٨٤

إنا مكنا له في الأرض وظاهر أنه متناول للتمكين في الدين وكماله بالنبوة ولقوله تعالى

وآتيناه من كل شيء سببا ومن جملة الأشياء النبوة ولقوله تعالى قلنا يا ذا القرنين ونحو ذلك

وقيل كان ملكا لما روي أن عمر رضي اللّه عنه سمع رجلا يقول لآخر يا ذا القرنين فقال اللّهم غفرا أما رضيتم أن تتسموا بأسماء الأنبياء  حتى تسميتم بأسماء الملائكة قال ابن كثير والصحيح أنه ما كان نبيا ولا ملكا وإنما كان ملكا صالحا عادلا ملك الأقاليم وقهر أهلها من الملوك وغيرهم ودانت له البلاد وأنه كان داعيا إلى اللّه تعالى سائرا في الخلق بالمعدلة التامة والسلطان المؤيد المنصور وكان الخضر على مقدمة جيشه بمنزلة المستشار الذي هو من الملك بمنزلة الوزير وقد ذكر الأزرقي وغيره أنه أسلم على يدي إبراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام فطاف معه بالكعبة هو وإسماعيل عليهم السلام وروي أنه حج ماشيا فلما سمع إبراهيم عليه الصلاة و السلام بقدومه تلقاه ودعا له وأوصاه بوصايا ويقال إنه أتى بفرس ليركب فقال لا أركب في بلد فيه الخليل فعند ذلك سخر له السحاب وطوى له الأسباب وبشره إبراهيم عليه الصلاة و السلام بذلك فكانت السحاب تحمله وعساكره وجميع آلاتهم إذا أرادوا غزوة قوم وقال أبو الطفيل سئل عنه على كرم اللّه وجهه أكان نبيا أم ملكا فقال لم يكن نبيا ولا ملكا لكن كان عبدا أحب اللّه فأحبه وناصح اللّه فناصحه سخر له السحاب ومد له الأسباب واختلف في وجه تسميته بذي القرنين فقيل لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها

وقيل لأنه ملك الروم وفارس

وقيل الروم والترك

وقيل لأنه كان في رأسه أو في تاجه ما يشبه القرنين

وقيل لأنه كان له ذؤابتان

وقيل لأنه كانت صفحتا رأسه من النحاس

وقيل لأنه دعا الناس إلى اللّه عز و جل فضرب

بقرنه الأيمن فمات ثم بعثه اللّه تعالى فضرب بقرنه الأيسر فمات ثم بعثه اللّه تعالى

وقيل لأنه رأى في منامه أنه صعد الفلك فأخذ بقرني الشمس

وقيل لأنه انقرض في عهده قرنان

وقيل لأنه سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه

وقيل لقب به لشجاعته هذا

وأما ذو القرنين الثاني فقد قال ابن كثير أنه الاسكندر بن فيليس بن مصريم بن هرمس بن ميطون بن رومي بن ليطي بن يونان ابن يافث بن نونه بن شرخون بن رومية بن ثونط بن نوفيل بن رومي بن الأصفر بن العنز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام كذا نسبه ابن عساكر المقدوني اليوناني المصري باني الإسكندرية الذي يؤرخ بأيامه الروم وكان متأخرا عن الأول بدهر طويل أكثر من ألفي سنة كان هذا قبل المسيح عليه السلام بنحو من ثلاثمائة سنة وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف وهو الذي قتل دارا ابن دار أو أذل ملوك الفرس ووطئ أرضهم ثم قال ابن كثير وإنما بينا هذا لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد وأن المذكور في القرآن العظيم هو هذا المتأخر فيقع بذلك خطأ كبير وفساد كثير كيف لا والأول كان عبدا صالحا مؤمنا وملكا عادلا وزيره الخضر عليه الصلاة و السلام وقد قيل إنه كان نبيا

وأما الثاني فقد كان كافرا وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف وقد كان ما بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة فأين هذا من ذاك انتهى قلت المقدوني نسبة إلى بلد من بلاد الروم غربي دار السلطنة السنية قسطنطينية المحمية لا زالت مشحونة بالشعائر الدينية بينهما من السافة مسيرة خمسة عشرة يوما أو نحو ذلك عند مدينة سيروز اسمها بلغة اليونانيين مقدونيا كانت سرير ملك هذا الإسكندر وهي اليوم بلقع لا يقيم بها أحد ولكن فيها علائم تحكى كمال عظمها في عهد عمرانها ونهاية شوكة واليها وسلطانها ولقد مررت بها عند القفول من بعض المغازي السلطانية فعاينت فيها من تعاجيب الآثار ما فيه عبرة لأولى الأبصار قل لهم في الجواب سأتلو

عليكم أي سأذكر لكم

منه أي من ذي القرنين

ذكرا أي نبأ مذكور أو حيث كان ذلك بطريق الوحي المتلو حكاية عن جهة اللّه عز و جل قيل سأتلو أو سأتلو في شأنه من جهته تعالى ذكرا أي قرآنا والسين للتأكيد والدلالة على التحقيق المناسب لمقام تأييده عليه الصلاة و السلام وتصديقه بإنجاز وعده أي لا أترك التلاوة البتة كما في قول من قال

... سأشكر عمرا إن تراخت منيتى ... أيادى لم تمنى وإن هي جلت ...

لا الدلالة على أن التلاوة ستقع فيما يستقبل كما قيل لأن هذه الآية ما نزلت بانفرادها قبل الوحي بتمام القصة بل موصولة بما بعدها ريثما سألوه صلى اللّه عليه و سلم عنه وعن الروح وعن أصحاب الكهف فقال لهم صلى اللّه عليه و سلم ائتوني غدا أخبركم فأبطأ عليه الوحي خمسة عشرة يوما أو أربعين كما ذكر فيما سلف وقوله عز و جل إنا مكنا لَهُ في الأرض شروع في تلاوة الذكر المعهود حسبما هو الموعود والتمكين ههنا الإقدار وتمهيد الأسباب يقال مكنه ومكن له ومعنى الأول جعله قادرا وقويا ومعنى الثاني جعل له قدرة وقوة ولتلازمها في الوجود وتقاربهما في المعنى يستعمل كل منهما في محل الآخر كما في قوله عز وعلا مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم أي جعلناهم

قادرين من حيث القوى والأسباب والآلات على أنواع التصرفات فيها ما لم نجعله لكم من القوة والسعة في المال والاستظهار بالعدد والأسباب فكأنه قيل ما لم نمكنكم فيها أي ما لم نجعلكم قادرين على ذلك فيها أو مكنا لهم في الأرض ما لم نمكن لكم وهكذا إذا كان التمكين مأخوذا من المكان بناء على توهم ميمه أصلية كما أشير إليه في سورة يوسف عليه الصلاة و السلام والمعنى إنا جعلنا له مكنة وقدرة على التصرف في الأرض من يحث التدبير والرأي والأسباب حيث سخر له السحاب ومدله في الأسباب وبسط له النور وكان الليل والنهار عليه سواء وسهل عليه السير في الأرض وذللت له طرقها وآتيناه من كل شيء أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه سببا أي طريقا يوصله إليه وهو كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة

﴿ ٨٤