حيث المال لا من عظمائهم كقولهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وكلا الوجهين من ظهور البطلان بحيث لا مزيد عليه أما الأول فلأن بعض الملك إنما يكون عند كون المبعوث إليهم ملائكة كما قال سبحانه قل لو كان فى الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا

وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضة الملكية كيف لا وهى منوطة بالتناسب والتجانس فبعث الملك إليهم مزاحم للحمكة التى عليها يدور فلك التكوين والتشريع وإنما الذى تقتضيه الحكمة أن يبعث الملك من بينهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتعلقين بكلا العالمين الروحانى والجسمانى ليتلقوا من جانب ويلقوا إلى جانب

وأما الثانى فلما أن مناط الاصطفاء للنبوة والرسالة هو التقدم فى الاتصاف بما ذكر من النعوت الجميلة والصفات الجليلة والسبق في إحراز الفضائل العلية وحيازة الملكات السنية جبلة واكتسابا ولا ريب لأحد منهم فى أنه صلى اللّه عليه و سلم فى ذلك الشأن فى غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية

وأما التقدم فى الرياسات الدنيوية والسبق فى نيل الحظوظ الدنية فلا دخل له فى ذلك قطعا بل له إخلال به غالبا قال صلى اللّه عليه و سلم لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء

أن أنذر الناس أن مصدرية لجواز كون صلتها أمرا كما فى قوله تعالى وأن أقم وجهك وذلك لأن الخبر والإنشاء فى الدلالة على المصدر سيان فساغ وقوع الأمر والنهى صلة حسب وقوع الفعل فليجرد عند ذلك عن معنى الأمر والنهى نحو تجرد الصلة الفعلية عن معنى المضى والاستقبال ووجوب كون الصلة فى الموصول الاسمى خبرية إنما هو للتوصل بها إلى وصف المعارف بالجمل لا لقصور فى دلالة الإنشاء على المصدر أو مفسرة إذ الإيحاء فيه معنى القول وقد جوز كونها مخففة من المثقلة على حذف ضمير الشأن والقول من الخبر والمعنى أن الشأن قولنا أنذر الناس والمراد به جميع الناس كافة لا ما أريد بالأول وهو النكتة في إيثار الإظهار على الإضمار وكون الثانى عين الأول عند إعادة المعرفة ليس على الإطلاق

وبشر الذين آمنوا بما أوحيناه وصدقوه

أن لهم أى بأن لهم

قدم صدق أى سابقة ومنزلة رفيعة

عند ربهم وإنما عبر عنها بها إذ بها يحصل السبق والوصول إلى المنازل الرفيعة كما يعبر عن النعمة باليد لأنها تعطى بها

وقيل مقام صدق والوجه أو الوصول إلى المقام إنما يحصل بالقدم وإضافتها إلى الصدق للدلالة على تحققها وثباتها وللتنبيه على أن مدار نيل ما نالوه من المراتب العلية هو صدقهم فإن التصديق لا ينفك عن الصدق

قال الكافرون هم المتعجبون وإيرادهم ههنا بعنوان الكفر مما لا حاجة إلى ذكر سببه وترك العاطف لجريانه مجرى البيان للجملة التى دخلت عليها همزة الإنكار أو لكونه استئنافا مبنيا على السؤال كأنه قيل ماذا صنعوا بعد التعجب هل بقوا على التردد والاستبعاد أو قطعوا فيه بشىء فقيل قال الكافرون على طريقة التأكيد

إن هذا يعنون به ما أوحى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من القرآن الحكيم المنطوى على الإنذار والتبشير

لسحر مبين أي ظاهر وقرىء لساحر على أن الإشارة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وقرىء ما هذا إلا سحر مبين وهذا اعتراف من حيث لا يشعرون بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر نازل من جناب خلاق القوى والقدر ولكنهم سموه بما قالوا تماديا فى العناد كما هو ديدن المكابر اللجوج ودأب المفحم المحجوج

٣

إن ربكم كلام مستأنف سيق لإظهار بطلان تعجبهم المذكور وما بنوا عليه من المقالة الباطلة غب الإشارة إليه بالإنكار والتعجيب وحقق فيه حقية ما تعجبوا منه وصحة ما أنكروه بالتنبيه الإجمالى على بعض ما يدل عليها من شئون الخلق والتقدير وأحوال التكوين والتدبير ويرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير لاعترافهم به من غير نكير لقوله تعالى قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون للّه قل أفلا تتقون وقوله تعالى قل من يرزقكم من السماء والأرض إلى قوله تعالى ومن يدبر الأمر فسيقولون اللّه أى إن ربكم ومالك أمركم الذى تتعجبون من أن يرسل إليكم رجلا منكم بالإنذار والتبشير وتعدون ما أوحى إليه من الكتاب الحكيم سحرا هو

اللّه الذى خلق السموات والأرض وما فيهما من أصول الكائنات

فى ستة أيام أى فى ستة أوقات أو فى مقدار ستة أيام معهودة فإن نفس اليوم الذى هو عبارة عن زمان كون الشمس فوق الأرض مما لا يتصور تحققه حين لا أرض ولا سماء وفى خلقها مدرجا مع القدرة التامة على إبداعها دفعة دليل على الاختيار واعتبار للنظار وحث لهم على التأنى فى الأحوال والأطوار

وأما تخصيص ذلك بالعدد المعين فأمر قد استأثر بعلم ما يستدعيه علام الغيوب جلت قدرته ودقت حكمته وإيثار صيغة الجمع فى السموات لما هو المشهور من الإيذان بأنها أجرام مختلفة الطباع متباينة الآثار والأحكام

ثم استوى على العرش هو الجسم المحيط بسائر الأجسام سمى به لارتفاعه أو للتشببه بسرير الملك فإن الأوامر والتدابير منه تنزل

وقيل هو الملك ومعنى استوائه سبحانه عليه استيلاؤه عليه أو استواء أمره وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة له سبحانه بلا كيف والمعنى أنه سبحانه استوى على العرش على الوجه الذى عناه منزها عن التمكن والاستقرار وهذا بيان لجلالة ملكه وسلطانه بعد بيان عظمة شأنه وسعة قدرته بما مر من خلق هاتيك الأجرام العظام

يدبر الأمر التدبير النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود والمراد ههنا التقدير على الوجه الأتم الأكمل والمراد بالأمر أمر ملكوت السموات والأرض والعرش وغير ذلك من الجزيئات الحادثة شيئا فشيئا على أطوار شتى وأنحاء لا تكاد تحصى من المناسبات والمباينات فى الذوات والصفات والأزمنة والأوقات أى يقدر ما ذكر من أمر الكائنات الذى ما تعجبوا منه من أمر البعث والوحى فرد من جملته وشعبة من دوحته ويهيىء أسباب كل منها حدوثا وبقاء فى أوقاتها المعينة ويرتب مصالحها على الوجه الفائق والنمط اللائق حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة والجملة فى محل النصب على أنها حال من ضمير استوى وقد جوز كونها خبرا ثانيا لأن أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب مبنية على سؤال نشأ من ذكر الاستواء على العرش المنبىء عن إجراء أحكام الملك وعلى كل حال فإيثار صيغة المضارع للدلالة على تجدد التدبير واستمراره وقوله عز و جل

ما من شفيع بيان لاستبداده سبحانه فى التقدير والتدبير ونفى للشفاعة على أبلغ الوجوه فإن نفى جميع أفراد الشفيع بمن الاستغراقية يستلزم نفى الشفاعة على أتم الوجوه كما فى قوله تعالى لا عاصم اليوم من أمر اللّه وهذا بعد قوله تعالى يدبر الأمر جار مجرى قوله تعالى وهو يجير ولا يجار عليه عقيب قوله تعالى قل من بيده ملكوت كل شيء وقوله تعالى

إلا من بعد إذنه استثناه مفرغ من أعم الأوقات أى ما من شفيع يشفع لأحد فى وقت من الأوقات إلا بعد إذنه المبنى على الحكمة الباهرة وذلك عند كون الشفيع من المصطفين الأخيار والمشفوع له ممن يليق بالشفاعة كقوله تعالى يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا وفيه من الدلالة على عظمة جلاله سبحانه ما لا يخفى

ذلكم إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة أى ذلكم العظيم الشأن المنعوت بما ذكر من نعوت الكمال التى عليها يدور استحقاق الألوهية

اللّه وقوله تعالى

ربكم بيان له أو بدل منه أو خبر ثان لاسم الإشارة وهذا بعد بيان أن ربهم اللّه الذى خلق السموات والأرض الخ لزيادة التقرير والمبالغة فى التذكير ولتفريع الأمر بالعبادة عليه بقوله تعالى

فاعبدوه أى وحدوه من غير أن تشركوا به شيئا من ملك أو نبى فضلا عن جماد لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع وآمنوا بما أنزله إليكم

أفلا تذكرون أى أتعلمون أن الأمر كما فصل فلا تتذكرون ذلك حتى تقفوا على فساد ما أنتم عليه فترتدعوا عنه سورة يونس الآية

٤

إليه لا إلى أحد سواه استقلالا أو اشتراكا

مرجعكم أى بالبعث كما ينبىء عنه قوله تعالى

جميعا فإنه حال من الضمير المجرور لكونه فاعلا فى المعنى أى إليه رجوعكم مجتمعين والجملة كالتعليل لوجوب العبادة

وعد اللّه مصدر مؤكد لنفسه لأن قوله عز و جل إليه مرجعكم وعد منه سبحانه بالبعث أو لفعل مقدر أي وعد اللّه وأيا ما كان فهو دليل على أن المراد بالمرجع هو الرجوع بالبعث لأن ما بالموت بمعزل من الوعد كما أنه بمعزل من الاجتماع وقرىء بصيغة الفعل

حقا مصدر آخر مؤكد لما دل عليه الأول

إنه يبدأ الخلق وقرىء يبدىء

ثم يعيده وهو استئناف علل به وجوب المرجع إليه سبحانه وتعالى فإن غاية البدء والإعادة هو جزاء المكلفين بأعمالهم حسنة أو سيئة وقرىء بالفتح أى لأنه ويجوز كونه منصوبا بما نصب وعد اللّه أى وعد اللّه وعدا بدء الخلق ثم إعادته ومرفوعا بما نصب حقا أي حق حقا بدء الخلق الخ

ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط أي بالعدل وهو حال من فاعل يجزى أى ملتبسا بالعدل أو متعلق بيجزى أى ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم وإنما أجمل ذلك إيذانا بأنه لا يفى به الحصر أو بقسطهم وعدلهم عند إيمانهم ومباشرتهم للأعمال الصالحة وهو الأنسب بقوله عز و جل

والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون فإن معناه ويجزى الذين كفروا بسبب كفرهم وتكرير الإسناد يجعل الجملة الظرفية خبرا للموصول لتقوية الحكم والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على مواظبتهم على الكفر وتغيير النظم الكريم للإيذان بكمال استحقاقهم للعقاب وأن التعذيب بمعزل عن الانتظام فى سلك العلة الغائية للخلق بدءا وإعادة وإنما يحيق ذلك بالكفرة على موجب سوء اختيارهم

وأما المقصود الأصلى من ذلك فهو الإثابة

٥

هو الذى جعل الشمس ضياء تنبيه على الاستدلال على وجوده تعالى ووحدته وعلمه وقدرته وحمكته بآثار صنعه في النيرين بعد التنبيه على الاستدلال بما مر من إبداع السموات والأرض والاستواء على العرش وغير ذلك وبيان لبعض أفراد التدبير الذى أشير إليه إشارة إجمالية وإرشاد إلى أنه حيث دبرت أمورهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبير البديع فلأن يدبر مصالحهم المتعلقة بالمعاد بإرسال الرسول وإنزال الكتاب وتبيين طرائق الهدى وتعيين مهاوى الردى أولى وأحرى والجعل إن جعل بمعنى الإنشاء والإبداع فضياء حال من مفعوله أى خلقها حال كونها ذات ضياء على حذف المضاف أو ضياء محضا للمابلغة وإن جعل بمعنى التصيير فهو مفعوله الثانى أى جعلها ضياء على أحد الوجهين المذكورين لكن لا بعد أن كانت خالية عن تلك الحالة بل أبدعها كذلك كما في قولهم ضيق فم الركية ووسع أسفلها والضياء مصدر كقيام أو جمع ضوء كسياط وسوط وياؤه منقلبة من الواو لانكسار ما قبلها وقرىء ضئاء بهمزتين بينهما ألف بتقديم اللام على العين

والقمر نورا الكلام فيه كالكلام فى الشمس والضياء أقوى من النور

وقيل ما بالذات ضوء وما بالعرض نور ففيه إشعار بأن نوره مستفاد من الشمس

وقدره أى قدر له وهيأ

منازل أو قدر مسيره فى منازل أو قدره ذا منازل على تضمين التقدير معنى التصيير وتخصيص القمر بهذا التقدير لسرعة سيره ومعاينة منازله وتعلق أحكام الشريعة به وكونه عمدة فى تواريخ العرب وقد جعل الضمير لكل منهما وهى ثمانية وعشرون منزلا ينزل القمر كل ليلة فى واحد منها لا يتخظاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستو لا يتفاوت يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين فإذا كان فى آخر منازله دق واستقوس ثم يستسر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر ويكون مقام الشمس فى كل منزلة منها ثلاثة عشر يوما وهذه المنازل هى مواقع النجوم التى نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة وهى الشرطان والبطين والثريا الدبران الهقعة الهنعة الذراع النثرة الطرف الجبهة الزبرة الصرفة العواء السماك الغفر الزبانى الإكليل القلب الشولة النعائم البلدة سعد الذابح سعد بلع سعد السعود سعد الأخبية فرغ الدلو المقدم فرغ الدلو المؤخر الرشا وهو بطن الحوت

لتعلموا إما بتعاقب الليل والنهار المنوطين بطلوع الشمس وغروبها أو باعتبار نزول كل منهما فى تلك المنازل

عدد السنين التى يتعلق بها غرض علمى لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية

والحساب أى حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالى وغير ذلك مما نيط به شىء من المصالح المذكورة وتخصيص العدد بالسنين والحساب بالأوقات لما أنه لم يعتبر فى السنين المعدودة معنى مغاير لمراتب الأعداد كما اعتبر فى الأوقات المحسوبة وتحقيقه أن الحساب إحصاء ما له كمية انفصالية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين له اسم خاص وحكم مستقل كالسنة المتحصلة من اثنى عشر شهرا قد تحصل كل من ذلك من ثلاثين يوما قد تحصل كل من ذلك من أربع وعشرين ساعة مثلا والعد مجرد إحصائه بتكرير أمثاله من غير اعتبار أن يتحصل بذلك شىء كذلك ولما لم يعتبر فى السنين المعدودة تحصل حد معين له اسم خاص غير أسامى مراتب الأعداد وحكم مستقل أضيف إليها العدد وتحصل مراتب الأعداد من العشرات والمئات والألوف اعتبارى لا يجدى فى تحصل المعدودة نفعا وحيث اعتبر فى الأوقات المحسوبة تحصل ما ذكر من المراتب التى لها أسام خاصة وأحكام مستقلة علق بها الحساب المنبىء عن ذلك والسنة من حيث تحققها فى نفسها مما يتعلق به الحساب وإنما الذى يتعلق به العد طائفة منها وتعلقه فى ضمن ذلك بكل واحدة من تلك الطائفة ليس من الحيثية المذكورة أعنى حيثية تحصلها من عدة أشهر قد تحصل كل واحد منها من عدة أيام قد حصل كل منها بطائفة من الساعات فإن ذلك وظيفة الحساب بل من حيث إنها فرد من تلك الطائفة المعدودة من غير أن يعتبر معها شىء غير ذلك وتقديم العدد على الحساب مع أن الترتيب بين متعلقيهما وجودا وعلما على العكس لأن العلم المتعلق بعدد السنين علم إجمالى بما تعلق به الحساب تفصيلا وإن لم تتحد الجهة أو لأن العدد من حيث إنه لم يعتبر فيه تحصل أمرا آخر حسبما حقق آنفا نازل من الحساب الذى اعتبر فيه ذلك منزلة البسيط من المركب

ما خلق اللّه ذلك أى ما ذكر من الشمس والقمر على ما حكى من الأحوال وفيه إيذان بأن معنى جعلهما على تلك الأحوال والهيئات ليس إلا خلقهما كذلك كما أشير إليه ولا يقدح فى ذلك أن استفادة القمر النور من الشمس أمر حادث فإن المراد بجعله نورا إنما هو جعله بحيث يتصف بالنور عند وجود شرائط الاتصاف به بالفعل

إلا بالحق استثناء مفرغ من أعم أحوال الفاعل أو المفعول أى ما خلق ذلك ملتبسا بشىء من الأشياء إلا ملتبسا بالحق مراعيا لمقتضى الحكمة البالغة أو مراعى فيه ذلك وهو ما أشير إليه إجمالا من العلم بأحوال السنين والأوقات المنوط به أمور معاملاتهم وعباداتهم

يفصل الآيات أى الآيات التكوينية المذكورة أو جميع الآيات فيدخل فيها الآيات المذكورة دخولا أوليا أو يفصل الآيات التنزيلية المنبهة على ذلك وقرىء بنون العظمة

لقوم يعلمون الحكمة فى إبداع الكائنات فيستدلون بذلك على شئون مبدعها جل وعلا أو يعلمون ما فى تضاعيف الآيات المنزلة فيؤمنون بها وتخصيص التفصيل بهم لأنهم المنتفعون به

٦

إن فى اختلاف الليل والنهار تنبيه آخر إجمالى على ما ذكر أى فى تعاقبهما وكون كل منهما خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين لحركات السموات وسكون الأرض أو فى تفاوتهما فى أنفسهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده باختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا وبعدا بحسب الأزمنة أو فى اختلافهما وتفاوتهما بحسب الأمكنة إما فى الطول والقصر فإن البلاد القريبة من القطب الشمالى أيامها الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها

وأما فى أنفسهما فإن كرية الأرض تقتضى أن يكون بعض الأوقات فى بعض الأماكن ليلا وفى مقابله نهارا

وما خلق اللّه فى السموات والأرض من أصناف المصنوعات

لآيات عظيمة أو كثيرة دالة على وجود الصانع تعالى ووحدته وكمال علمه وقدرته وبالغ حكمته التى من جملة مقتضياتها ما أنكروه من إرسال الرسول صلى اللّه عليه و سلم وإنزال الكتب والبعث والجزاء

لقوم يتقون خصهم بذلك لأن الداعى إلى النظر والتدبر إنما هو تقوى اللّه تعالى والحذر من العاقبة فهم الواقفون على أن جميع المخلوقات آيات دون غيرهم وكأى من آية فى السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون

٧

إن الذين لا يرجون لقاءنا بيان لمآل أمر من كفر بالبعث وأعرض عن البينات الدالة عليه بعد تحقيق أن مرجع الكل إليه تعالى وأنه يعيدهم بعد بدئهم للجزاء ثوابا وعقابا وتفصيل بعض الآيات الشاهدة بذلك والمراد بلقائه إما الرجوع إليه تعالى بالبعث أو لقاء الحساب كما في  قوله عز وعلا إني ظننت أنى ملاق حسابيه وأيا ما كان ففيه مع الالتفات إلى ضمير الجلالة من تهويل الأمر ما لا يخفى والمراد بعدم الرجاء عدم التوقع مطلقا المنتظم لعدم الأمل وعدم الخوف فإن عدمهما لا يستدعى عدم اعتقاد وقوع المأمول والمخوف أى لا يتوقعون الرجوع إلينا أو لقاء حسابنا المؤدى إما إلى حسن الثواب أو إلى سوء العذاب فلا يأملون الأول وإليه أشير بقوله عز و جل

ورضوا بالحياة الدنيا فإنه منبىء عن إيثار الأدنى الخسيس على الأعلى النفيس كقوله تعالى أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ولا يخافون الثانى وإليه أشير بقوله تعالى

واطمأنوا بها أى سكنوا فيها سكون من لا براح له منها آمنين من اعتراء المزعجات غير مخطرين ببالهم ما يسوؤهم من عذابنا

وقيل المراد بالرجاء معناه الحقيقى وباللقاء حسن اللقاء أى لا يأملون حسن لقائنا بالبعث والإحياء بالحياة الأبدية ورضوا بدلا منها ومما فيها من فنون الكرامات السنية بالحياة الدنيا الدنية الفانية واطمأنوا بها أى سكنوا إليها منكبين عليها قاصرين مجامع هممهم على لذائذها وزخارفها من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم وإيثار الباء على كلمة إلى المنبئة عن مجرد الوصول والانتهاء للإيذان بتمام الملابسة ودوام المصاحبة والمؤانسة وحمل الرجاء على الخوف فقط يأباه كلمة الرضا بالحياة الدنيا فإنها منبئة عما ذكر من ترك الأعلى وأخذ الأدنى واختيار صيغة الماضى فى الصلتين الأخيرتين للدلالة على التحقق والتقرر كما أن اختيار صيغة المستقبل في الأولى للإيذان باستمرار عدم الرجاء

والذين هم عن آياتنا المفصلة فى صحائف الأكوان حسبما أشير إلى بعضها أو آياتنا المنزلة المنبهة على الاستشهاد بها المتفقة معها فى الدلالة على حقية ما لا يرجونه من اللقاء المترتب على البعث وعلى بطلان ما رضوا به واطمأنوا إليه من الحياة الدنيا

غافلون لا يتفكرون فيها أصلا وإن نبهوا على ذلك وذكروا بأنواع القوارع لانهماكهم فيما يصدهم عنها من الأحوال المعدودة وتكرير الموصول للتوسل به إلى جعل صلته جملة اسمية منبئة عما هم عليه من استمرار الغفلة ودوامها وتنزيل التغاير الوصفى منزلة التغاير الذاتى إيذانا بمغايرة الوصف الأخير للأوصاف الأول واستقلاله باستتباع العذاب هذا

وأما ما قيل من أن العطف إما لتغاير الوصفين والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا والانهماك فى الشهوات بحيث لا يخطر ببالهم الآخرة أصلا

وأما لتغاير الفريقين والمراد بالأولين من أنكر البعث ولم يرد إلا الحياة الدنيا وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل فى الآجل فكلام ناء عن السداد فتأمل

٨

أولئك الموصوفون بما ذكر من صفات السوء

مأواهم أى مسكنهم ومقرهم الذى لا براح لهم منه

النار لا ما اطمأنوا بها من الحياة الدنيا ونعيمها

بما كانوا يكسبون من الأعمال القلبية المعدودة وما يستتبعه من أصناف المعاصى والسيئات أو بكسبهم إياها والجمع بين صيغتى الماضى والمستقبل للدلالة على الاستمرار التجددى والباء متعلقة بمضمون الجملة الأخيرة الواقعة خبرا عن اسم الإشارة وهو مع خبره خبر لإن فى قوله تعالى إن الذين لا يرجون لقاءنا الخ

٩

إن الذين آمنوا أى فعلوا الإيمان أو آمنوا بما يشهد به الآيات التى غفل عنها الغافلون أو بكل ما يجب أن يؤمن به فيندرج فيه ذلك اندراجا أوليا

وعملوا الصالحات أى الأعمال الصالحة فى أنفسها اللائقة بالإيمان وإنما ترك ذكر الموصوف لجريانها مجرى الأسماء

يهديهم ربهم أوثر الالتفات تشريفا لهم بإضافة الرب وإشعارا بعلة الهداية

بإيمانهم أى يهديهم بسبب إيمانهم إلى مأواهم ومقصدهم وهى الجنة وإنما لم تذكر تعويلا على ظهورها وانسياق النفس إليها لا سيما بملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة وما أواهم إليه من أعمالهم السيئة ومشاهدة ما لحق من التلويح والتصريح وفى النظم الكريم إشعار بأن مجرد الإيمان والعمل الصالح لا يكفى فى الوصول إلى الجنة بل لا بد بعد ذلك من الهداية الربانية وأن الكفر والمعاصى كافية فى دخول النار ثم إنه لا نزاع فى أن المراد بالإيمان الذى جعل سببا لتلك الهداية هو إيمانهم الخاص المشفوع بالأعمال الصالحة لا الإيمان المجرد عنها ولا ما هو أعم منهما إلا أن ذلك بمعزل عن الدلالة على خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة من أن الإيمان الخالى عن العمل الصالح يفضى إلى الجنة في الجملة ولا يخلد صاحبه فى النار فإن منطوق الآية الكريمة أن الإيمان المقرون بالعمل الصالح سبب للّهداية إلى الجنة

وأما أن كل ما هو سبب لها يجب أن يكون كذلك فلا دلالة لها ولا لغيرها عليه قطعا كيف لا وقوله عز و جل الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون مناد بخلافه فإن المراد بالظلم هو الشرك كما أطبق عليه المفسرون والمعنى لم يخلطوا إيمانهم بشرك ولئن حمل على ظاهره أيضا يدخل فى الاهتداء من آمن ولم يعمل صالحا ثم مات قبل أن يظلم بفعل حرام أو بترك واجب

تجرى من تحتهم الأنهار أى بين أيديهم كقوله سبحانه وهذه الأنهار تجرى من تحتي أو تجرى وهم على سرر مرفوعة وأرائك مصفوفة والجملة مستأنفة أو خبر ثان لأن أو حال من مفعول يهديهم على تقدير كونه المهدى إليه ما يريدونه فى الجنة كما قيل

وقيل يهديهم ويسددهم للاستقامة على سلوك السبيل المؤدى إلى الثواب والجنة وقوله تجرى من تحتهم الأنهار جار مجرى التفسير والبيان فإن التمسك بحبل السعادة فى حكم الموصول إليها

وقيل يهديهم إلى إدراك الحقائق البديعة بحسب القوة العملية كما قال صلى اللّه عليه و سلم من عمل بما علم ورثه اللّه علم ما لم يعلم

فى جنات النعيم خبر آخر أو حال أخرى منه أو من الأنهار أو متعلق بتجرى أو بيهدى فالمراد بالمهدى إليه إما منازلهم فى الجنة أو ما يريدونه فيها

١٠

دعواهم أى دعاؤهم وهو مبتدأ وقوله عز و جل

فيها متعلق به وقوله تعالى

سبحانك اللّهم خبره أى دعاؤهم هذا الكلام وهو معمول لمقدر لا يجوز إظهاره والمعنى اللّهم إنا نسبحك تسبيحا ولعلهم يقولونه عندما عاينوا فيها من تعاجيب اثار قدرته تعالى ونتائج رحمته ورأفته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر تقديسا لمقامه تعالى عن شوائب العجز والنقصان وتنزيها لوعده الكريم عن سمات الخلف

وتحيتهم فيها التحية التكرمة بالحالة الجليلة أصلها أحياك اللّه حياة طيبة أى ما يحيى به بعضهم بعضا أو تحية الملائكة إياهم كما فى قوله تعالى والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام أو تحية اللّه عز و جل لهم كما فى قوله تعالى سلام قولا من رب رحيم

سلام أى سلامة عن كل مكروه

وآخر دعواهم أى خاتمة دعائهم

أن الحمد للّه رب العالمين أى أن يقولوا ذلك نعتا له عز و جل بصفات الإكرام إثر نعته تعالى بصفات الجلال أى دعاؤهم منحصر فيما ذكر إذ ليس لهم مطلب مترقب حتى ينظموه فى سلك الدعاء وأن هى المخففة من أن المثقلة أصله أنه الحمد للّه فحذف ضمير الشأن كما فى قوله أن هالك كل من يحفى وينتعل وقرىء أن الحمد للّه بالتشديد ونصل الحمد ولعل توسيط ذكر تحيتهم عند الحكاية بين دعائهم وخاتمته للتوسل إلى ختم الحكاية بالتحميد تركا مع أن التحية ليست بأجنبية على الإطلاق ودعوى كون ترتيب الوقوع أيضا كذلك بأن كانوا حين دخلوا الجنة وعاينوا عظمة اللّه تعالى وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال ثم حياهم الملائكة بالسلامة من الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو حياهم بذلك رب العزة فحمدوه تعالى وأثنوا عليه يأباها إضافة الآخر إلى دعواهم وقد جوز أن يكون المراد بالدعاء العبادة كما فى قوله تعالى وأعتزلكم وما تدعون الخ إيذانا بأن لا تكليف فى الجنة أى ما عبادتهم إلا أن يسبحوه ويحمدوه وليس ذلك بعبادة إنما يلهمونه وينطقون به تلذذا ولا يساعده تعيين الخاتمة

١١

ولو يعجل اللّه للناس هم الذين لا يرجون لقاء اللّه تعالى لإنكارهم البعث وما يترتب عليه من الحساب والجزاء أشير إلى بعض من عظائم معاصيهم المتفرعة على ذلك وهو استعجالهم بما أوعدوا به من العذاب تكذيبا واستهزاء وإيرادهم باسم الجنس لما أن تعجيل الخير لهم ليس دائرا على وصفهم المذكور إذ ليس كل ذلك بطريق الاستدراج أى لو يعجل اللّه لهم

الشر الذى كانوا يستعجلون به فإنهم كانوا يقولون اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ونحو ذلك وقوله تعالى

استعجالهم بالخير نصب على أنه مصدر تشبيهى وضع موضع مصدر ناصبه دلالة على اعتبار الاستعجال فى جانب المشبه كاعتبار التعجيل فى جانب المشبه به وإشعارا بسرعة إجابته تعالى لهم حتى كان استعجالهم بالخير نفس تعجيله لهم والتقدير ولو يعجل اللّه لهم الشر عند استعجالهم به تعجيلا مثل تعجيله لهم الخير عند استعجالهم به فحذف ما حذف تعويلا على دلالة الباقى عليه

لقضى إليهم أجلهم لأدى إليهم الأجل الذى عين لعذابهم وأميتوا وأهلكوا بالمرة وما أمهلوا طرفة عين وفى إيثار صيغة المبنى للمفعول جرى على سنن الكبرياء مع الإيذان بتعين الفاعل وقرىء على البناء للفاعل كما قرىء لقضينا واختيار صيغة الاستقبال فى الشرط وإن كان المعنى على المضى لإفادة أن عدم قضاء الأجل لاستمرار عدم التعجيل فإن المضارع المنفى الواقع موقع الماضى ليس بنص فى إفادة انتفاء استمرار الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه أيضا بحسب المقام كما حقق فى موضعه واعلم أن مدار الإفادة فى الشرطية أن يكون التالى أمرا مغايرا للمقدم فى نفسه مترتبا عليه فى الوجود كما فى قوله عز و جل لو يطيعكم فى كثير من الأمر لعنتم فإن العنت أى الوقوع فى المشقة والهلاك أمر مغاير لطاعته صلى اللّه عليه و سلم لهم مترتب عليها فى الوجود أو يكون فردا كاملا من أفراده ممتازا عن البقية بأمر يخصه كما فى الأجوبة المحذوفة فى مثل قوله تعالى ولو ترى إذ وقفوا على ربهم وقوله تعالى ولو ترى إذ وقفوا على النار وقوله تعالى ولو ترى إذ المجرمون ونظائرها أى لرأيت أمرا هائلا فظيعا أو نحو ذلك وكما فى قوله تعالى ولو يؤاخذ اللّه الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة إذا فسر الجواب بالاستئصال فإنه فرد كامل من أفراد مطلق المؤاخذة قد عبر عنه بما لا مزيد عليه فى الدلالة على الشدة والفظاعة فحسن موقعه فى معرض التالى للمؤاخذة المطلقة

وأما ما نحن فيه من القضاء فليس بأمر مغاير لتعجيل الشر فى نفسه وهو ظاهر بل هو إما نفسه أو جزئى منه كسائر جزئياته من غير مزية على البقية إذ لم يعتبر فى مفهومه ما ليس فى مفهوم تعجيل الشر من الشدة والهول فلا يكون فى ترتبه عليه وجودا أو عدها مزيد فائدة مصححة لجعله تاليا له فالحق أن المقدم ليس نفس التعجيل المذكور بل هو إرادته المستتبعة للقضاء المذكور وجودا وعدما كما في قوله تعالى لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب أي لو يريد مؤاخذتهم فإن تعجيل العذاب لهم نفس المؤاخذة أو جزئي من جزئياتها غير ممتاز عن البقية فليس في بيان ترتبه عليها وجودا أو عدما مزيد فائدة وإنما الفائدة فى بيان ترتبه على إرادتها حسبما ذكر وأيضا فى ترتب التالى على إرادة المقدم ما ليس فى ترتبه على نفسه من الدلالة على المبالغة وتهويل الأمر والدلالة على أن الأمور منوطة بإرادته تعالى المبنية على الحكم البالغة

فنذر الذين لا يرجون لقاءنا بنون العظمة الدالة على التشديد فى الوعيد وهو عطف على مقدر تنبىء عنه الشرطية كأنه قيل لكن لا نفعل ذلك لما تقتضيه الحكمة فنتركهم إمهالا واستدراجا

فى طغيانهم الذى هو عدم رجاء اللقاء وإنكار البعث والجزاء وما يتفرع على ذلك من أعمالهم السيئة ومقالاتهم الشنيعة

يعمهون أى يترددون ويتحيرون ففى وضع الموصول موضع الضمير نوع بيان للطغيان بما فى حيز الصلة وإشعار بعليته للترك والاستدراج

١٢

وإذا مس الإنسان الضر أى أصابه جنس الضر من مرض وفقر وغيرهما من الشدائد إصابة يسيره

دعانا لكشفه وإزالته

لجنبه حال من فاعل دعا بشهادة ما عطف عليه من الحالين واللام بمعنى على كما فى قوله تعالى يخرون للأذقان أى دعانا كائنا على جنبه أى مضطجعا

أو قاعدا أو قائما أى فى جميع الأحوال مما ذكر وما لم يذكر وتخصيص المعدودات بالذكر لعدم خلو الإنسان عنها عادة أو دعانا فى جميع أحوال مرضه على أنه المراد بالضر خاصة مضطجعا عاجزا عن القعود وقاعدا غير قادر على النهوض وقائما لا يستطيع الحراك

فلما كشفنا عنه ضره الذى مسه غب ما دعانا حسبما ينبىء عنه الفاء مر أى مضى واستمر على طريقته التى كان ينتحيها قبل مساس الضر ونسى حالة الجهد والبلاء أو مر عن موقف الضراعة والابتهال ونأى بجانبه

كأن لم يدعنا أى كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن كما فى قوله

 ... كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ...

والجملة التشبيهية فى محل النصب على الحالية من فاعل مر أى مر مشبها بمن لم يدعنا

إلى ضر أى إلى كشف ضر

مسه وهذا وصف للجنس باعتبار حال بعض أفراده ممن هو متصف بهذه الصفات

كذلك نصب على المصدرية وذلك إشارة إلى مصدر الفعل الآتى وما فيه من معنى البعد للتفخيم والكاف مقحمة للدلالة على زيادة فخامة المشار إليه إقحاما لا يكاد يترك فى لغة العرب ولا فى غيرها ومن ذلك قولهم مثلك لا يبخل مكان أنت لا تبخل أى مثل ذلك التزيين العجيب

زين للمسرفين أى للموصوفين بما ذكر من الصفات الذميمة وإسرافهم لما أن اللّه تعالى إنما أعطاهم القوى والمشاعر ليصرفوها إلى مصارفها ويستعملوها فيما خلقت له من العلوم والأعمال الصالحة فلما صرفوها إلى ما لا ينبغى وهى رأس مالهم فقد أتلفوها وأسرفوا إسرافا ظاهرا والتزيين إما من جهة اللّه سبحانه على طريقة التخلية والخذلان أو من الشيطان بالوسوسة والتسويل

ما كانوا يعملون من الإعراض عن الذكر والدعاء والانهماك فى الشهوات وتعلق الآية الكريمة بما قبلها من حيث إن فى كل منهما إملاء للكفرة على طريقة الاستدراج بعد الإنقاذ من الشر المقدر فى الأولى ومن الضر المقرر فى الأخرى

١٣

ولقد أهلكنا القرون أى القرون الخالية مثل قوم نوح وعاد وأضرابهم ومن فى قوله تعالى

من قبلكم متعلقة بأهلكنا أى أهلكناهم من قبل زمانكم والخطاب لأهل مكة على طريقة الالتفات

للمبالغة فى تشديد التهديد بعد تأييده بالتوكيد القسمى لما ظلموا ظرف للإهلاك أى أهلكناهم حين فعلوا الظلم بالتكذيب والتمادى فى الغى والضلال من غير تأخير وقوله تعالى

وجاءتهم رسلهم حال من ضمير ظلموا بإضمار قد وقوله تعالى

بالبينات متعلق بجاءتهم على أن الباء للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من رسلهم دالة على إفراطهم فى الظلم وتناهيهم فى المكابرة أى ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينة الدالة على صدقهم أو ملتبسين بها حين لا مجال للتكذيب وقد جوز أن يكون قوله تعالى وجاءتهم عطفا على ظلموا فلا محل له من الإعراب عند سيبويه وعند غيره محله الجر لأنه معطوف على ما هو مجرور بإضافة الظرف إليه وليس الظلم منحصرا فى التكذيب حتى يحتاج إلى الاعتذار بأن الترتيب الذكرى لا يجب كونه على وفق الترتيب الوقوعى كما فى قوله تعالى ورفع أبويه على العرش وخروا له الخ بل هو محمول على سائر أنواع الظلم والتكذيب مستفاد من قوله تعالى

وما كانوا ليؤمنوا على أبلغ وجه وآكده فإن اللام لتأكيد النفى أى وما صح وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم وخذلان اللّه تعالى إياهم لعلمه بأن الألطاف لا تنجع فيهم والجملة على الأول عطف على ظلموا لأنه إخبار بإحداث التكذيب وهذا بالإصرار عليه وعلى الثانى عطف على ما عطف عليه

وقيل اعتراض بين الفعل وما يجرى مجرى مصدره التشبيهى أعنى قوله تعالى

كذلك فإن الجزاء المشار إليه عبارة عن مصدره أى مثل ذلك الجزاء الفظيع أي الإهلاك الشديد الذى هو الاستئصال بالمرة

نجزى القوم المجرمين أى كل طائفة مجرمة وفيه وعيد شديد وتهديد أكيد لأهل مكة لاشتراكهم لأولئك المهلكين فى الجرائم والجرائر التى هي تكذيب الرسول والإصرار عليه وتقرير لمضمون ما سبق من قوله تعالى ولو يعجل اللّه للناس الشر استعجالهم بالخير وقرىء بالياء على الالتفات إلى الغيبة وقد جوز أن يكون المراد بالقوم المجرمين أهل مكة على طريقة وضع الظاهر موضع ضمير الخطاب إيذانا بأنهم أعلام فى الإجرام ويأباه كل الإباء قوله عز و جل

١٤

ثم جعلناكم خلائف فى الأرض من بعدهم فإنه صريح فى أنه ابتداء تعرض لأمورهم وأن ما بين فيه إنما هو مبادى أحوالهم لاختبار كيفيات أعمالهم على وجه يشعر باستمالتهم نحو الإيمان والطاعة فمحال أن يكون ذلك إثر بيان منتهى أمرهم وخطابهم ببت القول بإهلاكهم لكمال إجرامهم والمعنى ثم استخلفناكم فى الأرض من بعد إهلاك أولئك القرون التى تسمعون أخبارها وتشاهدون آثارها استخلاف من يختبر

لننظر أى لنعامل معاملة من ينظر

كيف تعملون فهى استعارة تمثيلية وكيف منصوب على المصدرية بتعملون لا بننظر فإن ما فيه من معنى الاستفهام مانع من تقدم عامله عليه أى أى عمل أو على الحالية أى على أى حال تعملون الأعمال اللائقة بالاستخلاف من أوصاف الحسن ك قوله عز وعلا ليبلوكم أيكم أحسن عملا ففيه إشعار بأن المراد بالذات والمقصود الأصلى من الاستخلاف إنما هو ظهور الكيفيات الحسنة للأعمال الصالحة

وأما الأعمال السيئة فبمعزل من أن تصدر عنهم لا سيما بعد ما سمعوا أخبار القرون المهلكة وشاهدوا آثار بعضها فضلا عن أن ينظم ظهورها فى سلك العلة الغائبة للاستخلاف

وقيل منصوب على أنه مفعول به أى أى عمل تعملون أخيرا أم شرا فنعاملكم بحسبه فلا يكون في كلمة كيف حينئذ دلالة على أن المعتبر فى الجزاء جهات الأعمال وكيفياتها لا ذواتها كما هو رأى القائل بل تكون حينئذ مستعارة لمعنى أى شىء

١٥

وإذا تتلى عليهم التفات من خطابهم إلى الغيبة إعراضا عنهم وتوجيها لخطاب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بتعديد جناياتهم المضادة لما أريد منهم بالاستخلاف من تكذيب الرسول والكفر بالآيات البينات وغير ذلك كدأب من قبلهم من القرون المهلكة وصيغة المضارع للدلالة على تجدد جوابهم الآتى حسب تجدد التلاوة

آياتنا الدالة على حقية التوحيد وبطلان الشرك والإضافة لتشريف المضاف والترغيب فى الإيمان به والترهيب عن تكذيبه

بينات حال كونها واضحات الدلالة على ذلك وإيراد فعل التلاوة مبنيا للمفعول مسندا إلى الآيات دون رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ببنائه للفاعل للإشعار بعدم الحاجة لتعين التالى وللإيذان بأن كلامهم فى نفس المتلو دون التالى

قال الذين لا يرجون لقاءنا وضع الموصول موضع الضمير إشعارا بعلية ما فى حيز الصلة للعظيمة المحكية عنهم وأنهم إنما اجترءوا عليها لعدم خوفهم من عقابه تعالى يوم اللقاء لإنكارهم له ولما هو من مباديه من البعث وذما لهم بذلك أى قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وإنما لم يذكر إيذانا بتعينه

ائت بقرآن غير هذا أشاروا بهذا إلى القرآن المشتمل على تلك الآيات لا إلى نفسها فقط قصدا إلى إخراج الكل من البين أى ائت بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث والحساب والجزاء وما نكرهه من ذم آلهتنا ومعايبها والوعيد على عبادتها

أو بدله بتغيير ترتيبه بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى خالية عنها وإنما قالوه كيدا وطمعا فى المساعدة ليتوسلوا به إلى الإلزام والاستهزاء به

قل لهم

ما يكون لى أى ما يصح وما يستقيم لى ولا يمكننى أصلا

أن أبدله من تلقاء نفسى أى من قبل نفسى وهو مصدر استعمل ظرفا وقرىء بفتح التاء وقصر الجواب ببيان امتناع ما اقترحوه على اقتراحهم الثانى للإيذان بأن استحالة ما اقترحوه أو لا من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها وأن التصدى لذلك مع كونه ضائعا ربما يعد من قبيل المجاراة مع السفهاء إذا لا يصدر مثل ذلك الاقتراح عن العقلاء ولأن ما يدل على استحالة الثانى يدل على استحالة الأول بالطريق الأولى

إن أتبع أى ما أتبع فى شىء مما آتى وأذر

إلا ما يوحى إلي من غير تغيير له فى شىء أصلا على معنى قصر حاله صلى اللّه عليه و سلم على اتباع ما يوحى إليه لا قصر اتباعه على ما يوحى إليه كما هو المتباد من ظاهر العبارة كأنه قيل ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلى وقد مر تحقيق المقام فى سورة الأنعام وهو تعليل لصدر الكلام فإن من شأنه اتباع الوحى على ما هو عليه لا يستبد بشىء دونه قطعا وفيه جواب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض ورد لما عرضوا به صلى اللّه عليه و سلم بهذا السوال من أن القرآن كلامه صلى اللّه عليه و سلم ولذلك قيد التبديل فى الجواب بقوله من تلقاء نفسى وسماه عصيانا عظيما مستتبعا لعذاب عظيم بقوله تعالى

إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم فإنه تعليل لمضمون ما قبله من امتناع التبديل واقتصار أمره صلى اللّه عليه و سلم على اتباع الوحى أى أخاف إن عصيته تعالى بتعاطى ما ليس لى من التبديل من تلقاء نفسى والإعراض عن اتباع الوحى عذاب يوم عظيم هو يوم القيامة أو يوم اللقاء الذى لا يرجونه وفيه إشعار بأنهم استوجبوه بهذا الاقتراح والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى اللّه عليه و سلم لتهويل أمر العصيان وإظهار كمال نزاهته صلى اللّه عليه و سلم عنه وإيراد اليوم بالتنوين التفخيمي ووصفه بالعظم لتهويل ما فيه من العذاب وتفظيعه ولا مساغ لحمل مقترحهم على التبديل والإتيان بقرآن آخر من جهة الوحى بتفسير قوله تعالى ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى بأنه لا يتسهل لى أن أبدله بالاستدعاء من جهة الوحى ما أتبع إلا ما يوحى إلي من غير صنع ما من الاستدعاء وغيره من قبلى لأنه يرده التعليل المذكور لا لأن المقترح حينئذ ليس فيه معصية أصلا كما توهم فإن استدعاء تبديل الآيات النازلة حسبما تقتضيه الحكمة التشعريعية بعضها ببعض لا سيما بموجب اقتراح الكفرة مما لا ريب فى كونه معصية بل لأنه ليس فيه معصية الافتراء مع أنها المقصودة بما ذكر في التعليل ألا يرى إلى ما بعده من الآيتين الكريمتين فإنه صريح فى أن مقترحهم الإتيان بغير القرآن وتبديله بطريق الافتراء وأن زعمهم فى الأصل أيضا كذلك وقوله عز و جل

١٦

قل لو شاء اللّه ما تلوته عليكم تحقيق لحقية القرآن وكونه من عند اللّه تعالى إثر بيان بطلان ما اقترحوا الإتيان به واستحالته عبارة ودلالة وإنما صدر بالأمر المستقل مع كونه داخلا تحت الأمر السابق إظهارا لكمال الإعتناء بشأنه وإيذانا باستقلاله مفهوما وأسلوبا فإنه برهان دال على كونه بأمر اللّه تعالى ومشيئته كما سيأتى وما سبق مجرد أخبار باستحالة ما اقترحوه ومفعول شاء محذوف ينبىء عنه الجزاءلا غير ذلك كما قيل فإن مفعلول المشيئة إنما يحذف إذا وقعتشرطا وكان مفعولها مضمون الجزاء ولم يكن في تعلقها به غرابة كما فى قوله

... ولو شئت أن أبكى دما لبكيته ...

حيث لم يحذف لفقدان الشرط الأخير ولأن المستلزم للجزاء أعنى عدم تلاوته صلى اللّه عليه و سلم للقرآن عليهم إنما هو مشيئته تعالى له لا مشيئته لغير القرآن والمعنى أن الأمر كله منوط بمشيئته تعالى وليس لى منه شىء قط ولو شاء عدم تلاوتى له عليكم لا بأن شاء عدم تلاوتى له من تلقاء نفسى بل بأن لم لنزله على ولم يأمرنى بتلاوته كما ينبىء عنه إيثار التلاوة على القراءة ما تلوته عليكم

ولا أدراكم به أى ولا أعلمكم به بواسطتى والتالى وهو عدم التلاوة والإدراء منتف فينتفى المقدم أعنى مشيئة عدم التلاوة ولا يخفى أنها مستلزمة لعدم مشيئة التلاوة قطعا فانتفاؤها مستلزم لانتفائه حتما وانتفاء عدم مشيئة التلاوة إنما يكون بتحقق مشيئة التلاوة فثبت أن تلاوته صلى اللّه عليه و سلم للقرآن بمشيئته تعالى وأمره وإنما قيدنا الإدراء بكونه بواسطته صلى اللّه عليه و سلم لأن عدم الإعلام مطلقا ليس من لوازم الشرط الذى هو مشيئة عدم تلاوته صلى اللّه عليه و سلم فلا يجوز نظمه فى سلك الجزاء وفى إسناد عدم الإدراء إليه تعالى المنبىء عن استناد الإدراء إليه تعالى إيذان بأن لا دخل له صلى اللّه عليه و سلم فى ذلك حسبما يقتضيه المقام وقرىء ولا أدرأتكم ولا أدرأكم بالهمزة فيهما على لغة من يقول أعطأت وأرضأت فى أعطيت وأرضيت أو على أنه من الدرء بمعنى الدفع أى ولا جعلتكم بتلاوته عليكم خصماء تدرءوننى بالجدال وقرىء ولا أنذرتكم به وقرىء لأدراكم بلام الجواب أى لو شاء اللّه ما تلوته عليكم أنا ولأعلمكم به على لسان غيرى على معنى إنه الحق الذى لا محيص عنه لو لم أرسل به أنا لأرسل به غيرى البتة أو على معنى أنه تعالى يمن على من يشاء فخصنى بهذه الكرامة

فقد لبثت فيكم عمرا تعليل للملازمة المستلزمة لكون تلاوته بمشيئة اللّه تعالى وأمره حسبما بين آنفا لكن لا بطريق الاستدلال عليها بعدم تلاوته صلى اللّه عليه و سلم فيما سبق بسبب مشيئته تعالى إياه بل بطريق الاستشهاد عليها بما شاهدوا منه صلى اللّه عليه و سلم فى تلك المدة الطويلة من الأمور الدالة على استحالة كون التلاوة من جهته صلى اللّه عليه و سلم بلا وحى وعمرا نصب على التشبيه بظرف الزمان والمعنى قد أقمت فيما بينكم دهرا مديدا مقدار أربعين سنة تحفظون تفاصيل أحوالى طرا وتحيطون بما لدى خبرا

من قبله أى من قبل نزول القرآن لا أتعاطى شيئا مما يتعلق به لا من حيث نظمه المعجز ولا من حيث معناه الكاشف عن أسرار الحقائق وأحكام الشرائع

أفلا تعقلون أى ألا تلاحظون ذلك فلا تعقلون امتناع صدوره عن مثلى ووجوب كونه منزلا من عند اللّه العزيز الحكيم فإنه غير خاف على من له عقل سليم والحق الذى لا محيد عنه أن من له أدنى مسكة من العقل إذا تأمل في أمره صلى اللّه عليه و سلم وأنه نشأ فيما بينهم هذا الدهر الطويل من غير مصاحبة العلماء فى شأن من الشئون ولا مراجعة إليهم فى فن من الفنون ولا مخالطة البلغاء فى المفاوضة والحوار ولا خوض معهم فى إنشاء الخطب والأشعار ثم أتى بكتاب بهرت فصاحته كل فصيح قائق وبذت بلاغته كل بليغ رائق وعلا نظمه كل منثور ومنظوم وحوى فحواه بدائع أصناف العلوم كاشف عن أسرار الغيب من وراء أستار الكمون ناطق بأخبار ما قد كان وما سيكون مصدق لما بين يديه من الكتب المنزلة مهيمن عليها فى أحكامها المجملة والمفصلة لا يبقى عنده شائب اشتباه فى أنه وحى منزل من عند اللّه هذا هو الذى اتفقت عليه كلمة الجمهور ولكن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على مجرد امتناع صدور التغيير والتبديل عنه صلى اللّه عليه و سلم لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم واقتصار حاله صلى اللّه عليه و سلم على اتباع الوحى وامتناع الاستبداد بالرأى من غير تعرض هناك ولا ههنا لكون القرآن فى نفسه أمرا خارجا عن طوق البشر ولا لكونه صلى اللّه عليه و سلم غير قادر على الإتيان بمثله أن يستشهد ههنا على المطلب بملا يلائم ذلك من أحواله المستمرة فى تلك الكدة المتطاولة من كمال نزاهته صلى اللّه عليه و سلم عما يوهم شائبة صدور الكذب والافتراء عنه فى حق أحد كائنا من كان كما ينبىء عنه تعقيبه بتظليم المفترى على اللّه تعالى والمعنى قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحى لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة فضلا عما فيه كذب أو افتراء ألا تلاحظون فلا تعقلون أن من هذا شأنه المطرد فى هذا العهد البعيد مستحيل أن يفترى على اللّه عز و جل ويتحكم على كافة الخلق بالأوامر والنواهى الموجبة لسلب الأموال وسفك الدماء ونحو ذلك وأن ما أتى به وحى مبين تنزيل من رب العالمين وقوله عز و جل

١٧

فمن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا استفهام إنكارى معناه الجحد أي لا أحد أظلم منه على معنى أنه أظلم من كل ظالم وإن كان سبك التركيب مفيدا لإنكار أن يكون أحد أظلم منه من غير تعرض لإنكار المساواة ونفيها فإنه إذا قيل من أفضل من فلان أولا أعلم منه يفهم منه حتما أنه أفضل من كل فاضل وأعلم من كل عالم وزيادة قوله تعالى كذبا مع أن الافتراء لا يكون إلا كذاك للإيذان بأن ما أضافوه إليه ضمنا وحملوه صلى اللّه عليه و سلم عليه صريحا مع كونه افتراء على اللّه تعالى كذب فى نفسه فرب افتراء يكون كذبه فى الإسناد فقط كما إذا أسند ذنب زيد إلى عمرو وهذا للمبالغة منه صلى اللّه عليه و سلم فى التفادى عما ذكر من الافتراء على اللّه سبحانه

أو كذب بآياته فكفر بها وهذا تظليم للمشركين بتكذيبهم للقرآن وحملهم على أنه من جهته صلى اللّه عليه و سلم والفاء لترتيب الكلام على ما سبق من بيان كون القرآن بمشيئته تعالى وأمره فلا مجال لحمل الافتراء على الافتراء باتخاذ الولد والشريك أى وإذا كان الأمر كذلك فمن افترى عليه تعالى بأن يختلق كلاما فيقول هذا من عند اللّه أو يبدل بعض آياته تعالى ببعض كما تجوزون ذلك فى شأنى وكذلك من كذب بآياته تعالى كما تفعلونه أظلم من كل ظالم

إنه الضمير للشأن وقع اسما لإن والخبر ما يعقبه من الجملة ومدار وضعه موضعه ادعاء شهرته المغنية عن ذكره وفائدة تصديرها به الإيذان بفخامة مضمونها مع ما فيه من زيادة تقريره فى الذهن فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه فيتمكن عند وروده عليه فضل تمكن فكأنه قيل إن الشأن هذا أى

لا يفلح المجرمون أى لا ينجون من محذور ولا يظفرون بمطلوب والمراد جنس المجرمين فيندرج فيه المفترى والمكذب إندراجا أوليا

١٨

ويعبدون من دون اللّه حكاية لجناية أخرى لهم نشأت عنها جنايتهم الأولى معطوفة على قوله تعالى وإذا تتلى عليهم الآية عطف قصة على قصة ومن دون متعلق بيعبدون ومحله النصب على الحالية من فاعله أى متجاوزين اللّه سبحانه لا بمعنى ترك عبادته بالكلية بل بمعنى عدم الاكتفاء بها وجعلها قرينا لعبادة الأصنام كما يفصح عنه سياق النطم الكريم ما لا يضرهم ولا ينفعهم أي ما ليس من شأنه الضر والنفع من الأصنام التى هى جمادات وما موصولة أو موصوفة وتقديم نفى الضرر لأن أدنى أحكام العبادة دفع الضرر الذى هو أول المنافع والعبادة أمر حادث مسبوق بالعدم الذى هو مظنة الضرر فحيث لم تقدر الأصنام على الضرر لم يوجد لإحداث العبادة سبب

وقيل لا يضرهم إن تركوا عبادتها ولا ينفعهم إن عبدوها كان أهل الطائف يعبدون اللات وأهل مكة عزى ومناة وهبل وأسافا ونائلة

ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه عن النضر بن الحرث إذا كان يوم القيامة يشفع لى اللات قيل إنهم كانوا يعتقدون أن المتولى لكل إقليم روح معين من أرواح الأفلاك

فعينوا لذلك الروح صنما معينا من الأصنام واشتغلوا بعبادته ومقصودهم ذلك الروح ثم اعتقدوا أن ذلك الروح يكون عند الإله الأعظم مشتغلا بعبوديته

وقيل إنهم كانوا يعبدون الكواكب فوضعوا لها أصناما معينة واشتغلوا بعبادتها قصدا إلى عبادة الكواكب

وقيل إنهم وضعوا طلسمات معينة على تلك الأصنام ثم تقربوا إليها

وقيل إنهم وضعوا هذه الأصنام على صور أنبيائهم وأكابرهم وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر يشفعون لهم عند اللّه تعالى

قل تبكيتا لهم

أتنبئون اللّه بما لا يعلم أى أتخبرونه بما لا وجود له أصلا وهو كون الأصنام شفعاءهم عند اللّه تعالى إذ لولاه لعلمه علام الغيوب وفيه تقريع لهم وتهكم بهم وبما يدعونه من المحال الذى لا يكاد يدخل تحت الصحة والإمكان وقرىء أتنبيون بالتخفيف وقوله تعالى

فى السموات ولا فى الأرض حال من العائد المحذوف فى يعلم مؤكدة للنفى لأن ما لا يوجد فيهما فهو منتف عادة

سبحانه وتعالى عما يشركون عن إشراكهم المستلزم لتلك المقالة الباطلة أو عن شركائهم الذين يعتقدونهم شفعاءهم عند اللّه تعالى وقرىء تشركون بتاء الخطاب على أنه من جملة القول المأمور به وعلى الأول هو اعتراض تذييلى من جهته سبحانه وتعالى

١٩

وما كان الناس إلا أمة واحدة بيان لأن التوحيد والإسلام ملة قديمة أجمعت عليها الناس قاطبة فطرة وتشريعا وأن الشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة خلافا للجمهور وشقا لعصا الجماعة

وأما حمل اتخاذهم على الاتفاق على الضلال عند الفترة واختلافهم على ما كان منهم من الاتباع والإصرار فمما لا احتمال له أى وما كان الناس كافة من أول الأمر إلا متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلاف وذلك من عهد آدم عليه الصلاة و السلام إلى أن قتل قابيل هابيل

وقيل إلى زمن إدريس عليه السلام

وقيل إلى زمن نوح عليه السلام

وقيل من حين الطوفان حين لم يذر اللّه من الكافرين ديارا إلى أن ظهر فيما بينهم الكفر

وقيل من لدن إبراهيم عليه الصلاة و السلام إلى أن أظهر عمرو بن لحى عبادة الأصنام فالمراد بالناس العرب خاصة وهو الأنسب بإيراد الآية الكريمة إثر حكاية ما حكى عنهم من الهنات وتنزيه ساحة الكبرياء عن ذلك

فاختلفوا بأن كفر بعضهم وثبت آخرون على ما هم عليه فخالف كل من الفريقين الآخر لا أن كلا منهما أحدث ملة على حدة من ملل الكفر مخالفة لملة الآخر فإن الكلام ليس فى ذلك الاختلاف إذ كل منهما مبطل حينئذ فلا يتصور أن يقضى بينهما بإبقاء المحق وإهلاك المبطل والفاء التعقيبية لا تنافى امتداد زمان الاتفاق إذ المراد بيان وقوع الاختلاف عقيب انصرام مدة الاتفاق لا عقيب حدوث الاتفاق

ولولا كلمة سبقت من ربك بتأخير القضاء بينهم أو بتأخير العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يوم الفصل

لقضى بينهم عاجلا

فيما فيه يختلفون بتمييز الحق من الباطل بإبقاء المحق وإهلاك المبطل وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية وللدلالة على الاستمرار

٢٠

ويقولون حكاية لجناية أخرى لهم معطوفة على قوله تعالى ويعبدون وصيغة المضارع لاستحضار صورة مقالتهم الشنعاء والدلالة على الاستمرار والقائلون أهل مكة

لولا أنزل عليه آية من ربه أرادوا آية من الآيات التى اقترحوها كأنهم لفرط العتو والفساد ونهاية التمادى فى المكابرة والعناد لم يعدوا البينات النازلة عليه صلى اللّه عليه و سلم من جنس الآيات واقترحوا غيرها مع أنه قد أنزل عليه من الآيات الباهرة والمعجزات المتكاثرة ما يضطرهم إلى الانقياد والقبول لو كانوا من أرباب العقول

فقل لهم فى الجواب

إنما الغيب للّه اللام للاختصاص العلمى دون التكوينى فإن الغيب والشهادة فى ذلك الاختصاص سيان والمعنى أن ما اقترحتموه وزعمتم أنه من لوازم النبوة وعلقتم إيمانكم بنزوله من الغيوب المختصة باللّه تعالى لا وقوف لى عليه

فانتظروا نزوله

إنى معكم من المنتظرين أى لما يفعل اللّه بكم لاجترائكم على مثل هذه العظيمة من جحود الآيات واقتراح غيرها وجعل الغيب عبارة عن الصارف عن إنزال الآيات المقترحة يأباه ترتيب الأمر بالانتظار على اختصاص الغيب به تعالى

٢١

وإذا أذقنا الناس رحمة صحة وسعة

من بعد ضراء مستهم أى خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم وإسناد المساس إلى الضراء بعد إسناد الإذاقة إلى ضمير الجلالة من الآداب القرآنية كما فى قوله تعالى وإذا مرضت فهو يشفين ونظائره قيل سلط اللّه تعالى على أهل مكة القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم بالحيا فطفقوا يطعنون فى آياته تعالى ويعادون رسوله صلى اللّه عليه و سلم ويكيدونه وذلك قوله تعالى

إذا لهم مكر فى آياتنا أى بالطعن فيها وعدم الاعتداد بها والاحتيال فى دفعها وإذا الأولى شرطية والثانية جوابها كأنه قيل فاجؤوا وقع المكر منهم وتنكير مكر للتفخيم وفى متعلقة بالاستقرار الذى يتعلق به اللام

قل اللّه أسرع مكرا أى أعجل عقوبة أى عذابه أسرع وصولا إليكم مما يأتى منكم فى دفع الحق وتسمية العقوبة بالمكر لوقوعها فى مقابلة مكرهم وجودا أو ذكرا

إن رسلنا الذين يحفظون أعمالكم والإضافة للتشريف

يكتبون ما تمكرون أى مكركم أو ما تمكرونه وهو تحقيق للانتقام منهم وتنبيه على أن ما دبروا فى إخفائه غير خاف على الحفظة فضلا عن العليم الخبير وصيغة الاستقبال في الفعلين للدلالة على الاستمرار التجددى والجملة تعليل من جهته تعالى لأسرعية مكره سبحانه غير داخل فى الكلام الملقن كقوله تعالى ولو جئنا بمثله مددا فإن كتابة الرسل لما يمكرون من مبادىء بطلان مكرهم وتخلف أثره عنه بالكلية وفيه من المبالغة ما لا يوصف وتلوين الخطاب بصرفه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إليهم للتشديد فى التوبيخ وقرىء على لفظ الغيبة فيكون حينئذ تعليلا لما ذكر أو للأمر

٢٢

هو الذى يسيركم كلام مستأنف مسوق لبيان جناية أخرى لهم مبنية على ما مر أنفا من اختلاف حالهم حسب اختلاف ما يعتريهم من السراء والضراء أى يمكنكم من السير تمكينا مستمرا عند الملابسة به وقبلها

فى البر مشاة وركبانا وقرىء ينشركم من النشر ومنه قوله عز و جل بشر تنتشرون

والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك أى السفن فإنه جمع فلك على زنة أسد جمع أسد لا على وزن قفل وغاية التسيير ليست ابتداء ركوبهم فيها بل مضمون الشرطية بتمامه كما ينبىء عنه إيثار الكون المؤذن بالدوام على الركوب المشعر بالحدوث

وجرين أى السفن

بهم بالذين فيها والالتفات إلى الغيبة للإيذان بما لهم من سوء الحال الموجب للإعراض عنهم كأنه يذكر لغيرهم مساوى أحوالهم ليعجبهم منها ويستدعى منه الإنكار والتقبيح

وقيل ليس فيه التفات بل معنى قوله تعالى حتى إذا كنتم فى الفلك إذا كان بعضكم فيها إذ الخطاب للكل ومنهم المسيرون فى البر فالضمير الغائب عائد إلى ذلك المضاف المقدر كما فى قوله تعالى أو كظلمات فى بحر لجى يغشاه أى أو كذى ظلمات يغشاه موج

بريح طيبة لينة الهبوب موافقة لمقصدهم

وفرحوا بها بتلك الريح لطيبها وموافقتها

جاءتها جواب إذا والضمير المنصوب للريح الطيبة أى تلقتها واستولت عليها من طرف مخالف لها فإن الهبوب على وفقها لا يسمى مجيئا لريح أخرى عادة بل هو اشتداد للريح الأولى

وقيل للفلك والأول أظهر لاستلزامه للثانى من غير عكس لأن الهبوب على طريقة الريح اللينة يعد مجيئا بالنسبة إلى الفلك دون الريح اللينة مع أنه لا يستتبع تلاطم الأمواج الموجب لمجيئها من كل مكان ولأن التهويل فى بيان استيلائها على ما فرحوا به وعلقوا به حبال رجائهم أكثر

ريح عاصف أى ذات عصف

وقيل العصوف مختص بالريح فلا حاجة إلى الفارق

وقيل الريح قد يذكر

وجاءهم الموج فى الفلك

من كل مكان أى من أمكنة مجىء الموج عادة ولا بعد فى مجيئه من جميع الجوانب أيضا إذ لا يجب أن يكون مجيئه من جهة هبوب الريح فقط بل قد يكون من غيرها بحسب أسباب تتفق له

وظنوا أنهم أحيط بهم أى هلكوا فإن ذلك مثل فى الهلاك أصله إحاطة العدو بالحى أو سدت عليهم مسالك الخلاص

دعوا اللّه بدل من ظنوا بدل اشتمال لما بينهما من الملابسة والتلازم أو استئناف مبنى على سؤال ينساق إليه الأذهان كأنه قيل فماذا صنعوا فقيل دعوا اللّه

مخلصين له الدين من غير أن يشركوا به شيئا من آلهتهم لا مخصصين للدعاء به تعالى فقط بل للعبادة أيضا فإنهم بمجرد تخصيص الدعاء به تعالى لا يكونون مخلصين له الدين

لئن أنجيتنا اللام موطئة للقسم على إرادة القول أى قائلين واللّه لئن أنجيتنا

من هذه الورطة

لنكونن البتة بعد ذلك أبدا

من الشاكرين لنعمك التى من جملتها هذه النعمة المسئولة

وقيل الجملة مفعول دعوا لأن الدعاء من قبيل القول والأول هو

الأولى لاستدعاء الثانى لاقتصار دعائهم على ذلك فقط وفى قوله لنكونن من الشاكرين من المبالغة فى الدلالة على كونهم ثابتين فى الشكر مثابرين عليه منتظمين في سلك المنعوتين بالشكر الراسخين فيه ما ليس فى أن يقال لنشكرن

٢٣

فلما أنجاهم مما غشيهم من الكربة والفاء للدلالة على سرعة الإجابة

إذا هم يبغون فى الأرض أى فاجئوا الفساد فيها وسارعوا إليه متراقين فى ذلك متجاوزين عما كانوا عليه من حدود العيث من قولهم بغى الجرح إذا ترامى فى الفساد وزيادة فى الأرض للدلالة على شمول بغيهم لأقطارها وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار وقوله تعالى

بغير الحق تأكير لما يفيده البغى أو معناه أنه بغير الحق عندهم أيضا بأن يكون ذلك ظلما ظاهرا لا يخفى قبحه على أحد كما في قوله تعالى ويقتلون النبيين بغير الحق

وأما ما قيل من أنه للاحتراز عن البغى بحق كتخريب الغزاة ديار الكفرة وقطع أشجارهم وإحراق زرعهم فلا يساعده النظم الكريم لابتنائه على كون البغى بمعنى إفساد صورة الشيء وإبطال منفعته دون ما ذكر من المعنى اللائق بحال المفسدين

يا أيها الناس توجيه للخطاب إلى أولئك الباغين للتشديد فى التهديد والمبالغة فى الوعيد

إنما بغيكم الذى تتعاطونه وهو مبتدأ وقوله تعالى

على أنفسكم خبره أى عليكم فى الحقيقة لا على الذين تبغون عليهم وإن ظن كذلك وقوله تعالى

متاع الحياة الدنيا بيان لكون ما فيه من المنفعة العاجلة شيئا غير معتد به سريع الزوال دائم الوبال وهو نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر بطريق الاستئناف أى تتمتعون متاع الحياة الدنيا

وقيل على أنه مصدر وقع موقع الحال أى متمتعين بالحياة الدنيا والعامل هو الاستقرار الذى فى الخبر لا نفس البغى لأنه يؤدى إلى الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر ولا يخبر عن الموصول إلا بعد تمام صلته وأنت خبير بأنه ليس فى تقييد كون بغيهم على أنفسهم بحال تمتعهم بالحياة الدنيا معنى يعتد به

وقيل على أنه ظرف زمان نحو مقدم الحاج أى زمن متاع الحياة الدنيا وفيه ما مر بعينه

وقيل على أنه مفعول لفعل دل عليه المصدر أى تبغون متاع الحياة الدنيا ولا يخفى أنه لا يدل على البغى بمعنى الطلب وجعل المصدر أيضا بمعناه مما يخل بجزالة النظم الكريم لأن الاستئناف لبيان سوء عاقبة ما حكى عنهم من البغى المفسر بالإفساد المفرط اللائق بحالهم فأى مناسبة بينه وبين البغى بمعنى الطلب وجعل الأول أيضا بمعناه مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه

وقيل على أنه مفعول له أى لأجل متاع الحياة الدنيا والعامل ما ذكر من الاستقرار وفيه أن المعلل بما ذكر نفس البغى لا كونه على أنفسهم

وقيل أنفسهم

وقيل العامل فيه فعل مدلول عليه بالمصدر أى تبغون لأجل متاع الحياة الدنيا على أن الجملة مستأنفة

وقيل على أنه مفعول صريح للمصدر وعلى أنفسكم ظرف لغو متعلق به والمراد بالأنفس الجنس والخبر محذوف لطول الكلام والتقدير إنما بغيكم على أبناء جنسكم متاع الحياة الدنيا محذورا أو ظاهر الفساد أو نحو ذلك وفيه ما مر من ابتنائه على ما لا يليق بالمقام من كون البغى بمعنى الطلب نعم لو جعل نصبه على العلة أى إنما بغيكم على أبناء جنسكم لأجل متاع الحياة الدنيا محذور كما اختاره بعضهم لكان له وجه فى الجملة لكن الحق الذى تقتضيه جزالة التنزيل إنما هو الأول وقرىء متاع بالرفع على أنه الخبر والظرف صلة للمصدر أو خبر ثان أو خبر لمبتدأ محذوف أى هو متاع الخ كما فى قوله تعالى إلا ساعة من نهار بلاغ أى هذا بلاغ فالمراد بأنفسهم على الوجه الأول أبناء جنسهم وإنما عبر عنهم بذلك هزا لشفقتهم عليهم وحثا لهم على ترك إيثار التمتع المذكور على حقوقهم ولا مجال للحمل على الحقيقة لأن كون بغيهم وبالا عليهم ليس بثابت عندهم حسبما يقتضيه ما حكى عنهم ولم يخبر به بعد حتى يجعل من تتمة الكلام ويجعل كونه متاعا مقصود الإفادة على أن عنوان كونه وبالا عليهم قادح فى كونه متاعا فضلا عن كونه من مبادىء ثبوته للمبتدأ كما هو المتبادر من السوق

وأما كون البغى على أبناء الجنس فمعلوم الثبوت عندهم ومتضمن لمبادى التمتع من أخذ المال والاستيلاء على الناس وغير ذلك

وأما على الوجهين الأخيرين فلا موجب للعدول عن الحقيقة فإن المبتدأ إما نفس البغى أو الضمير العائد إليه من حيث هو هو لا من حيث كونه وبالا عليهم كما فى صورة كون الظرف صلة للمصدر فتدبر وقرىء متاعا الحياة الدنيا أما نصب متاعا فعلى ما مر

وأما نصب الحياة فعلى أنه بدل من متاعا بدل اشتمال

وقيل على أنه مفعول به لمتاعا إذا لم يكن انتصابه على المصدرية لأن المصدر المؤكد لا يعمل عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال لا تمكر ولا تعن ماكرا ولا تبغ ولا تعن باغيا ولا تنكث ولا تعن ناكثا وكان يتلوها وقال محمد بن كعب ثلاث من كن فيه كن عليه البغى والنكث والمكر قال تعالى إنما بغيكم على أنفسكم وما يمكرون إلا بأنفسهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه وعنه صلى اللّه عليه و سلم أسرع الخير ثوابا صلة الرحم وأعجل الشر عقابا البغى واليمين الفاجرة وروى ثنتان يعجلهما اللّه تعالى فى الدنيا البغى وعقوق الوالدين وعن ابن عباس رضى اللّه تعالى عنهما لو بغى جبل على جبل لدك الباغى

ثم إلينا مرجعكم عطف على ما مر من الجملة المستأنفة المقدرة كأنه قيل تتمتعون متاع الحياة الدنيا ثم ترجعون إلينا وإنما غير السبك إلى الجملة الاسمية مع تقديم الجار والمجرور للدلالة على الثبات والقصر

فننبئكم بما كنتم تعملون فى الدنيا على الاستمرار من البغى وهو وعيد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت وفيه نكتة خفية مبنية على حكمة أبية وهى أن كل ما يظهر في هذه النشأة من الأعيان والأعراض فإنما يظهر بصورة مغايرة لصورته الحقيقية التي بها يظهر في النشأة الآخرة فإن المعاصي مثلا سموم قاتلة قد برزت في الدنيا بصورة تستحسنها نفوس العصاة وكذا الطاعات مع كونها أحسن الأحاسن قد ظهرت عندهم بصور مكروهة ولذلك قال صلى اللّه عليه و سلم حفت الجبة بالمكاره وحفت النار بالشهوات فالبغى فى هذه النشأة وإن برز بصورة تشتهيها البغاة وتستحسنها الغواة لتمتعهم به من حيث أخذ المال والتشفى من الأعداء ونحو ذلك لكن ذلك ليس بتمتع فى الحقيقة بل هو تضرر من حيث لا يحتسبون وإنما يظهر لهم ذلك عند إبراز ما كانوا يعملونه من البغى بصورة الحقيقة المضادة لما كانوا يشاهدونه على ذلك من الصورة وهو المراد بالتنبئة المذكورة واللّه سبحانه وتعالى أعلم

٢٤

إنما مثل الحياة الدنيا كلام مستأنف مسوق لبيان شأن الحياة الدنيا وقصر مدة التمتع بها وقرب زمان الرجوع الموعود وقد شبه حالها العجيبة الشأن البديعة المثال المنتظمة لغرابتها فى سلك الأمثال فى سرعة تقضيها وانصرام نعيمها غب إقبالها واغترار الناس بها بحال ما على الأرض من أنواع النبات فى زوال رونقها ونضارتها فجأة وذهابها حطاما لم يبق لها أثر أصلا بعد ما كانت غضة طرية قد التف بعضها ببعض وزينت الأرض بألوانها وتقوت بعد ضعفها بحيث طمع الناس وظنوا أنها سلمت من الجوائح وليس المشبه به ما دخله الكاف فى قوله عز و جل

كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض بل ما يفهم من الكلام فإنه من التشبيه المركب

مما يأكل الناس والأنعام من البقول والزروع والحشيش

حتى إذا أخذت الأرض زخرفها جعلت الأرض فى تزينها بما عليها من أصناف النباتات وأشكالها وألوانها المختلفة المونقة آخذة زخرفها على طريقة التمثيل بالعروس التى قد خذت من ألوان الثياب والزين فتزينت بها وازينت أصله تزينت فأدغم وقرىء على الأصل وقرىء

وأزينت كأغيلت من غير إعلال والمعنى صارت ذات زينة وازيانت كابياضت

وظن أهلها أنهم قادرون عليها متمكنون من حصدها ورفع غلتها

أتاها أمرنا جواب إذا أى ضرب زرعها ما يجتاحه من الآفات والعاهات

ليلا أو نهارا فجعلناها أى زرعها وساء ما عليها

حصيدا أى شبيها بما حصد من أصله

كأن لم تغن كأن لم يغن زرعها والمضاف محذوف للمبالغة وقرىء بتذكير الفعل

بالأمس أى فيما قبل بزمان قريب فإن الأمس مثل فى ذلك كأنه قيل لم تغن آنفا

كذلك أى مثل ذلك التفصيل البديع

نفصل الآيات أى الآيات القرآنية التى من جملتها هذه الآيات المنبهة على أحوال الحياة الدنيا أى نوضحها ونبينها

لقوم يتفكرون فى تضاعيفها ويقفون على معانيها وتخصيص تفصيلها بهم لأنهم المنتفعون بها ويجوز أن يراد بالآيات ما ذكر فى أثناء التمثيل من الكائنات والفاسدات وبتفصيلها تصريفها على الترتيب المحكى إيجادا وإعداما فإنها آيات وعلامات يستدل بها من يتفكر فيها على أحوال الحياة الدنيا حالا ومآلا

٢٥

واللّه يدعو إلى دار السلام ترغيب للناس فى الحياة الأخروية الباقية إثر ترغيبهم عن الحياة الدنيا الفانية أى يدعو الناس جميعا إلى دار السلامة عن كل مكروه وآفة وهى الجنة وإنما ذكرت بهذا الاسم لذكر الدنيا بما يقابله من كونها معرضا للآفات أو إلى دار اللّه تعالى وتخصيص الإضافة التشريفية بهذا الاسم الكريم للتنبيه على ذلك أو إلى دار يسلم اللّه أو الملائكة فيها على من يدخلها أو يسلم بعضهم على بعض

ويهدى من يشاء هدايته منهم

إلى صراط مستقيم موصل إليها وهو الإسلام والتزود بالتقوى وفى تعميم الدعوة وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة وأن من أصر على الضلالة لم يرد اللّه رشده

٢٦

للذين أحسنوا أى أعمالهم أى عملوها على الوجه اللائق وهو حسنها الوصفى المستلزم لحسنها الذاتى وقد فسره رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بقوله أن تعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك

الحسنى أى المثوبة الحسنى

وزيادة أى وما يزيد على تلك المثوبة تفضلا لقوله عز اسمه ويزيدهم من فضله

وقيل الحسنى مثل حسناتهم والزيادة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وأكثر

وقيل الزيادة مغفرة من اللّه ورضوان

وقيل الحسنى الجنة والزيادة اللقاء

ولا يرهق وجوههم أى لا يغشاها

قتر غبرة فيها سواد

ولا ذلة أى أثر هوان وكسوف بال والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار أو لا يرهقهم ما يوجب ذلك من الحزن وسوء الحال والتنكير للتحقير أى شىء منهما والجملة مستأنفة لبيان أمنهم من المكاره إثر بيان فوزهم بالمطالب والثانى وإن اقتضى الأول إلا أنه ذكر إذكارا بما ينقذهم اللّه تعالى منه برحمته وتقديم المفعول على الفاعل للإهتمام ببيان أن المصون من الرهق أشرف أعضائهم وللتشويق إلى المؤخر فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مترقبة لوروده فعند وروده عليها يتمكن عندها فضل تمكن ولأن فى الفاعل ضرب تفصيل كما فى قوله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وقوله عز و جل وجاءك فى هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين

أولئك إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بالصفات المذكورة وما فى اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وسمو طبقتهم أى أولئك الموصوفون بما ذكر من النعوت الجميلة الفائزون بالمثوبات الناجون عن المكاره

أصحاب الجنة هم فيها خالدون بلا زوال دائمون بلا انتقال

٢٧

والذين كسبوا السيئات أى الشرك والمعاصى وهو مبتدأ بتقدير المضاف خبره قوله تعالى

جزاء سيئة بمثلها أى جزاء الذين كسبوا السيئات أن يجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها كما يزاد فى الحسنة وتغيير السبك حيث لم يقل وللذين كسبوا السيئات السوأى لمراعاة ما بين الفريقين من كمال التنائى والتباين وإيراد الكسب للإيذان بأن ذلك إنما هو لسوء صنيعهم وبسبب جنايتهم على أنفسهم أو الموصول معطوف على الموصول الأول كأنه قيل وللذين كسبوا السيئات جزاء بسيئة مثلها كقولك فى الدار زيد والحجرة عمرو وفيه دلالة على أن المراد بالزيادة الفضل

وترهقهم ذلة وأى ذلة كما ينبىء عنه التنوين التفخيمى وفى إسناد الرهق إلى أنفسهم دون وجوههم إيذان بأنها محيطة بهم غاشية لهم جميعا وقرىء يرهقهم بالياء التحتانية ما

لهم من دون اللّه من عاصم أى لا يعصمهم أحد من سخطه وعذابه تعالى أو ما لهم من عنده تعالى من يعصمهم كما يكون للمؤمنين وفى نفى العاصم من المبالغة فى نفى العصمة ما لا يخفى والجملة مستأنفة أو حال من ضمير ترهقهم

كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل لفرط سوادها وظلمتها مظلما حال من الليل والعامل فيه أغشيت لأنه العامل فى قطعا وهو موصوف بالجار والمجرور والعامل فى الموصوف عامل فى الصفة أو معنى الفعل فى من الليل وقرىء

قطعا بسكون الطاء وهو طائفة من الليل قال

... افتحى الباب وانظرى فى النجوم ... كم علينا من قطع ليل بهيم ...

فيجوز كون مظلما صفة له أو حالا منه وقرىء كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم والجملة كما قبلها مستأنفة أو حال من ضمير ترهقهم

أولئك أى الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة

أصحاب النار هم فيها خالدون وحيث كانت الآية الكريمة فى حق الكفار بشهادة السياق والسباق لم يكن فيها تمسك للوعيدية

٢٨

ويوم نحشرهم كلام مستأنف مسوق لبيان بعض أخر من أحوالهم الفظيعة وتأخيره فى الذكر مع تقدمه فى الوجود على بعض أحوالهم المحكية سابقا للإيذان باستقلال كل من السابق واللاحق بالاعتبار ولو روعى الترتيب الخارجى لعد الكل شيئا واحدا كما مر فى قصة البقرة ولذلك فصل عما قبله ويوم منصوب على المفعولية بمضمر أى أنذرهم أو ذكرهم وضمير نحشرهم لكلا الفريقين الذي أحسنوا والذين كسبوا السيئات لأنه المتبادر من قوله تعالى

جميعا ومن إفراد الفريق الثانى بالذكر فى قوله تعالى

ثم نقول للذين أشركوا أى نقول للمشركين من بينهم ولأن توبيخهم وتهديدهم على رءوس الأشهاد أفظع والإخبار بحشر الكل فى تهويل اليوم أدخل وتخصيص وصف إشراكهم بالذكر فى حيز الصلة من بين سائر ما اكتسبوه من السيئات لابتناء التوبيخ والتقريع عليه مع ما فيه من الإيذان بكونه معظم جناياتهم وعمدة سيئاتهم

وقيل للفريق الثانى خاصة فيكون وضع الموصول موضع الضمير لما ذكر آنفا

مكانكم نصب على أنه فى الأصل ظرف لفعل أقيم مقامه لا على أنه اسم فعل وحركته حركة بناء كما هو رأى الفارسى أى ألزموه حتى تنظروا ما يفعل بكم

أنتم تأكيد للضمير المنتقل إليه من عامله لسده مسده

وشركاؤكم عطف عليه وقرىء بالنصب على أن الواو بمعنى مع

فزيلنا من زلت الشىء عن مكانه أزيله أى أزلته والتضعيف للتكثير لا للتعدية وقرىء فزايلنا بمعناه نحو كلمته وكالمته وهو معطوف على نقول وإيثار صيغة الماضى للدلالة على التحقق الموروث لزيادة التوبيخ والتحسير والفاء للدلالة على وقوع التزييل ومباديه عقيب الخطاب من غير مهلة إيذانا بكمال رخاوة ما بين الفريقين من العلاقة والوصلة أى ففرقنا بينهم وقطعنا أقرانهم والوصل التي كانت بينهم في الدنيا لكن لا من الجانبين بل من جانب العبدة فقط لعدم احتمال شمول الشركاء للشياطين كما سيجىء فخابت آمالهم وانصرمت عرى أطماعهم وحصل لهم اليأس الكلى من حصول ما كانوا يرجونه من جهتهم والحال وإن كانت معلومة لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب لكن هذه المرتبة من اليقين إنما حصلت عند المشاهدة والمشافهة وقيل المراد بالتزييل التفريق الحسى أى فباعدنا بينهم بعد الجمع في الموقف وتبرؤ شركائهم منهم ومن عبادتهم كما في قوله أينما كنتم تشركون من دون اللّه قالوا ضلوا عنا فالواو حينئذ في قوله تعالى

وقال شركاؤهم حالية بتقدير كلمة قد عند من يشترطها وبدونه عند غيره لا عاطفة كما في التفسير الأول لاستدعاء المحاورة المحاضرة الفائتة بالمباعدة وليس في ترتيب التزييل بهذا المعنى على الأمر بلزوم المكان ما فى ترتيبه عليه بالمعنى الأول من النكتة المذكورة ليصار لأجل رعايتها إلى تغيير الترتيب الخارجي فإن المباعدة بعد المحاورة حتما و أما قطع الأقران والعلائق فليس كذلك بل ابتداؤه حاصل من حين الحشر بل بعض مراتبه حاصل قبله أيضا وإنما الحاصل عند المحاورة أقصاها كما أشير إليه فلا اعتداد بما في تقديمه من التغيير لا سيما مع رعاية ما ذكر من النكتة ولو سلم تأخر جميع مراتبه عن المحاورة فمراعاة تلك النكتة كافية في استدعاء تقديمه عليها ويجوز أن تكون حالية على هذا التقدير أيضا والمراد بالشركاء قيل الملائكة وعزيز والمسيح وغيرهم ممن عبدوه من أولى العلم ففيه تأييد لرجوع الضمير إلى الكل وقولهم

ما كنتم إيانا تعبدون عبارة عن تبرئهم من عبادتهم وأنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم وشياطينهم الذين أغووهم لأنها الآمرة لهم بالإشراك دونهم كقولهم سبحانك أنت ولينا من دونهم الآية

وقيل الأصنام ينطقها اللّه الذى أنطق كل شىء فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التى كانوا يتوقعونها

٢٩

فكفى باللّه شهيدا بيننا وبينكم فإنه العليم الخبير

إن كنا عن عبادتكم لغافلين أي عن عبادتكم لنا وتركه للظهور وللإيذان بكمال الغفلة عنها والغفلة عبارة عن عدم الارتضاء وإلا فعدم شعور الملائكة بعبادتهم لهم غير ظاهر وهذا يقطع احتمال كون المراد بالشركاء الشياطين كما قيل فإن ارتضاءهم بإشراكهم مما لا ريب فيه وإن لم يكونوا مجبرين لهم على ذلك وإن مخففة من إن واللام فارقة هنالك أى في ذلك المقام الدهش أو فى ذلك الوقت على استعارة ظرف المكان للزمان تبلو أي تختبر وتذوق كل نفس مؤمنة كانت أو كافرة سعيدة أو شقية ما أسلفت من العمل وتعاينه بكنهه مستتبعا لآثاره من نفع أو ضر وخير أو شر

وأما ما علمت من حالها من حين الموت والابتلاء بالعذاب في البرزخ فأمر مجمل وقرىء نبلو بنون العظمة ونصب كل وإبدال ما منه أى نعاملها معاملة من يبلوها ويتعرف أحوالها من السعادة والشقاوة باختبار ما أسلفت من العمل ويجوز أن يراد نصيب بالبلاء أى العذاب عاصية بسبب ما أسلفت من الشر فيكون ما منصوبة بنزع الخافض وقرئ تتلو أى تتبع لأن عملها هو الذى يهديها إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار أو تقرأ في صحيفة أعمالها ما قدمت من خير أو شر وردوا الضمير للذين أشركوا على أنه معطوف على زيلنا وما عطف عليه قوله عز و جل

٣٠

هنالك تبلو الخ اعتراض في أثناء الحكاية مقرر لمضمونها

إلى اللّه أى إلى جزائه وعقابه

مولاهم ربهم

الحق أى المتحقق الصادق ربوبيته لا ما اتخذوه ربا باطلا وقرئ الحق بالنصب على المدح كقولهم الحمد للّه أهل الحمد للّه أهل الحمد أو على المصدر المؤكد

وضل عنهم وضاع أى ظهر ضياعه وضلاله لا أنه كان قبل ذلك غير ضال أو ضل فى اعتقادهم أيضا

ما كانوا يفترون من أن آلهتهم تشفع لهم أو ما كانوا يدعون أنها آلهة هذا وجعل الضمير في ردوا للنفوس المدلول عليها بكل نفس على أنه معطوف على تبلو وأن العدول إلى الماضى للدلالة على التحقق والتقرر وأن إيثار صيغة الجمع للإيذان بأن ردهم إلى اللّه يكون على طريقة الاجتماع لا يلائمه التعرض لوصف الحقية فى قوله تعالى مولاهم الحق فإنه للتعريض بالمردودين حسبما أشير إليه ولئن اكتفى فيه بالتعريض ببعضهم أو حمل الحق على معنى العدل في الثواب والعقاب فقوله عز و جل وضل عنهم ما كانوا يفترون مما لا مجال فيه للتدارك قطعا فإن ما فيه من الضمائر الثلاثة للمشركين فيلزم التفكيك حتما وتخصيص كل نفس بالنفوس المشركة مع عموم البلوى للكل يأ باه مقام تهويل المقام واللّه تعالى أعلم

٣١

قل أى لأولئك المشركين الذين حكيت أحوالهم وبين ما يؤدى إليه أعمالهم احتجاجا على حقية التوحيد وبطلان ما هم عليه من الإشراك

من يرزقكم من السماء والأرض أى منهما جميعا فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية ومواد أرضية أو من كل واحدة منهما توسعة عليكم

وقيل من لبيان كلمة من على حذف المضاف أى من أهل السماء والأرض

أم من يملك السمع والأبصار أم منقطعة وما فيها من كلمة بل للإضراب عن الاستفهام الأول لكن لا على طريقة الإبطال بل على وجه الانتقال وصرف الكلام عنه إلى استفهام آخر تنبيها على كفايته فيما هو المقصود أى من يستطيع خلقهما وتسويتهما على هذه الفطرة العجيبة أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالهما من أدنى شيء يصيبهما

ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى أى ومن يحيى ويميت أو ومن ينشىء الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان

ومن يدبر الأمر أى ومن يلي تدبير أمر العالم جميعا وهو تعميم بعد تخصيص بعض ما اندرج تحته من الأمور الظاهرة بالذكر

فسيقولون بلا تلعثم ولا تأخير

اللّه إذ لا مجال للمكابرة لغاية وضوحه والخبر محذوف أى اللّه يفعل ما ذكر من الأفاعيل لا غيره فقل عند ذلك تبكيتا لهم أفلا تتقون الهمزة لإنكار عدم الاتقاء بمعنى إنكار الواقع كما فى أتضرب أباك لا بمعنى إنكار الوقوع كما فى أأضرب أبى والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أى أتعلمون ذلك فلا تقون أنفسكم عذابه الذى ذكر لكم بما تتعاطونه من إشراككم به ما لا يشاركه في شىء مما ذكر من خواص الإلهية

٣٢

فذلكم فذلكة لما تقدم أى ذلكم الذى اعترفتم باتصافه بالنعوت المذكورة وهو مبتدأ وقوله تعالى

اللّه خبره وقوله تعالى

ربكم أي مالككم ومتولي أموركم على الإطلاق بدل منه أو بيان له وقوله تعالى

الحق صفة له أي ربكم الثابت ربوبيته والمتحقق ألوهيته تحققا لاريب فيه فماذا يجوز أن يكون الكل اسما واحدا قد غلب فيه الاستفهام على اسم الإشارة وأن يكون ذا موصولا بمعنى الذى أى ما الذى بعد الحق أى غيره بطريق الاستعارة وإظهار الحق إما لأن المراد به غير الأول

وأما لزيادة التقرير ومراعاة كمال المقابلة بينه وبين الضلال والاستفهام إنكارى بمعنى إنكار الوقوع ونفيه أى ليس غير الحق

إلا الضلال الذى لا يختاره أحد فحيث ثبت أن عبادة من هو منعوت بما ذكر من النعوت الجميلة حق ظهر أن ما عداها من عبادة الأصنام ضلال محض إذ لا واسطة بينهما وإنما سميت ضلالا مع كونها من أعمال الجوارح باعتبار ابتنائها على ما هو ضلال من الاعتقاد والرأى هذا على تقدير كون الحق عبارة عن التوحيد

وأما علي تقدير كونه عبارة عن الأول فالمراد بالضلال هو الأصنام لا عبادتها والمعنى فماذا بعد الرب الحق الثابت ربوبيته إلا الضلال أى الباطل الضائع المضمحل وإنما سمى بالمصدر مبالغة كأنه نفس الضلال والضياع وهذا أنسب بقوله تعالى وضل عنهم ما كانوا يفترون على التفسير الثاني

فأنى تصرفون استفهام إنكارى بمعنى إنكار الواقع واستبعاده والتعجيب منه وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكار إلى نفس الفعل لأن كل موجود لا بد من أن يكون وجوده على حال من الأحوال قطعا فإذا انتفى جميع أحوال وجوده فقد انتفى وجوده علي الطريق البرهانى كما مر مرارا والفاء لترتيب الإنكار على ما قبله أي كيف تصرفون من الحق الذى لا محيد عنه وهو التوحيد إلى الضلال عن السبيل المستبين وهو الإشراك وعبادة الأصنام أو من عبادة ربكم الحق الثابت ربوبيته إلى عبادة الباطل الذى سمعتم ضلاله وضياعه فى الآخرة وفى إيثار صيغة المبنى للمفعول إيذان بأن الانصراف من الحق إلى الضلال مما لا يصدر عن العاقل بإرادته وإنما يقع عند وقوعه بالقسر من جهة صارف خارجى

٣٣

كذلك أى كما حقت الربوبية للّه تعالى أو كما أنه ليس بعد الحق إلا الضلال أو أنهم مصروفون عن الحق

حقت كلمة ربك وحكمه وقضاؤه على الذين فسقوا أى تمردوا في الكفر وخرجوا من أقصى حدوده

أنهم لا يؤمنون بدل الكلمة من أو تعليل لحقيتها والمراد بها العدة بالعذاب

٣٤

قل هل من شركائكم احتجاج آخر على حقية التوحيد وبطلان الإشراك بإظهار كون شركائهم بمعزل من استحقاق الإلهية ببيان اختصاص خواصها من بدء الخلق وإعادته به سبحانه وتعالى وإنما لم يعطف على ما قبله إيذانا باستقلاله في إثبات المطلوب والسؤال للتبكيت والإلزام وقد جعلت عليه الإعادة وتحققها لوضوح مكانها وسنوح برهانها بمنزلة بدء الخلق فنظمت في سلكه حيث قيل

من يبدأ الخلق ثم يعيده إيذانا بتلازمهما وجودا وعلما يستلزم الاعتراف بها وإن صدهم عن ذلك ما بهم من المكابرة والعناد ثم أمر صلى اللّه عليه و سلم بأن يبين لهم من يفعل ذلك فقيل له

قل اللّه يبدأ الخلق ثم يعيده أى هو يفعلهما لا غير كائنا ما كان لا بأن ينوب صلى اللّه عليه و سلم عنهم فى ذلك كما قيل لأن القول المأمور به غير ما أريد منهم من الجواب وإن كان مستلزما له إذ ليس المسئول عنه من يبدأ الخلق ثم يعيده كما فى قوله تعالى قل من رب السموات والأرض قل اللّه حتى يكون القول المأمور به عين الجواب الذى أريد منهم ويكون صلى اللّه عليه و سلم نائبا عنهم فى ذلك بل إنما هو وجود من يفعل البدء والإعادة من شركائهم فالجواب المطلوب منهم لا لا غير نعم أمر صلى اللّه عليه و سلم بأن يضمنه مقالته إيذانا بتعينه وتحققه وإشعارا بأنهم لا يجترءون على التصريح به مخافة التبكيت وإلقام الحجر لا مكابرة ولجاجا فتدبر وإعادة الجملة فى الجواب بتمامها غير محذوفه الخبر كما فى الجواب السابق لمزيد التأكيد والتحقيق

فأنى تؤفكون الإفك الصرف والقلب عن الشىء وقد يخص بالقلب عن الرأى وهو الآنسب بالمقام أى كيف تقلبون من الحق إلي الباطل والكلام فيه كما ذكر في تصرفون

٣٥

 قل هل من شركائكم احتجاج آخر على ما ذكر جيء به إلزاما لهم غب إلزام وإفحاما إثر إفحام وفصله عما قبله لما ذكر من الدلالة على استقلاله

من يهدى إلى الحق أى بوجه من الوجوه فإن أدنى مراتب المعبودية هداية المعبود لعبدته إلى ما فيه صلاح أمرهم

وأما تعيين طريق الهداية وتخصيصه بنصب الحجج وإرسال الرسل والتوفيق للنظر والتدبر كما قيل فمخل بما يقتضيه المقام من كمال التبكيت والإلزام فإن العجز عن الهداية على وجه خاص لا يستلزم العجز عن مطلق الهداية وهدى كما يستعمل بكلمة إلى لتضمنه معنى الانتهاء يستعمل باللام للدلالة على أن المنتهى غاية الهداية وأنها لم تتوجه نحوه على سبيل الاتفاق ولذلك استعمل بها ما أسند إلى اللّه تعالى حيث قيل

قل اللّه يهدى للحق أى هو يهدى له دون غيره وذلك بما ذكر من نصب الأدلة والحجج وإرسال الرسل وإنزال الكتب والتوفيق للنظر والتدبر وغير ذلك من فنون الهدايات والكلام فى الأمر بالسؤال والجواب كما مر فيما مر

أفمن يهدى إلى الحق وهو اللّه عز و جل

أحق أن يتبع أمن لا يهدى بكسر الهاء أصله يهتدى فأدغم وكسرت الهاء لالقتاء الساكنين وقرىء بكسر الياء اتباعا لها لحركة الهاء وقرئ بفتح الهاء نقلا لحركة التاء إليها أى لا يهتدى بنفسه فضلا عن هداية غيره وفيه من المبالغة ما لا يخفي وإنما نفى عنه الاهتداء مع أن المفهوم مما سبق نفى الهداية لما أن نفيها مستتبع لنفيه غالبا فإن من اهتدى إلى الحق لا يخلو عن هداية غيره فى الجملة وأدناها كونه قدوة له بأن يراه فيسلك مسلكه من حيث لا يدرى والفاء لترتيب الاستفهام على ما سبق من تحقق هدايته تعالى صريحا وعدم هداية شركائهم المفهوم من القصر ومن عدم الجواب المنبىء عن الجواب بالعدم فإن ذلك مما يضطرهم إلى الجواب الحق لا لتوجيه الاستفهام إلى الترتيب كما يقع فى بعض المواقع فإن ذلك مختص بالإنكارى كما فى قوله تعالى أفمن أتبع رضوان اللّه الخ ونحوه والهمزة متأخرة فى الاعتبار وإنما تقديمها فى الذكر لإظهار عراقتها فى اقتضاء الصدارة كما هو رأى الجمهور حتى لو كان السؤال بكلمة أى لأخرت حتما ألا يرى إلى قوله تعالى فأى الفريقين أحق بالأمن إثر تقدير ما يلجىء المشركين إلى الجواب من حالهم وحال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وقرىء لا يهدى بمعنى لا يهتدى لمجيئه لازما أو لا يهدي غيره وصيغة التفضيل إما على حقيقتها والمفضل عليه محذوف كما اختاره مكى والتقدير أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع ممن لا يهدى أم من لا يهدى أحق الخ

وأما بمعني حقيق كما اختاره أبو حيان وأيا ما كان فالاستفهام للإلزام وأن يتبع فى حيز النصب أو الجر بعد حذف الجار علي الخلاف المعروف أى بأن يتبع

إلا أن يهدى استثناء مفرغ من أعمى الأحوال أى لايهتدى أولا يهدى غيره فى حال من الأحوال إلا حال هدايته تعالى له إلي الاهتداء أو إلى هداية الغير وهذا حال إشراف شركائهم من الملائكة والمسيح وعزيز عليهم السلام

وقيل المعنى أم من لا يهتدى من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن ينتقل إليه أو إلا أن ينقله اللّه تعالى من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا فيهديه وقرئ إلا أن يهدى من التفعيل للمبالغة

فما لكم أى أى شيء لكم في اتخاذكم هؤلاء شركاء للّه سبحانه وتعالى والاستفهام للإنكار التوبيخي وفيه تعجيب من حالهم وقوله تعالى

كيف تحكمون أى بما يقضى صريح العقل ببطلانه إنكار لحكمهم الباطل وتعجب منه وتشنيع لهم بذلك والفاء لترتيب كلا الإنكارين على ما ظهر من وجوب اتباع الهادى إلى الحق إن قلت التبكيت بالاستفهام السابق إنما يظهر فى حق من يعكس جوابه الصحيح فيحكم بأحقية من لا يهدى بالاتباع دون من يهدى وهم ليسوا حاكمين بأحقية شركائهم لذلك دون اللّه سبحانه وتعالى بل باستحقاقهما جميعا مع رجحان جانبه تعالى حيث يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه قلت حكمهم باستحقاقه تعالى للاتباع بطريق الاشتراك حكم منهم بعدم استحقاقه تعالى لذلك بطريق الاستقلال فصاروا حاكمين باستحقاق شركائهم له دون اللّه تعالى من حيث لا يحتسبون

٣٦

وما يتبع أكثرهم كلام مبتدأ غير داخل في حيز الأمر مسوق من قبله تعالى لبيان عدم فهمهم لمضمون ما أفحمهم وألقمهم الحجر من البرهان النير الموجب لاتباع الهادى إلى الحق الناعى عليهم بطلان حكمهم وعدم تأثرهم من ذلك لعدم اهتدائهم إلى طريق العلم أصلا أن ما يتبع أكثرهم فى معتقداتهم ومحاوراتهم إلا ظنا واهيا من غير التفات إلى فرد من أفراد العلم فضلا عن أن يسلكوا مسالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحق المبنية على المقدمات اليقينية الحقة فيفهموا مضمونها ويقفوا على صحتها وبطلان ما يخالفها من أحكامهم الباطلة فيحصل التبكيت والإلزام فالمراد بالاتباع مطلق الاعتقاد الشامل لما يقارن القبول والانقياد وما لا يقارنه وبالقصر ما أشير إليه من أن لا يكون لهم فى أثنائه اتباع لفرد من أفراد العلم والتفات إليه ووجه تخصيص هذا الاتباع بأكثرهم الإشعار بأن بعضهم قد يتبعون العلم فيقفون على حقية التوحيد وبطلان الشرك لكن لا يقبلونه مكابرة وعنادا فيحصل بالنسبة إليهم التأثر من البرهان المزبور وإن لم يظهروه وكونهم أشد كفرا وأكثر من الفريق الأول لا يقدح فيما يفهم من فحوى الكلام عرفا من كون أولئك أسوأ حالا من غيرهم إذ المعتبر سوء الحال من حيث الفهم والإدراك لا من حيث الكفر والعذاب أو ما يتبع أكثرهم مدة عمرهم إلا ظنا ولا يتركونه أبدا فإن حرف النفى الداخل على المضارع يفيد استمرار النفى بحسب المقام فالمراد بالاتباع حينئذ هو الإذعان والانقياد والقصر باعتبار الزمان ووجه تخصيص هذا الاتباع بأكثرهم مع مشاركة المعاندين لهم في ذلك التلويح بما سيكون من بعضهم من اتباع الحق والتوبة كما سيأتى هذا وقد قيل المعنى وما يتبع أكثرهم فى إقرارهم باللّه تعالى إلا ظنا غير مستند إلى برهان عندهم

وقيل وما يتبع أكثرهم فى قولهم للأصنام أنها آلهة إلا ظنا والمراد بالأكثر الجميع فتأمل

وقيل الضمير فى أكثرهم للناس فلا حاجة إلى التكليف

إن الظن لا يغنى من الحق من العلم اليقينى والاعتقاد الصحيح المطابق للواقع

شيئا من الإغناء ويجوز أن يكون مفعولا به ومن الحق حالا منه والجملة استئناف ببيان شأن الظن وبطلانه وفيه دلالة على وجوب العلم فى الأصول وعدم جواز الاكتفاء بالتقليد

إن اللّه عليم بما يفعلون وعيد لهم على أفعالهم القبيحة فيندرج تحتها ما حكى عنهم من الإعراض عن البراهين القاطعة والاتباع للظنون الفاسدة اندراجا أوليا وقرئ تفعلون بالالتفات إلى الخطاب لتشديد الوعيد

٣٧

وما كان هذا القرآن شروع فى بيان ردهم للقرآن الكريم إثر بيان ردهم للأدلة العقلية المندرجة فى تضاعيفه أى وما صح وما استقام أن يكون هذا القرآن المشحون بفنون الهدايات المستوجبة للاتباع التى من جملتها هاتيك الحجج البينة الناطقة بحقية التوحيد وبطلان الشرك

أن يفترى من دون اللّه أى افتراء من الخلق أى مفترى منهم سمى بالمصدر مبالغة

ولكن تصديق الذى بين يديه من الكتب الإلهية المشهود على صدقها أى مصدقا لها كيف لا وهو لكونه معجزا دونها عيار عليها شاهد بصحتها ونصبه بأنه خبر كان مقدرا وقد جوز كونه علة لفعل محذوف تقديره لكن أنزله اللّه تصديق الخ وقرئ بالرفع على تقدير المبتدأ أى ولكن هو تصديق الخ

وتفصيل الكتاب عطف عليه نصبا ورفعا أى وتفصيل ما كتب وأثبت من الحقائق والشرائع

لاريب فيه خبر ثالث داخل فى حكم الاستدراك أى منتفيا عنه الريب أو حال من الكتاب وإن كان مضافا إليه فإنه مفعول فى المعنى أو استئناف لا محل له من الإعراب

من رب العالمين خبر آخر أى كائنا من رب العالمين أو متعلق بتصديق أو بتفصيل أو بالفعل المعلل بهما ولا ريب فيه اعتراض كما فى قولك زيد لا شك فيه كريم أو حال من الكتاب أو من الضمير فى فيه ومساق الآية الكريمة بعد المنع عن اتباع الظن لبيان ما يجب اتباعه

٣٨

أم يقولون افتراه أى بل أيقولون افتراه محمد صلى اللّه عليه و سلم والهمزة لإنكار الواقع واستبعاده

قل تبكيتا لهم وإظهارا لبطلان مقالتهم الفاسدة إن كان الأمر كما تقولون

فأتوا بسورة مثله أى فى البلاغة وحسن الصياغة وقوة المعنى على وجه الافتراء فإنكم مثلى فى العربية والفصاحة وأشد تمرنا منى فى فى النظم والعبارة وقرئ بسورة مثله على الإضافة أى بسورة كتاب مثله

وادعوا للمظاهرة والمعاونة

من استطعتم دعاءه والاستعانة به من آلهتكم التى تزعمون أنها ممدة لكم فى المهمات والملمات ومدارهكم الذين تلجئون إلى آرائهم فى كل ما تأتون وما تذرون

من دون اللّه متعلق بادعوا ودون جار مجرى أداة الاستثناء وقد مر تفصيله فى قوله تعالى وادعوا شهداءكم من دون اللّه أى ادعوا سواه تعالى من استطعتم من خلقه فإنه لا يقدر عليه أحد وإخراجه سبحانه من حكم الدعاء للتنصيص على براءتهم منه تعالى وكونهم فى عدوة المضادة والمشاقة لا لبيان استباده تعالى بالقدرة على ما كلفوه فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه

إن كنتم صادقين أى فى أنى افتريته فإن ذلك مستلزم لإمكان الإتيان بمثله وهو أيضا مستلزم لقدرتكم عليه والجواب محذوف لدلالة المذكور عليه

٣٩

بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا فى حق القرآن العظيم بالتحدى إلى إظهاره ببيان أنه كلام ناشىء عن جهلهم بشأنه الجليل فما عبارة عن كله لا عما فيه من ذكر البعث والجزاء وما يخالف دينهم كما قيل فإنه مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن مثله أى سارعوا إلى تكذيبه آثر ذى أثير من غير أن يتدبروا فيه ويقفوا على ما فى تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه كما وصف آنفا ويعلموا أنه ليس مما يمكن أن يكون له نظير يقدر عليه المخلوق والتعبير عنه بما لم يحيطوا بعلمه دون أن يقال بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه أو نحو ذلك للإيذان بكمال جهلهم به وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدم العلم به وبأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم علمهم به لما أن إدارة الحكم على الموصول مشعرة بعلية ما فى حيز الصلة له ولما يأتهم تأويله عطف على الصلة أو حال من الموصول أى ولم يقفوا بعد على تأويله ولم يبلغ أذهانهم معانيه الرائقة المنبئة عن علو شأنه والتعبير عن ذلك بإتيان التأويل للإشعار بأن تأويله متوجه إلى الأذهان منساق إليها بنفسه أو لم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يتبين أنه صدق أم كذب والمعنى أن القرآن معجز من جهة النظم والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب وهم قد فاجئوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفكروا فى معناه أو ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة ونفى إتيان التأويل بكلمة لما الدالة علي التوقع بعد نفى الإحاطة بعلمه بكلمة لم لتأكيد الذم وتشديد التشنيع فإن الشناعة فى تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع إتيانه أفحش منها فى تكذيبه قبل علمه مطلقا والمعنى أنه كان يجب عليهم أن يتوقفوا إلى زمان وقوع المتوقع فلم يفعلوا

وأما أن المتوقع قد وقع بعد وأنهم استمروا عند ذلك أيضا على ما هم عليه أولا فلا تعرض له ههنا والاستشهاد عليه بعدم انقطاع الذم أو ادعاء أن قولهم افتراه تكذيب بعد التدبر ناشىء من عدم التدبر فتدبر كيف لا وهم لم يقولوه بعد التحدى بل قبله وادعاء كونه مسبوقا بالتحدى الوارد فى سورة البقرة يرده أنها مدنية وهذه مكية وإنما الذى يدل عليه ما سيتلى عليك من قوله تعالى ومنهم من يؤمن به ومنهم الخ وقوله تعالى

كذلك الخ وصف لحالهم المحكي وبيان لما يؤدى إليه من العقوبة أى مثل ذلك التكذيب المبنى على بادى الرأى والمجازفة من غير تدبر وتأمل

كذب الذين من قبلهم أى فعلوا التكذيب أو كذبوا ما كذبوا من المعجزات التى ظهرت على أيدى أنبيائهم أو كذبوا أنبياءهم

فانظر كيف كان عاقبة الظالمين وهم الذين من قبلهم من المكذبين وإنما وضع المظهر موضع المضمر للإيذان بكون التكذيب ظلما أو بعليته لإصابة ما أصابهم من سوء العاقبة وبدخول هؤلاء الظالمين فى زمرتهم جرما ووعيدا دخولا أوليا وقوله عز و جل

٤٠

ومنهم الخ وصف لحالهم بعد إتيان التأويل المتوقع إذا حينئذ يمكن تنويعهم إلى المؤمن به وغير المؤمن ضرورة امتناع الإيمان بشىء من غير علم به واشتراك الكل فى التكذيب والكفر به قبل ذلك حسبما أفاده قوله تعالى بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه أي ومن هؤلاء المكذبين

من يؤمن به عند الإحالة بعلمه وإتيان تأويله وظهور حقيته بعدما سعوا فى المعارضة ورازوا قواهم فيها فتضاءلت دونها أو بعد ما شاهدوا وقوع ما أخبر به كما أخبر به مرارا ومعنى الإيمان به إما الاعتقاد بحقيته فقط أى يصدق به فى نفسه ويعلم أنه حق ولكنه يعاند ويكابر وهؤلاء هم الذين أشير بقصر اتباع الظن على أكثرهم إلى أنهم يعلمون الحق على التفسير الأول كما أشير إليه فيما سلف

وأما الإيمان الحقيقى أى سيؤمن به ويتوب عن الكفر وهم الذين أشير بالقصر المذكور على التفسير الثاني إلى أنهم سيتبعون الحق كما مر

ومنهم من لا يؤمن به أى لا يصدق به فى نفسه كما لا يصدق ظاهرا لفرط غباوته المانعة عن الإحاطة بعلمه كما ينبغي وإن كان فوق مرتبة عدم الإحاطة به أصلا أو لسخافة عقله واختلال تمييزه وعجزه عن تخليص علومه عن مخالطة الظنون والأوهام التى ألفها فيبقى على ما كان عليه من الشك وهذا القدر من الإحاطة وإتيان التأويل كاف في مقابلة ما سبق من عدم الإحاطة بالمرة وهؤلاء هم الذين أريدوا فيما سلف بقوله عز و جل وما يتبع أكثرهم إلا ظنا علي التفسير الأول أولا لا يؤمنوا به فيما سيأتى بل يموت على كفره معاندا كان أو شاكا وهم المستمرون على اتباع الظن على التفسير الثاني من غير إذعان للحق وانقياد له

وربك أعلم بالمفسدين أى بكلا الفريقين على الوجه الأول لا بالمعاندين فقط كما قيل لاشتراكهما فى أصل الإفساد المستدعى لاشتراكهما فى الوعيد أو بالمصرين الباقين على الكفر علي الوجه الثانى من المعاندين والشاكين

٤١

وإن كذبوك أى إن تموا على تكذيبك وأصروا عليه حسبما أخبر عنهم بعد إلزام الحجة بالتحدي

فقل لى عملى ولكم عملكم أى تبرأ منهم فقد أعذرت كقوله تعالي فإن عصوك فقل إنى برىء والمعنى لى جزاء عملى ولكم جزاء عملكم حقا كان أو باطلا وتوحيد العمل المضاف إليهم باعتبار الاتحاد النوعى ولمراعاة كمال المقابلة

أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعلمون تأكيد لما أفادته لام الاختصاص من عدم تعدى جزاء العمل إلى غير عامله أى لا تؤاخذون بعملى ولا أؤاخذ بعملكم ولما فيه من إيهام المتاركة وعدم التعرض لهم قيل إنه منسوخ بآية السيف

٤٢

ومنهم من يستمعون إليك بيان لكونهم مطبوعا على قلوبهم بحيث لا سبيل إلى إيمانهم وإنما جمع الضمير الراجع إلى كلمة من رعاية لجانب المعنى كما أفرد فيما سيأتى محافظة على ظاهر اللفظ ولعل ذلك للإيماء إلى كثرة المستمعين بناء على عدم توقف الاستماع على ما يتوقف عليه النظر من المقابلة وانتفاء الحجاب والظلمة أى ومنهم ناس يستمعون إليك عند قراءتك القرآن وتعليمك الشرائع

أفانت تسمع الصم همزة الاستفهام إنكارية والفاء عاطفة وليس الجمع بينهما لترتيب إنكار الإسماع على الاستماع كما هو رأى سيبويه والجمهور على أن يجعل تقديم الهمزة على الفاء لاقتضائها الصدارة كما تقرر فى موضعه بل لإنكار ترتبه عليه حسبما هو المعتاد لكن لا بطريق العطف على الفعل المذكور لأدائه إلى اختلال المعنى لأنه إما صلة أو صفة وأياما كان فالعطف عليه يستدعى دخول المعطوف فى حيزه وتوجه الإنكار إليه من تلك الحيثية ولا ريب فى فساده بل بطريق العطف على مقدر مفهوم من فحوى النظم كأنه قيل أيستمعون إليك فأنت تسمعهم لا إنكار لاستماعهم فإنه أمر محقق بل إنكارا لوقوع الاستماع عقيب ذلك وترتبه عليه حسب العادة الكلية بل نفيا لإمكانه أيضا كما ينبىء عنه وضع الصم موضع ضميرهم ووصفهم بعدم العقل بقوله تعالى

ولو كانوا لا يعقلون أى ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم لأن الأصم العاقل ربما تفرس إذا وصل إلى صماخه صوت

وأما إذا اجتمع فقدان السمع والعقل جميعا فقد تم الأمر

٤٣

ومنهم من ينظر إليك ويعاين دلائل نبوتك الواضحة

أفأنت أى أعقيب ذلك أنت تهديهم وإنما قيل

تهدى العمى تربية لإنكار هدايتهم وإبرازا لوقوعها فى معرض الاستحالة وقد أكد ذلك حيث قيل

ولو كانوا لا يبصرون أى ولو انضم إلي عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الإبصار الاعتبار والاستبصار والعمدة فى ذلك هى البصيرة ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطن لما لا يدركه البصير الأحمق فحيث اجتمع فيهم الحمق والعمى فقد انسد عليهم باب الهدى وجواب لو في الجملتين محذوف لدلالة قوله تعالى تسمع الصم أو تهدى العمى عليه وكل وكل منهما معطوفة على جملة مقدرة مقابلة لها فى الفحوى كلتاهما فى موضع الحال من مفعول الفعل السابق أى أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون أفانت تهدى العمى لو كانوا يبصرون ولو كانوا لا يبصرون أى على كل حال مفروض وقد حذفت الأولى فى الباب حذفا مطردا لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة فإن الشيء إذا تحقق عند تحقق المانع أو المانع القوى فلأن يتحقق عند عدمه أو عند تحقق المانع الضعيف أولى وعلي هذه النكتة يدور ما فى لو وإن الوصليتين من التأكيد وقد مر الكلام فى قوله تعالى ولو كره الكافرون ونظائره مرارا

٤٤

إن اللّه لا يظلم الناس إشارة إلى أن ما حكى عنهم من عدم اهتدائهم إلى طريق الحق وتعطل مشاعرهم من الإدراك ليس لأمر مستند إلى اللّه عزوجل من خلقهم مؤفى المشاعر ونحو ذلك بل إنما هو من قبلهم أى لا ينقصهم

شيئا مما نيط به مصالحهم الدينية والدنيوية وكمالاتهم الأولوية والأخروية من مبادى إدراكاتهم وأسباب علومهم من المشاعر الظاهرة والباطنة والإرشاد إلى الحق بإرسال الرسل وإنزال الكتب بل يوفيهم ذلك من غير إخلال بشىء أصلا

ولكن الناس وقرىء بالتخفيف ورفع الناس وضع الظاهر موضع الضمير لزيادة تعيين وتقرير أى لكنهم بعدم استعمال مشاعرهم فيما خلقت له وإعراضهم عن قبول دعوة الحق وتكذيبهم للرسل والكتب

أنفسهم يظلمون أى ينقصون ما ينقصون مما يخلون به من مبادى كما لهم وذرائع اهتدائهم وإنما لم يذكر لما أن مرمى الغرض إنما هو قصر الظلم على أنفسهم لا بيان ما يتعلق به الظلم والتعبير عن فعلهم بالنقص مع كونه تفويتا بالكلية وإبطالا بالمرة لمراعاة جانب قرينته وقوله عز و جل أنفسهم إما تأكيد للناس فيكون بمنزلة ضمير الفصل فى قوله تعالى وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين فى قصر الظالمية عليهم

وأما مفعول ليظلمون حسبما وقع فى سائر المواقع وتقديمه عليه لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأى من لا يرى التقديم موجبا للقصر فيكون كما فى قوله تعالى وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم من غير قصد للظلم لا على الفاعل ولا على المفعول

وأما على على رأى من يراه موجبا له فلعل إيثار قصرها دون قصر الظالمية عليهم للمبالغة فى بيان بطلان أفعالهم وسخافة عقولهم لما أن أقبح الأمرين عند اتحاد الفاعل والمفعول وأشدهما إنكارا عند العقل ونفرة لدى الطبع وأوجبهما حذرا منه عند كل أحد هو المظلومية لا الظالمية على أن قصر الأولى عليهم مسلتزم لما يقتضيه ظاهر الحال من قصر الثانية عليهم ضرورة أنه إذا لم يظلم أحد من الناس إلا نفسه يلزم أن لا يظلمه إلا نفسه إذ لو ظلمه غيره يلزم كون ذلك الغير ظالما لغير نفسه والمفروض أن لا يظلم أحد إلا نفسه فاكتفى بالقصر الأول عن الثانى مع رعاية ما ذكر من الفائدة وصيغة المضارع للاستمرار نفيا وإثباتا فإن حرف النفى إذا دخل على المضارع يفيد بحسب المقام استمرار النفى لا نفى الاستمرار ألا يرى أن قولك ما زيدا ضربت يدل على اختصاص النفى لا على نفى الاختصاص ومساق الآية الكريمة لإلزام الحجة ويجوز أن يكون للوعيد فالمضارع المنفى للاستقبال والمثبت للاستمرار والمعنى أن اللّه لا يظلمهم بتعذيبهم يوم القيامة شيئا من الظلم ولكنهم أنفسهم يظلمون ظلما مستمرا فإن مباشرتهم المستمرة للسيئات الموجبة للتعذيب عين ظلمهم لأنفسهم وعلى الوجهين فالآية الكريمة تذييل لما سبق

٤٥

ويوم يحشرهم منصوب بمضمر وقرئ بالنون على الالتفات أى اذكر لهم أو أنذرهم يوم يحشرهم

كأن لم يلبثوا أى كأنهم لم يلبثوا

إلا ساعة من النهار أى شيئا قليلا منه فإنها مثل فى غاية القلة وتخصيصها بالنهار لأن ساعاته أعرف حالا من ساعات الليل والجملة فى موقع الحال من ضمير المفعول أى يحشرهم مشبهين فى أحوالهم الظاهرة للناس بمن لم يلبث فى الدنيا ولم يتقلب فى نعيمها إلا ذلك القدر اليسير فإن من أقام بها دهرا وتمتع بمتاعها لا يخلو عن بعض آثار نعمة وأحكام بهجة منافية لما بهم من رثاثة الهيئة وسوء الحال أو بمن لم يلبث فى البرزخ إلا ذلك المقدار ففائدة التقييد بيان كمال يسر الحشر بالنسبة إلى قدرته تعالى ولو بعد دهر طويل وإظهار بطلان استبعادهم وإنكارهم بقولهم أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ونحو ذلك أو بيان تمام الموافقة بين النشأتين فى الأشكال والصور فإن قلة اللبث فى البرزح من موجبات عدم التبدل والتغير فيكون  قوله عز وعلا

يتعارفون بينهم بيانا وتقريرا له لأن التعارف مع طول العهد ينقلب تناكرا وعلى الأول يكون استئنافا أى يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا وذلك أول ما خرجوا من القبور إذ هم حينئذ على ما كانوا عليه من الهيئة المتعارفة فيما بينهم ثم ينقطع التعارف بشدة الأهوال المذهلة واعتراء الأحوال المعضلة المغيرة للصور والأشكال المبدلة لها من حال إلى حال

قد خسر الذين كذبوا بلقاء اللّه شهادة من اللّه سبحانه وتعالى على خسرانهم وتعجب منه

وقيل حال من ضمير يتعارفون على إرادة القول والتعبير عنهم بالموصول مع كون المقام مقام إضمار لذمهم بما فى حيز الصلة والإشعار بعليته لما أصابهم والمراد بلقاء اللّه إن كان مطلق الحساب والجزاء أو حسن اللقاء فالمراد بالخسران الوضيعة والمعنى وضعوا فى تجاراتهم ومعاملاتهم واشترائهم الكفر بالإيمان والضلالة بالهدى ومعنى قوله تعالى

وما كانوا مهتدين ما كانوا عارفين بأحوال التجارة مهتدين لطرقها وإن كان سوء اللقاء فالخسار الهلاك والضلال أى قد ضلوا وهلكوا بتكذيبهم وما كانوا مهتدين إلى طريق النجاة

٤٦

وأما نرينك أصله إن نرك وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ومن ثمة أكد الفعل بالنون أى بنصرتك بأن نظهر لك

بعض الذى نعدهم أى وعدناهم من العذاب ونعجله فى حياتك فتراه والعدول إلى صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة أو للدلالة على التجدد والاستمرار أى نعدهم وعدا متجددا حسبما تقتضيه الحكمة من إنذار غب إنذار وفى تخصيص البعض بالذكر رمزا إلى العدة بإراءة بعض الموعود وقد أراه يوم بدر

أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا مرجعهم أى كيفما دارات الحال أريناك بعض ما وعدناهم أولا

فإلينا مرجعهم فى الدنيا والآخرة فنتجز ما وعدناهم البتة

 وقيل المذكور جواب للشرط الثانى كأنه قيل فإلينا مرجعهم فنريكه فى الآخرة وجواب الأول محذوف لظهوره أى فذاك

ثم اللّه شهيد على ما يفعلون من الأفعال السيئة التى حكيت عنهم والمراد بالشهادة إما مقتضاها ونتيجتها وهى معاقبته تعالى إياهم

وأما إقامتها وأداؤها بإنطاق الجوارح وإظهار اسم الجلالة لادخال الروعة وتربية المهابة وتأكيد التهديد وقرئ ثمة إى هناك

٤٧

ولكل أمة من الأمم الخالية

رسول يبعث إليهم بشريعة خاصة مناسبة لأحوالهم ليدعوهم إلى الحق

فإذا جاء رسولهم فبلغهم ما أرسل به فكذبوه وخالفوه

قضى بينهم أى بين كل أمة ورسولها

بالقسط بالعدل وحكم بنجاة الرسول والمؤمنين به وهلاك المكذبين كقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا

وهم لا يظلمون فى ذلك القضاء المستوجب لتعذيبهم لأنه من نتائج أعمالهم أو ولكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والايمان كقوله عز و جل وجىء بالنبيين والشهداء وقضى بينهم

٤٨

ويقولون متى هذا الوعد استعجالا لما وعدوا من العذاب على طريقة الاستهزاء به والإنكار حسبما يرشد إليه الجواب لا طلبا لتعيين وقت مجيئه على وجه الإلزام كما فى سورة الملك

إن كنتم صادقين أى فى أنه يأتينا والخطاب للرسول صلى اللّه عليه و سلم والمؤمنين الذين يتلون عليهم الآيات المتضمنة للوعد المذكور وجواب الشرط محذوف اعتمادا على ما تقدم حسبما حذف فى مثل قوله تعالى فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين فإن الاستعجال فى قوة الأمر بالإتيان عجلة كأنه قيل فليأتنا عجلة إن كنتم صادقين ولما فيه من الإشعار بكون إتيانه بواسطة النبي صلى اللّه عليه و سلم قيل

٤٩

قل لا أملك لنفسى ضرا ولا نفعا أى لا أقدر على شىء منهما بوجه من الوجوه وتقديم الضر لما أن مساق النظم لإظهار العجز عنه

وأما ذكر النفع فلتوسيع الدائرة تكملة للعجز وما وقع فى سورة الأعراف من تقديم النفع للإشعار بأهميته والمقام مقامه والمعنى إنى لا أملك شيئا من شئونى ردا وإيرادا مع أن ذلك أقرب حصولا فكيف أملك شئونكم حتى أتسبب فى إتيان عذابكم الموعود

إلا ما شاء اللّه استثناء منقطع أى ولكن ما شاء اللّه كائنا وحمله على الاتصال علي معنى إلا ما شاء اللّه أن أملكه يأباه مقام التبرؤ من أن يكون له عليه السلام دخل فى إتيان الوعد فإن ذلك يستدعيى بيان كون المتنازع فيه مما لا يشاء اللّه أن يملكه عليه السلام وجعل ما عبارة عن بعض الأحوال المعهودة المنوطة بالأفعال الاختيارية المفوضة إلى العباد على أن يكون المعنى لا أملك لنفسي شيئا من الضر والنفع إلا ما شاء اللّه أن أملكه منهما من الضر والنفع المترتبين على أفعالى الاختيارية كالضر

والنفع المترتبين على الأكل والشرب عدما ووجودا تعسف ظاهر وقوله تعالى

لكل أمة أجل بيان لما أبهم فى الاستثناء وتقييد لما فى القضاء السابق من الإطلاق المشعر بكون المقضى به أمرا منجزا غير متوقف على شىء غير مجىء الرسول وتكذيب الأمة أى لكل أمة أمة ممن قضى بينهم وبين رسولهم أجل معين خاص بهم لا يتعدى إلى أمة أخرى مضروب لعذابهم يحل بهم عند حلوله

إذا جاء أجلهم إن جعل الأجل عبارة عن حد معين من الزمان فمعنى مجيئه ظاهر وإن أريد به ما امتد إليه من الزمان فمجيئه عبارة عن انقضائه إذ هناك يتحقق مجيئه بتمامه والضمير إن جعل للأمم المدلول عليها بكل أمة فإظهار الأجل مضافا إليه لإفادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بعينها من بين الأمم بواسطة اكتساب الأجل بالإضافة عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل إذا جاءهم آجالهم بأن يجيء كل واحدة من تلك الأمم أجلها الخاص بها وإن جعل لكل أمة خاصة كما هو الظاهر فالإظهار فى موقع الإضمار لزيادة التقرير والإضافة إلى الضمير لإفادة كمال التعيين أى إذا جاءها أجلها الخاص بها

فلا يستأخرون عن ذلك الأجل

ساعة أى شيئا قليلا من الزمان فإنها مثل فى غاية القلة منه أى لا يتأخرون عنه أصلا وصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له

ولايستقدمون أى لا يتقدمون عليه وهو عطف على يستأخرون لكن لا لبيان انتفاء التقدم مع إمكانه فى نفسه كالتأخر بل للمبالغة فى انتفاء التأخر بنظمه فى سلك المستحيل عقلا كما فى قوله سبحانه وتعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار فإن من مات كافرا مع ظهور أن لا توبة له رأسا قد نظم فى عدم قبول التوبة فى سلك من سوفها إلى حضور الموت إيذانا بتساوى وجود التوبة حينئذ وعدمها بالمرة كما مر فى سورة الأعراف وقد جوز أن يراد بمجىء الأجل دنوه بحيث يمكن التقدم فى الجملة كمجىء اليوم الذى ضرب لهلاكهم ساعة معينة منه لكن ليس فى تقييد عدم الاستئخار بدنوه مزيد فائدة وتقديم بيان انتفاء الاستئخار على بيان انتفاء الاستقدام لأن المقصود الأهم بيان عدم خلاصهم من العذاب ولو ساعة وذلك بالتأخر

وأما ما فى قوله تعالى ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون من سبق السبق فى الذكر فلما أن المراد هناك بيان سر تأخير عذابهم مع استحقاقهم له حسبما ينبىء عنه قوله عز و جل ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون فالأهم إذ ذاك بيان انتفاء السبق كما ذكر هناك

٥٠

قل لهم غب ما بينت كيفية جريان سنة اللّه عز و جل فيما بين الأمم على الإطلاق ونبهتهم على أن عذابهم أمر مقرر محتوم ولا يتوقف إلا على مجىء أجله المعلوم إيذانا بكمال دنوه وتنزيلا له منزلة إتيانه حقيقة

أرأيتم أى أخبرونى

إن أتاكم عذابه الذى تستعجلون به

بياتا أى وقت بيات واشتغال بالنوم

أو نهارا أى عند اشتغالكم بمشاغلكم حسبما عين لكم من الأجل بمقتضى المشيئة التابعة للحكمة كما عين لسائر الأمم المهلكة وقوله عز و جل

ماذا يستعجل منه المجرمون جواب للشرط بحذف الفاء كما في قولك إن أتيتك ماذا تطعمنى والمجرمون موضوع موضع المضمر لتأكيد الإنكار ببيان مباينة حالهم

للاستعجال فإن حق المجرم أن يهلك فزعا من إتيان العذاب فضلا عن استعجاله والجملة الشرطية متعلقة بأرأيتم والمعنى أخبرونى إن أتاكم عذابه تعالى أى شىء تستعجلون منه سبحانه والشىء لا يمكن استعجاله بعد إتيانه والمراد به المبالغة فى إنكار استعجاله بإخراجه من حيز الإمكان وتنزيله فى الاستحالة منزلة استعجاله بعد إتيانه بناء على تنزيل تقرر إتيانه ودنوه منزلة إتيانه حقيقة كما أشير إليه وهذا الإنكار بمنزلة النهى فى  قوله عز وعلا أتى أمر اللّه فلا تستعجلوه خلا أن التنزيل هناك صريح وهنا ضمني كما فى قول من قال لغريمه الذى يتقضاه حقه أرأيت إن أعطيتك حقك فماذا تطلب منى يريد المبالغة فى إنكار التقاضى بنظمه فى سلك التقاضى بعد الإعطاء بناء على تنزيل تقرره منزلة نفسه وقوله عز و جل

٥١

أثم إذا ما وقع آمنتم به إنكار لإيمانهم بنزول العذاب بعد وقوعه حقيقة داخل مع ما قبله من إنكار استعجالهم به بعد إتيانه حكما تحت القول المأمور به أى أبعد ما وقع العذاب وحل بكم حقيقة آمنتم به حين لا ينفعكم الإيمان إنكارا لتأحيره إلى هذا الحد وإيذانا باستتباعه للندم والحسرة ليقلعوا عما هم عليه من العناد ويتوجهوا نحو التدارك قبل فوت الوقت فتقديم الظرف للقصر

وقيل ماذا يستعجل منه متعلق بأرايتم وجواب الشرط محذوف أى تندموا علي الاستعجال أو تعرفوا خطأه والشرطية اعتراض مقرر لمضمون الاستخبار

وقيل الجواب قوله تعالى أثم إذا ما وقع الخ والاستفهامية الأولى اعتراض والمعنى أخبرونى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان ثم جىء بكلمة التراخي دلالة على الاستبعاد ثم زيد أداة الشرط دلالة على استقلاله بالاستبعاد على أن الأول كالتمهيد له وجىء بإذا مؤكد بما ترشيحا لمعنى الوقوع وزيادة للتجهيل وأنهم لم يومنوا إلا بعد أن لم ينفعهم الإيمان البتة وقوله تعالى

آلآن استئناف من جهته تعالى غير داخل تحت القول الملقن مسوق لتقرير مضمون ما سبق على إرادة القول أى قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به إنكارا للتأخير وتوبيخا عليه ببيان أنه لم يكن ذلك لعدم سبق الإنذار به ولا للتأمل والتدبر فى شأنه ولا لشىء آخر مما عسى يعد عذرا فى التأخير بل كان ذلك على طريق التكذيب والاستعجال به على وجه الاستهزاء وقرىء آلان بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وقوله تعالى

وقد كنتم به تستعجلون أى تكذيبا واستهزاء جملة وقعت حالا من فاعل آمنتم المقدر لتشديد التوبيخ والتقريع وزيادة التنديم والتحسير وتقديم الجار والمجرور على الفعل لمراعاة الفواصل دون القصر وقوله تعالي

٥٢

ثم قيل الخ تأكيد للتوبيخ والعتاب بوعيد العذاب والعقاب وهو عطف على ما قدر قبل آلآن

الذين ظلموا أى وضعوا الكفر والتكذيب موضع الإيمان والتصديق أو ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب والهلاك ووضع الموصول موضع الضمير لذمهم بما فى حيز الصلة والإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم

ذوقوا عذاب الخلد المؤلم على الدوام

هل تجزون اليوم

إلا بما كنتم تكسبون فى الدنيا من أصناف الكفر والمعاصى التى من جملتها ما مر من الاستعجال

٥٣

ويستنبئونك أى يستخرونك فيقولون على طريقة الاستهزاء أو الإنكار أحق هو أحق خبر قدم على المبتدأ الذي هو الضمير للاهتمام به ويؤيده قوله تعالى إنه لحق أو مبتدأ والضمير مرتفع به ساد مسد الخبر والجملة فى موقع النصب بيستنبئونك وقرىء أحق هو تعريضا بأنه باطل كأنه قيل أهو الحق لا الباطل أو أهو الذى سميتموه الحق

قل لهم غير ملتفت إلى استهزائهم مغضيا عما قصدوا وبانيا للأمر على أساس الحكمة أى

وربى إى من حروف الإيجاب بمعنى نعم في القسم خاصة كما أن هل بمعنى قد فى الاستفهام خاصة ولذلك يوصل بواوه

إنه أى العذاب الموعود

لحق لثابت البتة أكد الجواب بأتم وجوه التأكيد حسب شدة إنكارهم وقوته وقد زيد تقريرا وتحقيقا بقوله عز اسمه

وما أنتم بمعجزين أى بفائتين العذاب بالهرب وهو لاحق بكم لا محالة وهو إما معطوف على جواب القسم أو مستأنف سيق لبيان عجزهم عن الخلاص مع ما فيه من التقرير المذكور

٥٤

ولو أن لكل نفس ظلمت بالشرك أو التعدى على الغير أو غير ذلك من أصناف الظلم ولو مرة حسبما يفيده كون الصفة فعلا

ما فى الأرض أى ما في الدنيا من خزائنها وأموالها ومنافعها قاطبة بما كثرت

لافتدت به أى لجعلته فدية لها من العذاب من افتداه بمعنى فداه

وأسروا أى النفوس المدلول عليها بكل نفس والعدول إلى صيغة الجمع مع تحقق العموم فى صورة الإفراد أيضا لإفادة تهويل الخطب بكون الاسرار بطريق المعية والاجتماع وإنما لم يراع ذلك فيما سبق لتحقيق ما يتوخى من فرض كون جميع ما فى الأرض لكل واحدة من النفوس وإيثار صيغة الجمع المذكر لحمل لفظ النفس على الشخص أو لتغليب ذكور مدلوله على إناثه

الندامة على مافعلوا من الظلم أى أخفوها ولم يظهروها لكن لا للاصطبار والتجلد هيهات ولات حين اصطبار بل لأنهم بهتوا

لما رأوا العذاب أى عند معاينتهم من فظاعة الحال وشدة الأهوال ما لم يكونوا يحتسبون فلم يقدروا على أن ينطقوا بشىء فلما بمعنى حين منصوب بأسروا أو حرف شرط حذف جوابه لدلالة ما تقدم عليه

وقيل أسرها رؤساؤهم ممن أضلوهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم ولكن الأمر أشد من أن يعتريهم هناك شيء غير خوف العذاب

وقيل أسروا الندامة أخلصوها الأن إسرارها إخلاصها أو لأن سر الشيء خالصته حيث تخفى ويضن بها ففيه تهكم بهم

وقيل أظهروا الندامة من قولهم أسر الشىء وأشره إذا ظهره حين عيل صبره وفى تجلده

وقضى بينهم أى أوقع القضاء بين الظالمين من المشركين وغيرهم من أصناف أهل الظلم بأن أظهر الحق سواء كان من حقوق اللّه سبحانه أو من حقوق العباد من الباطل وعومل أهل كل منهما بما يليق به

بالقسط بالعدل وتخصيص الظلم بالتعدى وحمل القضاء على مجرد الحكومة بين الظالمين والمظلومين من غير أن يتعرض لحال المشركين وهم أظلم الظالمين لا يساعده المقام فإن مقتضاه إما كون الظلم عبارة عن الشرك أو عما يدخل فيه دخولا أوليا

وهم أى الظالمون

لايظلمون فيما فعلى بهم من العذاب بل هو من مقتضيات ظلمهم ولوازمه الضرورية

٥٥

ألا إن للّه ما فى السموات والأرض أى ما وجد فيهما داخلا فى حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما وكلمة ما لتغليب غير العقلاء علي العقلاء فهو تقرير لكمال قدرته سبحانه على جميع الأشياء وبيان لاندارج الكل تحت ملكوته يتصرف فيه كيفما يشاء إيجادا وإعداما وإثابة وعقابا

ألا إن وعد اللّه إظهار الاسم الجليل لتفخيم شأن الوعد والإشعار بعلة الحكم وهو إما بمعني الموعود أى جميع ما وعد به كائنا ما كان فيندرج فيه العذاب الذى استعجلوه وما ذكر فى أثناء بيان حاله اندراجا أوليا أو بمعناه المصدرى أى وعده بجميع ما ذكر فمعنى قوله تعالى

أحق على الأول ثابت واقع لا محالة وعلى الثانى مطابق للواقع وتصدير الجملتين بحرفى التنبيه والتحقيق للتسجيل على مضمونهما المقرر لمضمون ما سلف من الآيات الكريمة والتنبيه علي وجوب استحضاره والمحافظة عليه

ولكن أكثرهم لقصور عقولهم واستيلاء الغفلة عليهم والفهم بالأحوال المحسوسة المعتادة

لايعلمون ذلك فيقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون

٥٦

هو يحيى ويميت فى الدنيا من غير دخل لأحد فى ذلك

وإليه ترجعون فى الآخرة بالبعث والحشر

٥٧

يا أيها الناس التفات ورجوع إلى استمالتهم نحو الحق واستنزالهم إلى قبوله واتباعه غب تحذيرهم من غوائل الضلال بما تلى عليهم من القوارع الناعية عليهم سوء عاقبتهم وإيذان بأن جميع ذلك مسوق لمصالحهم ومنافعهم

قد جاءتكم موعظة هى والوعظ والعظة التذكير بالعواقب سواء كان بالزجر والترهيب أو بالاستمالة والترغيب وكلمة من فى قوله تعالى

من ربكم ابتدائية متعلقة بجاءتكم أو تبعيضة متعلقة بمحذوف وقع صفة لموعظة أي موعظة كائنة من مواعظ ربكم وفى التعرض لعنوان الربوببة من حسن الموقع ما لا يخفى

وشفاء لما فى الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين أى كتاب جامع لهذه الفوائد والمنافع فإنه كاشف عن أحوال الأعمال حسناتها وسيئاتها مرغب فى الأولى ورادع عن الأخرى ومبين للمعارف الحقة التى هي شفاء لما فى الصدور من الأدواء القلبية كالجهل والشك والشرك والنفاق وغيرها من العقائد الزائغة وهاد إلى طريق الحق واليقين بالإرشاد إلى الاستدلال بالدلائل المنصوبة فى الآفاق والأنفس وفى مجيئه رحمه للمؤمنين حيث نجوا به من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان وتخلصوا من دركات النيران وارتقوا إلى درجات الجنان والتنكير فى الكل للتفخيم

٥٨

قل تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليأمر الناس بأن يغتنموا ما في القرآن العظيم من الفضل والرحمة

بفضل اللّه وبرحمته المراد بهما إما ما فى مجيء القرآن من الفضل والرحمة

وأما الجنس وهما داخلان فيه دخولا أوليا والباء متعلقة بمحذوف وأصل الكلام ليفرحوا بفضل اللّه وبرحمته وتكرير الباء فى رحمته للإيذان باستقلالها فى استيجاب الفرح ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإفادة القصر ثم أدخل عليه الفاد لإفادة معنى السببية فصار بفضل اللّه وبرحمته فليفرحوا ثم قيل

فبذلك فليفرحوا للتأكيد والتقرير ثم حذف الفعل الأول لدلالة الثانى عليه والفاء الأولى جزائية والثانية لدلالة على السببية والأصل إن فرحوا بشىء فبذلك ليفرحوا لا بشىء آخر ثم أدخل الفاء لدلالة على السببية ثم حذف الشرط ومعنى البعد فى اسم الإشارة لدلالة على بعد درجة فضل اللّه تعالى ورحمته ويجوز أن يراد بفضل اللّه وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا ويجوز أن يتعلق الباء بجاءتكم أى جاءتكم موعظة بفضل اللّه وبرحمته فبذلك أى فبمجيئها فليفرحوا وقرىء فلتفرحوا وقرا أبى فافرحوا وعن ابن كعب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تلا قل بفضل اللّه وبرحمته فقال بكتاب اللّه والإسلام

وقيل فضله الإسلام ورحمته ما وعد عليه

هو أى ما ذكر من فضل اللّه ورحمته

خير مما يجمعون من حطام الدنيا وقرىء تجمعون أى فبذلك فليفرح المؤمنون هو خير مما تجمعون أيها المخاطبون

٥٩

قل أرأيتم أى أخبرونى

ما أنزل اللّه لكم من رزق ما منصوبة المحل بما بعدها أو بما قبلها واللام للدلالة علي أن المراد بالرزق ما حل لهم وجعله منزلا لأنه مقدر فى السماء محصل هو أو ما يتوقف عليه وجودا أو بقاء بأسباب سماوية من المطر والكواكب فى الإنضاج والتلوين

فجعلتم منه أى جعلتم بعضه

حراما أى حكمتم بأنه حرام

وحلالا أى وجعلتم بعضه حلالا أى حكمتم بحله مع كون كله حلالا وذلك قولهم هذه أنعام وحرث حجر الآية وقولهم ما فى بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ونحو ذلك وتقديم الحرام لظهور أثر الجعل فيه ودوران التوبيخ عليه

قل تكرير لتأكيد الأمر بالاستخبار أى أخبرونى

آللّه أذن لكم فى ذلك الجعل فأنتم فيه ممتثلون بأمره تعالى

أم على اللّه تفترون أم متصلة والاستفهام للتقرير والتبكيت لتحقق العلم بالشق الأخير قطعا كأنه قيل أم لم يأذن لكم بل تفترون عليه سبحانه فأظهر الاسم الجليل وقدم على الفعل دلالة على كمال قبح افترائهم وتأكيدا للتبكيت إثر تأكيد مع مراعة الفواصل ويجوز أن يكون الاستفهام للإنكار وأم منقطعة ومعنى بل فيها الإضراب والانتقال من التوبيخ والزجر بإنكار الرذن إلى ما تفيده همزتها من التوبيخ على الافتراء عليه سبحانه وتقريره وتقديم الجار والمجرور على هذا يجوز أن يكون للقصر كأنه قيل بل أعلى اللّه تعالى خاصة تفترون

٦٠

وما ظن الذين يفترون على اللّه الكذب كلام مسوق من قبله تعالى لبيان هول ما سيلقونه غير داخل تحت القول المأمور به والتعبير عنهم بالموصول فى موقع الإضمار لقطع احتمال الشق الأول من الترديد والتسجيل عليهم بالافتراء وزيادة الكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا لإظهار كمال قبح ما افتعلوا وكونه كذبا فى اعتقادهم أيضا وكلمة ما استفهامية وقعت مبتدأ وظن خبرها ومفعولاه محذوفان وقوله عز و جل

يوم القيامة ظرف لنفس الظن أى أي شىء ظنهم فى ذلك اليوم يوم عرض الأفعال والأقوال والمجازاة عليها مثقالا بمثقال والمراد تهويله وتفظيعه بهول ما يتعلق به مما يصنع بهم يومئذ

وقيل هو ظرف لما يتعلق به ظنهم اليوم من الأمور التى ستقع يوم القيامة تنزيلا له ولما فيه من الأحوال لكمال وضوح أمره فى التقرر والتحقق منزلة المسلم عندهم أى أى شىء ظنهم لما سيقع يوم القيامة أيحسبون أنهم لا يسألون عن افترائهم أو لا يجازون عليه أو يجازون جزاء يسيرا ولأجل ذلك يفعلون ما يفعلون كلا إنهم لفى أشد العذاب لأن معصيتهم أشد المعاصى ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا وقرىء على لفظ الماضى أى ظنوا يوم القيامة وإيراد صيغة الماضى لأنه كائن فكأنه قد كان

إن اللّه لذو فضل أي عظيم لا يكتنه كنهه

على الناس أى جميعا حيث أنعم عليهم بالعقل المميز بين الحق والباطل والحسن والقبيح ورحمهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل وبين لهم الأسرار التى لا تستقل العقول فى إدراكها وأرشدهم إلى ما يهمهم من أمر المعاش والمعاد

ولكن أكثرهم لا يشكرون تلك النعمة الجليلة فلا يصرفون قواهم ومشاعرهم إلى ما خلقت له ولا يتبعون دليل العقل فيما يستبد به ولا دليل الشرع فيما لا يدرك إلا به وقد تفضل عليهم ببيان ما سيلقونه يوم القيامة فلا يلتفتون إليه فيقعون فيما يقعون فهو تذييل لما سبق مقرر لمضمونه

٦١

وما تكون فى شأن أى فى أمر من شأنت شأنه أى قصدت قصده مصدر بمعني المفعول

وما تتلو منه الضمير للشأن والظرف صفة لمصدر محذوف أى تلاوة كائنة من الشأن إذ هى معظم شئونه عليه السلام أو للتنزيل والإضمار قبل الذكر لتفخم شأنه ومن ابتدائية أو تبعيضية أو للّه عز و جل ومن ابتدائية والتى فى قوله تعالى

من قرأن مزيدة لتأكيد النفى أو ابتدائية على الوجه الأول وبيانية أو تبعيضية علي الثانى والثالث

ولا تعملون من عمل تعميم للخطاب إثر تخصيصه بمقتدى الكل وقد روعى فى كل من المقامين ما يليق به حيث ذكر أولا من الأعمال ما فيه فخامة وجلالة وثانيا ما يتناول الجليل والحقير

إلا  كنا عليكم شهودا استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة أى ما تلابسون بشىء منها فى حال من الأحوال إلا حال كوننا رقباء مطلعين عليه حافظين له

إذ تفيضون فيه أي تخوضون وتندفعون فيه وأصل الإفاضة الاندفاع بكثرة أو بقوة وحيث أريد بالأفعال السابقة الحالة المستمرة الدائمة المقارنة للزمان الماضى أيضا أوثر فى الاستثناء صيغة الماضى وفي الظرف كلمة إذ التي تفيد المضارع معنى الماضى

وما يعزب عن ربك أي لا يبعد ولا يغيب على علمه الشامل وفى التعرض لعنوان الربوبية من الإشعار باللطف ما لا يخفى وقرئ بكسر الزاى

من مثقال ذرة كلمة من مزيدة لتأكيد النفى أى ما يعزب عنه ما يساوى فى الثقل نملة صغيرة أو هباء

فى الأرض ولا فى السماء أى فى دائرة الوجود والإمكان فإن العامة لا تعرف سواهما ممكنا ليس على إحدهما أو متعلقا بهما وتقديم الأرض لأن الكلام فى حال أهلها والمقصود إقامة البرهان علي إحاطة علمه تعالى بتفاصيلها وقوله تعالى

ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا فى كتاب مبين كلام برأسه مقرر لما قبله ولا نافية للجنس وأصغر اسمها وفى كتاب خبرها وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر ومن عطف على لفظ مثقال ذرة وجعل الفتح بدل الكسر لامتناع الصرف أو على محله مع الجار جعل الاستثناء منقطعا كأنه قيل لا يعزب عن ربك شىء ما لكن جميع الأشياء فى كتاب مبين فكيف يعزب عنه شىء منها

وقيل يجوز أن يكون الاستثناء متصلا ويعزب بمعنى يبين ويصدر والمعنى لا يصدر عنه تعالى شىء إلا وهو فى كتاب مبين والمراد بالكتاب المبين اللوح المحفوظ

٦٢

ألا إن أولياء اللّه بيان على وجه التبشير والوعد لما هو نتيجة لأعمال المؤمنين وغاية لما ذكر قبله من كونه تعالى مهيمنا علي نبيه صلى اللّه عليه و سلم وأمته فى كل ما يأتون وما يذرون وإحاطة علمه سبحانه بجميع ما في السماء والأرض وكون الكل مثبتا فى الكتاب المبين بعد ما أشير إلى فظاعة حال المفترين على اللّه تعالى يوم القيامة وما سيعتريهم من الهول إشارة إجمالية على طريق التهديد والوعيد وصدرت الجملة بحرفى التنبيه والتحقيق لزيادة تقرير مضمونها والولى لغة القريب والمراد بأولياء اللّه خلص المؤمنين لقربهم الروحانى منه سبحانه وتعالى كما سيفصح عنه تفسيرهم

لا خوف عليهم فى الدارين من لحوق مكروه

ولا هم يحزنون من فوات مطلوب أى لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوف وحزن أصلا بل يستمرون على النشاط والسرور كيف لا واستشعار الخوف والخشية استعظاما لجلال اللّه سبحانه وهيبته واستقصارا للجد والسعى فى إقامة حقوق العبودية من خصائص الخواص والمقربين والمراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما كما يوهمه كون الخبر فى الجملة الثانية مضارعا لما مر مرارا من أن النفى إن دخل على نفس المضارع يفيد الاستمرار والدوام بحسب المقام وإنما يعتريهم ذلك لأن مقصدهم ليس إلا طاعة اللّه تعالي ونيل رضوانه المستتبع للكرامة والزلفى وذلك مما لا ريب فى حصوله ولا احتمال لفواته بموجب الوعد بالنسبة إليه تعالى

وأما ما عدا ذلك من الأمور الدنيوية المترددة بين الحصول والفوات فهى بمعزل من الانتظام في سلك مقصدهم وجودا وعدما حتى يخافوا من حصول ضارها أو يحزنوا بفوات نافعها وقوله عز و جل

٦٣

الذين آمنوا أي بكل ما جاء من عند اللّه تعالى

وكانوا يتقون أى يقون أنفسهم عما يحق وقايتها عنه من الأفعال والتروك وقاية دائمة حسبما يفيده الجمع بين صيغتي الماضى والمستقبل بيان وتفسير لهم وإشارة إلى ما به نالوا ما نالوا على طريقة الاستئناف المبنى على السؤال ومحل الموصول الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف كأنه قيل من أولئك وما سبب فوزهم بتلك الكرامة فقيل هم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى المفضيين إلى كل خير المنحيين عن كل شر

وقيل محله النصب أو الرفع على المدح أو على أنه وصف مادح للأولياء ولا يقدح في ذلك توسط الخبر والمراد بالتقوى المرتبة الثالثة منها الجامعة لما تحتها من مرتبة النوقى عن الشرك التي يفيدها الإيمان أيضا ومرتبة التجنب عن كل ما يؤثم من فعل وترك أعنى تنزه الإنسان عن كل ما يشغل سره عن الحق والتبتل إليه بالكلية وهي التقوى الحقيقي المأمور به فى قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللّه حق تقاته وبه يحصل الشهود والحضور والقرب الذى عليه يدور إطلاق الاسم عليه وهكذا كان حال من دخل معه صلى اللّه عليه و سلم تحت الخطاب بقوله عز و جل ولا تعملون من عمل خلا أن لهم فى شأن التبتل والتنزه درجات متفاوته حسب تفاوت درجات استعداداتهم الفائضة عليهم بموجب المشيئة المبنية علي الحكم الأبية أقصاها ما انتهى إليه هم الأنبياء عليهم السلام حتى جمعوا بذلك بين رياستى النبوة والولاية ولم يعقهم التعلق بعالم الأشباح عن الإستغراق فى عالم الأرواح ولم تصدهم الملابسة بمصالح الخلق عن التبتل إلى جناب الحق لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيدة بالقوة القدسية فملاك أمر الولاية هو التقوى المذكور فأولياء اللّه هم المؤمنون المتقون ويقرب منه ما قيل من أنهم الذين تولى اللّه هدايتهم بالبرهان وتولوا القيام بحق عبودية اللّه تعالى والدعوة إليه ولا يخالفه ما قيل من أنهم الذين يذكر اللّه برؤيتهم لما روى عن سعيد بن جبير أن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم سئل من أولياء اللّه فقال هم الذين يذكر اللّه برؤيتهم أى بسمتهم وإخباتهم وسكينتهم ولا ما قيل من أنهم المتحابون فى اللّه لما روى عن عمر رضي اللّه عنه أنه قال سمعت النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول إن من عباد اللّه عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من اللّه قالوا يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم قال هم قوم تحابوا فى اللّه علي غير أرحام منهم ولا أموال يتعاطونها فواللّه إن وجوهم لنور وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس فإن ما ذكر من حسن السمت والسكينة المذكرة للّه تعالى والتحاب فى اللّه سبحانه من الأحكام الدنيوية الازمة للإيمان والتقوى والآثار الخاصة بهما الحقيقة بالتخصيص بالذكر لظهورها وقربها من أفهام الناس قد أورد رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كلا من ذلك حسبما يقتضيه مقام الإرشاد والذكير ترغيبا للسائلين أو غيرهم من الحاضرين فيما خصه بالذكر هناك من أحكامهما فلعل الحاضرين أولا كانوا محتاجين إلى إصلاح الحال من جهة الأقوال والأفعال والملابس ونحو ذلك والحاضرين ثانيا مفتقرين إلى تأليف قلوبهم وعطفها نحو المؤمنين الذين لا علاقة بينهم وبينهم من جهة النسب والقرابة وتأكيد ما بينهم من الأخوة

 الدينية ببيان عظم شأنها ورفعة مكانتها وحسن عاقبتها ليراعوا حقوقها ويهجروا من لا يواتفقهم فى الدين من أرحامهم

وأما ما ذكر من أنه يغبطهم الأنبياء فتصوير لحسن حالهم على طريقة التثميل قال الكواشى وهذا مبالغة والمعنى لو فرض قوم بهذه الصفة لكانوا هؤلاء

وقيل أولياء اللّه الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة وجعل قوله عز و جل الذين آمنوا وكانوا يتقون تفسير لتوليهم إياه تعالى وقوله عز و جل

٦٤

لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخر تفسيرا لتوليه تعالى إياهم ولا ريب فى أن اعتبار القيد الاخير في مفهوم الولاية غير مناسب لمقام ترغيب المؤمنين فى تحصيلها والثبات عليها وبشارتهم بآثارها ونتائجها بل مخل بذلك إذ التحصيل إنما يتعلق بالمقدور والاستبشار لا يحصل إلا بما علم وجود سببه والقيد المذكور ليس بمقدور لهم حتى يحصلوا الولاية بتحصيله ولا بمعلوم لهم عند حصوله حتى يعرفوا حصول الولاية لهم ويستبشروا بمحاسن آثارها بل التولى بالكرامة عين نتيجة الولاية فاعتباره فى عنوان الموضوع ثم الإخبار بعدم الخوف والحزن مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل فالذى يقتضيه نظمه الكريم أن الأول تفسير للأولياء حسبما شرح والثانى بيان لما أولاهم من خيرات الدارين بعد بيان إنجائهم من شرورهما ومكارههما والجملة مستأنفة كما سبق كأنه قيل هل لهم وراء ذلك من نعمة وكرامة فقيل لهم ما يسرهم فى الدارين وتقديم الأول لما أن التخلية سابقة على التحلية مع ما فيه من مراعاة حق المقابلة بين حسن حال المؤمنين وسوء حال المقتريين وتعجيل إدخال المسرة بتبشير الخلاص عن الأهوال وتوسيط البيان السابق بين بشار الخلاص عن المحذور وبشارة الفوز بالمطلوب لإظهار كمال العناية بتفسير الأولياء مع الإيذان بأن انتفاء الخوف والحزن لاتقائهم عما يؤدى إليهما من الأسباب والبشرى مصدر أريد به المبشر به من الخيرات العاجلة كالنصر والفتح والغنيمة وغير ذلك والآجلة الغنية عن البيان وإيثار الإبهام والإجمال للإيذان بكونه وراء البيان والتفصيل والظرفان فى موقع الحال منه والعامل ما في الخبر من معنى الاستقرار أى لهم البشرى حال كونها فى الحياة الدنيا وحال كونها فى الآخرة أى عاجلة وآجلة أو من الضمير المجرور أى حال كونهم فى الحياة الخ ومن البشرى العاجلة الثناء الحسن والذكر الجميل ومحبة الناس عن أبى ذر رضى اللّه عنه قلت يا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الرجل يعمل العمل للّه ويحبه الناس فقال صلى اللّه عليه و سلم تلك عاجل بشرى المؤمن هذا

وقيل البشرى مصدر والظرفان متعلقان به أما البشرى فى الدنيا فهى البشارات الواقعة للمؤمنين المتقين فى غير موضع من الكتاب المبين وعن النبى صلى اللّه عليه و سلم هى الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له وعنه صلى اللّه عليه و سلم ذهبت النبوة وبقيت المبشرات وعن عطاء لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة قال اللّه تعالى تتزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة

وأما البشرى فى الآخرة فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوهم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرءون منها وغير ذلك من البشارات فتكون هذه بشارة بما سيقع من البشارات العاجلة والآجلة المطلوبة لغاياتها لا لذواتها ولا يخفى أن صرف البشارة الناجزة عن المقاصد بالذات إلى وسائلها مما لا يساعده جلالة شأن التنزيل الكريم

لا تبديل لكمات اللّه لا تغييرلأقواله التى من جملتها مواعيده الواردة بشارة للمؤمنين المتقين فيدخل فيها البشارات الواردة ههنا دخولا أوليا ويثبت امتناع الإخلاف فيها ثبوتا قطعيا وعلى تقدير كون الموراد البشرى الرؤيا الصالحة فالمراد بعدم تبديل كلماته تعالى ليس عدم الخلف بينها وبين نتائجها الدنيوية والأخروية بل عدم الخلف بينها وبين ما دل على ثبوتها ووقوعها فيما سيأتى بطريق الوعد من قوله تعالى لهم البشرى فتدبر ذلك إشارة إلى ما ذكر من أن لهم البشرى فى الدارين

هو الفوز العظيم الذى لا فوز وراءه وفيه تفسير لما أبهم فيما سبق وهاتيك الجملة والتى قبلها اعتراض لتحقيق المبشر به وتعظيم شأنه وليس من شرطه أن يكون بعده كلام متصل بما قبله أو هذه تذييل والسابقة اعتراض

٦٥

ولا يحزنك قولهم تسلية للرسول صلى اللّه عليه و سلم عما كان يلقاه من جهتهم من الأذية الناشئة عن مقالاتهم الموحشة وتبشير له صلى اللّه عليه و سلم بأنه عز و جل ينصره ويعزه عليهم إثر بيان أن له ولأتباعه أمنا من كل محذور وفوزا بكل مطلوب وقرئ ولا يحزنك من أحزنه وهو فى الحقيقة نهى له صلى اللّه عليه و سلم عن الحزن كأنه قيل لا تحزن بقولهم ولا تبال بتكذيبهم وتشاورهم فى تدبير هلاكك وإبطال أمرك وسائر ما يتفوهون به في شأنك مما لا خير فيه وإنما وجه النهى إلى قولهم للمبالغة فى نهيه صلى اللّه عليه و سلم عن الحزن لما أن النهي عن التأثر نهي عن التأثر بأصله ونفى له بالمرة وقد يوجه النهى إلى اللازم والمراد هو النهى عن الملزوم كما فى قولك لا أرينك ههنا وتخصيص النهى عن الحزن بالإيراد مع شمول النفى السابق للحزن أيضا لما أنه لم يكن فيه صلى اللّه عليه و سلم فى بعض الأوقات نوع حزن فسلى عن ذلك وقوله تعالى شائبة خوف حتى ينهى عنه وربما كان يعتريه صلى اللّه عليه و سلم

إن العزة تعليل للنهى على طريقة الاستئناف أى الغلبة والقهر

للّه جميعا أى فى ملكته وسلطانه لا يملك أحد شيئا منها أصلا لا هم ولا غيرهم فهو يقهرهم ويعصمك منهم وينصرك عليهم وقد كان كذلك فهى من جملة المبشرات العاجلة وقرئ بفتح أن على صريح التعليل أى لأن العزة للّه

هو السميع العليم يسمع ما يقولون فى حقك ويعلم ما يعزمون عليه وهو مكافئهم بذلك

٦٦

ألا إن للّه من فى السموات ومن فى الأرض أى العقلاء من الملائكة والثقلين وتخصيصهم بالذكر للإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بغيرهم فإنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم إذا كانوا عبيدا له سبحانه مقهورين تحت قهره وملكته فما عداهم من الموجودات أولى بذلك وهو مع ما فيه من التأكيد لما سبق من اختصاص العزة باللّه تعالى الموجب لسلوته صلى اللّه عليه و سلم وعدم مبالاته بالمشركين وبمقالاتهم تمهيدا لما لحق من قوله تعالى

وما يتبع الذين يدعون من دون اللّه شركاء وبرهان على بطلان ظنونهم واعمالهم المبنية عليها وما إما نافية وشركاء مفعول يتبع ومفعول يدعون محذوف لظهوره أى ما يتبع الذين يدعون من دون اللّه شركاء في الحقيقة وإن سموها شركاء فاقتصر على أحدهما لظهور دلالته على الآخر ويجوز أن يكون المذكور مفعول يدعون ويكون مفعول يتبع محذوفا لانفهامه من قوله تعالى

إن يتبعون إلا الظن أى ما يتبعون يقينا إنما يتبعون ظنهم الباطل

وأما موصولة معطوفة على من كانه قيل وللّه ما يتبعه الذين يدعون من دون اللّه شركاء أى وله شركاؤهم وتخصيصهم بالذكر مع دخولهم فيما سبق عبارة أو دلالة للمبالغة فى بيان بطلان اتباعهم وفساد ما بنوه عليه من ظنهم شركاءهم معبودين مع كونهم عبيدا له سبحانه

وأما استفهامية أى وأى شىء يتبعون أى لا يتبعون شيئا ما يتبعون إلا الظن والحال الباطل كقوله تعالى ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتوها الخ وقرىء تدعون بالتاء فالاستفهام للتبكيت والتوبيخ كأنه قيل وأى شىء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين تقريرا لكونهم متبعين للّه تعالى مطيعين له وتوبيخا لهم على عدم اقتدائهم بهم فى ذلك كقوله تعالى أولئك الذيم يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقيل إن يتبع هؤلاء المشركون إلا الظن ولا يتبعون ما يتبعه الملائكة والنبيون من الحق

وإن هم إلا يخرصون يكذبون فيما ينسوبه إليه سبحانه ويحزرون ويقدرون أنهم شركاء تقدير باطلا

٦٧

هو الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا تنبيه على تفرده تعالى بالقدرة الكاملة والنعمة الشاملة ليدلهم على توحده سبحانه باستحقاق العبادة وتقرير لما سلف من كون جميع الموجودات الممكنة تحت قدرته وملكته المفصح عن اختصاص العزة به سبحانه والجعل إن كان بمعنى الإبداع والخلق فمبصرا حال وإلا فلكم مفعوله الثانى أو هو حال كما في الوجه الأول والمفعول الثانى لتسكنوا فيه أو هو محذوف بدل عليه المفعول الثانى من الجملة الثانية كما أن العلة الغائية منها محذوفة اعتمادا على ما فى الأولى والتقدير هو الذى جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه والنهار مبصرا لتتحركوا فيه لمصالحكم كما سيجىء نظيره فى قوله تعالى وإن يمسسك اللّه بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله الآية فحذفت فى كل واحد من الجانبين ما ذكر فى الآخر اكتفاء بالمذكور عن المتروك وإسناد الإبصار إلى النهار مجازى كالذى فى نهاره صائم

إن فى ذلك أى في جعل كل منهما كما وصف أو فيهما و ما فى اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه وعلو رتبته

لايات عجيبة كثيرة أو آيات أخر غير ما ذكر

لقوم يسمعون أى هذه الآيات المتلوة ونظائرها المنبهة على تلك الآيات التكوينية الآمرة بالتأمل فيها سماع تدبرو اعتبار فيعملون بمقتضاها وتخصيص الآيات بهم مع أنها منصوبة لمصلحة الكل لما أنهم المنتفعون بها

٦٨

قالوا شروع فى ذكر ضرب آخر من أباطيلهم وبيان بطلانه

اتخذ اللّه ولدا اتخذ اللّه ولدا أى تبناه

سبحانه تنزيه وتقديس له عما نسبوا إليه وتعجيب من كلمتهم الحمقاء

هو الغنى على الإطلاق عن كل شىء فى كل شىء وهو علة لتنزيهه سبحانه وإيذان بأن اتخاذ الولد من أحكام الحاجة وقوله عز و جل

له ما فى السموات وما فى الأرض أى من العقلاء وغيرهم تقرير لغناه وتحقيق لمالكيته تعالى لكل ما سواه وقوله تعالى

إن عندكم من سلطان أى حجة

بهذا أى بما ذكر من قولهم الباطل توضيح لبطلانه بتحقيق سلامة ما أقيم من البرهان الساطع عن المعارض فمن فى قوله تعالى من سلطان زائدة لتأكيد النفى وهو مبتدأ والظرف المقدم خبره أو مرتفع على أنه فاعل للظرف لاعتماده على النفى وبهذا متعلق إما بسلطان لأنه بمعنى الحجة والبرهان

وأما بمحذوف وقع صفة له

وأما بما فى عندكم من معنى الاستقرار كأنه قيل إن عندكم فى هذا القول من سلطان والالتفات إلى الخطاب لمزيد المبالغة فى الإلزام والإفحام وتأكيد ما فى قوله تعالى

أتقولون على اللّه ما لا تعلمون من التوبيخ والتقريع على جهلهم واختلافهم وفيه تنبيه على أن كل مقالة لا دليل عليها فهى جهالة وأن العقائد لا بد لها من برهان قطعى وأن التقليد بمعزل من الاعتداد به

٦٩

قل تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ليبين لهم سوء مغبتهم ووخامة عاقبتهم

إن الذين يفترون على اللّه الكذب أى فى كل أمر فيدخل ما نحن بصدده من الافتراء بنسبة الولد والشريك إليه سبحانه دخولا أوليا

لا يفلحون أى لا ينجون من مكروه ولا يفوزون بمطلوب أصلا وتخصيص عدم النجاة والفوز بما يندرج فى ذلك من عدم النجاة من النار وعدم الفوز بالجنة لا يناسب مقام المبالغة فى الزجر عن الافتراء عليه سبحانه

٧٠

متاع فى الدنيا كلام مستأنف سيق لبيان أن ما يتراءى فيهم بحسب الظاهر من نيل المطالب والفوز بالحظوظ الدنيوية على الإطلاق أو فى ضمن افترائهم بمعزل من أن يكون من جنس الفلاح كأنه قيل كيف لا يفلحون وهم فى غبطة ونعيم فقيل هو متاع يسير فى الدنيا وليس بفوز بالمطلوب ثم أشير إلى انتفاء النجاة عن المكروه أيضا ب قوله عز وعلا

ثم إلينا مرجعهم أى بالموت

ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون فيبقون فى الشقاء المؤبد بسبب كفرهم المستمر أو بكفرهم فى الدنيا فأين هم من الفلاح

وقيل المبتدأ المحذوف حياتهم أو تقلبهم وقد قيل إنه افتراؤهم ولا يخفى أن المتاع إنما يطلق على ما يكون مطبوعا عند النفس مرغوبا فيه فى نفسه يتمتع وينتفع به وإنما عدم الاعتداد به لسرعة زواله ونفس الافتراء عليه سبحانه أقبح القبائح عند النفس فضلا عن أن يكون مطبوعا عندها وعده كذلك باعتبار إجراء حكم ما يؤدى إليه من رياستهم عليه مما لا وجه له فالوجه ما ذكر أولا وليس ببيعد ما قيل إن المحذوف هو الخبر أى لهم متاع والآية إما مسوقة من جهة اللّه تعالى لتحقيق عدم إفلاحهم غير داخلة فى الكلام المأمور به كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى ثم إلينا وقوله تعالى ثم نذيقهم

وأما داخلة فيه على أن النبي صلى اللّه عليه و سلم مأمور بنقله وحكايته عنه عز و جل

٧١

واتل عليهم أى على المشركين من أهل مكة وغيرهم لتحقيق ما سبق من أنهم لا يفلحون وأن ما يتمتعون به على جناح الفوات وأنهم مشرفون على العذاب الخالد

نبأ نوح أى خبره الذى له شأن وخطر مع قومه الذين هم أضراب قومك فى الكفر والعناد ليتدبروا ما فيه من زوال ما تمتعوا به من النعيم وحلول عذاب الغرق الموصول بالعذاب المقيم لينزجروا بذلك عما هم عليه من الكفر أو تنكسر شدة شكيمتهم أو يعترف بعضهم بصحة نبوتك بأن عرفوا أن ما تتلوه موافقا لما ثبت عندهم من غير مخالفة بينهما أصلا مع علمهم بأنك لم تسمع ذلك من أحد ليس إلا بطريق الوحى وفيه من تقرير ما سبق من كون الكل للّه سبحانه واختصاص العزة به تعالى وانتفاء الخوف والحزن عن أوليائه عز وعلا قاطبة وتشجيع النبى صلى اللّه عليه و سلم وحمله على عدم المبالاة بهم وبأقوالهم وأفعالهم ما لا يخفى

إذ قال معمول لنبأ أو بدل منه بدل اشتمال وأياما كان فالمراد بعض نبئه صلى اللّه عليه و سلم لا كل ما جرى بينه وبين قومه واللام فى قوله تعالى

لقومه للتبليغ

يا قوم إن كان كبر أى عظم وشق

عليكم مقامى أى نفسى كما يقال فعلته لمكان فلان أى لفلان ومنه قوله تعالى ولمن خاف مقام ربه أي خاف ربه أو قيامى ومكثى بين ظهرانيكم مدة طويلة أو قيامى وتذكيرى بآيات اللّه فإنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة يقومون على أرجلهم والجماعة قعود ليظهر حالهم ويسمع مقالهم

فعلى اللّه توكلت جواب الشرط أى دمت على تخصيص التوكل به تعالى ويجوز أن يراد به إحداث مرتبة مخصوصة من مراتب التوكل

فأجمعوا أمركم عطف على الجواب والفاء لترتيب الأمر بالإجماع على التوكل لا لترتيب نفس الإجماع عليه أو هو الجواب وما سبق جملة معترضة والإجماع العزم قيل هو متعد بنفسه

وقيل فيه حذف وإيصال قال السدوسى أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه وقال أبو الهيثم أجمع أمره جعله مجموعا بعد ما كان متفرقا وتفرقه أنه يقول مرة أفعل كذا وأخرى أفعل كذا وإذا عزم على أمر واحد فقد جمعه أى جعله جميعا

وشركاءكم بالنصب على أن الواو بمعنى مع كما تدل عليه القراءة بالرفع عطفا على الضمير المتصل تنزيلا للفصل منزلة التأكيد وإسناد الإجماع إلى الشركاء على طريقة التهكم

وقيل إنه عطف على أمركم بحذف المضاف أى أمر شركائهم

وقيل منصوب بفعل محذوف أى وادعوا شركاءكم وقد قرىء كذلك وقرىء فاجمعوا من الجمع أى فاعزموا على أمركم الذى تريدون بى من السعى فى إهلاكى واحتشدوا فيه على أى وجه يمكنكم

ثم لا يكن أمركم ذلك

عليكم غمة أى مستورا من غمه إذا ستره بل مكشوفا مشهورا تجاهروننى به فإن السر إنما يصار إليه لسد باب تدارك الخلاص بالهرب أو نحوه فحيث استحال ذلك فى حقى لم يكن للسروجه وإنما خاطبهم صلى اللّه عليه و سلم بذلك إظهارا لعدم المبالاة بهم وأنهم لم يجدوا إليه سبيلا وثقة باللّه سبحانه وبما وعده من عصمته وكلاءته فكلمة ثم للتراخى فى الرتبة وإظهار الأمر فى موقع الإضمار لزيادة تقرير يقتضيها مقام الأمر بالإظهار الذى يستلزمه النهى عن التستر والإسرار

وقيل المراد بأمرهم ما يعتريهم من جهته صلى اللّه عليه و سلم من الحال الشديدة عليهم المكروهة لديهم والغمة والغم كالكربة والكرب وثم للتراخى الزمانى والمعنى لا يكن حالكم عليكم غمة وتخلصوا بإهلاكى من ثقل مقامى وتذكيرى ولا يخفى أنه لا يساعده قوله عز و جل

ثم اقضوا إلى ولا تنظرون أى أدوا إلى أي أحكموا ذلك الأمر الذى تريدون بى ولا تمهلونى كقوله تعالى وقضينا إليه ذلك الأمر أو أدوا إلى ما هو حق عليكم عندكم من إهلاكى كما يقضى الرجل غريمه فإن توسيط ما يحصل بعد الإهلاك بين الأمر بالعزم على مباديه وبين الأمر بقضائه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه وقرىء أفضوا بالفاء أى انتهوا إلى بشركم أو ابرزوا إلى من أفضى إذا خرج إلى الفضاء

٧٢

فإن توليتم الفاء لترتيب التولي على ما سبق فالمراد به إما الاستمرار عليه

وأما إحداث التولى المخصوص أي إن أعرضتم عن نصيحتى وتذكيرى إثر ما شاهدتم منى من مخايل صحة ما أقول ودلائلها التى من جملتها دعوتى إياكم جميعا إلى تحقيق ما تريدون بى من السوء غير مبال بكم وبما يأتى منكم وإحجامكم من الإجابة علما منكم بأنى على الحق المبين مؤيد من عند اللّه العزيز

فما سألتكم بمقابلة وعظى وتذكيرى

من أجر تؤدونه إلى حتى يؤدى ذلك إلى توليكم إما لاتهامكم إياى بالطمع والسؤال

وأما لثقل دفع المسئول عليكم أو حتى يضرنى توليكم المؤدى إلى الحرمان فالأول لإظهار بطلان التولى ببيان عدم ما يصححه والثانى لإظهار عدم مبالاته صلى اللّه عليه و سلم بوجوده وعدمه وعلى التقديرين فالفاء الجزائية لسببية الشرط لإعلام مضمون الجزاء لا لنفسه والمعنى إن توليتم فاعلموا أن ليس فى مصحح له ولا تأثر منه وقوله عز و جل

إن أجرى إلا على اللّه ينتظم المعنيين جميعا خلا أنه على الأول تأكيد وعلى الثانى تعليل لاستغنائه صلى اللّه عليه و سلم عنهم أي ما ثوابى على العظة والتذكير إلا عليه تعالى يثيبنى به آمنتم أو توليتم

وأمرت أن أكون من المسلمين المنقادين لحكمه لا أخالف أمره ولا أرجو غيره أو المستسلمين لكل ما يصيب من البلاء فى طاعة اللّه تعالى

٧٣

فكذبوه فأصروا على ما هم عليه من التكذيب بعد ما ألزمهم الحجة وبين لهم المحجة وحقق أن توليهم ليس له سبب غير التمرد والعناد فلا جرم حقت عليهم كلمة العذاب

فنجيناه ومن معه فى الفلك من المسلمين وكانوا ثمانين

وجعلناهم خلائف من الهالكين

وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا أى بالطوفان وتأخير ذكره عن ذكر الإنجاء والاستخلاف حسبما وقع فى  قوله عز وعلا ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة وغير ذلك من الآيات الكريمة لإظهار كمال العناية بشأن المقدم ولتعجيل المسرة للسامعين وللإيذان بسبق الرحمة التى هى من مقتضيات الربوبية على الغضب الذى هو من مستتبعات جرائم المجرمين

فانظر كيف كان عاقبة المنذرين تهويل لما جرى عليهم وتحذير لمن كذب الرسول صلى اللّه عليه و سلم وتسلية له صلى اللّه عليه و سلم

٧٤

ثم بعثنا أى أرسلنا

من بعده أي من بعد نوح عليه السلام

رسلا التنكير للتفخيم ذاتا ووصفا أي رسلا كراما ذوى عدد كثير

إلى قومهم أى الى أقوامهم لكن لا بأن أرسلنا كل رسول منهم إلى أقوام الكل أو إلى قوم ما أى قوم كانوا بل كل رسول إلى قومه خاصة مثل هود إلى عاد وصالح إلى ثمود وغير ذلك ممن قص منهم ومن لم يقص

فجاءوهم أي جاء كل رسول قومه المخصوصين به

بالبينات أى المعجزات الواضحة الدالة على صدق ما قالوا والباء إما متعلقة بالفعل المذكور على أنها للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من ضمير جاءوا أى ملتبسين بالبينات لكن لا بأن يأتى كل رسول ببينة واحدة بل ببينات كثيرة خاصة به معينة له حسب اقتضاء الحكمة فإن مراعاة انقسام الآحاد إلى الآحاد إنما هي فيما بين ضميرى جاءوهم كما أشير إليه فما كانوا ليؤمنوا بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضى لا لعدم استمرار إيمانهم كما مر مثله في هذه السورة الكريمة غير مرة أى فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوام في وقت من الأوقات أن يؤمنوا بل كان ذلك ممتنعا منهم لشدة شكيمتهم في الكفر والعناد ثم إن كان المحكى آخر حال كل قوم حسبما يدل عليه حكاية قوم نوح فالمراد بعدم إيمانهم المذكور ههنا إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه في قوله عز و جل

بما كذبوا به من قبل تكذيبهم من حين مجيء الرسل إلى زمان الإصرار والعناد وإنما لم يجعل ذلك مقصودا بالذات كالأول حيث جعل صلة للموصول إيذانا بأنه بين بنفسه غنى عن البيان وإنما المحتاج إلى ذلك عدم إيمانهم بعد تواتر البينات الظاهرة وتظاهر المعجزات الباهرة التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من أصحاب العقول والموصول الذى تعلق به الإيمان والتكذيب سلبا وإيجابا عبارة عن جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها وإن كان المحكى جميع أحوال كل قوم منهم فالمراد بما ذكر أولا كفرهم المستمر من حين مجئ الرسل إلى آخره وبما أشير إليه آخرا تكذيبهم قبل مجيئهم فلابد من كون الموصول المذكور عبارة عن أصول الشرائع التي أجمعت عليها الرسل قاطبة ودعوا أممهم إليها آثر ذى اثير لاستحالة تبدلها وتغيرها مثل ملة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجئ رسلهم أنهم ما كانوا في زمن الجاهلية بحيث لم يسمعوا بكلمة التوكيد قط بل كان كل قوم من أولئك الأقوام يتسامعون بها من بقايا من قبلهم كثمود من بقايا عاد وعاد من بقايا قوم نوح عليه السلام فيكذبونها ثم كانت حالتهم بعد مجيء الرسل كحالتهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص فإنهم حيث لم يؤمنوا بما أجمعت عليه كافة الرسل فلأن لا يؤمنوا بما تفرد به بعضهم أولى وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لما أن ما عليه يدور أمر العذاب والعقاب عند اجتماع المكذبين هو التكذيب الواقع بعد الدعوة حسبما يعرب عنه قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وإنما ذكر ما وقع قبلها بيانا لعراقتهم في الكفر والتكذيب وعلى التقديرين فالضمائر الثلاثة متوافقة في المرجع

وقيل ضمير كذبوا راجع إلى قوم نوح عليه السلام والمعنى فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب بمثله قوم نوح ولا يخفى ما فيه من التعسف

وقيل الباء للسببية أى بسبب تعودهم تكذيب الحق وتمرنهم عليه قبل بعثة الرسل ولا يخفى أن ذلك يؤدى إلى مخالفة الجمهور من جعل ما المصدرية من قبيل الأسماء كما هو رأى الأخفش وابن السراج ليرجع إليها الضمير وفي إرجاعه إلى الحق بادعاء كونه مركوزا في الأذهان مالا يخفي من التعسف

كذلك أى مثل ذلك الطبع المحكم

نطبع بنون العظمة وقرئ بالياء على أن الضمير للّه سبحانه

على قلوب المعتدين المتجاوزين عن الحدود المعهودة في الكفر والعناد المتجافين عن قبول الحق وسلوك طريق الرشاد وذلك بخذلانهم وتخليتهم وشأنهم لانهماكهم في الغى والضلال وفي أمثال هذا دلالة على أن الأفعال واقعة بقدرة اللّه تعالى وكسب العبد

٧٥

ثم بعثنا عطف على قوله تعالى ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم عطف قصة على قصة

من بعدهم أى من بعد أولئك الرسل عليهم السلام موسى وهرون خصت بعثتهما عليهما السلام بالذكر ولم يكتف باندراج خبرهما فيما أشير إليه إشارة إجمالية من أخبار الرسل عليهم السلام مع أقوامهم وأوثر في ذلك ضرب تفصيل إيذانا بخطر شأن القصة وعظم وقعها كما في نبأ نوح عليه السلام

إلى فرعون وملثه أى أشراف قومه وتخصيصهم بالذكر لأصالتهم في إقامة المصالح والمهمات ومراجعة الكل إليهم في النوازل والملمات

آياتنا أى ملتبسين بها وهى الآيات المفصلات في الأعراف فاستكبروا الاستكبار ادعاء الكبر من غير استحقاق والفاء فصيحة أى فأتياهم فبلغاهم الرسالة فاستكبروا عن اتباعهما وذلك قول للعين لموسى عليه السلام ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين الخ

وكانوا قوما ما مجرمين اعتراض مقرر لمضمون ما قبله أى كانوا معتادين لارتكاب الذنوب العظام فإن الإجرام مؤذن بعظم الذنب ومنه الجرم أى الجثة فلذلك اجترءوا على ما اجترءوا عليه من الاستهانة برسالة اللّه تعالى وحمل الاستكبار على الامتناع عن قبول الآيات لا يساعده قوله عزو علا

٧٦

فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين فإنه صريح في أن المراد باستكبارهم ما وقع منهم قبل مجئ الحق الذى سموه سحرا أغنى العصا واليد البيضاء كما ينبئ عنه سياق النظم الكريم وذلك أول ما أظهره صلى اللّه عليه و سلم من الآيات العظام والفاء فيه أيضا فصيحة معربة عما صرح به في مواضع أخر كأنه قيل قال موسى قد جئتكم ببينة من ربكم إلى قوله تعالى فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين * ونزع يده فإذا هى بيضاء للناظرين * فلما جاءهم الحق من عندنا وعرفوه قالوا من فرط عتوهم وعنادهم إن هذا السحر مبين أى ظاهر كونه سحرا أو فائق في بابه واضح فيما بين أضرابه وقرئ لساحر

٧٧

قال موسى استئناف مبنى على سؤال تنساق إليه الأذهان كأنه قيل فماذا قال لهم موسى حينئذ فقيل قال على طريقة الاستفهام الإنكارى التوبيخي

أتقولون للحق الذى هو أبعد شيء من السحر الذى هو الباطل البحت

لما جاءكم أى حين مجيئه إياكم ووقوفكم عليه أو من أول الأمر من غير تأمل وتدبر وكلا الحالين مما ينافى القول المذكور والمقول محذوف ثقة بدلالة ما قبله وما بعده عليه وإيذانا بأنه مما لا ينبغى أن يتفوه به ولو على نهج الحكاية أى أتقولون له ما تقولون من أنه سحر يعنى به أنه مما لا يمكن أن يقوله قائل ويتكلم به متكلم أو القول بمعنى العيب والطعن من قولهم فلان يخاف القالة وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه ونظيره الذكر في قوله تعالى سمعنا فتى يذكرهم الخ فيستغنى عن المفعول أى أتعيبونه وتطعنون فيه وعلى الوجهين فقوله عز و جل

أسحر هذا إنكار مستأنف من جهته عليه السلام لكونه سحرا وتكذيب لقولهم وتوبيخ لهم على ذلك إثر توبيخ وتجهيل بعد تجهيل أما على الأول فظاهر

وأما على الثاني فوجه إيثار إنكار كونه سحرا على إنكار كونه معيبا بأن يقال مثلا أفيه عيب حسبما يقتضيه ظاهر الإنكار السابق التصريح بالرد عليهم في خصوصية ما عابوه به بعد التنبيه بالإنكار السابق على أن ليس فيه شائبة عيب ما وما في هذا من معنى القرب لزيادة تعيين المشار إليه واستحضار ما فيه من الصفات الدالة على كونه آية باهرة من آيات اللّه المنادية على امتناع كونه سحرا أى أسحر هذا الذى أمره واضح مكشوف وشأنه مشاهد معروف بحيث لا يرتاب فيه أحد ممن له عين مبصرة وتقديم الخبر للإيذان بأنه مصب الإنكار ولما استلزم كونه سحرا كون من اتى به ساحرا أكد الانكار السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل بقوله عز و جل

ولا يفلح الساحرون وهو جملة حالية من ضمير المخاطبين والرابط هو الواو بلا ضمير كما في قول من قال

... جاء الشتاء ولست أملك عدة ...

وقولك جاء زيد ولم تطلع الشمس أى أتقولون للحق إنه سحر والحال أنه لا يفلح فاعله أى لا يظفر بمطلوب ولا ينجو من مكروه فكيف يمكن صدوره من مثلى من المؤيدين من عند اللّه العزيز الحكيم الفائزين بكل مطلب الناجين من كل محذور وقوله تعالى أسحر هذا جملة معترضة بين الحال وصاحبها أكد بها الإنكار السابق ببيان استحالة كونه سحرا بالنظر إلى ذاته قبل بيان استحالته بالنظر إلى صدوره عنه عليه السلام هذا

وأما تجويز أن يكون الكل مقول القول على أن المعنى أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ولا يفلح الساحرون فمما لا يساعده النظم الكريم أصلا أما أولا فلأن ما قالوا هو الحكم بأنه سحر من غير أن يكون فيه دلالة على ما تعسف فيه من المعنى بوجه من الوجوه فصرف جوابه صلى اللّه عليه و سلم عن صريح ما خاطبوه به إلى مالا يفهم منه أصلا مما يجب تنزيه النظم التنزيلى عن الحمل على أمثاله

وأما ثانيا فلان التعرض لعدم إفلاح السحرة على الإطلاق من وظائف من يتمسك بالحق المبين دون الكفرة المتشبثين بإذيال بعض منهم في معارضته صلى اللّه عليه و سلم ولو كان ذلك من كلامهم لناسب تخصيص عدم الإفلاح بمن زعموه ساحرا بناء على غلبة من يأتون به من السحرة

وأما ثالثا فلأن قوله عز و جل

٧٨

قالوا أجئتنا الخ مسوق لبيان أنه صلى اللّه عليه و سلم ألقمهم الحجر فانقطعوا عن الإتيان بكلام له تعلق بكلامه صلى اللّه عليه و سلم فضلا عن الجواب الصحيح واضطروا إلى التثبت بذيل التقليد الذى هو دأب كل عاجز محجوج وديدن كل معاند لجوج على أنه استئناف وقع جوابا عما قبله من كلامه صلى اللّه عليه و سلم على طريقة قوله تعالى قال موسى الخ حسبما أشير إليه كأنه قيل فماذا قالوا لموسى عليه السلام عندما قال لهم ما قال فقيل قالوا عاجزين عن المحاجة أجئتنا

لتلفتنا أى لتصرفنا فإن الفتل واللفت أخوان

عما وجدنا عليه آباءنا أى من عبادة الأصنام ولا ريب في أن ذلك إنما يتسنى بكون ما ذكر من تتمة كلامه عليه السلام على الوجه الذى شرح إذ على تقدير كونه محكيا من قبلهم يكون جوابه عليه السلام خاليا عن التبكيت الملجئ لهم إلى العدول عن سنن المحاجة ولا ريب في أنه لا علاقة بين قولهم أجئتنا الخ وبن إنكاره عليه السلام لما حكى عنهم مصصحة لكونه جوابا عنه

وتكون لكما الكبرياء أى الملك أو التكبر على الناس باستتباعهم وقرئ ويكون بالياء التحتانية وكلمة في فى قوله تعالى

في الأرض أى أرض مصر متعلقة بتكون أو بالكبرياء أو بالاستقرار في لكما لوقوعه خبرا أو بمحذوف وقع حالا من الكبرياء أو من الضمير في لكما لتحمله إياه

وما نحن لكما بمؤمنين أى بمصدقين فيما جئتما به وتثنية الضمير في هذين الموضعين بعد إفراده فيما تقدم من المقامين باعتبار شمول الكبرياء لهما عليهما السلام واستلزام التصديق لأحدهما التصديق للآخر

وأما اللفت والمجئ له فحيث كانا من خصائص صاحب الشريعة اسند إلى موسى عليه السلام خاصة

٧٩

وقال فرعون توحيد الفعل لأن الأمر من وظائف فرعون أى قال لملئه يأمرهم بترتيب مبادئ إلزامهما عليهما السلام بالفعل بعد اليأس من إلزامها بالقول

أئتوني بكل ساحر عليم بفنون السحر حاذق ماهر فيه وقرئ سحار

٨٠

فلما جاء السحر عطف على مقدر يستدعيه المقام قد حذف إيذانا بسرعة امتثالهم لأمر فرعون كما هو شأن الفاء الفصيحة في كل مقام أى فأتوا به فلما جاءوا

قال لهم موسى لكن لا فى ابتداء مجيئهم بل بعد ما قالوا عليه السلام ما حكى عنهم في السور الأخر من قولهم إما أن تلقى

وأما أن نكون نحن الملقين ونحو ذلك

ألقوا ما أنتم ملقون أى ملقون له كائنا ما كان من أصناف السحر

٨١

فلما ألقوا ما ألقوا من العصى والحبال واسترهبوا الناس وجاءوا بسحر عظيم

قال لهم

موسى غير مكترث بهم وبما صنعوا

ما جئتم به السحر ما موصولة وقعت مبتدأ والسحر خبره أى هو السحر لا ما سماه فرعون وقومه من آيات اللّه سبحانه أو هو من جنس السحر يريهم أن حاله بين لا يعبأ به كأنه قال ما جئتم به مما لا ينبغى أن يجاء به وقرئ آلسحر على الاسفهام فما استفهامية أى أي شيء جئتم به أهو السحر الذى يعرف حاله كل أحد ولا يتصدى له عاقل وقرئ ما جئتم به سحر وقرئ ما أتيتم به سحر ودلالتهما على المعنى الثاني في القراءة المشهورة أظهر

إن اللّه سيبطله أى سيمحقه بالكلية بما يظهره على يدي من المعجزة فلا يبقى له أثر أصلا أو سظهر بطلانه للناس والسين للتأكيد

إن اللّه لا يصلح عمل المفسدين أى عمل جنس المفسدين على الإطلاق فيدخل فيه السحر دخولا أوليا أو عملكم فيكون من باب وضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالإفساد والإشعار بعلة الحكم وليس المراد بعدم إصلاح عملهم عدم جعل فسادهم صلاحا بل عدم إثابته وإتمامه أي لا يثبته ولا يكلمه ولا يديمه بل يمحقه وبهلكه ويسلط عليه الدمار والجملة تعليل لما سبق من قوله إن اللّه سيبطله والكل اعتراض تذييلى وفيه دليل على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له

٨٢

ويحق اللّه الحق عطف على قوله سيبطله أى يثبته ويقويه وإظهار الاسم الجليل في المقامين الأخيرين لإلقاء الروعة وتربية المهابة

بكلماته بأوامره وقضاياه وقرئ بكلمته

ولو كره المجرمون ذلك والمراد بهم كل من اتصف بالإجرام من السحرة وغيرهم

٨٣

فما آمن لموسى معطوف على مقدر قد فصل في مواقع أخر أى فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون الخ وإنما لم يذكر تعويلا على ذلك وإيثار للإيجاز وإيذانا بأن قوله تعالى إن اللّه سيبطله مما لا يحتمل الخلف اصلا وعطفه على ذلك بالفاء مع كونه عدما مستمرا من قبيل ما فى قوله عز و جل فاتبعوا أمر فرعون وما في قولك وعظته فلم يتعظ وصحت به فلم ينزجر والسر في ذلك أن الإتيان بالشئ بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرار عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث أى فما آمن له عليه السلام بمشاهدة تلك الآيات القاهرة

إلا ذرية من قومة أى إلا أولاد من أولاد قومه بنى إسرائيل حيث دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فروعون وأجابته طائفة من شبانهم

وقيل الضمير لفرعون والذرية طائفة من شبابهم أمنوا به عليه السلام أو مؤمن آل فرعون وامرأته آسية وخازنة وامرأته وماشطته وهو بعيد

على خوف أى كائنين على خوف عظيم

من فرعون وملتهم الضمير لفرعون والجمع لما هو المعتاد في ضمائر العظماء ولا يأباه مقام بيان علوه في الفساد وغلوه في الشر والتسلط على العباد أو لأن المراد به آله كما يقال ربيعة ومضر أو للذرية أو للقوم أى على خوف من فرعون ومن اشراف بنى إسرائيل حيث كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم

أن يفتنهم يعذبهم وهو بدل اشتمال أو مفعول خوف فإن إعمال المصدر المنكر كثير كما فى قوله عز و جل أو إطعام في يوم ذى مسغبة * يتيما أو مفعول له بعد حذف اللام وإسناد الفعل إلى فرعون خاصة لأنه الآمر بالتعذيب

وإن فرعون لعال في الأرض لغالب في أرض مصر

وإنه لمن المسرفين في الظلم والفساد بالقتل وسفك الدماء أو فى الكبر والعتو حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء والجملتان اعتراض تذييلى مؤكد لمضمون ما سبق

٨٤

وقال موسى لما رأى تخوف المؤمنين منه

ياقوم إن كنتم آمنتم باللّه أى صدقتم به وبآياته

فعليه توكلوا وبه ثقوا ولا تخافوا أحدا غيره فإنه كافيكم كل شر وضر

إن كنتم مسلمين مستسلمين لقضاء اللّه تعالى مخلصين له وليس هذا من تعليل الحكم بشرطين فإن المعلل بالإيمان وجوب التوكل عليه تعالى فإنه المقتضى له والمشروط بالإسلام وجوده فإنه لا يتحقق مع التخليط ونظيره إن أحسن إليك زيد فأحسن إليه إن قدرت عليه

٨٥

فقالوا مجيبين له عليه السلام من غير تلعثم في ذلك

على اللّه توكلنا لأنهم كانوا مؤمنين مخلصين ثم دعوا ربهم قائلين

ربنا لا تجعلنا فتنة أى موقع فتنة

للقوم الظالمين أى لا تسلطهم علينا حتى يعذبونا أو يفتنونا عن ديننا أو يفتتنوا بنا ويقولوا لو كان هؤلاء على الحق لما اصيبوا وقوله تعالى

٨٦

ونجنا برحمتك من القوم الكافرين دعاء منهم بالإنجاء من سوء جوارهم وشؤم مصاحبتهم بعد الإنجاء من ظلمهم ولذلك عبر عنهم بالكفر بعد ما وصفوا بالظلم وفي ترتيب الدعاء على التوكل تلويح بأن الداعى حقه أن يبنى دعاءه على التوكل على اللّه تعالى

٨٧

وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ أن مفسرة لأن في الوحى معنى القول أى اتخذا مباءة

لقومكما بمصر بيوتا تسكنون فيها وترجعون إليها للعبادة

واجعلوا أنتما وقومكما

بيوتكم تلك

قبلة مصلى

وقيل مساجد متوجهة نحو القبلة يعنى الكعبة فإن موسى عليه السلام كان يصلى إليها

وأقيموا الصلاة أى فيها أمروا بذلك في اول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم

وبشر المؤمنين بالنصرة في الدنيا إجابة لدعوتهم والجنة في العقبى وإنما ثنى الضمير أولا لأن التبوؤ للقوم واتخاد المعابد مما يتولاه رؤساء القوم بتشاور ثم جمع لأن جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما يفعله كل أحد ثم وحد لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة ووضع المؤمنين موضع ضمير القوم لمدحهم بالايمان وللإشعار بأنه المدار في التبشير

٨٨

وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملآه زينة أى ما يتزين به من اللباس والمراكب ونحوها

وأموالا وأنواعا كثيرة من المال

في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك دعاء عليهم بلفظ الأمر بما علم بممارسة أحوالهم أنه لا يكون غيره كقولك لعن اللّه إبليس

وقيل اللام للعاقبة وهى متعلقة بآتيت أو للعلة لأن إيتاء النعم على الكفر استدراج وتثبيت على الضلال ولأنهم لما جعلوها ذريعة إلى الضلال فكأنهم أوتوها ليضلوا فيكون ربنا تكرير للأول تأكيدا أو تنبيها على أن المقصود عرض ضلالهم وكفرانهم تقدمة لقوله تعالى

ربناء اطمس على أموالهم الطمس المحو وقرئ بضم الميم أى أهلكها

واشدد على قلوبهم أى اجعلها قاسية واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان كما هو قضية شأنهم

فلا يؤمنوا جواب للدعاء أو دعاء بلفظ النهى أو عطف على ليضلوا وما بينهما دعاء معترض

حتى يروا العذاب الأليم أى يعاينوه ويوقنوا به بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك

٨٩

قال قد أجبيت دعوتكما يعنى موسى وهرون عليهما السلام لأنه كان يؤمن كما يشعر به إضافة الرب إلى ضمير المتكلم مع الغير في المواقع الثلاثة

فاستقيما فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوى وإلزام الحجة ولا تستعجلا فإن ماطلبتما كائن في وقته لا محالة روى أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة

ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون أى بعادات اللّه سبحانه في تعليق الامور بالحكم والمصالح أو سبيل الجهلة في الاستعجال أو عدم الوثوق بوعد اللّه تعالى وقرئ بالنون الخفيفة وكسرها لالتقاء الساكنين ولا تتبعان من تبع ولا تتبعان أيضا

٩٠

وجاوزنا ببنى إسرائيل البحر هو من جاوز المكان إذا تخطاه وخلفه والباء للتعدية أى جعلناهم مجاوزين البحر بأن جعلناه يبسا وحفظناهم حتى بلغوا الشط وقرئ جوزنا وهو من التجويز المرادف للمجاوزة لا مما هو بمعنى التنفيذ نحو ما وقع في قول الإعشى

... كما جوز السكى في الباب فيتق ...

وإلا لقيل وجوزنا نبى إسرائيل في البحر ولخلا النظم الكريم عن الإيذان بانفصالهم عن البحر وبمقارنة العناية الإلهية لهم عند الجواز كما هو المشهور في الفرق بين أذهبه وذهب به

فأتبعهم يقال تبعته حتى اتبعته إذا كان سبقك فلحقته أى أدركهم ولحقهم حتى تراءت الفئتان وكاد يجتمع الجمعان

بغيا وعدوا  ظلما واعتداء أى باغين وعادين أو للبغى والعدوان وقرئ وعدوا وذلك أن موسى عليه السلام خرج ببنى إسرائيل على حين غفلة من فرعون فلما سمع به تبعهم حتى لحقهم ووصل إلى الساحل وهم قد خرجوا من البحر ومسلكهم باق على حاله يبسا فسلكه بجنوده أجمعين فلما دخل آخرهم وهم أولهم بالخروج غشيهم من اليم ما غشيهم

حتى إذا أدركه الغرق أى لحقه وألجمه

قال آمنت أنه أى بأنه والضمير للشأن وقرئ إنه على الاستئناف بدلا من آمنت وتفسير له

لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل لم يقل كما قاله السحرة آمنا برب العالمين رب موسى وهرون بل عبر عنه تعالى بالموصول وجعل صلته إيمان بنى إسرائيل به تعالى للإشعار برجوعه عن الاستعصاء وباتباعه لمن كان يستتبعهم طمعا في القبول والانتظام معهم في سلك النجاة

وأنا من المسلمين أى الذين أسلموا نفوسهم للّه أى جعلوها سالمة خاصة له تعالى وأراد بهم إما بنى إسرائيل خاصة

وأما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أولياء والجملة على الأول عطف على آمنت وإيثار الاسمية لا دعاء الدوام والاستمرار وعلى الثاني يحتمل الحالية أيضا من ضمير المتكلم أى آمنت مخلصا للّه منتظما في سلك الراسخين فيه ولقد كرر المعنى الواحد بثلاث عبارات حرصا على القبول المفضى إلى النجاة وهيهات هيهات بعد ما فات ما فات وأتى ما هو آت وقوله عز و جل

٩١

آلآن مقول لقول مقدر معطوف على قال أى فقيل آلآن وهو إلى قوله تعالى آية حكاية لما جرى منه سبحانه من الغضب على المخذول ومقابلة ما أظهره بالرد على وجه الإنكار التوبيخى على تأخيره وتقريعه بالعصيان والإفساد وغير ذلك وفي حذف الفعل المذكور وإبراز الخبر المحكى في صورة الإنشاء من الدلالة على عظم السخط وشدة الغضب مالا يخفى كما يفصح عنه ما روى من أن جبريل دس فاه عند ذلك يحال البحر وسده به فإنه تأكيد الرد القولى بالرد الفعلى ولا ينافيه تعليله بمخافة إدراك الرحمة فيما نقل أنه قال للنبي صلى اللّه عليه و سلم فلو رأيتنى يا محمد وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة إذ المراد بها الرحمة الدنيوية أى النجاة التي هى طلبة المخذول وليس من ضرورة إدراكها صحة الإيمان كما في إيمان قوم يونس عليه السلام حتى يلزم من كراهته مالا يتصور في شأن جبريل عليه السلام من الرضا بالكفر إذ لا استحالة في ترتب هذه الرحمة على مجرد التفوه بكلمة الإيمان وإن كان ذلك في حالة البأس واليأس فيحمل دسه صلى اللّه عليه و سلم على سد باب الاحتمال البعيد لكمال الغيظ وشدة الحرد فتدبر واللّه الموفق وحق العامل في الظرف أن يقدر مؤخرا ليتوجه الإنكار والتوبيخ إلى تأخير الإيمان إلى حد يمتنع قبوله فيه أى آلآن تؤمن حين يئست من الحياة وأيقنت بالممات و قوله عز وعلا

وعقد عصيت قبل حال من فاعل الفعل المقدر جئ به لتشديد التوبيخ والتقريع على تأخير الإيمان إلى هذا الآن ببيان أنه لم يكن تأخيره لعدم بلوغ الدعوة إليه ولا للتأمل والتدبر في دلائله وآياته ولا لشئ آخر مما عسى يعد عذرا في التاخير بل كان ذلك على طريقة الرد والاستعصاء والإفساد فإن قوله تعالى

وكنت من الفسدين عطف على عصيت داخل في حيز الحال أى وكنت من الغالين في الإضلال والإضال عن الإيمان كقوله تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون فهذا عبارة عن فساده الراجع إلى نفسه والسارى إلى غيره من الظلم والتعدى وصد بنى إسرائيل عن الإيمان والأول عن عصيانه الخاص به

٩٢

فاليوم ننجيك أى نخرجك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا وفي التعبيرعنه بالتنجية تلويح بأن مراده بالإيمان هو النجاة كما مر وتهكم به أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك بنو إسرائيل وقرئ ننجيك من الإنجاء وننحيك بالحاء من التنحية أى نلقيك بناحية الساحل

ببدنك في موضع الحال من ضمير المخاطب أى ننجيك ملابسا ببدنك فقط لا مع روحك كما هو مطلوبك فهو تخييب له وحسم لأطماعه بالمرة أو عاريا عن اللباس أو كاملا سويا أو بدرعك وكانت له درع من الذهب يعرف بها وقرئ بأبدانك أى بأجزاء بدنك كلها كقولهم هوى بأجرامه أو بدروعك كأنه كان مظاهرا بينها

لتكون لمن خلفك آية لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل إذ كان في نفوسهم من عظمته ما خيل إليهم أنه لا يهلك حتى يروى أنهم لم يصدقوا موسى عليه السلام حين أخبرهم بغرقه إلى أن عاينوه مطرحا على ممرهم من الساحل أو تكون لمن يأتى بعدك من الأمم إذا سمعوا مآل أمرك ممن شاهدك عبرة ونكالا من الطغيان أو حجة تدلهم على أن الإنسان وإن بلغ الغاية القصوى من عظم الشأن وعلو الكبرياء وقوة السلطان فهو مملوك مقهور بعيد عن مظان الربوبية وقرئ لمن خلفك فعلا ماضيا أى لمن خلفك من الجبابرة وقرئ لمن خلقك بالقاف أى لتكون لخالقك آية كسائر الآيات فإن إفراده سبحانه إياك بالإلقاء إلى الساحل دليل على أنه قصد منه لكشف تزويرك وإماطة الشبهة في أمرك وبرهان نير على كمال علمه وقدرته وحكمته وإرادته وهذا الوجه محتمل على القراءة المشهورة أيضا وفي تعليل تنجيته بما ذكر إيذان بأنها ليست لإعزازه أو لفائدة أخرى عائدة إليه بل لكمال الاستهانة به وتفضيحه على رءوس الأشهاد وزيادة تفظيع حاله كمن يقتل ثم يجر جسده في الأسواق أو يدار برأسه في البلاد واللام الأولى متعلقة بننجيك والثانية بمحذوف وقع حالا من آية أى كائنة لمن خلفك

وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها وهو اعتراض تذييلى جيء به عند الحكاية تقريرا لفحوى الكلام المحكى

٩٣

ولقد بوأنا بنى إسرائيل كلام مستأنف سيق لبيان النعم الفائضة عليهم إثر نعمة الإنجاء على وجه الإجمال وإخلالهم بشكرها وأداء حقوقها أى أسكناهم وأنزلناهم بعد ما أنجيناهم وأهلكنا أعداءهم

مبوأ صدق أى منزلا صالحا مرضيا وهو الشام ومصر ملكوهما بعد الفراعنة والعمالقة وتمكنوا في نواحيهما حسبما نطق به قوله تعالى وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها

ورزقناهم من الطيبات أى اللذائذ

فما اختلفوا في أمر دينهم

حتى جاءهم العلم أى إلا بعد ما جاءهم العلم بقراءتهم التوارة وعلمهم بأحكامها أو في أمر محمد صلى اللّه عليه و سلم إلا من بعد ما علموا صدق نبوته وتظاهر معجزاته فالمراد بالمختلفين أعقابهم الذين كانوا في عصر النبي صلى اللّه عليه و سلم

إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانو فيه يختلفون فيميز بين المحق والمبطل بالإثابة والتعذيب

٩٤

فإن كنت في شك أى في شك ما يسير على الفرض والتقدير فإن مضمون الشرطية إنما هو تعليق شيء بشيء من غير تعرض لإمكان شيء منهما كيف لا وقد يكون كلاهما ممتنعا كقوله عز و جل قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين وقوله تعالى لئن أشركت ليحبطن عملك ونظائرهما

مما أنزلنا إليك من القصص التي من جملتها قصة فرعون وقومه وأخبار بنى إسرائيل

فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك فإن ذلك محقق عندهم ثابت في كتبهم حسبما ألقينا إليك والمراد إظهار نبوته صلى اللّه عليه و سلم بشهادة الأحبار حسبما هو المسطور في كتبهم وإن لم يكن إليه حاجة اصلا أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة نبوته صلى اللّه عليه و سلم أو تهييجه صلى اللّه عليه و سلم وزيادة تثبيته على ما هو عليه من اليقين لا تجويز صدور الشك منه صلى اللّه عليه و سلم ولذلك قال صلى اللّه عليه و سلم لا أشك ولا اسأل

وقيل المراد بالموصول مؤمنوا أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام وتميم الدارى وكعب وأضرابهم

وقيل الخطاب للنبى صلى اللّه عليه و سلم والمراد أمته أو لكل من يسمع أى إن كنت إيها السامع في شك مما أنزلنا إليك على لسان نبينا وفيه تنبيه على أن من خالجته شبهة في الدين ينبغى ان يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم وقرئ فاسأل الذين يقرءون الكتب

لقد جاءك الحق الذى لا محيد عنه ولا ريب في حقيته

من ربك وظهر ذلك بالآيات القاطعة التى لا يحوم حولها شائبة الارتياب وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى اللّه عليه و سلم من التشريف ما لا يخفى

فلا تكونن من الممترين بالتنزلزل عما أنت عليه من الجزم واليقين ودم على ذلك كما كنت من قبل

٩٥

ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات اللّه من باب التهييج والإلهاب والمراد به إعلام أن التكذيب من القبح والمحذورية بحيث ينبغى أن ينهى عنه من لا يتصور إمكان صدوره عنه فكيف بمن يمكن اتصافه به وفيه قطع لأطماع الكفرة

فتكون بذلك

من الخاسرين أنفسا وأعمالا

٩٦

إن الذين حقت عليهم شروع في بيان سر إصرار الكفرة على ما هم عليه من الكفر والضلال أى ثبتت ووجبت بمقتضى المشيئة المبنية على الحكمة البالغة

كلمة ربك حكمة وقضاؤه بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في النار كقوله تعالى ولكن حق القول منى لأملأن جهنم إلى آخره

لا يؤمنون ابدا إذلا كذب لكلامه ولا انتقاض لقضائه أى لا يؤمنون إيمانا نافعا واقعا في أوانه فيندرج فيهم المؤمنون عند معاينة العذاب مثل فرعون باقيا عند الموت فيدخل فيهم المرتدون

٩٧

ولو جاءتهم كل آية واضحة المدلول مقبولة لدى العقول لأن سبب إيمانهم وهو تعلق إرادته تعالى به مفقود لكن فقدانه ليس لمنع منه سبحانه مع استحقاقهم له بل لسوء اختيارهم المتفرع على عدم استعدادهم لذلك

حتى يروا العذاب الأليم كدأب آل فرعون وأضرابهم

٩٨

فلولا كانت كلام مستأنف لتقرير ما سبق من استحالة إيمان من حقت عليهم كلمته تعالى لسوء اختيارهم مع تمكنهم من التدارك فيكون الاستثناء الآتى بيانا لكون قوم يونس عليه السلام ممن لم يحق عليه الكلمة لاهتدائهم إلى التدارك في وقته ولولا بمعنى هلا وقرئ كذلك أى فلا كانت

قرية من القرى المهلكة

آمنت قبل معاينة العذاب ولم تؤخر إيمانها إلى حين معاينته كما فعل فرعون وقومه

فنفعها إيمانها بأن يقبله اللّه تعالى منها ويكشف بسببه العذاب عنها

إلا قوم يونس استثناء منقطع أى لكن قوم يونس

لما آمنوا أول ما رأوا أمارة العذاب ولم يؤخروا إلى حلوله

كشفنا عنهم عذاب الخزى في الحياة الدنيا بعد ما أظلهم وكاد يحل بهم ويجوز أن تكون الجملة في معنى النفى كما يفصح عنه حرف التخصيص فيكون الاستثناء متصلا إذ المراد بالقرى أهاليها كأنه قيل ما آمنت طائفة من الأمم العاصية فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس عليه السلام فيكون قوله تعالى لما آمنوا استئنافا لبيان نفع إيمانهم ويؤيده قراءة الرفع على البدلية

ومتعناهم بمتاع الدنيا بعد كشف العذاب عنهم

إلى حين مقدر لهم في علم اللّه سبحانه روى أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من ارض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضبا فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا اربعين ليلة

وقيل قال لهم يونس عليه السلام أجلكم أربعون ليلة فقالوا إن راينا أسباب الهلاك آمنا بك فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسود سطوحهم فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها فحن بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا إلى اللّه تعالى فرحمهم وكشف عنهم وكان ذلك يوم عاشوراء يوم الجمعة وعن ابن مسعود رضي اللّه عنه بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم حتى أن الرجل كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيرده إلى صاحبه

وقيل خرجوا إلى الشيخ من بقية علمائهم فقالوا قد نزل بنا العذاب فما ترى فقال لهم قولوا يا حى حين لا حى ويا حى محي الموتى ويا حى لا إله إلا أنت فقالوها فكشف عنهم وعن الفضيل بن عياض قالوا إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله

٩٩

ولو شاء ربك لآمن من في الأرض تحقيق لدوران إيمان كافة المكلفين وجودا وعدما على قطب مشيئته تعالى مطلقا إثر بيان تبعية كفر الكفرة لكلمته ومفعول المشيئة محذوف لوجود ما يقتضيه من وقوعها شرطا وكون مفعولها مضمون الجزاء وأن لا يكون في تعلقها به غرابة كما هو المشهور أى لو شاء سبحانه إيمان من في الأرض من الثقلين لآمن

كلهم بحيث لا يشد عنهم أحد

جميعا مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه لكنه لا يشاؤه لكونه مخالفا للحكمة التي عليها بنى أساس التكوين والتشريع وفيه دلالة على أن من شاء اللّه تعالى إيمانه يؤمن لا محالة

أفأنت تكره الناس على ما لم يشأ اللّه منهم حسبما ينيء عنه حرف الامتناع في الشرطية والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل اربك لا يشاء ذلك فأنت تكرههم

حتى يكونوا مؤمنين فيكون الإنكار متوجها إلى ترتيب الإكراه المذكور على عدم مشيئته تعالى ويجوز أن تكون الفاء لترتيب الإنكار على عدم مشيئته تعالى بناء على أن الهمزة متأخرة في الاعتبار وإنما قدمت لاقتضائها الصدارة كما هو رأى الجمهور وأيا ما كان فالمشيئة على إطلاقها إذ لا فائدة بل لا وجه لاعتبار عدم مشيئة الإلجاء خاصة في إنكار الترتيب عليه أو ترتيب الإنكار عليه وفي إيلاء الاسم حرف الاستفهام إيذان بأن الإكراه أمر ممكن لكن الشأن في المكره من هو وما هو إلا هو وحده لا يشارك فيه لأنه القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرهم إلى الإيمان وذلك غير مستطاع للبشر وفيه إيذان باعتبار الإلجاء في المشيئة كما أشير إليه

١٠٠

وما كان لنفس بيان لتبعية إيمان النفوس المؤمنة لمشيئته تعالى وجودا بعد بيان الدوران الكلى عليها وجودا وعدما أى ما صح وما استقام لنفس من النفوس التي علم اللّه تعالى أنها تؤمن

أن تؤمن إلا بإذن اللّه أي بتسهيله ومنحه للالطاف وإنما خصت النفس بمن ذكر ولم يجعل من قبيل قوله تعالى وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن اللّه لأن الاستئشاء مفرغ من أعم الأحوال أى ما كان لنفس أن تؤمن في حال من أحوالها إلا حال كونها ملابسة بإذنه تعالى فلا بد من كون الإيمان مما يئول إليه حالها كما أن الموت مآل لكل نفس بحيث لا محيص لها عنه فلا بد من تخصيص النفس بمن ذكر فإن النفوس التي علم اللّه أنها لا تؤمن ليس لها حال تؤمن فيها حتى يستثنى تلك الحال من غيرها

ويجعل الرجس أى الكفر بقرينة ما قبله عبر عنه بالرجس الذى هو عبارة عن القبيح المستقدر المستكره لكونه علما في القبح والاستكراه

وقيل هو العذاب أو الخذلان المؤدى إليه وقرى بنون العظمة وقرئ بالزاى أى يجعل الكفر ويبقيه

على الذين لا يعقلون لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات أولا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع فلا يحصل لهم الهداية التي عبر عنها بالإذن فيبقون مغمورين بقبائح الكفر والضلال أو مقهورين بالعذاب والنكال والجملة معطوفة على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم كأنه قيل فيأذن لهم بمنح الألطاف ويجعل الخ

١٠١

قل مخاطبا لأهل مكة بعثا لهم على التدبر في ملكوت السموات والأرض وما فيهما من تعاجيب الآيات الأنفسية والآفاقية ليتضح لك أنهم من الذين لا يعقلون وحقت عليهم الكلمة

انظروا أي تفكروا وقرئ بنقل حركة الهمزة إلى لام قل

ماذا في السموات والأرض أي أي شيء بديع فيهما من عجائب صنعه الدالة على وحدته وكمال قدرته على أن ماذا جعل بالتركيب اسما واحدا مغلبا فيه الاستفهام على اسم الإشارة فهو مبتدأ خبره الظرف ويجوز أن يكون ما مبتدأ وذا بمعنى الذي والظرف صلته والجملة خبر للمبتدأ وعلى التقديرين فالمبتدأ والخبر في محل النصب بإسقاط الخافض وفعل النظر معلق بالاستفهام

وما تغنى أي ما تنفع وقرئ بالتذكير

الآيات وهي التي عبر عنها بقوله تعالى ماذا في السموات والأرض

والنذر جمع نذير على أنه فاعل بمعنى منذر أو على أنه مصدر أي لا تنفع الآيات والرسل المنذرون أو الإنذارات

عن قوم لا يؤمنون في علم اللّه تعالى وحكمه فما نافية والجملة إما حالية أو اعتراضية ويجوز كون ما استفهامية إنكارية في موضع النصب على المصدرية أي أي إغناء تغنى الخ فالجملة حينئذ اعتراضية

١٠٢

فهل ينتظرون أي مشركو مكة وأضرابهم

إلا مثل أيام الذين خلوا أي إلا يوما مثل أيام الذين خلوا

من قبلهم من مشركي الأمم الماضية أي مثل وقائعهم ونزول بأس اللّه بهم إذ لا يستحقون غيره من قولهم أيام العرب لوقائعها

قل تهديدا لهم

فانتظروا ما هو عاقبتكم

إني معكم من المنتظرين لذلك

١٠٣

ثم ننجي رسلنا بالتشديد وقرئ بالتخفيف وهو عطف على مقدر يدل عليه قوله مثل أيام الذين خلوا وما بينهما اعتراض جيء به مسارعة إلى التهديد ومبالغة في تشديد الوعيد كأنه قيل أهلكنا الأمم ثم نجينا رسلنا المرسلة إليهم

والذين آمنوا وصيغة الاستقبال لحكاية الأحوال الماضية لتهويل أمرها باستحضار صورها وتأخير حكاية التنجية عن حكاية الإهلاك على عكس ما في قوله تعالى فنجيناه ومن معه في الفلك الخ ونظائره الوارده في مواقع عديدة ليتصل به قوله عز و جل

كذلك أي مثل ذلك الإنجاء

حقا علينا اعتراض بين العامل والمعمول أي حق ذلك حقا

وقيل بدل من المحذوف الذي ناب عنه كذلك أي إنجاء مثل ذلك حقا والكاف متعلقة بقوله تعالى

ننجي المؤمنين أي من كل شدة وعذاب والجملة تذييل لما قبلها مقرر لمضمونه والمراد بالمؤمنين إما الجنس المتناول للرسل عليهم السلام والأتباع

وأما الأتباع فقط وإنما لم يذكر إنجاء الرسل إيذانا بعدم الحاجة إليه وأيا ما كان ففيه تنبيه على أن مدار النجاة هو الإيمان

١٠٤

قل لجمهور المشركين

يا أيها الناس أوثر الخطاب باسم الجنس مصدرا بحرف التنبيه تعميما للتبليغ وإظهارا لكمال العناية بشأن ما بلغ إليهم

إن كنت في شك من ديني الذي أتعبد اللّه عز و جل به وأدعوكم إليه ولم تعلموا ما هو وما صفته

فلا أعبد الذين تعبدون من دون اللّه في وقت من الأوقات

ولكن أعبد اللّه الذي يتوفاكم ثم يفعل بكم ما يفعل من فنون العذاب أي فاعلموا أنه تخصيص العبادة به ورفض عبادة ما سواه من الأصنام وغيرها مما تعبدونه جهلا وتقديم ترك عبادة الغير على عبادته تعالى لتقدم التخلية على التحلية كما في كلمة التوحيد وللإيذان بالمخالفة من أول الأمر أو إن كنتم في شك من صحة ديني وسداده فاعلموا أن خلاصته إخلاص العبادة لمن بيده الإيجاد والإعدام دون ما هو بمعزل منهما من الأصنام فاعرضوها على عقولكم وأجيلوا فيها أفكاركم وانظروا فيها بعين الإنصاف لتعلموا أنه حق لا ريب فيه وفي تخصيص التوفي بالذكر متعلقا بهم ما لا يخفى من التهديد والتعبير عما هم فيه بالشك مع كونهم قاطعين بعدم الصحة للإيذان بأن أقصى ما يمكن عروضه للعاقل في هذا الباب هو الشك في صحته

وأما القطع بعدمها فمما لا سبيل إليه أو إن كنتم في شك من ثباتي على الدين فاعلموا أني لا أتركه أبدأ

وأمرت أن أكون من المؤمنين بما دل عليه العقل ونطق به الوحي وهو تصريح بأن ما هو عليه من دين التوحيد ليس بطريق العقل الصرف بل بالإمداد السماوي والتوفيق الإلهي وحذف حرف الجر من أن يجوز أن يكون من باب الحذف المطرد مع أن وأن يكون خاصا بفعل الأمر كما في قوله أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

١٠٥

وأن أقم وجهك الدين عطف على أن أكون خلا أن صلة أن محكية بصيغة الأمر ولا ضير في ذلك لأن مناط جواز وصلها بصيغ الأفعال دلالتها على المصدر وذلك لا يختلف بالخبرية والطلبية ووجوب كون الصلة خبرية في الموصول الأسمى إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهي لا توصف إلا بالجمل الخبرية وليس الموصول الحرفي كذلك أي وأمرت بالاستقامة في الدين والاستبداد فيه بأداء المأمور به والانتهاء عن المنهى عنه أو باستقبال القبلة في الصلاة وعدم الالتفات إلى اليمين والشمال حنيفا حال من الدين أو الوجه أي مائلا عن الأديان الباطلة

ولا تكونن من المشركين عطف على أقم داخل تحت الأمر أى لا تكونن منهم اعتقادا ولا عملا و قوله عز وعلا

١٠٦

ولا تدع عطف على قوله تعالى قل يا أيها الناس غير داخل تحت الأمر

وقيل على ما قبله من النهى والوجه هو الأول لأن ما بعده من الجمل إلى آخر الآيتين متسقة لا يمكن فصل بعضها عن بعض كما ترى ولا وجه لادراج الكل تحت

الأمر وهو تأكيد للنهي المذكور وتفصيل لما أجمل فيه إظهارا لكمال العناية بالأمر وكشفا عن وجه بطلان ما عليه المشركون أي لا تدع من دون اللّه استقلالا ولا اشتراكا ما لا ينفعك إذا دعوته بدفع مكروه أو جلب محبوب

ولا يضرك إذا تركته بسلب المحبوب دفعا أو رفعا أو بإيقاع المكروه وتقديم النفع على الضرر غنى عن بيان السبب

فإن فعلت أي ما نهيت عنه من دعاء ما لا ينفع ولا يضر كني به عنه تنويها لشأنه صلى اللّه عليه و سلم وتنبيها على رفعة مكانه من أن ينسب إليه عبادة غير اللّه سبحانه ولو في ضمن الجملة الشرطية

فإنك إذا من الظالمين جزاء للشرط وجواب لسؤال من يسأل عن تبعة ما نهى عنه

١٠٧

وإن يمسسك اللّه بضر تقرير لما أورد في حيز الصلة من سلب النفع من الأصنام وتصوير لاختصاصه به سبحانه

فلا كاشف له عنك كائنا من كان وما كان

إلا هو وحده فيثبت عدم كشف الأصنام بالطريق البرهاني وهو بيان لعدم النفع برفع المكروه المستلزم لعدم النفع بجلب المحبوب استلزاما ظاهرا فإن رفع المكروه أدنى مراتب النفع فإذا انتفى انتفى بالكلية

وإن يردك بخير تحقيق لسلب الضرر الوارد في حيز الصلة أي إن يرد أن يصيبك بخير

فلا راد لفضله الذي من جملته ما أرادك به من الخير فهو دليل على جواب الشرط لا نفس الجواب وفيه إيذان بأن فيضان الخير منه تعالى بطريق التفضل من غير استحقاق عليه سبحانه أي لا أحد يقدر على رده كائنا ما كان فيدخل فيه الأصنام دخولا أوليا وهو بيان لعدم ضرها بدفع المحبوب قبل وقوعه المستلزم لعدم ضرها برفعه أو بإيقاع المكروه استلزاما جليا ولعل ذكر الإرادة مع الخير والمس مع الضر مع تلازم الأمرين للإيذان بأن الخير مراد بالذات وأن الضر إنما يمس من يمسه لما يوجبه من الدواعي الخارجية لا بالقصد الأولى أو أريد معنى الفعلين في كل من الضر والخير وأنه لا راد لما يريد منهما ولا مزيل لما يصيب به منهما فأوجز الكلام بأن ذكر في أحدهما المس وفي الآخر الإرادة ليدل بما ذكر في كل جانب على ما ترك في الجانب الآخر على أنه قد صرح بالإصابة حيث قيل

يصيب به إظهارا لكمال العناية بجانب الخير كما ينبيء عنه ترك الاستثناء فيه أي يصيب بفضله الواسع المنتظم لما أرادك به من الخير وجعل الفضل عبارة عن ذلك الخير بعينه على أن يكون من باب وضع المظهر في موضع المضمر لما ذكر من الفائدة يأباه قوله عز و جل

من يشاء من عباده فإن ذلك ينادى بعموم الفضل وقوله عز قائلا

وهو الغفور الرحيم تذليل لقوله تعالى يصيب به الخ مقرر لمضمونه والكل تذييل للشرطية الأخيرة محقق لمضمونها

١٠٨

قل مخاطبا لأولئك الكفرة بعد ما بلغتهم ما أوحى إليك

يأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم وهو القرآن العظيم المشتمل على محاسن الأحكام التي من جملتها ما مر آنفا من أصول الدين واطلعتم على ما في تضاعيفه من البينات والهدى ولم يبق لكم عذر

فمن اهتدى بالإيمان به والعمل بما في مطلوبه

فإنما يهتدى لنفسه أي منفعة اهتدائه لها خاصة

ومن ضل بالكفر به والإعراض عنه

فإنما يضل عليها أي فوبال الضلال مقصور عليها والمراد تنزيه ساحة الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه صلى اللّه عليه و سلم من جلب نفع أو دفع ضر كما يلوح به إسناد المجيء إلى الحق من غير إشعار بكون ذلك بواسطته

وما أنا عليكم بوكيل بحفيظ موكول إلى أمركم وإنما أنا بشير ونذير

١٠٩

واتبع اعتقادا وعملا وتبليغا

ما يوحى إليك على نهج التجدد والاستمرار من الحق المذكور المتأكد يوما فيوما وفي التعبير عن بلوغه إليهم بالمجيء وإليه صلى اللّه عليه و سلم بالوحى تنبيه على ما بين المرتبتين من التنائي

واصبر على ما يعتريك من مشاق التبليغ

حتى يحكم اللّه بالنصرة عليهم أو بالأمر بالقتال

وهو خير الحاكمين إذ لا يمكن الخطأ في حكمه لاطلاعه على السرائر اطلاعه على الظواهر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من قرأ سورة يونس أعطى له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به وبعدد من غرق مع فرعون والحمد للّه وحده

﴿ ٠