ÓõæÑóÉõ åõæÏò Úóáóíúåö ÇáÓøóáóÇãõ ãóßøöíøóÉñ

æóåöíó ãöÇÆóÉñ æËóáÇóËñ æóÚöÔúÑõæäó ÂíóÉð

سورة هود (عليه السلام)

سورة هود عليه السلام مكية وهي مائة وثلاث وعشرون آية سورة هود

بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

١

الر محله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف

وقيل على أنه مبتدأ والأول هو الأظهر كما أشير إليه في سورة يونس أو النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اذكر أو اقرأ على تقدير كونه اسما للسورة على ما عليه إطباق الأكثر أو لا محل له من الإعراب مسرود على نمط التعديد حسبما فصل في أخواته وقوله تعالى

كتاب خبر له على الوجه الثاني ولمبتدأ محذوف على الوجوه الباقية

أحكمت آياته نظمت نظما متقنا لا يعتريه خلل بوجه من الوجوه أو جعلت حكيمة لانطوائها على جلائل الحكم البالغة ودقائقها أو منعت من النسخ بمعنى التغيير مطلقا أو أيدت بالحجج القاطعة الدالة على كونها من عند اللّه عز و جل أو على ثبوت مدلولاتها فالمراد بالآيات جميعها أو على حقية ما تشتمل عليه من الأحكام الشرعية فالمراد بها بعضها المشتمل عليها كما إذا فسر الإحكام بالمنع من النسخ بمعنى تبديل الحكم الشرعي خاصة

وأما تفسيره بالمنع من الفساد أخذا من قولهم أحكمت الدابة إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح ففيه إيهام ما لا يكاد يليق بشأن الآيات الكريمة من التداعي إلى الفساد لولا المانع وفي اسناد الإحكام على الوجوه المذكورة إلى الآيات الكتاب دون نفسه لا سيما على الوجوه الشاملة لكل آية آية منه من حسن الموقع والدلالة على كونه في أقصى غاية منه ما لا يخفى

ثم فصلت أي جعلت فصولا من الأحكام والدلائل والمواعظ والقصص أو فصل فيها مهمات العباد في المعاش والمعاد على الإسناد المجازي والتفسير بجعلها آية آية لا يساعده المقام لأن ذلك من الأوصاف الأولية فلا يناسب عطفه على إحكامها بكلمة التراخي

وأما المعنيان الأولان فهما وإن كانا مع الإحكام زمانا حيث لم تزل الآيات محكمة مفصلة لا أنها أحكمت أو فصلت بعد أن لم تكن كذلك إذ الفعلان من قبيل قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل إلا أنهما حيث كانا من صفات الآيات باعتبار نسبة بعضها إلى بعض على وجه يستتبع أحكاما مخصوصة وآثارا معتدا بها وبملاحظة مصالح العباد ناسب أن يشار إلى تراخى رتبتهما عن رتبة الإحكام وإن حمل جعلها آية آية على معنى تفريق بعضها عن بعض يكون من هذا القبيل إلا أنه ليس في مثابته في استتباع ما يستتبعه من الأحكام والآثار أو فرقت في التنزيل منجمة بحسب المصالح فإن أريد تنزيلها المنجم بالفعل فالتراخي زماني وإن أريد جعلها في نفسها بحيث يكون نزولها منجما حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فهو رتبي لأن ذلك وصف لازم لها حقيق بأن يرتب على وصف إحكامها وقرئ أحكمت

آياته ثم فصلت على صيغة التكلم وعن عكرمة والضحاك ثم فصلت أي فرقت بين الحق والباطل

من لدن حكيم خبير صفة للكتاب وصف بها بعد ما وصف بإحكام آياته وتفصيلها الدالين على علو رتبته من حيث الذات إبانة لجلالة شأنه من حيث الإضافة أو خبر بعد خبر للمبتدأ المذكور أو المحذوف أو صلة للفعلين وفي بنائهما للمفعول ثم إيراد الفاعل بعنوان الحكمة البالغة والإحاطة بجلائلها ودقائقها منكرا بالتنكير التفخيمي وربطهما به لا على النهج المعهود في إسناد الأفاعيل إلى قواعدها مع رعاية حسن الطباق من الجزالة والدلالة على فخامتهما وكونهما على أكمل ما يكون مالا يكتنه كنهه

٢

ألا تعبدوا إلا اللّه مفعول له حذف عنه اللام مع فقدان الشرط أعنى كونه فعلا لفاعل الفعل المعلل جريا على سنن القياس المطرد في حذف حرف الجر مع أن المصدرية كأنه قيل كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا اللّه أي لتتركوا عبادة غير اللّه عز و جل وتتمحضوا في عبادته فإن الإحكام والتفصيل على ما فصل من المعاني مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد وما يتفرع عليه من الطاعات قاطبة

وقيل أن مفسرة لما في التفصيل من معنى القول أي قيل لا تعبدوا إلا اللّه

إنني لكم منه من جهة اللّه تعالى

نذير أنذركم عذابه إن لم تتركوا ما أنتم عليه من الكفر وعبادة غير اللّه تعالى

وبشير أبشركم بثوابه إن آمنتم به وتمحضتم في عبادته ولما ذكر شؤون الكتاب من إحكام آياته وتفصيلها وكون ذلك من قبل اللّه تعالى وأورد معظم ما نظم في سلك الغاية والأمر من التوحيد وترك الإشراك وسط بينه وبين قرينيه أعني الاستغفار والتوبة ذكر أن من نزل عليه ذلك الكتاب مرسل من عند اللّه تعالى لتبليغ أحكامه وترشيحها بالمؤيدات من الوعد والوعيد للإيذان بأن التوحيد في أقصى مراتب الأهمية حتى أفرد بالذكر وأيد إيجابه بالخطاب غب الكتاب مع تلويح بأنه كما لا يتحقق في نفسه إلا مقارنا للحكم برسالته صلى اللّه عليه و سلم كذلك في الذكر لا ينفك أحدهما عن الآخر وقد روعى في سوق الخطاب بتقديم الإنذار على التبشير ما روعى في الكتاب من تقديم النفي على الإثبات والتخلية على التحلية ليتجاوب أطراف الكلام ويجوز أن يكون قوله تعالى ألا تعبدوا إلا اللّه كلاما منقطعا عما قبله وارادا على لسانه صلى اللّه عليه و سلم إغراء لهم على اختصاصه تعالى بالعبادة كأنه صلى اللّه عليه و سلم قال ترك عبادة غير اللّه أي الزموه على معنى اتركوا عبادة غير اللّه تركا مستمرا إنني لكم من جهة اللّه تعالى نذير وبشير أي نذير أنذركم من عقابه على تقدير استمراركم على الكفر وبشير أبشركم بثوابه على تقدير ترككم له وتوحيدكم ولما سبق إليهم حديث التوحيد وأكد ذلك بخطاب الرسول صلى اللّه عليه و سلم على وجه الإنذار والتبشير شرع في ذكر ما هو من تتماته على وجه يتضمن تفصيل ما أجمل في وصف البشير والنذير فقيل

٣

وأن استغفروا ربكم وهو معطوف على أن لا تعبدوا على ما ذكر من الوجهين فعلى الأول أن

مصدرية لجواز كون صلتها أمرا أو نهيا كما في قوله تعالى وأن أقم وجهك للدين حنيفا لأن مدار جواز كونها فعلا إنما هو دلالته على المصدر وهو موجود فيهما ووجوب كونها خبرية في صلة الموصول الاسمى إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهي لا توصف بها إلا إذا كانت خبرية

وأما الموصول الحرفي فليس كذلك ولما كان الخبر والإنشاء في الدلالة على المصدر سواء ساغ وقوع الأمر والنهي صلة حسبما ساغ وقوع الفعل فيتجرد عند ذلك عن معنى الأمر والنهي نحو تجرد الصلة الفعلية عن معنى المضي والاستقبال

ثم توبوا إليه عطف على استغفروا والكلام فيه كالكلام فيه والمعنى فعل ما فعل من الإحكام والتفصيل لتخصوا اللّه تعالى بالعبادة وتطلبوا منه ستر ما فرط منكم من الشرك ثم ترجعوا إليه بالطاعة أو تستمروا على ما أنتم عليه من التوحيد والاستغفار أو تستغفروا من الشرك وتتوبوا من المعاصي وعلى الثاني أن مفسرة أي قيل في أثناء تفصيل الآيات لا تعبدوا إلا اللّه واستغفروه ثم توبوا إليه والتعرض لوصف الربوبية تلقين للمخاطبين وإرشاد لهم إلى طريق الابتهال في السؤال وترشيح لما يعقبه من التمتيع وإيتاء الفضل بقوله تعالى

يمتعكم متاعا حسنا أي تمتيعا وانتصابه على أنه مصدر حذف منه الزوائد كقوله تعالى أنبتكم من الأرض نباتا أو على أنه مفعول به وهو اسم لما يتمتع به من منافع الدنيا من الأموال والبنين وغير ذلك والمعنى يعشكم عيشا مرضيا لا يفوتكم فيه شيء مما تشتهون ولا ينغصه شيء من المكدرات

إلى أجل مسمى مقدر عند اللّه عز و جل وهو آخر أعماركم ولما كان ذلك غاية لا يطمح وراءها طامح جرى التمتيع إليها مجرى التأبيد عادة أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال

ويؤت كل ذي فضل في الطاعة والعمل

فضله جزاء فضله إما في الدنيا أو في الآخرة وهذه تكملة لما أجمل من التمتيع إلى أجل مسمى وتببين لما عسى يعسر فهم حكمته من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحال بين العاملين فرب إنسان له فضل طاعة وعمل لا يمتع في الدنيا أكثر مما متع آخر دونه في الفضل وربما يكون المفضول أكثر تمتيعا فقيل ويعط كل فاضل جزاء فضله إما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد

وأما في الآخرة وذلك مما لا مرد له وهذا ضرب تفصيل لما أجمل فيما سبق من البشارة ثم شرع في الإنذار فقيل

وإن تولوا أي تتولوا عما القى إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبة وإنما أخر عن البشارة جريا على سنن تقدم الرحمة على الغضب أو لأن العذاب قد علق بالتولى عما ذكر من التوحيد والاستغفار والتوبة وذلك يستدعي سابقة ذكره وقرئ تولوا من ولى

فإني أخاف عليكم بموجب الشفقة والرأفة أو أتوقع

عذاب يوم كبير هو يوم القيامة وصف بالكبر كما وصف بالعظم في قوله تعالى ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم إما لكونه كذلك في نفسه أو وصف بوصف ما يكون فيه كما وصف بالثقل في قوله تعالى ثقلت في السموات والأرض

وقيل يوم الشدائد وقد ابتلوا بقحط أكلوا فيه الجيف وأيا ما كان ففي إضافة العذاب إليه تهويل وتفظيع له

٤

إلى اللّه مرجعكم رجوعكم بالموت ثم البعث للجزاء في مثل ذلك اليوم لا إلى غيره

وهو على كل شيء قدير فيندرج في تلك الكلية قدرته على أماتتكم ثم بعثكم وجزائكم فيعذبكم بأفانين

العذاب وهو تقرير لما سلف من كبر اليوم وتعليل للخوف ولما ألقى إليهم فحوى الكتاب على لسان النبي صلى اللّه عليه و سلم وسيق إليهم ما ينبغي أن يساق من الترغيب والترهيب وقع في ذهن السامع أنهم بعد ما سمعوا مثل هذا المقال الذي تخر له صم الجبال هل قابلوه بالإقبال أم تمادوا فيما كانوا عليه من الإعراض والضلال فقيل مصدرا بكلمة التنبيه إشعارا بأن ما يعقبها من هناتهم أمر يجب أن يفهم ويتعجب منه

٥

ألا إنهم يثنون صدورهم يزورون عن الحق وينحرفون عنه أي يستمرون على ما كانوا عليه من التولي والإعراض لأن من أعرض عن شيء ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه وهذا معنى جزل مناسب لما سبق وقد نحا نحوه العلامة الزمخشري ولكن حيث لم يصلح التولي سببا للاستخفاء في قوله عز و جل

ليستخفوا منه التجأ إلى إضمار الإرادة حيث قال ويريدون ليستخفوا من اللّه تعالى فلا يطلع رسوله والمؤمنين على إعراضهم وجعله في قود المعنى إليه من قبيل الإضمار قي قوله تعالى اضرب بعصاك البحر فانفلق أي فضرب فانفلق ولا يخفى أن انسياق الذهن إلى توسيط الإرادة بين ثني الصدور وبين الاستخفاء ليس كانسياقه إلى توسيط الضرب بين الأمر به وبين الانفلاق ولعل الأظهر أن معناه يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق وعداوة النبي صلى اللّه عليه و سلم بحيث يكون ذلك مخفيا مستورا فيها كما تعطف الثياب على ما فيها من الأشياء المستورة وإنما لم يذكر ذلك استهجانا بذكره أو إيماء إلى أن ظهوره مغن عن ذكره أو ليذهب ذهن السامع إلى كل ما لا خير فيه من الأمور المذكورة فيدخل فيه ما ذكر من توليهم عن الحق الذي ألقى إليهم دخولا أوليا فحينئذ يظهر وجه كون ذلك سببا للاستخفاء ويؤيده ما روى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو المنطق حسن السياق للحديث يظهر لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم المحبة ويضمر في قلبه ما يضادها وقال ابن شداد إنها نزلت في بعض المنافقين كان إذا مر برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كيلا يراه النبي صلى اللّه عليه و سلم فكأنه إنما كان يصنع ما يصنع لأنه لو رآه النبي صلى اللّه عليه و سلم لم يمكنه التخلف عن حضور مجلسه والمصاحبة معه وربما يؤدى ذلك إلى ظهور ما في قلبه من الكفر والنفاق وقرئ يثنوني صدورهم بالياء والتاء من اثنوني افعوعل من الثنى كاحلولى من الحلاوة وهو بناء مبالغة وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما لتثنونى وقرئ تثنون وأصله تثنونن من تفعوعل من الثن وهو ما هش من الكلأ وضعف يريد مطاوعة صدروهم للثني كما يثني الهش من النبات أو أراد ضعف إيمانهم ورخاوة قلوبهم وقرئ تثنن من اثنان افعال منه ثم همز كما قيل ابيأضت وادهامت وقرئ تثنوي بوزن ترعوى

ألا حين يستغشون ثيابهم أي يتغطون بها للاستخفاء على ما نقل عن ابن شداد أو حين يأوون إلى فراشهم ويتدثرون بثيابهم فإن ما يقع حينئذ حديث النفس عادة

وقيل كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخى ستره ويحى ظهره

ويتغشى بثوبه ويقول هل يعلم اللّه ما في قلبي

يعلم ما يسرون أي يضمرون في قلوبهم

وما يعلنون أي يستوي بالنسبة إلى علمه المحيط سرهم وعلنهم فكيف يخفى عليه ما عسى يظهرونه وإنما قدم السر على العلن نعيا عليهم من أول الأمر ما صنعوا وإيذانا بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه وتحقيقا للمساواة بين العلمين على أبلغ وجه فكأن علمه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه ونظيره قوله تعالى قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه اللّه حيث قدم فيه الإخفاء على الإبداء على عكس ما وقع في قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به اللّه إذ لم يتعلق بإشعار أن المحاسبة بما يخفونه أولى منها بما يبدونه غرض بل الأمر بالعكس

وأما ههنا فقد تعلق بإشعار كون تعلق علمه تعالى بما يسرونه أولى منه بما يعلنونه غرض مهم مع كونهما على السوية كيف لا وعلمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول الصورة بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة

وأما قوله تعالى وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون فحيث كان واردا بصدد الخطاب مع الملائكة عليهم السلام المنزه مقامهم عن اقتضاء التأكيد والمبالغة في الإخبار بإحاطة علمه تعالى بالظاهر والباطن لم يسلك فيه ذلك المسلك مع أنه وقع الغنية عنه بما قبله من قوله عز و جل إني أعلم غيب السموات والأرض ويجوز أن يكون ذلك باعتبار أن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في القلب فتعلق علمه سبحانه بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية

إنه عليم بذات الصدور تعليل لما سبق وتقرير له واقع موقع الكبرى من القياس وفي صيغة الفعيل وتحلية الصدور بلام الاستغراق والتعبير عن الضمائر بعنوان صاحبيتها من البراعة ما لا يصفه الواصفون كأنه قيل إنه مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة في صدورهم بحيث لا تفارقها أصلا فكيف يخفى عليه ما يسرون وما يعلنون ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب من قوله تعالى ولكن تعمى القلوب التي في الصدور والمعنى أنه عليم بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها

٦

وما من دابة في الأرض إلا على اللّه رزقها غذاؤها اللائق بها من حيث الخلق ومن حيث الإيصال إليها بطريق طبيعي أو إرادي لتكفله إياه تفضلا ورحمة وإنما جيء به على طريق الوجوب اعتبارا لسبق الوعد وتحقيقا لوصوله إليها البتة وحملا للمكلفين على الثقة به تعالى والإعراض عن إتعاب النفس في طلبه

ويعلم مستقرها محل قرارها في الأصلاب

ومستودعها موضعها في الأرحام وما يجرى مجراها من البيض ونحوها وإنما خص كل من الاسمين بما خص به من المحلين لأن النطفة بالنسبة إلى الأصلاب في حيزها الطبيعي ومنشئها الخلقي

وأما بالنسبة إلى الأرحام وما يجرى مجراها فهي مودعة فيها إلى وقت معين أو مسكنها من الأرض حين وجدت بالفعل ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة ولعل تقديم محلها باعتبار حالتها الأخيرة لرعاية المناسبة بينها وبين عنوان كونها دابة في الأرض والمعنى وما من دابة في الأرض إلا يرزقها اللّه تعالى حيث كانت من أماكنها يسوقه إليها ويعلم موادها المتخالفة المندرجة في مراتب الاستعدادات المتفاوتة المتطورة في الأطوار المتباينة ومقارها المتنوعة ويفيض عليها في كل مرتبة ما يليق بها من مبادى وجودها وكمالاتها المتفرعة عليه وقد فسر المستودع بأماكنها في الممات ولا يلائمه مقام التكفل بارزاقها

كل من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها

في كتاب مبين أي مثبت في اللوح المحفوظ البين لمن ينظر فيه من الملائكة عليهم السلام أو المظهر لما أثبت فيه للناظرين ولما انتهى الامر إلى أنه سبحانه محيط بجميع أحوال ما في الأرض من المخلوقات التي لا تكاد تحصى من مبدأ فطرتها إلى منتهاها اقتضى الحال التعرض لمبدأ خلق السموات والأرض والحكمة الداعية إلى ذلك فقيل

٧

وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام السموات في يومين والأرض في يومين وما عليها من أنواع الحيوانات والنبات وغير ذلك في يومين حسبما فعل في سورة حم السجدة ولم يذكر خلق ما في الأرض لكونه من تتمات خلقها وهو السر في جعل الزمان خلقه تتمة لزمان خلقها في قوله تعالى في أربعة أيام في تتمة أربعة أيام والمراد بالأيام الأوقات كما في قوله تعالى ومن يولهم يومئذ دبره أي في ستة أوقات أو مقدار ستة أيام فإن اليوم في المتعارف زمان كون الشمس فوق الأرض ولا يتصور ذلك حين لا لأرض ولا سماء وفي خلقها مدرجا مع القدرة التامة على خلقها دفعة دليل على أنه قادر مختار وحث على التأني في الأمور

وأما تخصيص ذلك بالعدد المعين فأمر استأثر بعلم ما يقتضيه علم الغيوب جلت حكمته وإيثار صيغة الجمع في السموات لما هو المشهور من الإشارة إلى كونها أجراما مختلفة الطبائع ومتفاوتة الآثار والأحكام

وكان عرشه قبل خلقهما

على الماء ليس تحته شيء غيره سواء كان بينهما فرجة وكان موضوعا على متنه كما ورد في الأثر فلا دلالة فيه على إمكان الخلاء كيف لا ولو دل لدل على وجوده لا على إمكانه فقط ولا على كون الماء أول ما حدث في العالم بعد العرش وإنما يدل على أن خلقهما أقدم من خلق السموات والأرض من غير تعرض للنسبة بينهما

ليبلوكم متعلق بخلق أي خلق السموات والأرض وما فيهما من المخلوقات التي من جملتها أنتم ورتب فيهما جميع ما تحتاجون إليه من مبادى وجودكم وأسباب معايشكم وأودع في تضاعيفهما من تعاجيب الصنائع والعبر ما تستدلون به على مطالبكم الدينية ليعاملكم معاملة من يبتليكم

أيكم أحسن عملا فيجازيكم بالثواب والعقاب غب ما تبين المحسن من المسيء وامتازت درجات أفراد كل من الفريقين حسب امتياز طبقات علومهم واعتقاداتهم المترتبة على أنظارهم فيما نصب من الحجج والدلائل والإمارات والمخايل ومراتب أعمالهم المتفرعة على ذلك فإن العمل غير مختص بعلم الجوارح ولذلك فسره صلى اللّه عليه و سلم بقوله أيكم

أحسن عقلا وأورع عن محارم اللّه وأسرع في طاعة اللّه فإن لكل من القلب والقالب عملا مخصوصا به فكما أن الأول أشرف من الثاني فكذا الحال في عمله كيف لا ولا عمل بدون معرفة اللّه عز و جل الواجبة على العباد آثر ذي أثير وإنما طريقها النظرى التفكر في بدائع صنائع الملك الخلاق والتدبر في آياته البينات المنصوبة في الأنفس والآفاق ولا طاعة بدون فهم ما في مطاوى الكتاب الحكيم من الأوامر والنواهي وغير ذلك مما له مدخل في الباب وقد روى عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أنه قال لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض قالوا وإنما كان ذلك التفكر في أمر اللّه عز و جل الذي هو عمل القلب لأن أحدا لا يقدر على أن يعمل في اليوم بجوارحه مثل علم أهل الأرض وتعليق فعل البلوى أي تعقيبه بحرف الاستفهام لا التعليق المشهور الذي يقتضى عدم إيراد المفعول أصلا مع اختصاصه بأفعال القلوب لما فيه من معنى العلم باعتبار عاقبته كالنظر ونظائره ولذلك أجرى مجراه بطريق التمثيل أو الاستعارة التبعية وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل للفريقين باعتبار أعمالهم المقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات والمقصود الأصلى مما ذكر من إبداع تلك البدائع على ذلك النمط الرائع إنما هو ظهور كمال إحسان المحسنين وأن ذلك لكونه على أتم الوجوه اللائقة وأكمل الأساليب الرائقة يوجب العمل بموجبه بحيث لا يحيد أحد عن سننه المستبين بل يهتدى كل فرد إلى ما يرشد إليه من مطلق الإيمان والطاعة وإنما التفاوت بينهم في مراتبهما بحسب القوة والضعف والكثرة والقلة

وأما الإعراض عن ذلك والوقوع في مهاوى الضلال فبمعزل من الاندراج تحت الوقوع فضلا عن أن ينظم ظهوره في سلك العلة الغائبة لذلك الصنع البديع وإنما هو عمل يصدر عن عاملة بسوء اختياره من غير مصحح له ولا تقريب ولا يخفى ما فيه من الترغيب في الترقى إلى معارج العلوم ومدارج الطاعات والزجر عن مباشرة نقائضها واللّه تعالى أعلم

ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت على ما يوجبه قضية الابتلاء ليترتب عليه الجزاء المتفرع على ظهور مراتب الأعمال

ليقولن الذين كفروا إن وجه الخطاب في قوله تعالى إنكم إلى جميع المكلفين فالموصول مع صلته للتخصيص أي ليقولن الكافرون منهم وإن وجه إلى الكافرين منهم فهو وارد على طريقة الذم

إن هذا إلا سحر مبين أي مثله في الخديعة أو البطلان وهذا إشارة إلى القول المذكور أو إلى القرآن فإن الإخبار عن كونهم مبعوثين وإن لم يجب كونه بطريق الوحى المتلو إلا أنهم عند سماعهم ذلك تخلصوا إلى القرآن لانبائه عنه في كل موضع وكونه علما عندهم في ذلك فعمدوا إلى تكذيبه وتسميته سحرا تماديا منهم في العناد وتفاديا عن سنن الرشاد

وقيل هو إشارة إلى نفس البعث ولا يلائمه التسمية بالسحر فإنه إنما يطلق على شيء موجود ظاهرا لا أصل له في الحقيقة ونفس البعث عندهم معدوم بحت وتعلق الآية الكريمة بما قبلها إما من حيث أن البعث كما أشير إليه من تتمات الابتلاء المذكور فكأنه قيل الأمر كما ذكر ومع ذلك إن أخبرتهم بمقدمة فذة من مقدماته وقضية فرده من تتماته لا يتلعثمون في الرد ويعدون ذلك من قبيل ما لا صحة له أصلا فضلا عن تصديق ما هذه من تتماته

وأما من حيث أن البعث خلق جديد فكأنه قيل وهو الذي خلق جميع المخلوقات ابتداء لهذه الحكمة البالغة ومع ذلك إن أخبرتهم بأنه يعيدهم تارة أخرى وهو

أهون عليه يقولون ما يقولون فسبحان اللّه عما يصفون وقرأ حمزة والكسائى إلا ساحر على ان الإشارة إلى القاتل أو إلى القرآن على اسلوب شعر شاعر وقرئ بالفتح على تضمين قلت معنى ذكرت أو على أن أنك بمعنى عنك في علك أى ولئن قلت لعلكم مبعوثون على أن الرجاء والتوقع باعتبار حال المخاطبين أي توقعوا ذلك ولا تبتوا القول بإنكاره أو على أنه مجاراة معهم في الكلام على نهج المساعدة لئلا يسارعوا إلى اللجاج والعناد ريثما قرع أسماعهم بت القول بخلاف ما ألفوا وألفوا عليه آباءهم من إنكار البعث ويكون ذلك أدعى لهم إلى التأمل والتدبر وما فعلوه قاتلهم اللّه أنى يؤفكون

٨

ولئن أخرنا عنهم العذاب المترتب على بعثهم أو العذاب الموعود في قوله تعالى فإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير

وقيل عذاب يوم بدر وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قتل جبريل عليه السلام للمستهزئين والظاهر أن المراد به العذاب الشامل للكفرة دون ما يخص ببعض منهم على أنه لم يكن موعودا يستعجل منه المجرمون

إلى أمة معدودة إلى طائفة من الأيام قليلة لأن ما يحصره العد قليل

ليقولن ما يحبسه أى أى شيء يمنعه من المجيء فكأنه يريده فيمنعه مانع وإنما كانوا يقولونه بطريق الاستعجال استهزاء لقوله تعالى ما كانوا به يستهزئون ومرادهم إنكار المجيء والحبس رأسا لا الاعتراف به والاستفسار عن حابسه

ألا يوم يأتيهم ذلك

ليس مصروفا محبوسا

عنهم على معنى أنه لا يرفعه رافع أبدا إن أريد به عذاب الآخرة أو لا يدفعه عنكم دافع بل هو واقع بكم إن أريد به عذاب الدنيا ويوم منصوب بخبر ليس مقدما عليه واستدل به البصريون على جواز تقديمه على ليس إذ المعمول تابع للعامل فلا يقع إلا حيث يقع متبوعه ورد بأن الظرف يجوز فيه ما لا يجوز في غيره توسعا وبأنه قد يقدم المعمول حيث لا مجال لتقدم العامل كما في قوله تعالى فأما اليتيم فلا تقهر

وأما السائل فلا تنهر فإن اليتيم والسائل مع كونهما منصوبين بالفعلين المجزومين قد تقدما على لا الناهية مع امتناع تقدم الفعلين عليها قال أبو حيان وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر ليس عليها ولا بتقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية الكريمة وقول الشاعر

... فيأبى فما يزداد إلا لجاجة ... وكنت أبيا في الخنا لست أقدم ...

وحاق بهم أي أحاط بهم

ما كانوا به يستهزءون أى العذاب الذي كانوا يستعجلون به استهزاء وفي التعبير عنه بالموصول تهويل لمكانه وإشعار بعلية ما ورد في حيز الصلة من استهزائهم به لنزوله وإحاطته والتعبير عنها بالماضي وارد على عادة اللّه تعالى في أخباره لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر وتقرير وقوع المخبر به ما لا يخفى

٩

ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة أى أعطيناه نعمة من صحة وأمن وجدة وغيرها وأوصلناها إليه بحيث يجد لذتها

ثم نزعناها منه أى

 سلبناه وإياها وإيراد النزع للإشعار بشدة تعلقه بها وحرصه عليها

أنه ليئوس شديد القنوط من روح اللّه قطوع رجاءه من عود أمثالها عاجلا أو آجلا بفضل اللّه تعالى لقلة صبره وعدم توكله عليه وثقته به

كفور عظيم الكفران لما سلف من النعم وفيه إشارة إلى أن النزع إنما كان بسبب كفرانهم بما كانوا يتقلبون فيه من نعم اللّه عز و جل وتأخيره عن وصف يأسهم مع تقدمه عليه لرعاية الفواصل على أن اليأس من فضل اللّه سبحانه وقطع الرجاء عن إضافة أمثاله في العاجل وإيصال أجره في الآجل من باب الكفران للنعمة السالفة أيضا

١٠

ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته كصحة بعد سقم وجدة بعد عدم وفرج بعد شدة وفي التعبير عن ملابسه الرحمة والنعماء بالذوق المؤذن بلذتهما وكونهما مما يرغب فيه وعن ملابسه الضراء بالمس المشعر بكونها في أدنى ما ينطلق عليه اسم الملاقاة من مراتبها وإسناد الأول إلى اللّه عز و جل دون الثاني ما لا يخفي من الجزالة والدلالة على أن مراده تعالى إنما هو إيصال الخير المرغوب فيه على أحسن ما يكون وأنه إنما يريد بعبادة اليسر دون العسر وإنما ينالهم ذلك بسوء اختيارهم نيلا يسيرا كأنما يلاصق البشرة من غير تأثير

وأما نزع الرحمة فإنما صدر عنه بقضية الحكمة الداعية إلى ذلك وهي كفرانهم بها كما سبق وتنكير الرحمة بإعتبار لحقوق النزع بها

ليقولن ذهب السيئات عنى أي المصائب التي تسوؤني ولن يعتريني بعد أمثالها كما هو شأن أولئك الأشرار فإن الترقب لورود أمثالها مما يكدر السرور وينغص العيش

إنه لفرح بطر وأشر بالنعم مغتر بها

فخور على الناس بما أوتى من النعم مشغول بذلك عن القيام بحقها واللام في لئن في الآيات الأربع موطئة للقسم وجوابه ساد مسد جواب الشرط

١١

إلا الذين صبروا على ما أصابهم من الضراء سابقا أو لاحقا إيمانا باللّه واستسلاما لقضائه

وعملوا الصالحات شكرا على آلائه السالفة والآنفة والام في الإنسان إما لاستغراق الجنس فالاستثناء متصل أو للعهد فمنقطع

أولئك إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل أي أولئك الموصوفون بتلك الصفات الحميدة

لهم مغفرة عظيمة لذنوبهم وإن جمت

وأجر ثواب لأعمالهم الحسنة

كبير ووجه تعلق الآيات الثلاث بما قبلهن من حيث إن إذاقة النعماء ومساس الضراء فصل من باب الابتلاء واقع موقع التفصيل من الإجمال الواقع في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا والمعنى أن كلا من إذاقة النعماء ونزعها مع كونه ابتلاء للإنسان أيشكر أم يكفر لا يهتدي إلى حسن الصواب بل يحيد في كلتا الحالتين عنه إلى مهاوي الضلال فلا يظهر منه حسن عمل إلا من الصابرين الصالحين أو من حيث أن إنكارهم بالبعث واستهزائهم بالعذاب بسبب بطرهم وفخرهم كأنه قيل إنما فعلوا ما فعلوا لأن طبيعة الإنسان مجبولة على ذلك

١٢

فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك من البينات الدالة على حقيقة نبوتك المنادية بكونها من عند اللّه عز و جل لمن له أذن واعية

وضائق به صدرك أي عارض لك ضيق صدر بتلاوته عليهم وتبليغه إليهم في أثناء الدعوة والمحاجة

أن يقولوا لأن يقولوا تعاميا عن تلك البراهين التي لا تكاد تخفي صحتها على أحد ممن له أدنى بصيرة وتماديا في العناد على وجه الاقتراح

لولا أنزل عليه كنز مال خطير مخزون يدل على صدقة

أو جاء معه ملك يصدقه قيل قاله عبد اللّه بن أمية المخزومي وروى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أن رؤساء مكة قالوا يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا وقال آخرون ائتنا بالملائكة يشهدوا بنبوتك فقال لا أقدر على ذلك فنزلت كأنه صلى اللّه عليه و سلم لما عاين اجتراءهم على اقتراح مثل هذه العظائم غير قانعين بالبينات الباهرة التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من أرباب العقول وشاهد ركوبهم من المكابرة متن كل صعب وذلول مسارعين إلى المقابلة بالتكذيب والاستهزاء وتسميتها سحرا مثل حاله صلى اللّه عليه و سلم بحال من يتوقع منه أن يضيق صدره بتلاوة تلك الآيات الساطعة عليهم وتبليغها إليهم فحمل على الحذر منه بما في لعل من الإشفاق فقيل

إنما أنت نذير ليس عليك إلا الإنذار بما أوحى إليك غير مبال بما صدر عنهم من الرد والقبول

واللّه على كل شيء وكيل يحفظ أحوالك وأحوالهم فتوكل عليه في جميع أمورك فإنه فاعل بهم ما يليق بحالهم والاقتصار على النذير في أقصى غاية من إصابة المحز

١٣

أم يقولون افتراه إضراب بأم المنقطة عن ذكر ترك اعتدادهم بما يوحى وتهاونهم به وعدم اقتناعهم بما فيه من المعجزات الظاهرة الدالة على كونه من عند اللّه عز و جل وعلى حقية نبوته صلى اللّه عليه و سلم وشروع في ذكر ارتكابهم لما هو أشد منه وأعظم وما فيها من معنى الهمزة للتوبيخ والإنكار والتعجيب والضمير المستكن في افتراه للنبي صلى اللّه عليه و سلم والبارز لما يوحى أي بل أيقولون افتراه وليس من عند اللّه

قل إن كان الأمر كما تقولون

فأتوا أنتم أيضا

بعشر سور مثله في البلاغة وحسن النظم وهو نعت لسور أي أمثاله وتوحيده إما باعتبار مماثلة كل واحد منها أو لأن المطابقة ليست بشرط حتى يوصف المثنى بالمفرد كما في قوله تعالى انؤمن لبشرين مثلنا أو للإماء إلى أن وجه الشبه ومدار المماثلة في الجميع شيء واحد هو البلاغة المؤدية إلى مرتبة الإعجاز فكان الجميع واحد

مفتريات صفة أخرى لسور اخرت عن وصفها بالمماثلة لما يوحي لأنها الصفة المقصودة بالتكليف إذ بها يظهر عجزهم وقعودهم عن المعارضة

وأما وصف الافتراء فلا يتعلق به غرض يدور عليه شيء في مقام التحدي وإنما ذكر على نهج المساهلة وإرخاء العنان ولأنه

لو عكس الترتيب لربما توهم أن المراد هو المماثلة في الافتراء والمعنى فأتوا بعشر سور مماثلة له في البلاغة مختلقات من عند أنفسكم إن صح أن اختلقته من عندي فإنكم أقدر على ذلك مني لأنكم عرب فصحاء بلغاء قد مارستم مبادى ذلك من الخطب والأشعار وحفظتم الوقائع والأيام وزاولتم أساليب النظم والنثر

وادعوا للاستظهار في المعارضة

من استطعتم دعاءه والاستعانة به من آلهتكم التي تزعمون أنها ممدة لكم في كل ما تأتون وما تذرون والكهنة ومدارهكم الذين تلجئون إلى آرائهم في الملمات ليسعدوكم فيها

من دون اللّه متعلق بادعوا أي متجاوزين اللّه تعالى

إن كنتم صادقين في إني افتريته فإن ذلك يستلزم إمكان الإتيان بمثله وهو أيضا يستلزم قدرتكم عليه والجواب محذوف يدل عليه المذكور

١٤

فإن لم يستجيبوا لكم أي فإن لم يفعلوا ما كلفوه من الإتيان بمثله كقوله تعالى فإن لم تفعلوا وإنما عبر عنه بالاستجابة إيماء إلى أنه صلى اللّه عليه و سلم على كمال أمن من أمره كأن أمره لهم بالإتيان بمثله دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه والضمير في لكم للرسول صلى اللّه عليه و سلم والجمع للتعظيم كما في قول من قال

... وإن شئت حرمت النساء سواكم ...

أوله وللمؤمنين لأنهم أتباع له صلى اللّه عليه و سلم في الأمر بالتحدي وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم ان لا ينفكوا عنه صلى اللّه عليه و سلم ويناصبوا معه لمعارضة المعارضين كما كان يفعلونه في الجهاد وإرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان والطمأنينة في الإيقان ولذلك رتب عليه قوله عز و جل فاعلموا أي اعلموا حين ظهر لكم عجزهم عن المعرضة مع تهالكهم عليها علما يقينا متاخما لعين اليقين بحيث لا مجال معه لشائبة ريب بوجه من الوجوه كأن ما عداه من مراتب العلم ليس بعلم لكن لا للإشعار بانحطاط تلك المراتب بل بارتفاع هذه المرتبة وبه يتضح سرا يراد كلمة الشك مع القطع بعدم الاستجابة فإن تنزيل سائر المراتب منزلة العدم مستتبع لتنزيل الجزم بعدم الاستجابة منزلة الشك فيه أو اثبتوا واستمروا على ما كنتم عليه من العلم

إنما أنزل ملتبسا

بعلم اللّه المخصوص به بحيث لا تحوم حوله العقول والأفهام مستبدا بخصائص الإعجاز من جهتي النظم الرائق والإخبار بالغيب

وأن لا إله إلا هو أي واعلموا أيضا أن لا شريك له في الألوهية وأحكامها ولا يقدر على ما يقدر عليه أحد

فهل أنتم مسلمون أي مخلصون في الإسلام أو ثابتون عليه وهذا من باب التثبيت والترقية إلى معارج اليقين ويجوز أن يكون الخطاب في الكل للمشركين من جهة الرسول صلى اللّه عليه و سلم داخلا تحت الأمر بالتحدي والضمير في لم يستجيبوا لمن استطعتم أي فإن لم يستجب لكم آلهتكم وسائر من إليهم تجأرون في مهماتكم وملماتكم إلى المعاونة والمظاهرة فاعلموا أن ذلك خارج عن دائرة قدرة البشر وأنه منزل من خالق القوى والقدر فإيراد كلمة الشك حينئذ مع الجزم بعدم الاستجابة من جهة آلهتكم تهكم بهم وتسجيل عليهم بكمال سخافة العقل وترتيب الأمر بالعلم على مجرد عدم الاستجابة من حيث أنه مسبوق بالدعاء المسبوق بعجزهم واضطرارهم فكأنه قيل فإن لم يستجيبوا لكم عند التجائكم إليهم بعد ما اضطررتم إلى ذلك وضاقت عليكم الحيل وعيت بكم العلل أو من حيث إن من يستمدون بهم أقوى منهم في اعتقادهم فإذا ظهر عجزهم بعدم استجابتهم وإن كان ذلك قبل ظهور

 عجز أنفسهم يكون عجزهم أظهر وأوضح واعلموا أيضا أن آلهتكم بمعزل عن رتبة الشركة في الألوهية وأحكامها فهل أنتم داخلون في الإسلام إذ لم يبق بعد شائبة شبهة في حقيته وفي بطلان ما كنتم فيه من الشرك فيدخل فيه الإذعان لكون القرآن من عند اللّه تعالى دخولا أوليا أو منقادون للحق الذي هو كون القرآن من عند اللّه تعالى وتاركون لما كنتم فيه من المكابرة والعناد وفي هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر وإقناط من أن يجيرهم آلهتهم من بأس اللّه عز سلطانه هذا والأول أنسب لما سلف من قوله تعالى وضائق به صدرك ولما سيأتي من قوله تعالى فلا تك في مرية منه وأشد ارتباطا بما يعقبه كما ستحيط به خبرا

١٥

من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها أي ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن والسعة في الرزق وكثرة الأولاد والرياسة وغير ذلك والمراد بالإرادة ما يحصل عند مباشرة الأعمال لا مجرد الإدارة القلبية لقوله تعالى

نوف إليهم أعمالهم فيها وإدخال كان عليه للدلالة على استمرارها منهم بحيث لا يكادون يريدون الآخرة أصلا وليس المراد بأعمالهم أعمال كلهم فإنه لا يجد كل متمن ما يتمناه ولا كل أحد ينال كل ما يهواه فإن ذلك منوط بالمشيئة الجارية على قضية الحكمة كما نطق به قوله تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ولا كل أعمالهم بل بعضها الذي يترتب عليه الأمور المذكورة بطريق الأجر والجزاء من أعمال البر وقد أطلقت وأريد بها ثمراتها فالمعنى نوصل إليهم ثمرات أعمالهم في الحياة الدنيا كاملة وقرىء يوف على الإسناد إلى اللّه عز و جل وتوف بالفوقانية على البناء للمفعول ورفع أعمالهم وقرىء نوفي بالتخفيف والرفع لكون الشرط ماضيا كقوله

... وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب ما لي ولا حرم ...

وهم فيها أي في الحياة الدنيا

لايبخسون أي لا ينقصون وإنما عبر عن ذلك بالبخس الذي هو نقص الحق مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاء الحقوق مع أن أعمالهم بمعزل عن كونها مستوجبة لذلك بناء للأمر على ظاهر الحال ومحافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص كأن ذلك نقص لحقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع والصدور عن الكريم أصلا والمعنى إنهم فيها خاصة لا ينقصون ثمرات أعمالهم وأجورها نقصا كليا مطردا ولا يحرمونها حرمانا كليا وما في الآخرة فهم في الحرمان المطلق واليأس المحقق كما ينطق به قوله تعالى

١٦

أولئك الخ فإنه إشارة إلى المذكورين باعتبار إرادتهم الحياة الدنيا أو باعتبار توفيتهم أجورهم من غير بخس أو باعتبارهما معا وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في سوء الحال لأي أولئك المريدون للحياة الدنيا وزينتها الموفون فيها ثمرات أعمالهم من غير بخس

الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار لأن هممهم كانت مصروفة إلى الدنيا وأعمالهم مقصورة على تحصيلها وقد

 اجتنبوا ثمرتها ولم يكونوا يريدون بها شيئا آخر فلا جرم لم يكن لهم في الآخرة إلا النار وعذابها المخلد

وحبط ما صنعوا فيها أي ظهر في الآخرة حبوط ما صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدي إلى الثواب لو كانت معمولة للآخرة أو حبط ما صنعوه في الدنيا من أعمال البر إذ شرط الاعتداد بها الإخلاص

وباطل أ ي في نفسه

ما كانوا يعملون في أثناء تحصيل المطالب الدنيوية ولأجل ان الأول من شأنه استتباع الثواب والأجر وأن عدمه لعدم مقارنته للإيمان والنية الصحيحة وأن الثاني ليس له جهة صالحة قط علق بالأول الحبوط المؤذن بسقوط اجره بصيغة الفعل المنبيء عن الحدوث وبالثاني البطلان المفصح عن كونه بحيث لا طائل تحته أصلا بالاسمية الدالة على كون ذلك وصفا لازما له ثابتا فيه وفي زيادة كان في الثاني دون الأول إيماء إلى أن صدور أعمال البر منهم وإن كان لغرض فاسد ليس في الاستمرار والدوام كصدور الأعمال التي هي من مقدمات مطالبهم الدنية وقرىء وبطل على الفعل أي ظهر بطلانه حيث علم هناك أن ذلك وما يستتبعه من الحظوظ الدنيوية مما لا طائل تحته أو انقطع أثره الدنيوي فبطل مطلقا وقرىء وباطلا ما كانوا يعملون على أن ما إبهامية أو في معنى المصدر كقوله ولا خارجا من في زور كلام وعن أنس رضى اللّه عنه أن المراد بقوله تعالى من كان يريد الخ اليهود والنصارى إن أعطوا سائلا أو وصلوا رحما عجل لهم جزاء ذلك بتوسعة في الرزق وصحة في البدن

وقيل هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فأسهم لهم في الغنائم وأنت خبير بأن ذلك إنما كان بعد الهجرة والسورة مكية

وقيل هم أهل الرياء يقال للقراء منهم أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك وهكذا لغيرة ممن يعمل أعمال البر لا لوجه اللّه تعالى فعلى هذا لا بد من تقييد قوله تعالى لهم إلا النار بأن ليس لهم بسبب أعمالهم الريائية إلا ذلك والذي تقتضيه جزالة النظم الكريم أن المراد به مطلق الكفرة بحيث يندرج فيهم القادحون في القرآن العظيم اندراجا أوليا فإنه عز وعلا لما أمر نبيه صلى اللّه عليه و سلم والمؤمنين بأن يزدادوا علما ويقينا بأن القرآن منزل بعلم اللّه وبأن لا قدرة لغيره على شيء أصلا وهيجهم على الثبات على الإسلام والرسوخ فيه عند ظهور عجز الكفرة وما يدعون من دون اللّه عن المعارضة وتبين أنهم ليسوا على شيء أصلا اقتضى الحال أن يتعرض لبض شئونهم الموهمة لكونهم على شيء في الجملة من نيلهم الحظوظ العاجلة واستيلائهم على المطالب الدنيوية وبيان أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه ولقد بين ذلك أي بيان ثم أعيد الترغيب فيما ذكر من الإيمان بالقرآن والتوحيد والإسلام فقيل

١٧

أفمن كان على بينة من ربه أي برهان نير عظيم الشأن يدل على حقية ما رغب في الثبات علية من الإسلام وهو القرآن وباعتباره أو بتأويل البرهان ذكر الضمير الراجع إليها في قوله تعالى

ويتلوه أي يتبعه

شاهد يشهد بكونه من عند اللّه تعالى وهو الإعجاز في نظمه المطرد في كل مقدار سورة منه أو ما وقع في بعض آياته من الأخبار بالغيب وكلاهما وصف تابع له شاهد بكونه من عند اللّه عز و جل غير أنه على التقدير الأول يكون في الكلام إشارة إلى حال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم والمؤمنين في تمسكهم بالقرآن عند تبين كونه منزلا بعلم اللّه بشهادة الإعجاز منه أي من القرآن غير خارج عنه أو من جهة اللّه تعالى فإن كلا منهما وارد من جهته تعالى للشهادة ويجوز على هذا التقدير أن يراد بالشاهد المعجزات الظاهرة على يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فإن ذلك أيضا من الشواهد التابعة للقرآن الواردة من جهته تعالى فالمراد بمن في قوله تعالى أفمن كل من اتصف بهذه الصفة الحميدة فيدخل فيه المخاطبون بقوله تعالى فاعلموا فهل انتم دخولا أوليا

وقيل هو النبي صلى اللّه عليه و سلم

وقيل مؤمنو أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام وأضرابه

وقيل المراد بالبينة دليل العقل وبالشاهد القرآن فالضمير في منه للّه تعالى أو البينة القرآن ويتلوه من التلاوة والشاهد جبريل أو لسان النبي صلى اللّه عليه و سلم على أن الضمير له أو من التلو والشاهد ملك يحفظ والأولى هو الأول ولما كان المراد بتلو الشاهد للبرهان إقامة الشهادة بصحته وكونه من عند اللّه تابعا له بحيث لا يفارقه في مشهد من المشاهد فإن القرآن بينة باقية على وجه الدهر مع شاهدها الذي يشهد بأمرها إلى يوم القيامة عند كل مؤمن وجاحد عطف كتاب موسى في قوله عز قائلا

ومن قبله كتاب موسى على فاعله مع كونه مقدما عليه في النزول فكأنه قيل أفمن كان على بينة من ربه ويشهد به شاهد منه وشاهد آخر من قبله هو كتاب موسى وإنما قدم في الذكر المؤخر في النزول لكونه وصفا لازما له غير مفارق عنه ولعراقته في وصف التلو والتنكير في بينة وشاهد للتفخيم

إماما أي مؤتما به في الدين ومقتدى وفي التعرض لهذا الوصف بصدد بيان تلو الكتاب ما لا يخفي من تفخيم شأن المتلو

ورحمة أي نعمة عظيمة على من أنزل إليهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار أحكامه الباقية المؤيدة بالقرآن العظيم وهما حالان من الكتاب

أولئك الموصوفون بتلك الصف الحميدة وهو الكون على بينة من اللّه ولما أن ذلك عبارة عن مطلق التمسك بها وقد يكون ذلك بطريق التقليد لمن سلف من عظماء الدين من غير عثور على دقائق الحقائق وصفهم بأنهم

يؤمنون أي يصدقونه حق التصديق حسبما تشهد به الشواهد الحقة المعربة عن حقيته

ومن يكفر به أي بالقرآن ولم يصدق بتلك الشواهد الحقة

من الأحزاب من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم

فالنار موعده يردها لا محالة حسبما نطق به قوله تعالى ليس لهم في الآخرة إلا النار وفي جعلها موعدا إشعار بأن له فيها ما لا يوصف من أفانين العذاب

فلا تك في مرية منه أي في شك من أمر القرآن وكونه من عند اللّه عز و جل غبما شهدت به الشواهد المذكورة وظهر فضل من تمسك به

إنه الحق من ربك الذي يربيك في دينك ودنياك

ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بذلك إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم

وأما لعنادهم واستكبارهم فمن في قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه مبتدأ حذف خبره لإغناء الحال عن ذكره وتقديره أفمن كان على بينة من ربه كأولئك الذين ذكرت أعمالهم وبين مصيرهم ومآلهم يعني أن بينهما تفاوتا عظيما بحيث لا يكاد يتراءى ناراهما وإيراد الفاء بعد الهمزة لإنكار ترتب توهم المماثلة على ما ذكر من صفاتهم وعدد من هناتهم كأنه قيل أبعد ظهور حالهم في الدنيا والآخرة كما وصف يتوهم المماثلة بينهم وبين من كان على أحسن ما يكون

في العاجل والآجل كما في قوله تعالى أفاتخذتم من دونه أولياء أى أبعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء وقوله تعالى أَفَمَنْ يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى

١٨

ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذبا بأن نسب إليه ما لا يليق به كقولهم للملائكة بنات اللّه تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا وقولهم لآلهتم هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه يعنى أنهم مع كفرهم بآيات اللّه تعالى مفترون عليه كذبا وهذا التركيب وإن كان سبكه على إنكار أن يكون أحد أظلم منهم من غير تعرض لإنكار المساواة ونفيها ولكن المقصود به قصدا مطردا إنكار المساواة ونفيها وإفادة أنهم أظلم من كل ظالم كما ينبيء عنه ما سيتلى من قوله عز و جل لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون فإذا قيل من أكرم من فلان أولا أفضل منه فالمراد منه حتما انه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل

أولئك الموصوفون بالظلم البالغ الذي هو الافتراء على اللّه تعالى وبهذه الإشارة حصلت الغنية عن إسناد العرض إلى أعمالهم واكتفى بإسناده إليهم حيث قيل

يعرضون لأن عرضهم من تلك الحيثية وبذلك العنوان عرض لأعمالهم على وجه ابلغ فإن عرض العامل بعمله أفظع من عرض عمله مع غيبته

على ربهم الحق وفيه إيماء إلى بطلان رأيهم في اتخاذهم أربابا من دون اللّه عز و جل

ويقول الأشهاد عند العرض من الملائكة والنبيين أو من جوارحهم وهو جمع شاهد أو شهيد كأصحاب وأشراف

هؤلاء الذين كذبوا على ربهم بالافتراء عليه كأن ذلك أمر واضح غنى عن الشهادة بوقوعه وإنما المحتاج إلى الشهادة تعيين من صدر عنه ذلك فلذلك لا يقولون هؤلاء كذبوا على ربهم ويجوز أن يكون المراد بالأشهاد الحضار وهم جميع أهل الموقف على ما قاله قتادة ومقاتل ويكون قولهم هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ذما لهم بذلك لإشهاده عليهم كما يشعر به قوله تعالى ويقول دون ويشهد الخ وتوطئة لما يعقبه من قوله تعالى

ألا لعنة اللّه على الظالمين بالافتراء المذكور ويجوز أن يكون هذا على الوجه الأول من كلام اللّه تعالى وفيه تهويل عظيم لما يحيق بهم من عاقبة ظلمهم اللّهم إنا نعوذ بك من الخزى على رؤوس الأشهاد

١٩

الذين يصدون أي كل من يقدرون على صده أو يفعلون الصد

عن سبيل اللّه عن دينه القويم

ويبغونها عوجا انحرافا أي يصفونها بذلك وهي أبعد شيء منه أو يبغون أهلها أن ينحرفوا عنها يقال بغيتك خيرا أو شرا أي طلبت لك وهذا شامل لتكذيبهم بالقرآن وقولهم إنه ليس من عند اللّه

وهم بالأخرة هم كافرون أي يصفونها بالعوج والحال أنهم كافرون بها لا أنهم يؤمنون بها ويزعمون أن لها سبيلا سويا يهدون الناس إليه وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به كأن كفر غيرهم ليس بشيء عند كفرهم

٢٠

اولئك

مع وصف من أحوالهم الموجبة للتدمير

لم يكونوا معجزين اللّه تعالى مفلتين بأنفسهم من أخذه لو أراد ذلك

في الأرض مع سعتها وإن هربوا منها كل مهرب

وما كان لهم من دون اللّه من أولياء ينصرونهم من بأسه ولكن أخر ذلك لحكمة تقتضيه والجمع إما باعتبار أفراد الكفرة كأنه قيل وما كان لأحد منهم من ولى أو باعتبار تعدد ما كانوا يدعون من دون اللّه تعالى فيكون ذلك بيانا لحال آلهتهم من سقوطها عن رتبة الولاية

يضاعف لهم العذاب استئناف يتضمن حكمة تأخير المؤاخذه وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالتشديد

ما كانوا يستطيعون السمع لفرط تصامهم عن الحق وبغضهم له كأنهم لا يقدرون على السمع ولما كان قبح حالهم في عدم إذعانهم للقرآن الذي طريق تلقيه السمع أشد منه في عدم قبولهم لسائر الآيات المنوطة بالأبصار بالغ في نفي الأول عنهم حيث نفى عنهم الاستطاعة واكتفى في الثاني بنفي الإبصار فقال تعالى

وما كانوا يبصرون لتعاميهم عن آيات اللّه المبسوطة في الأنفس والآفاق وهو استئناف وقع تعليلا لمضاعفة العذاب

وقيل هو بيان لما نفى من ولاية الآلهة فإن ما لا يسمع ولا يبصر بمعزل من الولاية

وقوله تعالى يضاعف لهم العذاب اعتراض وسط بينهما نعيا عليهم من أول الأمر سوء العاقبة

٢١

أولئك المنعوتون بما ذكر من القبائح

الذين خسروا أنفسهم باشتراء عبادة الآلهة بعبادة اللّه عز سلطانه

وضل عنهم ما كانوا يفترون من الآلهة وشفاعتها أو خسروا ما بذلوا وضاع عنهم ما حصلوا فلم يبق معهم سوى الحسرة والندامة

٢٢

لا جرم فيه ثلاثة أوجه الأول أن لا نافية لما سبق وجرم فعل بمعنى حق وأن مع ما في حيزه فاعله والمعنى لا ينفعهم ذلك الفعل حق

أنهم في الآخرة هم الأخسرون وهذا مذهب سيبويه والثاني جرم بمعنى كسب وما بعده مفعوله وفاعله ما دل عليه الكلام أى كسب ذلك خسرانهم فالمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهور خسرانهم والثالث أن لا جرم بمعنى لا بد أى لا بد أنهم في الآخرة هم الأخسرون وأيا ما كان فمعناه أنهم أخسر من كل خاسر فتبين أنهم أظلم من كل ظالم وهذه الآيات الكريمة كما ترى مقررة لما سبق من إنكار المماثلة بين من كان على بينة من ربه وبين من كان يريد الحياة الدنيا أبلغ تقرير فإنهم حيث كانوا أظلم من كل ظالم وأخسر من كل خاسر لم يتصور مماثلة بينهم وبين أحد من الظلمة الأخسرين فما ظنك بالمماثلة بينهم وبين من هو في أعلى مدارج الكمال ولما ذكر فريق الكفار وأعمالهم وبين مصيرهم ومآلهم شرع في بيان حال أضدادهم أعنى فريق المؤمنين وما يئول إليه أمرهم من العواقب الحميدة تكملة لما سلف من محاسنهم المذكورة في قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه الآية ليتبين ما بينهما من التباين البين حالا ومآلا فقيل

٢٣

إن الذين آمنوا أى بكل ما يجب أن يؤمن

به فيندرج تحته ما نحن بصدده من الإيمان بالقرآن الذى عبر عنه بالكون على بينة من اللّه وإنما يحصل ذلك باستماع الوحى والتدبر فيه ومشاهدة ما يؤدى إلى ذلك في الأنفس والآفاق أو فعلوا الإيمان كما في يعطى ويمنع

وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أي اطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخضوع والتواضع من الخبت وهي الأرض المطمئنة ومعنى اخبت دخل في الخبت كأنهم وأنجد دخل في تهامة ونجد

أوليك المنعوتون بتلك النعوت الجميلة

أصحاب الجنة هم فيها خالدون دائمون وبعد بيان تباين حاليهما عقلا أريد بيان تباينهما حسا فقيل

٢٤

مثل الفريقين المذكورين أى حالهما العجيب لأن المثل لا يطلق إلا على ما فيه غرابة من الأحوال والصفات

كالأعمى والأصم والبصير والسميع أى كحال هؤلاء فيكون ذواتهم كذواتهم والكلام وإن أمكن أن يحمل على تشبيه الفريق الأول بالأعمى وبالأصم وتشبيه الفريق الثاني بالبصير وبالسميع لكن الادخل في المبالغة والأقرب إلى ما يشير إليه لفظ المثل والأنسب بما سبق من وصف الكفرة بعدم استطاعة السمع وبعدم الإبصار أن يحمل على تشبيه الفريق الأول بمن جمع بين العمى والصمم وتشبيه الفريق الثاني بمن جمع بين البصر والسمع على أن تكون الواو في قوله تعالى والأصم وفي قوله والسميع لعطف الصفة على الصفة كما في قول من قال

... إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم ...

وأيا ما كان فالظاهر أن المراد بالحال المدلول عليها بلفظ المثل وهى التي يدور عليها أمر التشبيه ما يلائم الأحوال المذكورة المعتبرة في جانب المشبه به من تعامى الفريق الأول عن مشاهدة آيات اللّه المنصوبة في العالم والنظر إليها بعين الاعتبار وتصامهم عن استماع آيات القرآن الكريم وتلقيها بالقبول حسبما ذكر في قوله تعالى ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون وإنما لم يراع هذا الترتيب ههنا لكون الأعمى أظهر وأشهر في سوء الحال من الأصم ومن استعمال الفريق الثاني لكل من أبصارهم وأسماعهم فيما ذكر كما ينبغى المدلول عليه بما سبق من الإيمان والعمل الصالح والإخبات حسبما فسر به فيما مر فلا يكون التشبيه تمثيليا لا جميع الأحوال المعدودة لكل من الفريقين مما ذكر وما يؤدى إليه من العذاب المضاعف والخسران البالغ في أحدهما ومن النعيم المقيم في الآخر فإن اعتبار ذلك ينزع إلى كون التشبيه تمثيليا بأن ينتزع من حال الفريق الأول في تصامهم وتعاميهم المذكورين ووقوعهم بسبب ذلك في العذاب المضاعف والخسران الذى لا خسران فوقه هيئة فتشبه بهيئة منتزعة ممن فقد مشعرى البصر والسمع فتخبط في مسلكه فوقع في مهاوى الردى ولم يجد إلى مقصده سبيلا وينتزع من حال الفريق الثاني في استعمال مشاعرهم في آيات اللّه تعالى حسبما ينبغى وفوزهم بدار الخلود هيئة فتشبيه بهيئة منتزعة ممن له بصر وسمع يستعملهما في مهماته فيهتدي إلى سبيله وينال مرأمه

هل يستويان يعنى الفريقين المذكورين والاستفهام إنكارى مذكر لما سبق من إنكار المماثلة في قوله عزوجل أفمن كان على بيته الآية مثلا أى حالا وصفة وهو تمييز من فاعل يستويان

أفلا تذكرون أى أتشكون في عدم الاستواء وما بينهما من التباين أو أتغفلون عنه فلا تتذكرونه بالتأمل فيما ضرب

لكم من المثل فيكون الإنكار واردا على المعطوفين معا أو أتسمعون هذا فلا تتذكرون فيكون راجعا إلى عدم التذكر بعد تحقق ما يوجب وجوده وهو المثل المضروب كما في قوله تعالى أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم فإن الفاء هناك لإنكار الانقلاب بعد تحقق ما يوجب عدمه من علمهم بخلو الرسل قبل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أو أفلا تفعلون التذكر أوافلا تعقلون ومعنى الهمزة إنكار عدم التذكر واستبعاد صدوره عن المخاطبين وأنه ليس مما يصلح أن يقع لا من قبيل الإنكار في قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه وقوله تعالى هل يستويان فإن ذلك لنفى المماثلة ونفى الاستواء ولما بين من فاتحة السورة الكريمة إلى هذا المقام أنها كتاب محكم الآيات مفصلها نازل في شأن التوحيد وترك عبادة غير اللّه سبحانه وأن الذى انزل عليه نذير وبشير من جهته تعالى وقرر في تضاعيف ذلك ما له مدخل في تحقيق هذا المرام من الترغيب والترهيب وإلزام المعاندين بما يقارنه من الشواهد الحقه الدالة على كونه من عند اللّه تعالى وتسلية الرسول صلى اللّه عليه و سلم مما عراه من ضيق الصدر العارض له من اقتراحاتهم الشنيعة وتكذيبهم له وتسميتهم للقرآن تارة سحر وأخرى مفترى وتثبيته صلى اللّه عليه و سلم والمؤمنين على التمسك به والعمل بموجبه على أبلغ وجه وأبدع أسلوب شرع في تحقيق ما ذكر وتقريره بذكر قصص الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين المشتملة على ما أشتمل عليه فاتحة السورة الكريمة ليتأكد ذلك بطريقين أحدهما أن ما أمر به من التوحيد وفروعه مما أطبق عليه الأنبياء قاطبة والثاني أن ذلك إنما علمه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بطريق الوحى فلا يبقى في حقيته كلام أصلا وليتسلى بما يشاهده من معاناة الرسل قبله من أممهم ومقاساتهم الشدائد من جهتهم فقيل

٢٥

ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه الواو ابتدائية واللام جواب قسم محذوف وحرفه الباء لا الواو كما في سورة الأعراف لئلا يجتمع واوان ولا يكاد تطلق هذه اللام إلا مع قد لأنها مظنة التوقع وان المخاطب إذا سمعها توقع وقوع ما صدر بها ونوح هو ابن لمك بن متوشلخ بن ادريس عليهما السلام وهو أول نبى بعث بعده قال ابن عباس رضى اللّه تعالى عنهما بعث صلى اللّه عليه و سلم على رأس أربعين من عمره ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة وكان عمره ألفا وخمسين سنة وقال مقاتل بعث وهو ابن مائة سنة

وقيل وهو ابن خمسين سنة

وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة

إنى لكم نذير

بالكسر على إرادة القول أى فقال أو قائلا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائى بالفتح على إضمار حرف الجر أى أرسلناه ملتبسا بذلك الكلام وهو إنى لكم نذير بالكسر فلما اتصل به الجار فتح كما فتح في كأن والمعنى على الكسر وهو قولك إن زيدا كالأسد واقتصر على ذكر كونه صلى اللّه عليه و سلم نذيرا لا لأن دعوته صلى اللّه عليه و سلم كانت بطريق الإنذار فقط الا يرى إلى قوله تعالى فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدار الخ بل لأنهم لم يغتنموا مغانم إبشارة صلى اللّه عليه و سلم

مبين

أبين لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص منه لأن الإنذار إعلام المحذور لا لمجرد التخويف والازعاج بل للحذر منه فيتعلق بكلا وصفيه

٢٦

ألا تعبدوا إلا اللّه أي بأن لا تعبدوا على أن أن مصدرية والباء متعلقة بأرسلنا ولا ناهية أي أرسلناه متلبسا بنهيهم عن الشرك إلا أنه وسط بينهما بيان بعض أوصافه وأحواله صلى اللّه عليه و سلم وهو كونه نذيرا مبينا ليكون أدخل في القبول ولم يفعل ذلك في صدر السورة لئلا يفرق بين الكتاب ومضمونه بما ليس من أوصافه وأحواله أو مفسرة متعلقة به أو بنذير أو مفعول لمبين وعلى قراءة الفتح بدل من أني لكم نذير مبين وتعيين لما يوجب وقوع المحذور وتبيين لوجه الخلاص وهو عبادة اللّه تعالى وقوله تعالى

إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم تعليل لموجب النهي وتصريح بالمحذور وتحقيق للإنذار والمراد به يوم القيامة أو يوم الطوفان ووصفه بالأليم على الإسناد المجازي للمبالغة كما في نهاره صائم وهذه المقالة وما في معناها مما قاله صلى اللّه عليه و سلم في أثناء الدعوة على ما عزى إليه في سائر السور لما لم تصدر عنه صلى اللّه عليه و سلم مرة واحدة بل كان يكررها عليهم في تلك المدة المتطاولة على ما نطق به قوله تعالى رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا الآيات عطف على فعل الإرسال المقارن لها أو القول المقدر بعده جوابهم المتعرض لأحوال المؤمنين الذين اتبعوه صلى اللّه عليه و سلم بعد اللتيا والتي بالفاء التعقبية فقيل

٢٧

فقال الملأ الذين كفروا من قومه أي الإشراف منهم من قولهم فلان مليء بكذا أي مطيق له لأنهم ملئوا بكفايات الأمور أو لأنهم ملئوا القلوب هيبة والمجالس أبهة أر لأنهم ملئوا بالأحلام والآراء الصائبة ووصفهم بالكفر لذمهم والتسجيل عليهم بذلك من أول الأمر لا لأن بعض أشرافهم ليسوا بكفره

ما نراك إلا بشرا مثلنا مرادهم ما أنت إلا بشرا مثلنا ليس فيك مزية تخصك من دوننا بما تدعيه من النبوة ولو كان كذلك لرأيناه لا أن ذلك محتمل ولكن لا نراه وكذا الحال في قولهم

وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي فالفعلان من رؤية العين وقوله تعالى إلا بشرا مثلنا حال من المفعول وكذا قوله اتبعك في موضع الحال منه إما على حاله أو بتقدير قد عند من يشترط ذلك ويجوز أن يكون من رؤية القلب وهو الظاهر فهما المفعول الثاني وتعلق الرأي في الأول بالمثلية لا بالبشرية فقط وإنما لم يبتوا القول بذلك مع جزمهم به وإصرارهم عليه إراءة بأن ذلك لم يصدر عنهم جزافا بل بعد التأمل في الأمر والتدبر فيه ولذلك اقتصروا على ذلك الظن فيما سيأتي وتعريضا من أول الأمر برأي المتبين فكأن قولهم وما نراك جواب عما يرد عليهم من أنه صلى اللّه عيله وسلم ليس مثلهم حيث عاين دلائل نبوته واغتنم اتباعه من له عين تبصر وقلب يدرك فزعموا أن هؤلاء أراذلنا أي أخساؤنا وأدانينا جمع أرذل فإنه صار بالغلبة جاريا مجرى الإسم كالاكبر والأكابر أو جمع أرذل جمع رذل كأكالب وأكلب وكلب يعنون أنه لا عبرة باتباعهم لك إذ ليس لهم رزانة عقل ولا إصالة رأى وقد كان ذلك منهم في بادي الرأي أي ظاهره من غير تعمق من البدو أو في أوله من البدء والياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها وقد قرأه أبو عمرو بها وانتصابه على الظرفية على حذف المضاف أي وقت حدوث بادي الرأي والعامل فيه اتبعك وإنما استرذلوهم مع كونهم أولي الألباب الراجحة لفقرهم فإنهم لما لم يعلموا إلا ظاهرا الحياة الدنيا كان الأشرف عندهم الأكثر منها حظا والأرذل من حرمها ولم يفقهوا أن ذلك لا يزن عند اللّه جناح بعوضة وأن النعيم إنما هو نعيم الآخرة والأشرف من فاز به والأرذل من حرمه نعوذ باللّه تعالى من ذلك

وما نرى لكم أي لك ولمتبعيك فغلب المخاطب على الغائبين

علينا من فضل يعنون أن اتباعهم لك لا يدل على نبوتك ولا يجديهم فضيلة تستتبع اتباعنا لكم واقتصارهم ههنا على ذكر عدم رؤية الفضل بعد تصريحهم برذالتهم فيما سبق باعتبار حالهم السابق واللاحق ومرادهم أنهم كانوا أراذل قبل اتباعهم لك ولا نرى فيهم وفيك بعد الإتباع فضيلة علينا

بل نظنكم كاذبين جميعا لكون كلامكم واحدا ودعواكم واحدة أو إياك في دعوى النبوة وإياهم في تصديقك واقتصارهم على الظن احتراز منهم عن نسبتهم إلى المجازفة ومجاراة معه صلى اللّه عليه و سلم بطريق الإراءة على نهج الإنصاف

٢٨

قال يا قوم أرأيتم أي أخبروني وفيه إيماء إلى ركاكة رأيهم المذكور

إن كنت على بينة برهان ظاهر

من ربي وشاهد يشهد بصحة دعواي

وآتاني رحمة من عنده هي النبوة ويجوز أن تكون هي البينة نفسها جيء بها إيذانا بأنها مع كونها بينة من اللّه تعالى رحمة ونعمة عظيمة من عنده فوجه إفراد الضمير في قوله تعالى

فعميت عليكم حينئذ ظاهر وإن أريد بها النبوة وبالبينة البرهان الدال على صحتها فالإفراد لإرادة كل واحدة منهما أو لكون الضمير للبينة والإكتفاء بذلك لاستلزام خفائها خفاء النبوة أو لتقدير فعل آخر بعد البينة ومعنى عميت اخفيت وقريء عميت ومعناه خفيت وحقيقته أن الحجة كما تجعل مبصرة وبصيرة تجعل عمياء لأن الاعمى لا يهتدي ولا يهدى غيره وفي قراءة أبي فعماها عليكم علىالإسناد إلى اللّه عز و جل

أنلزمكموها أي أنكرهكم على الإهتداء بها وهو جواب أرأيتم وساد مسد جواب الشرط وقرأ أبو عمرو بإخفاء حركة الميم وحيث اجتمع ضميران منصوبان وقد قدم أعرفهما جاز في الثاني الوصل والفصل فوصل كما في قوله تعالى فسيكفيكهم اللّه

وأنتم لها كارهون لاتختارونها ولا تتأملون فيها ومحصول الجواب أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة دعواي إلا أنها خافية عليكم مسلمة عندكم أيمكننا أن نكرهكم على قبولها وأنتم معرضون عنها غير متدبرين فيها أي لا يكون ذلك وظاهره مشعر بصدوره عنه صلى اللّه عليه و سلم بطريق إظهار اليأس عن إلزامهم والقعود عن محاجتهم كقوله تعالى ولا ينفعكم نصحي الخ لكنه محمول على أن مراده صلى اللّه عليه و سلم ردهم عن الإعراض عنها وحثهم على التدبر فيها بصرف الإنكار إلى الإلزام حال كراهتهم لها لا إلى الإلزام مطلقا هذا ويجوز أن يكون المراد بالبينة دليل العقل الذي هو ملاك الفضل وبحسبه يمتاز أفراد البشر بعضها من بعض وبه يناط الكرامة عند اللّه عز و جل والإجتباء للرسالة وبالكون عليها التمسك به والثبات عليه وبخفائها على الكفرة على أن الضمير للبينة عدم إدراكهم لكونه صلى اللّه عليه و سلم عليها وبالرحمة النبوة التي أنكروا اختصاصه صلى اللّه عليه و سلم بها بين ظهرانيهم والمعنى أنكم زعمتم أن عهد النبوة لا يناله إلا من له فضيلة على سائر الناس مستتبعة لاختصاصه به دونهم أخبروني إن امتزت عنكم بزيادة مزية وحيازة فضيلة من ربي وآتاني بحسبها نبوة من عنده فخفيت عليكم تلك البينة ولم تصيبوها ولم تنالوها ولم تعلموا حيازتي لها وكوني عليها إلى الآن حتى زعمتم إني مثلكم وهي متحققة في نفسها أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لها والحال أنكم كارهون لذلك فيكون الإستفهام للحمل على الإقرار وهو الأنسب بمقام المحاجة وحينئذ يكون كلامه صلى اللّه عليه و سلم جوابا عن شبههم التي أدرجوها في خلال مقالهم من كونه صلى اللّه عليه و سلم بشرا قصارى أمره أن يكون مثلهم من غير فضل له عليهم وقطعا لشأفة آرائهم الركيكة

٢٩

ويا قوم لا أسألكم عليه أي على ما قلته في أثناء دعوتكم

ما لا تؤدونه إلى بعد إيمانكم واتباعكم لي فيكون ذلك أجرا لي في مقابلة اهتدائكم

إن أجري إلا على اللّه الذي يثيبني في الآخرة وفي التعبير عنه حين نسب إليهم بالمال ما لا يخفى من المزية

وما أنا بطارد الذي آمنوا جواب عما لوحوا به بقولهم وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا من أنه لو اتبعه الأشراف لوافقوهم وأن اتباع الفقراء مانع لهم عن ذلك كما صرحوا به في قولهم أنؤمن لك واتبعك الأرذلون فكان ذلك التماسا منهم لطردهم وتعليقا لإيمانهم به صلى اللّه عليه و سلم بذلك أنفه من الإنتظام معهم في سلك واحد

إنهم ملاقوا ربهم تعليل لامتناعه صلى اللّه عليه و سلم عن طردهم أي إنهم فائزون في الآخرة بلقاء اللّه عز و جل كأنه قيل لا أطردهم ولا أبعدهم عن مجلسي لأنهم مقربون في حضرة القدس والتعرض لوصف الربوبية لتربية وجوب رعايتهم وتحتم الإمتناع عن طردهم أو مصدقون في الدنيا بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة فكيف أطردهم وحمله على معنى أنهم يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت كما ظهر لي أو على خلاف ذلك مما تعرفونهم به من بناء إيمانهم على بادي الرأي من غير نظر وتفكر وما علي أن أشق عن قلوبهم وأتعرف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون يأباه الجزم بترتب غضب اللّه عز و جل على طردهم كما سيأتي وأيضا فهم إنما قالوا إن اتباعهم لك إنما هو بحسب بادي الرأي بلا تأمل وتفكر وهذا لا يكاد يصلح مدارا للطرد في الدنيا ولا للمؤاخذة في الآخرة غايته أن لا يكونوا في مرتبه الموقنين وادعاء أن بناء الإيمان على ظاهر الرأي يؤدي إلى الرجوع عنه عند التأمل فكأنهم قالوا إنهم اتبعوك بلا تأمل فلا يثبتون على دينك بل يرتدون عنه تعسف لا يخفى

ولكني أراكم قوما تجهلون بكل ما ينبغي أن يعلم ويدخل فيه جهلهم بلقاء اللّه عز و جل وبمنزلتهم عنده وباستيجاب طردهم لغضب اللّه كما سيأتي وبركاكة رأيهم في التماس ذلك وتوقيف إيمانهم عليه أنفه عن الإنتظام معهم في سلك واحد وزعما منهم أن الرذالة بالفقر والشرف بالغني وإيثار صيغة الفعل للدلالة

 على التجدد والإستمرار أو تتسافهون على المؤمنين بنسبتهم إلى الخساسة

٣٠

ويا قوم من ينصرني من اللّه يدفع حلول سخطه عني

إن طردهم فإن ذلك أمر لا مرد له لكون الطرد ظلما موجبا لحلول السخط قطعا وإنما لم يصرح به إشعارا بأنه غني عن البيان لا سيما عما قدم ما يلوح به من أحوالهم فكأنه قيل من يدفع عني غضب اللّه تعالى إن طردتهم وهم بتلك المثابة من الكرامة والزلفى كما ينبيء عنه قوله تعالى

أفلا تذكروا أي أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل المذكور فلا تتذكرون ما ذكر من حالهم حتى تعرفوا أن ما تأتونه بمعزل عن الصواب ولكون هذه العلة مستقبلة بوجه مخصوص ظاهر الدلالة على وجوب الإمتناع عن الطرد أفردت عن التعليل السابق وصدرت بياقوم

٣١

ولا أقول لكم حين ادعى النبوة

عندي خزائن اللّه أي رزقه وأمواله حتى تستدلوا بعدمها على كذبي بقولكم وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين فإن النبوة أعز من أن تنال بأسباب دنيوية ودعواها بمعزل عن ادعاء المال والجاه

ولا أعلم الغيب أي لا أدعي في قولي إني لكم نذير مبين إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم علم الغيب حتى تسارعوا إلى الإنكار والإستبعاد

ولا أقول إني ملك حتى تقولوا ما نراك إلا بشرا مثلنا فإن البشرية ليست من موانع النبوة بل من مباديها يعني إنكم اتخذتم فقدان هذه الأمور الثلاثة ذريعة إلى تكذيبي والحال أني لا أدعي شيئا من ذلك ولا الذي أدعيه يتعلق بشيء منها وإنما يتعلق بالفضائل النفسانية التي بها تتفاوت مقادير البشر

ولا أقول مساعدة لكم كما تقولون للذين تزدري أعينكم أي تقتحمهم وتحتقرهم من زراه إذا عابه وإسناد الأزدراء إلى أعينهم بالنظر إلى قولهم وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا

وأما للإشعار بأن ذلك القصور نظرهم ولو تدبروا في شأنهم ما فعلوا ذلك اي لاأقول في شأن الذين استرذلتموهم لفقرهم من المؤمنين لن يؤتيهم اللّه خيرا في الدنيا أو في الآخرة فعسى اللّه أن يؤتيهم خيري الدارين إن قلت هذا القول ليس مما تستنكره الكفرة ولا مما يتوهمون صدوره عنه صلى اللّه عليه و سلم أصالة أو استتباعا كادعاء الملكية وعلم الغيب وحيازه الخزائن مما نفاه صلى اللّه عليه و سلم عن نفسه بطريق التبرؤ والتنزه عنه فمن أي وجه عطف نفيه على نفيها قلت من جهة أن كلا النفين رد لقياسهم الباطل الذي تمسكوا به فيما سلف فإنهم زعموا أن النبوة تستتبع الأمور المذكورة وأنها لا تتسنى ممن ليس على تلك الصفات فإن العثور على مكانها واغتنام مغانهما ليس من دأب الأراذل فأجاب صلى اللّه عليه و سلم بنفي ذلك جميعا فكأنه قال لا أقول وجود تلك الاشياء من مواجب النبوة ولا عدم المال والجاه من موانع الخير اللّه أعلم بما في انفسهم من الإيمان وإنما اقتصر على نفي القول المذكور مع أنه صلى اللّه عليه و سلم جازم بأن اللّه سبحانه سيؤتيهم خيرا عظيما في الدارين وأنهم على يقين راسخ في الإيمان جريا على سنن الأنصاف مع القوم واكتفاء بمخالفة كلامهم وإرشادا لهم إلى مسلك الهداية بأن اللائق لكل أحد أن لا يبت القول إلا فيما يعلمه يقينا ويبنى أموره على الشواهد الظاهرة ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة

إني إذا أي إذا قلت ذلك

لمن الظالمين لهم بحط مرتبتهم ونقص حقوقهم أو من الظالمين لانفسهم بذلك فإن وباله راجع إلى أنفسهم وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم واسترذالهم

وقيل إذا قلت شيئا مما ذكر من ادعاه الملكية وعلم الغيب وحيازة الخزائن وهو بعيد لأن تبعه تلك الأقوال مغنية عن التعليل بلزوم الإنتظام في زمرة الظالمين

٣٢

قالوا يا نوح قد جادلتنا خاصمتنا

فأكثرت جدالنا أي أطلته أو اتيته بأنواعه فإن إكثار الجدال يتحقق بعد وقوع اصله فلذلك عطف عليه بالفاء أو اردت ذلك فأكثرته كما في قوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه ولما حجهم صلى اللّه عليه و سلم وأبرز لهم بينات واضحة المدلول وحججا تتلقاها العقول بالقبول وألقمهم الحجر برد شبههم الباطلة ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل وقالوا

فأتنا بما تعدنا من العذاب الذي أشير إليه في قوله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم على تقدير أن لا يكون المراد باليوم يوم القيامة

إن كنت من الصادقين فيما تقول

٣٣

قال إنما يأتيكم به اللّه إن شاء يعني أن ذلك ليس موكولا إلى ولا هو مما يدخل تحت قدرتي وإنما يتولاه اللّه الذي كفرتم به وعصيتموه يأتيكم به عاجلا أو آجلا إن تعلق به مشيئته التابعة للحكمة وفيه ما لا يخفى من تهويل الموعود فكأنه قيل الإتيان به أمر خارج عن دائرة القوى البشرية وإنما يفعله اللّه عز و جل

وما أنتم بمعجزين بالهرب أو بالمدافعة كما تدافعونني في الكلام

٣٤

ولا ينفعكم نصحي النصح كلمة جامعة لكل ما يدور عليه الخير من قول أو فعل وحقيقته إمحاض أرادة الخير والدلالة عليه ونقيضه الغش

وقيل هو إعلام موقع الغي ليتقي وموضع الرشد ليقتفي

إن اردت أن أنصح لكم شرط حذف جوابه لدلالة ما سبق عليه والتقدير إن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي وهذه الجملة دليل على ما حذف من جواب قوله تعالى

إن كان اللّه يريد أن يغويكم والتقدير إن كان اللّه يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي هذا على ما ذهب إليه البصريون من عدم تقديم الجزاء على الشرط

وأما على ما ذهب إليه الكوفيون من جوازه فقوله عز وعلا ولا ينفعكم نصحي جزاء للشرط الأول والجملة جزاء للشرط الثاني وعلى التقديرين فالجزاء متعلق بالشرط الأول وتعلقه به معلق بالشرط الثاني وهذا الكلام متعلق بقولهم قد جادلتنا فأكثرت جدالنا صدر عنه صلى اللّه عليه و سلم إظهار للعجز عن إلزامهم بالحجج والبينات لتماديهم في العناد وإيذانا بأن ما سبق منه ليس بطريق الجدال والخصام بل بطريق النصيحة لهم والشفقة عليهم وبأنه لم يأل جهدا في إرشادهم إلى الحق وهدايتهم إلى سبيله المستبين وإمحاض النصح لهم ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادة اللّه تعالى لإغوائهم وتقييد عدم نفع النصح بإرادته مع أنه محقق لا محال للإيذان بأن ذلك النصح منه مقارن للإرادة والإهتمام به ولتحقيق المقابلة بين ذلك وبين ما وقع بإزائة من إرادته تعالى لإغوائهم وإنما اقتصر في ذلك على مجرد إرادة الإغواء دون نفسه حيث لم يقل إن كان اللّه يغويكم مبالغة في بيان غلبة جنابه عز وعلا حيث دل ذلك على أن نصحه المقارن للإهتمام به لا يجديهم عند مجرد إرادة اللّه سبحانه لإغوائهم فكيف عند تحقيق ذلك وخلقه فيهم وزيادة كان للإشعار بتقدم إرادته تعالى زمانا كتقدمها رتبة وللدلالة على تجددها واستمرارها وإنما قدم على هذا الكلام ما يتعلق بقولهم فأتنا بما تعدنا من قوله تعالى إنما يأتيكم به اللّه إن شاء ردا عليهم من أول الأمر وتسجيلا عليهم بحلول العذاب مع ما فيه من اتصال الجواب بالسؤال وفيه دليل على ان إرادته تعالى يصح تعلقها بالإغواء وان خلاف مراده غير واقع

وقيل معنى أن يغويكم أن يهلككم من غوي الفصيل غوى إذا بشم وهلك

هو ربكم خالقكم ومالك أمركم

وإليه ترجعون فيجازيكم على أعمالكم لا محالة

٣٥

أم يقولون افتراه قال ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما يعني نوحا عليه الصلاة و السلام ومعناه بل أيقول قوم نوح إن نوحا افترى ما جاء به مسندا إلى اللّه عز و جل

قل يا نوح

إن افتريته بالفرض البحث

فعلي إجرامي إثمي ووبال إجرامي وهو كسب الذنب وقريء بلفظ الجمع وينصره أن فسره الأولون بآثامي

وأنا بريء مما تجرمون من إجرامكم في إسناد الإفتراء إلى فلا وجه لإعراضكم عني ومعاداتكم لي وقال مقاتل يعني محمدا صلى اللّه عليه و سلم ومعناه بل أيقول مشركو مكة افترى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم خبر نوح فكأنه إنما جيء به في تضاعيف القصة عند سوق طرف منها تحقيقا لحقيتها وتأكيدا لوقوعها وتشويقا للسامعين إلى استماعها لا سيما وقد قص منها طائفة متعلقة بما جرى بينه صلى اللّه عليه و سلم وبين قومه من المحاجة وبقيت طائفة مستقلة متعلقة بعذابهم

٣٦

وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك أي المصرين على الكفر وهو إقناط له صلى اللّه عليه و سلم من إيمانهم وإعلام لكونه كالمحال الذي لا يصح توقعه

إلا من قد آمن إلا من قد وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه وهذا الإستثناء على طريقة قوله تعالى إلا ما قد سلف

فلا تبتئس بما كانوا يفعلون أي لا تحزن حزن بائس مستكين ولا تغتم بما كانوا يتعاطونه من التكذيب والإستهزاء والإيذاء في هذه المدة الطويلة فقد انتهى أفعالهم وحان وقت الانتقام منهم

٣٧

واصنع الفلك ملتبسا

بأعيينا أي بحفظنا وكلاءتنا كأن معه من اللّه عز و جل حفاظا وحراسا يكلئونه بأعينهم من التعدى من الكفرة ومن الزيغ في الصنعة

ووحينا إليك كيف تصنعها وتعليمنا وإلهامنا عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى اللّه تعالى إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر والأمر للوجوب إذ لا سبيل إلى صيانة الروح من الغرق إلا به فيجب كوجوبها واللام إما للعهد بأن يحمل على أن هذا مسوق بوحى اللّه تعالى إليه عليه السلام أنه سيهلكهم بالغرق وينجيه ومن معه بشيء سيصنعه بأمره تعالى ووحيه من شأنه كيت وكيت واسمه كذا

وأما للجنس قيل صنعها عليه الصلاة و السلام في سنتين

وقيل في أربعمائة سنة وكانت من خشب الساج وجعلت ثلاثة بطون حمل في البطن الأول الوحوش والسباع والهوام وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام وفي البطن الأعلى جنس البشر هو ومن معه مع ما يحتاجون إليه من الزاد وحمل معه جسد آدم عليه الصلاة و السلام وقيل جعل في الأول الدواب والوحوس وفي الثاني الإنس وفي الأعلى الطير قيل كان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا وسمكها ثلاثين ذراعا وقال الحسن كان طولها ألفا ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع

وقيل إن الحواريين قالوا لعيسى عليه الصلاة و السلام لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدثنا عنها فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك الترب فقال أتدرون من هذا قالوا اللّه ورسوله أعلم قال هذا كعب بن حام قال فضرب بعصاه فقال قم بإذن اللّه فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب فقال له عيسى عليه الصلاة و السلام أهكذا هلكت قال لا مت وأنا شاب ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثمة شبت فقال حدثنا عن سفينة نوح قال كان طولها ألفا مائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات طبقة للدواب والوحش وطبقة للإنس وطبقة للطير ثم قال عد بإذن اللّه تعالى كما كنت فعاد ترابا

ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي لا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل ولا تدعني فيهم وحيث كان فيه ما يلوح بالسببية أكد التعليل فقيل

إنهم مغرقون أي محكوم عليهم بالإغراق قد مضى به القضاء وجف القلم فلا سبيل إلى كفه ولزمتهم الحجة فلم يبق إلا أن يجعلوا عبرة للمعتبرين ومثلا للآخرين

٣٨

ويصنع الفلك حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة

وقيل تقديره وأخذ يصنع الفلك أو أقبل يصنعها فاقتصر على يصنع وأيا ما كان ففيه ملأمة للاستمرار المفهوم من الجملة الواقعة حالا من ضميره أعنى قوله تعالى

وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه استهزءوا به لعلمه السفينة إما لأنهم ما كانوا يعرفونها ولا كيفية استعمالها والانتفاع بها فتعجبوا من ذلك وسخروا منه

وأما لأنه كان يصنعها في برية بهماء في أبعد موضع من الماء وفي وقت عزته عزة شديدة وكانوا يتضاحكون ويقولون يا نوح صرت نجارا بعد ما كنت نبيا

وقيل لأنه عليه الصلاة و السلام كان ينذرهم الغرق فلما طال مكثه فيهم ولم يشاهدوا منه عينا ولا أثرا عدوه من باب المحال ثم لما رأوا اشتغاله بأسباب الخلاص من ذلك فعلوا ما فعلوا و مدار الجميع إنكار أن يكون لعلمه عليه الصلاة و السلام عاقبة حميدة مع ما فيه من تحمل المشاق

العظيمة التي لا تكاد تطاق واستجهاله عليه السلام في ذلك

قال إن تسخروا منا مستجهلين لنا فيما نحن فيه

فإنا نسخر منكم أي نستجهلكم فيما أنتم عيه وإطلاق السخرية عليه للمشاكلة وجمع الضمير في منا إما لأن سخريتهم منه صلى اللّه عليه و سلم سخرية من المؤمنين أيضا أو لأنهم كانوا يسخرون منهم ايضا إلا أنه اكتفى بذكر سخريتهم منه صلى اللّه عليه و سلم ولذلك تعرض الجميع للمجازاة في قوله تعالى فإنا نسخر منكم الخ فتكافأ الكلام من الجانين وتعليق استجهاله صلى اللّه عليه و سلم إياهم بما فعلوا من السخرية باعتبار إظهاره ومشافهته صلى اللّه عليه و سلم إياهم جاهلين فيما ياتون ويذرون أمر مطرد لا تعلق له بسخريتهم منهم لكنه صلى اللّه عليه و سلم لم يكن يتصدى لإظهاره جريا على نهج الأخلاق الحميدة وإنما أظهره جزاء بما صنعوا بعد اللتيا والتي فإن سخريتهم كانت مستمرة ومتجددة حسب تجدد مرورهم عليه ولم يكن يجيبهم في كل مرة وإلا لقيل ويقول إن تسخروا منا الخ بل إنما أجابهم بعد بلوغ أذاهم الغاية كما يؤذن به الإستئناف فكأن سائلا سأل فقال فما صنع نوح عند بلوغهم منه هذا المبلغ فقيل قال إن تسخروا منا إن تنسبونا فيما نحن بصدده من التأهب المباشرة لأسباب الخلاص من العذاب إلى الجهل وتسخروا منا لأجله فإنا ننسبكم إليه فيما أنتم فيه من الإعراض عند استدفاعه بالإيمان والطاعة ومن الإستمرار على الكفر والمعاصي والتعرض لأسباب حلول سخط اللّه تعالى التي من جملتها استجهالكم إيانا وسخريتكم منا والتشبيه في قوله تعالى

كما تسخرون إما في مجرد التحقق والوقوع أو في التجدد والتكرر حسبما صدر عن ملأ غب ملأ لا في الكيفيات والأحوال التي تليق بشأن النبي صلى اللّه عليه و سلم فكلا الأمرين واقع في الحال

وقيل نسخر منكم في المستقبل سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة ولعل مرداه نعاملكم معاملة من يفعل ذلك لأن نفس السخرية مما لا يكاد يليق بمنصب النبوة ومع ذلك لا سداد له لأن حالهم إذا ذاك ليس مما لا يلائمه السخرية أو ما يجري مجراها فتأمل

٣٩

فسوف تعلمون ن يأتيه عذاب يخزيه وهو عذاب الغرق

ويحل عليه حلول الدين المؤجل

عذاب مقيم هو عذاب النار الدائم وهو تهديد بليغ ومن عبارة عنهم وهي إما استفهامية في حيز الرفع أو موصولة في محل النصب بتعلمون وما في حيزها سد مسد مفعولين أو مفعول واحد إن جعل العلم بمعنى المعرفة ولما كان مدار سخريتهم استجهالهم إياه صلى اللّه عليه و سلم في مكابدة المشاق الفادحة لدفع ما لا يكاد يدخل تحت الصحة على زعمهم من الطوفان ومقاساة الشدائد في بناء السفينة وكانوا يعدونه عذابا قيل بعد استجهالهم فسوف تعلمون من يأتيه العذاب يعني أن ما أباشره ليس فيه عذاب لاحق بي فسوف تعلمون من المعذب ولقد أصاب العلم بعد استجهالهم محزة ووصف العذاب بالإخزاء لما في الإستهزاء والسخرية من لحوق الخزي والعار عادة والتعرض لحلول العذاب المقيم للمبالغة في التهديد وتخصيصه بالمؤجل وإيراد الأول بالإتيان في غاية الجزالة

٤٠

حتى إذاجاء أمرنا حتى هي التي يبتدأ بها الكلام دخلت على الجملة الشرطية وهي مع ذلك غاية لقوله ويصنع وما بينهما حال من الضمير فيه وسخروا منه جواب لكلما وقال استئناف على تقدير سؤال سائل كما ذكرناه

وقيل هو الجواب وسخروا منه بدل من مر أو صفة لملأ وقد عرفت أن الحق هو الأول لأن المقصود بيان تناهيهم في إيذائه صلى اللّه عليه و سلم وتحمله لأذيتهم لا مسارعته صلى اللّه عليه و سلم إلى جوابهم كلما وقع منهم ما يؤذيه من الكلام

وفار التنور نبع منه الماء وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها والتنور تنور الخبز وهو قول الجمهور روى أنه قيل لنوح عليه الصلاة و السلام إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب ومن معك في السفينة فلما نبع الماء أخبرته امرأته فركب

وقيل كان تنور آدم عليه الصلاة و السلام وكان من حجارة فصار إلى نوح وإنما نبع منه وهو أبعد شيء من الماء على خرق العادة وكان في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخل مما يلي باب كندة وكان عمل السفينة في ذلك الموضع أو في الهند أو في موضع بالشام يقال له عين ورده وعن ابن عباس رضي اللّه عنه تعالى عنهما وعكرمة والزهري أن التنور وجه الأرض وعن قتادة أشرف موضع في الأرض أي أعلاه وعن علي رضي اللّه تعالى عنه فار التنور طلح الفجر

قلنا احمل فيها أي في السفينة وهو جواب إذا

من كل أي من كل نوع لا بد منه في الأرض زوجين الزوج ما له مشاكل من نوعه فالذكر زوج للأنثى كما هي زوج له وقد يطلق على مجموعهما فيقابل الفرد ولإزالة ذلك الإحتمال قيل

اثنين كل منهما زوج للآخر وقريء على الإضافة وإنما قدم ذلك على أهله وسائر المؤمنين لكونه عريقا فيما أمر به من الحمل لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه صلى اللّه عليه و سلم في تمييز بعضه من بعض وتعيين الازواج فإنه روى أنه صلى اللّه عليه و سلم قال يا رب كيف احمل من كل زوجين اثنين فحشر اللّه تعالى إليه السباع والطير وغيرهما فجعل يضرب بيديه في كل جنس فيقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في اليسرى فيجعلهما في السفينة

وأما البشر فإنما يدخل الفلك باختياره فيخف فيه معنى الحمل أو لأنها إنما تحمل بمباشرة البشر وهم إنما يدخلونها بعد حملهم إياها

وأهلك عطف على زوجين أو على اثنين والمراد امرأته وبنوه ونساؤهم

إلا من سبق عليه القول بأنه من المغرقين بسبب ظلمهم في قوله تعالى ولا تخاطبني في الذين ظلموا الآية والمراد به ابنه كنعان وأمه واعلة فإنهما كانا كافرين والإستثناء منقطع إن أريد بالأهل الأهل إيمانا وهو الظاهر كما ستعرفه أو متصل إن أريد به الأهل قرابة ويكتفي في صحة الإستثناء المعلومية عند المراجعة إلى أحوالهم والتفحص عن أعمالهم وجيء بعلي لكون السابق ضارا لهم كما جيء باللام فيما هو نافع لهم من قوله عز و جل ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين وقوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى

ومن آمن من غيرهم وإفراد الأهل منهم للإستثناء المذكور وإيثار صيغة الإفراد في آمن محافظة على لفظ من للإيذان بقلتهم كما أعرب عنه قوله عز قائلا

وما آمن معه إلا قليل قيل كانوا ثمانية نوح عليه الصلاة و السلام وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم وعن ابن إسحق كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة وعنه أيضا أنهم كانوا عشرة سوى نسائهم

وقيل كانوا اثنين وسبعين رجلا وامرأة وأولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم فالجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء واعتبار المعية في إيمانهم للإيماء إلى المعية في مقر الأمان والنجاة

٤١

وقال أي نوح عليه الصلاة و السلام لمن معه من المؤمنين كما ينبيء عنه قوله تعالى إن ربي لغفور رحيم ولو رجع الضمير إلى اللّه تعالى لناسب أن يقال إن ربكم ولعل ذلك بعد إدخال ما أمر بحمله في الفلك من الأزواج كأنه قيل فحمل الأزواج أو أدخلها في الفلك وقال للمؤمنين

اركبوا فيها كما سيأتي مثله في قوله تعالى وهي تجري بهم والركوب العلو على شيء متحرك ويتعدى بنفسه واستعماله ههنا بكلمة في ليس لأن المأمور به كونهم في جوفها لا فوقها كما ظن فإن أظهر الرويات أنه عليه السلام جعل الوحوش ونظائر في البطن الأسفل والأنعام في الأوسط وركب هو ومن معه في الأعلى بل لرعاية جانب المحلية والمكانية في الفلك والسر فيه أن معنى الركوب العلو على شيء له حركة إما إراديه كالحيوان أو قسرية السفينة والعجلة ونحوهما فإذا استعمل في الأول يوفر له حظ الأصل فيقال ركبت الفرس وعليه قوله عز من قائل والخيل والبغال والحمير لتركبوها وإن استعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة في فيقال ركبت في السفينة وعليه الآية الكريمة وقوله عز و جل قائلا فإذا ركبوا في الفلك وقوله تعالى فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها

بسم اللّه متعلق باركبوا حال من فاعله أي اركبوا مسمين اللّه تعالى أو قائلين بسم اللّه

مجريها ومرساها نصب على الظرفية أي وقت إجرائها وإرسائها على أنهما اسما زمان أو مصدران كالإجراء والإرساء بحذف الوقت كقولك آتيك حقوق النجم أو اسما مكان انتصبا بما في بسم اللّه من معنى الفعل أو إرادة القول ويجوز أن يكون بسم اللّه مجريها ومرساها مستقلة من مبتدأ وخبر في موضع الحال من ضمير الفلك أي اركبوا فيها مجراة ومرساة باسم اللّه بمعنى التقدير كقوله تعالى ادخلوها خالدين أو جملة مقتضبة على أن نوحا أمرهم بالركوب فيها ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بسم اللّه تعالى فيكونان كلامين له عليه الصلاة و السلام قيل كان عليه السلام إذا أراد أن يجريها يقول بسم اللّه فتجري وإذا أراد أن يرسيها يقول بسم اللّه فترسو ويجوز أن يكون الاسم مقحما كما في قوله وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول ثم أسم السلام عليكما ويراد باللّه إجراؤها وإرساؤها اي بقدرته وأمره وقريء مجريها ومرسيها على صيغة الفاعل مجروري المحل صفتين للّه عز و جل ومجراها ومرساها بفتح الميم مصدرين أو زمانين أو مكانين من جرى ورسا

إن ربي لغفور للذنوب والخطايا

رحيم لعباده ولذلك نجاكم من هذه الطامة والداهية العامة ولولا ذلك لما فعله وفيه دلالة على أن نجاتهم ليست بسبب استحقاقهم لها بل بمحض فضل اللّه سبحانه وغفرانه ورحمته على ما عليه رأى أهل السنة

٤٢

وهي تجري بهم متعلق بمحذوف دل عليه الأمر بالركوب أي فركبوا فيها مسمين وهي تجري ملتبسة لهم

في موج كالجبال وهو ما ارتفع من الماء عند اضطرابه كل موجة من ذلك كجبل في ارتفاعها وتراكمها وما قيل من أن الماء طبق ما بين السماء والأرض وكانت السفينة تجري في جوفه كالحوت فغير ثابت والمشهور أنه علا شوامخ الجبال خمسة عشر ذراعا أو أربعين ذراعا ولئن صح ذلك فهذا الجريان إنما هو قبل أن يتفاقم الخطب كما يدل عليه قوله تعالى

ونادى نوح ابنه فإن ذلك إنما يتصور قبل أن تنقطع العلاقة بين السفينة والبر إذ حينئذ يمكن جريان ما جرى بين نوح عليه الصلاة و السلام وبين ابنه من المفاوضة بالإستدعاء إلى السفينة والجواب بالإعتصام بالجبل وقريء ابنها وابنه بحذف الألف على أن الضمير لامرأته وكان ربيبه وما يقال من أنه كان لغير رشدة لقوله تعالى فخانتاهما فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها فإن جناب الانبياء صلوات اللّه تعالى عليهم وسلامه أرفع من أن يشار إليه بإصبع الطعن وإنما المراد بالخيانة الخيانة في الدين وقريء ابناه على الندبة ولكونها حكاية سوغ حذف حرفها وأنت خبير بأنه لا يملائه الإستدعاء إلى السفينة فإنه صريح في أنه لم يقع في حياته يأس بعد

وكان في معزل أي مكان عزل فيه نفسه عن ابيه وإخوته وقومه بحيث لم يتناوله الخطاب باركبوا واحتاج إلى النداء المذكور

وقيل في معزل عن الكفار قد انفرد عنهم وظن نوح أنه يريد مفارقتهم ولذلك دعاه إلى السفينة

وقيل كان ينافق أباه فظن أنه مؤمن

وقيل كان يعلم أنه كافر إلى ذلك الوقت لكنه عليه الصلاة و السلام ظن أنه عند مشاهدة تلك الأهوال ينزجر عما كان عليه ويقبل

وقيل الإيمان لم يكن الذي تقدم من قوله تعالى إلا من سبق عليه القول نصا في كونه ابنه داخلا تحته بل كان كالمجمل فحملته شفقة الأبوة على ذلك

يا بني بفتح الياء اقتصارا عليه من الألف المبدلة من ياء الإضافة في قولك يا بنيا وقريء بكسر الياء اقتصارا عليه من ياء الإضافة أو سقطت الياء والألف لالتقاء الساكنين لأن الراء بعدهما ساكنة

اركب معنا قرأ أبو عمرو والكسائي وحفص بإدغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج وإنما أطلق الركوب عن ذكر الفلك لتعينها وللإيذان بضيق المقام حيث حال الجريض دون القريض مع اغناء المعية عن ذلك

ولا تكن مع الكافرين أي في المكان وهو وجه الأرض خارج الفلك لا في الدين وإن كان ذلك مما يوجبه كما يوجب ركوبه معه عليه الصلاة و السلام كونه معه في الإيمان لأنه عليه الصلاة و السلام بصدد التحذير عن الهلكة فلا يلائمه النهي عن الكفر

٤٣

قال سآوي إلى جبل من الجبال

يعصمني بارتفاعه

من الماء زعمنا منه أن ذلك كسائر المياه في أزمنة السيول المعتادة التي ربما يتقي منها بالصعود إلى الربا وأنى له ذلك وقد بلغ السيل الزبي وجهلا بأن ذلك إنما كان لإهلال الكفرة وأن لا محيص من ذلك سوى الإلتجاء إلى ملجأ المؤمنين فلذلك أراد عليه الصلاة و السلام أن يبين له حقيقة الحال ويصرفه عن ذلك الفكر المحال وكان مقتضى الظاهر أن يجب بما ينطبق عليه كلامه ويتعرض لنفي ما أثبته للجبل من كونه عاصما له من الماء بأن هود الآية  يقول لا يعصمك منه مفيدا لنفى وصف العصمة عنه فقط من غير تعرض لنفيه عن غيره ولا لنفي الموصوف أصلا لكنه عليه الصلاة و السلام حيث

قال لا عاصم اليوم من أمر اللّه سالك طريقة نفي الجنس المنتظم لنفي جميع أفراد العاصم ذاتا وصفة كما في قولهم ليس فيه داع ولا مجيب أي أحد من الناس للمبالغة في نفي كون الجبل عاصما بالوجهين المذكورين وزاد اليوم للتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام التي تقع فيها الوقائع وتلم فيها الملمات المعتادة التي ربما يتخلص من ذلك بالإلتجاء إلى بعض الأسباب العادية وعبر عن الماء في محل إضماره بأمر اللّه أي عذابه الذي أشير إليه حيث قيل حتى إذا جاء أمرنا تفخيما لشأنه وتهويلا لأمره وتنبيها لابنه على خطئه في تسميته ماء ويوهم أنه كسائر المياه التي يتفصى منها بالهرب إلى بعض المهارب المعهودة وتعليلا للنفي المذكور فإن أمر اللّه لا يغالب وعذابه لا يرد وتمهيدا لحصر العصمة في جناب اللّه عز جاره بالإستثناء كأنه قيل لا عاصم من أمر اللّه إلا هو وإنما قيل

إلا من رحم تفخيما لشأنه الجليل بالإبهام ثم التفسير وبالإجمال ثم التفصيل وإشعارا بعلية رحمته في ذلك بموجب سبقها على غضبه وكل ذلك لكمال عنايته عليه الصلاة و السلام بتحقيق ما يتوخاه من نجاة ابنه ببيان شأن الداهية وقطع أطماعه الفارغة وصرفه عن التعلل بما لا يغني عنه شيئا وإرشاده إلى العياذ بالمعاذ الحق عز حماه

وقيل لا مكان يعصم من أمر اللّه إلا مكان من رحمه اللّه وهو الفلك

وقيل معنى لا عاصم لا ذا عصمة إلا من رحمه اللّه تعالى

وحال بينهما الموج أي بين نوح وبين ابنه فانقطع ما بينهما من المجاوبة لا بين ابنه وبين الجبل لقوله تعالى

فكان من المغرقين إذ هو إنما يتفرع على حيلولة الموج بينه عليه الصلاة و السلام وبين ابنه لا بينه وبين الجبل لأنه بمعزل من كونه عاصما وإن لم يحل بينه وبين الملتجىء إليه موج وفيه دلالة على هلاك سائر الكفرة على أبلغ وجه فكان ذلك أمرا مقرر الوقوع غير مفتقر إلى البيان وفي إيراد كان دون صار مبالغة في كونه منهم

٤٤

وقيل يا أرض ابلعي أي انشقي استعير له من ازرداد الحيوان ما يأكله الدلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد التدريجي

ماءك أي ما على وجهك من ماء الطوفان دون المياه المعهودة فيها من العيون والأنهار وعبر عنه بالماء بعد ما عبر عنه فيما سلف بأمر اللّه تعالى لأن المقام مقام النقص والتقليل لا مقام التفخم والتهويل

ويا سماء أقلعي أي أمسكي عن إرسال المطر يقال أقلعت السماء إذا انقطع مطرها وأقلعت الحمى أي كفت

وغيض الماء أي نقص ما بين السماء والأرض من الماء

وقضى الأمر أي أنجز ما وعد اللّه تعالى نوحا من إهلاك قومه وإنجائه بأهله أو أتم الأمر

واستوت أي استقرت الفلك

على الجودى هو جبل بالموصل أو بالشام أو بآمل روى أنه عليه الصلاة و السلام ركب في الفلك في عاشر رجب ونزل عنها في عاشر المحرم فصام ذلك اليوم شكرا فصار سنة

وقيل بعدا للقوم الظالمين أي هلاكا لهم والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعليته للّهلاك ولتذكيره ما سبق من قوله تعالى ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ولقد بلغت الآية الكريمة من مراتب الإعجاز قاصيتها وملكت من غرر المزايا ناصيتها وقد تصدى لتفصيلها المهرة المتقنون ولعمري إن ذلك فوق ما يصفه الواصفون فحري بنا أن نوجز الكلام في هذا الباب ونفوض الأمر إلى تأمل أولى الألباب واللّه عنده علم الكتاب

٤٥

ونادى نوح ربه أي أراد ذلك بدليل الفاء في قوله تعالى

فقال رب إن ابني من أهلي وقد وعدتني إنجاءهم في ضمن الأمر بحملهم في الفلك أو النداء على الحقيقة والفاء لتفصيل ما فيه من الإجمال

وإن وعدك الحق أي وعدك ذلك أو إن كل وعد تعده حق لا يتطرق إليه خلف فيدخل فيه الوعد المعهود دخولا أوليا

وأنت أحكم الحاكمين لأنك أعلمهم وأعدلهم أو أنت أكثر حكمة من ذوي الحكم على أن الحاكم من الحكمة كالدارع من الدرع وهذا الدعاء منه عليه الصلاة و السلام على طريقة دعاء أيوب عليه الصلاة و السلام إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين

٤٦

قال يا نوح لما كان دعاؤه عليه الصلاة و السلام بتذكير وعده جل ذكره مبنيا على كون كنعان من أهله نفى أولا كونه منهم بقوله تعالى

إنه ليس من أهلك أي ليس منهم أصلا لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية ولا علاقة بين المؤمن والكافر أو ليس من أهلك الذين أمرتك بحملهم في الفلك لخروجه عنهم بالإستثناء وعلى التقديرين ليس هو من الذين وعد بإنجائهم ثم علل عدم كونه منهم على طريقة الإستئناف التحقيقي بقوله تعالى

إنه عمل غير صالح أصله إنه ذو عمل غير صالح فجعل نفس العمل مبالغة كما في قول الخنساء

فإنما هي إقبال وإدبار وإيثار غير صالح على فاسد إما لأن الفاسد ربما يطلق على ما فسد ومن شأنه الصلاح فلا يكون نصا فيما هو من قبيل الفاسد المحض كالقتل والمظالم

وأما للتلويح بأن نجاة من نجا إنما هي لصلاحه وقرأ الكسائي ويعقوب إنه عمل غير صالح أي عملا غير صالح ولما كان دعاؤه عليه الصلاة و السلام مبنيا على ما ذكر من اعتقاد كون كنعان من أهله وقد نفى ذلك وحقق ببيان علته فرع على ذلك النهي عن سؤال إنجائه إلا أنه جيء بالنهي على وجه عام يندرج فيه ذلك اندارجا أوليا فقيل

فلا تسألني أي إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني

ما ليس لك به علم أي مطلبا لا تعلم يقينا أن حصوله صواب وموافق للحكمة على تقدير كون ما عبارة عن المسئول الذي هو مفعول للسؤال أو طلبا لا تعلم أنه صواب على تقدير كونه عبارة عن المصدر الذي هو مفعول مطلق فيكون النهي واردا بصريحه في كل من معلوم الفساد ومشتبه الحال ويجوز أن يكون المعنى ما ليس لك علم بأنه صواب أو غير صواب فيكون النهي واردا في مشتبه الحال ويفهم منه حال معلوم الفساد بالطريق الأولى وعلى التقديرين فهو عام يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرناه وهذا كما ترى صريح في أن نداءه عليه الصلاة و السلام ربه عز وعلا ليس استفسارا عن سبب عدم إنجاء ابنه مع سبق وعده بإنجاء أهله وهو منهم كما قيل فإن النهي عن استفسار ما لم يعلم غير موافق للحكمة إذ عدم العلم بالشيء داع إلى الإستفسار عنه لا إلى تركه بل هو دعاء منه لإنجاء ابنه حين حال الموج بينهما ولم يعلم بهلاكه بعد إما بتقريبه إلى الفلك بتلاطم الأمواج أو بتقريبها إليه

وقيل أو بإنجائه في قلة الجبل ويأباه تذكير الوعد في الدعاء فإنه مخصوص بالإنجاء في الفلك وقوله تعالى لا عاصم اليوم من أمر اللّه إلا من رحم ومجرد حيلولة الموج بينهما لا يستوجب هلاكه فضلا عن العلم به لظهور إمكان عصمة اللّه تعالى إياه برحمته وقد وعد بإنجاء أهله ولم يكن ابنه مجاهرا بالكفر كما ذكرناه حتى لا يجوز عليه عليه السلام أن يدعوه إلى الفلك أو يدعو ربه لإنجائه واعتزاله عنه عليه الصلاة و السلام وقصده الإلتجاء إلى الجبل ليس بنص في الإصرار على الكفر لظهور جواز أن يكون ذلك لجهله بانحصار النجاة في الفلك وزعمه أن الجبل أيضا يجري مجراه أو لكراهة الإحتباس في الفلك بل قوله سآوي إلى جبل يعصمني من الماء بعد ما قال له نوح عليه الصلاة و السلام ولا تكن مع الكافرين ربما يطمعه عليه السلام في إيمانه حيث لم يقل أكون معهم أو سنأوي أو يعصمنا فإن إفراد نفسه بنسبة الفعلين المذكورين ربما يشعر بانفرداه من الكافرين واعتزاله عنهم وامتثاله ببعض ما أمره به نوح عليه الصلاة و السلام إلا أنه عليه الصلاة و السلام لو تأمل في شأنه حق التأمل وتفحص عن أحواله في كل ما يأتي ويذر لما اشتبه عليه أنه ليس بمؤمن وأنه المستثنى من أهله ولذلك قيل

إني أعظم أن تكون من الجاهلين فعبر عن ترك الأولى بذلك وقرىء فلا تسألن بغير ياء الإضافة وبالنون الثقيلة بياء وبغير ياء

٤٧

قال رب إني أعوذ بك أن أسألك أي أطلب منك من بعد

ما ليس لي به علم أي مطلوبا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة أو طلبا لا أعلم أنه صواب سواء كان معلوم الفساد أو مشتبه الحال أولا أعلم أنه صواب أو غير صواب على ما مر وهذه توبة منه عليه السلام مما وقع منه وإنما لم يقل أعوذ بك منه أو من ذلك مبالغة في التوبة وإظهارا للرغبة والنشاط فيها وتبركا بذكر ما لقنه اللّه تعالى وهو أبلغ من أن يقول أتوب إليك أن أسألك لما فيه من الدلالة على كون ذلك أمرا هائلا محذورا لا محيص منه إلا بالعوذ باللّه تعالى وأن قدرته قاصرة عن النجاة من المكاره إلا بذلك

وإلا تغفر لي ما صدر عني من السؤال المذكور

وترحمني بقبول توبتي

أكن من الخاسرين أعمالا بسبب ذلك فإن الذهول عن شكر اللّه تعالى لا سيما عند وصول مثل هذه النعمة الجليلة التي هي النجاة وهلاك الأعداء والإشتغال بما لا يعني خصوصا بمبادى خلاص من قيل في شأنه إنه عمل غير صالح والتضرع إلى اللّه تعالى في أمره معاملة غير رابحة وخسران مبين وتأخير ذكر هذا النداء عن حكاية الأمر الوارد على الأرض والسماء وما يتلوه من زوال الطوفان وقضاء الأمر واستواء الفلك على الجودى والدعاء بالهلاك على الظالمين مع أن حقه أن يذكر عقيب قوله تعالى فكان من المغرقين حسبما وقع في الخارج إذ حينئذ يتصور الدعاء بالإنجاء لا بعد العلم بالهلاك ليس لما قيل من استقلاله بغرض مهم هو جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن لا يقدم في الأمور الدينية الأصولية إلا بعد اليقين قياسا على ما وقع في قصة البقرة من تقديم ذكر الأمر بذبحها على ذكر القتيل الذي هو أول القصة وكان حقها أن يقال وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة فاضربوه ببعضها كما قرر في موضعه فإن تغيير الترتيب هناك للدلالة على كمال سوء حال اليهود بتعديد جناياتهم المتنوعة وتثنية التقريع عليهم بكل نوع على حدة فقوله تعالى وإذ قال موسى لقومه إن اللّه يأمركم أن تذبحوا بقرة الخ لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك وقوله تعالى وإذ قتلتم نفسا الخ للتقريع على قتل النفس المحرمة وما يتبعه من الأمور العظيمة ولو قصت القصة على ترتيبها لفات الغرض الذي هو تثنية التقريع ولظن أن المجموع تقريع واحد

وأما ما نحن فيه فليس مما يمكن أن يراعى فيه مثل تلك النكتة أصلا وما ذكر من جعل القرابة الدينية غامرة للقرابة النسبية الخ لا يفوت على تقدير سوق الكلام على ترتيب الوقوع أيضا بل لأن ذكر هذا النداء كما ترى مستدع لذكر ما مر من الجواب المستدعى لذكر ما مر من توبته عليه الصلاة و السلام المؤدي ذكرها إلى ذكر قبولها في ضمن الأمر الوارد بنزوله عليه الصلاة و السلام من الفلك بالسلام والبركات الفائضة عليه وعلى المؤمنين حسبما سيجىء مفصلا ولا ريب في أن هذه المعاني آخذ بعضها بحجزه بعض بحيث لا يكاد يفرق الآيات الكريمة المنطوية عليها بعضها من بعض وأن ذلك إنما يتم بتمام القصة ولا ريب أن ذلك إنما يكون بتمام الطوفان فلا جرم اقتضى الحال ذكر تمامها قبل هذا النداء وذلك إنما يكون عند ذكر كون كنعان من المغرقين ولهذه النكتة ازداد حسن موقع الإيجاز البليغ وفيه فائدة أخرى هي التصريح بهلاكه من أول الأمر ولو ذكر النداء الثاني عقيب قوله تعالى فكان من المغرقين لربما توهم من أول الأمر إلى أن يرد قوله إنه ليس من أهلك أنه ينجو بدعائه عليه الصلاة و السلام فنص على هلاكه من أول الأمر ثم ذكر الأمر الوارد على الأرض والسماء الذي هو عبارة عن تعلق الإرادة الربانية الأزلية بما ذكر من الغيض والإقلاع وبين بلوغ أمر اللّه محله وجريان قضائه ونفوذ حكمه عليهم بهلاك من هلك ونجاة من نجا بتمام ذلك الطوفان واستواء الفلك على الجودى فقصت القصة إلى هذه المرتبة وبين ذلك أي بيان ثم تعرض لما وقع في تضاعيف ذلك مما جرى بين نوح عليه السلام وبين رب العزة جلت حكمته فذكر بعد توبته عليه الصلاة و السلام قبولها بقوله

٤٨

قيل يا نوح اهبط أي انزل من الفلك وقرىء بضم الباء

بسلام ملتبسا بسلامة من المكاره كائنة

منا أو بسلام وتحية منا عليك كما قال سلام على نوح في العالمين

وبركات عليك أي خيرات نامية في نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق وقرىء بركة وهذا إعلان وبشارة من اللّه تعالى بقبول توبته وخلاصه من الخسران بفيضان أنواع الخيرات عليه في كل

 ما يأتي وما يذر وعلى أمم ناشئة

ممن معك إلى يوم القيامة متشعبة منهم فمن ابتدائية والمراد الأمم المؤمنة المتناسلة ممن معه إلى يوم القيامة

وأمم سنمتعهم أي ومنهم على أنه خبر حذف لدلالة ما سبق عليه فإن إيراد الأمم المبارك عليهم المتشعبة منهم نكرة يدل على أن بعض من يتشعب منهم ليسوا على صفتهم يعنى ليس جميع من تشعب منهم مسلما ومباركا عليه بل منهم أمم ممتعون في الدينا معذبون في الآخرة وعلى هذا لا يكون الكائنون مع نوح عليه السلام مسلما ومباركا عليهم صريحا وإنما يفهم ذلك من كونهم مع نوح عليه الصلاة و السلام ومن كون ذرياتهم كذلك بدلالة النص ويجوز أن تكون من بيانية أي وعلى أمم هم الذين معك وإنما سموا أمما لأنهم أمم متحزبه وجماعات متفرقة أو لأن جميع الأمم إنما تشعبت منهم فحينئذ يكون المراد بالأمم المشار إليهم في قوله تعالى وأمم سنمتعهم بعض الأمم المتشعبة منهم وهي الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة ويبقى أمر الأمم المؤمنة الناشئة منهم مبهما غير متعرض له ولا مدلول عليه مع ذلك ففي دلالة المذكور على خبره المحذوف خفاء لأن من المذكورة بيانية والمحذوفة تبعيضية أو ابتدائية فتأمل

ثم يمسهم إما في الآخرة أو في الدنيا أيضا

منا عذاب أليم عن محمد بن كعب القرظي دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة وفيما بعده من المتاع والعذاب كل كافر وعن ابن زيد هبطوا واللّه عنهم راض ثم أخرج منهم نسلا منهم من رحم ومنهم من عذب وقيل المراد بالأمم الممتعة قوم هود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام وبالعذاب ما نزل بهم

٤٩

تلك إشارة إلى ما قص من قصة نوح عليه الصلاة و السلام إما لكونها بتقضيها في حكم البعيد أو الدلالة على بعد منزلتها وهي مبتدأ خبره

من أنباء الغيب أي من جنسها أي ليست من قبيل سائر الأنباء بل هي نسيج وحدها منفردة عما عداها أو بعضها

نوحيها إليك خبر ثان والضمير لها أي موحاة إليك أو هو الخبر ومن أنباء متعلق به فالتعبير بصيغة المضارع لاستحضار الصورة أو حال من أنباء الغيب أي موحاةإليك

ما كنت تعلمها أنت ولا قومك خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك

من قبل هذا أي من قبل أيحائنا إليك وإخبارك بها أو من قبل هذا العلم الذي كسبته بالوحي أو من قبل هذا الوقت أو حال من الهاء في نوحيها أو الكاف إليك أي جاهلا أنت وقومك بها وفي ذكر جهلهم تنبيه على أنه عليه الصلاة و السلام لم يتعلمه إذ لم يخالط غيرهم وأنهم مع كثرتهم لما لم يعلموه فكيف بواحد منهم فاصبر متفرع على الإيحاء أو العلم المستفاد منه المدلول عليه بقوله ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا أي وإذ قد أوحيناها إليك أو علمتها بذلك فاصبر على مشاق تبليغ الرسالة وأذية قومك كما صبر نوح على ما سمعته من أنواع البلايا في هذه المدة المتطاولة وهذا ناظر إلى ما سبق من قوله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك الخ

إن العاقبة بالظفر في الدنيا وبالفوز في الآخرة

للمتقين كما شاهدته في نوح عليه الصلاة و السلام وقومه ولك فيه أسوة حسنة فهي تسلية لرسول اللّه وتعليل للأمر بالصبر فإن كون العاقبة الحميدة للمتقين وهو في أقصى درجات التقوى والمؤمنون كلهم متقون مما يسليه ويهون عليه الخطوب ويذهب عنه ما عسى يعتريه من ضيق صدره وهذا على تقدير أن يراد بالتقوى الدرجة الأولى منه أعنى التوقي من العذاب المخلد بالتبرؤ من الشرك وعليه قوله تعالى وألزمهم كلمة التقوى ويجوز أن يراد الدرجة الثالثة منه وهي أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشرا شره وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى اتقوا اللّه حق تقاته فإن التقوى بهذا المعنى منطور على الصبر المذكور فكأنه قيل فاصبر فإن العاقبة للصابرين

٥٠

وإلى عاد متعلق بمضمر معطوف على قوله تعالى أرسلنا في قصة نوح وهو الناصب لقوله تعالى

أخاهم أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي واحدا منهم في النسب كقولهم يا أخا العرب وتقديم المجرور على المنصوب ههنا للحذار عن الإضمار قبل الذكر

وقيل متعلق بالفعل المذكور فيما سبق وأخاهم معطوف على نوحا وقد مر في سورة الأعراف وقوله تعالى

هودا عطف بيان لأخاهم وكان من جملتهم فإنه هود بن عبداللّه بن رباح بن الخلود ابن العوص بن إرم بن سام بن نوح عليه الصلاة و السلام

وقيل هود بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح ابن عم أبي عاد وإنما جعل منهم لأنهم أفهم لكلامه وأعرف بحاله وأرغب في اقتفائه

قال لما كان ذكر إرساله إليهم مظنة للسؤال عما قال لهم ودعاهم إليه أجيب عنه بطريق الاستئناف فقيل قال

يا قوم اعبدوا اللّه أي وحدوه كما ينبىء عنه قوله تعالى

ما لكم من إله غيره فإنه استئناف يجري مجرى البيان للعبادة المأمور بها والتعليل للأمر بها كأنه قيل خصوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا إذ ليس لكم من إله سواه وغيره بالرفع صفة لإله باعتبار محله وقرىء بالجر حملا له على لفظه

إن أنتم ما أنتم باتخاذكم الأصنام شركاء له أو بقولكم إن اللّه أمرنا بعبادتها

إلا مفترون عليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا

٥١

يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني خاطب به كل نبي قومه إزاحة لما عسى يتوهمونه وإمحاضا للنصيحة فإنها ما دامت مشوبة بالمطامع بمعزل عن التأثير وإيراد الموصول للتفخيم وجعل الصلة فعل الفطرة لكونه أقدم النعم الفائضة من جناب اللّه تعالى المستوجبة للشكر الذي لا يتأتى إلا بالجريان على موجب أمره الغالب معرضا عن المطالب الدنيويه التي من جملتها الأجر

أفلا تعقلون أي أتغفلون عن هذه القضية أو ألا تتفكرون فيها فلا تعقلونها أو أتجهلون كل شيء فلا تعقلون شيئا أصلا فإن هذا مما لا ينبغي أن يخفى على أحد من العقلاء

٥٢

ويا قوم استغفروا ربكم أي اطلبوا مغفرته

لما سلف منكم من الذنوب بالإيمان والطاعة

ثم توبوا إليه أي توسلوا إليه بالتوبة وأيضا التبرؤ من الغير إنما يكون بعد الإيمان باللّه تعالى والرغبة فيما عنده

يرسل السماء أي المطر

عليكم مدرارا أي كثير الدرور

ويزدكم قوة مضافة ومنضمة

إلى قوتكم أي يضاعفها لكم وإنما رغبهم بكثرة المطر لأنهم كانوا أصحاب زروع وعمارات

وقيل حبس اللّه تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فوعدهم عليه الصلاة و السلام كثرة الأمطار وتضاعف القوة بالتناسل على الإيمان والتوبة

ولا تتولوا أي لا تعرضوا عما دعوتكم إليه

مجرمين مصرين على ما كنتم عليه من الإجرام

٥٣

قالوا يا هود ما جئتنا ببينة أي بحجة تدل على صحة دعواك وإنما قالوه لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما جاءهم من البينات الفائتة للحصر

وما نحن بتاركي آلهتنا أي بتاركي عبادتها

عن قولك أي صادرين عنه أي صادرا تركنا عن ذلك بإسناد حال الوصف إلى الموصوف ومعناه التعليل على أبلغ وجه لدلالته على كونه علة فاعلية ولا يفيده الباء واللام وهذا كقولهم المنقول عنهم في سورة الأعراف أجئتنا لنعبد اللّه وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا

وما نحن لك بمؤمنين أي بمصدقين في شيء مما تأتي وتذر فيندرج تحته ما دعاهم إليه من التوحيد وترك عبادة الآلهة وفيه من الدلالة على شدة الشكيمة وتجاوز الحد في العتو ما لا يخفى

٥٤

إن نقول إلا اعتراك أي ما نقول إلا قولنا اعتراك أي أصابك

بعض آلهتنا بسوء بجنون لسبك إياها وصدك عن عبادتها وحطك لها عن رتبة الألوهية والمعبودية بما مر من قولك ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون والتنكير في سوء للتقليل كأنهم لم يبالغوا في السوء كما ينبىء عنه نسبة ذلك إلى بعض آلهتهم دون كلها والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ وهذا الكلام مقرر لما مر من قولهم وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين فإن اعتقادهم بكونه عليه الصلاة و السلام كما قالوا وحاشاه عن ذلك يوجب عدم الاعتداد بقوله وعده من قبيل الخرافات فضلا عن التصديق والعمل بمقتضاه يعنون أنا لا نعد كلامك إلا من قبيل ما لا يحتمل الصدق والكذب من الهذيانات الصادرة عن المجانين فكيف نصدقه ونؤمن به ونعمل بموجبه ولقد سلكوا في طريقة المخالفة والعناد إلى سبيل الترقى من الأدنى إلى الأعلى حيث أخبروا أولا عن عدم مجيئه بالبينة مع احتمال كون ما جاء به عليه الصلاة و السلام حجة في نفسه وإن لم تكن واضحة الدلالة على المراد وثانيا عن ترك الامتثال بقوله عليه الصلاة و السلام بقولهم وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك مع إمكان تحقق ذلك بتصديقهم له عليه الصلاة و السلام في كلامه ثم نفوا تصديقهم له عليه الصلاة و السلام بقولهم وما نحن لك بمؤمنين مع كون كلامه عليه الصلاة و السلام مما يقبل التصديق ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضا حيث قالوا ما قالوا قاتلهم اللّه أنى يؤفكون

قال إني أشهد اللّه واشهدوا أني برىء مما تشركون

٥٥

من دونه أي من إشراككم من دون اللّه أي من غير أن ينزل به سلطانا كما قال في سورة الأعراف أتجادلونني في أسماء سميتوها أنتم وآباؤكم ما أنزل اللّه بها من سلطان أو مما تشركونه من آلهة غير اللّه أجاب به عن مقالتهم الحمقاء المبنية على اعتقاد كون آلهتهم مما يضر أو ينفع وأنها بمعزل من ذلك ولما كان ما وقع أولا عنه عليه الصلاة و السلام في حق آلهتهم من كونها بمعزل عن الألوهية إنما وقع في ضمن الأمر بعبادة اللّه تعالى واختصاصه بها وقد شق عليهم ذلك وعدوه مما يورث شينا حتى زعموا أنها تصيبه عليه الصلاة و السلام بسوء مجازاة لصنيعه معها صرح عليه الصلاة و السلام بالحق وصدع به حيث أخبر ببراءته القديمة عنها بالجملة الاسمية المصدرة بأن وأشهد اللّه على ذلك وأمرهم بأن يسمعوا ذلك ويشهدوا به استهانة بهم ثم أمرهم بالاجتماع والاحتشاد مع آلهتم جميعا دون بعض منها حسبما يشعر به قولهم بعض آلهتنا والتعاون في أيصال الكيد إليه عليه الصلاة و السلام ونهاهم عن الإنظار والإمهال في ذلك فقال

فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون أي إن صح ما لوحتم به من كون آلهتكم مما يقدر على إضرار من ينال منها ويصد عن عبادتها ولو بطريق ضمني فإني برىء منها فكونوا أنتم معها جميعا وباشروا كيدي ثم لا تمهلوني ولا تسامحوني في ذلك فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم في قدرة آلهتهم على ما قالوا وعلى البراءة كليهما وهذا من أعظم المعجزات فإنه عليه الصلاة و السلام كان رجلا مفردا بين الجم الغفير والجمع الكثير من عتاة عاد الغلاظ الشداد وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقرهم وآلهتهم وهيجهم على مباشرة مبادى المضادة والمضارة وحثهم على التصدي لأسباب المعازة والمعارة فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه وظهر عجزهم عن ذلك ظهورا بينا كيف لا وقد التجأ إلى ركن منيع رفيع واعتصم بحبل متين حيث قال

٥٦

إني توكلت على اللّه ربي وربكم يعني إنكم وإن بذلتم في مضارتي مجهودكم لا تقدرون على شيء مما تريدون بي فإني متوكل على اللّه تعالى وإنما جيء بلفظ الماضي لكونه أدل على الإنشاء المناسب للمقام وواثق بكلاءتي وحفظي عن غوائلكم وهو مالكي ومالككم لا يصدر عنكم شيء ولا يصيبني أمر إلا بإرادته ومشيئته ثم برهن عليه بقوله

ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها أي إلا هو مالك لها قادر عليها يصرفها كيف يشاء غير مستعصية عليه فإن الأخذ بالناصية تمثيل لذلك

إن ربي على صراط مستقيم تعليل لما يدل عليه التوكل من عدم قدرتهم على إضراره أي هو على الحق والعدل فلا يكاد يسلطكم على إذ لا يضيع عنده معتصم ولا يفتات عليه ظالم والاقتصار على إضافة الرب إلى نفسه إما بطريق الاكتفاء لظهور المراد

وأما لأن فائدة كونه تعالى مالكا لهم أيضا راجعة إليه عليه الصلاة و السلام

٥٧

فإن تولوا أي تتولوا بحذف إحدى التاءين أي إن تستمروا على ما كنتم عليه من التولي والإعراض

فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم أي لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ وكنتم محجوجين بأن بلغكم الحق فأبيتم إلا التكذيب والجحود

ويستخلف ربي قوما غيركم استئناف بالوعيد لهم بأن اللّه تعالى يهلكهم ويستخلف في ديارهم وأموالهم قوما آخرين أو عطف على الجواب بالفاء ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي اللّه عنه بالجزم عطفا على الموضع كأنه قيل فإن تولوا يعذرني ويهلكهم ويستخلف مكانكم آخرين وفي اقتصار إضافة الرب عليه الصلاة و السلام رمز إلى اللطف به والتدمير للمخاطبين

ولا تضرونه بتوليكم

شيئا من الضرر لاستحالة ذلك عليه ومن جزم ويستخلف أسقط منه النون

إن ربي على كل شيء حفيظ أي رقيب مهيمن فلا تخفى عليه أعمالكم فيجازيكم بحسبها أو حافظ مستول على كل شيء فكيف يضره شيء وهو الحافظ للكل

٥٨

ولما جاء أمرنا أي نزل عذابنا وفي التعبير عنه بالأمر مضافا إلى ضميره جل جلاله وعن نزوله بالمجىء ما لا يخفى من التفخيم والتهويل أو ورد أمرنا بالعذاب

نجينا هودا والذين آمنوا معه وكانوا أربعة آلاف

برحمة عظيمة كائنة لهم

منا وهي الايمان الذي أنعمنا به عليهم بالتوفيق له والهداية إليه

ونجيناهم من عذاب غليظ أي كانت تلك التنجية تنجية من عذاب غليظ وهي السموم التي كانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطعهم إربا إربا

وقيل أريد بالثانية التنجية من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه وأشد وهذه التنجية وإن لم تكن مقيدة بمجىء الأمر لكن جيء بها تكملة للنعمة عليهم وتعريضا بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا بالسموم فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ

٥٩

وتلك عاد أنث الاسم الإشارة باعتبار القبيلة أو لأن الإشارة إلى قبورهم وآثارهم

جحدوا بآيات ربهم كفروا بها بعدما استيقنوها

وعصوا رسله جمع الرسل مع أنه لم يرسل إليهم غير هود عليه الصلاة و السلام تفظيعا لحالهم وإظهارا لكمال كفرهم وعنادهم ببيان أن عصيانهم له عليه الصلاة و السلام عصيان لجميع الرسل السابقين واللاحقين لاتفاق كلمتهم على التوحيد لا نفرق بين أحد من رسله فيجوز أن يراد بالآيات ما أتى به هود وغيره من الأنبياء عليهم السلام وفيه زيادة ملاءمة لما تقدم من جميع الآيات وما تأخر من قوله

واتبعوا أمر كل جبار عنيد من كبرائهم ورؤسائهم الدعاة إلى الضلال وإلى تكذيب الرسل فكأنه قيل عصوا كل رسول واتبعوا أمر كل جبار وهذا الوصف ليس كما سبق من جحود الآيات وعصيان الرسل في الشمول لكل فرد منهم فإن الاتباع للأمر من أوصاف الأسافل دون الرؤساء

وعنيد فعيل من عند عندا وعندا إذا طغا والمعنى عصوا من دعاهم إلى الهدى وأطاعوا من حداهم إلى الردى

٦٠

وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة إبعادا عن الرحمة وعن كل خير أي جعلت اللعنة لازمة لهم وعبر عن ذلك بالتبعية للمبالغة فكأنها لا تفارقهم وإن ذهبوا كل مذهب بل تدور معهم حيثما داروا ولوقوعه في صحبة اتباعهم رؤساءهم يعني أنهم لما اتبعوهم أتبعوا ذلك جزاء لصنيعهم جزاء وفاقا

ويوم القيامة أي اتبعوا يوم القيامة أيضا لعنة وهي عذاب النار المخلد حذفت لدلالة الأولى عليها وللإيذان بكون كل من اللغتين نوعا برأسه لم تجمعا في قرن واحد بأن يقال وأتبعوا في هذه الدنيا ويوم القيامة لعنة كما في قوله تعالى واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إيذانا باختلاف نوعي الحسنتين فإن المراد بالحسنة الدنيوية نحو الصحة والكفاف والتوفيق للخير وبالحسنة الأخروية الثواب والرحمة

إلا إن عادا كفروا ربهم أي بربهم أو نعمة ربهم حملا له على نقيضه الذي هو الشكر أو جحدوه

ألا بعدا لعاد دعاء عليهم بالهلاك مع كونهم هالكين أي هلاك تسجيلا عليهم باستحقاق الهلاك واستيجاب الدمار وتكرير حرف التنبيه وإعادة عاد للمبالغة في تفظيع حالهم والحث على الاعتبار بقصتهم

قوم هود عطف بيان لعاد فائدته التمييز عن عاد الثانية عاد إرم والإيماء إلى أن استحقاقهم للبعد بسبب ما جرى بينهم وبين هود عليه الصلاة و السلام وهم قومه

٦١

وإلى ثمود أخاهم صالحا عطف على ما سبق من قوله تعالى وإلى عاد أخاهم هودا وثمود قبيلة من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عابر بن إرم بن سام وقيل إنما سموا بذلك لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل وصالح عليه الصلاة و السلام هو ابن عبيد بن أسف بن ماشج بن عبيد بن جادر بن ثمود ولما كان الإخبار بإرساله إليهم مظنة لأن يسأل ويقال ماذا قال لهم قيل جوابا عنه بطريق الاستئناف

قال يا قوم اعبدوا اللّه أي وحده وعلل ذلك بقوله

ما لكم من إله غيره ثم زيد فيما يبعثهم على الإيمان والتوحيد ويحثهم على زيادة الإخلاص فيه بقوله

هو أنشأكم من الأرض أين هو كونكم وخلقكم منها لا غيره قصر قلب أو قصر إفراد فإن خلق آدم عليه الصلاة و السلام منها خلق لجميع أفراد البشر منها لما مر مرارا من أن خلقته عليه الصلاة و السلام لم تكن مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجا منطويا على خلق جيمع ذرياته التي ستوجد إلى يوم القيامة انطواء إجماليا

وقيل إن خلق آدم عليه الصلاة و السلام وإنشاء مواد النطف التي منها خلق نسله من التراب إنشاء لجميع الخلق من الأرض فتدبر

واستعمركم من العمر أي عمركم واستبقاكم

فيها أو من العمارة أي

أقدركم على عمارتها أو أمركم بها

وقيل هو من العمري بمعنى أعمركم فيها دياركم ويرثها منكم بعد انصرام أعماركم أو جعلكم معمرين دياركم تسكنونها مدة عمركم ثم تتركونها لمثلكم

فاستغفروه ثم توبوا إليه فإن ما فصل من فنون الإحسان داع إلى الاستغفار عما وقع منهم من التفريط والتوبة عما كانوا يباشرونه من القبائح وقد زيد في بيان ما يوجب ذلك فقيل

إن ربي قريب أي قريب الرحمة كقوله تعالى إن رحمة اللّه قريب من المحسنين

مجيب لمن دعاه وسأله وقد روعي في النظم الكريمة نكتة حيث قدم ذكر العلة الباعثة المتقدمة على الأمر بالاستغفار والتوبة وأخر عنه ذكر الغائبة المتأخرة عنهما في الوجود أعني الإجابة

٦٢

قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا أي كنا نرجو منك لما كنا نرى منك من دلائل السداد ومخايل الرشاد أن تكون لنا سيدا ومستشارا في الأمور وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما فاضلا خيرا نقدمك على جميعنا

وقيل كنا نرجو أن تدخل في ديننا وتوافقنا على ما نحن عليه

قبل هذا الذي باشرته من الدعوة إلى التوحيد وترك عبادة آلهة أو قبل هذا الوقت فكأنهم لم يكونوا إلى الآن على يأس من ذلك ولو بعد الدعوة إلى الحق فالآن قد انصرم عنك رجاؤنا وقرأ طلحة مرجوءا بالمد والهمزة

أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا أي عبدوه والعدول إلى صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية

وإننا لفي شك مما تدعونا إليه من التوحيد وترك عبادة الأوثان وغير ذلك من الاستغفار والتوبة

مريب أي موقع في الريبة من أرابه أي أوقعه في الريبة أي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة أو من أراب إذا كان ذا ريبة وأيهما كان فالاسناد مجازي والتنوين فيه وفي شك للتفخيم

٦٣

قال يا قوم أرأيتم أي أخبروني

إن كنت في الحقيقة

على بينة أي حجة ظاهرة وبرهان وبصيرة

من ربي مالكي ومتولي أمرى

وآتاني منه من جهته

رحمة نبوة وهذه الأمور وإن كانت محققة الوقوع لكنها صدرت بكلمة الشك اعتبارا لحال المخاطبين ورعاية لحسن المحاورة لاستنزالهم عن المكابرة

فمن ينصرني من اللّه أي ينجيني من عذابه والعدول إلى الإظهار لزيادة التهويل والفاء لترتيب إنكار النصرة على ما سبق من إيتاء النبوة وكونه على بينة من ربه على تقدير العصيان حسبما يعرب عنه قوله تعالى

إن عصيته أي بالمساهلة في تبليغ الرسالة والمجاراة معكم فيما تأتون وتذرون فإن العصيان ممن ذلك شأنه أبعد والمؤاخذة عليه ألزم وإنكار نصرته أدخل

فما تزيدونني إذن باستتباعكم إياي كما ينبىء عنه قولهم قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أي لا تفيدونني إذ لم يكن فيه أصل الخسران حتى يزيدوه

غير تخسير أي غير أن تجعلوني خاسرا بإبطال أعمالي وتعريضي لسخط اللّه تعالى أو فما تزيدونني بما تقولون غير أن أنسبكم إلى الخسران وأقول لكم إنكم لخاسرون فالزيادة على معناه والفاء لترتيب عدم الزيادة على انتفاء الناصر المفهوم من إنكاره على تقدير العصيان مع تحقق ما ينفيه من كونه عليه الصلاة و السلام على بينة من ربه وإيتائه النبوة

٦٤

ويا قوم هذه ناقة اللّه الإضافة للتشريف والتنبيه على أنها مفارقة لسائر ما يجانسها من حيث الخلقة ومن حيث الخلق

لكم آية معجزة دالة على صدق نبوتي وهي حال من ناقة اللّه والعامل ما في هذه من معنى الفعل ولكم حال من آية متقدمة عليها لكونها نكرة ولو تأخرت لكانت صفة لها ويجوز أن يكون ناقة اللّه بدلا من هذه أو عطف بيان ولكم خبرا وعاملا في آية

فذروها خلوها وشأنها

تأكل في أرض اللّه ترع نباتها وتشرب ماءها وإضافة الأرض إلى اللّه تعالى لتربية استحقاقها لذلك وتعليل الأمر بتركها وشأنها

ولا تمسوها بسوء بولغ في النهي عن التعرض لها بما يضرها حيث نهى عن المس الذي هو من مبادىء الإصابة ونكر السوء أي لا تضربوها ولا تطردوها ولا تقربوها بشيء من السوء فضلا عن عقرها وقتلها

فيأخذكم عذاب قريب أي قريب النزول روي أنهم طلبوا منه أن يخرج من صخرة تسمى الكاثبة ناقة عشراء مخترجة جوفاء وبراء وقالوا إن فعلت ذلك صدقناك فأخذ صالح عليه الصلاة و السلام عليهم مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن فقالوا نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء كما وصفوا وهم ينظرون ثم أنتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع بن عمرو في جماعة ومنع الباقين من الإيمان دواب ابن عمرو والحباب صاحب أوثانهم ورباب كاهنهم فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وترد الماء غبا فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها ثم تتفحج فيحلبون ما شاءوا حتى تمتلىء أوانيهم فيشربون ويدخرون وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق عليهم ذلك

٦٥

فعقروها قيل زينت عقرها لهم عنيزة أم غنم وصدقه بنت المختار فعقروها واقتسموا لحمها فرقي سقيها جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثا فقال صالح لهم أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه وانفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها

فقال لهم صالح

تمتعوا أي عيشوا

في داركم أي في منازلكم أو في الدنيا

ثلاثة أيام قيل قال لهم تصبح وجوهكم غدا مصفرة وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب

ذلك إشارة إلى ما يدل عليه الأمر بالتمتع ثلاثة أيام من نزول العذاب عقيبها والمراد بما فيه من معنى البعد تفخيمه

وعد غير مكذوب أي غير مكذوب فيه فحذف الجار للاتساع المشهور كقوله

... ويوم شهدناه سليما وعامرا ...

أو غير مكذوب كأن الواعد قال له أفي بك فإن وفى به صدقه وإلا كذبه أو وعد غير كذب على أنه مصدر كالمجلود والمعقول

٦٦

فلما جاء أمرنا أي عذابنا أو أمرنا بنزوله وفيه مالا يخفى من التهويل

نجينا صالحا والذين آمنوا معه متعلق بنجينا أو بآمنوا

برحمة بسبب رحمة عظيمة

منا وهي بالنسبة إلى صالح النبوة وإلى المؤمنين الإيمان كما مر أو ملتبسين برحمة ورأفة منا

ومن خزي يومئذ أي ونجيناهم من خزي يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة كقوله تعالى ونجيناهم من عذاب غليظ على معنى أنه كانت تلك التنجية تنجية من خزي يومئذ أي من ذلته ومهانته أو ذلهم وفضيحتهم يوم القيامة كما فسر به العذاب الغليظ فيما سبق فيكون المعنى ونجيناهم من عذاب يوم القيامة بعد تنجيتنا إياهم من عذاب الدنيا وعن نافع بالفتح على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه هنا وفي المعارج في قوله تعالى من عذاب يومئذ وقرىء بالتنوين ونصب يومئذ

إن ربك الخطاب لرسول اللّه

هو القوي العزيز القادر على كل شيء والغالب عليه لا غيره ولكون الإخبار بتنجية الأولياء لا سيما عند الأنباء بحلول العذاب أهم ذكرها أولا ثم أخبر بهلاك الأعداء فقال

٦٧

وأخذ الذين ظلموا عدل عن المضمر إلى المظهر تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بعليته لنزول العذاب بهم

الصيحة أي صيحة جبريل عليه الصلاة و السلام

وقيل أتتهم من السماء صيحة فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم وفي سورة الأعراف فأخذتهم الرجفة ولعلها وقعت عقيب الصيحة المستتبعة لتموج الهواء

فأصبحوا أي صاروا

في ديارهم أي بلادهم أو مساكنهم

جاثمين هامدين موتى لا يتحركون والمراد كونهم كذلك عند ابتداء نزول العذاب بهم من غير اضطراب وحركة كما يكون ذلك عند الموت المعتاد ولا يخفى ما فيه من الدلالة على شدة الأخذ وسرعته اللّهم إنا نعوذ بك من حلول غضبك قيل لما رأوا العلامات التي بينها صالح من اصفرار وجوهم واحمرارها واسودادها عمدوا إلى قتله عليه الصلاة و السلام فنجاه اللّه تعالى إلى أرض فلسطين ولما كان ضحوة اليوم الرابع وهو يوم السبت تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم الصيحة فتقطعت قلوبهم فهلكوا

٦٨

كأن لم يغنوا أي كأنهم في بلادهم أو في مساكنهم وهو في موقع الحال أي أصبحوا جاثمين مماثلين لمن لم يوجد ولم يقم في مقام قط

ألا إن ثمود وضع موضع الضمير لزيادة البيان ونونه أبو بكر هنا وفي النجم وقرأ حفص هنا وفي الفرقان والعنكبوت بغير تنوين

كفروا ربهم صرح بكفرهم مع كونه معلوما مما سبق من أحوالهم تقبيحا لحالهم وتعليلا لاستحقاقهم بالدعاء عليهم بالبعد والهلاك في قوله تعالى

إلا بعدا لثمود وقرأ الكسائي بالتنوين

٦٩

ولقد جاءت رسلنا إبراهيم وهم الملائكة عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنهم جبريل وملكان

وقيل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام وقال الضحاك كانوا تسعة وعن محمد بن كعب جبريل ومعه سبعة وعن السدى أحد عشر على صور الغلمان الوضاء وجوههم وعن مقاتل كانوا اثنى عشر ملكا وإنما أسند إليهم مطلق المجىء بالبشرى دون الإرسال لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه السلام بل إلى قوم لوط لقوله تعالى إنا أرسلنا إلى قوم لوط وإنما جاءوه لداعية البشرى ولما كان المقصود في السورة الكريمة ذكر سوء صنيع الأمم السالفة مع الرسل المرسلة إليهم ولحوق العذاب بهم بسبب ذلك ولم يكن جميع قوم إبراهيم عليه الصلاة و السلام ممن لحق بهم العذاب بل إنما لحق بقوم لوط منهم خاصة غير الأسلوب المطرد فيما سبق من قوله تعالى وإلى عاد أخاهم هودا * وإلى ثمود أخاهم صالحا ثم رجع إليه حيث قيل وإلى مدين أخاهم شعيبا

بالبشرى أي ملتبسين بها قيل هي مطلق البشرى المنتظمة للبشارة بالولد من سارة لقوله تعالى فبشرناها بإسحاق الآية وقوله تعالى وبشرناه بغلام حليم وقوله وبشروه بغلام عليم وللبشارة بعدم لحوق الضرر به لقوله تعالى فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى لظهور تفرع المجادلة على مجيئها كما سيأتي

وقيل هي البشارة بهلاك قوم لوط ويأباه مجادلته عليه الصلاة و السلام في شأنهم والأظهر أنها البشارة بالولد وستعرف سر تفرع المجادلة على ذلك ولما كان الإخبار بمجيئهم بالبشرى مظنة لسؤال السامع بأنهم ما قالوا أجيب بأنهم

قالوا سلاما أي سلمنا أو نسلم عليك سلاما ويجوز أن يكون نصبه بقالوا أي قالوا قولا ذا سلام أو ذكروا سلاما قال سلام أي عليكم سلام أو سلام عليكم حياهم بأحسن من تحيتهم وقرىء سلم كحرم في حرام وقرأ ابن أبي عبلة قال سلاما وعنه أنه قرأ بالرفع فيهما

فما لبث أي إبراهيم

أن جاء بعجل أي في المجىء به أو ما لبث مجيئه بعجل

حنيذ أي مشوي بالرضف في الأخدود

وقيل سمين يقطر ودكه لقوله بعجل سمين من حنذت الفرس إذا عرقته بالجلال

٧٠

فلما رأى أيديهم لا تصل إليه لا يمدون إليه أيديهم للأكل

نكرهم أي أنكرهم يقال نكره وأنكره واستنكره بمعنى وإنما أنكرهم لأنهم كانوا إذا نزل بهم ضيف ولم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجىء بخير وقد روي أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل إليه أيديهم وهذا الإنكار منه عليه الصلاة و السلام راجع إلى فعلهم المذكور

وأما إنكاره المتعلق بأنفسهم فلا تعلق له برؤية عدم أكلهم وإنما وقع ذلك عند رؤيته لهم لعدم كونهم من جنس ما كان يعهده من الناس ألا يرى إلى قوله تعالى في سورة الذاريات سلام قوم منكرون

وأوجس منهم أي أحس أو أضمر من جهتهم

خيفة لما ظن أن نزولهم لأمر أنكره اللّه تعالى عليه أو لتعذيب قومه وإنما أخر

المفعول الصريح عن الظرف لأن المراد الإخبار بأنه عليه الصلاة و السلام أوجس من جهتهم شيئا هو الخيفة لا أنه أوجس الخيفة من جهتهم لا من جهة غيرهم وتحقيقه أن تأخير ما حقه التقديم يوجب ترقب النفس إليه فيتمكن عند وروده عليها فضل تمكن

قالوا لا تخف ما قالوه بمجرد ما رأوا منه مخايل الخوف إزالة له منه بل بعد إظهاره عليه الصلاة و السلام له قال تعالى في سورة الحجر قال إنا منكم وجلون ولم يذكر ذلك ههنا اكتفاء بذلك

إنا أرسلنا ظاهره أنه استئناف في معنى التعليل للنهي المذكور كما أن قوله تعالى إنا نبشرك تعليل لذلك فإن إرسالهم إلى قوم آخرين يوجب أمنهم من الخوف أي أرسلنا بالعذاب

إلى قوم لوط خاصة إلا أنه ليس كذلك فإن قوله تعالى قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين صريح في أنهم قالوه جوابا عن سؤاله عليه الصلاة و السلام وقد أوجز الكلام اكتفاء بذلك

٧١

وامرأته قائمة وراء الستر بحيث تسمع محاورتهم أو على رءوسهم للخدمة حسبما هو المعتاد والجملة حال من ضمير قالوا أي قالوه وهي قائمة تسمع مقالتهم

فضحكت سرورا بزوال الخوف أو بهلاك أهل الفساد أو بهما جميعا

وقيل بوقوع الأمر حسبما كانت تقول فيما سلف فإنها كانت تقول لإبراهيم اضمم إليك لوطا فإني أرى أن العذاب نازلا بهؤلاء القوم

وقيل ضحكت حاضت ومنه ضحكت الشجرة إذا سال صمغها وهو بعيد وقرىء بفتح الحاء

فبشرناها بإسحق أي عقبنا سرورها بسرور أتم منه على ألسنة رسلنا

ومن وراء إسحق يعقوب بالنصب على أنه مفعول لما دل عليه قوله بشرناها أي ووهبنا لها من وراء إسحق يعقوب وقرىء بالرفع على الابتداء خبره الظرف أي من بعد إسحق يعقوب مولود أو موجود وكلا الاسمين داخل في البشارة كيحي أو واقع في الحكاية بعد أن ولدا فسميا بذلك وتوجيه البشارة ههنا إليها مع أن الأصل في ذلك إبراهيم عليه الصلاة و السلام وقد وجهت إليه حيث قيل وبشرناه بغلام حليم وبشرناه بغلام عليم للإيذان بأن ما بشر به يكون منهما ولكونها عقيمة حريصة على الولد

٧٢

قالت استئناف ورد جوابا عن سؤال من سأل وقال فما فعلت إذ بشرت بذلك فقيل قالت

يا ويلتا أصل الويل الخزي ثم شاع في كل أمر فظيع والألف مبدلة من ياء الإضافة كما في يا لهفا ويا عجبا وقرأ الحسن على الأصل وأمالها أبو عمرو وعاصم في رواية ومعناه يا ويلتي احضري فهذا أو أن حضورك

وقيل هي ألف الندبة ويوقف عليها بهاء السكت

أألد وأنا عجوز بنت تسعين أو تسع وتسعين سنة

وهذا الذي تشاهدونه

بعلى أي زوجي وأصل البعل القائم بالأمر

شيخا وكان ابن مائة وعشرين سنة ونصبه على الحال والعامل معنى الإشارة وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو شيخ أو خبر بعد خبر أو هو الخبر وبعلي بدل من اسم الإشارة أو بيان له وكلتا الجملتين وقعت حالا من الضمير في أألد لتقرير ما فيه من الاستبعاد وتعليله أي أألد وكلانا على حالة منافية لذلك وإنما قدمت بيان

حالها على بيان حاله عليه الصلاة و السلام لأن مباينة حالها لما ذكر من الولادة أكثر إذ ربما يولد للشيوخ من الشواب أما العجائز داؤهن عقام ولأن البشارة متوجهة إليها صريحا ولأن العكس في البيان ربما يوهم من أول الأمر نسبة المانع من الولادة إلى جانب إبراهيم عليه الصلاة و السلام وفيه ما لا يخفى من المحذور واقتصارها الاستبعاد على ولادتها من غير تعرض لحال النافلة لأنها المستبعد

وأما ولادة ولدها فلا يتعلق بها استبعاد

إن هذا أي ما ذكر من حصول الولد من هرمين مثلنا

لشيء عجيب بالنسبة إلى سنة اللّه تعالى المسلوكة فيما بين عباده وهذه الجملة لتعليل الاستبعاد بطريق الاستئناف التحقيقي ومقصدها استعظام نعمة اللّه تعالى عليها في ضمن الاستعجاب العادي لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرته سبحانه وتعالى

٧٣

قالوا أتعجبين من أمر اللّه أي قدرته وحكمته أو تكوينه أو شأنه أنكروا عليها تعجبها من ذلك لأنها كانت ناشئة في بيت النبوة ومهبط الوحي والآيات ومظهر المعجزات والأمور الخارقة للعادات فكان حقها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء من أمثال هذه الخوارق من ألطاف اللّه تعالى الخفية ولطائف صنعه الفائضة على كل أحد مما يتعلق بذلك مشيئته الأزلية لا سيما على أهل بيت النبوة الذين ليست مرتبتهم عند اللّه سبحانه كمراتب سائر الناس وأن تسبح اللّه تعالى وتحمده وتمجده وإلى ذلك أشاروا بقوله تعالى

رحمة اللّه التي وسعت كل شيء واستتبعت كل خير وإنما وضع المظهر موضع المضمر لزيادة تشريفها

وبركاته أي خيراته النامية المتكاثرة في كل باب التي من جملتها هبة الأولاد

وقيل الرحمة النبوة والبركات الأسباط من بني اسرائيل لأن الأنبياء منهم وكلهم من ولد إبراهيم عليه الصلاة و السلام

عليكم أهل البيت نصب على المدح أو الاختصاص لأنهم أهل بيت خليل الرحمن وصرف الخطاب من صيغة الواحدة إلى جمع المذكر لتعميم حكمه لإبراهيم عليه الصلاة و السلام أيضا ليكون جوابهم لها جوابا له أيضا إن خطر بباله مثل ما خطر ببالها والجملة كلام مستأنف علل به إنكار تعجبها كأنه قيل ليس المقام مقام التعجب فإن اللّه تعالى على كل شيء قدير ولستم يأهل بيت النبوة والكرامة والزلفى كسائر الطوائف بل رحمته المستتبعة لكل خير الواسعة لكل شيء وبركاته أي خيراته النامية الفائضة منه بواسطة تلك الرحمة الواسعة لازمة لكم لا تفارقكم

إنه حميد فاعل ما يستوجب الحمد

مجيد كثير الخير والإحسان إلى عباده والجملة لتعليل ما سبق من قوله رحمة اللّه وبركاته عليكم

٧٤

فلما ذهب عن إبراهيم الروع أي ما أوجس منهم من الخيفة واطمأن قلبه بعرفانهم وعرفان سبب مجيئهم والفاء لربط بعض أحوال إبراهيم عليه الصلاة و السلام ببعض غب انفصالها بما ليس بأجنبي من كل وجه بل له مدخل تام في السباق والسياق وتأخير الفاعل عن الظرف لأنه مصب الفائدة فإن بتأخير ما حقه التقديم تبقى النفس منتظرة إلى وروده فيتمكن فيتمن فيها عند وروده أليها فضل تمكن

وجاءته البشرى إن فسرت البشرى بقولهم لا تخف فسببية ذهاب

الخوف ومجيء السرور للمجادلة المدلول عليها بقوله تعالى

يجادلنا في قوم لوط أي جادل رسلنا في شأنهم وعدل إلى صيغة الاستقبال لاستحضار صورتها أو طفق يجادلنا ظاهرة

وأما إن فسرت ببشارة الولد أو بما يعمها فلعل سببيتها لها من حيث إنها تفيد زيادة اطمئنان قلب بسلامته وسلامة أهله كافة ومجادلته إياهم أنه قال لهم حين قالوا له إنا مهلكوا أهل هذه القرية أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلا من المؤمنين أتهلكونها قالوا لا قال فأربعون قالوا لا قال فثلاثون قالوا لا حتى بلغ العشرة قالوا لا قال أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها قالوا لا فعند ذلك قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها الننجينه وأهله إن قيل المتبادر من هذا الكلام أن يكون إبراهيم عليه السلام قد علم أنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط قبل ذهاب الروع عن نفسه ولكن لم يقدر على مجادلتهم في شأنهم لاشتغاله بشأن نفسه فلما ذهب عنه الروع فرغ لها مع أن ذهاب الروع إنما هو قبل العلم بذلك لقوله تعالى قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط قلنا كان لوط عليه السلام على شريعة إبراهيم عليه السلام وقومه مكلفين بها فلما رأى من الملائكة ما رأى خاف على نفسه وعلى كافة أمته التي من جملتهم قوم لوط ولا ريب في تقدم هذا الخوف على قولهم لا تخف

وأما الذي علمه السلام بعد النهي عن الخوف فهو اختصاص قوم لوط بالهلاك لا دخولهم تحت العموم فتأمل واللّه الموفق

٧٥

إن إبراهيم لحليم غير عجول على الانتقام ممن أساء إليه

أواه كثير التأوه على الذنوب والتأسف على الناس

منيب راجع إلى اللّه تعالى والمقصود بتعداد صفاته الجميلة المذكورة بيان ما حمله عليه السلام على ما صدر عنه من المجادلة

٧٦

يا إبراهيم أي قالت الملائكة يا إبراهيم

أعرض عن هذا الجدال

إنه أي الشأن

قد جاء أمر ربك أي قدره الجاري على وفق قضائه الأزلي الذي هو عبارة عن الإرادة الأزلية والعناية الإلهية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص حسب تعلقها بالأشياء في أوقاتها وهو المعبر عنه بالقدر

وإنهم آتيهم عذاب غير مردود لا بجدال ولا بدعاء ولا بغيرهما

٧٧

ولما جاءت رسلنا لوطا قال ابن عباس رضي اللّه عنهما انطلقوا من عند إبراهيم عليه السلام إلى لوط عليه السلام وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه في صور غلمان مرد حسان الوجوه فلذلك

سيء بهم أي ساءه مجيئهم لظنه أنهم أناس فخاف أن يقصدهم قومه ويعجز عن مدافعتهم وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو عمر وسيء وسيئت بإشمام السين الضم روى أن اللّه تعالى قال للملائكة لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات فلما مشى معهم منطلقا بهم إلى منزله قال لهم أما بلغكم أمر هذه القرية قالوا وما أمرها قال أشهد إنها لشر قرية في الأرض عملا يقول ذلك أربع مرات فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد فخرجت امرأته فأخبرت به قومها وقالت في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم

وضاق بهم ذرعا أي ضاق بمكانهم صدره أو قلبه أو وسعه وطاقته وهو كناية عن شدة الإنقباض للعجز عن مدافعة المكروه والإحتيال فيه

وقيل ضاقت نفسه عن هذا الحادث وذكر الذرع مثل وهو المساحة وكأنه قدر البدن مجازا أي إن بدنه ضاق قدره من احتمال ما وقع

وقيل الذراع اسم للجارحة من المرفق إلى الأنامل والذرع مدها ومعنى ضيق الذرع في قوله تعالى ضاق بهم ذرعا قصرها كما أن معنى سعتها وبسطتها طولها ووجه التمثيل بذلك أن القصير الذراع إذا مدها ليتناول ما يتناول الطويل الذراع تقاصر عنه وعجز عن تعاطيه فضرب مثلا للذي قصرت طاقته دون بلوغ الأمر

وقال هذا يوم عصيب شديد من عصبه إذا شده

٧٨

وجاءه أي لوطا وهو في بيته مع أضيافه

قومه يهرعون إليه أي يسرعون كأنما يدفعون دفعا لطلب الفاحشة من أضيافه والجملة حال من قومه وكذا قوله تعالى

ومن قبل أي من قبل هذا الوقت

كانوا يعملون السيئات أي جاءوا مسرعين والحال أنهم كانوا منهمكين في عمل السيئات فضروا بها وتمرنوا فيها حتى لم يبق عندهم قبحتها ولذلك لم يستحيوا مما فعلوا من مجيئهم مهرعين مجاهرين

قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فتزوجوهن وكانوا يطلبونهن من قبل ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لعدم مشروعيته فإن تزويج المسلمات من الكفار كان جائزا وقد زوج النبي صلى اللّه عليه و سلم ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي وهما كافران

وقيل كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه وأيا ما كان فقد أراد به وقاية ضيفه وذلك غاية الكرم

وقيل ما كان ذلك القول منه مجرى على الحقيقة من إرادة النكاح بل كان ذلك مبالغة في التواضع لهم وإظهارا لشدة امتعاضه مما أوردوا عليه طمعا في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك فينزجروا عما أقدموا عليه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم جميعا بأن لا مناكحة بينهم وهو الأنسب بقولهم لقد علمت ما لنا في بناتك من حق كما ستقف عليه

فاتقوا اللّه بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم

ولا تخزون في ضيفي أي لا تفضحوني في شأنهم فإن إخزاء ضيف الرجل وجاره إخزاء له أو لا تخجلوني من الخزاية وهي الحياء

أليس منكم رجل رشيد يهتدي إلى الحق الصريح ويرعوي عن الباطل القبيح

٧٩

قالوا معرضين عما نصحهم به من الأمر بتقوى اللّه والنهي عن إخزائه مجيبين عن أول كلامه

لقد علمت ما لنا في بناتك من حق مستشهدين بعلمه بذلك يعنون إنك قد علمت أن لا سبيل إلى المناكحة بيننا وبينك وما عرضك إلا عرض سابرى ولا مطمع لنا في ذلك

وإنك لتعلم ما نريد من إتيان الذكران ولما يئس عليه السلام من ارعوائهم عما هم عليه من الغي

٨٠

قال لو أن لي بكم قوة أي لفعلت بكم ما فعلت وصنعت ما صنعت كقوله تعالى ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى

أو آوى إلى ركن شديد عطف على أن لي بكم إلى آخره لما فيه من معنى الفعل أي لو قويت على دفعكم بنفسي أو أويت إلى ناصر عزيز قوي أتمنع به عنكم شبهه بركن الجبل في الشدة والمنعة وروى عن النبي صلى اللّه عليه و سلم رحم اللّه أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد روى أنه عليه السلام أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب

٨١

قالوا أي الرسل لما شاهدوا عجزه عن مدافعة قومه

يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك بضرر ولا مكروه فافتح الباب ودعنا وإياهم ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل عليه السلام ربه رب العزة جل جلاله في عقوبتهم فأذن له فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه وله جناحان وعليه وشاح من در منظوم وهو براق الثنايا فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم كما قال عز وعلى فطمسنا أعينهم فصاروا لا يعرفون الطريق فخرجوا وهم يقولون النجاء النجاء فإن في بيت لوط قوما سحرة

فأسر بأهلك بالقطع من الإسراء وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث جاء في القرآن من السرى والفاء لترتيب الأمر بالإسراء على الإخبار برسالتهم المؤذنة بورود الأمر والنهي من جنابه عز و جل إليه عليه السلام

بقطع من الليل بطائفة منه

ولا يلتفت منكم أي لا يتخلف أولا ينظر إلى ورائه

أحد منك ومن أهلك وإنما نهوا عن ذلك ليجدوا في السير فإن من يلتفت إلى ما وراءه لا يخلو عن أدنى وقفة أو لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم

إلا امرأتك استثناء من قوله تعالى فأسر بأهلك ويؤيده أنه قرى فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك وقرىء بالرفع على البدل من أحد فالإلتفات بمعنى التخلف لا بمعنى النظر إلى الخلف كيلا يلزم التناقض بين القراءتين المتواترتين فإن النصب يقتضي كونه عليه السلام غير مأمور بالإسراء بها والرفع كونه مأمورا بذلك والإعتذار بأن مقتضى الرفع إنما هو مجرد كونها معهم وذلك لا يستدعي الأمر بالإسراء بها حتى يلزم المناقضة لجواز أن تسري هي بنفسها كما يروي أنه عليه السلام لما أسرى بأله تبعتهم فلما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت يا قوماه فأدركها حجر فقتلها وأن يسري بها عليه السلام من غير أمر بذلك إذ موجب النصب إنما هو عدم الأمر بالإسراء بها لا النهي عن الإسراء بها حتى يكون عليه السلام بالإسراء بها مخالفا للنهي لا يجدي نفعا لأن انصراف الإستثناء إلى الإلتفات يستدعي بقاء الأهل على العموم فيكون الإسراء بها مأمورا به قطعا وفي حمل الأهلية في إحدى القراءتين على الأهلية الدينية وفي الأخرى على النسبية مع أن فيه ما لا يخفى من التحكم والإعتساف كر على ما فر منه من المناقضة فالأولى حينئذ جعل الإستثناء على القراءتين من قوله لا يلتفت مثل الذي في قوله تعالى ما فعلوه إِلاَّ قليل منهم فإن ابن عامر قرأه بالنصب وإن كان الأفصح الرفع على البدل ولا بعد في كون أكثر القراء

على غير الأفصح ولا يلزم من ذلك أمرها بالإلتفات بل عدم نهيها عنه بطريق الإستصلاح ولذلك عللّه على طريقة الإستئناف بقوله

إنه مصيبها ما أصابهم من العذاب وهو أمطار الأحجار وإن لم يصبها الخسف والضمير في إنه للشأن وقوله تعالى مصيبها خبر وقوله ما أصابهم مبتدأ والجملة خبر لأن الذي اسمه ضمير الشأن وفيه ما لا يخفى من تفخيم شأن ما أصابهم ولا يحسن جعل الإستثناء منقطعا على قراءة الرفع

إن موعدهم الصبح أي موعد عذابهم وهلاكهم تعليل للأمر بالإسراء والنهي عن الإلتفات المشعر بالحث على الإسراع

أليس الصبح بقريب تأكيد للتعليل فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع في الإسراء للتباعد عن مواقع العذاب وروى أنه قال للملائكة متى موعد هلاكهم قالوا الصبح قال أريد أسرع من ذلك فقالوا ذلك وإنما جعل ميقات هلاكهم الصبح لأنه وقت الدعة والراحة فيكون حلول العذاب حينئذ أفظع ولأنه أنسب بكون ذلك عبرة للناظرين

٨٢

فلما جاء أمرنا أي وقت عذابنا وموعده وهو الصبح

جعلنا عاليها أي عالي قرى قوم لوط وهي التي عبر عنها بالمؤتفكات وهي خمس مدائن فيها أربعمائة ألف ألف

سافلها أي قلبناها على تلك الهيئة وجعل عاليها مفعولا أول للجعل وسافلها مفعولا ثانيا له وإن تحقق القلب بالعكس أيضا لتهويل الأمر وتفظيع الخطب لأن جعل عاليها الذي هو مقارهم ومساكنهم سافلها أشد عليهم وأشق من جعل سافلها عاليها وإن كان مستلزما له روى أنه جعل جبريل عليه السلام جناحه في أسفلها ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها عليهم وإسناد الجعل والأمطار إلى ضميره سبحانه باعتبار أنه المسبب لتفخيم الأمر وتهويل الخطب

وأمطرنا عليها على أهل المدائن أو شذاذهم

حجارة من سجيل من طين متحجر كقوله حجارة من طين وأصله سنك كل فعرب وقيل هو من أسجله إذا أرسله أو أدر عطيته والمعنى من مثل الشيء المرسل أو مثل العطية في الإدرار أو من السجل أي مما كتب اللّه تعالى أن يعذبهم به

وقيل أصله من سجين أي من جهنم فأبدلت نونه لاما

منضود نضد في السماء نضدا معدا للعذاب

وقيل يرسل بعضه إثر بعض كقطار الأمطار

٨٣

مسومة معلمة للعذاب

وقيل معلمة ببياض وحمرة أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض أو باسم من ترمي به

عند ربك في خزائنه التي لا يتصرف فيها غيره عز و جل

وما هي أي الحجارة الموصوفة

من الظالمين من كل ظالم

ببعيد فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها وملابسون بها وفيه وعيد شديد لأهل الظلم كافة وعن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أنه سأل جبريل عليه السلام فقال يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى سعة

وقيل الضمير للقرى أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في مسايرهم وأسفراهم إلى الشام وتذكير البعيد على تأويل الحجارة بالحجر أو إجرائه على موصوف مذكر أي بشيء بعيد أو بمكان بعيد فإنها وإن كانت في السماء وهي في غاية البعد من الأرض إلا أنها حين هوت منها فهي أسرع شيء لحوقا بهم فكأنها بمكان قريب منهم أو لأنه على زنة المصدر كالزفير والصهيل والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث

٨٤

وإلى مدين أي أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام أو جعل اسما للقبيلة بالغلبة أو أهل مدين وهو بلد بناه مدين فسمى باسمه

أخاهم أي نسيبهم

شعيبا وهو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه والجملة معطوفة على قوله تعالى وإلى ثمود أخاهم صالحا أي وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا

قال استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ عن صدر الكلام فكأنه قيل فماذا قال لهم فقيل قال كما قال من قبله من الرسل عليهم السلام

يا قوم اعبدوا اللّه وحدوه ولا تشركوا به شيئا

ما لكم من إله غيره تحقيق للتوحيد وتعليل للأمر به وبعد ما أمرهم بما هو ملاك أمر الدين وأول ما يجب على المكلفين نهاهم عن ترتيب مبادى ما اعتادوه من البخس والتطفيف عادة مستمرة فقال

ولا تنقصوا المكيال والميزان كي تتوسلوا بذلك إلى بخس حقوق الناس

إني أراكم بخير أي ملتبسين بثروة وسعة تغنيكم عن ذلك أو بنعمة من اللّه تعالى حقها أن تقابل بغير ما تأتونه من المسامحة والتفضل على الناس شكرا عليها أو أراكم بخير فلا تزيلوه بما أنتم عليه من الشر وهو على كل حال علة للنهي عقبت بعلة أخرى أعني قوله عز و جل

وإني أخاف عليكم إن لم تنتهوا عن ذلك

عذاب يوم محيط لا يشذ منه شاذمنكم

وقيل عذاب يوم مهلك من قوله تعالى وأحيط بثمره وأصله من إحاطة العدو والمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الإستئصال ووصف اليوم بالإحاطة وهي حال العذاب على الإسناد المجازي وفيه من المبالغة ما لا يخفى فإن اليوم زمان يشتمل على ما وقع فيه من الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه ويجوز أن يكون هذا تعليلا للأمر والنهي جميعا

٨٥

ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط أي بالعدل من غير زيادة ولا نقصان فإن الزيادة في الكيل والوزن وإن كان تفضلا مندوبا إليه لكنها في الآلة محظورة كالنقص فلعل الزائد للإستعمال عند الإكتيال والناقص للإستعمال وقت الكيل وإنما أمر بتسويتهما وتعديلهما صريحا بعد النهي عن نقصهما مبالغة في الحمل على الإيفاء والمنع من البخس وتنبيها على أنه لا يكفيهم مجرد الكف عن النقص والبخس بل يجب عليهم إصلاح ما أفسدوه وجعلوه معيارا لظلمهم وقانونا لعدوانهم

ولا تبخسوا الناس بسبب نقصهما وعدم اعتدالهما

أشياءهم التي يشترونها بهما وقد صرح بالنهي عن البخس بعد ما علم ذلك في ضمن النهي عن نقص المعيار والأمر بإيفائه اهتماما بشأنه وترغيبا في إيفاء الحقوق بعد الترهيب والزجر عن نقصها ويجوز أن يكون المراد بالأمر بإيفاء المكيال

والميزان الأمر بإيفاء المكيلات والمزونات ويكون النهي عن البخس عاما للنقص في المقدار وغيره تعميما بعد التخصيص كما في قوله تعالى

ولا تعثوا في الأرض مفسدين فإن العثى يعم نقص الحقوق وغيره من أنواع الفساد

وقيل البخس المكس كأخذ العشور في المعاملات قال زهير بن أبي سلمى

... أفي كل أسواق العراق أتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم ...

والعثى في الأرض السرقة وقطع الطريق والغارة وفائدة الحال إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعله الخضر عليه السلام من خرق السفينة وقتل الغلام

وقيل معناه ولا تعثوا في الأرض مفسدين أمر آخرتكم ومصالح دينكم

٨٦

بقيت اللّه أي ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عن تعاطي المحرمات

خير لكم مما تجمعون بالبخس والتطفيف فإن ذلك هباء منثورا بل شر محض وإن زعمتم أن فيه خيرا كقوله تعالى يمحق اللّه الربا ويربي الصدقات

إن كنتم مؤمنين بشرط أن تؤمنوا فإن خيريتها باستتباع الثواب مع النجاة وذلك مشروط بالإيمان لا محالة أو إن كنتم مصدقين لي في مقالتي لكم

وقيل البقية الطاعات كقوله عز و جل والباقيات الصالحات خير عند ربك وقرىء تقية اللّه بالفوقانية وهي تقواه عن المعاصي

وما أنا عليكم بحفيظ أحفظكم من القبائح أو أحفظ عليكم أعمالكم فأجازيكم وإنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت إذ أنذرت ولم آل في ذلك جهدا أو ما أنا بحافظ ومستبق عليكم نعم اللّه تعالى إن لم تتركوا ما أنتم عليه من سوء الصنيع

٨٧

قالوا يا شعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا من الأوثان أجابوا بذلك أمره عليه السلام إياهم بعبادة اللّه وحده المتضمن لنهيهم عن عبادة الأصنام ولقد بالغوا في ذلك وبلغوا أقصى مراتب الخلاعة والمجون والضلال حيث لم يكتفوا بإنكار الوحي الآمر بذلك حتى ادعوا أن لا آمر به من العقل واللب أصلا وأنه من أحكام الوسوسة والجنون وعلى ذلك بنوا استفهامهم وقالوا بطريق الإستهزاء أصلاتك التي هي من نتائج الوسوسة وأفاعيل المجانين تأمرك بأن نترك عبادة الأوثان التي توارثناها أبا عن جد وإنما جعلوه عليه السلام مأمورا مع أن الصادر عنه إنما هو الأمر بعبادة اللّه تعالى وغير ذلك من الشرائع لأنه عليه السلام لم يكن يأمرهم بذلك من تلقاء نفسه بل من جهة الوحي وأنه كان يعلمهم بأنه مأمور بتبليغه إليهم وتخصيصهم بإسناد الأمر إلى الصلاة من بين سائر أحكام النبوة لأنه صلى اللّه عليه و سلم كان كثير الصلاة معروفا بذلك وكانوا إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكون فكانت هي من بين سائر شعائر الدين ضحكة لهم وقرىء أصلواتك

أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء جواب عن أمر عليه السلام بإيفاء الحقوق ونهيه عن البخس والنقص معطوف على ما أي أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء من الأخذ والإعطاء والزيادة والنقص وقرىء بالتاء في الفعلين عطفا على مفعول تأمرك أي أصلاتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء وتجويز

العطف على ما قيل يستدعى أن يراد بالترك معنيان متخالفان والمراد بفعله عليه السلام إيجاب الإيفاء والعدل في معاملاتهم لا نفس الإيفاء فإن ذلك ليس من أفعاله عليه السلام بل من أفعالهم وإنما لم نقل عطفا على أن نترك لأن الترك ليس مأمورا به على الحقيقة بل المأمور به تكليفه عليه السلام إياهم وأمره بذلك والمعنى أصلاتك تأمرك أن تكلفنا أن نترك ما يعبد آباؤنا وحمله على معنى أصلاتك تأمرك بما ليس في وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك ليكون ذلك تعريضا منهم بركاكة رأيه عليه السلام واستهزاء به من تلك الجهة يأباه دخول الهمزة على الصلاة دون الأمر ويستدعى أن يصدر عنه عليه السلام في أثناء الدعوة ما يدل على ذلك أو يوهمه وأبى ذلك فتأمل وقرىء بالنون في الأول والتاء في الثاني عطفا على أن نترك أي أو أن نفعل نحن في أموالنا عند المعاملة ما تشاء أنت من التسوية والإيفاء

إنك لأنت الحليم الرشيد وصفوه عليه السلام بالوصفين على طريقة التهكم وإنما أرادوا بذلك وصفه بضديهما كقول الخزنة ذق إنك أنت العزيز الكريم ويجوز أن يكون تعليلا لما سبق من استبعاد ما ذكروه على معنى إنك لأنت الحليم الرشيد على زعمك

وأما وصفه بهما على الحقيقة فيأباه مقام الإستهزاء اللّهم إلا أن يراد بالصلاة الدين كما قيل

٨٨

قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة أي حجة واضحة وبرهان نير عبر بها عما آتاه اللّه تعالى من النبوة والحكمة ردا على مقالتهم الشنعاء في جعلهم أمره ونهيه غير مستند إلى سند

من ربي ومالك أموري وإيراد حرف الشرط مع جزمه عليه السلام بكونه على ما هو عليه من البينات والحجج لاعتبار حال المخاطبين ومراعات حسن المحاورة معهم كما ذكرناه في نظائره

ورزقني منه أي من لدنه

رزقا حسنا هو النبوة والحكمة أيضا عبر عنهما بذلك تنبيها على أنهما مع كونهما بينة رزق حسن كيف لا وذلك مناط الحياة الأبدية له ولأمته وجواب الشرط محذوف يدل عليه فحوى الكلام أي أتقولون في شأني ما تقولون والمعنى إنكم نظمتموني في سلك السفهاء والغواة وعددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبيل ما لا يصح أن يتفوه به عاقل وجعلتموه من أحكام الوسوسة والجنون واستهزأتم بي وبأفعالي حتى قلتم إن ما أمرتكم به من التوحيد وترك عبادة الأصنام والإجتناب عن البخس والتطفيف ليس مما يأمر به آمر العقل ويقضي به قاضي الفطنة وإنما يأمر به صلاتك التي هي من أحكام الوسوسة والجنون فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالك أموري ثابتا على النبوة والحكمة التي ليس وراءها غاية للكمال ولا مطمح لطامح ورزقني بذلك رزقا حسنا أتقولون في شأني وشأن أفعال ما تقولون مما لا خير فيه ولا شر وراءه هذا هو الجواب الذي يستدعيه السباق والسياق ويساعده النظم الكريم

وأما ما قيل من أن المحذوف أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي أو هل يسع لي مع هذا الإنعام الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه فبمعزل من ذلك وإنما يناسب تقديره إن حمل كلامهم على الحقيقة وأريد بالصلاة الدين على معنى أدينك يأمرك أن تكلفنا بترك عبادة آلهتنا القديمة وترك التصرف المطلق في أموالنا وتخالفنا في ذلك وتشق عصانا وهذا مما لا ينبغي أن يصدر عنك فإنك أنت المشهور بالحلم الفاضل والرشد الكامل فيما بيننا كما كان قول قوم صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا مسرودا على ذلك النمط فأجيبوا بما أجيبوا به وعلى هذا الوجه يكون المراد بالرزق الحسن الحلال الذي أتاه اللّه تعالى والمعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبيا من عند اللّه تعالى ورزقني مالا حلالا أستغني به عن العالمين أيصح أن أخالف أمره وأوافقكم فيما تأتون وما تذرون

وما أريد بنهي إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف

أن اخالفكم إلى ما أنهاكم عنه أي أقصده بعد ما وليتم عنه وأستبد به دونكم يقال خالفت زيدا إلى كذا إذا قصدته وهو مول عنه وخالفته عن كذا إذا كان الأمر على العكس

إن أريد أي ما أريد بما أباشره من الأمر والنيه

إلا الإصلاح إلا أن أصلحكم بالنصيحة والموعظة

ما استطعت أي مقدار ما استطعته من الإصلاح والتقييد به للإحتراز عن الإكتفاء بالإصلاح في الجملة لا عن إرادة ما ليس في وسعه منه

وما توفيقي أي كوني موفقا لتحقيق ما أنتحيه من إصلاحكم

إلا باللّه أي بتأييده ومعونته بل الإصلاح من حيث الخلق مستند إليه سبحانه وإنما أنا من مباديه الظاهرة قاله عليه السلام تحقيقا للحق وإزاحة لما عسى يوهمه إسناد الإستطاعة إليه بإرادته من استبداده بذلك

عليه توكلت في ذلك معرضا عما عداه فإنه القادر على كل مقدور وما عداه عاجز محض في حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الإعتبار بمعزل عن مرتبة الإستمداد به والإستظهار

وإليه أنيب أي أرجع فيما أنا بصدده ويجوز أن يكون المراد وما كوني موفقا لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته ومعونته عليه توكلت وهو إشارة إلى محض التوحيد الذاتي والفعلي وإليه أنيب أي عليه أقبل بشراشر نفسي في مجامع أموري وإيثار صيغة الإستقبال على الماضي الأنسب للتقرر والتحقق كما في التوكل لاستحضار الصورة والدلالة على الإستمرار ولا يخفى ما في جوابه عليه السلام من مراعاة لطف المراجعة ورفق الإستنزال والمحافظة على قواعد حسن المجاراة والمحاورة وتمهيد معاقد الحق بطلب التوفيق من جناب اللّه تعالى والإستعانة به في أموره وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم

وأما تهديدهم بالرجوع إلى اللّه تعالى للجزاء كما قيل فلا لأن الإنابة إنما هي الرجوع الإختياري بالفعل إلى اللّه تعالى لا الرجوع الإضطراري للجزاء أو ما يعمه

٨٩

ويا قوم لا يجرمنكم أي لا يكسبنكم من جرمته ذنبا مثل كسبته مالا

شقاقي معاداتي وأصلهما أن أحد المتعاديين يكون في عدوة وشق والآخر في آخر

أن يصيبكم مفعول ثان ليجرمنكم أي لا يكسبنكم معاداتكم لي أن يصيبكم

مثل ما أصاب قوم نوح من الغرق

أو قوم هود من الريح

أو قوم صالح من الصيحة والرجفة وقرأ ابن كثير بضم الياء من أجرمته ذنبا إذا جعلته جارما له أي كاسبا وهو منقول من جرم المعتدي إلى مفعول واحد كما نقل أكسبه المال من كسب المال فكما لا فرق بين كسبته مالا وأكسبته إياه لا فرق بين درمته ذنبا وأجرمته إياه في المعنى إلا أن الأول أصح وأدور على ألسنة الفصحاء وقرا أبو حيوة مثل ما أصاب بالفتح لإضافته إلى غير متمكن كقوله

... لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة في غصون ذات ...

أو قال وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيا للشقاق عن كسب إصابة العذاب لكنه في الحقيقة نهى للكفرة عن مشاقته عليه السلام على ألطف أسلوب وأبدعه كما مر في سورة المائدة عند قوله تعالى ولا يجرمنكم شنآن قوم الآية

وما قوم لوط منكم ببعيد زمانا أو مكانا فإن لم تعتبروا بمن قبلهم من الأمم المعدودة فاعتبروا بهم فكأنه إنما غير أسلوب التحذير بهم ولم يصرح بما أصابهم بل اكتفى بذكر قربهم إيذانا بأن ذلك مغن عن ذكره لشهرة كونه منظوما في سمط ما ذكر من دواهي الأمم المرقومة أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمعاصي فلا يبعد أن يصيبكم مثل ما أصابهم وإفراد البعيد مع تذكيره لأن المراد وما إهلاكهم على نية المضاف أو وما هم بشيء بعيد لأن المقصود إفادة عدم بعدهم على الإطلاق لا من حيث خصوصية كونهم قوما أوما هم في زمان بعيد أو مكان بعيد ولا يبعد أن يكون ذلك لكونه على زنة المصادر كالنهيق والشهيق ولما أنذرهم عليه السلام بسوء عاقبة صنيعهم عقبه طمعا في ارعوائهم عما كانوا فيه يعمهون من طغيانهم بالحمل على الإستغفار والتوبة فقال

٩٠

واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه مر تفسير مثله في أول السورة

إن ربي رحيم عظيم الرحمة للتائبين

ودود مبالغ في فعل ما يفعل البليغ المودة بمن يوده من اللطف والإحسان وهذا تعليل للأمر بالإستغفار والتوبة وحث عليهما

٩١

قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول الفقه معرفة غرض المتكلم من كلامه أي ما نفهم مرادك وإنما قالوه بعد ما سمعوا منه دلائل الحق المبين على أحسن وجه وأبلغه وضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل فلم يجدوا إلى محاورته سبيلا سوى الصدود عن منهاج الحق والسلوك إلى سبيل الشقاء كما هو ديدن المفحم المحجوج يقابل البينات بالسب والإبراق والإرعاد فجعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ وأنواع العلوم والمعارف من قبيل ما لا يفهم معناه ولا يدرك فحواه وأدمجوا في ضمن ذلك أن في تضاعيفه ما يستوجب أقصى ما يكون من المؤاخذة والعقاب ولعل ذلك ما فيه من التحذير من عواقب الأمم السالفة ولذلك قالوا

وإنا لنراك فينا فيما بيننا

ضعيفا لا قوة لك ولا قدرة على شيء من الضر والنفع والإيقاع والدفع

ولولا رهطك لولا مراعاة جانبهم لا لولاهم يمانعوننا ويدافعوننا

لرجمناك فإن ممانعة الرهط وهو اسم للثلاثة إلى

السبعة أو إلى العشرة لهم وهم ألوف مؤلفة مما لا يكاد يتوهم وقد أيد ذلك بقوله عز و جل

وما أنت علينا بعزيز مكرم محترم حتى نمتنع من رجمك وإنما نكف عنه للمحافظة على حرمة رهطك الذين ثبتوا على ديننا ولم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا وإيلاء الضمير حرف النفي وإن لم يكن الخبر فعليا غير خال عن الدلالة على رجوع النفي إلى الفاعل دون الفعل لا سيما مع قرينة قوله ولولا رهطك كأنه قيل وما أنت علينا بعزيز بل رهطك هم الأعزة علينا وحيث كان غرضهم من عظيمتهم هذه عائدا إلى نفي ما فيه عليه السلام من القوة والعزة الربانيتين حسبما يوجبه كونه على بينة من ربه مؤيدا من عنده ويقتضيه قضية طلب التوفيق منه والتوكل عليه والإنابة إليه وإلى إسقاط ذلك كله عن درجة الإعتداد به والإعتبار

٩٢

قال عليه السلام في جوابهم

يا قوم أرهطي أعز عليكم من اللّه فإن الإستهانة بمن لا يتعزز إلا به عز و جل استهانة بجنابه العزيز وإنما أنكر عليهم أعزية رهطه منه تعالى مع أن ما أثبتوه إنما هو مطلق عزة رهطه لا أعزبتهم منه عز و جل مع الإشتراك في أصل العزة لتثنية التقريع وتكرير التوبيخ حيث أنكر عليهم أولا ترجيح جنبة الرهط على جنبة اللّه تعالى وثانيا بنفي العزة بالمرة والمعنى أرهطي أعز عليكم من اللّه فإنه مما لا يكاد يصح والحال إنكم لم تجعلوا له تعالى حظا من العزة أصلا

واتخذتموه بسبب عدم اعتدادكم بمن لا يرد ولا يصدر إلا بأمره

وراءكم ظهريا أي شيئا منبوذا وراء الظهر منسيا لا يبالي به منسوب إلى الظهر والكسر لتغيير النسب كالأمسى في النسبة إلى الأمس

إن ربي بما تعملون من الأعمال السيئة التي من جملتها عدم مراعاتكم لجانبه

محيط لا يخفى عليه منها خافية وإن جعلتموه منسيا فيجازيكم عليها ويحتمل أن يكون الإنكار للرد والتكذيب فإنهم لما ادعوا أنهم لا يكفون عن رجمه عليه السلام لقوته وعزته بل لمراعاة جانب رهطه رد عليهم ذلك بأنكم ما قدرتم اللّه حق قدره العزيز ولم تراعوا جنابه القوي فكيف تراعون جانب رهطي الأذلة

٩٣

ويا قوم اعملوا لما رأى عليه السلام إصرارهم على الكفر وأنهم لا يرعوون عما هم عليه من المعاصي حتى اجترءوا على العظيمة التي هي الإستهانة به والعزيمة على رجمه لولا حرمة رهطه قال لهم على طريقة التهديد اعملوا

على مكانتكم أي على غاية تمكنكم واستطاعتكم يقال مكن مكانه إذا تمكن أبلغ التمكن وإنما قاله عليه السلام ردا لما ادعوا أنهم أقوياء قادرون على رجمه وأنه ضعيف فيما بينهم لا عزة له أو على ناحيتكم وجهتكم التي أنتم عليها من قولهم مكان ومكانة كمقام ومقامة والمعنى أثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقة لي وسائر ما أنتم عليه مما لا خير

فيه وابدلوا جهدكم في مضارتي وإيقاع ما في نيتكم وإخراج ما في أمنيتكم من القوة إلى الفعل

إني عامل على مكانتي حسبما يؤيدني اللّه ويوفقني بأنواع التأييد والتوفيق

سوف تعلمون لما هددهم عليه السلام بقوله اعملوا على مكانتكم إني عامل كان مظنة أن يسأل منهم سائل فيقول فماذا يكون بعد ذلك فقيل سوف تعلمون

من يأتيه عذاب يخزيه وصف العذاب بالإخزاء تعريضا بما اوعدوه عليه السلام به من الرجم فإنه مع كونه عذابا فيه خزي ظاهر حيث لا يكون إلا بجناية عظيمة توجبه

ومن هو كاذب عطف على من يأتيه لا على أنه قسيمه بل حيث أوعدوه بالرجم وكذبوه قيل سوف تعلمون من المعذب ومن الكاذب وفيه تعريض بكذبهم في ادعائهم القوة والقدرة على رجمه عليه السلام وفي نسبته إلى الضعف والهوان وفي ادعائهم الإبقاء عليه لرعاية جانب الرهط والإختلاف بين المعطوفين بالفعلية والإسمية لأن كذب الكاذب ليس بمرتقب كإتيان العذاب بل إنما المرتقب ظهور الكذب السابق المستمر ومن إما استفهامية معلقة للعلم عن العمل كأنه قيل سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه وأينا كاذب

وأما موصولة أي سوف تعرفون الذي يأتيه عذاب والذي هو كاذب

وارتقبوا وانتظروا مآل ما أقول

إني معكم رقيب منتظر فعيل بمعنى الراقب كالصريم أو المراقب كالعشير أو المرتقب كالرفيع وفي زيادة معكم إظهار منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره

٩٤

ولما جاء أمرنا أي عذابنا كما ينبىء عنه قوله تعالى سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه أو وقته فإن الإرتقاب مؤذن بذلك

نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وهي الإيمان الذي وفقناهم له أو بمرحمة كائنة منا لهم وإنما ذكر بالواو كما في قصة عاد لما أنه لم يسبقه فيها ذكر وعد يجري مجرى السبب المقتضي لدخول الفاء في معلوله كما في قصتي صالح ولوط فإنه قد سبق هنالك سابقة الوعد بقوله ذلك وعد غير مكذوب وقوله إن موعدهم الصبح

وأخذت الذين ظلموا عدل إليه عن الضمير تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بأن ما أخذهم إنما أخذهم بسبب ظلمهم الذي فصل فيما سبق فنونه

الصيحة قيل صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا وفي سورة الأعراف فأخذتهم الرجفة وفي سورة العنكبوت فأخذتهم الرجفة أي الزلزلة ولعلها من روادف الصيحة المستتبعة لتموج الهواء المفضي إليها كما مر فيما قبل

فأصبحوا في ديارهم جاثمين ميتين لازمين لأماكنهم لا براح لهم منها ولما لم يجعل متعلق العلم في قوله تعالى سوف تعلمون من يأته عذاب الخ نفس مجيء العذاب بل من يجيئه ذلك جعل مجيئه بعد ذلك أمرا مسلم الوقوع غنيا عن الإخبار به حيث جعل شرطا وجعل تنجية شعيب عليه السلام وإهلاك الكفرة جوابا له ومقصود الإفادة وإنما قدم تنجيته اهتماما بشأنها وإيذانا بسبق الرحمة التي هي مقتضى الربوبية على الغضب الذي يظهر أثره بموجب جرائرهم وجرائمهم

٩٥

كأن لم يغنوا أي لم يقيموا

فيها متصرفين في أطرافها متقلبين في أكنافها

ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود العدول عن الإضمار إلى الإظهار ليكون أدل على طغيانهم الذي أداهم إلى هذه المرتبة وليكون أنسب بمن شبه هلاكهم بهلاكهم أعني ثمود وإنما شبه هلاكهم بهلاكهم لأنهما أهلكتا بنوع من العذاب وهو الصيحة غير أن هؤلاء صيح بهم من فوقهم وأولئك من تحتهم وقرىء بعدت بالضم على الأصل فإن الكسر تغيير لتخصيص معنى البعد بما يكون سبب الهلاك والبعد مصدر لهما والبعد مصدر للمكسور

٩٦

ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وهي الآيات التسع المفصلات التي هي العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص الثمرات والأنفس ومنهم من جعلهما آية واحدة وعد منها إظلال الجبل وليس كذلك فإنه لقبول أحكام التوراة حين أباه بنو إسرائيل والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول أرسلنا أو نعتا لمصدره المؤكد أي أرسلناه حال كونه ملتبسا بآياتنا أو أرسلناه إرسالا ملتبسا بها

وسلطان مبين هو المعجزات الباهرة منها أو هو العصا والإفراد بالذكر لإظهار شرفها لكونها أبهرها أو المراد بالآيات ما عداها أو هما عبارتان عن شيء واحد أي أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وبين كونه سلطانا له على نبوته واضحا في نفسه أو موضحا إياها من أبان لازما ومتعديا أو هو الغلبة والإستيلاء كقوله تعالى ونجعل لكما سلطانا ويجوز أن يكون المراد ما بينه عليه السلام في تضاعيف دعوته حين قال له فرعون من ربكما فما بال القرون الأولى من الحقائق الرائقة والدقائق اللائقة وجعله عبارة عن التوراة أو إدراجها في جملة الآيات يرده قوله عز و جل

٩٧

إلى فرعون وملئه فإن نزولها إنما كان بعد مهلك فرعون وقومه قاطبة ليعمل بها بنو إسرائيل فيما يأتون وما يذرون

وأما فرعون وقومه فإنما كانوا مأمورين بعبادة رب العالمين عز سلطانه وترك العظيمة الشنعاء التي كان يدعيها الطاغية ويقبلها منه فئته الباغية وبإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر وتخصيص ملئه بالذكر مع عموم رسالته عليه السلام لقومه كافة لأصالتهم في الرأي وتدبير الأمور واتباع غيرهم لهم في الورود والصدور وإنما لم يصرح بكفر فرعون بآيات اللّه تعالى وانهماكه فيما كان عليه من الضلال والإضلال بل اقتصر على ذكر شأن ملئه فقيل

فاتبعوا أمر فرعون أي أمره بالكفر بما جاء به موسى عليه السلام من الحق المبين للإيذان بوضوح حاله فكأن كفره وأمر ملئه بذلك أمر محقق الوجود غير محتاج إلى الذكر صريحا وإنما المحتاج إلى ذلك شأن ملئه المترددين بين هاد إلى الحق وداع إلى الضلال فنعى عليهم سوء اختيارهم وإيراد الفاء في اتباعهم المترتب على أمر فرعون المبني على كفره المسبوق بتبليغ الرسالة للإشعار بمفاجأتهم في الإتباع ومسارعة فرعون إلى الكفر وأمرهم به فكأن ذلك كله لم يتراخ عن الإرسال والتبليغ بل وقع جميع ذلك في وقت واحد فوقع أثر ذلك اتباعهم ويجوز أن يراد بأمر فرعون شأنه المشهور وطريقته الزائغة فيكون معنى فاتبعوا فاستمروا على الإتباع والفاء

مثل ما في قولك وعظته فلم يتعظ وصحت به فلم ينزجر فإن الإتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث فتأمل وترك الإضمار لدفع توهم الرجوع إلى موسى عليه السلام من أول الأمر ولزيادة تقبيح حال المتبعين فإن فرعون علم في الفساد والإفساد والضلال والإضلال فاتباعه لفرط الجهالة وعدم الإستبصار وكذا الحال في قوله تعالى

وما أمر فرعون برشيد الرشد ضد الغي وقد يراد به محمودية العاقبة فهو على الأول بمعنى المرشد أو ذي الرشد حقيقة لغوية والإسناد مجازي وعلى الثاني مجاز والإسناد حقيقي

٩٨

يقدم قومه جميعا من الأشراف وغيرهم

يوم القيامة أي يتقدمهم من قدمه بمعنى تقدمه وهو استئناف لبيان حاله في الآخرة أي كما كان قدوة لهم في الضلال كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه أو لتوضيح عدم صلاح مآل أمره وسوء عاقبته

فأوردهم النار أي يوردهم وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقيق الوقوع لا محالة شبه فرعون بالفارط الذي يتقدم الواردة إلى الماء وأتباعه بالواردة والنار بالماء الذي يردونه ثم قيل

وبئس الورد المورود أي بئس الورد الذي يردونه النار لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار على ضد ذلك

٩٩

وأتبعوا أي الملأ الذين اتبعوا أمر فرعون

في هذه أي في الدنيا

لعنة عظيمة حيث يلعنهم من بعدهم من الأمم إلى يوم القيامة

ويوم القيامة أيضا حيث يلعنهم أهل الموقف قاطبة فهي تابعة لهم حينما ساروا دائرة معهم أينما داروا في الموقف فكما اتبعوا فرعون اتبعتهم اللعنة في الدارين جزاء وفاقا واكتفى ببيان حالهم الفظيع وشأنهم الشنيع عن بيان حال فرعون إذ حين كان حالهم هكذا فما ظنك بحال من أغوارهم وألقاهم في هذا الضلال البعيد وحيث كان شأن الأتباع أن يكونوا أعوانا للمتبوع جعلت اللعنة رفدا لهم على طريقة التهكم فقيل

بئس الرفد المرفود أي بئس العون المعان وقد فسر الرفد بالعطاء ولا يلائمه المقام وأصله ما يضاف إلى غيره ليعمده والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم وهي اللعنة في الدارين وكونه مرفودا من حيث أن كل لعنة منها معينة وممدة لصاحبتها ومؤيدة لها

١٠٠

ذلك إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم وبعده باعتبار تقضيه في الذكر والخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وهو مبتدأ خبره

من أنباء القرى المهلكة بما جنته أيدي أهلها

نقصه عليك خبر بعد خبر أي ذلك النبأ بعض أنباء القرى مقصوص عليك

منها أي من تلك القرى

قائم وحصيد أي ومنها حصيد حذف لدلالة الأول عليه شبه ما بقي منها بالزرع القائم على ساقه وما عفا وبطل بالحصيد والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب

١٠١

وما ظلمناهم بأن أهلكناهم

ولكن ظلموا أنفسهم بأن جعلوها عرضة للّهلاك باقتراف ما يوجبه

فما أغنت عنهم فما نفعتهم ولا دفعت بأس اللّه تعالى عنهم

آلهتهم التي يدعون أي يعبدونها

من دون اللّه أوثر صيغة المضارع حكاية للحال الماضية أو دلالة على استمرار عبادتهم لها

من شيء في موضع المصدر أي شيئا من الإغناء

لما جاء أمر ربك أي حين مجيء عذابه وهو منصوب بأغنت وقرىء آلهتهم اللاتي ويدعون على البناء للمجهول

وما زادوهم غير تتبيب أي إهلاك وتخسير فإنهم إنما هلكوا وخسروا بسبب عبادتهم لها

١٠٢

وكذلك أي ومثل ذلك الأخذ الذي مر بيانه وهو رفع على الإبتداء وخبره قوله

أخذ ربك وقرىء أخذ ربك فمحل الكاف النصب على أنه مصدر مؤكد

إذا أخذ القرى أي أهلها وإنما أسند إليها للإشعار بسريان أثره إليها حسبما ذكر وقرىء إذ أخذ

وهي ظالمة حال من القرى وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أقيمت مقامهم في الأخذ أجريت الحال عليها وفائدتها الإشعار بأنهم إنما أخذوا بظلمهم ليكون ذلك عبرة لكل ظالم

إن أخذه أليم شديد وجيع صعب على المأخوذ لا يرجى منه الخلاص وفيه ما لا يخفى من التهديد والتحذير

١٠٣

إن في ذلك أي في أخذه تعالى للأمم المهلكة أو في قصصهم

لآية لعبرة

لمن خاف عذاب الآخرة فإنه المعتبر به حيث يستدل بما حاق بهم من العذاب الشديد بسبب ما عملوا من السيئات على أحوال عذاب الآخرة

وأما من أنكر الآخرة وأحال فناء العالم وزعم أن ليس هو ولا شيء من أحواله مستندا إلى الفاعل المختار وأن ما يقع فيه من الحوادث فإنما يقع لأسباب تقتضيه من أوضاع فلكية تتفق في بعض الأوقات لا لما ذكر من المعاصي التي يقترفها الأمم الهالكة فهو بمعزل من هذا الإعتبار تبا لهم ولما لهم من الأفكار

ذلك إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة

يوم مجموع له الناس أي يجمع له الناس للمحاسبة والجزاء والتغيير للدلالة على ثبات معنى الجمع وتحقق وقوعه لا محالة وعدم انفكاك الناس عنه فهو أبلغ من قوله تعالى يوم يجمعكم ليوم الجمع

وذلك أي يوم القيامة مع ملاحظة عنوان جمع الناس له

يوم مشهود أي مشهود فيه حيث يشهد فيه أهل السموات والأرضين فاتسع فيه بإجراء الظفر مجرى المفعول به كما في قوله

... في محفل من نواصي الناس مشهود ...

أي كثير شاهدوه ولو جعل نفس اليوم مشهودا لفات ما هو الغرض من تعظيم اليوم وتهويله وتمييزه عن غيره فإن سائر الأيام أيضا كذلك

١٠٤

وما نؤخره أي ذلك اليوم الملحوظ بعنواني الجمع والشهود

إلا لأجل معدود إلا لانقضاء مدة قليلة مضروبة حسبما تقتضيه الحكمة

١٠٥

يوم يأت أي حين يأتي ذلك اليوم المؤخر بانقضاء أجله كقوله تعالى أن تأتيهم الساعة

وقيل يوم يأتي الجزاء الواقع فيه

وقيل أي اللّه عز و جل فإن المقام مقام تفخيم شأن اليوم وقرىء بإثبات الياء على الأصل

لا تكلم نفس أي لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة وهو العامل في الظرف أو الإنتهاء المحذوف في قوله تعالى إلا لأجل معدود أي ينتهي الأجل يوم يأتي أو المضمر المعهود أعني اذكر إلا بإذنه عز سلطانه في التكلم كقوله تعالى لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وهذا في موطن من مواطن ذلك اليوم وقوله عز و جل هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون في موقف آخر من مواقفه كما أن قوله سبحانه يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها في آخر منها أو المأذون فيه الجوابات الحقة والممنوع عنه الأعذار الباطلة نعم قد يؤذن فيها أيضا لإظهار بطلانها كما في قول الكفرة واللّه ربنا ما كنا مشركين ونظائره

فمنهم شقي وجبت له النار بموجب الوعيد

وسعيد أي ومنهم سعيد حذف الخبر لدلالة الأول عليه وهو من وجبت له الجنة بمتضى الوعد والضمير لأهل الموقف المدلول عليهم بقوله لا تكلم نفس أو للناس وتقديم الشقي على السعيد لأن المقام مقام التحذير والإنذار

١٠٦

فأما الذين شقوا أي سبقت لهم الشقاوة

ففي النار أي مستقرون فيها

لهم فيها زفير وشهيق الزفير إخراج النفس والشهيق رده واستعمالهما في أول النهيق وآخره قال الشماخ يصف حمار الوحش

... بعيد مدى التطريب أول صوته ... زفير ويتلوه شهيق محشرج ...

والمراد بهما وصف شدة كربهم وتشبيه حالهم بحال من استولت على قلبه الحرارة وانحصر فيه روحه أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير وقرىء شقوا بالضم والجملة مستأنفة كأن سائلا قال ما شأنهم فيها فقيل لهم فيها كذا وكذا أو منصوبة المحل على الحالية من النار أو من الضمير في الجار والمجرور كقوله عز اسمه

١٠٧

خالدين فيها خلا أنه إن أريد حدوث كونهم في النار فالحال مقدرة

ما دامت السموات والأرض أي مدة دوامهما وهذا التوقيت عبارة عن التأييد ونفى الإنقطاع بناء على منهاج قول العرب ما دام تعار وما أقام ثبير وما لاح كوكب وما اختلف الليل والنهار وما طما البحر وغير ذلك من كلمات التأبيد لا تعليق قرارهم فيها بدوام هذه السموات والأرض فإن النصوص القاطعة دالة على تأبيد قرارهم فيها وانقطاع دوامهما وإن أريد التعليق فالمراد سموات الآخرة وأرضها كما يدل على ذلك النصوص كقوله تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وقوله تعالى وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء وجزم كل أحد بأن أهل الآخرة

لا بد لهم من مظلة ومقلة دائمتين يكفي في تعليقي دوام قرارهم فيها بدوامهما ولا حاجة إلى الوقوف على تفاصيل أحوالهما وكيفياتهما

إلا ما شاء ربك استثناء من الخلود على طريقة قوله تعالى لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى وقوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف وقوله تعالى حتى يلج الجمل في سم الخياط غير أن استحالة الأمور المذكورة معلومة بحكم العقل واستحالة تعلق المشيئة بعدم الخلود معلومة بحكم النقل يعني أنهم مستقرون في النار في جميع الأزمنة إلا في زمان مشيئة اللّه تعالى لعدم قرارهم فيها وإذ لا إمكان لتلك المشيئة ولا لزمانها بحكم النصوص القاطعة الموجبة للخلود فلا إمكان لانتهاء مدة قرارهم فيها ولدفع ما عسى يتوهم من كون استحالة تعلق مشيئة اللّه تعالى بعدم الخلود بطريق الوجوب على اللّه تعالى قال

إن ربك فعال لما يريد يعني إنه في تخليد الأشقياء في النار بحيث يستحيل وقوع خلافه فعال بموجب إرادته قاض بمقتضى مشيئته الجارية على سنن حكمته الداعية إلى ترتيب الأجزية على أفعال العباد والعدول من الإضمار إلى الإظهار لتربية المهابة وزيادة التقرير

وقيل هو استثناء من الخلود في عذاب النار فإنهم لا يخلدون فيه بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع أخر من العذاب وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط اللّه تعالى عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم وأنت تدري أنا وإن سلمنا أن المراد بالنار ليس مطل قدار العذاب المشتملة على أنواع العذاب بل نفس النار فما خلا عذاب الزمهرير من تلك الأنواع مقارن لعذاب النار فلا مصداق في ذلك للإستثناء ولك أن تقول إنهم ليسوا بمخلدين في العذاب الجسماني الذي هو عذاب النار بل لهم من أفانين العذاب ما لا يعلمه إلا اللّه سبحانه وهي العقوبات والآلام الروحانية التي لا يقف عليها في هذه الحياة الدنيا المنغمسون في أحكام الطبيعة المقصور إدراكهم على ما ألفوا من الأحوال الجسمانية وليس لهم استعداد لتلقي ما رواء ذلك من الأحوال الروحانية إذا ألقى إليهم ولذلك لم يتعرض لبيانه واكتفى بهذه المرتبة الإجمالية المنبئة عن التهويل وهذه العقوبات وإن كان تعتريهم وهم في النار لكنهم ينسون بها عذاب النار ولا يحسون به وهذه المرتبة كافية في تحقيق معنى الإستثناء هذا وقد قيل إلا بمعنى سوى وهو أوفق بما ذكر

وقيل ما بمعنى من على إرادة معنى الوصفية فالمعنى إن الذين شقوا في النار مقدرين الخلود فيها إلا الذين شاء اللّه عدم خلودهم فيها وهم عصاة المؤمنين

١٠٨

وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض الكلام فيه كالكلام فيما سبق خلا أنه لم يذكر ههنا أن لهم فيها بهجة وسرورا كما ذكر في أهل النار من أنه لهم فيها زفير وشهيق لأن المقام مقام التحذير والإنذار

إلا ما شاء ربك إن حمل على طريقة التعليق بالمحال فقوله سبحانه

عطاء غير مجذوذ نصب على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله تعالى ففي الجنة خالدين فيها يقتضي إعطاء وإنعاما فكأنه قيل يعطيهم عطاء وهو إما اسم مصدر هو الإعطاء أو مصدر بحذف الزوائد كقوله تعالى أنبتكم

 من الأرض نباتا وإن حمل على ما أعد اللّه لعباده الصالحين من النعيم الروحاني الذي عبر عنه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فهو نصب على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة أو تمييز فإن نسبة مشيئة الخروج إلى اللّه تعالى يحتمل أن تكون على جهة عطاء مجذوذ وعلى جهة عطاء غير مجذوذ فهو رافع للإبهام عن النسبة قال ابن زيد أخبرنا اللّه تعالى بالذي يشاء لأهل الجنة فقال عطاء غير مجذوذ ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار ويجوز أن يتعلق بكلا النعيمين أو بالأول دفعا لما يتوهم من ظاهر الإستثناء من انقطاعه

١٠٩

فلا تك في مرية أي في شك والفاء لترتيب النهي على ما قص من القصص وبين في تضاعيفها من العواقب الدنيوية والأخروية

مما يعبد هؤلاء أي من جهة عبادة هؤلاء المشركين وسوء عاقبتها أو من حال ما يعبدونه من الأوثان في عدم نفعه لهم ولما كان مساق النظم الكريم قبيل الشروع في القصص لبيان غاية سوء حال الكفرة وكمال حسن حال المؤمنين وقد ضرب لهم مثل فقيل مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون وقد قص عقيب ذلك من أنباء الأمم السالفة مع رسلهم المبعوثة إليهم ما يتذكر به المتذكر نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن كونه في شك من مصير أمر هؤلاء المشركين في العاجل والآجل ثم علل ذلك بطريق الإستئناف فقيل

ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم الذين قصت عليك قصصهم

من قبل أي هم وآباؤهم سواء في الشرك ما يعبدون عبادة إلا كعبادتهم أو ما يعبدون شيئا إلا مثل ما عبدوه من الأوثان والعدول إلى صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها أو مثل ما كانوا يعبدونه فحذف كان لدلالة قوله من قبل عليه ولقد بلغك ما لحق بآبائهم فسيلحقهم مثل ذلك فإن تماثل الأسباب يقتضي تماثل المسببات

وإنا لموفوهم أي هؤلاء الكفرة

نصيبهم أي حظهم المعين لهم حسن جرائمهم وجرائرهم من العذاب عاجلا وآجلا كما وفينا آباءهم أنصباءهم المقدرة لهم أو من الرزق المقسوم لهم فيكون بيانا لوجه تأخر العذاب عنهم مع تحقق ما يوجبه

غير منقوص حال مؤكدة من النصيب كقوله تعالى ثم وليتم مدبرين وفائدته دفع توهم التجوز وجعلها مقيدة له لدفع احتمال كونه منقوصا في حد نفسه مبني على الذهول عن كون العامل هو التوفية فتأمل

١١٠

ولقد آتينا موسى الكتاب أي التوراة

فاختلف فيه أي في شأنه وكونه من عند اللّه تعالى فآمن به قوم وكفر به آخرون فلا تبال باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن وقولهم لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك وزعمهم إنك افتريته

ولولا كلمة سبقت

من ربك وهي كلمة القضاء بإنظارهم إلى يوم القيامة على حسب الحكمة الداعية إلى ذلك

لقضى بينهم أي لأوقع القضاء بين المختلفين من قومك بإنزال العذاب الذي يستحقه المبطلون ليتميزوا به عن المحقين

وقيل بين قوم موسى وليس بذاك

وإنهم أي وإن كفار قومك أريد به بعض من رجع إليهم ضمير بينهم للأمن من الإلباس

لفي شك عظيم

منه أي من القرآن وإن لم يجر له ذكر فإن ذكر إيتاء كتاب موسى ووقوع الإختلاف فيه لا سيما بصدد التسلية ينادي به نداء غير خفي

مريب موقع في الريبة

وإن كلا التنوين عوض عن المضاف إليه أي وإن كل المختلفين فيه المؤمنين منهم والكافرين وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالتخفيف مع الإعمال اعتبارا للأصل لما ليوفينهم ربك أعمالهم أي أجزية أعمالهم واللام الأولى موطئة للقسم والثانية جواب للقسم المحذوف ولما مركبة من الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وأصلها لمن فقلبت النون مميا للإدغام فاجتمع ثلاث ميمات فحذفت أولاهن والمعنى لمن الذي أو لمن خلق أو لمن فريق واللّه ليوفينهم ربك وقرىء لما بالتخفيف على أن ما مزيدة للفصل بين اللامين والمعنى وإن جميعهم واللّه ليوفينهم الآية وقرىء لما بالتنوين أي جميعا كقوله سبحانه أكلا لما وقرأ أبي وإن كل لما ليوفينهم على أن إن نافية ولما بمعنى إلا وقد قرىء به إنه بما يعملون أي بما يعمله كل فرد من المختلفين من الخير والشر خبير بحيث لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه وهو تعليل لما سبق من توفية أجزية أعمالهم فإن الإحاطة بتفاصيل أعمال الفريقين وما يستوجبه كل عمل بمقتضى الحكمة من الجزاء المخصوص توجب توفية كل ذي حق حقه إن خيرا فخير وإن شرا فشر

١١٢

فاستقم كما أمرت لما بين في تضاعيف القصص المحكية عن الأمم الماضية سوء عاقبة الكفر وعصيان الرسل وأشير إلى أن حال هؤلاء الكفرة في الكفر والضلال واستحقاق العذاب مثل أولئك المعذبين وأن نصيبهم من العذاب واصل إليهم من غير نقص وأن تكذيبهم للقرآن مثل تكذيب قوم موسى عليه السلام للتوراة وأنه لو لم تسبق كلمة القضاء بتأخير عقوبتهم العامة ومؤاخذتهم التامة إلى يوم القيامة لفعل بهم ما فعل بآبائهم من قبل وأنهم يوفون نصيبهم غير منقوص وأن كل واحد من المؤمنين والكافرين يوفى جزاء عمله أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بالإستقامة كما أمر به في العقائد والأعمال المشتركة بينه وبين سائر المؤمنين ولا سيما الأعمال الخاصة به عليه السلام من تبليغ الأحكام الشرعية والقيام بوظائف النبوة وتحمل أعباء الرسالة بحيث يدخل تحته ما أمر به فيما سبق من قوله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك الآية وبالجملة فهذا الأمر منتظم لجميع محاسن الاحكام الأصلية والفرعية والكمالات النظرية والعملية والخروج من عهدته في غاية ما يكون من الصعوبة ولذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شيبتني سورة هود

ومن تاب معك أي تاب من الشرك والكفر وشاركك في الإيمان وهو المعنى بالمعية وهو معطوف على لمستكن في قوله فاستقم وحسن من غير تأكيد لمكان الفاصل القائم مقامه وفي الحقيقة هو من عطف الجملة على الجملة إذ المعنى وليستقم من تاب معك

وقيل هو منصوب على أنه مفعول معه كما قاله أبو البقاء والمعنى استقم مصاحبا لمن تاب معك

ولا تطغوا ولا تنحرفوا عما حد لكم بإفراط أو تفريط فإن كلا طرف قصد الأمور ذميم وإنما سمى ذلك طغيانا وهو تجاوز الحد تغليظا أو تغليبا لحال سائر المؤمنين على حاله عليه السلام

إنه بما تعملون بصير فيجازيكم على ذلك وهو تعليل للأمر والنهي وفي الآية دلالة على وجوب اتباع المنصوص عليه من غير انحراف بمجرد الرأي فإنه طغيان وضلال

وأما العمل بمقتضى الإجتهاد التابع لعلل النصوص فذلك من باب الإستقامة كما أمر على موجب النصوص الآمرة بالإجتهاد

١١٣

ولا تركنوا أي لا تميلوا أدنى ميل

إلى الذين ظلموا أي إلى الذين وجد منهم الظلم في الجملة ومدار النهي هوالظلم والجمع باعتبار جمعية المخاطبين وما قيل من أن ذلك للمبالغة في النهي من حيث إن كونهم جماعة مظنة الرخصة في مداهنتهم إنما يتم أن لو كان المراد النهي عن الركون إليهم من حيث إنهم جماعة وليس كذلك

فتمسكم بسبب ذلك

النار وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الإفضاء إلى مساس النار هكذا فما ظنك بمن يمل إلى الراسخين في الظلم والعدوان ميلا عظيما ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتهم ويلقى شراشره على مؤانستهم ومعاشرتهم ويبتهج بالتزيي بزيهم ويمد عينيه إلى زهرتهم الفانية ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية وهو في الحقيقة من الحبة طفيف ومن جناح البعوض خفيف بمعزل عن أن تميل إليه القلوب ضعف الطالب والمطلوب والآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه وخطاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ومن معه من المؤمنين للتثبيت على الإستقامة التي هي العدل فإن الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط ظلم على نفسه أو على غيره وقرىء تركنوا على لغة تميم وتركنوا على صيغة البناء للمفعول من أركنه

وما لكم من دون اللّه من أولياء أي من أنصار ينقذونكم من النار والجملة نصب على الحالية من قوله فتمسكم النار ونفى الأولياء ليس بطريق نفي أن يكون لكل واحد منهم أولياء حتى يصدق أن يكون له ولي بل لمكان لكم بطريق انقسام الآحاد على الآحاد لكن لا على معنى نفي استقلال كل منهم بنصير بل على معنى نفي أن يكون لواحد منهم نصير بقرينة المقام

ثم لا تنصرون من جهة اللّه سبحانه إذ قد سبق في حكمه أن يعذبكم بركونكم إليهم ولا يبقى عليكم وثم لتراخي رتبة كونهم غير منصورين من جهة اللّه بعد ما أوعدهم بالعذاب وأوجبه عليهم ويجوز أن يكون منزلا منزلة الفاء بمعنى الإستبعاد فإنه لما بين أن اللّه تعالى معذبهم وأن غيره لا ينقذهم أنتج أنهم لا ينصرون أصلا

١١٤

وأقم الصلاة طرفي النهار أي غدوة وعشية وانتصابه على الظرفية لكونه مضافا إلى الوقت

وزلفا من الليل أي ساعات منه قريبة من النهار فإنه من أزلفه إذا قربه جمع زلفة عطف على طرفي النهار والمراد بصلاتهما صلاة الغداة والعصر

وقيل الظهر موضع العصر لأن ما بعد الزوال عشي وبصلاة الزلف المغرب والعشاء وقرىء زلفا بضمتين وضمة وسكون كبسر وبسر وزلفى بمعنى زلفة كقربي بمعنى قربة

إن الحسنات التي من جملتها بل عمدتها ما أمرت به من الصلوات

يذهبن السيئات التي قلما يخلو منها البشر أي يكفرنها وفي الحديث إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنب الكبائر

وقيل نزلت في أبي اليسر الأنصاري إذ قبل امرأة ثم ندم فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فأخبره بما فعل فقال صلى اللّه عليه و سلم أنتظر أمر ربي فلما صلى صلاة العصر نزلت قال صلى اللّه عليه و سلم نعم اذهب فإنها كفارة لما عملت أو يمنعن من اقترافها كقوله تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر

ذلك إشارة إلى قوله تعالى فاستقم فما بعده

وقيل إلى القرآن

ذكرى للذاكرين أي عظة للمتعظين

١١٥

واصبر على مشاق ما أمرت به في تضاعيف الأوامر السابقة

وأما ما نهى عنه من الطغيان والركون إلى الذين ظلموا فليس في الإنتهاء عنه مشقة فلا وجه لتعميم الصبر له اللّهم إلا أن يراد به ما لا يمكن عادة خلو البشر عنه من أدنى ميل بحكم الطبيعة عن الإستقامة المأمور بها ومن يسير ميل بحكم البشرية إلى من وجد منه ظلم ما فإن في الإحتراز عن أمثاله من المشقة ما لا يخفى

فإن اللّه لا يضيع أجر المحسنين أي يوفيهم أجور أعمالهم من غير بخس أصلا وإنما عبر عن ذلك بنفي الإضاعة مع أن عدم إعطاء الأجر ليس بإضاعة حقيقة كيف لا والأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها ضياعها لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يمتنع صدوره عنه سبحانه من القبائح وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه وإنما عدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدة عامة لكل من يتصف به وهو تعليل للأمر بالصبر وفيه إيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان

١١٦

فلولا كان فهلا كان

من القرون الكائنة

من قبلكم على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته أو كائنة من قبلكم

أولو بقية من الرأي والعقل أو أولوا فضل وخير وسميا بها لأن الرجل إنما يستبقي مما يخرجه عادة أجوده وأفضله فصار مثلا في الجودة والفضل ويقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم ومنه ما قيل في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية من التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط اللّه تعالى وعقابه ويؤيده أنه قرىء أولو بقية وهي المرة من مصدر بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره أي أولو مراقبة وخشية من عذاب اللّه تعالى كأنهم ينتظرون نزوله لإشفاقهم

ينهون عن الفساد في الأرض الواقع منهم حسب ما حكى عنه

إلا قليلا ممن أنجينا منهم استثناء منقطع أي لكن قليلا منهم أنجيناهم لكونهم على تلك الصفة على ان من للبيان لا للتبعيض لأن جميع الناجين ناهون ولا صحة للإتصال على ظاهر الكلام لأنه يكون تحضيضا لأولى البقية على النهي المذكور إلا للقليل من الناجين منهم كما إذا قلت هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم مريدا لاستثناء الصلحاء من المحضضين على القراءة نعم يصح ذلك إن جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض فكأنه قيل ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا منهم لكن الرفع هو الأفصح حينئذ على البدلية

واتبع الذين ظلموا بمباشرة الفساد وترك النهي عنه

ما أترفوا فيه أي أنعموا من الشهوات واهتموا بتحصيلها أما المباشرون فظاهر

وأما المساهلون فلما لهم في ذلك من نيل حظوظهم الفاسدة

وقيل المراد بهم تاركو النهي وأنت خبير بأنه يلزم منه عدم دخول مباشري الفساد في الظلم والإجرام عبارة

وكانوا مجرمين أي كافرين فهو بيان لسبب استئصال الأمم المهلكة وهو فشو الظلم واتباع الهوى فيهم وشيوع ترك النهي عن المنكرات مع الكفر وقوله واتبع عطف على مضمر دل عليه الكلام أي لم ينهوا واتبع الخ فيكون العدول إلى المظهر لإدراج المباشرين معهم في الحكم والتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب أو على استئناف يترتب على قوله إلا قليلا أي إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا من مباشري الفساد وتاركي النهي عنه فيكون الإظهار مقتضى الظاهر وقوله وكانوا مجرمين عطف على أترفوا أي اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر أو على اتبع أي اتبعوا شهواتهم وكانوا بذلك الإتباع مجرمين ويجوز أن يكون اعتراضا وتسجيلا عليهم بأنهم قوم مجرمون وقرىء وأتبع أي أتبعوا جزاء ما أترفوا فتكون الواو للحال ويجوز أن يفسر به المشهورة ويعضده تقدم الإنجاء

١١٧

وما كان ربك ليهلك القرى أي ما صح وما استقام بل استحال في الحكمة أن يهلك القرى التي أهلكها حسب ما بلغك أنباؤها ويعلم من ذلك حال باقيها من القرى الظالمة واللام لتأكيد النفي وقوله

بظلم أي ملتبسا به قيل هو حال من الفاعل أي ظالما لها والتنكير للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم والمراد تنزيه اللّه تعالى عن ذلك بالكلية بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى وإلا فلا ظلم فيما فعله اللّه تعالى بعباده كائنا ما كان لما تقرر من قاعدة أهل السنة وقد مر تفصليه في سورة آل عمران عند قوله تعالى وأن اللّه ليس بظلام للعبيد وقوله تعالى

وأهلها مصلحون حال من المفعول والعامل عامله ولكن لا باعتبار تقيده بما وقع حالا من فاعله أعني بظلم لدلالته على تقيد نفي الإهلاك ظلما بحال كون أهلها مصلحين ولا ريب في فساده بل مطلقا عن ذلك

وقيل المراد بالظلم الشرك والباء للسببية أي لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم ولا يضمون إلى شركهم فسادا آخر وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه تعالى ومن ذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد الفقراء على حقوق اللّه تعالى الغني الحميد

وقيل الملك يبقى مع الشرك ولا يبقى مع الظلم وأنت تدري أن مقام النهي عن المنكرات التي أقبحها الإشراك باللّه لا يلائمه فإن الشرك داخل في الفساد في الأرض دخولا أوليا ولذلك كان ينهى كل من الرسل الذين قصت أنباؤهم أمته أولا عن الإشراك ثم عن سائر المعاصي التي كانوا يتعاطونها فالوجه حمل الظلم على مطلق الفساد الشامل للشرك وغيره من أصناف المعاصي وحمل الإصلاح على إصلاحه والإقلاع عنه بكون بعضهم متصدين للنهي عنه وبعضهم متوجهين إلى الإتعاظ غير مصرين على ما هم عليه من الشرك وغيره من أنواع الفساد

١١٨

ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة مجتمعة على الحق ودين الإسلام بحيث لا يكاد يختلف فيه أحد ولكن لم يشأ ذلك فلم يكونوا متفقين على الحق

ولا يزالون مختلفين في الحق أي مخالفين له كقوله تعالى وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم

١١٩

إلا من رحم ربك إلا قوما قد هداهم اللّه تعالى بفضله إلى الحق فاتفقوا عليه ولم يختلفوا فيه أي لم يخالفوه وحمله على مطلق الإختلاف الشامل لما يصدر من المحق والمبطل يأباه الإستثناء المذكور

ولذلك أي ولما ذكر من الإختلاف

خلقهم أي الذين بقوا بعد الثنيا وهم المختلفون فاللام للعاقبة أو للترحم فالضمير لمن واللام في معناها أولهما معا فالضمير للناس كافة واللام بمعنى مجازي عام لكلا المعنيين

وتمت كلمة ربك أي وعيده أو قوله للملائكة

لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين أي من عصاتهما أجمعين أو منهما أجمعين لا من أحدهما

١٢٠

وكلا أي وكل نبأ فالتنوين عوضا عن المضاف إليه

نقص عليك يخبرك به وقوله تعالى

من أنباء الرسل بيان لكلا وقوله تعالى

ما نثبت به فؤادك بدل منه والأظهر أن يكون المضاف إليه المحذوف في كلا المفعول المطلق لنقص أي كل اقتصاص أي كل أسلوب من أساليبه نقص عليك من أنباء الرسل وقوله تعالى ما نثبت به فؤادك مفعول نقص وفائدته التنبيه على أن المقصود بالإقتصاص زيادة يقينه عليه السلام وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذية الكفار بالوقوف على تفاصيل أحوال الأمم السالفة في تماديهم في الضلال وما لقي الرسل من جهتهم من مكابدة المشاق

وجاءك في هذه السورة أو الأنباء المقصوصة عليك

الحق الذي لا محيد عنه

وموعظة وذكرى للمؤمنين أي الجامع بين كونه حقا في نفسه وكونه موعظة وذكرى للمؤمنين ولكون الوصف الأول حالا له في نفسه حلى باللام دون ما هو وصف له بالقياس إلى غيره وتقديم الظرف أعني في هذه على الفاعل لأن المقصود بيان منافع السورة أو الأنباء المقصوصة فيها واشتمالها على ما ذكر من المنافع المفصلة لا بيان كون ذلك فيها لا في غيرها ولأن عند تأخير ما حقه التقديم تبقى النفس مترقبة إليه فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن ولأن في المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم

١٢١

وقل للذين لا يؤمنون بهذا الحق ولا يتعظون به ولا يتذكرون

اعملوا على مكانتكم على حالكم وجهتكم التي هي عدم الإيمان

إنا عاملون على حالنا وهو الإيمان به والإتعاظ والتذكر به

١٢٢

وانتظروا بنا الدوائر

إنا منتظرون أن ينزل بكم نحو ما نزل بأمثالكم من الكفرة

١٢٣

وللّه غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فيرجع لا محالة أمرك وأمرهم إليه وقرىء على البناء للفاعل من رجع رجوعا

فاعبده وتوكل عليه فإنه كافيك والفاء لترتيب الأمر بالعبادة والتوكل على كون مرجع الأمور كلها إلى اللّه تعالى وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة إشعار لأنه لا ينفع دونها

وما ربك بغافل عما يعلمون فيجازيهم بموجبه وقرىء تعملون على تغليب المخاطب أي أنت وهم فيجازي كلا منك ومنهم بموجب الإستحقاق عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من قرأ سورة هود أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق كل واحد من الانبياء المعدودين فيها عليهم الصلاة والسلام وبعدد من كذبهم وكان يوم القيامة من السعداء بفضل اللّه سبحانه وتعالى

﴿ ٠