ÓõæÑóÉõ ÇáúÃóäúÈöíóÇÁö ãóßøöíøóÉñ

æóåöíó ãöÇÆóÉñ æóÇËúäóÊóÇ ÚóÔóÑóÉó ÂíóÉð

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء مكية وآياتها مائة وإثنتا عشرة آية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

١

اقترب لللناس حسابهم مناسبة هذه الفاتحة الكريمة لما قبلها من الخاتمة الشريفة غنية عن البيان قال ابن عباس رضي اللّه عنهما المراد بالناس المشركون وهو الذي يفصح عنه ما بعده والمراد باقتراب حسابهم اقترابه في ضمن اقتراب الساعة وإسناد الاقتراب إليه لا إلى الساعة مع استتباعها له ولسائر ما فيها من الأحوال والأهوال الفظيعة لانسياق الكلام إلى بيان غفلتهم عنه وإعراضهم عما يذكرهم ذلك واللام متعلقة بالفعل وتقديمها على الفاعل للمسارعة إلى إدخال الروعة فإن نسبة الاقتراب إليهم من أول الأمر مما يسوؤهم ويورثهم رهبة وانزعاجا من المقترب كما أن تقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح في قوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض لتعجيل المسرة لما أن بيان كون الخلق لأجل المخاطبين مما يسرهم ويزيدهم رغبة فيما خلق لهم وشوقا إليه وجعلها تأكيدا للإضافة على أن الأصل المتعارف فيما بين الأوساط اقترب حساب الناس ثم اقترب للناس الحساب ثم اقترب للناس حسابهم مع أنه تعسف تام بمعزل عما يقتضيه المقام وإنما الذي يستدعيه حسن النظام ما قدمناه والمعنى دنا منهم حساب أعمالهم السيئة الموجبة للعقاب وفي إسناد الاقتراب المنبىء عن التوجه نحوهم إلى الحساب مع إمكان العكس بأن يعتبر التوجه والإقبال من جهتهم نحوه من تفخيم شأنه وتهويل أمره مالا يخفى لما فيه من تصويره بصورة شيء مقبل عليهم لا يزال يطالبهم ويصيبهم لا محالة ومعنى اقترابه لهم تقاربه ودنوه منهم بعد بعده عنهم فإنه في كل ساعة من ساعات الزمان أقرب إليهم منه في الساعة السابقة هذا وأما الاعتذار بان قربه بالإضافة إلى ما مضى من الزمان أو بالنسبة إلى اللّه عزوجل أو باعتبار أن كل آت قريب فلا تعلق له بما نحن فيه من الاقتراب المستفاد من صيغة الماضى ولا حاجة إليه في تحقيق أصل معناه نعم قد يفهم عنه عرفا كونه قريبا في نفسه أيضا فيصار حينئذ إلى التوجيه بالوجه الأول دون الأخرين أما الثاني فلا سبيل إلى اعتباره ههنا لأن قربه بالنسبة إليه تعالى مما لا يتصور فيه التجدد والتفاوت حتما وإنما اعتباره في قوله تعالى لعل الساعة قريب ونظائره مما لا دلالة فيه على الحدوث

وأما الثالث فلا دلالة فيه على الحدوث

وأما الثالث فلا دلالة فيه على القرب حقيقة ولو بالنسبة إلى شيء آخر وهم في غفلة أي

في غفلة تامة منه ساهون عنه بالمرة لا أنهم غير مبالين به مع اعترافهم بإتيانه بل منكرون له كافرون به مع اقتضاء عقولهم أن الأعمال لا بد لها من الجزاء

معرضون أي عن الآيات والنذر المنبهة لهم عن سنة الغفلة وهما خبران للضمير وحيث كانت الغفلة أمرا جبليا لهم جعل الخبر الأول ظرفا منبئا عن الاستقرار بخلاف الإعراض والجملة حال من الناس وقد جوز كون الظرف حالا من المستكن في معرضون

٢

ما يأتيهم من ذكر من طائفة نازلة من القرآن تذكرهم ذلك أكمل تذكير وتنبههم عن الغفلة أتم تنبيه كأنها نفس الذكر ومن في قوله تعالى

من ربهم لابتداء الغاية مجازا متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة لذكر وأياما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وكمال شناعة ما فعلوا به والتعرض لعنوان الربوبية لتشديد التشنيع

محدث بالجر صفة لذكر وقرىء بالرفع حملا على محله أي محدث تنزيله بحسب اقتضاء الحكمة وقوله تعالى

إلا استمعوه استثناء مفرغ محله النصب على أنه حال من مفعول ياتيهم بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور وقوله تعالى

وهم يلعبون حال من فاعل استمعوه وقوله تعالى

٣

لاهية قلوبهم إما حال أخرى منه اومن واو يلعبون والمعنى ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا حال استماعهم إياه لاعبين مستهزئين به لاهين عنه أو لاعبين به حال كون قلوبهم لاهيةعنه لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور والتفكر في العواقب وقرىء لاهية بالفرع على أنه خبر بعد خبر

واسروا النجوى كلام مستأنف مسوق لبيان جناياتهم خاصة إثر حكاية جناياتهم المعتادة والنجوى اسم من التناجي ومعنى إسرارها مع أنها لا تكون إلا سرا أنهم بالغوا في إخفائها أوأسروا نفس التناجي بحيث لم يشعر أحد بأنهم متناجون وقوله تعالى

الذين ظلموا بدل من واو أسروا منبىء عن كونهم موصوفين بالظلم الفاحش فيما أسروا به أو هو مبتدأ خبره اسروا النجوى قدم عليه اهتماما به والمعنى هم أسروا النجوى فوضع الموصول موضع الضمير تسجيلا على فعلهم بكونه ظلما أو منصوب على الذم وقوله تعالى

هل هذا إلا بشر مثلكم الخ فى حيز النصب على أنه مفعول لقول مضمر هو جواب عن سؤال نشأ عما قبله كأنه قيل ماذا قالوا فى نجواهم فقيل قالوا هل هذا الخ أو بدل من أسروا أو معطوف عليه أو على أنه بدل من النجوى أى أسروا هذا الحديث وهل بمعنى النفى والهمزة في قوله تعالى

أفتأتون السحر للانكار والفاء للعطب على مقدر يقتضيه المقام وقوله تعالى

وأنتم تبصرون حال من فاعل تأتون مقررة للانكار ومؤكدة للاستبعاد والمعنى ما هذا إلا بشر مثلكم أى من جنسكم وما أتى به سحر أتعلمون ذلك فتأتونه وتحضرونه على وجه الاذعان والقبول وأنتم تعاينون أنه سحر قالوه بناء على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغ أن الرسول لا يكون إلا ملكا وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحر وزل عنهم أن ارسال البشر الى عامة البشر هو الذي تقتضيه الحكمة التشريهية قاتلهم اللّه أنى يؤفكون وإنما أسروا ذلك لأنه كان على طريق توثيق العهد وترتيب مبادى الشر والفساد وتمهيد مقدمات المكر والكيد فى هدم أمر النبوة وإطفاء نور الدين واللّه متم نوره ولو كره الكافرون

٤

قال ربي يعلم القول فى السماء والأرض حكاية من جهته تعالى لما قله عليه السلام بعد ما أوحي إليه أحوالهم وأقوالهم بيانا لظهور أمرهم وانكشاف سرهم وإيثار القول المنتظم للسر والجهر على السر لإثبات علمه تعالى بالسر على النهج البرهانى مع ما فيه من الإيذان بأن علمه تعالى بالسر والجهر على وتيرة واحدة لا تفاوت بينهما بالجلاء والخفاء قطعا كما فى علوم الخلق وقرىء قل ربي الخ وقوله تعالى

فى السماء والارض متعلق بمحذوف وقع حالا من القول أي كائنا فى السماء والارض وقوله تعالى

وهوالسميع العليم أى المبالغ فى العلم بالمسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أسروه من النجوى فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله متضمن للوعيد

٥

بل قالوا أضغاث أحلام إضراب من جهته تعالى وانتقال من حكاية قولهم السابق الى حكاية قول آخر مضطرب فى مسالك البطلان أي لم يقتصروا على أن يقولوا فى حقه عليه السلام هل هذا إلا بشر وفى حق ما ظهر على يده من القرآن الكريم إنه سحر بل قالوا تخاليط الأحلام ثم أضربوا عنه فقالوا

بل افتراه من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل أو شبه أصل ثم قالوا

بل هو شاعر وما أتى به شعر يخيل الى السامع معانى لا حقيقة لها وهكذا شأن المبطل المحجوج متحير لايزال يتردد بين باطل وأبطل ويتذبذب بين فاسد وأفسد فالاضراب الأول كما ترى من جهته تعالى والثاني والثالث من قبلهم وقد قيل الكل من قبلهم حيث أضربوا عن قولهم هو سحر الى أنه تخاليط أحلام ثم إلى أنه كلام مفترى ثم إلى أنه قول شاعر ولا ريب فى أنه كان ينبغى حينئذ بأن قال قالوا بل أضغاث أحلام والاعتذار بأن بل قالوا مقول لقالوا المضمر قبل قوله تعالى هل هذا إلا بشر الخ كأنه قيل وأسرو النجوى قالوا هل هذا الى قوله بل أضغاث أحلام وإنما صرح بقالوا بعدبل لبعد العهد مما يجب ننزيه ساحة التنزيل عن أمثاله فليأتنا بآية جواب شرط محذوف يفصح عنه السياق كأنه قيل وإن لم يكن كما قلنا بل كان رسولا من اللّه تعالى

فليأتنا بآية كما أرسل الأولون أي مثل الآية التي أرسل بها الأولون كا ليد والعصا ونظائرهما حتى نؤمن به فما موصولة ومحل الكاف الجر على أنها صفة لآية ويجوز أن تكون مصدرية فالكاف منصوبة على أنها مصدر تشبيهي أى نعت لمصدر محذوف إي فليأتنا بآية إتيانا كائنا مثل إرسال الاولين بها وصحة التشبيه من حيث إن الإتيان بالآية من فروع الارسال بها ألى مثل إتيان مترتب على الإرسال ويجوز أن يحمل النظم الكريم على أنه أريد كل واحد من الإتيان والارسال فى كل واحد من طرفي التشبيه لكنه ترك في جانب المشبه ذكر الإرسال وفى جانب المشبه به ذكر الاتيان اكتفاء بما ذكر فى كل موطن عما ترك فى الموطن الآخر حسبما مر فى آخر سورة يونس عليه السلام

٦

ما آمنت قبلهم من قرية كلام مستأنف مسوق لتكذيبهم فيما تنبىء عنه خاتمة مقالهم من الوعد الضمنى بالإيمان كما أشير إليه وبيان أنهم في اقتراح تلك الآيات كالباحث عن حتفه بظلفه وأن في ترك الإجابة إليه إبقاء عليهم كيف لا ولو أعطوا ما اقترحوا مع عدم إيمانهم قطعا لوجب استئصالهم لجريان سنة اللّه عزوجل في الأمم السالفة على أن المقترحين إذا أعطوا ما اقترحوه ثم لم يؤمنوا نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة وقد سبقت كلمة الحق منه تعالى أن هذه الأمة لا يعذبون بعذاب الاستئصال فقوله من قرية أي من أهل قرية في محل الرفع على الفاعلية ومن مزيدة لتأكيد العموم وقوله تعالى

أهلكناها أي بإهلاك أهلها لعدم إيمانهم بعد مجيء ما اقترحوه من الآيات صفة لقرية والهمزة في قوله تعالى

افهم يؤمنون لإنكار الوقوع والفاء للعطف إما على مقدر دخلته الهمزة فأفادت إنكار وقوع إيمانهم ونفيه عقيب عدم إيمان الأولين فالمعنى أنه لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اتقرحوه من الآيات أهم لم يؤمنوا فهؤلاء يؤمنون لو أجيبوا إلى ما سألوا وأعطوا ما اقترحوا مع كونهم أعنى منهم وأطغى

وأما على ما آمنت على أن الفاء متقدمة على الهمزة في الإعتبار مفيدة لترتيب إنكار وقوع إيمانهم علىعدم إيمان الأولين وإنما قدمت عليها الهمزة لاقتضائها الصدارة كما هو رأى الجمهور وقوله عزوجل

٧

وما أرسلنا قبلك إلا رجالا جواب لقولهم هل هذا إلا بشر الخ متضمن لرد ما دسوا تحت قولهم كما أرسل الأولون من التعرض بعدم كونه عليه السلام مثل أولئك الرسل صلوات اللّه تعالى عليهم أجمعين ولذلك قدم عليه جواب قولهم فليأتنا بآية ولأنهم قالوا ذلك بطريق التعجيز فلا بد من المسارعة إلى رده وإبطاله كما مر في تفسير قوله تعالى قال إنما يأتيكم به اللّه إن شاء وما أنتم بمعجزين وقوله تعالى ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين ولأن في هذا الجواب نوع بسط يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم والحق أن ما اتخذوه سببا للتكذيب موجب للتصديق في الحقيقة لأن مقتضى الحكمة أن يرسل إلى البشر البشر وإلى الملك الملك حسبما ينطق به قوله تعالى قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا فإن عامة البشر بمعزل من استحقاق المفاوضة الملكية لتوقفها على التناسب بين المفيض والمستفيض فبعث الملك إليهم مزاحم للحكمة التي عليها يدور فلك التكوين والتشريع وإنما الذي تقتضيه الحكمة أن يبعث الملك منهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتعلقين بكلا العالمين الروحاني والجسماني ليتلقوا من جانب ويلقوا إلى جانب آخر وقوله تعالى

نوحي إليهم اسئناف مبين لكيفية الإرسال وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية المستمرة وحذف المفعول لعدم القصد إلى خصوصه والمعنى وما أرسلنا إلى الأمم قبل إرسالك إلى أمتك إلا رجالا مخصوصين من أفراد الجنس مستأهلين للاصطفاء والإرسال نوحي إليهم بواسطة الملك ما نوحي من الشرائع والأحكام وغيرهما من القصص والأخبار كما نوحى إليك من غير فرق بينهما في حقيقة الوحى وحقية مدلوله حسبما يحكيه قوله تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين إلى قوله تعالى وكلم اللّه موسى تكليما كمالا فرق بينك وبينك وبينهم في البشرية فمالهم لا يفهمون أنك لست بدعا من الرسل وأن ما أوحي إليك ليس مخالفا لما أوحي إليهم

فيقولون ما يقولون وقرىء يوحي إليهم بالياء على صيغة المبنى للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بتعين الفاعل وقوله تعالى

فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة لتبكيتهم واستنزالهم عن رتبة الاستبعاد والنكير إثر تحقيق الحق على طريقة الخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لأنه الحقيق بالخطاب في أمثال تلك الحقائق الأنيقة

وأما الوقوف عليها بالاستخبار من الغير فهو من وظائف العوأم والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه أي إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أيها الجهلة أهل الكتاب الوافقين على أحوال الرسل السالفة عليهم الصلوات لنزول شبهتكم أمروا بذلك لأن إخبار الجم الغفير يوجب العلم لا سيماوهم كانوا يشايعون المشركين في عداوته عليه السلام ويشاورونهم في أمره عليه السلام ففيه من الدلالة على كمال وضوح الأمر وقوة شأن النبي صلى اللّه عليه و سلم ما لا يخفى

٨

وما جعلناهم جسدا بيان لكون الرسل عليهم السلام أسوة لسائر أفراد الجنس في أحكام الطبيعة البشرية إثر بيان كونهم أسوة لهم في نفس البشرية والجسد جسم الإنسان والجن والملائكة ونصبه إما على أنه مفعول ثان للجعل لكن لا بمعنى جعله جسدا بعد أن لم يكن كذلك كما هو المشهور من معنى التصبير بل بمعنى جعله كذلك ابتداء على طريقة قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل كما مر في قوله تعالى وجعلنا آية النهار مبصرة

وأما حال من الضمير والجعل إبداعي وإفراده لإرادة الجنس المنتظم للكثير أيضا

وقيل بتقدير المضاف أي ذوي جسدو قوله تعالى

لا يأكلون الطعام صفة له أي وما جعلناهم جسدا مستغنيا عن الأكل و الشرب بل محتاجا إلى ذلك لتحصيل بدل ما يتحلل منه

وما كانوا خالدين لأن مال التحلل هو الفناء لا محالة و في إيثار ما كانوا على ما جعلناهم تنبيه على أن عدم الخلود مقتضى جبلتهم التي أشير إليها بقوله تعالى وما جعلنا هم الخ لا بالجعل المستأنف والمراد بالخلود إما المكث المديد كما هو شأن الملائكة أو الا بدية وهم معتقدون أنهم لا يموتون والمعنى جعلناهم أجسادامتغذية صائرة إلى الموت بالآخرة على حسب آجالهم لا ملائكة ولا أجسادا مستغنية عن الأغذية مصونة عن التحلل كالملائكة فلم يكن لها خلود كخلودهم فالجملة مقررة لما قيلها من كون الرسل السالفة عليهم السلام بشرا لا ملكا مع ما في ذلك من الرد على قولهم ما لهذا الرسول ياكل الطعام وقوله تعالى

٩

ثم صدقناهم الوعد عطف على ما يفهم من حكاية وحيه تعالى إليهم على الاستمرار النجددي كأنه قيل أوحينا إليهم ما أوحينا ثم صدقناهم في الوعد الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي بإهلاك أعدائهم

فأنجيناهم ومن نشاء من المؤمنين وغيرهم ممن تستدعي الحكمة إبقاءه كمن سيؤمن هو أو بعض فروعه بالآخرة وهو السر في حماية العرب من عذاب الاستئصال

وأهلكنا المسرفين أي المجاوزين للحدود في الكفر والمعاصي

١٠

لقد أنزلنا إليكم كلام مستأنف مسوق لتحقيق حقية القرآن العظيم الذي ذكر في صدر السورة الكريمة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته واستهزاؤهم به وتسميتهم تارة سحرا أو تارة أضغاث أحلام وأخرى مفترى وشعرا و بيان علو رتبته إثر تحقيق رسالته صلى اللّه عليه و سلم ببيان أنه كسائر الرسل الكرام عليهم الصلاة والسالم قد صدر بالتوكيد القسمى إظهارا لمزيد الإعتناء بمضمونه وإيذانا يكون المخاطبين في أقصى مراتب النكير أي واللّه لقد أنزلنا إليكم يا معشر قريش

كتابا عظيم الشأن نير البرهان وقوله تعالى

فيه ذكركم صفة لكتابا مؤكدة لما أفاده التنكير التفخيمي من كونه جليل المقدار بأنه جميل الآثار مستجلب لهم منافع جليلة أي فيه شرفكم وصيتكم كقوله تعالى وإنه لذكر لك ولقومك

وقيل ما تحتاجون إليه في أمور دينكم ودنياكم

وقيل ما تطلبون به حسن الذكر من مكارم الأخلاف

وقيل فيه موعظتكم وهو الأنسب بسباق النظم الكريم وسياقه فإن قوله تعالى

أفلا تعقلون إنكار توبيخي فيه بعث لهم على التدبر في أمر الكتاب والتأمل فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة والفاء للعطف علىمقدر ينسحب عليه الكلام أي ألا تتفكرون فلا تعقلون ان الأمر كذلك أولا تعقلون شيئا من الأشياء التي من جملتها ما ذكروقوله تعالى

١١

وكم قصمنا من قرية نوع تفصيل لإجمال قوله تعالى وأهلكنا المسرفين وبيان لكيفية إهلاكهم وسببه وتنبيه على كثرتهم وكم خبرية مفيدة للتكثير محلها النصب على أنها مفعول لقصمنا ومن قرية تمييز وفي لفظ القصم الذي هو عبارة عن الكسر بإبانة أجزاء المكسورة وإزالة تأليفها بالكلية من الدلالة على قوة الغضب وشدة السخط مالا يخفي وقوله تعالى

كانت ظالمة في محل الجر على أنها صفة لقرية بتقدير مضاف ينبىء عنه الضمير الآتي أي وكثيرا قصمنا من اهل قرية كانوا ظالمين بآيات اللّه تعالى كافرين بها كدأبكم

وأنشأنا بعدها أي بعد إهلاكها

قوما آخرين اي ليسوا منهم نسبا ولا دينا ففيه تنبيه على استئصال الأولين وقطع دابرهم بالكلية وهو السر في تقديم حكاية إنشاء هؤلاء على حكاية مبادىء إهلاك أولئك بقوله تعالى إذا هم

١٢

فلما أحسوا بأسنا أى أدركوا عذابنا الشديد إدراكا تاما كأنه إدراك المشاهد المحسوس

منها يركضون يهربون مسرعين راكضين دوابهم أو مشبهين بهم في فرط الإسراع

١٣

لا تركضوا أي قيل لهم بلسان الحال أو بلسان المقال من الملك أو ممن ثمة من المؤمنين بطريق الاستهزاء والتوبيخ لا تركضوا

وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ا من التنعم والتلذذ والإتراف إبطار النعمة

ومساكنكم التي كانتم تفتخرون بها

لعلكم تسألون تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات

والنوازل أو تنفقدون إذا رئيت مساكنكم خالية وتسألون أين أصحابها أو يسألكم الوافدون نوالكم على أنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رياء وبخلاء فقيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم

١٤

قالوا لما يئسوا من الخلاص بالهرب وأيقنوا بنزول العذاب

يا ويلنا أي هلاكنا

إنا كنا ظالمين أي مستوجبين للعذاب وهو اعتراف منهم بالظلم وباستتباعه للعذاب وندم عليه حين لم ينفعهم ذلك

١٥

فما زالت تلك دعواهم أي فما زالوا يرددون تلك الكلمة وتسميتها دعوى أي دعوة لأن المدلول كأنه يدعوا الويل قائلا يا ويل تعال فهذا أوانك

حتى جعلناهم حصيدا أي مثل الحصيد وهو المحصود من الزرع والنبت ولذلك لم يجمع

خامدين أي ميتين من خمدت النار إذا طفئت وهو مع حصيدا في حيز المفعول الثاني للجعل كقولك جعلته حلوا حامضا والمعنى جعلنا هم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود أو حال من الضمير المنصوب في جعلناهم أو من المستكن في حصيدا أو صفة لحصيدا لنعدده معنى لأنه في حكم جعلناهم أمثال حصيد

١٦

وما خلقنا السماء والأرض إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم وإبداع بني آدم مؤسس على قواعد الحكم البالغة المستتبعة للغايات الجليلة وتنبيه على أن ما حكى من العذاب الهائل والعقاب النازل بأهل القرى من مقتضيات تلك الحكم ومتفرعاتها حسب اقتضاء أعمالهم إياه وأن للمخاطبين المقتدرين بآثارهم ذنوبا مثل ذنوبهم أي ما خلقناهما وما بينهما من المخلوقات التي لا تحصى أجناسها وأفرادها ولا تحصر أنواعها وآحادها على هذا النمط البديع والأسلوب المنيع خالية عن الحكم والمصالح وإنما عبر عن ذلك باللعب واللّهو حيث قيل

لا عبين لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخالي عن الحكمة بتصويره بصورة مالا يرتاب أحد في استحالة صدوره عنه سبحانه بل إنما خلقناهما وما بينهما لتكون مبدأ لوجود الإنسان وسببا لمعاشه ودليلا يقوده إلى تحصيل معرفتنا التي هي الغاية القصوى بواسطة طاعتنا وعبادتنا كما ينطق به قوله تعالى وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبوكم ايكم أحسن عملا وقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقوله تعالى

١٧

لو أردنا أن نتخذ لهوا استئناف مقرر لما قبله من انتفاء اللعب واللّهو أي لو أردنا أن نتخذ ما يتلهى به ويلعب

لا تخذنا من لدنا أي من جهة قدرتنا أو من عندنا مما يليق بشأننا من المجردات لا من الأجسام المرفوعة والأجرام الموضوعة كديدن الجبابرة في رفع العروش وتحسينها وتسوية الفروش وتزيينها لكن يستحيل إرادتنا له لمافاته الحكمة فيستحيل إتخاذنا له قطعا وقوله تعالى

إن كنا فاعلين جرا به محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه اي إن كنا فاعلين لاتخذناه

وقيل إن نافية أي ما كنا فاعلين أي لاتخاذ اللّهو لعدم إرادتنا إياه فيكون بيانا لانتفاء التالي لانتفاء المقدم أو لإرادة إتخاذ فيكون بيانا لانتفاء المقدم المستلزم لانتفاء التالي

وقيل اللّهو الولد بلغة اليمن

وقيل الزوجة والمراد الرد على النصارى ولا يخفي بعده

١٨

بل نقذف بالحق على الباطل إضراب عن إتخاذ اللّهو بل عن إرادته كأنه قيل لكنا لا نريده بل شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من قبيله اللّهو وتخصيص شأنه هذا من بين سائر شئونه تعالى بالذكر للتخلص إلى ما سيأتي من الوعيد فيدمغه أي يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المحكية وقد استعير لإيراد الحق على الباطل القذف الذي هو الرمى الشديد بالجرم الصلب كالصخرة ولمحقه للباطل الدمغ الذي هو كسر الشيء الرخو الأجوف وهو الدماغ بحيث يشق غشاءه المؤدى إلى زهوق الروح تصويرا له بذلك وقرىء

فيدمغه بالنصب وهو ضعيف وقرىء فيدمغه بضم الميم

فإذا هو زاهق أي ذاهب بالكلية وفي إذا الفجائية والجملة الإسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان مالا يخفي فكأنه زاهق من الأصل

ولكم الويل مما تصفون وعيد لقريش بأن لهم أيضا مثل ما لأولئك من العذاب والعقاب ومن تعليلية متعلقة بالإستقرار الذي تعلق به الخبر أو بمحذوف هو حال من الويل أومن ضميره في الخبر وما إما مصدرية أو موصولة أو موصوفة أي واستقر لكم الويل والهلاك من أجل وصفكم له سبحانه بما لا يليق بشأنه الجليل أو بالذي تصفونه به من الولد أوكائنا مما تصفونه تعالى به

١٩

وله من في السموات والأرض استئناف مقرر لما قبله من خلقه تعالى لجميع مخلوقاته على حكمة بالغة ونظام كامل وأنه تعالى يحق الحق ويزهق الباطل أي له تعالى خاصة جميع المخلوقات خلقا وملكا وتدبيرا وتصرفا وإحياء وأماتة وتعذيبا وإثابة من غير أن يكون لأحد في ذلك دخل ما استقلالا أو استتباعا

ومن عنده وهم الملائكة عليهم السلام عبر عنهم بذلك إثر ما عبر عنهم بمن في السموات تنزيلالهم لكرامتهم عليه عزوعلا وزلفاهم عنده منزلة المقربين عند الملوك بطريق التمثيل وهو مبتدأ خبره

لا يستكبرون عن عبادته أي لا يتعظمون عنها ولا يعدون أنفسهم كبيرا

ولا يستحسرون ولا يكلون ولا يعبون وصيغة الاستفعال المنبئة عن المبالغة في الحسور للتنبيه على أن عباداتهم بثقلها ودوأمها حقيقة بان يستحسر منها ومع ذلك لا يستحسرون لا لإفادة نفى المبالغة في الحسور مع ثبوت أصله في الجملة كا أن نفى الظلامية في قوله تعالى وما أنا بظلام للعبيد لإفادة كثرة الظلم المفروض تعلقه بالعبيد لا لإفادة نفى المبالغة في الظلم مع ثبوت أصل الظلم في الجملة

وقيل من عنده معطوف على من الأولى وإفرادهم بالذكر مع دخولهم في من في السموات والأرض للتعظيم كما في قوله تعالى وجبريل وميكال فقوله تعالى لا يستكبرون حينئذ حال من الثانية

٢٠

يسبحون الليل والنهار أي ينزهونه في جميع الأوقات ويعظمونه ويمجدونه دائما وهو استئناف وقع جوابا عما نشأ مما قبله كأنه قيل ماذا يصنعون في عباداتهم أوكيف يعبدون فقيل يسبحون ألخ أوحال من فاعل يستحسرون وكذا قوله تعالى

لا يفترون أي لا يتخلل تسبيحهم فترة أصلا بفراغ أو بشغل آخر

٢١

أم اتخذوا آلهة حكاية لجناية أخرى من جناياتهم بطريق الإضراب والانتقال من فن إلى فن آخر من التوبيخ إثر تحقيق الحق ببيان انه تعالى خلق جميع المخلوقات على منهاج الحكمة وأنهم قاطبة تحت ملكوته وقهره وأن عباده مذعنون لطاعته ومثابرون على عبادته منزهون له عن كل مالا يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها الأنداد ومعنى الهمزة في أم المنقطعة إنكار الواقع وقوله تعالى

من الأرض متعلق باتخذوا أو بمحذوف هو صفة لآلهة وأيا ما كان فالمراد هو التحقير لا التخصيص وقوله تعالى

هم ينشرون أي يبعثون الموتى صفة لآلهة وهو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع لانفس الإتخاذ فإنه واقع لا محالة اي بل اتخذوا آلهة من الأرض هم خاصة مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى كلا فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل من ذلك وهم وإن لم يقولوا بذلك صريحا لكنهم حيث ادعوا لها الإلهية فكأنهم ادعوا لها الإنشار ضرورة أنه من الخصائص الإلهية حتما ومعنى التخصيص في تقديم الضمير ما أشير إليه من التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار الموجبة لمزيد الإنكار كما في قوله تعالى أفى اللّه شك وقوله تعالى أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون فإن تقديم الجار والمجرور للتنبيه على كمال مباينة أمره تعالى لأن يشك فيه ويستهزأ به ويجوز أن يجعل ذلك من مستتبعات ادعائهم الباطل لأن الألوهية مقتضية للاستقلال بالإبداء والإعادة فحيث ادعوا للأصنام الآلهية فكأنهم ادعوا لها الإستقلال بالإنشار كما أنهم جعلوا بذلك مدعين لأصل الإنشار لو كان فيهما آلهة إلا اللّه إبطال لتعدد الإله بإقامة البرهان على انتفائه بل على استحالته وإيراد الجمع لوروده إثر إنكار إتخاذ الآلهة لا لأن للجمعية مدخلا في الإستدلال وكذا فرض كونها فيهما وإلا بمعنى غير على أنها صفة لآلهة ولا مساغ للاستثناء لاستحالة شمول ما قبلها لما بعدها وإفضائه إلى فساد المعنى لدلالته حينئذ على أن الفساد لكونها فيهما بدونه تعالى ولا للرفع على البدل لأنه متفرع على الاستثناء ومشروط بأن يكون في كلام غير موجب أي

٢٢

لو كان في السموات والأرض

آلهة غير اللّه كما هو اعتقادهم الباطل لفسدتا اي لبطلتا بما فيهما جميعا وحيث انتفى التالي علم انتفاء المقدم قطعا بيان الملازمة أن الإلهية مستلزمة للقدرة على الاستبداد بالتصرف فيهما على الإطلاق تغييرا وتبديلا وإيجادا وإعداما وإحياء وأماتة فبقاؤهما على ما هما عليه إما بتأثير كل منها وهو محال لاستحالة وقوع المعلول المعين بعلل متعددة

وأما بتأثير واحد منها فالبواقي بمعزل من الإلهية قطعا واعلم ان جعل التالي فسادهما بعد وجودهما لما أنه اعتبر في المقدم تعدد الآلهة فيهما وإلا فالبرهان يقضى باستحالة التعدد على الإطلاق فإنه لو تعدد الإله فإن توافق الكل في المراد تطاردت عليه القدر وإن تخالفت تعاوقت فلا يوجد موجود أصلا وحيث انتفى التالي تعين انتفاء المقدم والفاء في قوله تعالى

فسبحان اللّه لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان أي فسبحوه سبحانه اللائق به ونزهوه عما لا يليق به من الأمور التي من جملتها أن يكون له شريط في الألوهية وإيراد الجلالة في موضع الإضمار للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية مناط لجميع صفات كماله التي من جملتها تنزهه تعالى عما لا يليق به ولتربية المهابة وإدخال الروعة وقوله تعالى

رب العرش صفة للإسم الجليل مؤكدة لتنزهه عزوجل

عما يصفون متعلق بالتسبيح أي فسبحوه عما يصفونه من أن يكون من دونه آلهة

٢٣

لا يسأل عما يفعل استئناف ببيان أنه تعالى لقوة عظمته وعزة سلطانه القاهر بحيث ليس لأحد من مخلوقاته أن يناقشه ويسأله عما يفعل من أفعاله إثر بيان أن ليس له شريك في الإلهية

وهم أي العباد

يسألون عما يفعلون نقيرا وقطميرا لأنهم مملوكون له تعالى مستعبدون ففيه وعيد للكفرة

٢٤

أم اتخذوا من دونه آلهة إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة آلهة حقيقة بإظهار خلوها عن خصائص الإلهية التي من جملتها الإنشار وإقامة البرهان القاطع على إستحالة تعدد الإله على الإطلاق وتفرده سبحانه بالألوهية إلى إظهار بطلان اتخاذهم تلك الآلهة مع عرائها عن تلك الخصائص بالمرة شركاء للّه عزسلطانه وتبكيتهم بإلجائهم إلى إقامة البرهان على دعواهم الباطلة وتحقيق أن جميع الكتب السماوية ناطقة بحقية التوحيد وبطلان الإشراك والهمزة لإنكار الاتخاذ المذكور واستقباحه واستعظامه ومن متعلقة باتخذوا والمعنى بل اتخذوا متجاوزين إياه تعالى مع ظهور شئونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية آلهة مع ظهور خلودهم عن خواص الألوهية بالكلية قل لهم بطريق التبكيت وإلقام الحجر

هاتوا برهانكم على ما تدعونه من جهة العقل والنقل فإنه لا صحة لقول لا دليل عليه في الأمور الدينية لا سيما في مثل هذا الشأن الخطير وما في إضافة البرهان إلى ضميرهم من الإشعار بان لهم برهانا ضرب من التهكم بهم وقوله تعالى

هذا ذكر من معي وذكر من قبلي إنارة لبرهانه وإشارة إلى أنه مما نطقت به الكتب الإلهية قاطبة وشهدت به ألسنة الرسل المتقدمة كافة وزيادة تهييج لهم على إقامة البرهان لإظهار كمال عجزهم أي هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع العقلي ذكر أمتي اى عظنهم وذكرهم الأمم السافة قد أقمته فأقيموا أنتم ايضا برهانكم

وقيل المعنى هذا كتاب أنزل على أمتى وهذا كتاب أنزل على أمم الأنبياء عليهم السلام من الكتب الثلاثة والصحف فراجعوها وانظروا هل في واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهى عن الإشراك ففيه تبكيت لهم متضمن لإثبات نقيض مدعاهم وقرىء بالتنوين والإعمال كقوله تعالى أو إطعام في يوم ذي مسغبة يقيما وبه وبمن الجارة على أن مع اسم هو ظرف كقبل وبعد وقوله تعالى

بل أكثرهم لا يعلمون الحق

إضراب من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن وانتقال من الأمر بتبكيتهم بمطالبة البرهان إلى بيان أنه لا ينجح فيهم المحاجة بإظهار حقية الحق وبطلان الباطل فإن أكثرهم لا يفهمون الحق ولا يميزون بينه وبين الباطل فهم لاجل ذلك معرضون أي مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول لا يرعوون عما هم عليه من الغي والضلال وإن كررت عليهم البينات والحجج أو معرضون عما ألقى عليهم من البراهين العقلية والنقلية وقرىء الحق بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وسط بين السبب والمسبب تأكيدا للسببية وقوله تعالى

٢٥

وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون استئناف مقرر لما أجمل فيما قبله من كون التوحيد مما نطقت به الكتب الإلهية وأجمعت عليه الرسل عليهم السلام وقرىء يوحى على صيغة الغائب مبنيا للمفعول وأيا ما كان فصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورة الوحي

٢٦

وقالوا اتخذ الرحمن ولدا حكاية لجناية فريق من المشركين جىء بها لإظهار بطلانها وبيان تنزهه تعالى عن ذلك إثر بيان تنزهه سبحانه عن الشركاء على الإطلاق وهم حي من خزاعة يقولون الملائكة بنات اللّه تعالى ونقل الواحدي أن قريشا وبعض أجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح يقولون ذلك والتعرض لعنوان الرحمانية المنبئة عن كون جميع ماسواه تعالى مربوبا له تعالى نعمة أو منعما عليه لإبراز كمال شناعة مقالتهم الباطلة

سبحانه أي تنزه بالذات تنزهه اللائق به على أن السبحان مصدر من سبح اي بعد أو أسبحه تسبيحه على أنه علم للتسبيح وهو مقول على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحه وقوله تعالى

بل عباد إضراب وإبطال لما قالوه كأنه قيل ليست الملائكة كما قالوا بل هم عباد له تعالى

مكرمون مقربون عنده وقرى مكرمون بالتشديد وفيه تنبيه على منشأ غلط القوم وقوله تعالى

٢٧

لا يسبقونه بالقول صفة أخرى لعباد منبئة عن كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره تعالى أي لا يقولون شيئا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به وأصله لا يسبق قولهم قوله تعالى فأسند السبق إليهم منسوبا إليه تعالى تنزيلا لسبق قولهم قوله تعالى منزلة سبقهم إياه تعالى لمزيد تنزيههم عن ذلك وللتنبيه على غاية استهجان السبق المعرض به للذين يقولون مالا يقوله اللّه تعالى وجعل القول محلا للسبق وأداة له ثم أنيب اللام عن الإضافة للاختصار والنجافى عن التكرار وقرىء لا يسبقونه بضم الباء من سابقته فسبقته أسبقه وفيه مزيد استهجان للسبق وإشعار بان من سبق قوله قوله تعالى فقد تصدى لمغالبته تعالى في السبق فسبقه فغلبه والعياذ باللّه تعالى وزيادة تنزيه لهم عما نفى عنهم ببيان أن ذلك عندهم بمنزلة الغلبة بعد المغالبة فأتى يتوهم صدور عنهم

وهم بأمره يعملون بيان لتبيعتهم له تعالى في الأعمال إثر بيان تبعيتهم له تعالى في الأقوال فإن نفى سبقهم له تعالى بالقول عبارة عن تبعيتهم له تعالى فيه كأنه قيل هم بأمره يقولون وبأمره يعملون لا بغير أمره أصلا فالقصر المستفاد من تقديم الجار معتبر بالنسبة إلى غير أمره لا إلى أمر غير

٢٨

يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم استئناف وقع تعليلا لما قبله وتمهيدا لما بعده فإن لعلمهم بإحاطته تعالى بما قدموا وأخروا من الأقوال والأعمال لايزالون يراقبون أحوالهم فلا يقدرون على قول أو عمل بغير أمره تعالى

ولا يشفعون إلا لمن ارتضى أن يشفع له مهابة منه تعالى

وهم مع ذلك

من خشيته عزوجل

مشفقون مر تعدون وأصل الخشية الخوف مع التعظيم ولذلك خص بها العلماء والإشفاق الخوف مع الاعتناء فعند تعديته بمن يكون معنى الخوف فيه أظهر وعند تعديته بعلى ينعكس الأم

٢٩

ومن يقل منهم أي من الملائكة الكلام فيهم وفي كونهم بمعزل مما قالوا في حقهم

إني إله من دونه متجاوزا إياه تعالى

فذلك الذي فرض قوله فرض محال

نجزيه جهنم كسائر المجرمين ولا يغنى عنهم ما ذكر من صفاتهم السنية وأفعالهم المرضية وفيه من الدلالة على قوة ملكوته تعالى وعزة جبروته واستحالة كون الملائكة بحيث يتوهم في حقهم ماتوهمه أولئك الكفرة مالا يخفى

كذلك نجزى الظالمين مصدر تشبيهي مؤكد لمضمون ما قبله اي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها وبتعدون أطوارهم والقصر المستفاد من التقديم معتبر بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة أي لا جزاء أنقص منه

٣٠

أو لم ير الذين كفروا تجهيل لهم تتقصيرهم في التدبر في الآيات التكوينية الدالة على استقاله تعالى بالألوهية وكن جميع ما سواه مقهورا تحت ملكوته والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر وقرىء بغير واو الرؤية قلبية أي ألم يتفكروا ولم يعلموا

أن السموات والأرض كانتا أي جماعتا السموات والأرضين كما في قوله تعالى إن اللّه يمسك السموات والأرض أن تزولا

رتقا الرتق الضم والالتحام والمعنى إما على حذف المضاف أو هو بمعنى المفعول أي كانتا ذواتي رتق أو مر توقتين وقرىء رتقا شيئا تقا أي مرتوقا

ففتقنا هما قال ابن عباس رضي اللّه عنهما في رواية عكرمة والحسن البصري وقتادة وسعيد بن جبير كانتا شيئا واحدا ملتزمين ففصل اللّه تعالى بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض وقال كعب خلق اللّه تعالى السموات والأرض ملتصقين ثم خلق ريحا فتوسطتها ففتقتها وعن الحسن خلق اللّه تعالى الأرض في موضع بيت المقدس كيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم اصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى كانتا رتقا ففتقناهما وقال مجاهد والسدى كانت السموات مرتتقة طبعة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات وكذلك الأرض كانت مرتفعة طبعة واحدة ففتقها فجعلها سبع أرضين وقال ابن عباس في رواية عطاء وعليه أكثر المفسرين إبن السموات كانت رتقا مستوية صلبة لا تمطر والأرض رتقا لا تنبت ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات فيكون المراد بالسموات السماء الدنيا والجمع باعتبار الآفاق أو السموات جميعا على ان لها مدخلا في الأمطار وعلم الكفرة الرتق والفتق بهذا المعنى مما لا سترة به

وأما بالمعانى الأول فهم وإن لم يعلموهما لكنهم متمكنون من علمها إما بطريق النظر والتفكير فغن الفتق عارض مفترق الى مؤثر قديم

وأما بالاستفسار من العلماء ومطالعة الكتب

وجعلنا من الماء كل شىء حي أى خلقنا من الماء كل حيوان كقوله تعالى واللّه خلق كل دابة من ماء وذلك لأنه من أعظم مواده أو لفرط احتياجه إليه وانتفاعه به أو صيرنا كل شىء حى من الماء أى بسبب منه لا بد له من ذلك وتقديم المفعول الثانى للاهتمام به لا لمجرد أن المفعولين فى الأصل مبتدأ وخبر وحق الخبر عند كونه ظرفا أن يتقدم على المبتدأ فإن ذلك مصحح محض لامر جح وقرىء حيا على أنه صفة كل أو مفعول ثان والظرف كما في الوجه الأول قدم على المفعول للاهتمام به والتشوق الى المؤخر

أفلا يؤمنون إنكار لعدم إيمانهم باللّه وحده مع ظهور ما يوجبه حتما من الآيات الآفافية والأنفسية الدالة على تفرده عز و جل بالألوهية وعلى كون ما سواه من مخلوقاته مقهورة تحت ملكوته وقدرته والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الانكار السابق اى أيعلمون ذلك فلا يؤمنون

٣١

وجعلنا فى الارض رواسي أى جبالا ثوابت جمع راسية من رسا الشىء إذا ثبت ورسخ ووصف جمع المذكر يجمع المؤنث فى غير العقلاء مما لا ريب فى صحته كقوله تعالى أشهر معلومات وأياما معدودات

أن تميد بهم أي كراهة أن تتحرك وتضطرب بهم أولئلا تميد بهم بحذف اللام ولا لعدم الالباس

وجعلنا فيها أى فى الارض وتكرير الفعل لاختلاف المجعولين ولتوفية مقام الامتنان حقه أو فى الرواسى لأنها المحتاجة الى الطرق

فجاجا مسالك واسعة وإنما قدم على قوله تعالى سبلا وهو وصف له ليصير حالا فيفيد انه تعالى حين خلقها كذلك أو ليبدل منها

سبلا فيدل ضمنا على أنه تعالى خلقها ووسعها اللسابلة مع ما فيه من التوكيد لعلهم يهتدون أى الى مصالحهم ومهماتهم

٣٢

وجعلنا السماء سقفا محفوظا من الوقوع بقدرتنا القاهرة أو الفساد والانحلال الى الوقت المعلوم بمشيئتنا أو من استراق السمع بالشهب

وهم عن آياتها الدالة على وحدانيته تعالى وعلمه وحكمته وقدرته وإرادته التى بعضها محسوس وبعضها معلوم بالبحث عنه فى علمى الطبيعة والهيئة

معرضون لا يتدبرون فيها فيبقون على ما هم عليه من الكفر والضلال وقوله تعالى

٣٣

وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس القمر اللذين هما آيتاهما بيان لبعض تلك الآيات التى هم عنها معرضون بطريق الالتفات الموجب لتأكيد الاعتناء بفحوى الكلام أى هو الذى خلقهن وحده كل أى

كل واحد منهما على أن التنوين عوض عن المضاف إليه

فى فلك يسبحون إى يجرون فى سطح الفلك كالسبح فى الماء والمراد بالفلك الجنس كقولك كساهم الخليفة حلة والجملة حال من الشمس والقمر وجاز انفرادهما بها لعدم اللبس والضمير لهما والجمع بأعتبار المطالع وجعل الضمير واو العق لأن السباحة حالهم

٣٤

وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد إى فى الدنيا لكونه مخالفا للحكمة التكونية والتشريعية

أفإن مت بمقتضى حكمتنا

فهم الخالدون نزلت حين قالوا انتربص به ريب المنون والفاء لتعليق الشرطية بما قبلها والهمزة لإنكار مضمونها بعد تقرر القاعدة الكلية النافية لذلك بالمرة والمراد بإنكار خلودهم ونفيه إنكار ما هو مدار له وجودا وعدما من شماتنهم بموته صلى اللّه عليه و سلم فإن الشماتة بما يعتريه أيضا مما لا ينبغى أن تصدر عن العاقل كأنه قيل أفإن مت فهم الخالدون حتى يشمتوا بموتك وقوله تعالى

٣٥

كل نفس ذائقة الموت أى ذائقة مرارة مفارقها جسدها برهان على ما أنكر من خلودكم

ونبلوكم الخطاب إما للناس كافة بطريق التلوين أو للكفرة بطريق الالتفات أى نعاملكم معاملة من

يبلوكم بالشر والخير بالبلايا والنعم هل تصبرون وتشكرون أولا

فتنة مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه

وإلينا ترجعون لا إلى غيرنا لا استقلالا ولا اشتراكا فنجازيكم حسبما يظهر منكم من الأعمال فهو على الأول وعد ووعيد وعلى الثاني وعيد محض وفيه إيماء إلى أن المقصود من هذه الحياة الدنيا الابتلاء و التعريض للثواب والعقاب وقرىء يرجعون بالياء على الالتفات

٣٦

وإذا رآك الذين كفروا أي المشركون

إن يتخذونك إلا هزوا اي ما يتخذونك إلا مهزوءا به على معنى قصر معاملتهم معه عليه السلام على اتخاذهم إياه هزوا لا على معنى قصر اتخاذهم على كونه هزوا كما هو المتبادر كأنه قيل ما يفعلون بك إلا إتخاذك هزوا وقد مر تحقيقه في قوله تعالى إن أتبع إلا ما يوحى إلىّ في سورة الأنعام

أهذا الذي يذكر آلهتكم على إرادة القول أي ويقولون أو قائلين ذلك أي يذكرهم بسوء كما في قوله تعالى سمعنا فتى يذكرهم الخ وقوله تعالى

وهم بذكر الرحمن هم كافرون في حيز النصب على الحالية من ضمير القول المقدر والمعنى أنهم يعيبون عليه عليه الصلاة و السلام أن يذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء والحال أنهم بذكر الرحمن المنعم عليهم بما يليق به من التوحيد أوبإرشاد الخلق بإرسال الرسل وإنرال الكتب أو بالقرآن كافرون فهم أحقاء بالعيب والإنكار فالضمير الأول مبتدأ خبره كافرون وبذكر متعلق بالخبر والتقدير وهم كافرون بذكر الرحمن والضمير الثاني تأكيد لفظي للأول وقع الفصل بين العامل ومعموله بالمؤكدو بين المؤكد والمؤكد بالمعمول

٣٧

خلق الإنسان من عجل جعل لفرط استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق منه تنزيلا لما طبع عليه من الأخلاق منزلة ما طبع منه من الأركان إيذانا بغاية لزومه له وعدم انفكاكه عنه ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجاله بالوعيد روى أنها نزلت في النضر بن الحرث حين استعجل العذاب بقوله اللّهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر الآية وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما ان المراد بالإنسان آدم عليه السلام وأنه حين بلغ الروح صدره ولم يتبالغ فيه أراد أن يقوم وروى أنه لما دخل الروع في عينيه نظر إلى ثما رالجنة ولما دخل جوفه اشتهى الطعام

وقيل خلقه اللّه تعالى في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس فأسرع في خلقه قبل غيبتها فالمعنى خلق الإنسان خلقا ناشئا من عجل فذكره لبيان أنه من دواعي عجلته في الأمور والأظهر أن المراد به الجنس وإن كان خلقه عليه السلام ساريا إلى أولاده

وقيل العجل الطين بلغة حمير ولا تقريب له ههنا وقوله تعالى

سأريكم آياتي تلوين للخطاب وصرف له عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى المستعجلين بطريق التهديد والوعيد أي سأريكم نقماتي في الآخرة كعذاب النار وغيره

فلا تستعجلون بالإتيان بها والنهى عما جبلت عليه نفوسهم ليقعدوها عن مرادها

٣٨

ويقولون متى هذا الوعد أي وقت مجىء الساعة التي كانوا يوعدون وإنما كانوا يقولونه استعجالا لمجيتة بطريق الاستهزاء والإنكار كا يرشد إليه الجواب لا طلبا لتعيين وقته بطريق الإلزام كما في سورة الملك

إن كنتم صادقين أي في وعدكم بانه يأتينا والخطاب للنبي صلى اللّه عليه و سلم والمؤمنين الذين يتلون الآيات الكريمة المنبئة عن مجيء الساعة وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه حسبما حذف في مثل قوله تعالى فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين فإن قولهم متى هذا الوعد استبطاء منهم للموعود وطلب لإتيانه بطريق العجلة فإن ذلك في قوة الامر بالإتيان عجلة كأنه قيل فليأتنا بسرعة إن كنتم صادقين

٣٩

لو يعلم الذين كفروا استئنافمسوق لبيان شدة هول ما يستعجلونه وفظاعة ما فيه من العذاب وأنهم إنما يستعجلونه لجهلهم بشأنه وإيثار صيغة المضارع في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرار عدم العلم فإن المضارع المنفي الواقع موقع الماضي ليس بنص في إفادة انتفاء استمرار الفعل بل يفيد استمرار انتفائه أيضا بحسب المقام كما في قولك لو تحسن إلى لشكرتك فإن المعنى أن انتفاء الشكر لاستمرار انتفاء الإحسان لا لإنتفاء استمرار الإحسان ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على علة استعجالهم وقوله تعالى

حين لا يكفون عن وجهوههم النار ولا عن ظهورهم مفعول يعلم وهو عبارة عن الوقت الموعود الذي كانوا يستعجلونه وإضافته إلى الجملة الجارية مجرى الصفة التي حقها أن تكون معلومة الإنتساب إلى الموصوف عند المخاطب أيضا مع إنكار الكفرة لذلك للإبذان بأنه من الظهور بحيث لا حاجة له إلى الإخبار به وإنما حقه الإنتظام في سلك المسلمات المفروغ عنها وجواب لو محذوف أي لو لم يستمر عدم عليهم بالوقت الذي يستعلجونه بقولهم متى هذا الوعد من الحين الذي تحيط بهم النار فيه من كل جانب وتخصيص الوجوه والظهور بالذكر بمعنى القدام والخلف لكونهما أشهر الجوانب واستلزام الإحاطة بهما الإحاطة بالكل بحيث لا يقدرون على دفعها بأنفسهم من جانب من جوانبهم

ولا هم ينصرون من جهة الغير في دفعها الخ لما فعلوا ما فعلوا من الاستعجال ويجوز أن يكون يعلم متروك المفعول منزلا منزلة اللازم أي لو كان لهم علم لما فعلوه وقوله تعالى حين ألخ استئناف مقرر لجهلهم ومبين لاستمراره إلى ذلك الوقت كأنه قيل حين يرون ما يرون يعلمون حقيقة الحال

٤٠

بل تأتيهم عطف على لا يكفون أي لا يكفونها بل تأتيهم أي العدة أو النار أو الساعة بغتة فتبهتهم أي تغلبهم أوتحيرهم وقرىء الفعلان بالتذكير على ان الضمير للوعد أو الحين وكذا الهاء في قوله تعالى

فلا يستطيعون ردها بتأويل الوعد بالنار أو العدة والحين بالساعة ويجوز عودة إلى النار وقيل إلى البغتة أي

لا يستطيعون ردها عنهم بالكلية

ولا هم ينظرون أي يمهلون ليستريحوا طرفة عين وفيه تذكير لإمهالهم في الدنيا

٤١

ولقد استهزىء برسل من قبلك تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن استهزائهم به صلى اللّه عليه و سلم في ضمن الاستعجال وعدة ضمنية بانه يصيبهم مثل ما أصاب المتسهزئين بالرسل السالفة عليهم الصلاة والسلام وتصديرها بالقسم لزيادة تحقيق مضمونها وتنوين الرسل للتفخيم والتكثير ومن متعلقة بمحذوف هو صفة له أي وباللّه لقد استهزىء برسل أولى شأن خطير وذوي عدد كثير أ وحل أو نحو ذلك فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يستعمل إلا في الشر والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله وقوله تعالى

بالذين سخروا منهم أي من أولئك الرسل عليهم السلام متعلق بحاق وتقديمه على فاعله الذي هو قوله تعالى

ما كانوا به يستهزئون للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم وما إما موصولة مفيدة للتهويل والضمير المجرور عائد إليها والجار متعلق بالفعل وتقديمه عليه لرعاية الفواصل أي فأحاط بهم الذين كانوا يستهزئون به حيث أهلكوا لأجله

وأما مصدرية فالضمير المجرور راجع حينئذ إلى جنس الرسول المدلول عليه بالجمع كما قالوا ولعل إيثاره على الجمع للتنبيه على أنه يحيق بهم جزاء استهزائهم بكل واحد واحد منهم عليه السلام لا جزاء استهزائهم بكلهم من حيث هو كل فقط أي فنزل بهم جزاء استهزائهم على وضع السبب موضع السبب إيذانا بكمال الملابسة بينهما أو عين استهزائهم إن أريد بذلك العذاب الأخروى بناء على تجسم الأعمال فإن الأعمال الظاهرة في هذه النشاة بصور عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح وعلى ذلك بني الوزن وقد مر تفصيله في سورة الأعراف وفي قوله تعالى إنما بغيكم على أنفسكم الآية إلى آخرها

٤٢

قل خطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إثر تسليته بما ذكر من مصير أمرهم إلى الهلاك وأمر له عليه السلام بأن يقول لأولئك المتسهزئين بطريق التقريع والتبكيت من

يكلؤكم أي يحفظكم

بالليل والنهار من الرحمن اى بأسه الذي تستحقون نزوله ليلا أو نهار أو تقديم الليل لما أن الدواهي أكثر فيه وقوعا وأشد وقعا وفي التعرض لعنوان الرحمانية إيذان بأن كلئهم ليس إلا رحمته العامة وبعد ما أمر عليه السلام بما ذكر من السؤال على الوجه المذكور حسبما تقتضيه حالهم لأنهم بحيث لولا أن اللّه تعالى يحفظهم في الملوين لحل بهم فنون الآفات فهم أحقاد بأن يكلفوا الإعتراف بذلك فيوبخوا على ما هم عليه من الإشراك أضرب عن ذلك بقوله تعالى

بل هم عن ذكر ربهم معرضون ببيان أن لهم حالا أخرى مقتضية لصرف الخطاب عنهم هي أنهم لا يخطرون ذكره تعالى ببالهم فضلا ان يخافوا بأسه ويعدوا ما كانوا عليه من الأمن والدعة حفظا وكلاءة حتى يسألوا عن الكالىء على طريقة قول من قال عوجوا فحيوا النعمى دمنة الدار ماذا تحيون من نؤى وأحجار وفي تعليق الإعراض بذكره تعالى وإيراد اسم الرب المضاف إلى ضميرهم المنبىء عن كونهم تحت ملكوته وتدبيره وتربيته تعالى من الدلالة على كونهم في الغاية القاصية من الضلالة والغي مالا يخفى وكلمة أم في قوله تعالى

٤٣

أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا منقطعة وما فيها من معنى بل للإضراب والانتقال عما قبله من بيان أن جهلهم بحفظه تعالى إياهم لعدم خوفهم الناشىء عن إعراضهم عن ذكر ربهم بالكلية إلى توبيخهم بإعتمادهم على آلهتهم وإسنادهم الحفظ إليها والهمزة لإنكار أن يكون لهم آلهة تقدر على ذلك والمعنى ألهم آلهة تمنعهم من العذاب تتجاوز منعنا أوحفظنا أو من عذاب كائن من عندنا فهم معولون عليها واثقون بحفظها وفي توجيه الإنكار والنفى إلى وجود الآلهة الموصوفة بما ذكر من المنع لا إلى نفس الصفة بأن يقال أم تمنعهم آلهتهم الخ من الدلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود فضلا عن رتبة المنع مالا يخفى وقولع عزوعلا

لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون استئناف مقرر لما قبله من الإنكار وموضح لبطلان اعتقادهم أي هم لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم ولا يصحبون بالنصر من جهتنا فكيف يتوهم أن ينصروا غيرهم وقوله تعالى

٤٤

بل متعنا هؤلاء وآباهم حتى طال عليهم العمر إضراب عما توهما ببيان أن الداعي إلى حفظهم تمتيعنا إياهم بما قدر لهم من الأعمال أو عن الدلالة على بطلانه بيان ما أوهمهم ذلك هو أنه تعالى متعهم بالحياة الدنيا وأمهلهم حتى طالت أعمارهم فحسبوا أن لا يزالوا كذلك وانه بسبب ماهم عليه ولذلك عقب بما يدل على أنه طمع فارغ وأمل كذاب حيث قيل

أفلا يرون أي ألا ينظرون فلا يرون

أنا نأتي الأرض أي أرض الكفرة

ننقصها من أطرافها فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا وهو تمثيل وتصوير لما يخربه اللّه عزوجل من ديارهم على أيدي المسلمين ويضيفها إلى دار الإسلام

أفهم الغالبون على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم والمؤمنين والفاء لإنكار ترتيب الغالبية على ما ذكر من نقص ارض الكفرة بتسليط المسلمين عليها كأنه قيل أبعد ظهور ما ذكر ورؤيتهم له يتوهم غلبتهم كما مر في قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه وقوله تعالى قل أفاتخذتم من دونه أولياء وفي التعريف تعريض بأن المسلمين هم المتعينون للغلبة المعروفون بها

٤٥

قل إنما أنذركم بعد ما بين من جهته تعالى غاية هول ما يستعجله المستعجلون ونهاية سوء حالهم عند إتيانه ونعي عليهم جهلهم بذلك وإعراضهم عن ذكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل والنهار وغير ذلك من مساوى احوالهم امر صلى اللّه عليه و سلم بان يقول لهم إنما أنذركم ما تستعجلونه من الساعة

بالوحي الصادق الناطق بإتيانها وفظاعة ما فيها من الأهوال أي إنما شأني أن أنذركم بالإخبار بذلك لا بالإتيان بها فإنه مزاحم للحكمة التكوينية والتشريعية إذ الإيمان برهاني لا عيانى وقوله تعالى

ولا يسمع الصم الدعاء إما من تتمة الكلام الملقن تذييل له بطريق الاعتراض قد أمر عليه السلام بأن يقوله لهم توبيخا وتقريعا وتسجيلا عليهم بكمال الجهل والعناد واللام للجنس المنتظم للمخاطبين انتظاما أوليا أو للعهد فوضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالتصام وتقييد نفى السماع بقوله تعالى

إذا ما ينذرون مع ان الصم لا يسمعون الكلام إنذارا كان أو تبشيرا لبيان كمال شدة الصمم كما أن إيثار الدعاء الذي هوعبارة عن الصوت والنداء على الكلام لذلك فإن الإنذار عادة يكون بأصواب عالية مكررة مقارنة لهيآت دالة عليه فإذا لم يسمعوها يكون صممهم في غاية لا غاية وراءها وأما من جهته تعالى على طريقة قوله تعالى بل هم عن ذكر ربهم معرضون ويؤيده القراءة على خطاب النبي صلى اللّه عليه و سلم من الإسماع بنصب الصم والدعاء كأنه قيل قل لهم ذلك وانت بمعزل من إسماعهم وقرىء بالياء أيضا على أن الفاعل هو عليه السلام وقرىء على البناء للمفعول أي لا يقدر أحد على إسماع الصم وقوله تعالى

٤٦

ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك بيان لسرعة تأثرهم من مجىء نفس العذاب إثر بيان عدم تأثرهم من مجيء خبرة على نهج التوكيد القسمي اي وباللّه لئن أصابهم أدنى إصابة أدنه شيء من عذابه تعالى كما ينبىء عنه المس والنفحة بجوهرها وبنائها فإن أصل النفخ هبوب رائحة الشيء

ليقولن ياويلنا إنا كنا ظالمين ليدعن على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترفن

عليها بالظلم وقوله تعالى

٤٧

ونضع الموازين القسط بيان لما سيقع عند إتيان ما أنذروه أي نقيم الموازين العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال

وقيل وضع الموازين تمثيل لإرصاد الحساب السوى والجزاء على حسب الأعمال وقد مر تفصيل ما فيه من الكلالم في سورة الأعراف وإفراد القسط لأنه مصدر وصف به مبالغة

ليوم القيامة التي كانوا يستعجلونها أي لجزائه أو لأجل أهله أو فيه كما في قولك جئت لخمس خلون من الشهر

فلا تظلم نفس من النفوس شيئا حقا من حقوقها أو

شيئا ما من الظلم بل يوفى كل ذي حق حقه إن خيرا فخير وإن شرا فشر والفاء لترتيب انتفاء الظلم على وضع الموازين

وإن كان أي العمل المدلول عليه بوضع الموازين

مثقال حبة من خردل أي مقدار حبة كائنة من خردل أي وإن كان في غاية القلة والحقارة فإن حبة الخردل مثل في الصغر وقرىء مثقال حبة بالرفع على أن كان تامة اتينابها أي أحضرنا ذلك العمل المعبر عنه بمثقال حبة الخردل للوزن والتأنيث لإضافته إلى الحبة وقرىء

آتينابها أي جازينا بها من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء وقرىء أثبنا من الثواب وقرىء جئنابها

وكفى بنا حاسبين إذ لامزيد علىعلمناوعدلنا

٤٨

ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياء وذكر للمتقين نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم إلى قوله تعالى وأهلكنا المسرفين وإشارة إلى كيفية إنجائهم وإهلاك أعدائهم وتصديره بالتوكيد القسمى لإظهار كمال الإعتناء بمضمونه والمراد بالقرقان هو التوراة وكذا بالضياء والذكر أي وباللّه لقد آتيناهما وحيا ساطعا وكتابا جامعا بين كونه فارقا بين الحق والباطل وضياء الجهل والغواية وذكرا يتعظ به الناس وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المستضئون بأنواره المغتنمون لمغانم آثاره أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع والأحكام

وقيل الفرقا النصر

وقيل فلق البحر والأول هو اللائق بمساق النظم الكريم فإنه لتحقيق أمر القرآن المشارك لسائر الكتب الإلهية لا سيما التوراة فيما ذكر من الصفات ولأن فلق البحر هو الذي اقترح الكفرة مثله بقولهم فلياتنا بآية كما أرسل الأولون وقرىء ضياء بغير واو على أنه حال من الفرقان وقوله تعالى

٤٩

الذين يخشون ربهم أي عذابه مجرور المحل على أنه صفة مادحة للمتقين أو بدل أو بيان أو منصوب أو مرفوع على المدح بالغيب حال من المفعول أي يخشون عذابه تعالى وهو غائب عنهم غير مشاهد لهم ففيه تعريض بالكفرة حيث لا يتأثرون بالإنذار مالم يشاهدوا ما أنذروه

وقيل من الفاعل

وهم من الساعة مشفقون أي خائفون منها بطريق الاعتناء وتقديم الجار لمراعاة الفواصل وتخصيص إشفاقهم منها بالذكر بعدوصفهم بالخشية على الإطلاق للإيذان بكونها معظم المخوفات وللتنصيص على اتصافهم بضد ما اتصف به المستعجلون وإيثار الجملة الإسمية للدلالة على ثبات الإشفاق ودوأمه

٥٠

وهذا أي القرآن الكريم اشير إليه بهذا إيذانا بغاية وضوح أمره

ذكر يتذكر به من يتذكر وصف بالوصف الأخير للتوراة لمناسبة المقام وموافقته لما مر في صدر السورةالكريمة

مبارك كثير الخير غزيز النفع يتبرك به

أنزلناه إما صفة ثانية لذكر أو خبر آخر

أفأنتم له منكرون إنكار لإنكارهم بعد ظهرو كون إنزاله كإيتاء التوراة كأنه قيل أبعد أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة في الإيتاء والإيحاء أنتم منكرون لكونه منزلا من عندنا فإن ذلك بعد ملاحظة حال التوراة مما لا مساغ له أصلا

٥١

ولقد آتينا إبراهيم رشده أي الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار وهو الاهتداء الكامل المستند إلى الهداية الخاصة الحاصلة بالوحي والاقتدار على إصلاح الأمة باستعمال النوأميس الإلهية وقرىء رشده وهما لغتان كالخزن والحزن

من قبل أي من قبل إيتاء موسى وهارون التوراة وتقديم ذكر إيتائها لما بينه وبين إنزال القرآن من الشبه التام

وقيل من قبل استنبائه أو قبل بلوغه ويأباه المقام

وكنا به عالمين أي بأنه أهل لما آتيناه وفيه من الدليل على لنه تعالى عالم بالجزئيات مخار ! في افعاله ما لا يخفي

٥٢

اذا قال لأبيه وقومه ظرف لآتينا على أنه وقت متسع وقع فيه الإيتاء وما ترتب عليه من أفعاله وأقواله

وقيل مفعول لمضمر مستأنف وقع تعليلا لما قبله أي اذكر وقت قوله لهم

ماهذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون لتقف على كمال رشده وغاية فضله والتمثال اسم لشيء مضنوع مشبه بخلق من خلائق اللّه تعالى وهذا تجاهل منه عليه السلام حيث سألهم عن أصنامهم بما التي يطلب بها بيان الحقيقة أو شرح الإسم كأنه لا يعرف أنها مذا مع إحاطته بان حقيقتها حجر أو شجر اتخذوها معبودا وعبر عن عبادتهم لها بمطلق العكوف الذي هو عبارة عن اللزوم والاستمرار على الشيء لغرض من الأغراض قصدا إلى تحقيرها وإذلالها وتوبيخا لهم على إجلالها واللام في لها للاختصاص دون التعدية وإلا لجىء بكلمة على والمعنى أنتم فاعلون العكوف لها وقد جوز تضمين العكوف معنى العبادة كما ينبىء عنه قوله تعالى

٥٣

قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين أجابوا بذلك لما أن مآل سؤاله عليه السلام الاستفسار عن سبب عبادتهم لها كما ينبىء عنه وصفه عليه السلام إياهم بالعكوف لها كأنه قال ما هي هل تستحق ما تصنعون من العكوف عليها فلما لم يكن لهم ملجأ يعتد به التجأوا إلى التقليد فأبطله عليه السلام على طريقة التوكيد القسمى حيث

٥٤

قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم الذين سنوا للكم هذه السنة الباطلة

في ضلال عجيب لا يقادر قدره

مبين أي ظاهر بين بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء كونه كذلك ومعنى كنتم مطلق استقرارهم على الضلال لا استقرارهم الماضي الحاصل قبل زمان الخطاب المتناول لهم ولآبائهم أي واللّه لقد كنتم مستقرين على ضلال عظيم ظاهر لعدم استناده إلى دليل ما والتقليد إنما يجوز فيما يحتمل الحقية في الجملة

٥٥

قالوا لما سمعوا مقالته عليه السلام استبعادا لكون ماهم عليه ضلالا وتعجبا من تضليله عليه السلام إياهم بطريق التوكيد القسمى وترددا في كون ذلك منه عليه السلام على وجه الجد

أجئتنا بالحق اي بالجد

أم أنت من اللاعبين فتقول ما تقول على وجه المداعبة والمزاح وفي إيراد الشق الاخير بالجملة الإسمية الدالة على الثبات إيذان برجحانه عندهم

٥٦

قال عليه السلام إضرابا عما بنوا عليه مقالهم من اعتقاد كونها أربابا لهم كما يفصح عنه قولهم نعبد أصناما فنظل لها عاكفين كأنه قيل ليس الامر كذلك

بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وقيل هو إضراب عن كونه لاعبا بإقامة البرهان على ما ادعاه وضمير هن للسموات والأرض وصفه تعالى بإيجادهن إثر وصفة تعالى بربوبيته تعالى لهن تحقيقا للحق وتنبيها على ان ها لا يكون كذلك بمعزل من الربوبية أي أنشأهن بما فيهن من المخلوقات التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدون من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه ورجع الضمير إلى التماثيل أدخل في تضليلهم وأظهر في إلزام الحجة عليهم لما فيه من التصريح المغنى عن التأمل في كون ما يعبدونه من جملة المخلوقات

وأنا على ذلكم الذي ذكرته من كون ربكم رب السموات والأرض فقط دون ما عداه كائنا ما كان

من الشاهدين أي العالمين به على سبيل الحقيقة المبرهنين عليه فإن الشاهد على الشيء من تحققه وحققه وشهادته على ذلك إدلاؤه بالحجة عليه وإثباته بها كأنه قال وإنا ابين ذلك وأبرهن عله

٥٧

وتاللّه وقرىء بالباء وهو الأصل والتاء بدل من الواو التي هي بدل من الأصل وفيها تعجيب

لأكيدن أصنامكم أي لأجتهدن في كسرها وفيه إيذان بصعوبة الانتهاز وتوقفه على استعمال الحيل وإنما قاله عليه السلام سرا

وقيل سمعه رجل واحد

بعد أن تولوا مدبرين من عبادتهم إلى عيدكم وقرىء تولوا من التولى بحذف إحدى التاءين ويعضدها قوله تعالى فتولوا عنه مدبرين والفاء في قوله تعالى

٥٨

فجعلهم فصيحة أي فولوا فجعلهم

جذاذا أي قطاعا فعال بمعنى مفعول من الجذ الذي هو القطع كالحطام من الحطم الذي هو الكسر وقرىء بالكسر وهي لغة أوجمع جذيذ كخفاف وخفيف وقرىء بالفتح وجذذا جمع جذيذ وجذذا جمع جذة روى أن آزر خرج به في يوم عيد لهم فبدءوا ببيت الأصنام فدخلوه فسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم وقالوا إلى أن نرجع تركت الآلهة على طعامنا فذهبوا وبقى إبراهيم عليه السلام فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنما مصطفا وثمة صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل فكسر الكل بفأس كانت في يده ولم يبقق إلا الكبير وعلق الفأس في عنقه وذلك قوله تعالى

إلا كبيرا لهم أي للأصنام

لعلهم إليه أي إلى إبراهيم عليه السلام

يرجعون فيحاجهم بما سيأتى فيحجهم ويبكتهم

وقيل يرجعون إلى الكبير فيسألونه عن الكاسر لأن من شأن المعبود أن يرجع إليه في الملمات

وقيل يرجعون إلى اللّه تعالى وتوحيده عند تحققهم عجز آلهتهم عن دفع ما يصيبهم وعن الإضرار بمن كسرهم

٥٩

قالوا أي حين رجعوا

من عيدهم ورأوا مارأوا من

فعل هذا بآلهتنا على طريقة الإنكار والتوبيخ والتشنيع وإنما عبروا عنها بما ذكر ولم يشتروا إليها بهؤلاء وهي بين أيديهم مبالغة في التشنيع وقوله تعالى

إنه لمن الظالمين اسئناف مقرر لما قبله

وقيل من موصولة وهذه الجملة في حين الرفع على أنها خبر لها والمعنى الذي فعل هذا الكسر والحطم بآلهتنا إنه معدود من جملة الظلمة إما لجرأته على إهانتها وهي حقيقة بالإعظام أو لإفراطه في الكسر والحطم وتماديه في الاستهانة بها أو بتعريض نفسه للّهلكة

٦٠

قالوا أي بعض منهم مجيبين للسائلين

سمعنا فتى يذكرهم أي يعيبهم فلعله فعل ذلك بها فقوله تعالى يذكرهم إما مفعول ثان لسمع لتعلقه بالعين أو صفة لفتى مصححة لتعلقه به هذا إذا كان القائلون سمعوه عليه السلام بالذات يذكرهم وإن كانوا قد سمعوا من الناس أنه عليه السلام يذكرهم بسوء فلا حاجة إلى المصحح

يقال له إبراهيم صفة أخرى لفتى أي يطلق عليه هذا الإسم

٦١

قالوا أي السائلون

فأتوا به على أعين الناس أي بمرأى منهم بحيث يكون نصب أعينهم في مكان مرتفع لا يكاد يخفى على أحد

لعلهم يشهدون أي يحضرون عقوبتنا له

وقيل لعلهم يشهدون بفعله أو بقوله ذلك فالضمير حينئذ ليس للباس بل لبعض منهم مبهم أو معهود قالوا استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية قولهم كأنه قيل فماذا فعلوا به عليه السلام بعد ذلك هل أتوابه أولا فقيل أتوا به ثم

٦٢

قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم إقتصارا على حكاية مخاطبتهم إياه عليه السلام للتنبيه على ان إتيانهم به ومسارعتهم إلى ذلك أمر محقق غنى عن البيان قال بل فعله كبيرهم هذا مشيرا إلى الذي لم يكسره سلك عليه السلام مسلكا تعريضيا يؤديه إلى مقصده الذي هو إلزامهم الحجة على ألطف وجه وأحسنه بحملهم على التأمل في شأن آلهتهم مع مافيه من التوقى من الكذب حيث أبرز الكبير قولا في معرض المباشر للفعل بإسناده إليه كما أبرزه في ذلك المعرض فعلا يجعل الفأس في عنقه وقد قصد إسناده إليه بطريق التسبيب حيث كانت تلك الأصنام غاظته عليه السلام حين أبصرها مصطفة مرتبة للعبادة من دون اللّه سبحانه وكان غيظ كبيرهم أكبر وأشد حسب زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه باعتبار أنه الحامل عليه

وقيل هو حكاية لما يقود إلى تجويزه مذهبهم كأنه قال لهم ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعي إلها أن يقدر على ما هو أشد من ذلك ويحكى أنه عليه السلام

٦٣

قال فعله كبيرهم هذا غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهوأكبر منها فيكون تمثيلا أراد به عليه السلام تنبيههم على غضب اللّه تعالى عليهم لإشراكهم بعبادته الأصنام

وأما ما قيل من أنه عليه السلام لم يقصد نسبة الفعل الصادر عنه إلى الضم بل إنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم ومثل لذلك بما لو قال لك أمي فيما كتبته بخط رشيق وأنت شهير بحسن الحظ أأنت كتبت هذا فقلت له بل أنت كتبته كان قصدك تقرير الكتابة لنفسك مع الاستهزاء بالسائل لانفيها عنك وإثباتها له فبمعزل من التحقيق لأن خلاصة المعنى في المثال المذكور مجرد تقرير الكتابة لنفسك وادعاء ظهور الامر مع الاستهزاء بالسائل وتجهيله في السؤال لابتنائه على أن صدورها عن غيرك محتمل عنده مع استحالته عندك ولا ريب في أن مراده عليه السلام من إسناد الكسر إلى الصنم ليس مجرد تقريره لنفسه ولا تجهيلهم في سؤالهم لابتنائه على احتمال صدوره عن الغير عندهم بل إنما مراده عليه السلام توجيههم نحو التأمل في احوال اصنامهم كما ينبىء عنه قوله فاسألوهم

إن كانوا ينطقون أي إن كانوا ممن يمكن ان ينطقوا وإنما لم يقل عليه السلام إن كانوا يسمعون أو يعقلون مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضا لما أن نتيجة السؤال هو الجواب وأن عدم نطقهم أظهر وتبكيتهم بذلك أدخل وقد حصل ذلك أولا حسبما نطق به قوله تعالى

٦٤

فرجعوا إلى أنفسهم أي راجعوا عقولهم وتذكروا أن مالا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإضرار بمن كسره بوجه من الوجوه يستحيل أن يقدر على دفع مضرة عن غيره أوجلب منفعة له فكيف يستحق أن يكون معبودا

فقالوا أي قال بعضهم لبعض فيما بينهم إنكم

أنتم الظالمون أي بهذه السؤال لانه كان على طريقة التوبيخ المستتبع للمؤاخذة أو بعبادة الأصنام لامن ظلمتموه بقولكم إنه لمن الظالمين أو أنتم ظالمون بعبادتها لا من كسرها

٦٥

ثم نكسوا على رءوسهم أي انقلبوا إلى المجادلة بعد ما استقاموا بالمراجعة شبه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه وقرىء نكسوا بالتشديد ونكسوا على البناء للفاعل أي نكسوا أنفسهم

لقد علمت ما هؤلاء ينطقون على إرادة القول أي قائلين واللّه لقد علمت أن ليس من شأنهم النطق فيكف تأمرنا بسؤالهم على أن المراد استمرار نفى النطق لا نفى استمراره كما توهمه صيغة المضارع

٦٦

قال مبكتا لهم

أفتعبدون أي أتعلمون ذلك فتعبدون

من دون اللّه أي متجاوزين عبادته تعالى

مالا ينفعكم شيئا من النفع

ولا يضركم فإن العلم بحاله المنافية للألوهية مما يوجب الإجتناب عن عبادته قطعا

٦٧

أف لكم ولما تعبدون من اللّه تضجر منه عليه السلام من إصرارهم على الباطل البين وإظهار الإسم الجليل في موضع الإضمار لمزيد استقباح ما فعلوا وأف صوت المتضجر ومعناه قبحا ونتنا واللام لبيان المتأقف له

افلا تعقلون اى الا تتفكرون فلا تعقلون قبح صنيعكم

٦٨

قالوا اى قال بعضهم لبعض لما عجزوا عن المحاجة وضاقت عليه الحيل وعيت بهم العلل وهكذا ديدن المبطل المحجوج إذا قرعت شبهته بالحجة القاطعة وافتضح لا يبقى له مفزع إلا المناصبة حرقوه فإنه أشد العقوبات

وانصروا آلهتكم الانتقام لها

إن كنتم فاعلين أي للنصر أو لشيء يعتدبه قيل القائل نمرودبن كنعان بن السنجاريب ابن نمرود بن كوس بن حاء بن نوح

وقيل رجل من أكراد فارس اسمه هيون

وقيل هدير خسفت به الأرض روى أنهم لما أجمعوا على إحراقه عليه السلام بنوا له حظيرة بكوثى قرية من قرى الأنباط وذلك قوله تعالى قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فجمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يوما فأوقدوا نارا عظيمة لا يكاد يحوم حولها أحد حتى إن كانت الطير لتمر بها وهي في أقصى الجو فتحترق من شدة وهجها ولم يكد أحد يحوم حولها فلم يعلموا كيف يلقونه عليه السلام فيها فأتى إبليس وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه

وقيل صنعه لهم رجل من الأكراد فخسف اللّه تعالى به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ثم عمدوا إلى إبراهيم عليه السلام فوضعوه فيه مغلولا فرموا به فيها فقال له جبريل عليهما السلام هل لك حاجة قال أما إليك فلا قال فاسأل ربك قال حسبي من سؤالي علمه بحالي فجعل اللّه تعالى ببركة قوله الحظيرة روضة وذلك قوله تعالى

٦٩

قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم أي كوني ذات برد وسلام أي ابردى بردا غير ضار وفيه مبالغات جعل النار المسخرة لقدرته تعالى مأمورة مطاوعة وإقامة كونى ذات برد مقام أبردى ثم حذف المضاف وإقامة المضاف غليه مقامه

وقيل نصب سلاما بفعله أى وسلمنا سلاما عليه روى أن الملائكة أخذوا بضبعي إبراهيم وأقعدوه على الارض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار إلا وثاقه وروى أنه عليه السلام مكث فيها أربعين يوما أو خمسين وقال ما كنت أطيب عيشا منى إذ كنت فيها قال ابن يسار وبعث اللّه تعالى ملك الظل فقعد الى جنبه يؤنسه فنظر نمرود من صرحه فأشرف عليه فرآه جالسا فى روضة مونقة ومعه جليس على أحسن ما يكون من الهيئة والنار محيطة به فناداه يا ابراهيم هل تسطيع أن تخرج منها قال نعم قال فقم فاخرج فقام يمشي فخرج منها فاستقبله نمرود وعظمه وقال من الرجل الذى رأيته معك قال ذلك ملك الظل ارسله ربى ليؤنسني فقال إني مقرب إلىإهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك فقال عليه السلام لا يقبل اللّه منك ما دمت على دينك هذاقال لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبح له أربعة آلاف بقرة فذبحها وكف عن إبراهيم عليه السلام وكان إذ ذاك ابن ست عشرة سنة وهذا كما ترى من أبدع المعجزات فإن انقلاب النار هواء طيبا وإن لم يكن بدعا من قدرة اللّه عزوجل لكن وقوع ذلك على هذه الهيئة مما يخرق العادات

وقيل كانت النار على حالها لكنه تعالى دفع عنه عليه السلام إذاها كما تراه في السمندل كما يشعر به ظاهر قوله تعالى على إبراهيم

٧٠

وأرادوا به كيدا مكرا عظيما في الإضرار به

فجعلناهم الأخسرين أي أخسر من كل خاسر حيث عاد سعهيم في إطفاء نور الحق برهانا قاطعا على أنه عليه السلام على الحق وهم على الباطل وموجبا لارتفاع درجته واستحقاقهم لأشد العذاب

٧١

ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين أي من العراق إلى الشام وبركاته العامة أن أكثر الأنبياء بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم التي هي مبادى الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية

وقيل كثرة النعم والخصب الغالب روى انه عليه السلام نزل بفلسطين ولوط عليه السلام بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة

٧٢

ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة أي عطية فهي حال منهما أو ولد ولد أو زيادة على ما سأل وهو إسحق فتختص بيعقوب ولا لبس فيه للقرينة الظاهرة

وكلا أي كل واحد من هؤلاء الأربعة لا بعضهم دون بعض

جعلنا صالحين بأن وفقناهم للصلاح في الدين والدنيا فصاروا كاملين

٧٣

وجعلناهم أئمة يقتدى بهم في أمور الدين إجابة لدعائه عليه السلام بقوله ومن ذريتي

يهدون أي الأمة إلى الحق

بأمرنا لهم بذلك وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين

وأوحينا إليهم فعل الخيرات ليحثوهم عليه فيتم كمالهم بانضمام العمل إلى العلم وأصله ان تفعل الخيرات ثم فعلا الخيرات وكذا قوله تعالى

وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهو من عطف الخاص على العام دلالة على فضله وإنافته وحذفت تاء الإقامة المعوضة من إحدى الألفين لقيام المضاف إليه مقامه

وكانوا لنا خاصة دون غيرنا

عابدين لا يخطر ببالهم غير عبادتنا

٧٤

ولوطا قيل هو منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى

آتيناه أي وآتينا لوطا وقيل باذكر

حكما أي حكمة أو نبوة أو فصلا بين الخصوم بالحق

وعلما بما ينبغي علمه للأنبياء عليهم السلام

ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث أي اللواطة وصفت بصفة أهلها وأسندت إليها على حذف المضاف وإقامتها مقامه كما يؤذن به قوله تعالى

إنهم كانوا قوم سوء فاسقين فإنه كالتعليل له

٧٥

وأدخلناه في رحمتنا أي في أهل رحمتنا أو في جنتنا

إنه من الصالحين الذين سبقت لهم منا الحسنى

٧٦

ونوحا أي اذكر نوحا أي خبره وقوله تعالى

إذ نادى أي دعا اللّه تعالى على قومه بالهلاك ظرف للمضاف المقدر أي اذكر نبأة الواقع وقت دعائه

من قبل أي من قبل هؤلاء المذكورين

فاستجبنا له أي دعاءه الذي من جملته قوله إني مغلوب فانتصر

فجيناه وأهله من الكرب العظيم وهو الطوفان

وقيل أذيه قومه وأصل الكرب الغم الشديد

٧٧

ونصرناه نصرا مستتبعا للانتقام والانتصار ولذلك قيل

من القوم الذين كذبوا بآياتنا وحمله على فانتصر يأباه ما ذكر من دعائه عليه السلام فإن ظاهره يوجب إسناد الانتصار إليه تعالى مع ما فيه من تهويل الامر وقوله تعالى

إنهم كانوا قوم سوء تعليل لما قبله وتمهيد لما بعده من قوله تعالى

فأغرقناهم أجمعين فإن الاصرار على تكذيب الحق والانهماك في الشر والفساد مما يوجب الإهلاك قطعا

٧٨

وداود وسليمان إما عطف على نوحا معمول لعامله

وأما لمضمر معطوف على ذلك العامل بتقدير المضاف وقوله تعالى

إذ يحكمان ظرف للمضاف المقدر وصيغة المضارع حكاية للحال الماضية لاستحضار صورتها أي اذكر خبرهما وقت حكمهما

في الحرث أي في حق الزرع أو الكرم المتدلى عناقيده كما قبل أو بدل اشتمال منهما وقوله تعالى

إذ نفشت أي تفرقت وانتشرت

فيه غم القوم ليلا بلا راع فرعته وأفسدته ظرف للحكم

وكنا لحكمهم اي لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما فإن الإضافة لمجرد الإختصاص المنتظم لاختصاص القيام واختصاص الوقوع وقرىء لحكمهما

شاهدين حاضرين علما والجملة اعتراض مقرر للحكم ومفيد لمزيد الاعتناء بشأنه

٧٩

ففهمناها سليمان عطف على يحكمان فإنه في حكم الماضي وقرىء فأفهمناها والضمير والضمير للحكومة أو الفتيا روى أنه دخل على داود عليه السلام رجلان فقال أحدهما إن غنم هذا دخلت في حرثى ليلا فأفسدته فقضى له بالغنم فخرجا فمرا على سليمان عليه السلام فأخبراه بذلك فقال غير هذا أرفق بالفريقين فسمعه داود فدعاه فقال له بحق البنوة والأبوة إلا أخبرتني بالذي أرفق بالفريقين فقال أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الأرض لينتفع بدرها ونسلها وصوفها والحرث إلى أرباب الغنم ليقوموا عليه حتى يعود إلى ما كان ثم بترادا فقال القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك والذي عندي أن حكمها عليه السلام كان بالاجتهاد فإن قول سليمان عليه السلام غير هذا أرفق بالفريقين ثم قوله أرى أن تدفع الخ صريح في أنه ليس بطريق الوحى وإلا لبت القول بذلك ولما ناشده داود عليهما السلام لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يظهره بدء أو حرم عليه كتمه ومن ضرورته أن يكون القضاء السابق أيضا كذلك ضرورة استحالة نقض حكم النص بالاجتهاد بل أقول واللّه تعالى أعلم أن رأى سليمان عليه السلام استحسان كما ينبىء عنه قوله أرفق بالفريقين ورأى داود عليه السلام قياس كما أن العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى عند أبي حنيفة إلى المجنى عليه أو يفديه وببيعه في ذلك أو يفديه عند الشافعي وقد روى أنه لم يكن بين قيمة الحرث وقيمة الغنم تفاوت وأما سليمان عليه السلام فقد استحسن حيث جعل الانتفاع بالغنم بإزاء مافات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث إلى أن يزول الضرر الذي أتاه من قبله كما قال اصحاب الشافعي فيمن عصب عبدا فأبق منه أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من المنافع فإذا ظهر الآبق ترادا وفي قوله تعالى ففهمناها سليما دليل على رجحان قوله ورجوع داود عليه السلام إليه مع أن الحكم المبنى على الإجتهاد لاينقض باجتهاد آخر و إن كان أقوى منه لما أن ذلك من خصائص شريعتنا على أنه ورد في الأخبار أن داود عليه السلام لم يكن بت الحم في ذلك حتى سمع من سليمان ما سمع وأما حكم المسئلة في شريعتنا فعند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى لاضمان إن لم يكن معبا سائق أو قائد وعند الشافعي يجب الضمان ليلا لا نهارا وقوله تعالى

وكلا آتينا حكما وعلما لدفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان عليه السلام بالتفهيم من عدم كون حكم داود عليه السلام حكما شرعيا أي وكل واحد منهما آتينا حكما وعلما كثيرا لاسليمان وحده وهذا إنما يدل على خطأ المجتهد لا يقدح في كونه مجتهدا

وقيل بل على أن كل مجتهد مصيب وهو مخالف لقوله تعالى ففهمناها سليمان ولولا النقل لاحتمل توافقهما ما على أن قوله تعالى ففهمناها سليمان لإظهار ما تفضل عليه في صغره فإنه عليه السلام كان حينئذ ابن إحدى عشرة سنة

وسخرنا مع داود الجبال شروع في بيان ما يختص بكل منهما من كرامته تعالى إثر بيان كرامته العامة لهما

يسبحن أي يقدسن اللّه عزوجل معه بصوت يتمثل له أو يخلق اللّه تعالى فيها الكلام

وقيل يسرن معه بأن السباحة وهو حال من الجبال أو استئناف مبين لكيفية التسخير ومع متعلقة بالتسخير

وقيل بالتسبيح وهو بعيد والطير عطف على الجيال أو مفعول معه وقرىء بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي والطير مسخرات

وقيل على العطف على الضمير في يسبحن وفيه ضعف لعدم التأكيد والفصل

وكنا فاعلين أي من شأننا أن نفعل امثاله فليس ذلك ببدع منا وإن كان بديعا عندكم

٨٠

وعلمناه صنعة لبوس أي عمل الدرع وهو في الأصل اللباس قال قائلهم

... ألبس لكل حالة لبوسها ... إما نعيمها وأما بوسها ...

وقيل كانت صفائح فحلقها وسردها

لكم متعلق بعلمنا أو بمحذوف هوصفة لبوس

لتحصنكم أي اللبوس بتأويل الدرع وقرىء بالتذكير على ان الضمير لداود عليه السلام أو للبوس وقرىء بنون العظمة وهو بدل اشتمال من لكم بإعادة الجار مبين لكيفية الاختصاص والمنفعة المستفادة من لام لكم

من بأسكم قيل من حرب عدوكم

وقيل من وقع السلاح فيكم

فهل أنتم شاكرون أمر وارد على صورة الاستفهام للمبالغة أو التقريع

٨١

ولسليمان الريح أي وسخرنا له الريح وإيراد اللام ههنا دون الأول للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت فإن تسخير ما سخر له عليه السلام من الريح وغيرها كان بطريق الانقياد الكلي له والامتثال بأمره ونهيه والمقهورية تحت ملكوته

وأما تسخير الجبال والطير لداود عليه السلام فلم يكن بهذه المثابة بل بطريق التبعية له عليه السلام والاقتداء به في عبادة اللّه عز وعلا

عاصفة حال من الريح والعامل فيها الفعل المقدر أي وسخرنا له الريح حال كونها شديدة الهبوب من حيث إنها كانت تبعد بكرسيه في مدة يسيرة من الزمان كما قال تعالى غدوها شهر ورواحها شهر وكانت رخاء في نفسها طيبة

وقيل كانت رخاء تارة وعاصفة اخرى حسب إرادته عليه السلام وقرىء الريح بالرفع على الابتداء والخبر هو الظرف المقدم وعاصفة حينئذ حال من ضمير المبتدأ في الخبر والعامل ما فيه من معنى الاستقرار وقرىء الرياح نصبا ورفعا

تجرى بأمره بمشيئته حال ثانية أو بدل من الأولى أو حال من ضميرها

إلى الأرض التي باركنا فيها وهي الشأم رواحا بعد ما ساربه منه بكرة قال الكلبي كان سليمان عليه السلام وقومه يركبون عليها من اصطخر إلى الشام وإلى حيث شاء ثم يعود إلى منزلة

وكنا بكل شيء عالمين فنجزيه حسبما تقتضيه الحكمة

٨٢

ومن الشياطين أي وخسر ناله من الشياطين

من يغوصون له في البحار ويستخرجون له من نفائسها

وقيل من رفع على الابتداء وخبره ما قبله والاول هو الأظهر ويعملون عملا دون ذلك أي غير ما ذكر من بناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة لقوله تعالى

يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل الآية وهؤلاء إما الفرقة الأولى أو غيرها لعموم كلمة من كانه قيل ومن يعملون وجمع الضمير الراجع إليها باعتبار معناها بعد ما رشح جانبه بقوله تعالى ومن الشياطين روى أن المسخر له عليه السلام كفارهم ا مؤمنوهم لقوله تعالى ومن الشياطين وقوله تعالى

وكنا لهم حافظين أي من أن يزيغوا عن امره أو يفسدوا على ما هو مقتضى جبلتهم قيل وكل بهم جمعا من الملائكة وجمعا من مؤمني الجن وقال الزجاج كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا وكان دأبهم أن يفسدوا بالليل ماعملوه بالنهار وأيوب الكلام فيه كما مر في قوله تعالى وداود وسليمان أي واذكر خبر

٨٣

أيوب إذا نادى ربه انى أي بأنى مسنى الضر وقرىء بالكسر على إضمار القول أو تضمين النداء معناه والضر شائع في كل ضرر وبالضم خاص بما في النفس من مرض وهزال ونحوهما

وأنت أرحم الراحمين وصفة تعالى بغاية الرجمة بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها واكتفى به عن عرض المطلب لطفا في السؤال وكان عليه السلام روميا من ولد عيص بن إسحاق استسبأه اللّه تعالى وكثر أهله وماله فابنلاه اللّه تعالى بهلاك أولاده بهدم بيت عليهم وذهاب أمواله والمرض في بدنه ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو سبعا وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات روى أن أمرأته ماخير بنت ميشا ابن يوسف عليه السلام أو رحمه بنت إفرايم بن يوسف قالت له بوما لو دعوت اللّه تعالى فقال كم كانت مدة الرخاء فقالت بمانين سنة فقال استحي من اللّه تعالى أن ادعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي وروى أن إبليس أتاها على هيئة عظيمة فقال أنا إله الأرض فعلت بزوجك ما فعلت لأنه تركني وعبد إله السماء فلو سجد لي سجدة لرددت عليه وعليك جميع ما أخذت منكما وفي رواية لو سجدت لي سجدة لرجعت المال والولد وعافيت زوجك فرجعت إلى أيوب وكان ملقى في الكناسة لا يقرب منه أحد فأخبرته بالقصة فقال عليه السلام كأنك افتتنت بقول اللعين لئن عافاني اللّه عزوجل لأضربنك مائة سوط وحرام على أن أذوق بعد هذا شيئا من طعامك وشرابك فطردها فبقى طريحا على الكناسة لا يحوم حوله أحد من الناس فعند ذلك خر ساجدا فقال رب إني مسني الضر وانت أرحم الراحمين فقيل له ارفع رأسك فقد استجبت لك اركض برجلك فركض فنبعت من تحته عين ماء فاغتسل منها فلم ببق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت ولا جراحة إلا برئت ثم ركض مرة اخرى فنبعث عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وعاد صحيحا ورجع إليه شبابه وجماله ثم كسى حلة وذلك قوله تعالى

٨٤

فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر فلما قام جعل يلفت فلا يرى شيئا مما كان له من الأهل والمال إلا وقد ضاعفه اللّه تعالى وذلك قوله تعالى

وآتيناه أهله ومثلهم معهم وقيل كان ذلك بأن ولد له ضعف ما كان ثم إن امرأته قالت في نفسها هب إنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعا ويأكله السباع لأرجعن إليه فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة ولا تلك الحال وقد تغيرت الأمور فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وهابت صاحب الحلة أن تأتيه وتسأل عنه فأرسل إليها أيوب ودعاها فقال ما تريدين يا أمة اللّه فبكت وقالت أريد ذلك المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة قال لها ما كان منك فبكت وقالت بعلى قال أتعرفينه إذا رأيته قالت وهل يخفى على فتبسم فقال أنا ذلك فعرفته بضحكة فاعتنقته رحمة

من عندنا وذكرى للعابدين أي آتيناه ما ذكر لرحمتنا أيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر فيثابوا كما أثيب أو لرحمتنا العابدين الذين من جملتهم أيوب وذكرنا إياهم بالإحسان وعدم نسياننا لهم

٨٥

وإسماعيل وإدريس وذا الكفل أي واذكرهم وذو الكفل إلياس وقيل يوشع بن نون وقيل زكريا سمى به لأنه كان ذا حظ من اللّه تعالى أو تكفل منه أوضعف عمل أنبياء زمانه وثوابهم فإن الكفل يجيىء بمعنى النصيب والكفالة والضعف

كل أي كل واحد من هؤلاء

من الصابرين أي على مشاق التكاليف وشدائد النوب والجملة استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من الامر بذكرهم

٨٦

وأدخلناهم في رحمتنا أي في النبوة أو في نعمة الآخرة

إنهم من الصالحين أي الكاملين في الصلاح الكامل الذي لا يحوم حوله شائبة الفساد وهم الأنبياء فإن صلاحهم معصوم من كدر الفساد

٨٧

وذا النون أي واذكر صاحب الحوت وهو يونس عليه السلام

إذ ذهب مغاضبا أي مراغما لقومه لما برم من طول دعوته إياهم وشدة شكيمتهم وتمادى إصرارهم مهاجرا عنهم قبل أن يؤمر

وقيل وعدهم بالعذاب فلم يأتهم لميعادهم بتوبتهم ولم يعرف الحال

فظن أنه كذبهم فغضب من ذلك وهو من بناء المغالبة للمبالغة أو لأنه أغضبهم بالمهاجرة لخوفهم لحوق العذاب عندها وقرىء مغضبا فظن

أن لن نقدر عليه أن لن نضيق عليه أو لن نقضى عليه بالعقوبة من القدر ويؤيده أنه قرىء مشددا أو لن نعمل فيه قدرتنا

وقيل هو تمثيل لحاله بحال من يظن ان لن نقدر عليه أي نعامله معاملة من يظن ان لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لامرنا كما في قوله تعالى يحسب أن ماله أخلده أي نعامله معاملة من يحسب ذلك

وقيل خطرة شيطانية سبقت إلى وهمه فسميت ظنا للمبالغة وقرىء بالياء مخففا و مثقلا مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول فنادى الفاء فصيحة اي فكان ما كان من المساهمة والتقام الحوت

فنادى في الظلمات أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة أو في ظلمات بطن الحوت والبحر والليل

وقيل ابتلع حوته حوت أكبر منه فحصل في ظلمتي بطني الحوتين وظلمتي البحر والليل أن لا إله إلا انت أي بأنه لا إله إلا أنت على أن ان مخففة من ان وضمير الشأن محذوف أو أي

لا إله إلا انت على أنها مفسرة

سبحانك أنزهك تنزيها لائقابك من أن يعجزك شيء أو أن يكون ابتلائي بهذا بغير سبب من جهتي

إني كنت من الظالمين لأنفسهم بتعريضها للّهلكة حيث بادرت إلى المهاجرة

٨٨

فاستجبنا له أي دعاءه الذي دعاه في ضمن الاعتراف بالذنب على ألطف وجه وأحسنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا إستجيب له

ونجيناه من الغم بان قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات كان فيها في بطنه

وقيل بعد ثلاثة ايام

وقيل الغم غم الالتقام

وقيل الخطئية

وكذلك أي مثل ذلك الإنجاء الكامل

ننجى المؤمنين من غموم دعوا اللّه تعالى فيها بالإخلاق لا إنجاء أدنى منه وفي الإمام نجى ولذلك أخفى الجماعة النون الثانية فإنها تخفى مع حروف الفم وقرىء بتشديد الجيم على أن أصله ننجى فحذفت الثانية كما حذفت التاء في تظاهرون وهي وإن كانت فاء فحدفها أوقع من حذف حرف المضارعة التي لمعنى ولا يقدح فيه اختلاف حركتي النونين فإن الداعي إلى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإدغام وأمتناع الحذف في تتجافى لخوف اللبس

وقيل هوماض مجهول أسند إلى ضمير المصدر وسكن آخره تخفيفا ورد بأنه لا يسند إلى المصدر والمفعول مذكور والماضي لا يسكن آخره

٨٩

وزكريا أي واذكر

خبره إذا نادى ربه وقال

رب لا تذرني فردا أي وحيدا بلا ولد يرثى

وأنت خير الوارثين فحسبى أنت إن لم ترزقني وارثا

٩٠

فاستجبنا له أي دعاءه

ووهبنا له يحيى وقد مر بيان كيفية الاستجابة والهبة في سورة مريم

وأصلحنا له زوجه أي أصلحناها للولادة بعد عقرها أو أصلحناها للمعاشرة بتحسين خلقها وكانت حردة وقوله تعالى

إنهم كانوا يسارعون في الخيرات تعليل لما فصل من فنون إحسانه تعالى المتعلقة بالأنبياء المذكورين أي كانوا يبادرون في وجوه الخيرات مع ثباتهم واستقرارهم في اصل الخير وهو السر في إيثار كلمة في على كلمة إلى المشعرة بخلاف المقصود من كونهم خارجين عن اصل الخيرات متوجهين إليها كما في قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة

ويدعوننا رغبا ورهبا ذوى رغب ورهب أوراغبين في الثواب راجين للإجابة أوفي الطاعة وخائفين العقاب أو المعصية أو للرغب والرهب

وكانوا لنا خاشعين أي مخبتين متضرعين أو دائمي الوجل والمعنى أنهم نالوا من اللّه تعالى ما نالوا بسبب اتصافهم بهذه الخصال الحميدة

٩١

والتي أحصنت فرجها أي اذكر خبر التي أحصنته على الإطلاق من الحلال والحرام والتعبير عنها بالموصول لتفخيم شأنها وتنزيهها عما زعموه في حقها آثر ذي أثير

فنفخنا فيها أي أحيينا عيسى في جوفها

من روحنا من الروح الذي هو من امرنا

وقيل فعلنا النفخ فيها من جهة روحنا جبريل عليه السلام

وجعلناها وابنها أي قصتهما أو حالهما

آية للعالمين فإن من تأمل حالهما تحقق كمال قدرته عز و جل فالمراد بالآية ما حصل بهما من الآية التامة مع تكاثر آيات كل واحد منهما

وقيل أريد بالآية الجنس الشامل لمالكل واحد منهما من الآيات المستقلة

وقيل المعنى وجعلناها آية وابنها آية فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها

٩٢

إن هذه أي ملة التوحيد والإسلام أشير إليها بهذه تنبيها على كمال ظهور امرها في الصحة والسداد

أمتكم أي ملتكم التي يجب ان تحافظوا على حدودها وتراعوا حقوقها ولا تخلوا بشيء منها والخطاب للناس قاطبة

أمة واحدة نصب على الحالية من امتكم اي غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم السلام إذ لا مشاركة لغيرها في صحة الاتباع ولا احتمال لتبدلها وتغيرها كفروع الشرائع المتبدلة حسب تبدل الأمم والاعصار وقرىء امتكم بالنصب على البدلية من اسم إن وأمة واحدة بالرفع على الخبرية وفرتنا بالرقع على أنهما خبران

وأنا ربكم لا إله لكم غيري

فاعبدون خاصة لا غير وقوله تعالى

٩٣

وتقطعوا أمرهم بينهم التفات إلى الغيبة لينعى عليهم ما أفسدوه من التفرق في الدين وجعل أمره قطعا موزعة وينهى قبائح أفعالهم إلى الآخرين كأنه قيل إلا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين اللّه الذي أجمعت عليه كافة الأنبياء عليهم السلام كل أي كل واحدة من الفرق المتقطعة أوكل واحد من آحاد كل واحدة من تلك الفرق

إلينا راجعون بالبعث لا إلى غيرنا فتجازيهم حينئذ بحسب أعماله وإيراد اسم الفاعل للدلالة على الثبات والتحقق وقوله تعالى

٩٤

فمن يعمل من الصالحات الخ تفصيل للجزاء أي فمن يعمل بعض الصالحات أو بعضا من الصالحات

وهو مؤمن باللّه ورسله

فلا كفران لسعيه أي لا حرمان لثواب عمله ذلك عبر عن ذلك بالكفران الذي هو ستر النعمة وجحودها لبيان كمال نزاهته تعالى عنه بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من القبائح وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه تعالى ونفى نفى الجنس للمبالغة في التنزيه وعبر عن العمل بالسعي لإظهار الاعتداد به

وإنا له أي لسعيه

كاتبون أي مثبتون في صحائف أعمالهم لا نغادر من ذلك شيئا

٩٥

وحرام على قرية أي ممتنع على أهلها غير متصور منهم وقرىء حرم وهي لغة كالحل والحلال

أهلكناها قدرنا هلاكها أو حكمنا به لغاية طغيانهم وعنوهم وقوله تعالى

أنهم لا يرجعون في حيز كل إلينا راجعون وما في ان من معنى التحقيق معتبر في النفى المستفاد الرفع على أنه مبتدأ خبره حرام أو فاعل له ساد مسد خبره و الجملة لتقرير مضمون ما قبلها من قوله تعالى من حرام لا في المنفى أي ممتنع البتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء لا أن عدم رجوعهم المحقق ممتنع وتخصيص امتناع عدم رجوعها بالذكر مع شمول الامتناع لعدم رجوع الكل حسبما نطق به قوله تعالى كل إلينا راجعون لأنهم المنكرون للبعث والرجوع دون غيرهم

وقيل ممتنع رجوعهم إلى التوبة على أن لا صلة وقرىء إنهم لا يرجعون بالكسر على أنه استئناف تعليلى لما قبله فحرام خبر مبتدأ محذوف أي حرام عليها ذلك وهو ما ذكر في الآية السابقة من العمل الصالح المشفوع بالإيمان والسعي المشكور ثم علل بقوله تعالى إنهم لا يرجعون عما هم عليه من الكفر فكيف لا يمتنع ذلك ويجوز حمل المفتوحة أيضا على هذا المعنى بحذف اللام عنها أي لأنهم لا يرجعون وحتى في قوله تعالى

٩٦

حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج الخ هي التي يحكى بعدها الكلام

وهي على الأول غاية لما يدل عليه ما قبلها كأنه قيل يستمرون على ما هم عليه من الهلاك حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا ويقولون يا ويلنا الخ

وعلى الثاني غاية للحرمة اي يستمر امتناع رجوعهم إلى التوبة حتى إذا قامت القيامة يرجعون إليها حين لا تنفعهم التوبة

وعلى الثالث غاية لعدم الرجوع عن الكفر أي لا يرجعون عنه حتى إذا قامت القيامة يرجعون عنه حين لا ينفعهم الرجوع ويأجوج ومأجوج قبيلتان من الإنس قالوا الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج ومأجوج والمراد بفتحها فتح سدها على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وقرىء فتحت بالتشديد

وهم أي يأجوج ومأجوج

وقيل الناس

من كل حدب أي نشز من الارض وقرىء جدث وهو القبر

ينسلون أي يسرعون وأصله مقاربة الخطو مع الإسراع وقرىء بضم السين

٩٧

واقتراب الوعد الحق عطف على فتحت والمراد به ما بعد النفخة الثانية من البعث والحساب والجزاء لا النفخة الأولى

فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا جواب الشرط وإذا للمفاجاة تسد مسد الفاه الجزائية كما في قوله تعالى إذا هم يقنطون فإذا دخلتها الفاء تظاهرت على وصل الجزاء بالشرط والضمير للقصة أو مبهم يفسره ما بعده

يا ويلنا على تقدير قول وقع حالا من الموصول اي يقولون يا ويلنا تعال فهذا وأن حضورك

وقيل هو الجواب للشرط

قد كنا في غفلة تامة من هذا الذي دهمنا من البعث والرجوع إليه تعالى للجزاء ولم نعلم أنه حق

بل كنا ظالمين إضراب عما قبله من وصف أنفسهم بالغفلة أي لم نكن غافين عنه حيث نبهناعليه بالآيات والنذر بل كنا ظالمين بتلك الآيات والنذر مكذبين بها أو ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب وقوله تعالى

٩٨

إنكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم خطاب لكفار مكة وتصريح بمأل أمرهم مع كونه معلوما مما سبق على وجه الإجمال مبالغة في الإنذار وإزاحة الإعتذار وما تعبدون عبارة عن أصنامهم لأنها التي يعبدونها كما يفصح عنه كلمة ما وقد روى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم حين تلا الآية قال له ابن الزبعرى خصمتك ورب الكعبة أليست اليهود عبدواعزيزا والنصارى المسيح وبنو مليح الملائكة رد عليه بقوله صلى اللّه عليه و سلم ما أجهلك بلغة قومك أما فهمت أن مالما لا يعقل ولا يعارضه ماروى إنه صلى اللّه عليه و سلم رده بقوله بل هم عبدو الشياطين التي امرتهم بذلك ولاماروى أن ابن الزبعرى قال هذا شيء لآلهتنا خاصة أو لكل من عبد من دون اللّه فقال صلى اللّه عليه و سلم بل لكل من عبد من دون اللّه تعالى إذ ليس شيء منهما نصا في عموم كلمة ما كما أن الأول نص في خصوصها وشمول حكم النص لا يقتضى شموله بطريق العبارة بل يكفي في ذلك شموله لهم بطريق دلالة النص بجامع الشركة في المعبودية من دون اللّه تعالىفعللّه صلى اللّه عليه و سلم بعدما بين مدلول النظم الكريم بما ذكر وعدم دخول المذكورين في حكمه بطريق العبارة بين عدم دخولهم فيه بطريق الدلالة أيضا تأكيدا للرد والإلزام وتكريرا للتبكيت والأفحام لكن لا باعتبار كونهم معبودين لهم كما هو زعمهم فإن إخراج بعض المعبودين عن حكم منبىء عن الغضب على العبدة والمعبودين مما يوهم الرخصة في عبادته في الجملة بل بتحقيق الحق وبيان أنهم ليسوا من العبودية في شيء حتى يتوهم دخولهم في الحكم المذكور دلالة بموجب شركتهم للأصنام في المعبودية من دون اللّه تعالى وإنما معبودهم الشياطين التي أمرتهم بعبادتهم كما نطق به قوله تعالى سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن الآية فهم الداخلون في الحكم المذكور لاشتراكهم مع الأصنام في المعبودية من دونه تعالى دون المذكورين عليهم السلام وهذا هو الوجه في التوفيق بين الإخبار المذكورة

وأما تعميم كلمة ما للعقلاء أيضا وجعل ما سيأتي من قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الخ بيانا للتجوز أو التخصيص فما لا يساعده السباق والسياق كما يشهد به الذوق السليم والحصب ما يرمى به ويهيج به النار من حصبه إذا رماه بالحصباء وقرىء بسكون الصاد وصفا له ئبالمصدر للمبالغة

أنتم لها واردون أستئناف أو بدل من حصب جهنم و اللام معوضة من على الدلالة على الاختصاص و أن وردهم لأجلها و الخطاب لهم و لما يعبدون تغليبا

٩٩

لو كان هؤلاء أي أصنامهم

آلهة كما يزعمون

ما وردوها وحيث تبين ورودهم إياها تعين امتناع كونها آلهة بالضرورة وهذا كما ترى صريح في أن المراد بما يعبدون هي الأصنام لأن المراد إثبات نقيض ما يدعونه وهم إنما يدعون إلهية الأصنام لا إلهية الشياطين حتى يحت بوردها النار على عدم إلهيتها

وأما ما وقع في الحديث الشريف فقد وقع بطريق التكملة بإنجرار الكلام إليه عند بيان ما سيق له النظم الكريم بطريق العبارة حيث سأل ابن الزبعرى عن حال سائر المعبودين وكان الاقتصار على الجواب الأول مما يوهم الرخصة في عبادتهم في الجملة لأنهم المعبودون عندهم أجيب بيان أن المعبودين هم الشياطين و أنهم داخلون في حكم النص لكن بطريق العبارة لئلا يلزم التدافع بين الخبرين

وكل أي من العبدة والمعبودين

فيها خالدون لاخلاص لهم عنها

١٠٠

لهم فيها زفير أي أنين وتنفس شديد وهو مع كونه من أفعال العبدة أضيف إلى الكل للتغليب ويجوز أن يكون الضمير للعبدة لعدم الإلباس وكذا في قوله تعالى

وهم فيها لا يسمعون أي لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدة الهول وفظاعة العذاب

وقيل لا يسمعون ما يسرهم من الكلام

١٠١

إن الذين سبقت لهم منا الحسنى شروع في بيان حال المؤمنين إثر شرح حال الكفرة حسبما جرت به سنة التنزيل من شفع الوعد بالوعيد وإيراد الترغيب مع الترهيب أي سبقت لهم منا في التقدير الخصلة الحسنى التي هي أحسن الخصال وهي السعادة وقبل التوفيق للطاعة أو سبقت لهم كلمتنا بالبشرى بالثواب على الطاعة وهو الأدخل الأظهر في الحمل عليها لما أن الأولين مع خفائهما ليسا من مقدورات المكلفين فالجملة مع ما بعدها تفصيل لما أجمل في قوله تعالى فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون كما أن ما قبلها من قوله تعالى إنكم وما تعبدون الخ تفصيل لما أجمل في قوله تعالى وحرام الخ

أولئك إشارة إلى الموصول باعتبر إتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وبعد منزلتهم في الشرف والفضل أي أولئك المنعوتون بما ذكر من النعت الجميل

عنها أي عن جهنم

مبعدون لأنهم في الجنة وشتان بينها وبين النار وما روى أن عليا رضي اللّه عنه خطب يوما فقرأ هذه الآية ثم قال أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وابو عبيدة بن الجراح رضوان اللّه تعالى عنهم أجمعين ثم أقيمت الصلاة فقام يجر رداءه ويقول

١٠٢

لا يسمعون حسيسها ليس بنص في كون الموصول عبارة عن طائفة مخصوصة والحسيس صوت يحس به أي لا يسمعون صوتها سمعا ضعيفا كما هو المعهود عند كون المصوت بعيدا وإن كان صوته في غاية الشدة لا أنهم لا يسمعون صوتها الخفي في نفسه فقط والجملة بدل من مبعودن أو حال ن ضميره مسوقة للمبالغة في إنقاذهم منها وقوله تعالى

وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون بيان لفوزهم بالمطالب إثر بيان خلاصهم من المهالك والمعاطب أي دائمون في غاية التنعم وتقديم الظرف للقصر والاهتمام به وقوله تعالى

١٠٣

لا يحزنهم الفزع الأكبر بيان لنجانهم من الإفزاع بالكلية بعد بيان نجاتهم من النار لانهم إذا لم يحزنهم أكبر الأفزاع لا يحزنهم ما عداه بالضرورة عن الحسن رضي اللّه عنه أنه الانصراف إلى النار وعن الضحاك حتى يطبق على النار

وقيل حين يذبح الموت في صورة كبش أملح

وقيل النفخةالأخيرة لقوله تعالى ففزع من في السموات ومن في الأرض وليس بذاك فإن الآمن من ذلك الفزع من استثناه اللّه تعالى بقوله إلا من شاء اللّه لا جميع المؤمنين الموصوفين بالأعمال الصالحة على أن الأكثرين على أن ذلك في النفخة الأولى دون الأخيرة كما سيأتى في سورة النمل

وتتلقاهم الملائكة أي تستقبلهم مهنئين لهم هذا يومكم على إرادة القول أي قائلين

هذا اليوم يومكم الذي كنتم توعدون في الدنيا وتبشرون بما فيه من فنون المثوبات على الإيمان والطاعات وهذا كما ترى صريح في أن المراد بالذين سبقت لهم الحسنى كافة المؤمنين الموصوفين بالايمان والاعمال الصالحة لا من ذكر من المسيح وعزير والملائكة عليهم السلام خاصة كما قيل

١٠٤

يوم نطوي السماء بنون العظمة منصوب باذكر

وقيل ظرف لقوله تعالى لا يحزنهم الفزع

وقيل بتتلقاهم

وقيل حال مقدرة من الضمير المحذوف فى توعدون والطى ضد النشر

وقيل المحو وقرىء يطوى بالياء والتاء والبناء للمفعول

كطى السجل وهى الصحيفة أى طيا كطى الطومار وقرىء السجل كلفظ الدلو وبالكسر والسجل على وزن العتل وهما لغتان واللام فى قوله تعالى

للكتب متعلقة بمحذوف هو حال من السجل أو صفة له على رأى من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أى كطى السجل كائنا للكتب أو الكائن للكتب فإن الكتب عبارة عن الصحائف وما كتب فيها فسجلها بعض أجزائها وبه يتلعق الطى حقيقة وقرىء للكتاب وهو إما مصدر واللام للتعليل أى

كما يطوى الطومار للكتابة أو اسم كالإمام فاللام كما ذكر أولا قيل السجل اسم ملك يطوى كتب أعمال بنى آدم إذا رفعت إليه

وقيل هو كاتب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كما

بدأنا أول خلق نعيده أى نعيد ما خلقناه مبتدأ إعادة مثل بدئنا إياه فى كونها إيجادا بعد العدم أو جمعا من الأجزاء المتبددة والمقصود بيان صحة الاعادة بالقياس على المبدأ لشمول الإمكان الذاتى المصحح للمقدورية وتناول القدرة لهما على السواء وما كافة أو مصدرية وأول مفعول لبدأنا أو لفعل يفسره نعيده أو موصولة والكاف متعلقة بمحذوف يفسره نعيده أى نعيد مثل الذى بدأناه وأول خلق ظرف لبدأنا أو حال ضمير الموصول المحذوف

وعدا مصدر مؤكد لفعله ومقرر لنعيده أو منتصف به لأنه عدة بالاعادة علينا أى

علينا إنجازه

إنا كنا فاعلين لما ذكر لا محالة

١٠٥

ولقد كتبنا فى الزبور هو كتاب دواد عليه السلام

وقيل هو اسم لجنس ما أنزل على الانبياء عليهم السلام

من بعد الذكر أى التوراة

وقيل اللوح المحفوظ أى وباللّه لقد كتبنا فى كتاب داود بعد ما كتبنا فى التوراة أو كتبنا فى جميع الكتب المنزلة بعدما كتبنا وأثبتنا فى اللوح المحفوظ

أن الارض يرثها عبادى الصالحون أى عامة المؤمنين بعد إجلاء الكفار وهذا وعد منه تعالى بإظهار الدين وإعزاز أهله وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما أن المراد أرض الجنة كما ينبىء عنه قوله تعالى وقالوا الحمد للّه الذى صدقناه وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء

وقيل الأرض المقدسة يرثها أمة محمد صلى اللّه عليه و سلم

١٠٦

إن في هذا أي فيما ذكر في السورة الكريمة من الإخبار والمواعظ البالغة والوعد والوعيد والبراهين القاطعة الدالة على التوحيد وصحة النبوة

لبلاغا أي كفاية أو سبب بلوغ إلى البغية

لقوم عابدين أي لقوم همهم العبادة دون العادة

١٠٧

وما أرسلناك بما ذكر وبأمثاله من الشرائع والأحكام وغير ذلك من الامور التي هي مناط لسعادة الدارين

إلا رحمة للعالمين هو في حيز النصب على أنه استثناء من أعم العلل أو من أعم الأحوال أي ما أرسلناك أذكر لعلة من العلل إلا برحمتنا الواسعة للعالمين قاطبة أو ما أرسلناك في حال من الأحوال إلا حال كونك رحمة لهم فإن لها بعثت به سبب لسعادة الدارين ومنشأ لا نتظام مصالحهم في البشأتين ومن لم يغتنم مغانم آثاره فإنما فرط في نفسه وحرمه حقه لا أنه تعالى حرمه مما يسعده

وقيل كونه رحمه في حق الكفار أمنهم من الخسف والمسخ والاستئصال حسبما ينطق به قوله تعالى وما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم

١٠٨

قل إنما يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد اي ما يوحى إلى إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد لأنه المقصود الأصلى من البعثة

وأما ماعداه فمن الأحكام المتفرعة عليه فإنما الأولى لقصر الحكم على الشيء كقولك إنما يقوم زيد أي ما يقوم إلا زيد والثانية لقصر الشيء على الحكم كقولك إنما زبد قائم أي ليس له إلا صفة القيام

فهل أنتم مسلمون أي مخلصون العبادة للّه تعالى مخصصون لها به تعالى والفاء للدلالة على أن ما قبلها موجب لما بعدها قالوا فيه دلالة على أن صفة الوحدانية تصح أن يكون طريقها السمع

١٠٩

فإن تولوا عن الإسلام ولم يلتفتوا إلى ما يوجبه من الوحى

فقل لهم

آذنتكم أي أعلمتكم ما أمرت به أو حربى لكم على سواء كائنتين

على سواء في الإعلام به لم أطوه عن أحد منكم أومستوين به أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به أو في المعادة أوإيذانا على سواء

وقيل أعلمتكم أنى على سواء أي عدل واستقامة رأى بالبرهان النير

وإن أدرى أي ما أدرى

أقريب أم بعدي ما توعدون من غلبة المسلمين وظهور الدين أو الحشر مع كونه آتيالا محالة

١١٠

إنه يعلم الجهر من القول أي ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام وتكذيب الآيات التي من جملتها ما نطق بمجيء الموعود

ويعلم ما تكتمون من الإحن والأحقاد للمسلمين فيجازيكم عليه نقيرا أو قمطيرا

١١١

وإن أدرى لعلة فتنة لكم أي ما أدرى لعل تأخير جزائكم استدراج لكم وزيادة في افتتانكم أو امتحان لكم لينظر كيف تعملون

ومتاع إلى حين أي وتمتع لكم إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة ليكون ذلك حجة عليكم

١١٢

قال رب احكم بالحق حكاية لدعائه صلى اللّه عليه و سلم وقرىء قل رب على صيغة الأمر أي اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل المقتضى لتعجيل العذاب والتشديد عليهم وقد استجيب دعاؤه صلى اللّه عليه و سلم حيث عذبوا بيد أى تعذيب وقرىء رب احكم بضم الباء وربى أحكم على صيغة التفضيل وربي أحكم من الإحكام

وربنا الرحمن مبتدأ أي كثير الرحمة على عباده وقوله تعالى

المستعان أي المطلوب منه المعونة وخبر آخر للمبتدأ وإضافة الرب فيما سبق إلى ضميره صلى اللّه عليه و سلم خاصة لما أن الدعاء من الوظائف الخاصة به صلى اللّه عليه و سلم كما أن إضافته ههنا إلى ضمير الجمع المنتظم للمؤمنين أيضا لما أن الاستعانة من الوظائف العامة لهم

على ما تصفون من الحال فإنهم كانوا يقولون إن الشوكة تكون لهم وإن رأية الإسلام تخفق ثم تركد وإن المتوعد به لو كان حقا لنزل بهم إلى غير ذلك مما لا خير فيها فاستجاب اللّه عزوجل دعوة رسوله صلى اللّه عليه و سلم فخيب آمالهم وغير أحوالهم ونصر اولياءه عليهم فأصابهم يوم بدر ما أصابهم والجملة اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله وقرىء يصفون بالياء التحتانية وعن النبي صلى اللّه عليه و سلم من قرأ اقترب حاسبه اللّه تعالى حسابا يسيروا وصافحه وسلم عليه كل نبى ذكر اسمه في القرآن

﴿ ٠