ÓõæÑóÉõ Øٰåٰ ãóßøöíøóÉñ

æóåöíó ãöÇÆóÉñ æÎóãúÓñ æËóáÇóËõæäó ÂíóÉð

سورة طه

١

طه فخمهما قالون وابن كثير وابن عامر وحفص ويعقوب على الأصل والطاء وحده أبو عمرو وورش لاستعلائه

وأمالهما الباقون وهو من الفواتح التي يصدر بها السور الكريمة وعليه جمهور المتقنين

وقيل معناه يا رجل وهو مروي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة والكلبي إلا أنه عند سعيد على اللغة النبطية وعند قتادة على السريانية وعند عكرمة على الحبشية وعند الكلبي على لغة عكا

وقيل عكل وهي لغة يمانية قالوا إن صح فلعل أصله يا هذا فتصرفوا فيه بقلب الياء طاء وحذف ذا من هذا وما استشهد به من قول الشاعر

... إن السفاهة طه في خلائقكم ... لا قدس اللّه أخلاق الملاعين ...

ليس بنص في ذلك لجواز كونه قسما كما في حم لا ينصرون وقد جوز أن يكون الأصل طاها بصيغة الأمر من الوطء فقلبت الهمزة في يطأ ألفا لانفتاح ما قبلها كما في قول من قال لا هناك المرتع وها ضمير الأرض على أنه خطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بأن يطأ الأرض بقدميه لما كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه مبالغة في المجاهدة ولكن يأباه كتابتهما على صورة الحرف كما تأبى التفسير يا رجل فإن الكتابة على صور الحرف مع كون التلفظ بخلافه من خصائص حروف المعجم وقرئ طه إما على أن أصله طأ فقلب همزته هاء كما في أمثال هرقت أو قلبت الهمزة في يطأ ألفا كما مر ثم بنى منه الأمر والحق به هاء السكت

وأما على أنه اكتفى في التفظ بشطري الاسمين واقيما مقامهما في الدلالة على المسميين فكأنهما اسماهما الدالان عليهما وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول من قال أو اكتفى بشطري الكلمتين وعبر عنهما باسمهما وإلا فالشطران لم يذكرا من حيث إنهما مسميان لاسميهما ليقعا معبرا عنهما بل من حيث إنهما جزءان لهما قد اكتفى بذكرهما عن ذكرهما ولذلك وقع التلفظ بأنفسهما لا بأسميهما بأن يراد بضمير التثنية في الموضعين الشطران من حيث هما مسميان لا من حيث هما جزءان للاسمين ويراد باسمهما الشطران من حيث هما قائمان مقام الاسمين فالمعنى اكتفى في التلفظ بشطري الكلمتين أي الاسمين فعبر عنهما أي عن الشطرين من حيث هما مسميان بهما من حيث هما قائمان مقام الاسمين

وأما حمله على معنى أنه اكتفى في الكتابة بشطري الكلمتين يعني طا على تقديري كونه أمرا وكونه حرف نداءوها على تقديري كونها كناية عن الأرض وكونها حرف تنبيه وعدل عن ذينك الشطرين في التلفظ باسمهما فبين البطلان كيف وطاؤها على ما ذكر من التقادير ليسا باسمين للحرفين المذكورين بل الأول أمر أو حرف نداء والثاني ضمير الأرض أو حرف تنبيه على أن كتابة صورة الحرف والتلفظ بغيره من خواص حروف المعجم كما مر فالحق ما سلف من أنها من الفواتح إما مسرودة على نمط التعديد بأحد الوجهين المذكورين في مطلع سورة البقرة فلا محل لها من الإعراب وكذا ما بعدها من قوله تعالى وأنزلنا عليك القرآن لتشقى فإنه استئناف مسوق لتسليته صلى اللّه عليه و سلم عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب فإن الشقاء شائع في ذلك المعنى ومنه أشقى من رائض مهر أي ما أنزلناه عليك لتتعب بالمبالغة في مكابدة الشدائد في مقاولة العتاة ومحاورة الطغاة وفرط التأسف على كفرهم به والتحسر على أن يؤمنوا كقوله له عز و جل فلعلك باخع نفسك على آثارهم الآية بل للتبليغ والتذكير وقد فعلت فلا عليك إن لم يؤمنوا به بعد ذلك أو لصرفه صلى اللّه عليه و سلم عما كان عليه من المبالغة في المجاهدة في العبادة كما يروي أنه صلى اللّه عليه و سلم كان يقوم بالليل حتى ترم قدماه قال له جبريل عليه السلام أبق على نفسك فإن لها عليك حقا أي ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك وحملها على الرياضات الشاقة والشدائد الفادحة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة

وقيل إن أبا جهل والنظر بن الحرث قالا لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إنك شقي حيث تركت دين آبائك وأن القرآن نزل عليك لتشقى به فرد ذلك بأنا ما أنزلناه عليك لما قالوا والأول هو الأنسب كما يشهد به الاستثناء الآتي هذا

وأما اسم للقرآن محله الرفع على أنه مبتدأ وما بعده خبره والقرآن ظاهر أوقع موقع العائد إلى المبتدأ كأنه قيل القرآن ما أنزلناه عليك لتشقى أو النصب على إضمار فعل القسم أو الجر بتقدير حرفه وما بعده جوابه وعلى هذين الوجهين يجوز أن يكون اسما للسورة أيضا بخلاف الوجه الأول فإنه لا يتسنى على ذلك التقدير لكن لا لأن المبتدأ يبقى حينئذ بلا عائد ولا قائم مقامه فإن القرآن صادق على الصورة لا محالة إما بطريق الاتحاد بأن يراد به القدر المشترك بين الكل والبعض أو باعتبار الاندراج إن أريد به الكل بل لأن نفي كون إنزاله للشقاء يستدعي سبق وقوع الشقاء مترتبا على إنزاله قطعا إما بحسب الحقيقة كما لو أريد به معنى التعب أو بحسب زعم الكفرة كما لو أريد به ضد السعادة ولا ريب في أن ذلك إنما يتصور في إنزال ما أنزل من قبل

وأما إنزال السورة الكريمة فليس مما يمكن ترتب الشقاء السابق عليه حتى يتصدى لنفيه عنه أما باعتبار الاتحاد فظاهر وأما باعتبار الاندراج فلأن مآله أن يقال هذه السورة

٢

ما أنزلنا عليك القرآن المشتمل عليها

لتشقى ولا يخفى أن جعلها مخبرا عنها مع أنه لا دخل لإنزالها في الشقاء السابق أصلا مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل وقوله تعالى

٣

إلا تذكرة نصب على أنه مفعول له لأنزلنا لكن لا من حيث إنه معلل بالشقاء على معنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بتبليغه إلا تذكرة الآية كقولك ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقا لما أنه يجب في أمثاله أن يكون بين العلتين ملابسة بالسببية والمسببية حتما كما في المثال المذكور وفي قولك ما شافهتك بالسوء لتتأذى إلا زجرا لغيرك فإن التأديب في الأول مسبب عن الإشفاق والتأذي في الثاني سبب لزجر

لغير وقد عرفت ما بين الشقاء والتذكرة من التنافي ولا يجدي أن يراد به التعب في الجملة المجامع للتذكرة لظهور أن لا ملابسة بينهما بما ذكر من السببية والمسببية وإنما يتصور ذلك أن لو قيل مكان إلا تذكرة إلا تكثيرا لثوابك فإن الأجر بقدر التعب ولا من حيث إنه بدل من محل لتشقى كما في قوله تعالى ما فعلوه إلا قليل لوجوب المجانسة بين البدلين وقد عرفت حالهما بل من حيث إنه معطوف عليه بحسب المعنى بعد نفيه بطريق الاستدارك المستفاد من الاستثناء المنقطع كأنه قيل ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب في تبليغه ولكن تذكرة

لمن يخشى وقد جرد التذكرة عن اللام لكونها فعلا لفاعل الفعل المعلل أي لمن من شأنه أن يخشى اللّه عز وعلا ويتأثر بالإنذار لرقة قلبه ولين عريكته أو لمن علم اللّه تعالى أنه يخشى بالتخويف وتخصيصا بهم مع عموم التذكرة والتبليغ لأنهم المنتفعون بها وقوله تعالى

٤

تنزيلا مصدر مؤكد لمضمر مستأنف مقرر لما قبله أي نزل تنزيلا أو لما تفيده الجملة الاستثنائية فإنها متضمنة لأن يقال أنزلناه للتذكرة والأول هو الأنسب بما بعده من الالتفات أو منصوب على المدح والإختصاص

وقيل هو منصوب يخشى على المفعولية أي يخشى تنزيلا من اللّه تعالى وأنت خبير بأن تعليق الخشية والخوف ونظائرهما بمطلق التنزيل غير معهود نعم قد يعلق ذلك ببعض أجزائه المشتملة على الوعيد ونظائره كما في قوله تعالى يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم

وقيل هو بدل من تذكرة لكن لا على أنه مفعول له لأنزلنا إذلا يعلل الشيء بنفسه ولا بنوعه بل على أنه مصدر بمعنى الفاعل واقع موقع الحال من الكاف في عليك أو من القرآن ولا مساغ له إلا بأن يكون قيدا لأنزلنا بعد تقييده بالقيد الأول وقد عرفت حاله فيما سلف وقرئ تنزيل على أنه خبر لمبتدأ محذوف ومن في قوله تعالى

ممن خلق الأرض والسموات العلى متعلقة بتنزيلا أو بمضمر هو صفة له مؤكدة لما في تنكيره من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ونسبة التنزيل إلى الموصول بطريق الالتفات إلى الغيبة بعد نسبته إلى نون العظمة لبيان فخامته تعالى بحسب الأفعال والصفات إثر بيانها بحسب الذات بطريق الإبهام ثم التفسير لزيادة تحقيق وتقرير وتخصيص خلقهما بالذكر مع أن المراد خلقهما بجميع ما يتعلق بهما كما يفصح عنه قوله تعالى

٦

له ما في السموات وما في الأرض الآية لأصالتهما واستتباعهما لما عداهما وتقديم الأرض لكونه أقرب إلى الحس وأظهر عنده ووصف السموات بالعلا وهو جمع العليا تأنيث الأعلى لتأكيد الفخامة مع ما فيه من مراعاة الفواصل وكل ذلك إلى قوله تعالى له الأسماء الحسنى مسوق لتعظيم شأن المنزل عز و جل المتتبع لتعظيم شأن المنزل الداعي إلى تربية المهانة وإدخال الروعة المؤدية إلى استنزال المتمردين عن رتبة العتو والطغيان واستمالهم نحو الخشية المفضية إلى التذكرة والإيمان الرحمن رفع على المدح أي هو الرحمن وقد عرفت في صدر سورة البقرة أن المرفوع مدحا في حكم الصفة الجارية في ما قبله وإن لم يكن تابعا له في الإعراب ولذلك التزموا حذف المبتدأ ليكون في صورة متعلق من متعلقاته وقد قرئ بالجر على أنه صفة صريحة للموصول وما قيل من أن الأسماء الناقصة لا يوصف منها إلا الذي وحده مذهب الكوفيين وأيا ما كان فوصفه بالرحمانية إثر وصفه بخالقية السموات والأرض للإشعار بأن خلقهما من آثار رحمته تعالى كما أن قوله تعالى رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن للإيذان بأن ربوبيته تعالى بطريق الرحمة وفيه إشارة إلى أن تنزيل القرآن ايضا من أحكام رحمته تعالى كما ينبئ عنه قوله تعالى الرحمن علم القرآن أو رفع على الابتداء واللام للعهد والإشارة إلى الموصول والخبر قوله تعالى على العرش استوى وجعل الرحمة عنوان الموضوع الذي شأنه أن يكون معلوم الثبوت للموضوع عند المخاطب للإيذان بأن ذلك أمر بين لا سترة به غنى عن الإخبار به صريحا وعلى متعلقة باستوى قدمت عليه لمراعاة الفواصل والجار والمجرور على الأول خبر مبتدأ محذوف كما في القراءة الجر وقد جوز أن يكون خبرا بعد خبر والاستواء على العرش مجاز عن الملك والسلطان متفرع على الكناية فيمن يجوز عليه القعود على السرير يقال استوى فلان على سرير الملك يراد به ملك وإن لم يقعد على السرير أصلا والمراد بيان تعلق إرادته الشريفة إيجاد الكائنات وتدبير أمرها وقوله تعالى له ما في السموات وما في الأرض سواء كان ذلك بالجزئية مهما أو بالحلول فيهما

وما بينهما من الموجودات الكائنة في الجو دائما كالهواء والسحاب أو أكثر يا كالطير أي له وحده دون غيره لا شركة ولا استقلالا كل ما ذكر ملكا وتصرفا وإحياء وأمالة وإيجادا وإعداما

وما تحت الثرى أي ما وراء الترب وذكره مع دخوله تحت ما في الأرض لزيادة التقرير روى عن محمد بن كعب أنه ما تحت الأرضين السبع وعن السدى أن الثرى هو الصخرة التي عليها الأرض السابعة

٧

وإن تجهر بالقول بيان لإحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء إثر بيان سعة سلطنته وشمول قدرته لجميع الكائنات أي وإن تجهر بذكره تعالى ودعائه فاعلم أنه تعالى غني عن جهرك

فإنه يعلم السر وأخفى أي ما أسررته إلى غيرك وشيئا أخفى من ذلك وهو ما أخطرته ببالك من غير أن تتفوه به أصلا أو ما أسررته لنفسك وأخفى منه وهو ما ستسره فيما سيأتي تنكيره للمبالغة في الخفاء وهذا إما نهي عن الجهر كقوله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول

وأما إرشاد للعباد إلى أن الجهر ليس لإسماعه سبحانه بل لغرض آخر من تصوير النفس بالذكر وتثبيته فيها ومنعها من الاشتغال بغيره وقطع الوسوسة عنها وهضمها بالتضرع ولا جؤار وقوله تعالى

٨

اللّه خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف مسوق لبيان أن ما ذكر من صفات الكمال موصوفها ذلك المعبود بالحق أي ذلك المنعوت بما ذكر من النعوت الجليلة اللّه عز و جل وقوله تعالى

لا إله إلا هو تحقيق للحق وتصريح بما تصمنه ما قبله من اختصاص الألوهية به سبحانه فإن ما أسند إليه تعالى من خلق جميع الموجودات

والرحمانية والمالكية للكل والعلم الشامل مما يقتضيه اقتضاء بينا وقوله تعالى

له الأسماء الحسنى بيان لكون ما ذكر من الخالقية والرحمانية والمالكية والعالمية أسماءه وصفاته من غير تعدد في ذاته تعالى فإنه روى أن المشركين حين سمعوا النبي صلى اللّه عليه و سلم يقول يا اللّه يا رحمن قالوا ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر والحسنى تأنيث الأحسن بوصف به الواحدة المؤنثة والجمع من المذكر والمؤنث كمآرب أخرى وآياتنا الكبرى

٩

وهل أتاك حديث موسى استئناف مسوق لتقرير أمر التوحيد الذي إليه ينتهي مساق الحديث وبيان أنه أمر مستمر فيما بين الأنبياء كابرا عن كابر وقد خوطب به موسى عليه الصلاة و السلام حيث قيل له إني أنا اللّه لا إله إلا أنا وبه ختم عليه الصلاة و السلام مقاله حيث قال إنما إلهكم اللّه الذي لا إله إلا هو وأما ما قيل من أن ذلك لترغيب النبي صلى اللّه عليه و سلم في الائتساء بموسى عليه الصلاة و السلام في تحمل أعباء النبوة والصبر على مقاساة الخطوب في تبليغ أحكام الرسالة فيأباه أن مساق النظم الكريم لصرفه عليه الصلاة و السلام عن اقتحام المشاق وقوله تعالى

١٠

إذ أي نارا ظرف للحديث

وقيل لمضمر مؤخر أي حين رأى نارا كان كيت وكيت

وقيل مفعول لمضمر مقدم أي اذكر وقت رؤيته نارا روى أنه عليه الصلاة و السلام استأذن شعبيا عليهما الصلاة والسلام في الخروج إلى أمه وأخيه فخرج بأهله وأخذ على غير الطريق مخافة من ملوك الشام فلما وافي وادي طوى وهو بالجانب الغربي من الطور ولد له ولد في ليلة مظلمة شانية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصلد زنده فبينما هو في ذلك إذ رأى نارا على يسار الطريق من جانب الطور

فقال لأهله امكثوا أي أقيموا مكانكم أمرهم عليه الصلاة و السلام بذلك لئلا يتبعوه فيما عزم عليه الصلاة و السلام من الذهاب إلى النار كما هو المعتاد لا لئلا ينتقلوا إلى موضع آخر فإنه مما لا يخطر بالبال والخطاب للمرأة والولد والخادم

وقيل لها وحدها والجمع إما لظاهر لفظ الأهل أو للتفخيم كما في قول من قال وإن شئت حرمت النساء سواكم

إني آنست نارا أي أبصرتها إبصارا بينا لا شبهة فيه

وقيل الإيناس خاص بإبصار ما يؤنس به والجملة تعليل للأمر أو المأمور به

لعلي آتيكم منها أي أجيئكم من النار

بقبس أي بشعلة مقتبسة من معظم النار وهي المرادة بالجذوة في سورة القصص وبالشهاب القبس

أو أجد على النار هدى هاديا يدلني على الطريق على أنه مصدر سمي به الفاعل مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذا هداية أو على أنه إذا وجد الهادي فقد وجد الهدى

وقيل هاديا يهديني إلى أبواب الدين فإن أفكار الأبرار مغمورة بالهمة الدينية في عامة أحوالهم لا يشغلهم عنها شاغل والأول هو الأظهر لأن مساق النظم الكريم لتسلية أهله وقد نص عليه في سورة القصص حيث قيل لعلي آتيكم منها بخير أو جذوة الآية وكلمة أو في الموضعين لمنع الخلو دون منع الجمع ومعنى الاستعلاء في قوله

تعالى على النار أن اهل النار يستعلون المكان القريب منها أو لأنهم عند الاصطلاء يكتنفونها قياما وقعودا فيشرفون عليها ولما كان الإتيان بهما مترقبا غير محقق الوقوع صدر الجملة بكلمة النرجى وهي إما علة لفعل قد حذف ثقة بما يدل عليه من الأمر بالمكث والإخبار بإيناس النار وتفاديا عن التصريح بما يوحشهم وأما حال من فاعله أي فأذهب إليها لآتيكم أو كي آتيكم أو راجيا أن آتيكم منها بقبس الآية وقد مر تحقيق ذلك مفصلا في تفسير قوله تعالى يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون

١١

فلما أتاها أي النار التي آنسها قال ابن عباس رضي اللّه عنهما رأى شجرة خضراء اطافت بها من أسفلها إلى أعلاها نار بيضاء تتقد كأضوأ ما يكون فوقف متعجبا من شدة ضوئها وشدة خضرة الشجرة فلا النار تغير خضرتها ولا كثرة ماء الشجرة تغير ضوءها قالوا النار أربعة أصناف صنف يأكل ولا يشرب وهي نار الدنيا وصنف يشرب ولا يأكل وهي نار الشجر الأخضر وصنف يأكل ويشرب وهي نار جهنم وصنف لا يأكل ولا يشرب وهي نار موسى عليه الصلاة و السلام وقالوا أيضا هي أربعة أنواع نوع له نور وإحراق وهي نار الدنيا ونوع لا نور له ولا إحراق وهي نار الأشجار ونوع له نور بلا إحراق وهي نار موسى عليه الصلاة و السلام ونوع له إحراق بلا نور وهي نار جهنم روى أن الشجرة كانت عوسجة

وقيل كانت سمرة

نودي يا موسى أي نودي فقيل يا موسى

١٢

إني أنا ربك أو عومل النداء معاملة القول لكونه ضربا منه وقرئ بالفتح أي بأني وتكرير الضمير لتأكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وأماطة الشبهة روي أنه لما نودي يا موسى قال عليه الصلاة و السلام من المتكلم فقال اللّه عز و جل أنا ربك فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان فقال أنا عرفت أنه كلام اللّه تعالى بأني أسمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء قلت وذلك لأن سماع ما ليس من شأنه ذلك من الأعضاء ليس إلا من آثار قدرة الخلاق العليم تعالى وتقدس

وقيل تلقى عليه الصلاة و السلام كلام رب العزة تلقيا روحانيا ثم تمثل ذلك الكلام لبدنه وانتقل إلى الحس المشترك فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة فاخلع نعليك أمر عليه الصلاة و السلام بذلك لأن الحفوة أدخل في التواضع وحسن الأدب ولذلك كان السلف الصالحون يطوفون بالكعبة حافين

وقيل ليباشر الوادي بقدميه تبركا به

وقيل لما أن نعليه كانا من جلد حمار غير مدبوغ

وقيل معناه فرغ قلبك من الأهل والمال والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها فإن ربوبيته تعالى له عليه الصلاة و السلام من موجبات الأمر ودواعيه وقوله تعالى إنك

بالواد المقدس تعليل لوجوب الخلع المأمور به وبيان لسبب ورود الأمر بذلك من شرف البقعة وقدسها روى أنه عليه الصلاة و السلام خلعهما وألقاهما وراء الوادي طوى بضم الطاء غير منون وقرئ منونا وقرئ بالكسر منونا وغير منون فمن نونه أوله بالمكان دون البقعة

وقيل هو كثنى من الطي مصدر لنودي أو المقدس أي نودي نداءين أو قدس مرة بعد أخرى

١٣

وأنا اخترتك أي اصطفيتك للنبوة والرسالة وقرئ وإنا اخترناك بالفتح والكسر والفاء في قوه

فاستمع لترتيب الأمر أو المأمور به على ما قبلها فإن اختياره عليه السلام لما ذكر مر موجبات الاستماع والأمر به واللام في قوله تعالى

لما يوحى متعلقة باستمع وما موصولة أو مصدرية أي فاستمع للذي يوحى إليك أو للوحي لا باخترتك كما قيل لكن لا لما قيل من أنه من باب التنازع وإعمال الأول فلا بد حينئذ من إعادة الضمير مع الثاني بل لأن قوله تعالى

١٤

إنني أنا اللّه لا إله إلا أنا بدل من ما يوحى ولا ريب في ان اختياره عليه الصلاة و السلام ليس لهذا الوحي فقط والفاء في قوله تعالى

فاعبدني لترتيب المأمور به على ما قبلها فإن اختصاص الألوهية به سبحانه وتعالى من موجبات تخصيص العبادة به عز و جل

وأقم الصلاة خصت الصلاة بالذكر وأفردت بالأمر مع اندراجها في الأمر بالعبادة لفضلها وإنافتها على سائر العبادات بما نيطت به من ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره وذلك قوله تعالى

لذكري أي لتذكرني فإني ذكري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة أو لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار أو لذكرى خاصة لا تشوبه بذكر غيري أو لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضا آخر أو لتكون ذاكرا لي غير ناس

وقيل لذكري إياها وأمري بها في الكتب أو لأن أذكرك بالمدح والثناء

وقيل لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتي لما روى أنه صلى اللّه عليه و سلم قال من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لأن اللّه تعالى يقول وأقم الصلاة لذكري وقرئ لذكري بألف التأنيث وللذكرى معروفا وللذكر بالتعريف والتنكير وقوله تعالى

١٥

إن الساعة آتية تعليل لوجوب العبادة وإقامة الصلاة أي كائنة لا محالة وإنما عبر عن ذلك بالإتيان تحقيقا لحصولها بإبرازها في معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين

أكاد أخفيها أي لا أظهرها بأن أقول إنها آتية لولا أن ما في الإخبار بذلك من اللطف وقطع الأعذار لما فعلت أو أكاد أظهرها بإيقاعها من أخفاه إذا أظهره بسلب خفائه ويؤيده القراءة بفتح الهمزة من خفاه بمعنى أظهره

وقيل أخفاه من الأضداد يجيء بمعنى الإظهار والستر وقوله تعالى

لتجزي كل نفس بما تسعى متعلق بآتية وما بينهما اعتراض أو بأخفيها على المعنى الأخير وما مصدرية أي لتجزي كل نفس بسعيها في تحصيل ما ذكر من الأمور المأمور بها وتخصيصه في معرض الغاية لإتيانها مع أنه الجزاء كل نفس بما صدر عنها سواء كان سعيا فيما ذكر أو تقاعدا عنه بالمرة أو سعيا في تحصيل ما يضاده للإيذان بأن المراد بالذات من إتيانها هو الإثابة بالعبادة

وأما العقاب بتركها فمن مقتضيات سوء اختيار العصاة وبأن المأمور به في قوة الوجوب والساعة في شدة الهول والفظاعة بحيث يوجبان على كل نفس أن تسعى في الامتثال بالأمر وتجد في تحصيل ما ينجيها من الطاعات وحينئذ تحترز عن

اقتراف ما يرديها من المعاصي وعليه مدار الأمر في قوله تعالى وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا فإن الابتلاء مع شموله لكافة المكلفين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط قد علق بالأخيرين لما ذكر من أن المقصود الأصلي من إبداع تلك البدائع على ذلك النمط الرائع إنما هو ظهور كمال إحسان المحسنين وإن ذلك لكونه على أتم الوجوه الرائقة واكمل الأنحاء اللائقة يوجب العمل بموجبه بحيث لا يحيد أحد عن سننه المستبين بل يهتدي كل فرد إلى ما يرشد إليه من مطلق الإيمان والطاعة وإنما التفاوت بينهم في مراتبهما بحسب القوة والضعف

وأما الإعراض عن ذلك والوقوع في مهاوي الضلال فبمعزل من الوقوع فضلا عن أن ينتظم في سلك الغاية لذلك الصنع البديع وإنما هو عمل يصدر عن عامله بسوء اختياره من غير مصحح له أو مسوغ هذا ويجوز أن يراد بالسعي مطلق العمل

١٦

فلا يصدنك عنها أي عن ذكر الساعة ومراقبتها

وقيل عن تصديقها والأول هو الأليق بشأن موسى عليه الصلاة و السلام وإن كان النهي بطريق التهييج والإلهاب وتقديم الجار والمجرور على قوله تعالى

ومن لا يؤمن بها لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مستشرقة له فيتمكن عند وروده لها فضل تمكن ولأن في المؤخر نوع طول ربما يخل تقديمه بجزالة النظم الكريم وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكافر عن صد موسى عليه الصلاة و السلام عن الساعة لكنه في الحقيقة نهى له عليه الصلاة و السلام عن الانصداد عنها على أبلغ وجه وآكده فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهى عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسبية من أصلها كما في قوله تعالى ولا يجرمنكم الخ فإن صد الكافر حيث كان سببا لانصداده عليه الصلاة و السلام كان النهي عنه نهيا بأصله وموجبه وإبطالا له بالكلية ويجوز أن يكون من باب النهي عن المسبب وإرادة النهي عن السبب على أن يراد نهيه عليه الصلاة و السلام عن إظهار لين الجانب للكفرة فإن ذلك سبب لصدهم إياه عليه الصلاة و السلام كما في قوله لا أرينك ههنا فإن المراد به نهي المخاطب عن الحضور لديه الموجب لرؤيته

واتبع هواه أي ما تهواه نفسه من اللذات الحسية الفانية

فتردى أي فتهلك فإن الإغفال عنها وعن تحصيل ما ينجي عن أهوالها مستتبع للّهلاك لا محالة وهو في محل النصب على جواب النهي أو في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي فأنت تردى وما تلك بيمينك يا موسى شروع في حكاية ما كلف به عليه الصلاة و السلام من الأمور المتعلقة بالخلق إثر حكاية ما أمر به من الشؤون الخاصة بنفسه فما استفهامية في حيز الرفع بالابتداء وتلك خبرة أو بالعكس وهو أدخل بحسب المعنى وأوفق بنفسه فما استفهامية في حيز الرفع بالابتداء وتلك خبره أو بالعكس وهو أدخل بحسب المعنى وأوفق بالجواب وبيمينك متعلق بمضمر وقع حالا أي

١٧

وما تلك قارة أو مأخوذة

بيمينك والعامل معنى الإشارة كما في قوله عز وعلا وهذا بعلى شيخا

وقيل تلك موصولة أي ما التي هي بيمينك وأيا ما كان فالاستفهام إيقاظ وتنبيه له عليه الصلاة و السلام على ما سيبدو له من التعاجيب وتكرير النداء لزيادة التأنيس والتنبيه

١٨

قال هي عصاي نسبها إلى نفسه تحقيقا لوجه كونها بيمينه وتميدها لما يعقبه من الأفاعيل المنسوبة إليه عليه الصلاة و السلام وقرئ عصى على لغة هذيل

أتوكأ عليها أي أعتمد عليها عند الإعياء أو الوقوف على رأس القطيع

وأهش بها أي أخبط بها الورق وأسقطه

على غنمي وقرئ أهش بكسر الهاء وكلاهما من هش الخبز يهش إذا انكسر لهشاشته وقرئ بالسين غير المعجمة وهو زجر الغنم وتعديته بعلى لتضمين معنى الإنحاء والإقباء أي أزجرها منحيا ومقبلا عليها

ولي فيها مآرب أخرى أي حاجات أخر من هذا الباب مثل ما روى أنه عليه الصلاة و السلام كان إذا سار ألقاها على عاتقه فعلق به أدواته من القوس والكنانة والحلاب ونحوها وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبيتها وألقى عليها الكساء واستظل به وإذا قصر الرشاء وصله بها وإذا تعرضت لغنمه السباع قاتل بها

وقيل ومن جملة المآرب أنها كانت ذات شبعتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا أراد كسره لواه بالشعبتين وكأنه عليه الصلاة و السلام فهم أن المقصود من السؤال بيان حقيقتها وتفصيل منافعها بطريق الاستقصاء حتى إذا ظهرت على خلاف تلك الحقيقة وبدت منها خواص بديعة علم أنها آيات باهرة ومعجزات قاهرة أحدثها اللّه تعالى وليست من الخواص المترتبة عليها فذكر حقيقتها ومنافعها على التفصيل والإجمال على معنى أنها من جنس العصى مستتبعة لمنافع بنات جنسها ليطابق جوابه الغرض الذي فهمه من سؤال العليم الخبير قال استئناف مبني على سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قيل فماذا قال عز و جل فقيل

١٩

قال ألقها يا موسى لترى من شأنها ما لم يخطر ببالك من الأمور وتكرير النداء لتأكيد التنبيه

٢٠

فألقاها على الأرض

فإذا هي حية تسعى روى أنه عليه الصلاة و السلام حين ألقاها انقلبت حية صفراء في غلظ العصا ثم انتفخت وعظمت فلذلك شبهت بالجان تارة وسميت ثعبانا أخرى وعبر عنها ههنا بالإسم العام للحالين

وقيل قد انقلبت من أول الأمر ثعبانا وهو الأليق بالمقام كما يفصح عنه قوله عز و جل فإذا هي ثعبان مبين وإنما شبهت بالجان في الجلادة وسرعة الحركة لا في صغر الجثة وقوله تعالى تسعى إما صفة لحية أو خبر ثان عند من يجوز كونه جملة

٢١

قال استئناف كما سبق

خذها ولا تخف عن ابن عباس رضي اللّه عنهما انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع كل شيء من الصخر والشجر فلما رآه كذلك خاف ونفر وملكه ما يملك البشر عند مشاهدة الأهوال والمخاوف من الفزع والنفار وفي عطف النهي على الأمر إشعار بأن عدم النهي عنه

مقصود لذاته لا لتحقيق المأمور به فقط وقوله تعالى

وسنعيدها سيرتها الأولى مع كونه استئنافا مسوق لتعليل الامتثال بالأمر والنهي فإن إعادتها إلى ما كانت عليه من موجبات أخذها وعدم الخوف منها عدة كريمة بإظهار معجزة أخرى أخرى على بدء عليه الصلاة و السلام وإيذان بكونها مسخرة له عليه الصلاة و السلام ليكون على طمأنينة من أمره ولا يعتريه شائبة تزلزل عند محاجة فرعون أي سنعيدها بعد الأخذ إلى حالتها الأولى التي هي الهيئة العصوية قيل بلغ عليه الصلاة و السلام عند ذلك من الثقة وعدم الخوف إلى حيث كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحييها والسيرة فعلة من السير تجوز بها للطريقة والهيئة وانتصابها على نزع الجار أي إلى سيرتها أو على أن أعاد منقول من عاده بمعنى عاد إليه أو على الظرفية أي سنعيدها في طريقتها أو على تقدير فعلها وإيقاعها حالا من المفعول أي سنعيدها عصا كما كانت من قبل تسير سيرتها الأولى أي سائرة سيرتها الأولى فتنتفع بها كما كنت تنتفع من قبل

٢٢

واضمم يدك إلى جناحك أمر عليه الصلاة و السلام بذلك بعد ما أخذ الحية وانقلبت عصا كما كانت أي أدخلها تحت عضدك فإن جناحي الإنسان جنباه كما أن جناحي العسكر ناحيتاه مستعار من جناحي الطائر وقد سميا جناحين لأنه بجنحهما أي يميلهما عند الطيران وقوله تعالى

تخرج جواب الأمر وقوله تعالى

بيضاء حال من الضمير فيه وقوله تعالى

من غير سوء متعلق بمحذوف هو حال من الضمير في بيضاء أي كائنة من غير عيب وقبح كنى به عن البرص كما كنى بالسوءة عن العورة لما أن الطباع تعافه وتنفر عنه روى أنه عليه الصلاة و السلام كان آدم فأخرج يده من مدرعته بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس تغشى البصر

أية أخرى أي معجزة أخرى غير العصا وانتصابها على الحالية إما من الضمير في تخرج على أنها بدل من الحال الأولى

وأما من الضمير في بيضاء

وقيل من الضمير في الجار والمجرور

وقيل هي منصوبة بفعل مضمر نحو خذ أو دونك وقوله تعالى

٢٣

لنريك من آياتنا الكبرى متعلق بمضمر ينساق إليه النظم الكريم كأنه قيل فعلنا ما فعلنا من الأمر والإظهار لنريك بذلك بعض آياتنا الكبرى على أن الكبرى صفة لآياتنا أو نريك بذلك من آياتنا ما هي كبرى على أن الكبرى مفعول ثان لنريك من آياتنا متعلق بمحذوف هو حال من ذلك المفعول وايا ما كان فالآية الكبرى عبارة عن العصا واليد جميعا

وأما تعلقه بما دل عليه آية أي دللنا بها لنريك الخ أو بقوله تعالى واضمم أو بقوله تخرج أو بما قدر من نحو خذ ودونك كما قال بكل من ذلك قائل فيؤدي إلى عراء آية العصا عن وصف الكبر فتدبر

٢٤

اذهب إلى فرعون تخلص إلى ما هو المقصود من تمهيد المقدمات السالفة فصل عما قبله من الأوأمر إيذانا بأصالته أي اذهب إليه بما رأيته من الآيات الكبرى وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي وقوله تعالى

إنه طغى تعليل للأمر أو لوجوب المأمور به أي جاوز الحد في التكبر والعتو والتجبر حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الروبية قال استئناف مبني على سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قبل فماذا قال عليه الصلاة و السلام حين أمر بهذا الأمر الخطير والخطب العسير فقيل

٢٥

قال مستعينا بربه عز و جل رب اشرح لي صدري

٢٦

ويسر لي أمر لما أمر بما أمر به من الخطب الجليل تضرع إلى ربه عز و جل وأظهر عجزه بقوله ويضيق صدري ولا ينطلق لساني وسأله تعالى أن يوسع صدره ويفسح قلبه ويجعله عليما بشؤون الحق وأحوال الخلق حليما حمولا يستقل ما عسى يرد عليه من الشدائد والمكاره بجميل الصبر وحسن الثبات ويتلقاها بصدر فسيح وجأش رابط وأن يسهل عليه مع ذلك أمره الذي هو أجل الأمور وأعظمها وأصعب الخطوب وأهولها بتوفيق الأسباب ورفع الموانع وفي زيادة كلمة لي مع انتظام الكلام بدونها تأكيد لطلب الشرح والتيسير بإيهام الشروح والميسر أولا وتفسيرهما ثانيا وفي تقديمها وتكريرها إظهار مزيد اعتناء بشأن كل من المطلوبين وفضل اهتمام باستدعاء حصولهما له واختصاصهما به

٢٧

واحلل عقدة من لساني روى أنه كان في لسانه عليه الصلاة و السلام رتة من جمرة أدخلها فاه في صغره وذلك أن فرعون حمله ذات يوم فأخذ لحيته ينتفها لما كان فيها من الجواهر فغضب وأمر بقتله فقالت آسية إنه صبي لا يفرق بين الجمر والتمر والياقوت فأحضرا بين يديه فأخذ الجمرة فوضعها في فيه قيل واحترقت يده فاجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ ثم لما دعاه قال إلى أي رب تدعوني قال إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنه واختلف في زوال العقدة بكمالها فمن قال به تمسك بقوله تعالى قد أوتيت سؤلك ومن لم يقل به احتج بقوله تعالى هو أفصح مني وقوله تعالى ولا يكاد يبين وأجاب عن الأول بأنه لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية بل حل عقدة تمنع الإفهام ولذلك نكرها ووصفها بقوله من لساني أي عقدة كائنة من عقد لساني وجعل قوله تعالى

٢٨

يفقهوا قولي جواب الأمر وغرضا من الدعاء فيحلها في الجملة يتحقق إيتاء سؤله عليه الصلاة و السلام والحق أن ما ذكر لا يدل على بقائها في الجملة أما قوله تعالى هو أفصح مني فلأنه عليه الصلاة و السلام قاله استدعاءا لحل كما ستعرفه على أن أفصحيته منه عليهما الصلاة والسلام لا تستدعي بقاءها اصلا بل تستدعي عدم البقاء لما أن الأفصيحة توجب ثبوت أصل الفصاحة في المفضول أيضا وذلك مناف للعقدة رأسا

وأما قوله تعالى ولا يكاد يبين فمن باب غلو اللعين في العتو والطغيان وإلا لدل على عدم زوالها أصلا وتنكيرها إنما يفيد قلتها في نفسها لا قلتها باعتبار كونها بعضا من الكثير وتعلق كلمة من في قوله تعالى من لساني بمحذوف هو صفة لها ليس بمقطوع به بل الظاهر تعلقها بنفس الفعل فإن المحلول إذا كان متعلقا بشيء ومتصلا به فكما يتعلق الحل به يتعلق بذلك الشيء أيضا باعتبار إزالته عنه أو ابتداء حصوله منه

٢٩

٣٠

واجعل لي وزيرا من أهل هرون أخي أي موازرا يعاونني في تحمل أعباء ما كلفته علي أن اشتقاقه من الوزر الذي هو الثقل أو ملجأ اعتصم برايه على أنه من الوزر وهو الملجأ

وقيل أصله أزير من الأزر بمعنى القوة فعيل بمعنى فاعل كالعشير والجليس قلبت همزته واوا كقلبها في موازر ونصبه على أنه مفعول ثان لا جعل قدم على الأول الذي هو قوله تعالى هرون اعتناء بشأن الوزارة ولي صلة للجعل أو متعلق بمحذوف هو حال من وزيرا إذ هو صفة له في الأصل ومن أهلي إما صفة لوزيرا أو صلة لا جعل

وقيل مفعولاه لى وزيرا وهرون عطف بيان للوزير ومن أهلي كما مر من الوجهين وأخي في الوجهين بدل من هرون أو عطف بيان آخر

وقيل هما وزيرا من أهلي وبي وتبيين كما في قوله تعالى ولم يكن له كفوا أحد ورد بأن شرط المفعولين في باب النواسخ صحة انعقاد الجملة الاسمية ولا مساغ لجعل وزيرا مبتدأ ويخبر عنه بما بعده

٣١

٣٢

اشدد به أزري وأشركه في أمري كلاهما على صيغة الدعاء أي أحكم به قوتي واجعله شريكي في أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي وفصل الأول عن الدعاء السابق لكمال الإتصال بينهما فإن شد الأزر عبارة عن جعله وزيرا

وأما الإشراك في الأمر فحيث كان من أحكام الوزارة توسط بينهما العاطف

٣٣

٣٤

 كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا غاية للأدعية الثلاثة الأخيرة فإن فعل فيها كل واحد منهما من التسبيح والذكر مع كونه مكثرا لفعل الآخر ومضاعفا له بسبب انضمامه إليه مكثر له في نفسه ايضا بسبب تقويته وتأييده إذ ليس المراد بالتسبيح والذكر ما يكون منهما بالقلب أو في الخلوات حتى لا يتفاوت حاله عند التعدد والانفراد بل ما يكون منهما في تضاعيف أداء الرسالة ودعوة المردة العتاة إلى الحق وذلك مما لا ريب في اختلاف حاله في حالتي التعدد والانفراد فإن كلا منهما يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحق ما لا يكاد يصدر عنه مثله في حال الانفراد وكثيرا في الموضعين نعت لمصدر محذوف أو زمان محذوف أي ننزهك عما لا يليق بك من الصفات والأفعال التي من جملتها ما يدعيه فرعون الطاغية ويقبله منه فئته الباغية من ادعاء الشركة في الألوهية ونصفك بما يليق بك من صفات الكمال ونعوت الجمال والجلال تنزيها كثيرا أو زمانا كثيرا من جملته زمان دعوة فرعون وأوان المحاجة معه

وأما ما قيل من أن المعنى كي نصلي لك كثيرا ونحمدك ونثني عليك فلا يساعده المقا

٣٥

إنك كنت بنا بصيرا أي عالما بأحوالنا وبأن ما دعوتك به مما يصلحنا ويفيدنا في تحقيق ما كلفته من إقامة مراسم الرسالة وبأن هرون نعم الردء في أداء ما أمرت به والباء متعلقة ببصيرا قدمت عليه لمراعاة الفواصل

٣٦

قال قد أوتيت سؤلك أي أعطيت سؤلك فعل بمعنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول والايتاء عبارة عن تعلق ارادته تعالى بوقوع تلك المطالب وحصولها له عليه السلام البتة وتقديره إياها حتما فكلها حاصلة له عليه السلام وإن كان وقوع بعضها بالفعل مترقبا بعد كتيسير الأمر وشد الأزر وباعتباره قيل سنشد عضدك بأخيك وقوله تعالى

يا موسى تشريف له عليه السلام بشرف الخطاب إثر تشريفه بشرف قبول الدعاء وقوله تعالى

٣٧

ولقد مننا عليك كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله وزيادة توطين نفس موسى عليه السلام بالقبول ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء منه وطلب فلان ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداع أولى وأحرى ونصديره بالقسم لكمال الاعتناء بذلك أي وباللّه لقد أنعمنا

مرة أخرى أي في وقت غير هذا الوقت لا أن ذلك مؤخر عن هذا فإن أخرى تأنيت آخر بمعنى غير والمرة في الأصل اسم للمرور الواحد ثم أطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات متعدية كانت أو لازمة ثم شاع في كل فرد واحد من أفراد ماله أفراد متجددة متعددة فصار علما في ذلك حتى جعل معيارا لما في معناه من سائر الأشياء فقيل هذا بناء المرة ويقرب منها الكرة والتارة والدفعة والمراد بها ههنا الوقت الممتد الذي وقع فيه ما سيأتي ذكره من المنن العظيمة الكثيرة وقوله تعالى

٣٨

إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ظرف لمننا والمراد بالإيحاء إما الإيحاء على لسان نبي في وقتها كقوله تعالى وإذا أوحيت إلى الحواريين الآية وأما الإيحاء بواسطة الملك لا على وجه النبوة كما أوحي إلى مريم

وأما الإلهام كما في قوله تعالى وأوحى ربك إلى النحل

وأما الإرادة في المنام والمراد بما يوحى وسيأتي من الأمر بقذفه في التابوت وقذفه في البحر أيهم أولا تهويلا له وتفخيما لشأنه ثم فسر ليكون أقر عند النفس

وقيل معناه ما ينبغي أن يوحى ولا يخل به لعظم شأنه وفرط الاهتمام به

وقيل مالا يعلم إلا بالوحي وفيه إنه لا يلائم المعنيين الأخيرين للوحي إذ لا تفخيم لشأنه في أن يكون مما لا يعلم إلا بالإلهام أو بالإرادة في المنام وأن في قوله تعالى

٣٩

أن اقذفيه في التابوت مفسرة لأن الوحي من باب القول أو مصدرية محذف منها الباء أي بأن اقذفيه ومعنى القذف ههنا الوضع

وأما في قوله تعالى

فاقذفيه من الميم فالإلقاء وهذا التفصيل هو المراد بقوله تعالى فإذا خفت عليه فألقيه

في اليم لا القذف بلا تابوت

فليلقه اليم بالساحل لما كان إلقاء البحر إياه

بالساحل أمرا واجب الوقوع لتعلق الإرادة الربانية به جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمر بذلك وأخرج الجواب مخرج الأمر والضمائر كلها لموسى عليه السلام والمقذوف في البحر والملقى بالساحل وإن كان هو التابوت أصالة لكن لما كان المقصود بالذات ما فيه جعل التابوت تابعا له في ذلك

يأخذه عدو لي وعدو له جواب للأمر بالإلقاء وتكرير العدو للمبالغة والتصريح بالأمر والإشعار بأن عداوته له مع تحققها لا تؤثر فيه ولا تضره بل تؤدي إلى المحبة فإن الأمر بما هو سبب للّهلاك صورة من قذفه في البحر ووقوعه في يد عدو اللّه تعالى وعدوه مشعر بأن هناك لطفا خفيا مندرجا تحت قهر صوري

وقيل الأول باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقع وليس المراد بالساحل نفس الشاطئ بل ما يقابل الوسط وهو ما يلي الساحل من البحر بحيث يجري ماؤه إلى نهر فرعون لما روى أنها جعلت في التابوت قطنا ووضعته فيه ثم قيرته والقته في اليم وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر صغير فدفعه الماء إليه فأتى به إلى بركة في البستان وكان فرعون جالسا ثمة مع آسية بنت مزاحم بأمر به فأخرج ففتح فإذا هو صبي أصبح الناس وجها فأحبه عدو اللّه حبا شديدا لا يكاد يتمالك الصبر عنه وذلك قوله تعالى

وألقيت عليك محبة مني كلمة من متعلقة بمحذوف هو صفة لمحبة مؤكدة لما في تنكيرها من الفخامة الإضافية أي محبة عظيمة كائنة مني قد زرعتها في القلوب بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك ولذلك أحبك عدو اللّه وآله

وقيل هي متعلقة بألقيت أي أحببتك ومن أحبه اللّه تعالى أحبته القلوب لا محالة وقوله تعالى

ولتصنع على عيني متعلق بألقيت معطوف على علة له مضمرة أي ليتعطف عليك ولنربي بالحنو والشفقة بمراقبتي وحفظي أو بمضمرة مؤخر هو عبارة عما قبله من إلقاء المحبة والجملة مبتدأة أي ولتصنع على عيني فعلت ذلك وقري ولتصنع على صيغة الأمر بسكون اللام وكسرها وقرئ بفتح التاء والنصب أي وليكون عملك على عين مني لئلا يخالف به عن أمري

٤٠

إذ تمشي أختك ظرف لتصنع على أن المراد به وقت وقع فيه مشيها إلى بيت فرعون وما ترتب عليه من القول والرجع إلى أمها وتربيتها له بالبر والحنو وهو المصداق لقوله تعالى ولتصنع على عيني إذ لا شفقة أعظم من شفقة الأم وصنعها على موجب مراعاته تعالى

وقيل هو بدل من إذ أوحينا على أن المراد به زمان متسع متباعد الأطراف وهو الأنسب بما سيأتي من قوله تعالى فنجيناك من الغم الخ فإن جميع ذلك من المنن الإلهية ولا تعلق لشيء منها الصنع المذكور

وأما كونه ظرفا لألقيت كما جوز فربما يوهم أن إلقاء المحبة لم يحص قبل ذلك ولا ريب في أن معظم آثار إلقائها ظهر عند فتح التابوت

فتقول أي لفرعون وآسية حين رأتهما يطلبان له عليه السلام مرضعة يقبل ثديها وكان لا يقبل ثديا وصيغة المضارع في الفعلين لحاكية الحال الماضية

هل أدلكم على من يكفله أي يضمه إلى نفسه ويربيه وذلك إنما يكون بقبوله ثديها يروى أنه فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلاما في النيل لا يرتضع ثدي امرأة واضطروا إلى تبليغ النساء فخرجت أخته مريم لتعرف خبره فجاءتهم متنكرة فقالت ما قالت وقالوا ما قالوا فجاءت بأمه فقبل ثديها فالفاء في قوله تعالى

فرجعناك إلى أمك فصيحة معربة عن محذوف قبلها يعطف عليه ما بعدها أي فقالوا دلينا عليها فجاءت بأمك فرجعناك إليها

كي تقر عينها بلقائك ولا تحزن أي لا يطرأ عليها الحزن بفراقك بعد ذلك وإلا فزوال الحزن مقدم على السرور المعبر عنه بقرة العين فإن التخلية متقدمة على التحلية

وقيل ولا تحزن أنت بفقد إشفاقها

وقتلت نفسا هي نفس القبطي الذي استغاثه الإسرائيلي عليه

فنجيناك من الغم أي غم قتله خوفا من عقاب اللّه تعالى بالمغفرة ومن اقتصاص فرعون بالإنجاء منه بالمهاجرة إلى مدين

وفتناك فتونا أي ابتليناك ابتلاء أو فتونا من الابتلاء على أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز في حجزه وبدور في بدرة أي خلصناك مرة أخرى وهو إجمال ما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقة الإلاف والمشي راجلا وفقد الزاد وقد روي أن سعيد ابن جبير سأل عنه ابن عباس رضي اللّه عنهما فقال خلصناك من محنة بعد محنة ولد في عام كان يقتل فيه الولدان فهذه فتنة يا ابن جبير وألقته أمه في البحر وهم فرعون بقتله وقتل قبطيا وآجر نفسه عشر

سنين وضل الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة وكان يقول عند كل واحدة فهذه فتنة يا ابن جبير ولكن الذي يقتضيه النظم الكريم أن لا تعد إجارة نفسه وما بعدها من تلك الفتون ضرورة أن المراد بها ما وقع قبل وصوله عليه السلام إلى مدين بقيضة الفاء في قوله تعالى

فلبثت سنين في أهل مدين إذ لا ريب في أن الإجارة المذكورة وما بعدها مما وقع بعد الوصول إليهم وقد أشير بذكر لبثه عليه السلام فيهم دون وصوله إليهم إلى جميع ما قاساه عليه السلام في تضاعيف تلك السنين العشر من فنون الشدائد والمكاره التي كل واحد منها فتنة وأي فتنة ومدين بلدة شعيب عليه الصلاة و السلام على ثماني مراحل مصر

ثم جئت إلى المكان الذين أونس فيه النار ووقع فيه النداء والجؤار وفي كلمة التراخي إيذان بأن مجيئه عليه السلام كان بعد اللتيا والتي من ضلال الطريق وتفرق الغنم في الليلة المظلمة الشاتية وغير ذلك على قدر أي تقدير قدرته لأن أكلك وأستنبئك في وقت قد عينته لذلك فما جئت إلا

على ذلك القدر غير مستقدم ولا مستأجر

وقيل على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم السلام وهو رأس أربعين سنة وقوله تعالى

يا موسى تشريف له عليه الصلاة و السلام وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولا وقوله تعالى

٤١

واصطنعتك لنفسي تذكير لقوله تعالى وأنا اخترتك وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيدا بأخيه حسبما استدعاه بعد تذكير المنن السابغة السابقة تأكيدا لوثوقه عليه السلام بحصول نظائرها اللاحقة وهذا تمثيل لما خوله عز وعلا من الكرامة العظمى بتقريب الملك بعض خواصه واصطناعه لنفسه وترشيحه لبعض أموره الجليلة والعدول عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى وفتناك ونظيريه السابقين تمهيد لإفراد لفظ النفس اللائق بالمقام فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص أي اصطفيتك برسالاتي وبكلامي وقوله تعالى

٤٢

اذهب أنت وأخوك أي وليذهب أخوك حسبما استدعيت استئناف مسوق لبيان ما هو المقصود بالاصطناع

بآياتي أي بمعجزاتي التي أريتكها من اليد والعصا فإنهما وإن كانتا اثنتين لكن في كل منهما آيات شتى كما في قوله تعالى فيه آيات بينات مقام إبراهيم فإن انقلاب العصا حيوانا آية وكونها ثعبانا عظيما لا يقادر قدره آية أخرى وسرعة حركته مع عظم جرمه آية أخرى وكونه مع ذلك مسخرا له عليه السلام بحيث كان يدخل يده في فمه فلا يضره آية أخرى ثم انقلابها عصا آية أخرى وكذلك اليد فإن بياضها في نفسه آية وشعاعها آية ثم رجوعها إلى حالتها الأولى آية أخرى والباء للمصاحبة لا للتعدية إذ المراد ذهابهما إلى فرعون ملتبسين بالآيات متمسكين بها في إجراء أحكام الرسالة وإكمال أمر الدعوة لا مجرد إذهابها وإيصالها إليه

ولا تنيا لا تفترا ولا تقصرا وقرئ لا تنيا بكسر التاء للاتباع

في ذكري أي بما يليق بي من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة عند تبليغ رسالتي والدعاء إلى

وقيل المعنى لا تنيا في تبليغ رسالتي فإن الذكر يقع على جميع العبادات وهو أجلها وأعظمها

وقيل لا تنسياني حيثما تقلبتما واستمدا بذكري العون والتأييد وأعلما أن أمرا من الأمور لا يتأتى ولا يتسنى إلا بذكري

٤٣

اذهبا إلى فرعون جمعهما في صيغة أمر الحاضر مع غيبة هارون إذ ذاك للتغليب وكذا الحال في صيغة النهي روى

أنه أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى عليهما السلام وقيل سمع بإقباله فتلقاه إنه طغى تعليل لموجب الأمر والفاء في قوله تعالى

٤٤

فقولا له قولا لينا لترتيب ما بعدها على طغيانه فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة ويلين عريكة الطغاة قال ابن عباس رضي اللّه عنهما لا تعنفا في قولكما

وقيل القول اللين مثل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فإنها دعوة في صورة عرض ومشورة ويرده ما سيجئ من قوله تعالى فقولا إنا رسولا ربك الآيتين

وقيل كنياه وكان له ثلاث كنى أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة

وقيل عداه شبابا لا يهرم ويبقى له لذة المطعم والمشرب ومنكح وملكا لا يزول إلا بالموت وقرئ لينا

لعله يتذكر بما بلغتماه من ذكري ويرغب فيمار رغبتماه فيه

أو يخشى عقاب ومحل الجملة النصب على الحال من ضمير التثنية أي فقولا له قولا لينا راجين أن يتذكر أو يخشى وكلمة أو لمنع الخلو أي باشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع في أن يثمر علمه ولا يخيب سعيه وهو يجتهد بطوقه ويحتشد بأقصى وسعه وجدوى إرسالهما إليه مع العلم بحاله إلزام الحجة وقطع المعذرة

٤٥

قالا ربنا أسند القول إليهما مع ان القائل حقيقة هو موسى عليه الصلاة و السلام بطريق التغليب إيذانا بأصالته في كل قول وفعل وتبعية هارون عليه السلام له في كل ما يأتي ويذر ويجوز أن يكون هارون قد قال ذلك بعد تلاقيهما فحكى ذلك مع قول موسى عليه السلام عند نزول الآية كما في قوله تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات فإن هذا الخطاب قد حكى لنا بصيغة الجمع مع أن كلا من المخاطبين لم يخاطب إلا بطريق الانفراد ضرورة استحالة اجتماعهم في الوجود فكيف باجتماعهم في الخطاب

إننا نخاف أن يفرط علينا أي يعجل علينا بالعقوبة ولا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار المعجزة من فرط إذا تقدم ومنه الفارط وفرس فارط يسبق الخيل وقرئ يفرط من أفرطه إذا حمله على العجلة أي نخاف أن يحمله حامل من الاستكبار أو الخوف على الملك أو غيرهما على المعاجلة بالعقاب

أو أن يطغى أي يزداد طغيانا إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لكمال جراءته وقساوته وإطلاقه من حسن الأدب وإظهار كلمة أن مع سداد المعنى بدونه لإظهار كمال الاعتناء بالأمر والإشعار بتحقق الخوف من كل منهما قال استئناف مبني على السؤال الناشيء من النظم الكريم ولعل إسناد الفعل إلى ضمير الغيبة للإشعار بانتقال الكلام من مساق إلى آخر فإن ما قبله من الأفعال الواردة على صيغة التكلم حكاية لموسى عليه السلام بخلاف ما سيأتي من قوله تعالى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى فإن ما قبله ايضا وارد بطريق الحكاية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كأنه قيل فماذا قال لهما ربهما عند تضرعهما إليه فقيل

٤٦

قال لا تخافا ما توهمتما من الأمرين وقوله تعالى

إنني معكما تعليل لموجب النهي ومزيد تسلية لهما والمراد بالمعية كمال الحفظ والنصرة كما ينبئ عنه قوله تعالى

أسمع وأرى أي ما جري بينكما وبينه من قول وفعل فأفعل في كل حال ما يليق بها من دفع ضر وشر وجلب نفع وخير ويجوز أن لا يقدر شيء على معنى إنني حافظكما سميعا بصيرا والحافظ الناصر إذا كان كذلك فقد تم وبلغت النصرة غايتها

٤٧

فأتياه أمرا بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعدما أمر بالذهاب إليه فلا تكرار وهو عطف على لا تخافا باعتبار

تعليله بما بعده

فقولا إنا رسولا ربك أمرا بذلك تحقيقا للحق من أول الأمر ليعرف الطاغية شأنهما ويبنى جوابه عليه وكذا التعرض لربوبيته تعالى له والفاء في قوله تعالى

فأرسل معنا بني إسرائيل لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن كونهما رسولي ربه مما يوجب إرسالهم معهما والمراد بالإرسال إطلاقهم من الأسر والقسر وإخراجهم من تحت يده العادية لا تكليفهم أن يذهبوا معه معهما إلى الشام كما ينبئ عنه قوله تعالى

ولا تعذبهم أي بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب فإنهم كانوا تحت ملكة القبط يستخدمونهم في الأعمال الصعبة الفادحة من الحفر ونقل الأحجار وغيرهما من الأمور الشاقة ويقتلون ذكور أولادهم عاما دون عام ويستخدمون نساءهم وتوسيط حكم الإرسال بين بيان رسالتهما وبين ذكر المجيء بآية دالة على صحتها لإظهار الاعتناء به مع ما فيه من تهوين الأمر على فرعون فإن إرسالهم معهما من غير تعرض لنفسه وقومه بفنون التكاليف الشاقة كما هو حكم الرسالة عادة ليس مما يشق عليه كل المشقة ولأن في بيان مجيء الآية نوع طول كما ترى فتأخير ذلك عنه مخل بتجاوب أطراف النظم الكريم وأما ما قيل من أن ذلك دليل على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان فكلا

قد جئناك بآية من ربك تقرير لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة وتعليل لوجوب الإرسال فإن مجيئهما بالآية من جهته تعالى مما يحقق رسالتهما ويقررها ويوجب الامتثال بأمرهما وإظهار اسم الرب في موضع الإضمار مع الإضافة إلى ضمير المخاطب لتأكيد ما ذكر من التقرير والتعليل وتوحيد الآية مع تعددها لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها لا بيان تعدد الحجة وكذلك قوله تعالى قد جئتكم ببينة وقوله تعالى أو لو جئتك بشيء مبين

وأما قوله تعالى فأت بآية إن كنت من الصادقين فالظاهر أن المراد بها آية من الآيات

والسلام المستتبع لسلامة الدارين من اللّه تعالى والملائكة وغيرهم من المسلمين

على من اتبع الهدى بتصديق آيات اللّه تعالى الهادية إلى الحق وفيه من ترغيبه في اتباعهما على ألطف وجه مالا يخفى

٤٨

إنا قد أوحى إلينا من جهة ربنا

أن العذاب الدنيوي والآخروي

على من كذب أي بآياته تعالى

وتولى أي أعرض عن قبولها وفيه من التلطيف في الوعيد حيث لم يصرح بحلول العذاب به مالا مزبد عليه

٤٩

قال أي فرعون بعدما أتياه وبلغاه ما أمرا به وإنما طوى ذكره للإيجاز والإشعار بأنهما كما أمرا بذلك سارعا إلى الامتثال به من غير تلعثم وبأن ذلك من الظهور بحيث لا حاجة إلى التصريح به

فمن ربكما يا موسى لم يضف الرب إلى نفسه ولو بطريق حكاية ما في قوله تعالى إنا رسولا ربك وقوله تعالى قد جئناك بآية من ربك لغاية عتوه ونهاية طغيانه بل أضافه إليهما لما أن المرسل لابد أن يكون ربا للرسول أو لأنهما قد صرحا بربوبيته تعالى للكل بأن قالا إنا رسول رب العالمين كما وقع في سورة الشعراء والاقتصار ها هنا على ذكر ربوبيته تعالى لفرعون لكفايته فيما هو المقصود والفاء لترتيب السؤال على ما سق من كونهما رسولي ربهما أي إذا كنتما رسولي ربكما فأخبرا من ربكما الذي

أرسلكما وتخصيص النداء بموسى عليه الصلاة و السلام مع توجيه الخطاب إليهما لما أنه الأصل في الرسالة وهارون وزيره

وأما ما قيل من أن ذلك لأنه قد عرف أن له عليه الصلاة و السلام رتة فأراد أن يفحمه فيرده ما شاهده منه عليه الصلاة و السلام من حسن البيان القاطع لذلك الطمع الفارع

وأما قوله ولا يكاد يبين فمن غلوه في الخبث والدعارة كما مر

٥٠

قال أي موسى عليه الصلاة و السلام مجيبا له

ربنا إما مبتدأ وقوله تعالى

الذي أعطى كل شيء خلقه خبره أو هو خبر لمبتدأ محذوف والموصول صفته وأيا ما كان فلم يريدا بضمير المتكلم أنفسهما فقط حسبما أراد اللعين بل جميع المخلوقات تحقيقا للحق وردا عليه كما يفصح عنه ما في حيز الصلة أي هو ربنا الذي أعطى كل شئ من الأشياء خلقه أي صورته وشكله اللائق بما نيط به من الخواص والمنافع أو أعطى مخلوقاته كل شئ تحتاج هي إليه وترتفق به وتقديم المفعول الثاني للاهتمام به أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة حيث زوج الحصان بالفرس والبعير بالناقة والرجل بالمرأة ولم يزوج شيئا من ذلك بخلاف جنسه وقرئ خلقه على صيغة الماضي على أن الجملة صفة للمضاف أو المضاف إليه وحذف المفعول الثاني إما للاقتصار على الأول أي كل شيء خلقه اللّه تعالى لم يحرمه من عطائه وإنعامه أو للاختصار من كونه منويا مدلولا عليه بقرينة الحال أي أعطى كل شيء خلقه اللّه تعالى ما يحتاج إليه

ثم هدى أي إلى طريق الانتفاع والاتفاق بما أعطاه وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه وكماله إما اختيارا كما في الحيوانات ولما كان الخلق الذي هو عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام متقدما على الهداية التي هي عبارة عن إيداع القوى المحركة والمدركة في تلك الأجسام وسط بينهما كلمة التراخي ولقد ساق عليه الصلاة و السلام جوابه على نمط رائق وأسلوب لائق حيث بين أنه تعالى عالم قادر بالذات خالق لجميع الأشياء منعم عليها بجميع ما يليق بها بطريق التفضل وضمنه أن إرساله تعالى إلى الطاغية من جملة هداياته تعالى إياه بعد أن هداه إلى الحق بالهدايات التكوينية حيث ركب فيه العقل وسائر المشاعر والآلات الظاهرة والباطنة

٥١

قال فما بال القرون الأولى لما شاهر اللعين مانظمه عليه الصلاة و السلام في سلك الاستدلال من البرهان النير على الطراز الرائع خاف أن يظهر للناس حقية مقالاته عليه الصلاة و السلام وبطلان خرافات نفسه ظهورا بينا فأراد أن يصرفه عليه الصلاة و السلام عن سننه إلى مالا يعنيه من الأمور التي لا تعلق لها بالرسالة من الحكايات ويشغله عما هو بصدده عسى يظهر فيه نوع غفلة فيتسلق بذلك إلى أن يدعى بين يدي قومه نوع معرفة فقال ما حال القرون الماضية والأمم الخالية وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة فأجاب عليه الصلاة و السلام بأن العلم بأحوالهم مفصلة مما لا ملابسة له بمنصب الرسالة وإنما علمها عند اللّه عز و جل

وأما ما قيل من أنه سأله عن حال من خلا من القرون وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد فيأباه

قوله تعالى

٥٢

قال علمها عند ربي فإن معناه أنه من الغيوب التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى وإنما أنا عبد لا أعلم مها إلا ما علمنيه من الأمور المتعلقة بما أرسلت به ولو كان المسؤول عنه ما ذكر من الشقاوة والسعادة لأجيب ببيان أن من اتبع الهدى منهم فقد سلم ومن تولى فقد عذب حسبما نطق به قوله تعالى والسلام الآيتين

في كتاب أي مثبت في اللوح المحفوظ بتفاصيله ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا لتمكنه وقرره في علم اللّه عزل وجل بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة كما يلوح به قوله تعالى

لا يضل ربي ولا ينسى أي لا يخطئ ابتداء ولا يذهب علمه بقاء بل ثابت أبدا فإنهما محالان عليه سبحانه وهو على الأول لبيان أن إثباته في اللوح ليس لحاجته تعالى إليه في العلم به ابتداء أو بقاء وإظهار ربي في موقع الإضمار للتلذذ بذكره ولزيادة التقرير والإشعار بعلة الحكم فإن الربوبية مما يقتضى عدم الضلال والنسيان حتما ولقد أجاب عليه الصلاة و السلام عن السؤال بجواب عبقري بديع حيث كشف عن حقيقة الحق حجابها مع أنه لم يخرج عما كان بصدده من بيان شئونه تعالى ثم تخلص إليه حيث قال بطريق الحكاية عن اللّه عز و جل لما سيأتي من الالتفات

٥٣

الذي جعل لكم الأرض مهدا على أن الموصول إما مرفوع على المدح أو منصوب عليه أو خبر مبتدأ محذوف أي جعلها لكم كالمهد تتمهدونها أو ذات مهد وهو مصدر سمي به المفعول وقرئ مهادا وهو اسم لما يمهد كالفراش أو جمع مهد أي جعل كل موضع منها مهدا لكل واحد منكم

وسلك لكم فيها سبلا أي حصل لكم طرقا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري تسلكونها من قطر إلى قطر لتقضوا منها مآربكم وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها

وأنزل من السماء ماء هو المطر

فأخرجنا به أي بذلك الماء وهو عطف على أنزل داخل تحت الحكاية وإنما التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن تنقاد لأمره وتذعن لمشيئته الأشياء المختلفة كما في قوله تعالى ألم تر أن اللّه أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها وقوله تعالى أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة خلا أن ما قبل الالتفات هناك صريح كلامه تعالى

وأما ها هنا فحكاية عنه تعالى وجعل قوله تعالى فأخرجا به هو المحكي مع كون ما قبله كلام موسى عليه الصلاة و السلام خلاف الظاهر مع أنه يفوت حينئذ الالتفات لعدم اتحاد المتكلم

أزواجا أصنافا سميت بذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض

من نبات بيان أو صفة لأزواجا أي كائنة من نبات وكذا قوله تعالى

شتى أي متفرقة جمع شتيت ويجوز أن يكون صفة لنبات لما أنه في الأصل مصدر يستوي فيه الواحد والجمع يعني أنها شتى مختلفة في الطعم والرائحة والشكل والنفع بعضها صالح للباس على اختلاف وجوه الصلاح وبعضها للبهائم فإن من تمام نعمته تعالى

 أن أرزاق عباده لما كان تحصلها بعمل الأنعام جعل علفها مما يفضل عن حاجاتهم ولا يليق بكونه طعاما لهم وقوله تعالى

٥٤

كلوا وارعوا أنعامكم حال من ضمير فأخرجنا على إرادة القول أي أخرجنا منها أصناف النبات قائلين كلوا وارعوا أنعامكم أي معديها لانتفاعكم بالذات وبالواسطة آذنين في ذلك

إن في ذلك إشارة إلى ما ذكر من شئونه تعالى وأفعاله وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الكمال والتنكير في قوله تعالى

لآيات للتفخيم كما وكيفا أي لآيات كثيرة جليلة واضحة الدلالة على شئون اللّه تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله وعلى صحة نبوة موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام

لأولى النهى جمع نهيه سمى بها العقل لنهيه عن اتباع الباطل وارتكاب القبائح كما سمى بالعقل والحجر لعقله وحجره عن ذلك أي لذوي العقول الناهية عن الأباطيل التي من جملتها ما يدعيه الطاغية ويقبله منه فئته الباغية وتخصيص كونها آيات بهم مع أنها آيات للعالمين باعتبار أنهم المنتفعون بها

٥٥

منها خلقناكم أي في ضمن أبيكم آدم عليه الصلاة و السلام منها فإن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه الصلاة و السلام إذ لم تكن قطرته البديعة مقصورة على نفسه عليه الصلاة و السلام بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فكان خلقه عليه الصلاة و السلام منها خلقا للكل مها

وقيل المعنى خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض بوسائط

وقيل إن الملك الموكل بالرحم يأخذ من تربة المكان الذي يدفن المولود فيبددها على النطفة فيخلق من التراب والنطفة

وفيها نعيدكم بالإمانة وتفريق الأجزاء وإيثار كلمة في على كلمة إلى للدلالة على الاستقرار المديد فيها

ومنها نخرجكم تارة أخرى بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الهيئة السابقة ورد الأرواح إليها وكون هذا الإخراج تارة أخرى باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها وإن لم يكن على نهج التارة الثانية والتارة في الأصل اسم للتور الواحد وهو الجريان ثم أطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات المتجددة كما مر في المرة

٥٦

ولقد أريناه حكاية إجمالية لما جرى بين موسى عليه الصلاة و السلام وبين فرعون إثر حكاية ما ذكره عليه الصلاة و السلام بجلائل نعمائه الداعية له إلى قبول الحق والانقياد له وتصديرها بالقسم لإبراز كما العناية بمضمونها وإسناد الإراءة إلى نون العظمة نظرا إلى الحقيقة لا إلى موسى نظر إلى الظاهر لتهويل أمر الآيات وتفخيم شأنها وإظهار كمال شاعة للعين وتماديه في المكابرة والعناد أي وباللّه لقد بصرنا فرعون أو عرفناه

آياتنا حين قال لموسى عليه الصلاة و السلام إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين وصيغة الجمع مع كونهما اثنتين باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون

حسبما بين في تفسير قوله تعالى اذهب أنت وأخوك بآياتي وقد ظهر عند فرعون أمور أخر كل واحد منها داهية دهياء فإنه روي أنه عليه الصلاة و السلام لما ألقاها انقلبت ثعبانا أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر وتوجه نحو فرعون فهرب وأحدث وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك إلا أخذته فأخذه فعاد عصا وروى أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو فرعون وجعلت تقول يا موسى مرني بما شئت ويقول فرعون أنشدك الخ ونزع يده من جيبه فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا خراجا عن حدود العادات قد غلب شعاعه شعاع الشمس يجتمع عليه النظارة تعجبا من أمره ففي تضاعيف كل من الآيتين آيات جمة لكنها لما كانت غير مذكورة صراحة أكدت بقوله تعالى

كلها كأنه قيل أريناه آيتينا بجميع مستتبعاتهما وتفاصيلهما قصدا إلى بيان أنه لم يبق له في ذلك عذر ما ولا مساغ لعد بقية الآيات التسع منها لما أنها إنما ظهرت على يده عليه الصلاة و السلام بعدما غلب السحرة على مهل في نحو من عشرين سنة كما مر في تفسير سورة الأعراف ولا ريب في أن أمر السحرة مترقب بعد وأبعد من ذلك أن يعد منها ما جعل لإهلاكهم لا لإرشادهم إلى الإيمان من فلق البحر وما ظهر بعد مهلكه من الآيات الظاهرة لبني إسرائيل من نتق الجبل والحجر سواء أريد به الحجر الذي فر بثوبه أو الذي انفجرت منه العيون وكذا أن يعد منها الآيات الظاهرة على يد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بناء على أن حكايته عليه الصلاة و السلام إياها لفرعون في حكم إظهارها بين يديه وإراءته إياها لاستحالة الكذب عليه عليه الصلاة و السلام فإن حكايته عليه الصلاة و السلام إياها لفرعون مما لم يجر ذكره ههنا على أن ما سيأتي من حمل ما أظهره عليه الصلاة و السلام على السحر والتصدي للمعارضة بالمثل يأباه إباء بينا وينطق بأن المراد بها ما ذكرناه قطعا ولولا ذلك لجاز جعل ما فصله عليه الصلاة و السلام من أفعاله تعالى الدالة على اختصاصه بالربوبية وأحكامها من جملة الآيات

فكذب موسى عليه الصلاة و السلام من غير تردد وتأخر مع ما شاهد في يده من الشواهد الناطقة بصدقه جحودا وعنادا وأبى الإيمان والطاعة لعتوه واستكباره

وقيل كذب بالآيات جميعا

وأبى أن يقبل شيئا منها أو أبى قبول الحق وقوله تعالى

٥٧

قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى استئناف مبين لكيفية تكذيبه وإبائه والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه وادعاء أنه أمر محال والمجئ إما على حقيقته أو بمعنى الإقبال على الأمر والتصدي له أي أجئتنا من مكانك الذي كنت فيه بعدما غبت عنا أو أقبلت علينا لتخرجنا من مصر بما أظهرته من السحر فإن ذلك مما لا يصدر عن العاقل لكونه من باب محاولة المحال وإنما قاله لحمل قومه على غاية المقت لموسى عليه الصلاة و السلام بإبراز أن مراده عليه الصلاة و السلام ليس مجرد إنجاء بني إسرائيل من أيديهم بل إخراج القبط من وطنهم وحيازة أموالهم وأملاكهم بالكية حتى لا يتوجه إلى اتباعه أحد ويبالغوا في المدافعة والمخاصمة وسمي ما أظهره عليه الصلاة و السلام من المعجزة الباهرة سحرا لتجسيرهم على المقابلة ثم ادعى أنه يعارضه بمثل ما أتى به عليه الصلاة و السلام فقال

٥٨

فلنأتينك بسحر مثله الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللام جواب قسم محذوف كأنه قيل إذا كان كذلك فو اللّه لنأتينك بسحر مثل سحرك

فاجعل بيننا وبينك موعدا أي وعدا كما ينبئ عنه وصفه بقوله تعالى

لا نخلفه فإنه المناسب لا المكان والزمان أي لا نخلف ذلك الوعد

نحن ولا أنت وإنما فوض اللعين أمر الوعد إلى موسى عليه الصلاة و السلام للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب وضيق المجال وإظهار الجلادة وإراءة أنه متمكن من تهيئة أسباب المعارضة وترتيب آلات المغالبة طال الأمد أم قصر كما أن تقديم ضميره على ضمير موسى عليه الصلاة و السلام وتوسيط كلمة النفي بينهما للإيذان بمسارعته إلى عدم الإخلاف وأن عدم إخلافه لا يوجب إخلافه عليه الصلاة و السلام ولذلك أكد النفي بتكرير حرفه وانتصاب

مكانا سوى بفعل يدل عليه المصدر لا به فإنه موصوف أو بأنه بدل من موعدا على تقدير مكان مضاف إليه فحينئذ تكون مطابقة الجواب في قوله تعالى

٥٩

قال موعدكم يوم الزينة من حيث المعنى فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه يومئذ أو بإضمار مثل مكان موعدكم مكان يوم الزينة كما هو على الأول أو وعدكم وعد يوم الزينة وقرئ يوم بالنصب وهو ظاهر في أن المراد به المصدر ومعنى سوى منتصفا تستوي مسافته إلينا وإليك وهو في النعت كقولهم قوم عدى في الشذوذ وقرئ بكسر السين قيل يوم الزينة يوم عاشوراء أو يوم النيروز أو يوم عيد كان لهم في كل عام وإنما خصه عليه الصلاة و السلام بالتعيين لإظهار كمال قوته وكونه على ثقة من أمره وعدم مشهور على رءوس الأشهاد ويشيع ذلك فيما بين كل حاضر وباد

وأن يحشر الناس ضحى عطف على يوم أو يوم الزينة وقرئ على البناء للفاعل بالتاء على خطاب فرعون وبالياء على أن الضمير له على سنن الملوك أو لليوم

٦٠

فتولى فرعون أي انصرف عن المجلس

فجمع كيده أي ما يكاد به من السحرة وأدواتهم

ثم أتى أي الموعد ومعه ما جمعه من كيده وفي كلمة التراخي إماء إلى أنه لم يسارع إليه بل أتاه بعد لأي وتلعثم وقوله تعالى

٦١

قال لهم موسى الخ بطريق الاستئناف المبني على السؤال يقضي بأن المترقب من أحواله عليه الصلاة و السلام حينئذ والمحتاج إلى السؤال والبيان ليس إلا ما صدر عنه عليه الصلاة و السلام من الكلام

وأما إتيانه أولا فأمر محقق غني عن التصريح به كأنه قيل فماذا صنع موسى عليه الصلاة و السلام عند إتيان فرعون بما جمعه من السحرة فقيل قال لهم بطريق النصيحة

ويلكم لا تفتروا على اللّه  كذبا بأن تدعوا آياته التي ستظهر على يدي سحرا كما فعل فرعون

فيسحتكم أي يستأصلكم بسببه

بعذاب هائل لا يقادر قدره وقرئ يسحتكم من الثلاثي على لغة أهل الحجاز والإسحات لغة بني تميم ونجد

وقد خاب من افترى أي على اللّه كائنا من كان بأي وجه كان فيدخل فيه الافتراء المنهي عنه دخولا أوليا أو وقد خاب فرعون المفترى فلا تكونوا مثله في الخيبة والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قلها

٦٢

فتنازعوا أي السحرة حين سمعوا كلامه عليه الصلاة و السلام كأن ذلك غاظهم فتنازعوا

أمرهم الذين أريد منهم من مغالبته عليه الصلاة و السلام وتشاوروا وتناظروا

بينهم في كيفية المعارضة وتجاذبوا أهداب القول في ذلك

وأسروا النجوى أي من موسى عليه الصلاة و السلام لئلا يقف عليه فيدافعه وكان نجواهم ما نطق به قوله تعالى

٦٣

قالوا أي بطريق التناجي والإسرار

إن هذان لساحران الخ فإنه تفسير له ونتيجة لتنازعهم وخلاصة ما استقرت عليه آراؤهم بعد التناظر والتشاور وإن مخففة من أن قد أهملت عن العمل واللام فارقة وقرئ بتشديد نون هذان

وقيل هي نافية واللام بمعنى إلا أي ما هذان إلا ساحران وقرئ إن بالتشديد وهذان اسمها على لغة بلحارث بن كعب فإنهم يعربون التثنية تقديرا

وقيل اسمها ضمير الشأن المحذوف وهذان لساحران خبرها

وقيل إن بمعنى نعم وما بعدها جملة من مبتدأ وخبر وفيهما أن اللام لا تدخل خبر المبتدأ

وقيل أصله أنه هذان لهما ساحران فحذف الضمير وفيه أن المؤكد باللام لا يليق به الحذف وقرئ إن هذين لساحران وهي قراءة واضحة

يريدان أن يخرجاكم من أرضكم أي أرض مصر بالاستيلاء عليها

بسحرهما الذي أظهراه من قبل

ويذهبا بطريقتكم المثلى أي بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب وأمثلها بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما يريدون به ما كان عليه قوم فرعون لا طريقة السحر فإنهم ما كانوا يعتقدونه دينا

وقيل أرادوا أهل طريقتكم وهم بنو إسرائيل لقول موسى عليه الصلاة و السلام أرسل معنا نبي إسرائيل وكانوا أرباب علم فيما بنيهم ويأباه أن إخراجهم من أرضهم إنما يكون الاستيلاء عليها تمكنا وتصرفا فكيف يتصور حينئذ نقل بني إسرائيل إلى الشأم وحمل الإخراج على إخراج بني إسرائيل منها مع بقاء قوم فرعون على حالهم مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله على أن هذه المقالة منهم للإغراء بالمبالغة في المغالبة والاهتمام بالمناصبة فلا بد أن يكون الإنذار والتحذير بأشد المكاره وأشقها عليهم ولا ريب في أن إخراج بني إسرائيل من بنيهم والذهاب بهم إلى الشأم وهم آمنون في ديارهم ليس فيه كثير محذور

وقيل الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم لما أنهم قدوة لغيرهم ولا يخفى أن تخصيص الإذهاب بهم مما لا مزية فيه وقوله تعالى

٦٤

فأجمعوا كيدكم تصريح بالمطلوب إثر تمهيد المقدمات والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين يريد أن بكم ما ذكر من الإخراج والأذهاب فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا عليه بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم وارموا عن قوس واحدة وقريء فأجمعوا من الجمع ويعضده قوله تعالى فجمع كيده أي فاجمعوا أدوات سحركم ورتبوها كما ينبغي

ثم ائتوا صفا أي مصطفين أمروا بذلك لأنه أهيب في صدور الرائين وأدخل في استجلاب الرهبة من المشاهدين قيل كانوا سبعين ألفا مع كل منهم حبل وعصا وأقبلوا عليه إقبالة واحدة

وقيل كانوا اثنين وسبعين ساحرا إثنان من القبط والباقي من بني إسرائيل

وقيل تسعمائة ثلاثمائة من الفرس وثلاثمائة من الروم وثلاثمائة من الإسكندرية

وقيل خمسة عشر ألفا

وقيل بضعة وثلاثين ألفا واللّه أعلم ولعل الموعد كان مكانا متسعا خاطبهم موسى عليه الصلاة و السلام بما ذكره في قطر من أقطاره وتنازعوا أمرهم في قطر آخر منه ثم أمروا بأن يأتوا وسطه على الوجه المذكور وقد فسر الصف بالمصلى لاجتماع الناس فيه في الأعياد والصلوات ووجه صحته أن يكون علما لموضع معين من المكان المعود

وأما إرادة مصلى من مصليات بعد تعين المكان الموعود فلا مساغ لها قطعا وقوله تعالى

وقد أفلح اليوم من استعلى اعتراض تذييلي من قبلهم مؤكد لما قله من الأمرين أي قد فاز بالمطلوب من غلب يريدون بالمطلوب ما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب حسبما نطق به قوله تعالى قال نعم وإنكم  إِذًا لمن المقربين وبمن غلب أنفسهم جميعا على طريقة قولهم بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون أو من غلب منهم حثا لهم على بذل المجهود في المغالبة هذا هو اللائق بتجاوب أطراف النظم الكريم وقد قيل كان نجواهم أن قالوا حين سمعوا مقالة موسى عليه الصلاة و السلام ما هذا بقول ساحر

وقيل كان ذلك أن قالوا إن غلبنا موسى اتبعناه

وقيل كان ذلك قولهم إن كان ساحرا فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر فيكون إسرارهم حينئذ من فرعون وملئه ويحمل قولهم إن هذان لساحران الخ على أنهم اختلفوا فيما بنيهم على الأقاويل المذكورة ثم رجعوا عن ذلك بعد التنازع والتناظر واستقرت أراؤهم على ذلك وأبوا إلا المناصبة للمعارضة

وأما جعل ضمير قالوا لفرعون وملئه على أنهم قالوا ذلك للسحرة ردا لهم عن الاختلاف وأمروهم الإجماع والإزماع وإظهار الجلادة بالإتيان على وجه الاصطفاف فمخل بجزالة النظم الكريم كما يشهد به الذوق السليم قالوا استئناف مبني على سؤال ناشئ من حكاية ما جرى بين السحرة من المقاولة كأنه قيل فماذا فعلوا بعد ما قالوا فيما بينهم ما قالوا فقيل

٦٥

قالوا يا موسى وإنما لم يتعرض لإجماعهم وإتيانهم بطريق الاصطفاف إشعارا بظهور أمرهما وغناهما عن البيان

إما أن تلقى أي ما نلقيه أولا على أن المفعول محذوف لظهوره أو تفعل الإلقاء أولا على أن الفعل منزل منزلة اللازم

وإما أن نكون أول من ألقى ما يلقيه أو أول من يفعل الإلقاء خيروه عليه الصلاة و السلام بما ذكر مراعاة للأدب لما رأوا  منه عليه الصلاة و السلام ما راوا من مخايل الخير ورزانة الرأي وإظهارا للجلادة بإراءة أنه لا يختلف حالهم بالتقديم والتأخير وأن مع ما في حيزها منصوب بفعل مضمر أو مرفوع بخبرية مبتدأ محذوف أي اختر إلقاءك أولا أو إلقاءنا أو الأمر إما إلقاؤك أو إلقاؤنا قال استئناف كما سلف ناشيء من حكاية تخيير السحرة إياه عليه الصلاة و السلام كأنه قيل فماذا قال عليه الصلاة و السلام فقيل

٦٦

قال بل ألقوا أنتم أولا مقابلة للأدب بأحسن من أدبهم حيث بت القول بإلقائهم أولا وإظهارا لعدم المبالاة بسحرهم ومساعدة لما أوهموا من الميل إلى البدء وليبرزوا ما معهم ويستفرغوا أقصى جهدهم ويستنفدوا قصارى وسعهم ثم يظهر اللّه عز و جل سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه لما علم أن ما سيظهر بيده سيلقف ما يصنعون من مكايد السحر

فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى الفاء فصيحة معربة عن مسارعتهم إلى الإلقاء كما في قوله تعالى فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفلق أي فألقوا فإذا حبالهم وهي للمفاجأة والتحقيق أنها أيضا ظرفية تستدعي متعلقا بنصبها وجملة تضاف إليها لكنها خصت بكون متعلقها فعل المفاجأة والجملة ابتدائية والمعنى فألقوا ففاجأ موسى عليه الصلاة و السلام وقت أن يخيل إليه سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت فخيل إليه أنها تتحرك وقرئ تخيل بالتاء على إسناده إلى ضمير الحبال والعصي وإبدال أنها تسعى منه بدل اشتمال وقرئ يخيل بإسناده إليه تعالى وقرئ تخيل بحذف إحدى التاءين من تتخيل

٦٧

فأوجس في نفسه خيفة موسى أي أضمر فيها بعض خوف من مفاجأته بمقتضى البشرية المجبولة على النفرة من الحيات والاحتراز من ضررها المعتاد من اللسع ونحوه

وقيل من أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه وليس بذاك كما ستعرفه وتأخير الفاعل لمراعاة الفواصل

٦٨

قلنا لاتخف أي ما توهمت

إنك أنت الأعلى تعليل لما يوجبه النهي من الانتهاء عن الخوف وتقرير لغلبته على أبلغ وجه وآكده كما يعرب عنه الاستئناف وحرف التحقيق وتكرير الضمير وتعريف الخبر ولفظ العلو المنبئ عن الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل

٦٩

وألق ما في يمينك أي عصاك كما وقع في سورة الأعراف

وأما أوثر الإبهام تهويلا لأمرها وتفخيما لشأنها وإيذانا بأنها ليست من جنس العصي المعهودة المستتبعة للآثار المعتادة بل خارجة عن حدود سائر أفراد الجنس مبهمة الكنه مستتبعة لآثار غريبة وعدم مراعاة هذه النكته عند حكاية الأمر في موضع آخر لا يستدعى عدم مراعاتها عند وقوع المحكي هذا وحمل الإبهام على التحقير بان يراد لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويدالذي في يدك فإنه بقدرة اللّه تعالى يلقفها مع وحدته وكثرتها وصغره وعظمها يأباه ظهور حالها فيما مر مرتين على أن ذلك المعنى إنما يليق بما لو فعلت العصا ما فعلت وهي على هيئتها الأصلية وقد كان منها ما كان وقوله تعالى

تلقف ما صنعوا بالجزم جوابا للأمر من لقفه إذا ابتلعه والتقمه بسرعة والتأنيث لكون ما عبارة عن العصا أي تبتلع ما صنعوه من الحبال والعصي التي خيل إليك سعيها وخفتها والتعبير عنها بما

صنعوا للتحقير والإيذان بالتمويه والتزوير وقرئ تلقف بتشديد القاف وإسقاط إحدى التاءين من تتلقف وقرئ بالرفع على الحال اوالاستئناف والجملة الأمرية معطوفة على النهي متممة بما في حيزها لتعليل موجبه ببيان كيفية غلبته عليه الصلاة و السلام وعلوه فإن ابتلاع عصاه لأباطيلهم التي منها أوجس في نفسه ما أوجس مما يقلع مادته بالكلية وهذا كما ترى صريح في أن خوفه عليه الصلاة و السلام لم يكن مما ذكر من مخالجة الشك للناس وعدم اتباعهم له عليه الصلاة و السلام وإلا لعلل بما يزيله من الوعد بما يوجب إيمانهم واتباعهم له عليه الصلاة و السلام وقوله تعالى إن ما صنعوا الخ تعليل لقوله تعالى تلقف ما صنعوا وما إما موصولة أو موصوفة أي إن الذي صنعوه أو إن شيئا صنعوه كيد ساحر بالرفع على أنه خبر لن أي كيد جنس الساحر وتنكيره للتوسل به إلى تنكير ما أضيف إيه للتحقير وقرئ بالنصب على أنه مفعول صنعوا وما كافة وقرئ كيد سحر على أن الإضافة للبيان كما في علم فقه أو على معنى ذي سحر أو على تسمية الساحر سحرا مبالغة وقوله تعالى

ولا يفلح الساحر أي هذا الجنس

حيث أتى أي حيث كان وأين اقبل من تمام التعليل وعدم التعرض لشأن العصا وكونها معجزة إلهية مع ما في ذلك من تقوية التعليل للإيذان بظهور أمرها والفاء في قوله تعالى

٧٠

فألقى السحرة سجدا كما سلف فصيحة معربة عن محذوفين ينساق إيهما النظم الكريم غنيين عن التصريح بهما لعدم احتمال تردد موسى عليه السلام في الامتثال بالأمر واستحالة عدم وقوع اللقف الموعود أي فألقاه عليه السلام فوقع ما وقع من اللقف فألقى السحرة سجدا لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر وإنما هي آية من آيات اللّه عز و جل روى أن رئيسهم قال كنا نغلب الناس وكانت الآلات تبقى علينا فلو كان هذا سحرا فأين ما ألقيناه من الآلات فاستدل بتغير أحوال الأجسام على الصانع القادر العالم وبظهور ذلك على يد موسى عليه الصلاة و السلام على صحة رسالته لا جرم ألقاهم ما شاهدوه على وجوههم وتابوا وأمنوا وأتوا بما هو غاية الخضوع قيل لم يرفعوا رءوسهم حتى رأوا الجنة والنار والثواب والعقاب وعن عكرمة لما خروا سجدا أراهم اللّه تعالى في سجودهم منازلهم في الجنة ولا ينافيه قولهم إنا آمنا بربنا يغفر لنا خطايانا الخ لأن كون تلك المنازل منازلهم باعتبار صدور هذا القول عنهم

قالوا استئناف كما مر غير مرة

آمنا برب هارون وموسى تأخير موسى عند حكاية كلامهم لرعاية الفواصل وقد جوز أن يكون ترتيب كلامهم أيضا هكذا إما لكبر سن هارون عليه الصلاة و السلام

وأما للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطل من جهة فرعون وقومه حيث كان فرعون ربي موسى عليه الصلاة و السلام فلو قدموا موسى عليه الصلاة و السلام لربما توهم اللعين وقومه من أول الأمر أن مرادهم فرعون

٧١

قال أي فرعون للسحرة

آمنتم له أي لموسى عليه الصلاة و السلام واللام لتضمين الفعل معنى الاتباع وقرئ على الاستفهام التوبيخي

قبل أن آذن لكم أي من غير أن آذن لكم في الإيمان له كما في قوله تعالى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي لا أن إذنه لهم في ذلك واقع بعده أو متوقع

إنه يعني موسى عليه الصلاة و السلام

لكبيركم أي في فنكم وأعلمكم به وأستاذكم

الذي علمكم السحر فتواطأتم على ما فعلتم أو فعلمكم شيئا دون شيء فلذلك غلبكم وهذه شهة زورها اللعين وألقاها على قومه وأراهم أن أمر الإيمان منوط بإذنه فلما كان إيمانهم بغير إذنه لم يكن معتدا به وأنهم من تلامذته عليه الصلاة و السلام فلا عبرة بما أظهره كما لا عبرة بما أظهروه وذلك لما اعتراه من الخوف من اقتداء الناس بالسحرة في الإيمان باللّه تعالى ثم أقبل عليهم بالوعيد المؤكد حيث قال

فلأقطعن أي فو اللّه

لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف أي اليد اليمنى والرجل اليسرى ومن ابتدائية كأن القطع ابتداء من مخالفة العضو العضو فإن المبتدئ من المعروض مبتدئ من العارض أيضا وهي مع مجرورها في حيز النصب على الحالية أي لأقطعنها مخلفات وتعيين تلك الحال للإيذان بتحقيق الأمر وإيقاعه لا محالة بتعيين كيفيته المعهودة في باب السياسة لا لأنها أفظع من غيرها

ولأصلبنكم في جذوع النخل أي عليها وإثار كلمة في للدلالة على إبقائهم عليها زمانا مديدا تشبيها لاستمرارهم عليها باستقرار المظروف في الظرف المشتمل عليه قالوا وهو أول من صلب وصيغة التفعيل في الفعلين للتكثير وقد قرئا بالتخفيف

ولتعلمن أينا يريد به نفسه وموسى عليه الصلاة و السلام لقوله آمنتم له قبل أن آذن لكم واللام مع الإيمان في كتاب اللّه تعالى لغيره تعالى وهذا إما لقصد توضيع موسى عليه الصلاة و السلام والهزء به لأنه لم يكن من التعذيب في شيء

وأما لإراءة أن إيمانهم لم يكن عن مشاهدة المعجزة ومعاينة البرهان بل كان عن خوف من قبل موسى عليه الصلاة و السلام حيث رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم فخافوا على أنفسهم أيضا

وقيل يريد به رب موسى الذي آمنوا به بقولهم آمنا برب هارون وموسى

أشد عذابا وأبقى أي أدوم

٧٢

قالوا غير مكترثين بوعيده

لن نؤثرك لن نختارك بالإيمان والاتباع

على ما جاءنا من اللّه على يد موسى عليه الصلاة و السلام

من البينات من المعجزات الظاهرة فإن ما ظهر بيده عليه الصلاة و السلام من العصا كان مشتملا على معجزاته جمعة كما مر تحقيقه فيما سلف فإنهم كانوا عارفين بجلائلها ودقائقها

والذي فطرنا أي خلقنا وسائر المخلوقات وهو عطف على ما جاءنا وتأخيره لأن ما في ضمنه آية عقلية نظرية وما شاهدوه آية حسية ظاهرة وإيراده تعالى بعنوان فاطريته تعالى لهم للإشعار بعلة الحكم فإن خالقيته تعالى لهم وكون فرعون من جملة مخلوقاته مما يوجب عدم إيثارهم له عليه

سبحانه وتعالى وهذا جواب منهم لتوبيخ فرعون بقوله آمنتم له قبل أن آذن لكم

وقيل هو قسم محذوف الجواب لدلالة المذكور عليه أي وحق الذي فطرنا لا نؤثرك الخ ولا مساغ لكون المذكور جوابا له عند من يجوز تقديم الجواب أيضا لما أن القسم لا يجاب بلن إلا على شذوذ وقوله تعالى

فاقض ما أنت قاض جواب عن تهديده قوله لأقطعن الخ أي فاصنع ما أنت صانعه أو فاحكم ما أنت حاكم به وقوله تعالى

إنما تقضى هذه الحياة الدنيا مع ما بعده تعليل لعدم المبالاة المستفاد مما سبق من الأمر بالقضاء أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الحياة الدنيا فحسب وما لنا من رغبة في عذبها ولا رهبة من عذابها

٧٣

إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا التي اقترفنا فيها من الكفر والمعاصي ولا يؤاخذنا بها في الدار الآخرة لا ليمتعنا بتلك الحياة الفانية حتى نتأثر بما أوعدتنا به من القطع والصلب وقوله تعالى

وما أكرهتنا عليه من السحر عطف على خطايانا أي ويغفر لنا السحر الذي علمناه في معارضة موسى عليه الصلاة و السلام بإكراهك وحشرك إيانا من المدائن القاصية خصوه بالذكر مع اندراجه في خطاياهم إظهارا لغاية نفرتهم عنه ورغبتهم في مغفرته وذكر الإكراه للإيذان بأنه مما يجب أن يفرد بالاستغفار منه مع صدوره عنهم بالإكراه وفيه نوع اعتذار لاستجلاب المغفرة

وقيل أرادوا الإكراه على تعلم السحر حيث روى أن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط والباقي من بني اسرائيل وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر

وقيل إنه أكرههم على المعارضة حيث روى أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى نائما ففعل فوجدوه تحرسه عصاه فاقلوا ما هذا بسحر فإن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه ويأباه تصديهم للمعارضة على الرغبة والنشاط كما يعرب عنه قولهم أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين وقولهم بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون

واللّه خير أي في خد ذاته وهو ناظر إلى قولهم والذي فطرنا وأبقى أي جزاء ثوابا كان أو عذابا خير ثوابا

وأبقى عذابا وقوله تعالى

٧٤

إنه إلى آخر الشرطيتين تعليل من جهتهم لكونه تعالى خيرا وأبقى جزاء وتحقيق له وإبطال لما ادعاه فرعون وتصديرهما بضمير الشأن للتنبيه على فخامة مضمونهما لأن مناط وضع الضمير موضعه ادعاء شهدته المغنية عن ذكره مع ما فيه من زيادة التقرير فإن الضمير لا يفهم منه من اول الأمر إلا شأن مبهم له خطر فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه فيتمكن عند وروده له فضل تمكن كأنه قيل إن الشأن الخطير هذا أي قوله تعالى

من يأت ربه مجرما بأن مات على الكفر والمعاصي

فإن له جهنم لا يموت فيها فينتهي عذابه وهذا تحقيق لكون عذابه أبقى

ولا يحيا حياة ينتفع بها

٧٥

ومن يأته مؤمنا به تعالى وبما جاء من عنده من المعجزات التي من جملتها ما شاهدناه

قد علم الصالحات الصالحة كالحسنة جارية مجرى الاسم ولذلك لا تذكر غالبا مع الموصوف وهي كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والنقل

فأولئك إشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الفعلين السابقين باعتبار لفظها وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم أي فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات لهم بسبب إيمانهم وأعمالهم الصالحة

الدرجات العلى أي المنازل الرفيعة وليس فيه ما يدل على عدم اعتبار الإيمان المجرد عن العمل الصالح في استتباع الثواب لأن ما نيط بالإيمان المقرون بالأعمال الصالحة هو الفوز بالدرجات العلى لا بالثواب مطلقا وهل التشاجر إلا فيه

٧٦

جنات عدن بدل من الدرجات العلى أو بيان وقد مر أن عدنا علم لمعنى الإقامة أو لأرض الجنة فقوله تعالى

تجري من تحتها الأنهار حال من الجنات وقوله تعالى

خالدين فيها حال من الضمير في لهم والعامل معنى الاستقرار أو الإشارة

وذلك إشارة إلى ما أتيح لهم من الفوز بما ذكر من الدرجات العلى ومعنى البعد لما مر من التفخيم

جزاء من تزكى أي تطهر من دنس الكفر والمعاصي بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة وهذا تحقيق لكون ثوابه تعالى أبقى وتقديم ذكر حال المجرم للمسارعة إلى بيان أشدية عذابه ودوأمه ردا على ما ادعاه فرعون بقوله أينا أشد عذابا وأبقى هذا وقد قيل هذه الآيات الثلاث ابتداء كلام من اللّه عز و جل قالوا ليس في القرآن أن فرعون فعل بأولئك المؤمنين ما أوعدهم به ولم يثبت في الأخبار

٧٧

ولقد اوحينا إلى موسى حكاية إجمالية لما انتهى إليه أمر فرعون وقومه وقد طوى في البين ذكر ما جرى عليهم من الآيات المفصلات الظاهرة على يد موسى عليه الصلاة و السلام بعد ما غلب السحرة في نحو من عشرين سنة حسبما فصل في سورة الأعراف وتصديرها بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها وأن في قوله تعالى

أن أسر بعبادي إما مفسرة لأن الوحي فيه معنى القول أو مصدرية حذف عنها الجار والتعبير عنهم بعنوان كونهم عبادا له تعالى لإظهار المرحمة والاعتناء بامرهم والتنبيه على غاية قبح صنيع فرعون بهم حيث استعبدهم وهم عباده عز و جل وفعل بهم من فنون الظلم ما فعل أي وباللّه لقد أوحينا إليه عليه الصلاة و السلام أن أسر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من ملكة فرعون أي سربهم من مصر ليلا

فاضرب لهم أي فاجعل أو فاتخذ لهم

طريقا في البحر يبسا أي يابسا على أنه مصدر وصف به الفاعل مبالغة وقرئ يبسا وهو إما مخفف منه أو وصف كصعب أو جمع يابس كصحب وصف به الواحد للمبالغة أو لتعدده حسب تعدد الأسباط

لا تخاف دركا حال من المأمور رأى آمنا من أن يدرككم العدو أو صفة أخرى لطريقا والعائد محذوف وقرئ لا تخف جوابا للأمر

ولا تخشى عطف على لا تخاف داخل في حكمه أي ولا تخشى الغرق وعلى قراءة الجزم استئناف أي وأنت لا تخشى أو عطف عليه والألف للإطلاق كما في قوله تعالى وتظنون باللّه الظنونا وتقديم نفي الخوف المذكور للمسارعة إلى إزاحة ما كانوا عليه من الخوف العظيم حيث قالوا إنا لمدركون

٧٨

فأتبعهم فرعون بجنوده أي تبعهم ومعه جنوده حتى لحقوهم يقال أتبعتهم أي تبعتهم وذلك إذا كانوا سبقوك فلحقتهم ويؤيده أنه قرئ فأتبعهم من الافتعال

وقيل المعنى أتبعهم فرعون نفسه فحذف المفعول الثاني

وقيل الباء زائدة والمعنى فأتبعهم فرعون جنوده أي سافهم خلفهم وايا ما كان فالفاء فصيحة معربة عن مضمر قد طوى ذكره ثقة بغاية ظهوره وإيذانا بكمال مسارعة موسى عليه الصلاة و السلام إلى الامتثال بالأمر أي ففعل ما أمر به من الإسراء بهم وضرب الطريق وسلوكه فأتبعهم فرعون بجنوده برا وبحرا روي أن موسى عليه الصلاة و السلام خرج بهم اول الليل وكانوا ستمائة وسبعين ألفا فأخبر فرعون بذلك فأتبعهم بعساكره وكانت مقدمته سبعمائة ألف فقص أثرهم فلحقهم بحيث تراءى الجمعان فعند ذلك ضرب عليه الصلاة و السلام بعصاه البحر فانفلق على اثني عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم فعبر موسى عليه الصلاة و السلام بمن معه من الأسباط سالمين وتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما

غشيهم أي علاهم منه وغمرهم ما غرمهم من الأمر الهائل الذي لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه

وقيل غشيهم ما سمعت قصته وليس بذاك فإن مدار التهويل والتفخيم خروجه عن حدود الفهم والوصف لا سماع قصته وقرئ فغشاهم

من اليم ما غشاهم أي غطاهم ما غطاهم والفاعل هو اللّه عز وعلا أو ما غشاهم

وقيل فرعون لأنه الذي ورطهم للّهلكة ويأباه الإظهار في قوله تعالى

٧٩

وأضل فرعون قومه أي سلك بهم مسلكا أداهم إلى الخيبة والخسران في الدين والدنيا معا حيث ماتوا على الكفر بالعذاب الهائل الدنيوي المتصل بالعذاب الخالد الأخروي وقوله تعالى

وما هدى أي ما أرشدهم قط إلى طريق موصل إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية تقرير لإضلاله وتأكيد له إذ رب مضل قد يرشد من يضله إلى بعض مطالبه وفيه نوع تهكم به في قوله وما اهديكم إلا سبيل الرشاد فإن نفي الهداية عن شخص مشعر بكونه ممن يتصور منه الهداية في الجملة وذلك إنما يتصور في حقه بطريق التهكم وحمل الإضلال والهداية على ما يختص بالديني منهما يأباه مقام بيان سوقه بجنوده إلى مساق الهلاك الدنيوي وجعلهما عبارة عن الإضلال في البحر والإنجاء منه مما لا يقبله العقل السليم

٨٠

يا بني إسرائيل حكاية لما خاطبهم اللّه تعالى بعد إغراق فرعون وقومه وإنجائهم منهم لكن لا عقيب ذلك بل بعد ما أفاض عليهم من فنون النعم الدينية والدنيوية ما أفاض

وقيل هو إنشاء خطاب للذين كانوا منهم في عهد النبي صلى اللّه عليه و سلم على معنى أنه تعالى قد من عليهم بما فعل بآبائهم أصالة وبهم تبعا ويرده ما سيأتي من قوله تعالى وما أعجلك الآية ضرورة استحالة حمله على الإنشاء فالوجه هو الحكاية بتقدير قلنا عطفا على أوحينا أي وقلنا يا بني إسرائيل

قد أنجيناكم من عدوكم فرعون وقومه حيث كانوا يبغونكم الغوائل ويسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وقرئ نجيناكم ونجيتكم

وواعدنا كم جانب الطور الأيمن بالنصب على أنه صفة للمضاف وقرئ بالجر للجوار أي واعدناكم بواسطة نبيكم إيتان جانبه الأيمن نظرا إلى السالك من مصر إلى الشام أي إتيان موسى عليه الصلاة و السلام للمناجاة وإنزال التوراة عليه ونسبت المواعدة إليهم مع كونها لموسى عليه الصلاة و السلام نظرا إلى ملابستها إياهم وسراية منفعتها إليهم و إيفاء لمقام الامتنان حقه كما في قوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم حيث نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين مع أن المخلوق المصور بالذات هو آدم عليه الصلاة و السلام وقرئ واعدتكم ووعدناكم

ونزلنا عليكم المن والسلوى أي الترنجبين والسماني حيث كان ينزل عليهم المن وهم في التيه مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان صاع ويبعب الجنوب عليهم السماء فيذبح الرجل منه ما يكفيه كما مر مرارا

٨١

كلوا جملة مستأنفة مسوقة لبيان إباحة ما ذكر لهم وأماما للنعمة عليهم

من طيبات ما رزقناكم أي من لذائذه أو حلالاته وقرئ رزقتكم وفي البدء بنعمة الإنجاء ثم بالنعمة الدينية ثم بالنعمة الدنيوية من حسن النظم ولطف الترتيب مالا يخفى

ولا تطغوا فيه أي فيما رزقناكم بالإخلال بشكره والتعدي لما حد لكم فيه كالسرف والبطر والمنع من المستحق فيحل

عليكم غضبي جواب للنهي أي فتلزمكم عقوبتي وتجب لكم من حل الدين إذا وجب أداؤه ومن يحلل عليه غضبي

فقد هوى أي تردى وهلك

وقيل وقع في الهاوية وقرئ

فيحل بضم الحاء من حل يحل إذا نزل

٨٢

وإني لغفار لمن تاب من الشرك والمعاصي التي من جملتها الطغيان فيما ذكره  وأمن بما يجب الإيمان به

وعمل صالحا أي علم صالحا مستقيما عند الشرع والعقل وفيه ترغيب لمن وقع منه الطغيان فيما ذكر وحث على التوبة والإيمان وقوله تعالى

ثم اهتدى أي استقام على الهدى إشارة إلى أن من لم يسئمر عليه بمعزل من الغفران وثم للتراخي الرتبي

٨٣

وما أعجلك عن قومك يا موسى حكاية لما جرى بينه تعالى وبين موسى عليه الصلاة و السلام من الكلام عند ابتداء موافاته الميقات بموجب المواعدة المذكورة أي وقلنا له أي شئ أعجلك منفردا عن قومك وهذا كما ترى سؤال عن سبب تقدمه على النقباء مسوق لإنكار انفراده عنهم لما في ذلك بحسب الظاهر من مخايل إغفالهم وعدم الاعتداد بهم مع كونه مأمورا باستصحابهم وإحضارهم معه لا لإنكار نفس العجلة الصادرة عنه عليه الصلاة و السلام لكونها نقيصة منافية للحزم اللائق بأولي العزم ولذلك أجاب عليه الصلاة والسلام بنفي الانفراد المنافي للاستصحاب والمعية حيث

٨٤

قال هم اولاء على أثري يعني أنهم معي وإنما سبقتهم بخطا يسيرة ظننت انها لا تخل بالمعية ولا تقدح في الاستصحاب فإن ذلك مما لا يعتد به فيما بين الرفقة أصلا وبعد ما ذكر عليه الصلاة و السلام أن تقدمه ذلك ليس لأمر منكر ذكر أنه لأمر مرضي حيث قال

وعجلت إليك رب لترضى عني بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك واعتنائي بالوفاء بعهدك وزيادة رب لمزيد الضراعة والابتهال رغبة في قبول العذر قال استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية اعتذاره عليه الصلاة و السلام وهو السر في وروده على صيغة الغائب لا أنه التفات من التكلم إلى الغيبة لما أن المقدر فيما سبق من الموضعين على صيغة التكلم كأنه قيل من جهة السامعين فماذا قال له ربه حينئذ فقيل

٨٥

قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك أي ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم وهم الذين خلقهم مع هارون عليه الصلاة و السلام وكانوا ستمائة ألف ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا والفاء لترتيب الإخبار بما ذكر من الابتلاء على إخبار موسى عليه الصلاة و السلام بعجلته لكن لا لأن الإخبار بها سبب موجب للإخبار به بل لما بينهما من المناسبة المصححة للانتقال من أحدهما إلى الآخر من حيث إن مدار الابتلاء المذكور عجلة القوم فإنه روى أنهم أقاموا على ما وصى به موسى عليه الصلاة و السلام عشرين ليلة بعد ذهابه فحسبوها مع أيامها أربعين وقالوا قد أكملنا العدة وليس من موسى عليه الصلاة و السلام عين ولا أثر

وأضلهم السامري حيث كان هو المدبر في الفتنة فقال لهم إنما أخلف موسى عليه الصلاة و السلام ميعادكم لما معكم من حلي القوم وهو حرام عليكم فكان من أمر العجل ما كان فاخبره تعالى بوقوع هذه الفتنة عند قدومه عليه الصلاة و السلام إما باعتبار تحققها في علمه تعالى ومشيئته

وأما بطريق التعبير عن المتوقع بالواقع كما في قوله تعالى ونادى أصحاب الجنة ونظائره أو لأن السامري كان قد عزم على إيقاع الفتنة عند ذهاب موسى عليه الصلاة و السلام وتصدى لترتيب مبانيها وتمهيد مباديها فكانت الفتنة واقعة عند الإخبار بها وقرئ وأضلهم السامري على صيغة لتفضيل أي أشدهم ضلالا لأنه ضال ومضل والسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة

وقيل كان علجا من كرمان

وقيل من أهل باجرما واسمه موسى بن ظفر وكان منافقا قد أظهر الإسلام وكان من قوم يبعدون البقر

٨٦

فرجع موسى إلى قومه عند رجوعه المعهود أي بعد ما استوفى الأربعين وأخذ التوراة لا عقيب الإخبار بالفتنة فسببية ما قبل الفاء لما بعدها إنما هي باعتبار قيد الرجوع المستفاد من قوله تعالى

غضبان أسفا لا باعتبار نفسه وإن كانت داخلة عليه حقيقة فإن كون الرجوع بعد تمام الأربعين أمر مقرر مشهرو لا يذهب الوهم إلى كونه عند الإخبار بالفتنة كما إذا قلت شايعت الحجاج ودعوت لهم بالسلامة فرجعوا سالمين فإن أحدا لا يرتاب في أن المراد رجوعهم المعتاد لا رجوعهم إثر الدعاء وأن سببية الدعاء باعتبار وصف السلامة لا باعتبار نفس الرجوع والأسف الشديد الغضب

وقيل الحزين قال استئناف مبني على سؤال ناشيء من حكاية رجوعه كذلك كأنه قيل فماذا فعل بهم فقيل

قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا بأن يعطيكم التوراة فيها ما فيها من النور والهدى والهمزة لإنكار عدم الوعد ونفيه وتقرير وجوده على أبلغ وجه وآكدة أي وعدكم بحيث لا سبيل لكم إلى إنكاره والفاء في قوله تعالى

أفطال عليكم العهد أي الزمان للعطف على مقدر والهمزة لإنكار المعطوف ونفيه فقط أي أوعدكم ذلك فطال زمان الإنجاز فأخطأتم بسبيه

أم أردتم أن يحل أي يجب

عليكم غضب شديد لا يقادر قدره كائن

من ربكم أي من مالك أمركم على الإطلاق

فأخلفتم موعدي أي وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات على إضافة المصدر إلى مفعوله للقصد إلى زيادة تقبيح حالهم فإن إخلافهم الوعد الجاري فيما بينهم وبينه عليه السلام من حيث إضافته إليه عليه السلام أشنع منه من حيث إضافته إليهم والفاء لترتيب ما بعدها على كل واحد من شقي الترديد على سبيل البدل كأنه قيل أنسيتم الوعد بطول العهد فأخلفتموه خطأ أم أردتم حلول الغضب عليكم فأخلفتموه عمدا

وأما جعل الموعد مضافا إلى فاعله وحمل إخلافه على معنى وجدان الخلف فيه أي فوجدتم الخلف في موعدي لكم بالعود بعد الأربعين فما لا يساعده السباق ولا السياق أصلا

٨٧

قالوا ما أخلفنا موعدك أي وعدنا إياك الثابت على ما أمرتنا به وإيثاره على أن يقال موعدنا على إضافة المصدر إلى فاعله لما مر آنفا

بملكنا أي بأن ملكنا أمور نايعنون أنالو خلينا و أمورنا ولم يسول لنا السامري ما سوله مع مساعدة بعض الأحوال لما أخلفناه وقرئ بملكنا بكسر الميم وضمها والكل لغات في مصدر ملكت الشيء

ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم استدراك عما سبق واعتذار عما فعلوا ببيان منشأ الخطأ وقرئ حلمنا بالتخفيف أي حملنا أحمالا من حلي القبط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس

وقيل كانوا استعاروها لعبد كان لهم ثم لم يردوها إليهم عند الخروج مخافة أن يقفوا على أمرهم

وقيل هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم فأخذوها ولعل تسميتهم لها أوزارا لأنها تبعات وآثام حيث لم تكن الغنائم تحل حينئذ

فقذفناها أي في النار رجاء للخلاص عن ذنبها

فكذلك أي فمثل ذلك القذف

ألقى السامري أي ما كان معه منها وقد كان أراهم أنه أيضا يلقى ما كان معه من الحلي فقالوا ما قالوا على زعمهم

وأما كان الذي ألقاه التربة التي أخذها من أثر الرسول كما سيأتي روى أنه قال لهم إنما تأخر موسى عنكم لما معكم من الأوزار فالرأي أن نحفر حفيرة ونسجر فيها نارا ونقذف فيها كل ما معنا ففعلوا

٨٨

فأخرج أي السامري

لهم للقائلين

عجلا من تلك الحلي المذابة وتأخيره مع كونه مفعولا صريحا عن الجار والمجرور لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم فإن قوله تعالى

جسدا أي جثة ذا دم ولحم أو جسدا من ذهب لا روح له بدل منه وقوله تعالى

له خوار أي صوت عجل نعت له

فقالوا أي السامري ومن افتتن به أول ما رآه

هذا إلهكم وإله موسى فنسي أي غفل عنه وذهب يطلبه في الطور وهذا حكاية لنتيجة فتنة السامري فعلا وقولا من جهته تعالى قصدا إلى زيادة تقريها ثم ترتيب الإنكار عليها لا من جهة القائلين وإلا لقيل فأخرج لنا والحمل على أن عدولهم إلى ضمير الغيبة لبيان أن الإخراج والقول المذكورين للكل لا للعابدة فقط خلاف الظاهر مع أنه مخل باعتذارهم فإن مخالفة بعضهم للسامري وعدم افتتانهم بتسويله مع كون الإخراج والخطاب لهم مما يهون مخالفته للمعتذرين فافتتانهم بعد ذلك أعظم جناية وأكثر شناعة

وأما ما قيل من أن المعتذرين هم الذين لم يعبدوا العجل وأن نسبة الإخلاف إلى أنفسهم وهم برآء منه من قبيل قولهم بنو فلان قتلوا فلانا مع أن القاتل واحد منهم كأنهم قالوا ما وجد الإخلاف فيما بيننا بأمر كنا نملكه بل تمكنت الشبهة في قلوب العبدة حيث فعل السامري ما فعل فأخرج لهم ما أخرج وقال ما قال فلم نقدر على صرفهم عن ذلك ولم نفارقهم مخافة ازدياد الفتنة فيقضي بفساده سباق النظم الكريم وسياقه وقوله تعالى

٨٩

أفلا يرون الخ إنكار وتقيح من جهته تعالى الحال الضالين والمضلين جميعا وتسفيه لهم فيما اقدموا عليه من المنكر الذي لا يشتبه بطلانه واستحالته على أحد وهو اتخاذه إلها والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي

ألا يتفكرون فلا يعلمون أن لا

يرجع إليهم قولا أي أنه لا يرجع إليهم كلاما ولا يرد عليهم جوابا فكيف يتوهمون أنه إله وقرئ يرجع بالنصب قالوا فالرؤية حينئذ بصرية فإن الناصبة لا تقع بد أفعال اليقين أي ألا ينظرون فلا يبصرون عدم رجعه إليهم قولا من الأقوال وتعليق الإبصار بما ذكر مع كونه أمرا عديما للتنبيه على كمال ظهوره المستدعى لمزيد تشنيعهم وتركيك عقولهم وقوله تعالى

ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا عطف على لا يرجع داخل معه في حيز الرؤية أي أفلا يرون أنه لا يقدر على أن يدفع عنهم ضرا أو يجلب لهم نفعا أو لا يقدر على أن يضرهم إن لم يعبدوه أو ينفعهم إن عبدوه

٩٠

ولقد قال لهم هارون من قبل جملة قسمية مؤكدة لما قبلها من الإنكار والتشنيع ببيان عتوهم واستعصائهم على الرسول إثر بيان مكابرتهم لقضية

العقول اي وباللّه لقد نصح لهم هرون ونبههم على كنه الأمر من قبل رجوع موسى عليه السلام إليهم وخطابه إياهم بما ذكر من المقالات

وقيل من قبل قول السامري كأنه عليه السلام أو وما أبصره حين طلع من الحفيرة توهم منهم الافتتان به فساع إلى تحذيرهم وقال لهم

يا قوم إنما فتنتم به اي أوقعتم في الفتنة بالعجل أو أضللتم به على توجيه القصر المستفاد من كلمة إنما إلى نفس الفعل بالقياس إلى مقابله الذي يدعيه القوم لا إلى قيده المذكور بالقياس إلى قيد آخر على معنى إنما فعل بكم الفتنة لا الإرشاد إلى الحق لا على معنى إنما فتنتم بالعجل لا بغيره وقوله تعالى

وإن ربكم الرحمن بكسر إن عطفا على إنما إرشاد لهم إلى الحق إثر زجرهم عن الباطل والتعرض لعنوان الربوبية والرحمة للاعتناء باستمالتهم إلى الحق كما أن التعرض لوصف العجل للاهتمام بالزجر عن الباطل أي أن ربكم المستحق للعبادة هو الرحمن لا غير والفاء في قوله تعالى

فاتبعوني لترتيب ما بعدها على ما قبلها من مضمون الجملتين اي إذا كان الأمر كذلك فاتبعوني في الثبات على الدين

وأطيعوا أمري هذا واتركوا عبادة ما عرفتم شأنه

٩١

قالوا في جواب هرون عليه السلام

لن نبرح عليه على العجل وعبادته

عاكفين مقيمين

حتى يرجع إلينا موسى جعلوا رجوعه عليه السلام إليهم غاية لعكوفهم على عبادة العجل لكن لا على طريق الوعد بتركها عند رجوعه عليه السلام بل بطريق التعليل والتسويق وقد دسوا تحت ذلك أنه عليه السلام لا يرجع بشيء مبين تعويلا على مقالة السامري روى أنهم لما قالوه اعتزلهم هرون عليه السلام في اثنى عشر ألفا وهم الذين لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى عليه السلام وسمع الصياح وكانوا يرقصون حول العجل قال للسبعين الذين كانوا معه هذا صوت الفتنة فقال لهم ما قال وسمع منهم ما قالوا وقوله تعالى قال استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية جوابهم لهرون عليه السلام كأنه قيل فماذا قال موسى لهرون عليهما السلام حين سمع جوابهم له وهل رضي بسكوته بعد ما شاهد منهم ما شاهد فقيل

٩٢

قال له وهو مغتاظ قد أخذ بلحيته ورأسه

يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا بعبادة العجل وبلغوا من المكابرة إلى أن شافهوك بتلك المقالة الشنعاء أن لا تتبعر أي أن

٩٣

تتبعني على أن لا تريدة وهو مفعول ثان لمنع وهو عامل في إذ أي شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم أن تتبعني في الغضب للّه تعالى والمقاتلة مع من كفر به

وقيل المعنى ما حملك على أن لا تتبعني فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابلة

وقيل ما منعك أن تلحقني وتخبرني بضلالهم فتكون مفارقتك مزجرة لهم وفيه أن نصائح هرون عليه السلام حيث لم تزجرهم عما كانوا عليه فلأن لا تزجرهم مفارقته إياهم عنه أولى والاعتذار بأنهم إذا علموا أنه يلحقه ويخبره القصة يخافون رجوع موسى عليه السلام فينزجروا عن ذلك بمعزل من حيز القبول كيف لا وهم قد صرحوا بأنهم عاكفون عليه إلى حين رجوعه عليه السلام

افعصيت أمري اي بالصلابة في الدين والمحاماة عليه فإن قوله له عليهما السلام اخلفني متضمن الأمر بهما حتما فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخف لو كان حاضرا والهمزة للإنكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي الم تتبعني أو أخالفتني فعصيت أمري

٩٤

قال يا ابن أم خص الأم بالإضافة استعظاما لحقها وترقيقا لقلبه لا لما قيل من أنه كان أخاه لأم فإن الجمهور على أنهما كانا شقيقين

لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي أي ولا بشعر راسي روى أنه عليه السلام أخذ شعر راسه بيمينه ولحيته بشماله من شدة غيظه وفرط غضبه للّه وكان عليه السلام حديدا متصلبا في كل شيء فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل ففعل ما فعل وقوله تعالى

إني خشيت الخ استئناف سيق لتعليل موجب النهي ببيان الداعي إلى ترك المقاتلة وتحقيق أنه غير عاص لأمره بل ممتثل به أي إني خشيت لو قاتلت بعضهم بعض وتفانوا وتفرقوا

أن تقول فرقت بين بني إسرائيل برأيك مع كونهم أبناء واحد كما ينبأ عنه ذكرهم بذلك العنوان دون القوم ونحوه وأراد عليه السلام بالتفريق ما يستتبعه القتال من التفريق الذي لا يرجى بعده الاجتماع

ولم ترقب قولي يريد به قوله عليه السلام اخلفني في قومي وأصلح الخ يعني إني رأيت أن الإصلاح في حفظ الدهماء والمداراة معهم إلى أن ترجع إليهم فلذلك استأنيتك لتكون أنت المتدارك للأمر حسبما رأيت لا سيما وقد كانوا في غاية القوة ونحن على القلة والضعف كما يعرب عنه قوله تعالى إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني قال استئناف وقع جوابا عما نشأ من حكاية ما سلف من اعتذار القوم بإسناد الفساد إلى السامري واعتذار هرون عليه السلام كأنه قيل فماذا صنع موسى عليه السلام بعد سماع ما حكى من الاعتذارين واستقرار أصل الفتنة على السامري فقيل

٩٥

قال موبخا له هذا شأنهم

فما خطبك يا سامري أي ما شأنك وما مطلوبك مما فعلت خاطبه عليه السلام بذلك ليظهر للناس بطلان كيده باعترافه ويفعل به وبما صنعه من العقاب ما يكون نكالا للمفتونين به ولمن خلفهم من الأمم

٩٦

قال أي السامري مجيبا له عليه السلام

بصرت بما لم يبصروا به بضم الصاد فيما وقرئ بكسرها في الأول وفتحها في الثاني وقرئ بالتاء على الوجهين على خطاب موسى عليه السلام وقومه أي علمت ما لم يعلمه القوم وفطن لما لم يفطنوا له أو رأيت ما لم يروه وهو الأنسب بما سيأتي من قوله وكذلك سولت لي نفسي لا سيما على القراءة بالخطاب فإن ادعاء علم ما لم يعلمه موسى عليه السلام جرأة عظيمة لا تليق بشأنه ولا بمقامه بخلاف ادعاء رؤية ما لم يره عليه السلام فإن مما يقع بحسب ما يتفق وقد كان رأي أن جبريل عليه السلام جاء راكبا فرسا وكان كلما رفع الفرس يديه أو رجليه على الطريق اليبس يخرج من تحته النبات في الحال فعرف أن له شأنا فأخذ من موطئه حفنة وذلك قوله تعالى

فقبضت قبضة من أثر الرسول وقرئ

من أثر فرس الرسول أي من تربة موطئ فرس الملك الذي ارسل إليك ليذهب بك إلى الطور ولعل ذكره بعنوان الرسالة للإشعار بوقوفه على ما لم يقف عليه القوم من الأسرار الإلهية تأكيدا لما صدر به مقالته والتنبيه على وقت أخذ ما اخذ والقبضة المرة من القبض أطلقت على المقبوض مرة وقرئ بضم القاف وهو اسم المقبوض كالغرفة والمضغة وقرئ فقبصت قبصة بالصاد المهملة والأول للأخذ بجميع الكف والثاني بأطراف الأصابع ونحوهما الخضم والقضم

فنبذتها أي في الحلي المذابة فكان ما كان

وكذلك سولت لي نفسي أي ما فعلته من القبض والنبذ فقوله تعالى ذلك إشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعده ومحل كذلك في الأصل النصب على أنه مصدر تشبيهي أي نعت لمصدر محذوف والتقدير سولت لي نفسي تسويلا كائنا مثل ذلك التسويل فقدم على الفعل لإفادة القصر واعتبرت الكاف مقحمة لإفادة تأكيد ما أفاده اسم الإشارة من افخامة فصار نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أي ذلك التزيين البديع زيت لي نفسي ما فعلته لا تزيينا أدنى منه ولذلك فعلته وحاصل جوابه أن ما فعله إنما صدر عنه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة بالسوء وإغوائها لا بشيء آخر من البرهان العقلي أو الإلهام الإلهي فعند ذلك

٩٧

قال عليه السلام

فاذهب أي من بين الناس وقوله تعالى

فإن لك في الحياة الخ تعليل لموجب الأمر وفي متعلقة بالاستقرار في لك أي ثابت لك في الحياة أو بمحذوف وقع حالا من الكاف والعامل معنى الاستقرار في الظرف المذكور لاعتماده على ما هو مبتدأ معنى لا بقوله تعالى

أن تقول لا مساس لمكان أي أن ثابت لك كائنا في الحياة أي مدة حياتك أن تفارقهم مفارقة كلية لكن لا بحسب الاختيار بموجب التكليف بل بحسب الاضطرار الملجئ إليها وذلك أنه تعالى رماه بداء عقام لا يكاد يمس أحدا أو بمسه احد كائنا من كان إلا حما من ساعته حمى شديدة فتحامى الناس وتحاموه وكان يصيح بأقصى طوقه لا مساس وحرم عليهم ملاقته ومواجهته ومكالمته ومبايعته وغيرها مما يعتاد جريانه فيما بين الناس من المعاملات وصار بين الناس اوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم ومن الوحش النافر في البرية ويقال إن قومه باق فيهم تلك الحالة الى اليوم وقرئ لا مساس كفجار وهو علم للمسة ولعل السر في مقابلة جنايته بتلك العقوبة خاصة ما بينهما من مناسة لتضاد فإنه لما أنشأ الفتنة بما كانت ملابسته سببا لحياة الموات عوقب مما يضاده حيث جعلت ملابسته سببا للحمى التي هي من اسباب موت الأحياء

وإن لك موعدا أي في الآخرة

لن تخلفه اي لن يخلفك اللّه ذلك الوعد بل ينجزه لك البتة بعد ما عاقبك في الدنيا وقرئ بكسر اللام

والأظهر أنه من أخلفت الموعد أي وجدته خلفا وقرئ بالنون على حكاية قوله عز و جل وانظر

إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا أي ظللت مقيما على عبادته فحذفت اللام الأولى تخفيفا وقرئ بكسر الظاء بنقل حركة اللام إليها

لنحرقنه جواب قسم محذوف أي بالنار ويؤيده قراءة لنحرقنه من الإحراق وقيل بالمبرد على أنه مبالغة في حرق إذا برد بالمبرد ويعضده قراءة لنحرقنه

ثم لننسفنه أي لنذرينه وقرئ بضم السين

في اليم رمادا أو مبرودا كأنه هباء

نسفا بحيث لا يبقى منه عين ولا اثر ولقد فعل عليه السلام ذلك كله يشهد به الأمر بالنظر وإنما لم يصرح به تنبيها على كمال ظهوره واستحالة الخلف في وعده المؤكد باليمين

٩٨

إنما إلهكم اللّه استئناف مسوق لتحقيق الحق إثر إبطال الباطل بتلوين الخطاب وتوجيه إلى الكل أي إنما معبودكم المستحق للعبادة اللّه

الذي لا إله في الوجود لشيء من الأشياء

إلا هو وحده من غير أن يشاركه شيء من الأشياء بوجه من الوجوه التي من جملتها أجكام الألوهية وقرئ اللّه لا إله إلا هو الرحمن رب العرش وقوله تعالى

وسع كل شيء علما اي وسع علمه كل ما من شأنه أن يعلم بدل من الصلة كأنه قيل إنما إلهكم اللّه الذي وسع كل شيء علما لا غيره كائنا ما كان فيدخل فيه العجل دخولا أوليا وقرئ وسع بالتشديد فيكون انتصاب علما على المفعولية لأنه على القراءة الأولى فاعل حقيقة وبنقل الفعل إلى التعدية إلى المفعولين صار الفاعل مفعولا أول كأنه قيل وسع علمه كل شيء وبه تم حديث موسى عليه السلام المذكور لتقرير أمر التوحيد حسبما نطقت به خاتمته وقوله تعالى

٩٩

كذلك نقص عليك كلام مستأنف خوطب به النبي صلى اللّه عليه و سلم بطريق الوعد الجميل بتنزيل أمثال ما مر

من أنباء الأمم السالفة وذلك إشارة إلى اقتصاص حديث موسى عليه السلام وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الفضل ومحل الكاف النصب على أنه نعت لمصدر مقدر أي نقص عليك من أنباء

ما قد سبق من الحوادث الماضية الجارية على الأمم الخالية قصا مثل ذلك القص المار والتقديم للقصر المفيد لزيادة التعيين ومن في قوله تعالى من أنباء في حيز النصب إما على أنه مفعول نقص باعتبار مضمونه

وأما على أنه متعلق بمحذوف هو صفة للمفعول كما في قوله تعالى ومنا دون ذلك أي جمع دون ذلك والمعنى نقص عليك بعض من أنباء ما قد سبق أو بعضا كائنا من أنباء ما قد سبق وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى ومن الناس من يقول الخ وتأخيره عن عليك لما مر مرارا من الإعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أي مثل ذلك القص البديع الذي سمعته نقص عليك ما ذكر من الأنباء لا قصا ناقصا عنه تبصرة لك وتوفير لعلمك وتكثيرا لمعجزاتك وتذكر للمستبصرين من أمتك

وقد آتيناك من لدنا ذكرا أي كتابا منطويا على هذه الأقاصيص والأخبار حقيقا بالتفكر والاعتبار وكلمة من متعلقة بآتيناك وتنكير ذكر للتفخيم وتأخيره عن الجار والمجرور لما أن مرجع الإفادة في الجملة كون المؤتى من لدنه تعالى ذكرا عظيما وقرآنا كريما جامعا لكل كمال لا كون ذلك الذكر مؤتى من لدنه عز و جل مع ما فيه من نوع طول بما بعده من الصفة فتقديمه يذهب برونق النظم الكريم

١٠٠

من أعرض عنه عن ذلك الذكر العظيم الشأن المستتبع لسعادة الدارين

وقيل عن اللّه عز و جل ومن إما شرطية أو موصولة وايا ما كانت فالجملة صفة لذكرا

فإنه أي المعرض عنه

يحمل يوم القيامة وزرا أي عقوبة ثقيلة فادحة على كفره وسائر ذنوبه وتسميتها وزرا إما لتشبيهها في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل الذي يفدح الحامل وينقض ظهره أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم والأول هو الأنسب بما سيأتي من تسميتها حملا وقوله تعالى

١٠١

خالدين فيه أي في الوزر أو في احتماله المستمر حال من المستكن في يحمل والجمع بالنظر إلى معنى من لما أن الخلود في النار مما يتحقق حال اجتماع أهلها كما أن الإفراد فيما سبق من الضمائر الثلاثة بالنظر إلى لفظها

وساء لهم يوم القيامة حملا أي بئس لهم ففيه ضمير مبهم يفسره حملا والمخصوص بالذم محذوف اي ساء حملا وزرهم واللام للبيان كما في هيت لك كأنه لما قيل ساء قيل لمن يقال هذا فأجيب لهم وإعادة يوم القيامة لزيادة التقرير وتهويل الأمر

١٠٢

يوم ينفخ في الصور بدل من يوم القيامة أو منصوب بإضمار اذكر أو ظرف لمضمر قد حذف للإيذان بضيق العبارة عن حصره وبيان حسبما مر في تفسير قوله تعالى يوم يجمع اللّه الرسل وقوله تعالى يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا وقرئ ننفخ بالنون على إسناد النفخ إلى الآمر به تعظيما له وبالياء المفتوحة على أن ضميره للّه عز و جل أو لإسرافيل عليه السلام وإن لم يجر ذكره لشهرته

ونحشر المجرمين يومئذ أي يوم إذ ينفخ في الصور وذكره صريحا مع تعين أن الحشر لا يكون إلا يومئذ للتهويل وقرئ ويحشر المجرمون

زرقا أي حال كونهم زرق العيون وإنما جعلوا كذلك لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب فإن الروم الذين كانوا أعدى عدوهم زرق ولذلك قالوا في صفة العدو أسود الكبد واصهب السبال وازرق العين أو عميا لأن حدقة الأعمى تزرق وقوله تعالى

١٠٣

يتخافتون بينهم اي يخفضون أصواتهم ويخفونها لما يملأ صدورهم من الرعب والهول استئناف ببيان ما يأتون وما يذرون حينئذ أو حال أخرى من المجرمين أي يقول بعضهم لبعض بطريق المخافتة

إن لبثتم أي ما لبثتم في الدنيا

إلا عشرا أي عشر ليال استقصار لمدة لبثهم فيها لزوالها أو لاستطالتهم مدة الآخرة أو لتأسفهم عليها لما عاينوا الشدائد وايقنوا انهم استحقوها على إضاعتها في قضاء الأوطار واتباع الشهوات أو في القمر وهو الأنسب بحالهم فإنهم حين يشاهدون البعث الذي كانوا ينكرونه في الدنيا ويعدونه من قبيل المحالات لا يتمالكون من أن يقولوا ذلك اعترافا به وتحقيقا لسرعة وقوعه كأنهم قالوا قد بعثتم وما لبثتم في القبر إلا مدة يسيرة وإلا فحالهم أفظع من أن تمكنهم من الاشتغال بتذكر ايام النعمة والسرور واستقصارها والتاسف عليها

١٠٤

نحن أعلم بما يقولون وهو مدة لبثهم

إذ يقول أمثلهم طريقة اي أعد لهم رايا أو عملا

إن لبثتم إلا يوما ونسبة هذا القول إلى أمثلهم استرجاع منه تعالى له لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق بل لكونه أدل على شدة الهول

١٠٥

ويسألونك عن الجبال أي عن مآل أمرها وقد سأل عنه رجل من ثقيف وقيل مشركو مكة على طريق الاستهزاء

فقل ينسفها ربي نفسا أي يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها والفاء للمسارعة إلى إلزام السائلين

١٠٦

فيذروها الضمير إما للجبال باعتبار أجزائها السالفة الباقية بعد النسف وهي مقارها ومراكزها أي فيذر ما انبسط منها وساوى سطحه سطوح سائر أجزاء الأرض بعد نسف مانتا منها ونشزو إما للأرض المدلول عليها بقرينة الحال لأنها الباقية بعد نسف الجبال وعلى التقديرين يذر الكل

قاعا صفصفا لأن الجبال إذا سويت وجعل سطحها مساويا لسطوح سائر أجزاء الأرض فقد جعل الكل سطحا واحدا والقاع قيل السهل

وقيل المنكشف من الأرض

وقيل المستوي الصلب منها

وقيل مالا نبات فيه ولا بناء والصفصف الأض المستوية الملساء كان أجزاءه صف واحد من كل جهة وانتصاب قاعا على الحالية من الضمير المنصوب أو هو مفعول ثان ليذر على تضمين معنى التصيير وصفصفا إما حال ثانية أو بدل من المفعول الثاني وقوله تعالى

١٠٧

لا ترى فيها أي مقار الجبال أو في الأرض على ما مر من التفصيل

عوجا بكسر العين أي اعوجاجا ما كأنه لغاية خفائه من قبيل ما في المعاني أي لا تدركه إن تأملت بالمقاييس الهندسية ولا أمتا أي نتوءا يسيرا استئناف مبين لكيفية ما سبق من القاع الصفصف أو حال أخرى أو صفة لقاعا والخطاب لكل أحد ممن تأتي منه الرؤية وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من طول ربما يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم

١٠٨

يومئذ أي يوم إذ نسفت الجبال على إضافة اليوم إلى وقت النسف وهو ظرف لقوله تعالى

يتبعون الداعي وقيل بدل من يوم القيامة وليس بذاك اي يتبع الناس داعي اللّه عز و جل إلى المحشر وهو إسرافيل عليه السلام يدعو الناس عند النفخة الثانية قائما على صخرة بيت المقدس ويقول أيتها العظام النخرة والأوصال المتفرقة واللحوم المتمزقة قومي إلى عرض الرحمن فيقبلون من كل أوب إلى صوبه

لاعوج له لا يعوج له مدوعو ولا يعدل عنه

وخشعت الأصوات للرحمن اي خضعت لهيبته

فلا تسمع إلا همسا اي صوتا خفيا ومنه الهميس لصوت إخفاف الإبل وقد فسر الهمس بخفق أقدامهم ونقلها إلى المحشر

١٠٩

يومئذ اي يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة

لا تنفع الشفاعة من الشعفاء أحدا

إلا من أذن الرحمن أن يشفع له

ورضي له قولا إي ورضي لأجله قول الشافع في شأنه أو رضي قوله لأجله وفي شأنه

وأما من عداه فلا تكاد تنفعه وإن فرض صدورها عن الشفعاء المتصدين للشفاعة للناس كقوله تعالى فما تنفعهم شفاعة الشافعين فالاستثناء كما ترى من أعم المفاعيل

وأما كونه استثناء من الشفاعة على معنى لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن أن يشفع لغيره كما جوزوه فلا سبيل إليه لما أن حكم الشفاعة ممن لم يؤذن له أن لا يملكها ولا تصدر هي عنه أصلا كما في قوله تعالى لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا وقوله تعالى ولا يشفعون إلا لمن ارتضى فالإخبار عنها بمجرد عدم نفعها للمشفوع له ربما يوهم إمكان صدورها عمن لم يؤذن له مع إخلاله بمقتضى مقام تهويل اليوم

وأما قوله تعالى ولا يقبل منها شفاعة فمعناه عدم الإذن في الشفاعة لا عدم قبولها بعد وقوعها

١١٠

يعلم ما بين أيديهم اي ما تقدمهم من الأحوال

وقيل من أمر الدنيا

وما خلفهم وما بعدهم مما يستقبلونه

وقيل من امر الآخرة

ولا يحيطون به علما اي لا تحيط علومهم بمعلوماته تعالى

وقيل بذاته اي من حيث اتصافه بصفات الكمال التي من جملتها العلم الشامل

وقيل الضمير لأحد الموصولين أو لمجموعها فإنهم لا يعلمون جميع ذلك ولا تفصيل ما علموا منه

١١١

وعلت الوجوه للحي القيوم أي ذلت وخضعت خضوع العتاة أي الأسارى في يد الملك القهار ولعلها وجوه المجرمين كقوله تعالى سيئت وجوه الذين كفورا ويؤيده قوله تعالى

وقد خاب من حمل ظلما قال ابن عباس رضي اللّه عنهما خسر من اشرك باللّه ولم يتب وهو استئناف لبيان ما لأجله عنت وجوههم أو اعتراض كأنه قيل خابوا وخسروا

وقيل حال من الوجوه ومن عبارة عنها مغنية عن ضميرها

وقيل الوجوه على العموم فالمعنى حينئذ وقد خاب من حمل منهم ظلما فقوله تعالى

١١٢

ومن يعمل من الصالحات الخ قسم لقوله تعالى وقد خاب من حمل ظلما لا لقوله تعالى وعنت الوجوه الخ كما أنه كذلك على الوجه الأول أي ومن يعمل بعض الصالحات أو بعضا من الصالحات على أحد الوجهين المذكورين في تفسير قوله تعالى من أنباء ما قد سبق

وهو مؤمن فإن الإيمان شرط في صحة الطاعات وقبول الحسنات

فلا يخاف ظلما اي منع ثواب مستحق بموجب الوعد

ولا هضما ولا كسرا منه ينقص أو لا يخاف جزاء ظلم وهضم إذا لم يصدر عنه ظلم ولا هضم حتى يخافهما وقرئ فلا يخف على النهي

١١٣

وكذلك عطف على كذلك نقص وذلك إشارة إلى إنزال ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد المنبثة عما سيقع من أحوال القيامة وأهوالها أي مثل ذلك الإنزال

أنزلناه اي القرآن كله وإضماره من غير سبق ذكره للإيذان بنباهة شأنه وكونه مركوزا في العقول حاضرا في الأذهان

قرآنا عربيا ليفهمه العرب ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز الدال على كونه خارجا عن طوق البشر نازلا من عند خلاق القوى والقدر

وصرفنا فيه من الوعيد اي كررنا فيه بعض الوعيد أو بعضا من الوعيد حسبما أشير إليه آنفا

لعلهم يتقون أي كي يتقو الكفر والمعاصي بالفعل

أو يحدث لهم ذكرا اتعاظا واعتبارا مؤديا بالآخرة إلى الاتقاء

١١٤

فتعالى اللّه استعظام له تعالى ولشئونه التي يصرف عليها عباده من الأوأمر والنواهي والوعد والوعيد وغير ذلك اي ارتفع بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله وأحواله الملك النافذ أمره ونهيه الحقيق بأن يرجى وعده ويخشى وعيده

الحق في ملكوته وألوهيته لذاته أو الثابت في ذاته وصفاته

ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك أي يتم وحيه كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إذا ألقى إليه جبريل عليه السلام الوحي يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ فنهى عن ذلك إثر ذكر الإنزال بطريق الاستطراد لما أن استقرار الألفاظ في الأذهان تابع لاستقرار معانيها فيها وربما يشغل التفظ بكلمة عن سماع ما بعدها وأمر باستفاضة العلم واستزادته منه تعالى فقيل

وقل أي في

نفسك رب زدني علما أي سل اللّه عز و جل زيادة العلم فإنه الموصل إلى طلبتك دون الاستعجال

وقيل أنه نهى عن تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتي بيانه وليس بذلك فإن تبليغ المجمل وتلاوته قبل البيان مما لا ريب في صحته ومشروعيته

١١٥

ولقد عهدنا إلى آدم كلام مستانف مسوق لتقرير ما سبق من تصريف الوعيد في القرآن وبيان ان أساس بني آدم على العصيان وعرقه راسخ في النسيان مع ما فيه من إنجاز الموعود في قوله تعالى كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق يقال عهد إليه الملك وعزم عليه وتقدم إليه إذا امره ووصاه والمعهود محذوف يدل عليه ما بعده واللام جواب قسم محذوف أي واقسم أو وباللّه أو تاللّه لقد أمرناه ووصيناه

من قبل اي من قبل هذا الزمان

فنسي أي العهد ولم يعتن به حتى غفل عنه أو تركه ترك المسي عنه وقرئ فنسي أي نساه الشيطان

ولم نجد له عزما

تصميم راي وثبات قدم في المور إذ لو كان كذلك لما أزله الشيطان ولما استطاع أن يغره وقد كان ذلك منه عليه السلام في بدء أمره من قلبل أن يجرب الأمور ويتولى حارها وقارها ويذوق شريها وأريها عن النبي صلى اللّه عليه و سلم لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه وقد قال اللّه تعالى ولم نجد له عزما

وقيل عزما على الذنب فإنه أخطأ ولم يتعمد وقوله تعالى ولم نجد إن كان من الوجود العلمي فله عزما مفعولا قدم الثاني على الأول لكونه ظرفا وإن كان من الوجود المقابل للعدم وهو الأنسب لأن مصب الفائدة هو المفعول وليس في الإخبار بكون العزم المعدوم له مزيد مزيه فله متعلق به قدم على مفعوله لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أو بمحذوف هو حال من مفعوله المنكر كانه قيل ولم نصادف له عزما وقوله تعالى

١١٦

وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم شروع في بيان المعود وكيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه وإذ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلى اللّه عليه و سلم أي واذكر وقت قولنا لهم وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث لما مر مرارا من المبالغة في إيجاب ذكرها فإن الوقت مشتمل على تفاصيل الأمور الواقعة فيه فالأمر بذكره أمر بذكر تفاصيل ما وقع فيه بالطريق البرهاني ولأن الوقت مشتمل على اعيان الحوادث فإذا ذكر صارت الحوادث كانها موجودة في ذهن المخاطب بوجوداتها لعينية اي اذكر ما وقع في ذلك الوقت منا ومنه حتى يتبين لك نسيانه وفقدان عزمه

فسجدوا إلا إبليس قد سبق الكلام فيه مرارا

ابى جملة مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ عن الإخبار بعدم سجوده كأنه قيل ما باله لم يسجد فقيل ابى واستكبر ومفعول أبى إما محذوف اي أبى السجود كما قوله تعالى أبى أن يكون مع الساجدين أو غير منوي راسا بتنزيله منزلة اللازم اي فعل الإباء واظهره

١١٧

فقلنا عقيب ذلك اعتناء بنصحه يا

آدم إن هذا الذي رايت ما فعل

عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما اي لا يكونن سببا لإخراجكما

من الجنة والمراد نهيهما عن أن يكونا بحيث يستبب الشيطان إلى إخراجهما منها بالطريق البرهاني كما في قولك لا ارينك ههنا والفاء لترتيب موجب النهي على عداوته لهما أو على الإخبار بها

فتشقى جواب للنهي وإسناد الشقاء إليه خاصة بعد تعليق الإخراج الموجب له بهما معا لأصالته في الأمور واستلزام شقائه لشقائها مع ما فيه من مراعاة الفواصل

وقيل المراد بالشقاء التعب في تحصيل مبادئ المعاش وذلك من وظائف الرجال

١١٨

  انظر تفسير الآية:١١٩

١١٩

إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى تعليل لما يوجبه النهي فإن اجتماع أسباب الراحة فيها مما يوجب المبالغة في الإهتمام بتحصيل مبادئ البقاء فيها والجد في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها والعدول عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعما بفنون النعم من المآكل والمشارب وتمتعا بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها ما لا يخفى إلى ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعري والضحى لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره عنها ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها على أن الترغيب قد حصل بما سوغ له من التمتع بجميع ما فيها سوى ما استنثى من الشجرة حسبما نطق به قوله تعالى ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما وقد طوى ذكره ههنا اكتفاء بما ذكر في موضع آخر واقتصر على ما ذكر من الترغيب المتضمن الترهيب ومعنى أن لا تجوع فيها الخ أن لا يصيبه شيء من الأمور الأربعة أصلا فغن الشبع والري والكسوة والكن قد تحصل بعد عروض اضدادها بإعواز الطعام والشراب واللباس والمسكن وليس الأمر فيها كذلك بل كل ما وقع فيها شهوة وميل إلى شيء من الأمور المذكورة تمتع به من غير أن يصل إلى حد الضرورة ووجه إفراده عليه السلام بما ذكر ما مر آنفا وفصل الظمأ عن الجوع في الذكر مع تجانسهما وتقارنهما في الذكر عادة وكذا حال العري والضحو المتجانسين لتوفيه مقام الامتنان حقه بالإشارة إلى أن نفي كل واحد من تلك الأمور نعمة على حيالها ولو جمع بين الجوع والظمأ لربما توهم أن نفيهما نعمة واحدة وكذا الحال في الجمع بين العري والضحو على منهاج قصة البقرة ولزيادة التقرير بالتنبيه على أن نفي كل واحد من الأمور المذكوره مقصوده بالذات مذكوره بالإصالة لا أن نفي بعضها مذكورة بطريق والتبعية لنفي بعض آخر كما عسى يتوهم لو جمع بين كل من المتجانسين و قرىء إنك بالكسر و الجمهور على الفتح بالعطف على أن لا تجوع وصحة وقوع الجملة بأن المفتوحة اسما للمكسورة المشاركة لها في إفادة التحقيق مع امتناع وقوعها خبرا لها لما أن المحذور احتماع حرفي التحقيق في مادة واحدة لا اجتماع فيما نحن فيه لاختلاف مناط التحقيق فيما في حيز هما بخلاف ما لو وقعت خبرا لها فإن اتحاد المناط حينئذ مما لا ريب فيه بيانه أن كل واحد من المكسورة والمفتوحة موضوعة لتحقيق مضمون الجملة الخبرية المنعقدة من اسمها وخبرها ولا يخفى أن مرجع خبريتها ما فيها من الحكم الإيجابي أو السلبي وأن مناط ذلك الحكم خرها لا اسمها فمدلول كل منهما تحقيق ثبوت خبرها لا سمها لا ثبوت اسمها في نفسها فاللازم من وقوع الجملة المصدرة بالمفتوحة اسما للمكسورة تحقيق ثبوت خبرها لتلك الجملة المؤولة بالمصدر

وأما تحقيق ثبوتها في نفسها فهو مدلول المفتوحة حتما فلم يلزم اجتماع حرفي التحقيق في مادة واحدة قطعا وإنما لم يجوزوا أن يقال إن أن زيدا قائم حق مع اختلاف المناط بل شرطوا الفصل بالخبر كقولنا إن عندي أن زيادا قائم للتجافي عن صورة الاجتماع والواو العاطفة وإن كانت نائبة عن الكسورة التي يمتنع دخولها على المفتوحة بلا فصل وقائمة مقامها في إفضاء معناها وإجراء أحكامها على مدخولها لكنها حيث لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق لم يلزم من دخولها على المفتوحة اجتماع حرفي التقحيق أصلا فالمعنى إن لك عدم الجوع وعدم العري وعدم الظمأ خلا أنه لم يقتصر على بيان أن الثابت له عليه السلام عدم الظمأ والضحو مطلقا كما فعل مثله في المعطوف عليه بل قصد بيان أن الثابت له عليه السلام تحقيق عدمها فوضع موضع الحرف المصدري المحصن أن المفيدة له كأنه قيل إن لك فيها عدم ظمئك على التحقيق

١٢٠

فوسوس إليه الشيطان أي أنهى إليه وسوسته أو أسرها إليه قال إما بدل من وسوس أن استئناف وقع وجوابا عن سؤال نشأ منه كأنه قيل فماذا قال في وسوسته فقيل

قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد أي شجرة من أكل منها خلد ولم يمت أصلا سواء كان على حاله أو بأن يكون ملكا لقوله تعالى إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين

وملك لا يبلى أي لا يزول ولا يختل بوجه من الوجوه

١٢١

فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما قال ابن عباس رضي اللّه عنهما عريا عن النور الذي كان اللّه تعالى ألبسهما حتى بدت فروجهما

وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة قد مر تفسيره في سورة الأعراف

وعصى آدم ربه بما ذكر من أكل الشجرة

فغوى ضل عن مطلوبه الذي هو الخلود أو عن المأمور به أو عن الرشد حيث اغتر بقول العدو العدو وقرىء فغوى من غوى الفصيل إذا اتخم من اللبن وفي وصفه عليه السلام بالعصيان والغواية مع صغر زلته تعظيم لها وزجر بليغ لأولاده عن أمثالها

١٢٢

ثم اجتباه ربه أي اصطفاه وقربه إليه بالجمل على التوبة والتوفيق لها من اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه أي جمعه كقولك اجتمعته أو من جبى إلى كذا فاجتبيته مثل جليب على العروس فاجتليتها وأصل الكلمة الجمع وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام مزيد تشريف له عليه السلام

فتاب عليه أي قبل توبته حين تاب هو وزوجته قائلين ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين وإفراده عليه السلام بالاجتباء وقبول التوبة قد مر وجهه وهدى أي إلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب العصمة قال استئناف مبنى على السؤال نشأ من الإخبار بأنه تعالى قبل توبته وهداه كأنه قيل فماذا أمره تعالى بعد ذلك فقيل

١٢٣

قال له ولزوجته اهبطا منها جميعا أي انزلا من الجنة إلى الأرض وقوله تعالى

بعضكم لبعض عدو حال من ضمير المخاطب في اهبطا والجمع لما أنهما أصل الذرية ومنشأ الأولاد أي متعادين في أمر المعاش كما علي الناس من التجاذب والتحارب

فإما يأتينكم مني هدى من كتاب ورسول

فمن اتبع هداي وضع الظاهر موضع المضمر مع الإضافة إلى ضميره تعالى لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه

فلا يضل في الدنيا

ولا يشقى في الآخرة

١٢٤

ومن أعرض عن ذكرى أي عن الهدى الذاكر لي والداعي إلى

فإن له في الدنيا

معيشة ضنكا ضيقا مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث وقرئ ضنكى كسكرى وذلك لأن مجامع همته ومطامح نظره مقصورة على أعراض الدنيا وهو متهالك على ازديادها وخائف من انتقاصها بخلاف المؤمن الطالب للآخرة مع أنه قد يضيق اللّه بشؤم الكفر ويوسع ببركة الإيمان كما قال تعالى وضربت عليهم الذلة والمسكنة وقال تعالى ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض وقوله تعالى ولو أن أهل الكتاب آمنوا إلى قوله تعالى لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم

وقيل هو الضريع والزقوم في النار

وقيل عذاب القبر

ونحشره وقرئ بسكون الهاء على لفظ الوقف والجزم عطفا على محل فإن له معيشة ضنكا لأنه جواب الشرط يوم القيامة أعمى فاقد البصر كما في قوله تعالى ونحشرهم

يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما لا أعمى عن الحجة كما قيل

١٢٥

قال استئناف كما

مر رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا أي في الدنيا وقرئ أعمى بالإمالة في الموضعين وفي الأول فقط لكونه جديرا بالتغيير لكونه رأس الآية ومحل الوقف

١٢٦

قال كذلك أي مثل ذلك فعلت أنت ثم فسره بقوله تعالى

أتتك آياتنا واضحة نيرة بحيث لا تخفى على أحد

فنسيتها أي عميت عنها وتركتها ترك المنسي الذي لا يذكر أصلا

وكذلك ومثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا

اليوم تنسى تترك في العمى والعذاب جزاء وفاقا لكن لا أبدا كما قيل بل إلى ما شاء اللّه ثم يزيله عنه فيرى أهوال القيامة ويشاهد مقعده من النار ويكون ذلك له عذابا فوق العذاب وكذا البكم والصمم يزيلهما اللّه تعالى عنهم أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا

١٢٧

وكذلك أي مثل ذلك الجزاء الموافق للجناية

نجزي من أسرف بالانهماك في الشهوات

ولم يؤمن بآيات ربه بل كذبها وأعرض عنها

ولعذاب الآخرة على الإطلاق أو عذاب النار

أشد وأبقى أي من ضنك العيش أو منه ومن الحشر على العمى

١٢٨

أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من قوله تعالى وكذلك نجزي الآية والهمزة للإنكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام واستعمال الهداية باللام إما لتنزيلها منزلة اللام فلا حاجة إلى المفعول أو لأنها بمعنى التبيين والمفعول محذوف وأيا ما كان فالفاعل هو الجملة بمنصوبها ومعناها وضمير لهم للمشركين المعاصرين لرسوله اللّه صلى اللّه عليه و سلم والمعنى أغفلوا فلم يفعل الهداية لهم أو فلم يبين لهم مآل أمرهم كثرة أهلا كنا للقرون الأولى وقد مر في قوله عز و جل أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها الآية

وقيل الفاعل الضمير العائد إلى اللّه عز و جل ويؤيده القراءة بنون العظمة وقوله تعالى كم أهلكنا الخ إما معلق للفعل ساد مسد مفعوله أو مفسر لمفعوله المحذوف هكذا قيل والأوجه أن لا يلاحظ له مفعول كأنه قيل أفلم يفعل اللّه تعالى لهم الهداية ثم قيل بطريق الإلتفات كم أهلكنا الخ بيانا لتلك الهداية ومن القرون في محل النصب على أنه وصف لمميزكم أي كم قرنا كائنا من القرون وقوله تعالى

ويمشون في مساكنهم حال من القرون أو من مفعول أهلكنا أي أهلكناهم وهم في حال أمن وتقلب في ديارهم أو من الضمير في لهم مؤكد للإنكار والعامل يهد والمعنى أفلم يهد لهم إهلا كنا للقرون السالفة من أصحاب الحجر وثمود وقريات قوم لوط حال كونهم ماشين في مساكنهم إذا سافروا إلى الشام مشاهدين لآثار هلاكهم مع أن ذلك مما يوجب أن يهتدوا إلى الحق فيعتبروا لئلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك وقرىء يمشون على البناء للمفعول أي يمكنون من المشى

إن في ذلك تعليل للإنكار وتقرير للّهداية مع عدم اهتدائهم وذلك إشارة إلى مضمون قوله تعالى كم أهلكنا ألخ وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلته وعلو شأنه في بابه

لآيات كثيرة عظيمة واضحات الهداية ظاهرات الدلالة على الحق فإذن هو هادوا إيما هاد ويجوز أن تكون كلمة في تجريدية فافهم

لأولى النهى لذوي العقول الناهية عن القبائح التي من أقبحها ما يتعاطاه كفار مكة من الكفر بآيات اللّه تعالى والتعامى عنها وغير ذلك من فنون المعاصى وفيه دلالة على أن مضمون الجملة هو الفاعل لا المفعول وقوله تعالى

١٢٩

ولولا كلمة سبقت من ربك كلام مستأنف سيق لبيان حكمة عدم وقوع ما يشعر به قوله تعالى أفلم يهد لهم الآية من أن يصيبهم مثل ما أصاب القرون المهلكة أي ولولا الكلمة السابقة وهي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة لحكمة تقتضيه ومصلحة تستدعيه

لكان عقاب جناياتهم

لزاما أي لازما لهؤلاء الكفرة بحيث لا يتأخر عن جناياتهم ساعة لزوم ما نزل بأولئك العابرين وفي التعرض لعنواب الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام تلويح بان ذلك لتأخير لتشريفه عليه السلام كما ينبىء عنه قوله تعالى وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم واللزام إما مصدر لازم وصف به مبالغة

وأما فعال بمعنى مفعل جعل آلة اللزوم لفرط لزومه كما يقال لزاز خصم

وأجل مسمى عطف على كلمة أي ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم وهو يوم القيامة ويوم بدر لما تأخر عذابهم أصلا وفصله عما عطف عليه للمسارعة إلى بيان جواب لولا وللإشعار باستقلال كل منهما بنفى لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآي الكريمة وقد جوز عطفه على المستكن في كان العائد إلى الأخذ العاجل المفهوم من السياق تنزيلا للفصل بالخبر منزلة التأكيد اي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كدأب عاد وثمود وأضرابهم ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل

١٣٠

فاصبر على ما يقولون أي إذا كان الأمر على ما ذكر من أن تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهال وانه لازم لهم البتة فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر فإن علمه عليه السلام بأنهم معذبون لا محالة مما يسليه ويحمله على الصبر

وسبح ملتبسا

بحمد ربك أي صل وأنت حامد لربك الذي يبلغك إلى كمالك على هدايته وتوفيقه أو نزهه تعالى عما ينسوبه إليه مما لا يليق بشأنه الرفيع حامدا له على ما ميزك بالهدى معترفا بأنه مولى النعم كلها والأول هو الأظهر المناسب لقوله تعالى

قبل طلوع الشمس الخ فإن توقيت التنزيه غير معهود فالمراد صلاة الفجر

وقبل غروبها يعني صلاتي الظهر والعصر لأنهما قبل غروبها بعد زوالها وجمعها لمناسبة قوله تعالى قبل طلوع الشمس وقبل صلاة العصر

ومن آناء الليل اي من ساعاته جمع إني بالكسر والقصر وأناء بالفتح والمد

فسبح أي فصل والمراد به المغرب والعشاء وتقديم الوقت فيهما لاختصاصهما بمزيد الفضل فإن القلب فيهما أجمع والنفس إلى الإستراحة أميل فتكون العبادة فيهما أشق ولذلك قال تعالى إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا

وأطراف النهار تكرير لصلاة الفجر والمغرب إيذانا باختصاصهما بمزيد مزية ومجيئه بلفظ الجمع لأمن من الإلباس كقول من قال ظهراهما مثل ظهور الترسين أو أمر بصلاة الظهر فإنه نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الأخير وجمعه باعتبار النصفين أو لأن النهار جنس أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار

لعلك ترضى متعلق بسبح أي سبح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عنده تعالى ما ترضى به نفسك وقرىء ترضى على صيغة البناء للمفعول من أرضى أي يرضيك ربك

١٣١

ولا تمدن عينيك اي لا تطل نظر هما بطريق الرغبة والميل

إلى ما متعنا به من زخارف الدنيا وقوله تعالى

أزواجا منهم أي أصناما من الكفرة مفعول متعنا قدم عليه الجار والمجرور للاعتناء به أو هو حال من الضمير والمفعول منهم أي إلى الذي متعنا به وهو أصناف وأنواع بعضهم على أنه معنى من التبعيضة أو بعضا منهم على حذف الموصوف كما مر مرارا

زهرة الحياة الدنيا منصوب بمحذوف يدل عليه متعنا أي أعطينا أو به على تضمين معناه أو بالبدلية من محل به اومن أزواجا بتقدير مضاف أو بدونه أو بالذم وهي الزينة والبهجة وقرىء زهرة بفتح الهاء وهي لغة كالجهرة في الجهرة أو جمع زاهر وصف لهم بأنهم زاهر والدنيا لتنعمهم وبهاء زيهم بخلاف ما عليه المؤمنون الزهاد

لنفتنهم فيه متعلق بمتعنا جيء به للتنفير عنه ببيان سوء عاقبته مآلا إثر إظهار بهجته حالا أي لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه أو لنعذبهم في الآخرة بسببه

ورزق ربك أي ما ادخر لك في الآخرة أو ما رزقك في الدنيا من النبوة والهدى

خير مما منحهم في الدنيا لأنه مع كونه في نفسه أجل ما يتنافس فيه المتنافسون مأمون الغائلة بخلاف ما منحوه

وأبقى فإنه لا يكاد ينقطع نفسه أو أثره أبدا كما عليه زهرة الدينا

١٣٢

وأمر أهلك بالصلاة أمر صلى اللّه عليه و سلم بأن يأمر أهل بيته أو التابعين له من أمته بالصلاة بعد ما أمر هو بها ليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفت ارباب الثروة

واضطبر عليها وثابر عليها غير غير مشتغل بأمر المعاش

لا نسألك رزقا أي لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك

نحن نرزقك وإياهم ففرغ بالك بأمر الآخرة

والعاقبة الحميدة

للتقوى أي لأهل التقوى على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه تنبيها على أن ملاك الأمر هو التقوى روى أنه صلى اللّه عليه و سلم كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية

١٣٣

وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه حكاية لبعض أقاويلهم الباطلة التي أمر صلى اللّه عليه و سلم بالصبر عليها أي هلا يأتينا بآية تدل على صدقه في دعوى النبوة أو أية مما اقترحوها بلغوا من المكابرة والعناد إلى حيث لم يعدوا ما شاهدوا من المعجزات التي تخر لها صم الجبال من قبيل الآيات حتى اجترءوا على التفوه بهذه العظيمة الشنعاء وقوله تعالى

أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى أي التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية ردمن جهته عزوعلا لمقالتهم القبيحة وتكذيب لهم دسوا تحتها من إنكار إتيان الآية بإتيان القرآن الكريم الذي هو أم الآيات وأس المعجزات وأعظمها فيما وأبقاها لأن حقيقة المعجزة اختصاص مدعى النبوة بنوع من الأمور الخارقة للعادات أي أمر كان ولا ريب في أن العلم أجل الأمور وأعلاها إذ هو اصل الأعمال ومبدأ الأفعال ولقد ظهر مع حيازته لجميع علوم الأولين والآخرين على يد أمى لم يمارس شيئا من العلوم ولم يدارس أحدا من أهلها أصلا فأى معجزة تراد بعد وروده وأى آية ترام مع وجوده وفي إيراده بعنوان كونه بينة لما في الصحف الأولى من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية أي شاهدا بحقية ما فيها من العقائد الحقة واصول الأحكام التي أجمعت عليها كافة الرسل وبصحة ما تنطق به من أنباء الأمم من حيث إنه غنى بإعجازه عما يشهد بحقيته حقيق بإثبات حقية غيره مالا يخفى من تنويه شأنه وإنارة برهانه ومزيد تقرير وتحقيق لإتيانه وإسناد الإتيان إليه مع جعلهم إياه مأتيا به للتنبيه على أصالته فيه مع ما فيه من المناسبة للبينة والهمزة لإنكار الوقوع والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل ألم تأتهم سائر الآيات ولم تأتهم خاصة بينة ما في الصحف الأولى تقريرا لإ تيانه وإيذانا بانه من الوضوح بحيث لا يتأتى منهم إنكاره أصلا وإن اجترءوا على إنكار سائر الآيات مكابرة وعنادا وقرىء أو لم يأتهم بالياء التحتانية وقرىء الصحف بالسكون تخفيفا وقوله تعال

١٣٤

ولو أنا أهلكنا بعذاب إلى آخر الآية جملة مستأنفة سيقت لتقرير ما قبلها من كون القرآن آية بينة لا يمكن إنكارها ببيان أنهم يعترفون بها يوم القيامة والمعنى لو أنا أهلكناهم في الدينا بعذاب مستأصل

من قبله متعلق بأهلكنا أو بمحذوف هو صفة لعذاب أي بعذاب كائن من قبل إتيان البينة أو من قبل محمد صلى اللّه عليه و سلم

لقالوا أي يوم القيامة

ربنا لولا أرسلت إلينا في الدنيا

رسولا مع كتاب

فنتبع آياتك التي جاءنا بها

من قبل أن نذل بالعذاب في الدنيا

ونخزى بدخول النار اليوم اليوم ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها فانقطعت معذرتهم فعند ذلك قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل اللّه من شيء

١٣٥

قل لآولئك الكفرة المتمردين

كل أي كل واحد منا ومنكم

متربص منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم

فتربصوا وقرىء فتمتعوا فستعلمون عن قريب

من أصحاب الصراط السوي أي المستقيم وقرىء السواء أي الوسط الجيد وقرىء السوء والسوءى والسوى تصغير السوء

ومن اهتدى من الضلالة ومن في الموضعين استفهامية محلها الرفع بالابتداء خبرها وما بعدها والجملة سادة مسد مفعولى العلم أو مفعوله ويجوز كون الثانية موصولة بخلاف الأولى لعدم العائد فتكون معطوفة على محل الجملة الإستفهامية المعلق عنها الفعل على أن العلم بمعنى المعرفة أو على أصحاب أو على الصراط

وقيل العائد في الأولى محذوف والتقدير من هم أصحاب الصراط عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من قرأ سورة طه أعطى يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار وقال لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا سورة طه ويس

﴿ ٠