ÓõæÑóÉõ ÇáúÍöÌúÑö ãóßøöíøóÉñ æãóÏóäöíøóÉñ

æóåöíó ÊöÓúÚñ æóÊöÓúÚõæäó ÂíóÉð

سورة الحجر

سورة الحجر مكيه آياتها تسع وتسعون سورة الحجر مكية إلا آية  فمدنية وآيها تسع وتسعون

بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

١

الر قد مر الكلام فيه وفي محله في مطلع سورة الرعد وأخواتها تلك إشارة إليه أي

تلك السورة العظيمة الشأن

أيات الكتاب الكامل المعهود الغني عن الوصف به المشهور بذلك من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب به على الإطلاق أي بعض منه مترجم مستقل باسم خاص فهو عبارة عن جميع القرآن أو عن الجميع المنزل إذ ذاك إذ هو المتسارع إلى الفهم حينئذ عند الإطلاق وعليه يترتب فائدة وصف الآيات بنعت ما أضيفت إليه من نعوت الكمال لا على جعله عبارة عن السورة إذ هي في الاتصاف بذلك ليست بتلك المرتبة من الشهرة حتى يستغنى عن التصريح بالوصف على أنها عبارة عن جميع آياتها فلا بد من جعل تلك إشارة إلى كل واحدة منها وفيه من التكليف مالا يخفى كما ذكر في سورة الرعد

وقرآن أي قرآن عظيم الشأن

مبين مظهر لما في تضاعيفه من الحكم والأحكام أو لسبيل الرشد والغى أو فارق بين الحق والباطل والحلال والحرام ولقد فخم شأنه العظيم مع ما جمع فيه من وصفي الكتابية والقرآنية على الطريقتين إحداهما اشتماله على صفات كمال جنس الكتب الإلهية فكأنه كلها والثانية طريقة كونه ممتازا عن غيره نسيج وحده بديعا في بابه خارجا عن دائرة البيان وأخرت الطريقة الثانية لما أن الإشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره من الكتب أدخل في المدح كيلا يتوهم من أول الأمر أن امتيازه عن غيره لاستقلاله بأوصاف خاصة به من غير اشتماله على نعوت كمال سائر الكتب الكريمة وهكذا الكلام في فاتحة سورة النمل خلا أنه قدم فيها القرآن على الكتاب لما سيذكر هناك ولما بين كون السورة الكريمة بعضا من الكتاب والقرآن لتوجيه المخاطبين إلى حسن تلقى ما فيها من الأحكام والقصص والمواعظ شرع في بيان ما تتضمنه فقيل

٢

ربما بضم الراء وتخفيف الباء المفتوحة وقرىء بالتشديد وبفتح الراء مخففا وبزيادة التاء مشددا وفيه ثماني لغات فتح الراء وضمها مشددا ومخففا وبزيادة التاء أيضا مشددا ومخففا ورب حرف جر لا يدخل إلا على الاسم وما كافة مصححة لدخوله على الفعل وحقه الدخول على الماضي ودخوله على قوله تعالى

 بود الذين كفروا لما ان المترقب في اخباره تعالى كالماضي المقطوع في تحقق الوقوع فكأنه قيل ربما ود الذين كفروا والمراد كفرهم بالكتاب والقرآن وكونه من عند اللّه تعالى

لو كانوا مسلمين منقادين لحكمه ومذعنين لأمره وفيه إيذان بأن كفرهم إنما كان بالجحود بعد ما علموا كونه من عند اللّه تعالى وتلك الودادة يوم القيامة أو عند موتهم أو عند معاينة حالهم وحال المسلمين أو عند رؤيتهم خروج عصاة المسلمين من النار وروى أبو موسى الأشعرى رضي اللّه عنه أنه قال النبي صلى اللّه عليه و سلم إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء تعالى من أهل القبلة قال لهم الكفار الستم مسلمين قالوا بلى قالوا فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا إلى النار قالوا كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فيغضب اللّه سبحانه لهم بفضل رحمته فيأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار فيخرجون منها فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين وروى مجاهد عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال لا يزال الرب يرحم ويشفع إليه حتى يقول من كان من المسلمين فليدخل الجنة فعند ذلك يتمنون الإسلام والحق أن ذلك محمول على شدة ودادتهم

وأما نفس الودادة فليست بمختصة بوقت دون وقت بل هي مقررة مستمرة في كل آن يمر عليهم وأن المراد بيان ذلك على ما هو عليه من الكثرة وإنما جىء بصيغة التقليل جريا على سنن العرب فيما يقصدون به الإفراط فيما يعكسون عنه تقول لبعض قواد العساكر كم عندك من الفرسان فيقول رب فارس عندى أو لا تعدم عندى فارسا وعنده مقانب جمه من الكتائب وقصده في ذلك التمارى في تكثير فرسانه ولكنه يريد إظهار براءته من التزيد وإبراز أنه ممن يقلل لعلو الهمة كثير ما عنده فضلا عن تكثير القليل وهذه الطريقة إنما تسلك إذا كان الأمر من الوضوح بحيث لا يحوم حوله شائبة ريب فيصار إليه هضما للحق فدل النظم الكريم على ودادة الكافرين للإسلام في كل آن من آنات اليوم الآخر وأن ذلك من الظهور بحيث لا يشتبه على أحد ولو جىء بكلام يدل على ضده وعلى أن تلك الودادة مع كثرتها في نفسها مما يستقل بالنسبة إلى جناب الكبرياء وهذا هو الموافق لمقام بيان حقارة شأن الكفار وعد الإعتداد بما هم فيه من الكفر والتكذيب كما ينطق به قوله تعالى

٣

ذرهم يأكلوا الآية أو ذهابا إلى الإشعار بأن من شأن العاقل إذا عن له أمر يكون مظنون الحمد أو قليلا ما يكون كذلك أن لا يفارقه ولا يقارف ضده فكيف إذا كان متيقن الحمد كما في قولهم لعلك ستندم على ما فعلت وربما ندم الإنسان على ما فعل فإن المقصود ليس بيان كون الندم مرجو الوجود بلا تيقن به أو قليل الوقوع بل التنبيه على أن العاقل لا يباشر ما يرجى فيه الندم أو يقل وقوعه فيه فكيف بقطعي الوقوع وأنه يكفى قليل الندم في كونه حاجزا عن ذلك الفعل فكيف كثيرة والمقصود من سلوك هذه الطريقة إظهار الترفع والاستغناء عن التصريح بالغرض بناء على ادعاء ظهوره فالمعنى لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة لوجب عليهم أن لا يفارقوه فكيف وهم يودونه كل آن وهذا أوفق بمقام استنزالهم عما هم عليه من الكفر وهذان طريقان متمايزان ذاتا ومقاما فمن ظنهما واحدا فقد نأى عن توفية المقام حقه ذرهم دعهم عن النهي عما هم عليه بالتذكرة والنصيحة إذ لا سبيل إلى إراعوائهم عن ذلك وبالغ في تخليتهم وشأنهم بل مرهم بتعاطى ما يتعاطونه يأكلوا

ويتمتعوا بدنياهم وفي تقديم الأكل إيذان بأن تمتعهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل والمشارب والمراد دوامهم على ذلك لا إحداثه فإنهم كانوا كذلك أو تمتعهم بلا استماع ما ينغص عيشهم من القوارع والزواجر فإن التمتع على ذلك الوجه أمر حادث يصلح أن يكون مترتبا على تخليتهم وشأنهم

ويلههم ويشغلهم عن اتباعك أو عن التفكر فيما هم يصيرون إليه أو عن الإيمان والطاعة فإن الأكل والتمتع يفضيان إلى ذلك

الأمل والتوقع لطول الأعمار وبلوغ الأوطار واستقامة الأحوال وأن لا يلقوا في العاقبة والمآل إلا خيرا فالأفعال الثلاثة مجزومة على الجوابية للأمر حسبما عرفت من تضمن الأمر بالترك للأمر بها على طريقة المجاز أو على أن يكون المراد بالأفعال المرقومة مباشرتهم لها غافلين عن وخامة عاقبتها غير سامعين لسوء مغبتها أصلا ولا ريب في ترتب ذلك على الأمر بالترك فإن النهي عما هم عليه من ارتكاب القبائح مما يشوش عليهم متعهم وينغص عليهم عيشهم فأمر عليه السلام بتركه ليتمرغوا فيما هم فيه من حظوظهم فيدهمهم ما يدهمهم وهم عنه غافلون

فسوف يعلمون سوء صنيعهم أو وخامة عاقبته أو حقيقة الحال التي ألجأتهم إلى التمني المذكور حيث لم يعلموا ذلك من جهتك وهو مع كونه وعيدا أيما وعيد وتهديدا غب تهديد تعليل للأمر بالترك فإن علمهم ذلك علة لترك النهي والنصيحة لهم وفيه إلزام للحجة ومبالغة في الإنذار إذ لا يتحقق الأمر بالضد إلا بعد تكرر الإنذار وتقرر الجحود والإنكار وكذلك ما ترتب عليه من الأكل والتمتع والإلهاء

٤

وما أهلكنا شروع في بيان سر تأخير عذابهم إلى يوم القيامة وعدم نظمهم في سلك الأمم الدارجة في تعجيل العذاب أي ما أهلكنا

من قرية من القرى بالخسف بها وبأهلها كما فعل ببعضها أو بإخلائها عن أهلها غب إهلاكهم كما فعل بآخرين

إلا ولها في ذلك الشأن

كتاب أي أجل مقدر مكتوب في اللوح واجب المراعاة بحيث لا يمكن تبديله لوقوعه حسب الحكمة المقتضية له

معلوم لا ينسى ولا يغفل عنه حتى يتصور التخلف عنه بالتقدم والتأخر فكتاب مبتدأ خبره الظرف والجملة حال من قرية فإنها لعمومها لا سيما بعد تأكده بكلمة من في حكم الموصوفة كما اشير إليه والمعنى ما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا حال أن يكون لها كتاب أي أجل موقت لمهلكها قد كتبناه لا نهلكها قبل بلوغه معلوم لا يغفل عنه حتى يمكن مخالفته بالتقدم والتأخر أو مرتفع بالظرف والجملة كما هي حال أي ما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا وقد كان لها في حق هلاكها كتاب أي أجل مقدر مكتوب في اللوح معلوم لا يغفل عنه أو صفة لكن لا للقرية المذكورة بل للمقدرة التي هي بدل من المذكورة على الختار فيكون بمنزلة كونه صفة للمذكورة أي ما أهلكنا قرية من القرى إلا قرية لها كتاب معلوم كما في قوله تعالى ليس لهم طعام إلا من ضريع * لا يسمن فإن قوله تعالى لا يسمن صفة لكن لا للطعام المذكور لأنه إنما يدل على انحصار طعامهم الذي لا يسمن في الضريع وليس المراد ذلك بل للطعام المقدر بعد إلا أي ليس لهم طعام من شيء من الأشياء إلا طعام لا يسمن فليس فيه فصل بين الموصوف والصفة بكلمة إلا كما توهم

وأما توسيط الواو بينهما وإن كان القياس عدمه فللإيذان بكمال الالتصاق بينهما من حيث إن الواو شأنها الجمع والربط فإن ما نحن فيه من الصفة أقوى لصوقا بالموصوف منها به في قوله تعالى وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون فإن امتناع انفكاك الإهلاك عن الأجل المقدر عقلي وعن الإنذار عادى جرى عليه السنة الإلهية ولما بين أن الأمم المهلكة كان لكل منهم وقت معين لهلاكهم لم يكن إلا حسبما كان مكتوبا في اللوح بين أن كل أمة من الأمم منهم ومن غيرهم لها كتاب لا يمكن التقدم عليه ولا التأخر عنه فقيل

٥

ما تسبق من أمة من الأمم المهلكة وغيرهم

أجلها المكتوب في كتابها أي لا يجيء هلاكها قبل مجيء كتابها أولا تمضي أمة قيل مضى أجلها فإن السبق إذا كان واقعا على زماني فمعناه المجاوزة والتخليف فإذا قلت سبق زيد عمرا فمعناه أنه جاوزه وخلفه وراءه وإذا كان واقعا على زمان كان الأمر بالعكس والسر في ذلك أن الزمان يعتبر فيه الحركة والتوجه إلى المتكلم فما سبقه يتحقق قبل تحققه

وأما الزماني فإنما يعتبر فيه الحركة والتوجه إلى ما سيأتي من الزمان فالسابق ما تقدم إلى المقصد وإيراده بعنوان الأجل باعتبار ما يقتضيه من السبق كما أن إيراده بعنوان الكتاب المعلوم باعتبار ما يوجبه من الإهلاك

وما يستأخرون أي وما يتأخرون وصيغة الإستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له وإيثار صيغة المضارع في الفعلين بعد ما ذكر نفي الإهلاك بصيغة الماضي لأن المقصود بيان دوامهما واستمرارهما فيما بين الأمم الماضية والباقية وإسنادهما إلى الأمة بعد إسناد الإهلاك إلى القرية لما أن السبق والاستئخار حال الأمة دون القرية مع ما في الأمة من العموم لأهل تلك القرى وغيرهم ممن أخرت عقوباتهم إلى الآخرة وتأخير ذكر عدم تأخرهم عن ذكر عدم سبقهم مع كون المقام مقام المبالغة في بيان تحقق عذابهم أما باعتبار تقدم السبق في الوجود

وأما باعتبار أن المراد بيان سر تأخير عذابهم مع استحقاقهم لذلك وإيراد الفعل على صيغة جمع المذكر للحمل على المعنى مع التغليب ولرعاية الفواصل ولذلك حذف الجار والمجرور والجملة مبينة لما سبق والمعنى أن تأخير عذابهم إلى يوم القيامة حسبما أشير إليه ببيان ودادتهم للإسلام إذ ذاك وبالأمر بتركهم وشأنهم إلى أن يعلموا حقيقة الحال إنما هو لتأخر أجلهم المقدر لما يقتضيه من الحكم البالغة ومن جملتها ما علم اللّه تعالى من إيمان بعض من يخرج منهم إلى يوم القيامة

وقالوا شروع في بيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب بعد بيان كفرهم بالكتاب وما يئول إليه حالهم والقائلون مشركو مكة لغاية تماديهم في العتو والغي

يأبها الذي نزل عليه الذكر خاطبوا به رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لا تسليما لذلك واعتقادا له بل استهزاء به عليه الصلاة و السلام وإشعارا بعلة حكمهم الباطل في قولهم

إنك لمجنون كدأب فرعون إذ قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون يعنون يامن يدعى مثل هذا الأمر البديع الخارق للعادات إنك بسبب تلك الدعوى أو بشهادة ما يعتريك عند ما تدعى أنه ينزل عليك لمجنون وتقديم الجار والمجرور على القائم مقام الفاعل لأن إنكارهم متوجه إلى كون النازل ذكرا من اللّه تعالى لا إلى كون المنزل عليه رسول اللّه بعد تسليم كون النازل منه تعالى كما في قوله تعالى لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فإن الإنكار هناك متوجه إلى كون المنزل عليه رسول اللّه تعالى وإيراد الفعل على صيغة المجهول لإيهام أن ذلك ليس بفعل له فاعل أو لتوجيه الإنكار إلى كون التنزيل عليه لا إلى استناده إلى الفاعل لو تأتينا كلمة لو عند تركبها مع ما تفيد ماتفيده عند تركبها مع لامن معنى امتناع الشيء لوجود غيره ومعنى التحضيض خلا أنه عند إزادته لا يليها إلا فعل ظاهر أو مضمر وعند إرادة المعنى الأول لا يليها إلا اسم ظاهر أو مقدر عند البصريين والمراد ههنا هو الثاني أي هلا

تأتينا بالملائكة يشهدون بصحة نبوتك ويعضدونك في الإنذار كقوله تعالى لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيرا أو يعاقبوننا على التكذيب كما تأتي الأمم المكذبة لرسلهم

إن كنت من الصادقين في دعواك فإن قدرة اللّه تعالى على ذلك مما لا ريب فيه وكذا احتياجك إليه في تمشية أمرك فإنا لا نصدقك بدون ذلك أو إن كنت من جملة تلك الرسل الصادقين الذين عذبت أممهم المكذبة لهم

٨

ما ننزل الملائكة بالنون على بناء الفعل لضمير الجلالة من التنزيل وقرىء من الإنزال وقرىء تنزل مضارعا من التنزيل على صيغة البناء للمفعول ومن التنزيل بحذف إحدى التاءين وما ضيا منه ومن التنزيل ومن الثلاثي وهو كلام مسوق إلى النبي صلى اللّه عليه و سلم جوابا لهم عن مقالتهم المحكية وردا لاقتراحهم الباطل ولشدة استدعاء ذلك للجواب قدم رده على ما هو جواب عن أولها أعني قوله إنا نحن نزلنا الذكر الآية كما فعل في قوله تعالى قال إنما يأتيكم به اللّه فإنه مع كونه جوابا عن قولهم فائتنا بم اتعدنا قدم على قوله ولا ينفعكم نصحى الآية مع كونه جوابا عن أول كلامهم الذي هو قولهم يا نوح قد جادلتنا لما ذكر من شدة اقتضائه للجواب وليكون أحد الجوابين متصلا بالسؤال وفي العكس يلزم انفصال كل من الجوابين عن سؤاله والعدول عن تطبيقه لظاهر كلامهم بصدد الإقتراح وهو أن يقال ما تأتيهم بهم للإيذان بأنهم قد أخطئوا في التعبير حسبما أخطئوا في الإقتراح وأن الملائكة لعلو رتبتهم أعلى من أن ينسب إليهم مطلق الإتيان الشامل للإنتقال من أحد الأمكنة المتساوية إلى الآخر منها بل من الأسفل إلى الأعلى وأن يكون مقصد حركاتهم أولئك الكفرة وأن يدخلوا تحت ملكوت أحد من البشر وإنما الذي يليق بشأنهم النزول من مقامهم العالي وكون ذلك بطريق التنزيل من جناب الرب الجليل إلا بالحق أي ملتبسا بالوجه الذي يحق ملابسة التنزيل به مما تقتضيه الحكمة وتجرى به السنة الإلهية كقوله سبحانه وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما

إلا بالحق والذي اقترحوه من التنزيل لأجل الشهادة لديهم وهم هم ومنزلتهم في الحقارة والهوان منزلتهم مما لا يكاد يدخل تحت الصحة الحكمة أصلا فإن ذلك من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يفتح على غير الأنبياء الكرام من

أفراد كمل المؤمنين فكيف على أمثال أولئك الكفرة اللئام وإنما الذي يدخل في حقهم تحت الحكمة في الجملة هو التنزيل للتعذيب والاستئصال كما فعل بأضرابهم من الأمم السالفة ولو فعل ذلك لاستؤصلوا بالمرة وما كانوا إذا منتظرين جزاء الشرط مقدر وفيه إيذان بإنتاج مقدماتهم لنقيض مطلوبهم كما في قوله تعالى وَإِذًا لا يلبثون خلافك إلا قليلا قال صاحب النظم لفظة إذن مركبة من إذ وهو اسم بمعنى الحين تقول أتيتك إذ جئتني أي حين جئتني ثم ضم إليه أن فصار إذ أن ثم استثقلوا الهمزة فحذفوها فمجيء لفظة أن دليل على إضمار فعل بعدها والتقدير وما كانوا إذ أن كان ما طلبوه منظرين والمعنى لو نزلناهم

ما كانوا مؤخرين كدأب سائر الأمم المكذبة المستهزئة ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلم القضاء بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة حسبما أجمل في قوله تعالى ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل الخ وحال حائل الحكمة بينهم وبين استئصالهم لتعلق العلم والإرادة بازديادهم عذابا وبإيمان بعض ذراريهم

وأما نظم إيمان بعضهم في سمط الحكمة فيأباه مقام بيان تماديهم في الكفر والفساد ولجاجهم في المكابرة والعناد هذا هو الذي يستدعيه إعجاز التنزيل الجليل

وأما ماقيل في تعليل عدم موافقة التنزيل للحكمة من أنهم حينئذ يكونون مصدقين عن اضطرار أو أنه لا حكمة في أن تأتيكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لبسا أو أن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وحصول الفائدة بإنزالهم وقد علم اللّه تعالى من حال هؤلاء الكفار أنه لو أنزل إليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم فيصير إنزالهم عبثا باطلا ولا يكون حقا فمع إخلال كل من ذلك بقطيعة الباقي لا يلزم من فرض وقوع شيء من ذلك تعجيل العذاب الذي يفيده قوله تعالى وما كانوا إذا منظرين هذا على تقدير كون اقتراحهم لإتيان الملائكة لأجل الشهادة أما على تقدير كون ذلك لتعذيبهم فالمعنى

٩

إنا ما ننزل الملائكة للتعذيب غلا تنزيلا ملتبسا بالحق الذي تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة حتما بحيث لا محيد عنه ولو نزلناهم حسبما اقترحوا ما كان ذلك التنزيل ملتبسا بمقتضى الحكمة الموجبة لتأخير عذابهم إلى يوم القيامة لا رفقا بهم بل تشديدا عليهم كما مر من قبل وحيث كان في نسبة تنزيلهم للتعذيب إلى عدم موافقته الحكمة نوع إيهام لعدم استحقاقهم التعذيب عدل عما يقتضيه الظاهر إلى ما عليه النظم الكريم فكأنه قيل لو نزلناهم ما كانوا منظرين وذلك غير موافق للحكمة الموجبة لتأخير عذابهم لتشديد عقابهم

وقيل المراد بالحق الوحي

وقيل العذاب فتدبر

إنا نحن نزلنا الذكر رد لإنكارهم التنزيل واستهزائهم برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بذلك وتسلية له أي نحن بعظم شأننا وعلو جنابنا نزلنا ذلك الذكر الذي أنكروه وأنكروا نزوله عليك ونسبوك بذلك إلى الجنون وعموا منزله حيث بنوا الفعل للمفعول إيماء إلى أنه أمر لا مصدر له وفعل لا فاعل له

وإنا له لحافظون من كل مالا يليق به فيدخل فيه تكذيبهم له واستهزاؤهم به دخولا أوليا فيكون وعيدا للمستهزئين

وأما الحفظ عن مجرد التحريف والزيادة والنقص وأمثالها فليس بمقتضى المقام فالوجه الحمل على الحفظ من جميع ما يقدح فيه من الطعن فيه والمجادلة في حقيته ويجوز أن يراد حفظه بالإعجاز دليلا على التنزيل من عنده تعالى إذ لو كان من عند غير اللّه لتطرق عليه الزيادة والنقص والإختلاف وفي سبك الجملتين من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة وعلى فخامة شأن التنزيل مالا يخفى وفي إيراد الثانية بالجملة الأسمية دلالة على دوام الحفظ واللّه سبحانه أعلم وقبل الضمير المجرور للرسول صلى اللّه عليه و سلم كقوله تعالى واللّه يعصمك من الناس وتأخير هذا الكلام وإن كان جوابا عن أول كلامهم الباطل ردا له لما ذكر آنفا ولارتباطه بما يعقبه من قوله تعالى

١٠

ولقد أرسلنا أي رسلا وإنما لم يذكر لدلالة ما بعده عليه

من قبلك متعلق بأرسلنا أو بمحذوف هو نعت للمفعول المحذوف أي رسلا كائنة من قبلك

في شيع الأولين أي فرقهم وأحزابهم جمع شيعة وهي الفرقة المتفقة على طريقة ومذهب من شاعه إذا تبعه وإضافته إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند الفراء ومن حذف الموصوف عند البصريين أي شيع الأمم الأولين ومعنى إرسالهم فيهم جعل كل منهم رسولا فيما بين طائفة منهم ليتابعوه في كل ما يأتي ويذر من أمور الدين

١١

وما يأتيهم من رسول المراد نفي إتيان كل رسول لشعته الخاصة به لا نفي إتيان كل رسول لكل واحدة من تلك الشيع جميعا أو على سبيل البدل وصيغة الإستقبال لاستحضاره الصورة على طريقة حكاية الحال الماضية فإن مالا تدخل في الأغلب على مضارع إلا وهو في معنى الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال أي ما أتى شيعة من تلك الشيع رسول خاص بها إلا كانوا به يستهزءون كما يفعله هؤلاء الكفرة والجملة في محل النصب على أنها حال مقدرة من ضمير المفعول في يأتيهم إذا كان المراد بالإتيان حدوثه أو في محل الرفع على أنها صفة رسول فإن محله الرفع على الفاعلية أي

إلا رسول

كانوا به يستهزءون وأما الجر على أنها صفة باعتبار لفظه فيفضي إلى زيادة من الإستغراقية في الإثبات ويجوز أن يكون منصوبا على الوصفية بأن يقدر الموصوف منصوبا على الإستثناء وإن كان المختار الرفع على البدلية وهذا كما ترى تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بأن هذه عادة الجهال مع الأنبياء عليهم السلام وحيث كان الرسول مصحوبا بكتاب من عند اللّه تعالى تضمن ذكر استهزائهم بالرسول استهزاءهم بالكتاب ولذلك قيل

١٢

كذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام السابق من إلقاء الوحي مقرونا بالاستهزاء أي مثل ذلك السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاءوا به من الكتب

نسكله أي الذكر

في قلوب المجرمين أي أهل مكة أو جنس المجرمين فيدخلون فيه دخولا أوليا ومحله النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أو حال منه أي نسلكه سلكا مثل ذلك السلك أو نسلك السلك حال كونه مثله أي مقرونا بالاستهزاء غير مقبول لما تقضيه الحكمة فإنهم من أهل الخذلان ليس لهم استحقاق لقبول الحق وصيغة المضارع لكون المشبه به مقدرا في الوجود وهو السلك الواقع في الأمم السالفة أو للدلالة على استحضار الصورة والسلك إدخال الشيء في آخر يقال سلكت الخيط في الإبرة والرمح في المطعون ,

١٣

لا يؤمنون به أي بالذكر حال من ضمير نسلكه أي غير مؤمن به أو بيان للجملة السابقة فلا محل لها

وقد جعل الضمير للاستهزاء فيتعين البيانية إلا أن يجعل الضمير المجرور ايضا له على أن الباء للملابسة أي نسلك الاستهزاء في قلوبهم حال كونهم غير مؤمنين بملابسته والحال أما مقدرة أو مقارنة للإيذان بأن كفرهم مقارن للإلقاء كما في قوله تعالى فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به

وقد خلت سنة الأولين أي قد مضت طريقتهم التي سنها اللّه تعالى في إهلاكهم حين فعلوا ما فعلوا من التكذيب والاستهزاء وهو استئناف جىء له تكملة للتسلية وتصريحا بالوعيد والتهديد

١٤

ولو فتحنا عليهم أي على هؤلاء المقترحين المعاندين

بابا من السماء أي بابا ما لا

بابا أبوابها المعهودة كما قيل ويسرنا لهم الرقي والصعود إليه

فظلوا فيه في ذلك الباب

يعرجون بآلة أو بغيرها ويرون ما فيها من العجائب عيانا كما يفيده الظلول أو فظل الملائكة الذين اقترحوا إتيانهم يعرجون في ذلك الباب وهم يرونه عيانا مستوضحين طول نهارهم

١٥

لقالوا لفرط عنادهم وغلوهم في المكابرة وتفاديهم عن قبول الحق

إنما سكرت أبصارنا أي سدت من الإحساس من السكر كما يدل عليه القراءة بالتخفيف أو حيرت كما يعضده قراءة من قرأ سكرت أي حارت بل

نحن قوم مسحورون قد سخرنا محمد صلى اللّه عليه و سلم كما قالوه عند ظهور سائر الآيات الباهرة وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالة على أنهم يبتون القول بذلك وأن ما يرونه لا حقيقة له وإنما هو أمر خيل إليهم بالسحر وفي اسمية الجملة الثانية دلالة على دوام مضمونها وإيرادها بعد تسكير الأبصار لبيان إنكارهم لغير ما يرونه فإن عروج كل منهم إلى السماء وإن كان مرئيا لغيره فهو معلوم بطريق الوجدان مع قطع النظر عن الإبصار فهم يدعون أن ذلك نوع آخر من السحر غير تسكير الأبصار

١٦

ولقد جعلنا في السماء بروجا قصورا ينزلها السيارات وهي البروج الإثنا عشر المشهورة المختلفة الهيئات والخواص حسبما يدل عليه الرصد والتجربة مع ما اتفق عليه الجمهور من بساطة السماء والجعل إن جعل بمعنى الخلق والإبداع وهو الظاهر فالجار متعلق به وإن جعل بمعنى التصيير فهو مفعول ثان له متعلق بمحذوف أي جعلنا بروجا كائنة في السماء وزيناها أي السماء بتلك البروج المختلفة الأشكال والكواكب سيارات كانت أو ثوابت

للناظرين إليها فمعنى التزيين ظاهر أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بذلك على قدرة مقدرها وحكمة مدبرها فتزيينها ترتيبها على نظام بديع مستتبع للآثار الحسنة

١٧

وحفظناها من كل شيطان رجيم مرمي بالنجوم فلا يقدر أن يصعد إليها ويوسوس في أهلها ويتصرف فيها ويقف على أحوالها

١٨

إلا من استرق السمع محله النصب على الاستثناء المتصل إن فسر الحفظ بمنع الشياطين عن التعرض لها على الإطلاق والوقوف على ما فيها في الجملة أو المنقطع إن فسر ذلك بالمنع عن دخولها والتصرف فيها عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات ولما ولد النبي صلى اللّه عليه و سلم منعوا من السموات كلها واستراق السمع اختلاسه سرا شبه به خطفتهم اليسيرة من قطان السموات بما بينهم من المناسبة في الجوهر أو بالاستدلال من الأوضاع

فأتبعه أي تبعه ولحقه شهاب لهب محرق وهو شعلة نار ساطعة وقد يطلق على الكواكب والسنان لما فيهما من البريق مبين ظاهر أمره للمبصرين قال معمر قلت لابن

شهاب الزهرى أكان يرمي بالنجوم في الجاهلية قال نعم وإن النجم ينقض ويرمي به الشيطان فيقتله أو يخبله لئلا يعود إلى استراق السمع ثم يعود إلى مكانه قال أفرأيت قوله تعالى وأنا كنا نقعد منها مقاعد الآية قال غلظت وشدد أمرها حين بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم قال ابن قتيبة إن الرجم كان قبل مبعثه صلى اللّه عليه و سلم ولكن لم يكن في شدة الحراسة كما بعد مبعثه صلى اللّه عليه و سلم قال ابن عباس رضي اللّه عنهما إن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة فيرمون بالكواكب فلا يخطىء أبدا فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه وجنبه ويده حيث يشاء اللّه تعالى ومنهم من يخبله فيصير غولا فيضل الناس في البوادي قال القرطبي اختلفوا في أن الشهاب هل يقتل أم لا قال ابن عباس رضي اللّه عنهما يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل وقال الحسن وطائفة يقتل قال والأول أصح

١٩

والأرض مددناها بسطناها وهو بالنصب على الحذف على شريطة التفسير ولم يقرأ بالرفع لرجحان النصب للعطف على الجملة الفعلية أعني قوله تعالى ولقد جعلنا الخ وليوافق ما بعده أعني قوله تعالى

وألقينا فيها رواسي أي جبالا ثوابت وقد مر بيانه في أول الرعد

وأنبتنا فيها أي في الأرض أو فيها وفي رواسيها

من كل شيء موزون بميزان الحكمة ذاتا وصفة ومقدارا

وقيل ما يوزن من الذهب والفضة وغيرهما أو من كل شيء مستحسن مناسب أو ما يوزن ويقدر من أبواب النعمة

٢٠

وجعلنا لكم فيها معايش ما تعيشون به من المطاعم والملابس وغيرهما مما يتعلق به البقاء وهي بياء صريحة وقرىء بالهمزة تشبيها له بالشمائل

ومن لستم له برازقين عطف على معايش أو على محل لكم كأنه قيل جعلنا لكم معايش وجعلنا لكم من لستم برازقيه من العيال والمماليك والخدم والدواب وما أشبهها على طريقة التغليب وذكرهم بهذا العنوان لرد حسبانهم أنهم يكفون مؤناتهم ولتحقيق أن اللّه تعالى هو الذي يرزقهم وإياهم أو وجعلنا لكم فيها معايش ولمن لستم له برازقين

٢١

وإن من شيء إن للنفي ومن مزيدة للتأكيد وشيء في محل الرفع على الابتداء أي ما من شيء من الاشياء الممكنة فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا

إلا عندنا خزائنه الظرف خبر للمبتدأ وخزائنه مرتفع به على أنه فاعله لاعتماده أو خبر له والجملة خبر للمبتدأ الأول والخزائن جمع الخزانة وهي ما يحفظ فيه نفائس الأموال لا غير غلب في العرف على ما للملوك والسلاطين من خزائن أرزاق الناس شبهت مقدوراته تعالى الفائتة للحصر المندرجة تحت قدرته الشاملة في كونها مستورة عن علوم العالمين ومصونة عن وصول أيديهم مع كمال افتقارهم إليها ورغبتهم فيها وكونها مهيأة متأتية لإيجاده وتكوينه بحيث متى تعلقت الإرادة بوجودها وجدت بلا تأخر بنفائس الأموال المخزونة في الخزائن السلطانية فذكر الخزائن على طريقة الاستعارة التخييلية وما ننزله أي ما نوجد وما نكون شيئا من تلك الأشياء ملتبسا بشيء من الأشياء

إلا بقدر معلوم أي إلا ملتبسا بمقدار معين تقتضيه الحكمة وتستدعيه المشيئة التابعة لها لا بما تقتضيه القدرة فإن ذلك غير متناه فإن تخصيص كل شيء بصفة معينة وقدر معين ووقت محدود دون ما عدا ذلك مع استواء الكل في الإمكان واستحقاق تعلق القدرة به لا بد له من حكمة تقتضي اختصاص كل من ذلك بما اختص به وهذا البيان سر عدم تكوين الأشياء على وجه الكثرة حسبما هو في خزائن القدرة وهو أما عطف على مقدر أي ننزله وما ننزله الخ أو حال مما سبق أي عندنا خزائن كل شيء والحال أنا ما ننزله إلا بقدر معلوم فالأول لبيان سعة القدرة والثاني لبيان بالغ الحكمة وحيث كان إنشاء ذلك بطريق التفضل من العالم العلوى إلى العلم السفلي كما في قوله تعالى وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج وكان ذلك بطريق التدريج عبر عنه بالتنزيل وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار وأرسلنا الرياح عطف على جعلنا لكم فيها معايش وما بينهما اعتراض لتحقيق ما سبق وترشيح مالحق أي أرسلنا الرياح لواقح أي حوامل شبهت الريح التي تجيء بالخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل كما شبه بالعقيم مالا يكون كذلك أو ملقحات بالشجر والسحاب ونظيره الطوائح بمعنى المطيحات في قوله ومختبط مما تطيح الطوائح أي المهلكات وقرىء

٢٢

وأرسلنا الريح على إرادة الجنس

فأنزلنا من السماء بعد ما أنشأنا بتلك الرياح سحابا ماطرا ماء

فأسقيناه كموه أي جعلناه لكم سقيا وهو أبلغ من سقينا كموه لما فيه من الدلالة على جعل الماء معدا لهم ينتفعون به متى شاءوا

وما أنتم له بخازنين نفي عنهم ما أثبته لجنابه بقوله وإن من شيء إلا عندنا خزائنه كأنه قيل نحن القادرون على إيجاده وخزنه في السحاب وإنزاله وما أنتم على ذلك بقادرين

وقيل ما أنتم بخازنين له بعد ما أنزلناه في الغدران والآبار والعيون بل نحن نخزنه فيها ليجعلها سقيا لكم مع أن طبيعة الماء تقتضي الغور

٢٣

وإنا لنحن نحي بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها

ونميت بإزالتها عنها وقد يعمم الإحياء والإماتة لما يشمل الحيوان والنبات وتقديم الضمير للحصر وهو أما تأكيد للأول أو مبتدأ خبره الفعل والجملة خبر لأنا ولا يجوز كونه ضمير الفصل لا لأن اللام مانعة من ذلك كما قيل فإن النجاة جوزوا دخول لام التأكيد على ضمير الفصل كما في قوله تعالى إن هذا لهو القصص الحق بل لأنه لم يقع بين اسمين

ونحن الوارثون أي الباقون بعد فناء الخلق قاطبة المالكون للملك عند انقضاء زمان الملك المجازى الحاكمون في الكل أولا وآخرا وليس لهم إلا التصرف الصورى والملك المجازى وفيه تنبيه على أن المتأخر ليس بوارث للمتقدم كما يتراءى من ظاهر الحال ولقد علمنا المستقدمين منكم من تقدم منكم ولادة وموتا ولقد علمنا المستأخرين من تأخر ولادة وموتا أو من خرج من أصلاب الآباء ومن لم يخرج بعد أو من تقدم في الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة ومن تأخر في ذلك لا يخفى علينا شيء من أحوالكم وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته فإن ما يدل عليها دليل عليه وفي تكرير قوله تعالى

٢٤

ولقد علمنا مالا يخفى من الدلالة على كمال التأكيد

وقيل رغب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في الصف الأول فازدحموا عليه فنزلت

وقيل إن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فتقدم بعض الناس لئلا يراها وتأخر آخرون ليروها فنزلت والأول هو المناسب لما سبق وما لحق من قوله تعالى

٢٥

وإن ربك هو يحشرهم أي للجزاء وتوسيط ضمير العظمة للدلالة على أنه هو القادر على حشرهم والمتولى له لا غير لأنهم كانوا يستبعدون ذلك ويستنكرونه ويقولون من يحي العظام وهي رميم أي هو يحشرهم لا غير وفي الالتفات والتعرض لعنوان الربوبية إشعارا بعلة الحكم وفي الإضافة إلى ضميره صلى اللّه عليه و سلم دلالة على اللطف به عليه الصلاة و السلام

إنه حكيم بالغ الحكمة متقن في أفعاله فإنها عبارة عن

العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي عليم وسع علمه كل شيء ولعل تقديم صفة الحكمة للإيذان باقتضائها للحشر والجزاء

٢٦

ولقد خلقنا الإنسان أي هذا النوع بأن خلقنا أصله وأول فرد من أفراده خلقا بديعا منطويا على خلق سائر أفراده انطواء إجماليا كما مر تحقيقه في سورة الأنعام

من صلصال من طين يابس غير مطبوخ يصلصل أي يصوت عند نقره قيل إذا توهمت في صوته مدا فهو صليل وإن توهمت فيه ترجيعا فهو صلصلة

وقيل هو تضعيف صل إذا أنتن من حمأ من طين تغير واسود بطول مجاورة الماء وهو صفة لصلصال أي من صلصال كأئن من حمأ مسنون أي مصور من سنة الوجه وهي صورته أو مصبوب من سن الماء صبه أي مفرغ على هيئة الإنسان كما يفرغ الصور من الجواهر المذابة في القوالب

وقيل منتن فهو صفة لحمأ وعلى الأولين حقه أن يكون صفة لصلصال وإنما أخر عن

حمأ تنبيها على أن ابتداء

مسنونيته ليس في حال كونه صلصالا بل في حال كونه حمأ كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور من ذلك تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صوت ثم غيره إلى جوهر آخر فتبارك اللّه أحسن الخالقين

٢٧

والجان أبا الجن

وقيل إبليس ويجوز أن يراد به الجنس كما هو الظاهر من الإنسان لأن تشعب الجنس لما كان من فرد واحد مخلوق من مادة واحدة كان الجنس بأسره مخلوقا منها وقرىء بالهمزة وانتصابه بفعل يفسره

خلقناه وهو أقوى من الرفع للعطف على الجملة الفعلية

من قبل من قبل خلق الإنسان ومن هذا يظهر جواز كون المراد بالمستقدمين أحد الثقلين

وبالمستأخرين الآخر والخطاب بقوله منكم للكل

من نار السموم من نار الحر الشديد النافذ في المسام ولا امتناع من خلق الحياة من الأجرام البسيطة كما لا امتناع من خلقها في الجواهر المجردة فضلا عن الأجسام المؤلفة التي غالب أجزائها الجزء الناري فإنها أقبل لها من التي غالب أجزائها الجزء الارضي وقوله تعالى

من نار باعتبار الغالب كقوله تعالى خلقكم من تراب ومساق الآية الكريمة كما هو للدلالة على كمال قدرة اللّه تعالى وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر وهو قبول المواد للجمع والإحياء

٢٨

وإذ قال ربك نصب بإضمار اذكر وتذكير الوقت لما مر مرارا من أنه أدخل في تذكير ما وقع فيه من الحوادث وفي التعرض لوصف الربوبية المنبئة عن تبليغ الشيء إلى كماله اللائق به شيئا فشيئا مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام إشعارا بعلة الحكم وتشريف له عليه الصلاة و السلام أي اذكر وقت قوله تعالى

للملائكة إني خالق فيما سيأتي وفيه ماليس في صيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل له البتة من غير صارف يثنيه ولا عاطف يلويه

بشرا أي إنسانا قيل ليس هذا عين العبارة الجارية وقت الخطاب بل الظاهر أن يكون قد قيل لهم إني خالق خلقا من صفته كيت وكيت ولكن اقتصر عند الحكاية على الاسم

وقيل جسما كثيفا يلاقي ويباشر

وقيل خلقا بادى البشر بلا صوف ولا شعرة

من صلصال متعلق بخالق أو بمحذوف وقع صفة لمفعوله أي بشرا كائنا من صلصال كائن

من حمأ مسنون تقدم تفسيره ولا ينافي هذا ما في قوله تعالى في سورة ص من قوله بشرا من طين فإن عدم التعرض عند الحكاية لوصف الطين من التغير والاسود ولما ورد عليه من آثار التكوين لا يستلزم عدم التعرض لذلك عند وقوع المحكي غايته أنه لم يتعرض له هناك اكتفاء بما شرح ههنا

٢٩

فإذا سويته أي صورته بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية أو سويت أجزاء بدنه بتعديل طبائعه

ونفخت فيه من روحي النفخ إجراء الريح إلى تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاءبها وليس ثمة نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها أي فإذا كملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروح التي هي من أمري

فقعوا له من وقع يقع وفيه دليل على أن ليس المأمور به مجرد الانحناء كما قيل أي اسقطوا له

ساجدين تحية له وتعظيما أو اسجدوا للّه تعالى على أنه عليه الصلاة و السلام بمنزلة القبلة حيث ظهر فيه تعاجيب آثار قدرته تعالى وحكمته كقول حسان رضي اللّه تعالى عنه

... أليس أول من صلى قبلتكم ... وأعلم الناس بالقرآن والسنن ...

٣٠

فسجد الملائكة أي فخلقه فسواه فنفخ فيه الروح فسجد الملائكة

كلهم بحيث لم يشذ منهم أحد

أجمعون بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد ولا اختصاص لإفادة هذا المعنى بالحالية بل يفيده التاكيد ايضا فإن الاشتقاق الواضح يرشد إلى أن فيه معنى الجمع والمعية بحسب الوضع والأصل في الخطاب التنزيل على أكمل أحوال الشيء ولا ريب في أن السجود معا أكمل أصناف السجود لكن شاع استعماله تأكيدا وأقيم مقام كل من إفادة معنى الإحاطة من غير نظر إلى الكمال فإذا فهمت الإحاطة من لفظ آخر لم يكن بد من مراعاة الأصل صونا للكلام عن الإلغاء

وقيل أكد بتأكيدين مبالغة في التعميم هذا

وأما أن سجودهم هذا هل ترتب على ما حكى من الأمر التعليقي كما تقتضيه هذه الآية الكريمة والتي في سورة ص أو على الأمر التنجيزى كما يستدعيه ما في غيرهما فقد خرجنا بفضل اللّه عز و جل عن عهدة تحقيقه في تفسير سورة البقرة

٣١

إلا إبليس استثناء متصل أما لأنه كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة فعد منهم تغليبا

وأما لأن من الملائكة جنسا يتوالدون وهو منهم وقوله تعالى

أبى أن يكون من

الساجدين استئناف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء فإن مطلق عدم السجود قد يكون مع التردد وبه علم أنه مع الإباء والاستكبار أو منقطع فيتصل به ما بعده أي لكن إبليس ابى أن يكون معهم وفيه دلالة على كمال ركاكة رأيه حيث أدمج في معصية واحدة ثلاث معاص مخالفة الأمر والاستكبار مع تحقير آدم عليه الصلاة و السلام ومفارقة الجماعة والإباء عن الإنتظام في سلك أولئك المقربين الكرام قال استئناف مبنى على سؤال من قال فماذا قال اللّه تعالى عنذ ذلك فقيل

٣٢

قال يا إبليس مالك أي أي سبب لا أي غرض لك كما قيل لقوله تعالى ما منعك ألا تكون في

أو لا تكون مع الساجدين لآدم مع أنهم هم ومنزلتهم في الشرف منزلتهم وما كان التوبيخ عند وقوعه لمجرد تخلفه عنهم بل لكل من المعاصي الثلاث المذكورة قال تعالى في سورة الأعراف قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك وفي سورة ص قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى ولكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه اجتزاء بما ذكر في موطن آخر وإشعارا بأن كل واحدة من تلك المعاصي الثلاث كافية في التوبيخ وإظهار بطلان ما ارتكبه وقد تركت حكاية التوبيخ راسا في سورة البقرة وسورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه

٣٣

قال أي إبليس وهو ايضا استئناف مبنى على السؤال الذي ينساق إليه الكلام

لم أكن لأسجد اللام لتأكيد النفي أي ينافى حالي ولا يستقيم مني لأني مخلوق من أشرف العناصر وأعلاها أن أسجد

لبشر أي جسم كثيف

خلقته من صلصال من حمأ مسنون اقتصر ههنا على الإشارة الإجمالية إلى ادعاء الخيرية وشرف المادة اكتفاء بما صرح به حين

قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ولم يكتف اللعين بمجرد ذكر كونه عليه الصلاة و السلام من التراب الذي هو أخس العناصر وأسفلها بل تعرض لكونه مخلوقا منه في أخس أحواله من كونه طينا متغيرا وقد اكتفى في سورة الأعراف وسورة ص بما حكى عنه ههنا فاقتصر على حكاية تعرضه لخلقه عليه الصلاة و السلام من طين وكذا في سورة بني إسرائيل حيث قيل أأسجد لمن خلقت طينا وفي جوابه دليل على أن قوله تعالى مالك ليس استفسار عن الغرض بل هو استفسار عن السبب وفي عدوله عن تطبيق جوابه على السؤال روم للتفصى عن المناقشة وأني له ذلك كأنه قال لم أمتنع عن امتثال الامر ولا عن الانتظام في سلك الملائكة بل عما لا يليق بشأني من الخضوع للمفضول ولقد جرى خذله اللّه تعالى على سنن قياس عقيم وزل عنه أن ما يدور عليه فلك الفضل والكمال هو التحلي بالمعارف الربانية والتخلي عن الملكات الردية التي أقبحها الكبر والاستعصاء على أمر رب العالمين جلا جلاله

٣٤

قال فاخرج منها أي من زمرة الملائكة المعززين لا من السماء فإن وسوسته لآدم عليه الصلاة و السلام في الجنة إنما كانت بعد هذا الطرد وقوله تعالى فاهبط منها ليس نصافي ذلك فإن الخروج من بين الملأ الأعلى هبوط وأي هبوط أو من الجنة على أن وسوسته كانت بطريق النداء من بابها كما روى عن الحسن البصري أو بطريق المشافهة بعد أن احتال في دخولها وتوسل إليه بالحية كما روى عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما ولا ينافي هذا طرده على رءوس الأشهاد لما يقتضيه من الحكم البالغة

فإنك رجيم مطرود من كل خير وكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجارة أو شيطان يرجم بالشهب وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته فإن من عارض النص بالقياس فهو رجيم ملعون

٣٥

وأن عليك اللعنة الإبعاد عن الرحمة وحيث كان ذلك من جهة اللّه سبحانه وإن كان جاريا على السنة العباد قيل في سورة ص وإن عليك لعنتي

إلى يوم الدين إلى يوم الجزاء والعقوبة وفيه إشعارا بتأخير عقابه وجزائه إليه وأن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست جزاء لفعله وإنما يتحقق ذلك يومئذ وفيه من التهويل مالا يوصف وجعل ذلك أقصى أمد اللعنة ليس لأنها تنقطع هنالك بل لأنه عند ذلك يعذب بما ينسى به اللعنة من افانين العذاب فتصير هي كالزائل

وقيل إنما حدت به لأنه ابعد غاية يضربها الناس كقوله تعالى خالدين فيها ما دامت السموات والارض وحيث أمكن كون تأخير العقوبة مع الموت كسائر من أخرت عقوباتهم إلى الآخرة من الكفرة طلب اللعين تأخير موته كما حكى عنه بقوله تعالى

٣٦

قال ربي فأنظرني أي أمهلني وأخرني ولاتمتنى والفاء متعلق بمحذوف ينسحب عليه الكلام أي إذ جعلتني رجيما فأمهلني

إلى يوم يبعثون أي أدم وذريته للجزاء بعد فنائهم وأراد بذلك أن يجد فسحة لإغوائهم ويأخذ منهم ثأره وينجو من الموت لاستحالته بعد يوم البعث

٣٧

قال فإنك من المنظرين ورود الجواب بالجملة الأسمية مع التعرض لشمول ما سأله لآخرين على وجه يؤذن بكون السائل تبعا لهم في ذلك دليل على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلالا إنشاء فإنظار خاص به وقع إجابة لدعائه أي إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه حكمة التكوين فالفاء ليست لربط نفس الإنظار بالاستتنظار بل لربط الإخبار المذكور به كما في قوله

... فإن ترحم فأنت لذاك أهل ...

فإنه لا إمكان لجعل الفاء فيه لربط ما فيه تعالى من الأهلية القديمة للرحمة بوقوع الرحمة الحادثة بل هي لربط الإخبار بتلك الأهلية للرحمة بوقوعها وأن استنظاره كان طلبا لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه من جملتهم لا لتأخير العقوبة كما قيل ونظمه في ذلك في سلك من أخرت عقوبتهم إلى الآخرة في علم اللّه تعالى ممن سبق من الجن ولحق من الثقلين لا يلائم مقام الاستنظار مع الحياة ولأن ذلك التأخير معلوم من إضافة اليوم إلى الدين مع إضافته في السؤال الى البعث كما عرفته وفي سورة الأعراف قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين يترك التوقيت والنداء والفاء في الاستنظار والإنظار تعويلا على ما ذكر ههنا وفي سورة ص فإن إيراد كلام واحد على أساليب متعددة غير عزيز في الكتاب العزيز

وأما أن كل أسلوب من أساليب النظم الكريم لا بد أن يكون له مقام يقتضيه مغاير لمقام غيره وأن ما حكى من اللعين إنما صدر عنه مرة وكذا جوابه لم يقع إلا دفعة فمقام المحاورة إن اقتضى أحد الأساليب المذكورة فهو المطابق لمقتضى الحال والبالغ إلى طبقة الإعجاز وما عداه قاصر عن رتبة البلاغة فضلا عن الارتقاء إلى معالم الإعجاز فقد مر تحقيقه بتوفيق اللّه تعالى في سورة الأعراف

٣٨

إلى يوم الوقت المعلوم وهو وقت النفخة الأولى التي علم أنه يصعق عندها من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء اللّه تعالى ويجوز أن يكون المراد بالأيام واحدا والاختلاف في العبارات لإختلاف الاعتبارات فالتعبير بيوم البعث لأن غرض اللعين به يتحقق وبيوم الدين لما ذكر من الجزاء بيوم الوقت المعلوم لما ذكر أو لاستثاره تعالى بعلمه فلعل كلا من هلاك الخلق جميعا وبعثهم وجزائهم في يوم واحد يموت اللعين في أوله ويبعث في أواسطه ويعاقب في بقيته يروى أن بين موته وبعثه أربعين سنة من سنى الدنيا مقدار ما بين النفختبين ونقل عن الأحنف بن قيس رحمه اللّه تعالى أنه قال قدمت المدينة اريد أمير المؤمنين عمر رضي اللّه تعالى عنه فإذا أنا بحلقة عظيمة وكعب الأحبار فيها يحدث

الناس وهو يقول لما حضر آدم عليه الصلاة و السلام الوفاة

٣٩

قال يا رب سيشمت بي عدوي إبليس إذا رآني ميتا وهو منظر إلى يوم القيامة فأجيب أن يا آدم إنك سترد إلى الجنة ويؤخر اللعين إلى النظرة ليذوق الم الموت بعدد الأولين والآخرين ثم قال لملك الموت صف كيف تذيقه الموت فلما وصفه قال يا رب حسبي فضج الناس وقالوا يا ابا إسحق كيف ذلك فأبى فألحوا فقال يقول اللّه سبحانه لملك الموت عقيب النفخة الأولى قد جعلت فيك قوة أهل السموات السبع وأهل الأرضين السبع وإني ألبستك اليوم أثواب السخط والعضب كلها فانزل بغضبي وسطوتي على رجيمي إبليس فأذقته الموت واحمل عليه فيه مرارة الأولين والآخرين من الثقلين اضعافا مضاعفة وليكن معك من الزبانية سبعون الفا قد امتلأوا غيظا وغضبا وليكن مع كل منهم سلسلة من سلاسل جهنم وغل من أغلالها وانزع روحه المنتن بسبعين ألف كلاب من كلاليبها وناد مالكا ليفتح أبواب النيران فينزل ملك الموت بصورة لو نظر إليها أهل السموات والارضين لماتوا بغتة من هولها فينتهي إلى إبليس فيقول قف لي يا خبيث لأذيقنك الموت كم من عمر أدركت وقرون اضللت وهذه هو الوقت المعلوم قال فيهرب اللعين إلى المشرق فإذا هو بملك الموت بين عينيه فيهرب إلى المغرب فإذا هو به بين عينيه فيغوص البحار فتنز منه البحار فلا تقبله فلا يزال يهرب في الارض ولا محيص له ولا ملاذ ثم يقوم في وسط الدنيا عند قبر آدم ويتمرغ في التراب من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق حتى إذا كان في الموضع الذي أهبط فيه آدم عليه الصلاة و السلام وقد نصبت له الزبانية الكلاليب وصارت الارض كالجمرة احتوشته الزبانية وطعنوه بالكلاليب ويبقى في النزع والعذاب إلى حيث يشاء اللّه تعالى ويقال لآدم وحواء اطلعا اليوم إلى عدو كما كيف يذوق الموت فيطلعان فينظران إلى ما هو فيه من شدة العذاب فيقولان ربنا أتممت علينا نعمتك قال رب بما أغويتني الباء للقسم وما مصدرية والجواب

لأزينن لهم أي أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم المعاصي

في الأرض أي في الدنيا التي هي دار الغرور كقوله تعالى أخلد إلى الأرض وإقسامه بعزة اللّه المفسرة بسلطانه وقهره لا ينافي إقسامه بهذا فإنه فرع من فروعها وأثر من آثارها فلعله أقسم بهما جميعا فحكى تارة فسمه بهذا وأخرى بذاك أو للسببية وقوله لأزينن جواب قسم محذوف والمعنى بسبب تسببك لإغوائي أقسم لأفعلن بهم مثل ما فعلت بي من التسبب لإعوائهم بتزيين المعاصي وتسويل الأباطيل والمعتزلة أولوا الإغواء بالنسبة إلى الغي أو التسبب له بأمره إياه بالسجود لآدم عليه الصلاة و السلام واعتذروا عن إمهال اللّه تعالى وتسليطه له على إغواء بني آدم بأنه تعالى قد علم منه وممن تبعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار أمهل أم لم يمهل وأن في إمهاله تعريضا لمن خالفه لاستحقاق مزيد الثواب

ولأغوينهم أجمعين لأحملنهم على الغواية

٤٠

إلا عبادك منهم المخلصين الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من الشوائب

 فلا يعمل فيهم كيدى وقرىء بكسر اللام أي الذين أخلصوا نفوسهم للّه تعالى

٤١

قال هذا صراط أي حق

على أن أراعيه

مستقيم لا عوج فيه والإشارة إلى ما تضمنه الاستثناء وهو تخلص المخلصين من إغوائه أو الإخلاص على معنى أنه طريق يؤدى إلى الوصول إلى من غير اعوجاج وضلال والأظهر أن ذلك لما وقع في عبارة إبليس حيث قال لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم الآية وقرىء على من علو الشرف

٤٢

إن عبادى وهم المشار إليهم بالمخلصين

ليس عليك

سلطان تسلط وتصرف بالإغواء

إلا من اتبعك من الغاوين وفيه مع كونه تحقيقا لما قاله اللعين تفخيم لشأن المخلصين وبيان لمنزلتهم ولا نقطاع مخالب الإغواء عنهم وأن إغواءه للغاوين ليس بطريق السلطان بل بطريق اتباعهم له بسوء اختيارهم

٤٣

وإن جهنم لموعدهم أي موعد المتبعين أو الغاوين والأول أنسب وأدخل في الزجر عن اتباعه وفيه دلالة على أن جهنم مكان الوعد وأن الموعود مما لا يوصف في الفظاعة

أجمعين تأكيد للضمير أو حال والعامل فيه الموعد إن جعل مصدرا على تقدير المضاف أو معنى الإضافة إن جعل اسم مكان

٤٤

لها سبعة أبواب يدخلونها لكثرتهم أو سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في الغواية والمتابعة وهي جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية

لكل باب منهم من الأتباع أو الغواة

جزء مقسوم حزب معين مفرز من غيره حسبما يقتضيه استعداده فأعلاها للموحدين والثانية لليهود والثالثة للنصارى والرابعة للصابئين والخامسة للمجوس والسادسة للمشركين والسابعة للمنافقين وعن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما إن جهنم لمن ادعى الربوبية ولظى لعبدة النار والحطمة لعبدة الاصنام وسقر لليهود والسعير للنصارى والجحيم للصابئين والهاوية للموحدين ولعل حصرها في السبع لانحصار المهلكات في المحسوسات بالحواس الخمس ومقتضيات القوة الشهوية والغضبية وقرىء بضم الزاي وبحذف الهمزة وإلقاء حركتها إلى ما قبلها مع تشديدها في الوقف والوصل ومنهم حال من جزء أو من ضميره في الظرف لا في مقسوم لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفها

٤٥

إن المتقين من اتباعه في الكفر والفواحش فإن غيرها مكفر

في جنات وعيون أي مستقرون فيها خالدين لكل واحد منهم جنة وعين منهما كقوله تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان وقرىء بكسر العين حيث وقع في القرآن العظيم

ادخلوها على إرادة القول أمرا من اللّه تعالى لهم بالدخول وقرىء

٤٦

أدخلوها أمرا منه تعالى للملائكة بإدخالهم وقرأ الحسن أدخلوها مبنيا للمفعول على صيغة الماضي من الإدخال بسلام ملتبسين

بسلام أي سالمين أو مسلما عليكم

آمنين من الآفات والزوال

٤٧

ونزعنا ما في صدورهم من غل أي حقد كان في الدنيا وعن علي رضي اللّه تعالى عنه أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين

إخوانا حال من الضمير في قوله تعالى في جنات أو من فاعل ادخلوها أو من الضمير في آمنين أو الضمير المضاف إليه والعامل فيه معنى الإضافة وكذلك قوله تعالى

على سرر متقابلين ويجوز كونهما صفتين لإخوانا أو حالين من ضميره لأنه بمعنى متصافين وكون الثاني حالا من المستكن في الأول وعن مجاهد تدور بهم الأسرة حيثما داروا فهم متقابلون في جميع أحوالهم

٤٨

لا يمسهم فيها نصب أي تعب بأن لا يكون لهم فيها ما يوجبه من الكد في تحصيل مالا بد لهم منه لحصول كل ما يريدونه من غير مزاولة عمل أصلا أو بأن لا يعتريهم ذلك وإن باشروا الحركات العنيفة لكمال قوتهم وهو استئناف أو حال بعد حال أو حال من الضمير في متقابلين

وما هم منها بمخرجين أبد الآباد لأن تمام النعمة بالخلود

٤٩

نبىء عبادي وهم الذين عبر عنهم بالمتقين

أني أنا الغفور الرحيم

٥٠

وأن عذاب هو العذاب الأليم فذلكة لما سلف من الوعد والوعيد وتقرير له وفي ذكر المغفرة إشعارا بأن ليس المراد بالمتقين من يتقي جميع الذنوب كبيرها وصغيرها وفي وصف ذاته تعالى بها وبالرحمة على وجه القصر دون التعذيب إيذان بأنهما مما يقتضيهما الذات وأن العذاب إنما يتحقق بما يوجبه من خارج

٥١

ونبئهم عطف على نبيء عبادي والمقصود اعتبارهم بما جرى على إبراهيم عليه الصلاة و السلام مع أهله من البشرى في تضاعيف الخوف وبما حل بقوم لوط من العذاب ونجاته عليه الصلاة و السلام مع أهله التابعين له في ضمن الخوف وتنبيههم بحلول انتقامه تعالى من المجرمين وعلمهم بأن عذاب اللّه هو العذاب الأليم

عن ضيف إبراهيم عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما أنهم جبريل عليه الصلاة و السلام وملكان معه وقال محمد بن كعب وسبعة معه

وقيل جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم الصلاة والسلام وقال الضحاك كانوا تسعة وعن السذى كانو أحد

 عشر على صور الغلمان الوضاء وجوههم وعن مقاتل أنهم كانوا اثني عشر ملكا وإنما لم يتعرض لعنوان رسالتهم لأنهم لم يكونوا مرسلين إلى إبراهيم عليه الصلاة و السلام بل إلى قوم لوط حسبما ياتي ذكره

٥٢

إذ دخلوا عليه نصب بفعل مضمر معطوف على نبيء أي واذكر وقت دخولهم عليه أو خبر مقدر مضاف إلى ضيف أي خبر ضيف إبراهيم حين دخولهم عليه أو بنفس ضيف على أنه مصدر في الأصل

فقالوا عند ذلك سلاما أي نسلم

سلاما أو سلمنا أو سلمت سلاما

قال إنا منكم وجلون أي خائفون فإن الوجل اضطراب النفس لتوقع مكروه قاله عليه الصلاة و السلام حين امتنعوا من أكل ما قربه إليهم من العجل الحنيذ لما أن المعتاد عندهم أنه إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجيء بخير لا عند ابتداء دخولهم لقوله تعالى فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة فلا مجال لكون خوفه عليه الصلاة و السلام بسبب دخولهم بغير إذن ولا بغير وقت إذ لو كان كذلك لأجابوا حينئذ بما أجابوا حينئذ به ولم يتصد عليه الصلاة و السلام لتقريب الطعام إليهم وإنما لم يذكر ههنا اكتفاء بما بين في غير هذا الموضع ألا يرى إلى أنه لم يذكر ههنا رده عليه الصلاة و السلام لسلامهم

٥٣

قالوا لا توجل لا تخف وقرىء لا تاجل ولا توجل من أوجله أي أخافه ولا تواجل من واجله بمعنى أوجله

إنا نبشرك استئناف لتعليل النهي عن الوجل فإن المبشر به لا يكاد يحوم حول ساحته خوف ولا حزن كيف لا وهو بشارة ببقائه وبقاء أهله في عافية وسلامة زمانا طويلا

بغلام هو إسحق عليه الصلاة و السلام لقوله تعالى فبشرناها بإسحق ولم يتعرض ههنا لبشارة يعقوب عليه الصلاة و السلام اكتفاء بما ذكر في سورة هود عليم إذا بلغ وفي موضع آخر بغلام حليم

٥٤

قال أبشرتموني بذلك

على أن مسنى الكبر وأثر في تعجب عليه الصلاة و السلام من بشارتهم بالولد في حالة مباينة للولادة وزاد في ذلك فقال فبم تبشرون أي بأي أعجوبة تبشرونني فإن البشارة بما لا يتصور وقوعه عادة بشارة بغير شيء أو بأي طريقة تبشرونني وقرىء بتشديد النون المكسورة على إدغام نون الجمع في نون الوقاية

٥٥

قالوا بشرناك بالحق أي بما يكون لا محالة أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق وهو أمر اللّه تعالى وقوله

فلا تكن من القانطين من الآيسين من ذلك فإن اللّه قادر على أن يخلق بشرا بغير أبوين فكيف من شيخ فإن وعجوز عاقر وقرىء من القنطين وكان مقصده عليه الصلاة و السلام استعظام نعمته تعالى في ضمن التعجب العادي المبني على سنة اللّه

تعالى المسلوكة فيما بين عبادة لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرته سبحانه كما ينبىء عنه قول الملائكة فلا تكن من القانطين دون أن يقولوا من الممترين أو نحوه

٥٦

قال ومن يقنط استفهام إنكاري أي لا يقنط

من رحمة ربه إلا الضالون المخطئون طريق المعرفة والصواب فلا يعرفون سعة رحمته وكمال علمه وقدرته كما قال يعقوب عليه الصلاة و السلام لا ييأس من روح اللّه إلا القوم الكافرون ومراده نفي القنوط عن نفسه على أبلغ وجه أي ليس بي قنوط من رحمته تعالى وإنما الذي أقول لبيان منافاة حالي لفيضان تلك النعمة الجليلة على وفي التعرض لوصف الربوبية والرحمة مالا يخفى من الجزالة وقرىء بضم النون وبكسرها من قنط بالفتح ولم تكن هذه المفاوضة من الملائكة مع إبراهيم عليه الصلاة و السلام خاصة بل مع سارة أيضا حسبما شرح في سورة هود ولم يذكر ذلك ههنا اكتفاء بما ذكر هناك كما أنه لم يذكر هذه هناك اكتفاء بما ذكر ههنا

٥٧

قال أي إبراهيم عليه الصلاة و السلام وتوسيطه بين قوله السابق وبين قوله

فما خطبكم أي أمركم وشأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة

أيها المرسلون صريح في أن بينهما مقالة مطوية لهم إشير به إلى مكانها كما في قوله تعالى قال أأسجد لمن خلقت طينا * قال أرأيتك هذا الذي كرمت على الآية فإن قوله الأخير ليس موصولا بقوله الأول بل هو مبني على قوله تعالى فاخرج منها فإنك رجيم فإن توسيط قال بين قوليه للإيذان بعدم اتصال الثاني بالأول وعدم ابتنائه عليه بل غيره ثم خطابه لهم عليهم الصلاة والسلام بعنوان الرسالة بعد ما كان خطابه السابق مجردا عن ذلك مع تصديره بالفاء دليل على أن مقالتهم المطوية كانت متضمنة لبيان أن مجيئهم ليس لمجرد البشارة بل لهم شأن آخر لأجله أرسلوا فكأنه قال عليه الصلاة و السلام إن لم يكن شأنكم مجرد البشارة فماذا هو فلا حاجة إلى الالتجاء إلى أن علمه عليه الصلاة و السلام بأن كل المقصود ليس البشارة بسبب أنهم كانوا ذوى عدد والبشارة لا تحتاج إلى عدد وذلك اكتفى بالواحد في زكريا عليه الصلاة و السلام ومريم ولا إلى أنهم بشروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدءوا بها فتأمل

٥٨

قالوا إنا ارسلنا إلى قوم مجرمين هم قوم لوط لكن وصفوا بالإجرام وجىء بهم بطريق التنكير ذما لهم واستهانة بهم

٥٩

إلا آل لوط استثناء متصل من الضمير في مجرمين أي إلى قوم أجرموا جميعا إلا آل لوط فالقوم والإرسال شاملان للمجرمين وغيرهم والمعنى

إنا أرسلنا إلى قوم أجرم كلهم إلا آل لوط لنهلك الأولين وننجى الآخرين ويدل عليه قوله تعالى

إنا لمنجوهم أي لوطا وآله

أجمعين أي مما يصيب القوم فإنه

استئناف للإخبار بنجاتهم لعدم إجرامهم أو لبيان ما فهم من الاستثناء من مطلق عدم شمول العذاب لهم فإن ذلك قد يكون يكون حالهم بين بين أو لتعليله فإن من تعلق بهم التنجية يمنجى من شمول العذاب أو منقطع من قوم وقوله تعالى إنا لمنجوهم متصل بآل لوط جار مجرى خير لكن وعلى هذا فقوله تعالى

٦٠

إلا امرأته استثناء من آل لوط أو من ضميرهم وعلى الأول من الضمير خاصة لاختلاف الحكمين اللّهم إلا أن يجعل إنا لمنجوهم اعتراضا وقرىء بالتخفيف

قدرنا إنا لمن الغابرين الباقين مع الكفرة لتهلك معهم وقرىء قدرنا بالتخفيف وإنما علق فعل التقدير مع اختصاص ذلك بأفعال القلوب لتضمنه معنى العلم ويجوز حمله على معنى قلنا لأنه بمعنى القضاء قول وأصله جعل الشيء على مقدار غيره وإسنادهم له إلى أنفسهم وهو فعل اللّه سبحانه لما لهم من الزلفى والاختصاص

٦١

فلما جاء آل لوط المرسلون شروع في بيان كيفية إهلاك المجرمين وتنجية آل لوط حسبما أجمل في الاستثناء ثم فصل في التعليل نوع تفصيل ووضع المظهر موضع المضمر للإيذان بأن مجيئهم لتحقيق ما أرسلو به من الإهلاك والتنجية وليس المراد به ابتداء مجيئهم بل مطلق كينونتهم عند آل لوط فإن ما حكى عنه عليه الصلاة و السلام بقوله تعالى

٦٢

قال إنكم قوم منكرون إنما قاله عليه الصلاة و السلام بعدا للتيا والتي حين ضاقت عليه الحيل وعيت به العلل لما لم يشاهد من المرسلين عند مقاساته الشدائد ومعاناته المكايد من قومه الذين يريدون بهم ما يريدون ما هو المعهود والمعتاد من الإعانة والإمداد فيما يأتي ويذر عند تجشمه في تخليصهم إنكارا لخذلانهم له وترك نصرته في مثل تلك المضايقة المعترية له بسببهم حيث لم يكونوا مباشرين معه لأسباب المدافعة والممانعة حتى ألجأته إلى أن قال لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد حسبما فصل في سورة هود لا أنه قاله عند ابتداء ورودهم له خوفا أن يطرقوه بشر كما قيل كيف لا وهم بجوابهم المحكي بقوله تعالى

٦٣

قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون أي بالعذاب الذي كنت تتوعدهم به فيمترون فيه ويكذبونك قد قشروا العصا وبينوا له عليه الصلاة و السلام جلية الأمر فأنى يمكن أن يعتريه بعذ ذلك المساءة وضيق الذرع وليست كلمة بل إضرابا عن موجب الخوف المذكور على معنى ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل بما يسرك وتقر به عينيك بل هي إضراب عما فهمه عليه الصلاة و السلام من ترك النصرة له والمعنى ما خذلناك وما خلينا بينك وبينهم بل جئناك بما يدمرهم من العذاب الذي كانوا يكذبونك حين كنت تتوعدهم به ولعل تقديم هذه المقاولة على ما جرى بينه وبين أهل المدينة من المجادلة للمسارعة إلى ذكر بشارة لوط عليه الصلاة و السلام بإهلاك قومه وتنجية آله عقيب ذكر بشارة إبراهيم عليه الصلاة و السلام بهما وحيث كان مستدعيا لبيان كيفية النجاة وترتيب مباديها أشير إلى ذلك إجمالا ثم ذكر ما فعل القوم وما فعل بهم ولم يبال بتغيير الترتيب الوقوعي ثقة بمراعاته في مواقع أخر ونسبة المجىء بالعذاب إليه عليه الصلاة و السلام مع أنه نازل بالقوم بطريق تفويض أمره إليه لا بطريق نزوله عليه كأنهم جاءوه وفوضوا أمره إليه ليرسله عليهم حسبما كان يتوعدهم به

٦٤

وأتيناك بالحق أي باليقين الذي لا مجال فيه للإمتراء والشك وهو عذابهم عبر عنه بذلك تنصيصا على نفي الإمتراء عنه أو المراد بالحق الإخبار بمجىء العذاب المذكور وقوله تعالى

وإنا لصادقون تأكيد له أي أتيناك فيما قلنا بالخبر الحق أي المطابق للواقع وإنا لصادقون في ذلك الخبر أو في كل كلام فيكون كالدليل على صدقهم فيه وعلى الأول تأكيد إثر تأكيد وقوله تعالى

٦٥

فأسر بأهلك شروع في ترتيب مبادىء النجاة أي إذهب بهم في الليل وقرىء بالوصل وكلاهما من السرى وهو السير في الليل وقرىء فسر من السير

بقطع من الليل بطائفة منه أو من آخرة قال ... افتحي الباب وانظري في النجوم ... كم علينا من قطع ليل بهيم ...

وقيل هو بعد ما مضى منه شيء صالح

واتبع أدبارهم وكن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على أحوالهم ولعل إيثار الاتباع على السوق مع أنه المقصود بالأمر للمبالغة في ذلك إذ السوق ربما يكون بالتقدم على بعض مع التأخر عن بعض ويلزمه عادة الغفلة عن حال المتأخر والالتفات المنهي عنه بقوله تعالى

ولا يلتفت منكم أي منك ومنهم أحد فيرى ما وراءه من الهول فلا يطيقه أو يصيبه ما أصابهم أو ولا ينصرف منكم

أحد ولا يتخلف لغرض فيصيبه العذاب

وقيل نهوا عن ذلك ليوطنوا أنفسهم على المهاجرة أو هو نهي عن ربط القلب بما خلفوه أو هو للإسراع في السير فإن الملتفت قلما يخلو عن أدنى وقفه وعدم ذكر استثناء المرأة من الإسراء والالتفات لا يستدعي عدم وقوعه فإن ذلك لما عرفت مرارا للإكتفاء بما ذكر في مواضع أخر

وامضوا حيث تؤمرون إلى حيث أمركم اللّه تعالى بالمضي إليه وهو الشام أو مصر وحذف الصلتين على الاتساع المشهور وإيثار المضي إلى ما ذكر على الوصول إليه واللحوق به للإيذان بأهمية النجاة ولمراعاة المناسبة بينه وبين ما سلف من الغابرين

٦٦

وقضينا أي أوحينا

إليه مقضيا ولذلك عدى بإلى

ذلك الأمر مبهم يفسره

أن دابر هؤلاء مقطوع على أنه بدل منه وإيثار اسم الإشارة على الضمير للدلالة على اتصافهم بصفاتهم القبيحة التي هي مدار ثبوت الحكم أي دابر هؤلاء المجرمين وإيراد صيغة المفعول بدل صيغة المضارع لكونها أدخل في الدلالة على الوقوع وفي لفظ القضاء والتعبير عن العذاب بالأمر والإشارة إليه بذلك وتأخيره عن الجار والمجرور وإبهامه أولا ثم تفسيره ثانيا من الدلالة على فخامة الأمر وفظاعته مالا يخفى وقرىء بالكسر على الاستئناف والمعنى أنهم يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد مصبحين داخلين في الصبح وهو حال من هؤلاء أو من الضمير وفي مقطوع وجمعه للحمل على المعنى فإن دابر هؤلاء بمعنى مدبرى هؤلاء

٦٧

وجاء أهل المدينة شروع في حكاية ما صدر عن القوم عند وقوفهم على مكان الأضياف من الفعل والقول وما ترتب عليه معد ما أشير إلى ذلك إجمالا حسبما نبه عليه أي جاء أهل سدوم منزل لوط عليه الصلاة و السلام

يستبشرون أي مستبشرين بأضيافه عليه الصلاة و السلام طمعا فيهم

٦٨

قال إن هؤلاء ضيفي الضيف حيث كان مصدرا في الاصل أطلق على الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث وإطلاقه على الملائكة بحسب اعتقاده عليه الصلاة و السلام لكونهم في زي الضيف والتأكيد ليس لإنكارهم بذلك بل لتحقيق اتصافهم به وإظهار اعتنائه بشأنهم وتشمره لمراعاة حقوقهم وحمايتهم من السوء ولذلك قال

فلا تفضحون أي عندهم بأن تتعرضوا لهم بسوء فيعلموا أنه ليس لي عندكم قدر وحرمة أولا تفضحون بفضيحة ضيفي فإن من أسىء الى ضيفه فقد أسيء إليه يقال فضحه فضحا وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار

٦٩

واتقوا اللّه في مباشرتكم لما يسؤوني

ولاتخزون أي لا تذلوني ولا نهينوني بالتعرض لمن أجرتهم بمثل تلك الفعلة الخبيثة وحيث كان التعرض لهم بعد أن نهاهم عليه الصلاة و السلام عن ذلك بقوله فلا تفضحون أكثر تأثيرا في جانبه عليه الصلاة و السلام وأجلب للعار إليه إذ التعرض للجار قبل شعور المجير بذلك ربما يتسامح فيه

وأما بعد الشعور به والمناصبة لحمايته والذب عنه فذاك أعظم العار عبر عليه الصلاة و السلام عما يعتريه من جهتهم بعد النهي المذكور بسبب لجاجهم ومجاهرتهم بمخالفته بالخزي وأمرهم بتقوى اللّه تعالى في ذلك وإنما لم يصرح بالنهي عن نفس تلك الفاحشة لأنه كان يعرف أنه لا يفيدهم ذلك وقيل المراد تقوى اللّه تعالى في ركوب الفاحشة ولا يساعده توسيطه بين النهيين عن أمرين متعلقين بنفسه عليه الصلاة و السلام وكذلك قوله تعالى

٧٠

أو لم ننهك عن العالمين أي عن التعرض لهم بمنعهم عنا وضيافتهم والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر أي الم نتقدم إليك ولم ننهك عن ذلك فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد من الغرباء بالسوء وكان عليه الصلاة و السلام ينهاهم عن ذلك بقدر وسعه وكانوا قد نهوه عليه الصلاة و السلام عن أن يجير أحدا فكأنهم قالوا ما ذكرت من الفضيحة والخزي إنما جاءك من قبلك لا من قبلنا إذ لولا تعرضك لما نتصدى له لما اعتراك تلك الحالة ولما رآهم لا يقلعون عما هم عليه

٧١

قال هؤلاء بناتي يعني نساء القوم فإن نبي كل أمة بمنزلة أبيهم أو بناته حقيقة أي فتزوجوهن وقد كانوا من قبل يطلبونهن ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لعدم مشروعية المناكحة بين المسلمات والكفار وقد فصل في سورة هود

إن كنتم فاعلين أي قضاء الوطر أو ما أقول لكم

٧٢

لعمرك قسم من اللّه تعالى بحياة النبي صلى اللّه عليه و سلم أو من الملائكة بحياة لوط عليه الصلاة و السلام والتقدير لعمرك قسمي وهي لغة في العمر يختص به القسم إيثارا للخفة لكثرة دورانه على الآلسنة

إنهم لفي سكرتهم غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ والصواب

يعمهون يتحيرون ويتمادون فكيف يسمعون النصح

وقيل الضمير لقريش والجملة اعتراض

٧٣

فأخذتهم الصيحة أي الصيحة العظيمة الهائلة

وقيل صيحة جبريل عليه الصلاة و السلام

مشرقين داخلين في وقت شروق الشمس

٧٤

فجعلنا عاليها عالي المدينة أو عالي قراهم وهو المفعول الأول لجعلنا وقوله تعالى

سافلها مفعول ثان له وهو أدخل في الهول والفظاعة من العكس كما مر

وأمطرنا عليهم في تضاعيف ذلك قبل تمام الانقلاب

حجارة كائنة

من سجيل من طين متحجرا أو طين عليه كتاب وقد فصل ذلك في سورة هود

٧٥

إن في ذلك أي فيما ذكر من القصة

لآيات لعلامات يستدل بها على حقيقة الحق

للمتوسمين أي المتفكرين المتفرسين الذين يثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته

٧٦

وإنها أي المدينة أو القرى

لبسبيل مقيم أي طريق ثابت يسلكه الناس ويرون آثارها

٧٧

إن في ذلك فيما ذكر من المدينة أو القرى أو في كونها بمر أي من الناس يشاهدونها في ذهابهم وإيابهم

لآية عظيمة

للمؤمنين باللّه ورسوله فإنهم الذين يعرفون أن ما حاق بهم العذاب الذي ترك ديارهم بلا قع إنما حاق بهم لسوء صنيعهم

وأما غيرهم فيحملون ذلك على الاتفاق أو الأوضاع الفلكية وإفراده الآية بعد جمعها فيما سبق لما أن المشاهد ههنا بقية الآثار لا كل القصة كما فيما سلف

٧٨

وإن كان إن مخففة من إن وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف واللام هي الفارقة أي وإن الشأن كان

أصحاب الأيكة وهو قوم شعيب عليه الصلاة و السلام والأيكة الشجرة الملتفة المتكاثفة وكان عامة شجرهم المقل وكانوا يسكنونها فبعثه اللّه تعالى إليهم

لظالمين متجاوزين عن الحد

٧٩

فانتقمنا منهم بالعذاب روى إن اللّه سلط عليهم الحر سبعة أيام ثم بعث سحابة فالتجئوا إليها يلتمسون الروح فبعث اللّه تعالى عليهم منها نارا فأحرقتهم فهو عذاب يوم الظلة

وإنهما يعني سدوم والأيكة

وقيل الايكة ومدين فإنه عليه الصلاة و السلام كان مبعوثا إليهما فذكر أحدهما منبه على الآخر

لبإمام مبين لبطريق واضح والإمام اسم ما يؤتم به سمى به الطريق ومطمر البناء واللوح الذي يكتب فيه لأنها مما يؤتم به

٨٠

ولقد كذب أصحاب الحجر يعني ثمود

المرسلين أي صالحا فإن من كذب واحدا من الأنبياء عليهم السلام فقد كذب الجميع لاتفاقهم على التوحيد والأصول التي لا تخلف باختلاف الأمم والأعصار

وقيل المراد صالح ومن معه من المؤمنين كما قيل الخبيبون لخبيب بن عبداللّه بين الزبير وأصحابه والحجر واد بين المدينة والشام كانوا يسكنونه

٨١

وآتيناهم آياتنا وهي الآيات المنزلة على نبيهم أو المعجزات من الناقة وسقيها وشربها ودرها أو الأدلة المنصوبة لهم

فكانوا عنها معرضين إعراضا كليا بل كانوا معارضين لها حيث فعلوا بالناقة ما فعلوا

٨٢

وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين من الإنهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لوثاقتها أو من العذاب لحسبانهم أن ذلك يحميهم منه عن جابر رضي اللّه تعالى عنه أنه قال مررنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على الحجر فقال لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذارا أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء ثم زجر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم راحلته فاسرع حتى خلفها

٨٣

فإخذتهم الصيحة مصبحين وهكذا وقع في سورة هود قيل صاح بهم جبريل عليه الصلاة و السلام

وقيل أتتهم من السماء صيحة فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم وفي سورة الأعراف فأخذتهم الرجفة أي الزلزلة ولعلها من روادف الصيحة المستتبعة لتموج الهواء تموجا شديدا يفضي إليها كما مر في سورة هود

٨٤

فما أعنى عنهم ولم يدفع عنهم ما نزل بهم

ما كانوا بكسبون من بناء البيوت الوثيقة والأموال الوافرة والعدد المتكاثرة وفيه تهكم بهم والفاء لترتيب عدم الإغناء الخاص بوقت نزول العذاب حسبما كانوا يرجونه لا عدم الإغناء المطلق فإنه أمر مستمر

٨٥

وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق أي إلا خلقا ملتبسا بالحق والحكمة والمصلحة بحيث لا يلائم استمرار الفساد واستقرار الشرور ولذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعا لفسادهم وإرشادا لمن بقي إلى الصلاح أو إلا بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال كما ينبىء عنه قوله تعالى وإن الساعة لآتية فينتقم اللّه تعالى لك فيها ممن كذبك

فاصفح أي أعرض عنهم

الصفح الجميل إعراضا جميلا وتحمل أذيتهم ولا تعجل بالانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم

وقيل هي منسوخة بآية السيف

٨٦

إن ربك الذي يبلغك إلى غاية الكمال

هو الخلاق لك ولهم ولسائر الموجودات على الإطلاق

العليم بأحوالك وأحوالهم بتفاصيلها فلا يخفى عليه شيء مما جرى بينك وبينهم فهو حقيق بأن تكل جميع الأمور إليه ليحكم بينكم أو هو الذي خلقكم وعلم تفاصيل أحوالكم وقد علم أن الصفح اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح فهو تعليل للأمر بالصفح على التقديرين وفي مصحف عثمان وأبي رضي اللّه تعالى عنهما هو الخالق وهو صالح للقليل والكثير والخلاق مختص بالكثير

٨٧

ولقد آتيناك سبعا سبع آيات وهي الفاتحة وعليه عمر وعلي وابن مسعود وأبو هريرة رضي اللّه تعالى عنهم والحسن وأبو العالية ومجاهد والضحاك وسعيد ابن جبير وقتادة رحمهم اللّه تعالى

وقيل سبع سور وهي الطوال التي سابعتها الأنفال والتوبة فإنهما في حكم سورة واحدة ولذلك لم يفصل بينهما بالتسمية

وقيل يونس أو الحواميم السبع

وقيل الصحائف السبع وهي الأسباع

من المثاني بيان للسبع من التثنية وهي التكرير فإن كان المراد الفاتحة وهو الظاهر فتسميتها مثاني لتكرر قراءتها في الصلاة

وأما تكرر قراءتها في غير الصلاة كما قيل فليس بحيث يكون مدا ر للتسمية ولأنها تثني بما يقرأ بعدها في الصلاة

وأما تكرر نزولها فلا يكون وجها للتسمية لانها كانت مسماة بهذا الاسم قبل نزولها الثاني إذ السورة مكية بالاتفاق وإن كان المراد غيرها من السور فوجه كونها من المثاني أن كلا من ذلك تكرر قراءته وألفاظه أو قصصه ومواعظه أو من الثناء لاشتماله على ما هو ثناء على اللّه واحدتها مثناة أو مثنية صفة للآية

وأما الصحائف وهي الاسباع فلما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك ولما فيها من الثناء على اللّه تعالى كأنها تثني عليه سبحانه بأفعاله وصفاته الحسنى ويجوز أن يراد بالمثاني القرآن لما ذكر أولا لأنه مثنى عليه بالإعجاز أو كتب اللّه تعالى كلها فمن للتبعيض وعلى الأول للبيان

والقرآن العظيم إن أريد بالسبع الآيات أو السور فمن عطف الكل على البعض أو العام على الخاص وإن أريد به الاسباع أو كل القرآن فهو عطف أحد الوصفين على الآخر كما في قوله

... إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتائب في المزدحم ...

أي ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم

٨٨

لا تمدن عينيك لا تطمح ببصرك طموح راغب ولا تدم نظرك

إلى ما متعنا به من زخارف الدنيا وزينتها ومحاسنها وزهرتها

أزواجا منهم أصنافا من الكفرة فإن ما في الدنيا من أصناف الأموال والذخائر بالنسبة إلى ما أوتيته مستحقر لا يعبأ به أصلا وفي حديث أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه من أوتي القرآن فرأى أن احدا أوتي افضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا وروى أنه وافت من بصرى وأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجواهر وسائر الأمتعة فقال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل اللّه فقيل لهم قد أعطيتم سبع آيات وهي خير من هذه القوافل السبع

ولا تحزن عليهم حيث لم يؤمنوا ولم ينتظموا أتباعك في سلك ليتقوى بهم ضعفاء المسلمين

وقيل أو أنهم المتمتعون به ويأباه كلمة على فإن تمتعهم به لا يكون مدارا للحزن عليهم

واخفض جناحك للمؤمنين أي تواضع لهم وارفق بهم وألن جانبك لهم وطب نفسا من إيمان الأغنياء

٨٩

وقل إني أنا النذير المبين أي المنذر المظهر لنزول عذاب اللّه وحلوله

٩٠

كما أنزلنا على المقتسمين قيل إنه متعلق بقوله تعالى ولقد آتيناك الخ أي أنزلناه عليك كما أنزلنا على أهل الكتاب

٩١

الذين جعلوا القرآن عضين أي قسموه إلى حق وباطل حيث قالوا عنادا وعدوانا بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما أو اقتسموه لأنفسهم استهزاء حيث كان يقول بعضهم سورة البقرة لي وبعضهم سورة آل عمران لي وهكذا أو قسموا ما قرءوا من كتبهم وحرفوه فأقروا ببعضه وكذبوا ببعضه وحمل توسط قوله تعالى لاتمُدّنّ عينيك على إمداد ما هو المراد بالكلام من التسلية وعقب ذلك بأنه جل المقام عن التشبيه ولقد أوتي عليه الصلاة و السلام ما لم يؤت أحد قبله ولا بعده مثله

وقيل إنه متعلق بقوله إني أنا النذير المبين فإنه في قوة الأمر بالإنذار كأنه قيل أنذر قريشا مثل ما أنزلنا على المقتسمين يعني اليهود وهو ما جرى على بني قريظة والنضير بأن جعل المتوقع كالواقع وقد وقع كذلك وأنت خبير بأن ما يشبه به العذاب المنذر لا بد أن يكون محقق الوقوع معلوم الحال عند المنذرين إذ به تتحقق فائدة التشبيه وهي تأكيد الإنذار وتشديده وعذاب بني قريظة والنضير مع عدم وقوعه إذ ذاك لم يسبق به وعد ووعيد فهم منه في غفلة محصنة وشك مريب وتنزيل المتوقع منزلة الواقع له موقع جليل من الإعجاز لكن إذا صادف مقاما يقتضيه كما في قوله تعالى إنا فتحنا لك فتحا مبينا ونظائره على أن تخصيص الاقتسام باليهود بمجرد احتصاص العذاب المذكور بهم مع شركتهم للنصارى في الاقتسام المتفرع على الموافقة والمخالفة وفي الاقتسام بمعنى التحريف الشامل للكتابين بل تخصيص العذاب المذكور بهم مع كونه من نتائج الاقتسام تخصيص من غير مخصص وقد جعل الموصول مفعولا أول لأنذر أي أنذر المعضين الذين يجزءوا القرآن إلى سحر وشعر واساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة ايام الموسم فقعد كل منهم في مدخل لينفروا الناس عن الإيمان برسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول بعضهم لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر ويقول الآخر شاعر والآخر كذاب فأهلكهم اللّه تعالى يوم بدر وقبله بآفات وفيه مع ما فيه من الاشتراك لما سبق في عدم كون العذاب الذي شبه به العذاب المنذر واقعا ولا معلوما للمنذرين ولا موعود الوقوع أنه لا داعي إلى تخصيص وصف التعضية بهم وإخراج المقتسمين من بينهم مع كونهم أسوة لهم في ذلك فإن وصفهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بما وصفوا من السحر والشعر والكذب متفرع على وصفهم للقرآن بذلك وهل هو إلا نفس التعضية ولا إخراجهم من حكم الإنذار على أن ما نزل بهم من العذاب لم يكن من الشدة بحيث يشبه به عذاب غيرهم ولا مخصوصا بهم بل عاما لكلا الفريقين وغيرهم مع أن بعض المنذرين كالوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود ابن المطلب قد هلكوا قبل مهلك أكثر المقتسمين يوم بدر ولا إلى تقديم المفعول الثاني على الأول كما ترى

وقيل إنه وصف لمفعول النذير اقيم مقامه والمقتسمون هم القاعدون في مداخل مكة كما حرر.

وفيه مع ما مر أن قوله تعالى كما أنزلنا صريح في أنه من قول اللّه تعالى لا من قول الرسول صلى اللّه عليه و سلم والاعتذار بأن ذلك من باب ما يقوله بعض خواص الملك أمرنا بكذا وإن كان الأمر هو الملك حسبما سلف في قوله تعالى قدرنا إنها لمن الغابرين تعسف لا يخفى وأن إعمال الوصف الموصوف مما لم يجوزه البصريون فلا بد من الهرب إلى مسلك الكوفيين أو المصير إلى جعله مفعولا غير صريح أي أنا النذير المبين بعذاب مثل عذاب المقتسمين

وقيل المراد بالمقتسمين الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحا عليه الصلاة و السلام فأهلكهم اللّه تعالى وأنت تدرى أن عذابهم حيث كان متحققا ومعلوما للمنذرين حسبما نطق به القرآن العظيم صالح لأن يقع مشبها به العذاب المنذر لكن الموصول المذكور عقيبه حيث لم يمكن كونه صفة للمقتسمين حينئذ فسواء جعلناه مفعولا أول للنذير أو لما دل هو عليه من أنذر لا يكون للتعرض لعنوان التعضية في حيز الصلة ولا لعنوان الإقتسام بالمعنى المزبور في حيز المفعول الثاني فائدة لما أن ذلك إنما يكون للإشعار بعلية الصلة والصفة للحكم الثابت للموصول والموصوف فلا يكون هناك وجه شبه يدور عليه تشبيه عذابهم خاصة لعدم اشتراكهم في السبب فإن المعضين بمعزل من التقاسم على التثبيت الذي هو السبب لهلاك أولئك كما أن أولئك بمعزل من التعضية التي هي السبب لهلاك هؤلاء ولا علاقة بين السببين مفهوما ولا وجودا تصحح وقوع أحدهما في جانب والآخر في جانب واتفاق الفريقين على مطلق الاتفاق على الشر المفهوم من الاتفاق على الشر المخصوص الذي هو التثبيت المدلول عليه بالتقاسم غير مفيد إذ لا دلالة لعنوان التعضية على ذلك وإنما يدل عليه اقتسام المداخل وجعل الموصول مبتدأ على أن خبره الجملة القسمية لا يليق بجزالة التنزيل وجلالة شأنه الجليل.

إذا عرفت هذا فأعلم أن الأقرب من الأقوال المذكورة أنه متعلق بالأول وأن المراد بالمقتسمين أهل الكتابين وأن الموصول مع صلته صفة مبينة لكيفية اقتسامهم ومحل الكاف النصب على المصدرية وحديث جلالة المقام عن التشبيه من لوائج النظر الجليل والمعنى لقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم إيتاء مماثلا لإنزال الكتابين على أهلهما وعدم التعرض لذكر ما أنزل عليهم من الكتابين لأن الغرض بيان المماثلة بين الإيتاءين لا بين متعلقيهما والعدول عن تطبيق ما في جانب المشبه به على ما في جانب المشبه بأن يقال كما آتينا المقتسمين حسبما وقع في قوله تعالى الذين آتيناهم الكتاب الخ للتنبيه على ما بين الإيتاءين من التنائي فأن الأول على وجه التكرمة والامتنان وشتان بينه وبين الثاني.

ولا يقدح ذلك في وقوعه مشبها به فإن ذلك إنما هو لمسلميته عندهم وتقديم وجوده على المشبه زمانا لا لمزية وتعود إلى ذاته كما في الصلاة الخليلية فإن التشبيه فيها ليس لكون رحمة اللّه تعالى الفائضة على إبراهيم عليه الصلاة و السلام وآله أتم وأكمل مما فاض على النبي صلى اللّه عليه و سلم وإنما ذلك للتقدم في الوجود والتنصيص عليه في القرآن العظيم فليس في التشبيه شائبة إشعار بأفضلية المشبه به من المشبه فضلا عن إيهام افضلية ما تعلق به الأول مما تعلق به الثاني وإنما ذكروا بعنوان الاقتسام إنكارا لاتصافهم به مع تحقق ما ينفيه من الإنزال المذكور وإيذانا بانه كان من حقهم أن يؤمنوا بكله حسب إيمانهم بما أنزل عليهم بحكم الاشتراك في العلة والاتحاد في الحقيقة التي هي مطلق الوحي وتوسيط قوله تعالى لاتمدن الخ لكمال اتصاله بما هو المقصود من بيان حال ما أوتي النبي صلى اللّه عليه و سلم ولقد بين أولا علو شأنه ورفعة مكانه بحيث يستوجب اغتباطه عليه الصلاة و السلام بمكانه واستغناءه به عما سواه ثم نهى عن الالتفات إلى زهرة الدنيا وعبر عن إيتائها لأهلها بالتمتيع المنبىء عن وشك زوالها عنهم ثم عن الحزن بعدم إيمان المنهمكين فيها بمراعاة المؤمنين والاكتفاء بهم عن غيرهم وبإظهار قيامه بمواجب الرسالة ومراسم النذارة حسبما فصل في تضاعيف ما أوتي من القرآن العظيم ثم رجع إلى كيفية إيتائه على وجه أدمج فيه ما يزيح شبه المنكرين ويستنزلهم عن العناد من بيان مشاركته لما لا ريب لهم في كونه وحيا صادقا فتأمل واللّه عنده علم الكتاب هذا وقد قيل المعنى قل إني أنا النذير المبين كما قد أنزلنا في الكتب إنك ستأتي نذيرا على أن المقتسمين أهل الكتاب انتهى يريد أن ما في كما موصولة والمراد بالمشابهة المستفادة من الكاف الموافقة وهي مع ما في حيزها في محل النصب على الحالية من مفعول قل أي قل هذا القول حال كونه كما أنزلنا على أهل الكتابين أي موافقا لذلك فالأنسب حينئذ حمل الاقتسام على التحريف ليكون وصفهم بذلك تعريضا بما فعلوا من تحريفهم وكتمانهم لنعت النبي صلى اللّه عليه و سلم وقوله تعالى

عضين جمع عضة وهي الفرقة أصلها عضوة فعلة من عضى الشاة تعضية إذا جعلها أعضاء وإنما جمعت جمع السلامة جبرا للمحذوف كسنين وعزين والتعبير عن تجزئة القرآن بالتعضية التي هي تفريق الأعضاء من ذى الروح المستلزم لإزالة حياته وإبطال اسمه دون مطلق التجزئة والتفريق اللذين ربما يوجدان فيما لا يضره التبعيض من المثليات للتنصيص على كمال قبح ما فعلوه بالقرآن العظيم

وقيل هي فعلة من عضهته إذا بهته وعن عكرمة العضة السحر بلسان قريش فنقصانها على الأول واو وعلى الثاني هاء

٩٢

فوربك لنسألنهم أجمعين أي لنسألن يوم القيامة أصناف الكفرة من المقتسمين وغيرهم سؤال توبيخ وتقريع

٩٣

عما كانوا يعملون في الدنيا من قول وفعل وترك فيدخل فيه ما ذكر من الاقتسام والتعضية دخولا أوليا ولنجزينهم بذلك جزاءا موفورا وفيه من التشديد وتأكيد الوعيد مالا يخفى والفاء لترتيب الوعيد على أعمالهم التي ذكر بعضها وفي التعرض لوصف الربوبية مضافا إليه عليه الصلاة و السلام إظهار اللطف به عليه الصلاة و السلام

٩٤

فاصدع بما تؤمر فاجهر به من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا أو افرق بين الحق والباطل وأصله الإبانة والتمييز وما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف أي ما تؤمر به من الشرائع المودعة في تضاعيف ما أوتيته من المثاني السبع والقرآن العظيم

وأعرض عن المشركين أي لا تلتفت إلى ما يقولون ولا تبال بهم ولا تتصد للإنتقام منهم

٩٥

إنا كفيناك المستهزئين بقمعهم وتدميرهم قيل كانوا خمسة من اشراف قريش الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والحرث بن قيس بن الطلاطلة والاسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب يبالغون في إيذاء النبي صلى اللّه عليه و سلم والاستهزاء به فنزل جبريل عليه الصلاة و السلام فقال قد أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظيما لأخذه فاصاب عرقافي عقبه فقطه فمات وأومأ إلى أخمص العاص فدخلت فيه شوكة فقال لدغت لدغت وانتفخت رجله حتى صارت كالرحى فمات واشار إلى عينى الأسود بن المطلب فعمى وإلى أنف الحرث فامتخط قيحا فمات وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في اصل شجرة فجعل ينطح براسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات

٩٦

الذين يجعلون مع اللّه إلها آخر وصفهم بذلك تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وتهوينا للخطب عليه بإعلام أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء به عليه الصلاة و السلام بل اجترءوا على العظيمة التي هي الإشراك باللّه سبحانه

فسوف يعلمون عاقبة ما يأتون ويذرون

٩٧

ولقد نعلم أنك بضيق صدرك بما يقولون من كلمات الشرك والطعن في القرآن والاستهزاء به وبك وتحلية الجملة بالتأكيد لإفادة تحقيق ما تتضمنه من التسلية وصيغة الاستقبال لإفادة استمرار العلم حسب استمرار متعلقة باستمرار ما يوجبه من أقوال الكفرة

٩٨

فسبح بحمد ربك فافزع إلى اللّه تعالى فيما نابك من ضيق الصدر والحرج بالتسبيح والتقديس ملتبسا بحمده وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة و السلام مالا يخفى من إظهار اللطف به عليه الصلاة و السلام والإشعار بعلة الحكم أعني الأمر بالتسبيح والحمد

وكن من الساجدين أي المصلين يكفيك ويكشف الغم عنك أو فنزهه عما يقولون ملتبسا بحمده على أن هداك للحق المبين وعنه عليه الصلاة و السلام أنه كان إذا حزبه أمرفرع إلى الصلاة

٩٩

واعبد ربك دم على ما أنت عليه من عبادته تعالى وإيثار الإظهار بالعنوان السالف آنفا لتأكيد ما سبق من إظهار اللطف به عليه الصلاة و السلام والإشعار بعلة الأمر بالعبادة

حتى يأتيك اليقين أي الموت فإنه متيقن اللحوق بكل حي مخلوق وإسناد الإتيان إليه للإيذان بأنه متوجه إلى الحي طالب للوصول إليه والمعنى دم على العبادة ما دمت حيا من غير إخلال بها لحظة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنا بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد صلى اللّه عليه و سلم

﴿ ٠