ÓõæÑóÉõ ”ÇáúãõÄúãöäõæäó“ ãóßøöíøóÉñ

æóåöíó ãöÇÆóÉñ æóËóãóÇäöíó ÚóÔóÑóÉó ÂíóÉð

سورة المؤمنون

مكية وهي عند البصريين مائة وتسع عشرة آية وعند الكوفيين مائة وثماني عشرة آية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

١

قد أفلح المؤمنون الفلاح الفوز بالمرام والنجاة من المكروه

وقيل البقاء في الخير والإفلاح الدخول في ذلك كالإبشار الذي هو الدخول في البشارة وقد يجيء متعديا بمعنى الإدخال فيه وعليه قراءة من قرأ على البناء للمفعول وكلمة قد ههنا لإفادة ثبوت ما كان متوقع الثبوت من قبل لا متوقع الإخبار به ضرورة أن المتوقع من حال المؤمنين ثبوت الفلاح لهم لا الإخبار بذلك فالمعنى قد فازوا بكل خير ونجوا من كل ضير حسبما كان ذلك متوقعا من حالهم فإن إيمانهم وما تفرع عليه من أعمالهم الصالحة من دواعي الفلاح بموجب الوعد الكريم خلا أنه إن أريد بالإفلاح حقيقة الدخول في الفلاح الذي لا يتحقق إلا في الآخرة فالإخبار به على صيغة الماضي الدلالة على تحققه لا محالة بتنزيله منزلة الثابت وإن أريد كونهم بحال تستتبعه البتة فصيغة الماضي في محلها وقرئ أفلحوا على الإبهام والتفسير أو على أكلوني البراغيث وقرئ أفلح بضمة اكتفى بها عن الواو كما في قول من قال ولو أن الأطبا كان حولى والمراد بالمؤمنين إما المصدقون بما علم ضرورة أنه من دين نبينا صلى اللّه عليه و سلم من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء ونظائرها فقوله تعالى

٢

الذين هم في صلاتهم خاشعون وما عطف عليه صفات مخصصة لهم وأما الآتون بفروعه أيضا كما ينبئ عنه إضافة الصلاة إليهم فهي صفات موضحة أو مادحة لهم حسب اعتبار ما ذكر في حيز الصلة من المعاني مع الإيمان إجمالا أو تفصيلا كما مر في أوائل سورة البقرة والخشوع الخوف والتذلل أي خائفون من اللّه عز و جل متذللون له ملزمون أبصارهم مساجدهم روى أنه صلى اللّه عليه و سلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فلما نزلت رمى ببصره نحو مسجده وأنه رأى مصليا يعبث بلحيته فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه

٣

والذين هم عن اللغو أي عما لا يعنيهم من الأقوال والأفعال

معرضون أي في عامة أوقاتهم كما ينبئ عنه الاسم الدال على الاستمرار فيدخل في ذلك إعراضهم عنه حال اشتغالهم بالصلاة دخولا أوليا ومدار إعراضهم عنه ما فيه من الحالة الداعية إلى الإعراض عنه لا مجرد الاشتغال بالجد في أمور الدين كما قيل فإن ذلك ربما يوهم أن لا يكون في اللغو نفسه ما يزجرهم عن تعاطيه وهو أبلغ من أن يقال لا يلهون من وجوه جعل الجملة اسمية وبناء الحكم على الضمير والتعبير عنه بالاسم وتقديم الصلة عليه وإقامة الإعراض مقام الترك ليدل على تباعدهم عنه رأسا مباشرة وتسببا وميلا وحضورا فإن أصله أن يكون في عرض غير عرضه

٤

والذين هم للزكاة فاعلون وصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة والزكاة مصدر لأنه الأمر الصادر عن الفاعل لا المحل الذي هو موقعه ومعنى الفعل قد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ويجوز أن يراد بها العين على تقدير المضاف

٥

والذين هم لفروجهم حافظون ممسكون لها فالاستثناء في قوله تعالى

٦

إلا على أزواجهم من نفي الإرسال الذي ينبئ عنه الحفظ أي لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم وفيه إيذان بأن قوتهم الشهوية داعية لهم إلى ما لا يخفى وأنهم حافظون لها من استيفاء مقتضاها وبذلك يتحقق كما العفة ويجوز أن تكون على بمعنى من و إليه ذهب الفراء كما في قوله تعالى إذا اكتالوا على الناس أي حافظون لها من كل أحد إلا من أزواجهم

وقيل هي متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير حافظون أي حافظون لها في جميع الأحوال إلا حال كونهم والين أو قوأمين على أزواجهم

وقيل بمحذوف يدل عليه غير ملومين كأنه قيل يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم

فإنهم غير ملومين وحمل الحفظ على القصر عليهن ليكون المعنى حافظون فروجهم على الأزواج لا يتعداهن ثم يقال غير حافظين إلا عليهن تأكيدا على تأكيد تكلف على تكلف أو ما ملك أيمانهم أي سراريهم عبر عنهن بما إجراء لهن لمملوكيتهن مجرى غير العقلاء أو لأنوثتهن المنبئة عن المقصود وقوله تعالى فإنهم غير ملومين تعليل لما يفيده الاستثناء من عدم حفظ فروجهم منهن أي فإنهم غير ملومين على عدم حفظها منهن

٧

فمن ابتغى وراء ذلك الذي ذكر من الحد المتسع وهو أربع من الحرائر وما شاء من الإماء

فأولئك هم العادون الكاملون في العدوان المتناهون فيه وليس فيه ما يدل حتما على تحريم المتعة حسبما نقل عن القاسم بن محمد فإنه قال إنها ليست زوجة له فوجب أن لا تحمل له أما أنها ليست زوجة له فلأنهما لا يتوارثان بالإجماع ولو كانت زوجة له لحصل التوارث لقوله تعالى ولكم نصف ما ترك أزواجكم فوجب أن لا تحل لقوله تعالى إلا على أزواجهم لأن لهم أن يقولوا إنها زوجة له في الجملة

وأما أن كل زوجة ترث فهم لا يسلمونها

وأما ما قيل من أنه إن أريد لو كانت زوجة حال الحياة لم يفدو إن أريد بعد الموت فالملازمة ممنوعة فليس له معنى محصل نعم لو عكس لكان له وجه

٨

والذين هم لأماناتهم وعهدهم لما يؤتمنون عليه ويعاهدون من جهة الحق أو الخلق

راعون أي قائمون عليها حافظون لها على وجه الإصلاح وقرئ لأمانتهم

٩

والذين هم على صلواتهم المفروضة عليهم

يحافظون يواظبون عليها ويؤدونها في أوقاتها ولفظ الفعل فيه لما في الصلاة من التجدد والتكرر وهو السر في جمعها وليس فيه تكرير لما أن الخشوع في الصلاة غير المحافظة عليها وفصلهما للإيذان بأن كلا منهما فضيلة مستقلة على حيالها ولو قرنا في الذكر لربما توهم أن مجموع الخشوع والمحافظة فضيلة واحدة

١٠

أولئك إشارة إلى المؤمنين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات وإيثارها على الإضمار للإشعار بامتيازهم بها عن غيرهم ونزولهم منزلة المشار إليه حسا وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتهم وبعد درجتهم في الفضل والشرف أي أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة

هم الوارثون أي الأحقاء بأن يسموا وراثا دون من عداهم ممن ورث رغائب الأموال والذخائر وكرائمهما

١١

الذين يرثون الفردوس بيان لما يرثونه وتقييد للوراثة بعد إطلاقها وتفسير لها بعد إبهامها تفخيما لشأنها ورفعا لمحلها وهي اتسعارة لاستحقاقهم الفردوس بأعمالهم حسبما يقتضيه الوعد الكريم للمبالغة فيه وقيل إنهم يرثون من الكفار منازلهم فيها حيث فوتوها على أنفسهم لأنه تعالى خلق لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار هم فيها أي في الفردوس والتأنيث لأنه اسم للجنة أو لطبقتها العليا وهو البستان الجامع لأصناف الثمر روى أنه تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل خلالها المسك الأذفر وفي رواية ولبنة من مسك مذرى وغرس

فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان

خالدون لا يخرجون منها أبدا والجملة إما مستأنفة مقررة لما قبلها

وأما حال مقدرة من فاعل يرثون أو مفعوله إذ فيها ذكر كل منهما ومعنى الكلام لا يموتون ولا يخرجون منها

١٢

ولقد خلقنا الإنسان شروع في بيان مبدأ خلق الإنسان وتقلبه في أطوار الخلقة وأدوار الفطرة بيانا إجماليا

 إثر بيان حال بعض أفراده السعداء واللام جواب قسم والواو ابتدائية

وقيل عاطفة على ما قبلها والمراد بالإنسان الجنس أي وباللّه لقد خلقنا جنس الإنسان في ضمن خلق آدم عليه السلام خلقا إجماليا حسبما تحققته في سورة الحج وغيرها

وأما كونه مخلوقا من سلالات جعلت نطفا بعد أدوار وأطوار فبعيد من سلالة السلالة ما سل من الشيء واستخرج منه فإن فعالة اسم لما يحصل من الفعل فتارة تكون مقصودا منه كالخلاصة وأخرى غير مقصود منه كالقلامة والكناسة والسلالة من قبيل الأول فإنها مقصودة بالسل ومن ابتدائية متعلقة بالخلق ومن في قوله تعالى من طين بيانية متعلقة بمحذوف وقع صفة لسلالة أي خلقناه

من سلالة كائنة

من طين ويجوز أن تتعلق بسلالة على أنها بمعنى مسلولة فهي ابتدائية كالأولى

وقيل المراد بالإنسان آدم عليه السلام فإنه الذي خلق من صفوة سلت من الطين وقد وقفت على التحقيق

١٣

ثم جعلناه أي الجنس باعتبار افراده المغايرة لآدم عليه السلام أو جعلنا نسله على حذف المضاف إن أريد بالإنسان آدم عليه السلام

نطفة بأن خلقناه منها أو ثم جعلنا السلالة نطفة والتذكير بتأويل الجوهر أو المسلول أو الماء

في قرار أي مستقر وهو الرحم عبر عنها بالقرار الذي هو مصدر مبالغة وقوله تعالى

مكين وصف لها بصفة ما استقر فيها مثل طريق سائر أو بمكانتها في نفسها فإنها مكنت بحيث هي وأحرزت

١٤

ثم خلقنا النطفة علقة أي دما جامدا بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء

فخلقنا العلقة مضغة أي قطعة لحم لا استبانة ولا تمايز فيها

فخلقنا المضغة أي غالبها ومعظمها أو كلها

عظاما بأن صلبناها وجعلناها عمودا للبدن على هيئات وأوضاع مخصوصة تقتضيها الحكمة

فكسونا العظام المعهودة

لحما من بقية المضغة أو مما أنبتنا عليها بقدرتنا مما يصل إليها أي كسونا كل عظم من تلك العظام ما يليق به من اللحم على مقدار لائق به وهيئة مناسبة له واختلاف العواطف للتنبيه على تفاوت الاستحالات وجمع العظام لاختلافها وقرئ على التوحيد فيهما اكتفاء بالجنس وبتوحيد الأول فقط وبتوحيد الثاني فحسب

ثم أنشأناه خلقا آخر هي صورة البدن أو الروح أو القوى بنفخه فيه أو المجموع وثم لكمال التفاوت بين الخلقين واحتج به أبو حنيفة رحمه اللّه على أن من غصب بيضة فأفرخت عنده لزمه ضمان البيضة لا الفرخ لأنه خلق آخر

فتبارك اللّه فتعالى شأنه في علمه الشامل وقدرته الباهرة والالتفات إلى الأسام الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة والإشعار بأن ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية وللإيذان بأن حق كل من سمع ما فصل من آثار قدرته عز وعلا أو لاحظه أن يسارع إلى التكلم به إجلالا وإعظاما لشؤونه تعالى

أحسن الخالقين بدل من الجلالة

وقيل نعت له بناء على أن الإضافة ليست لفظية

وقيل خبر مبتدأ محذوف أي هو أحسن الخالقين خلقا أي المقدرين تقديرا حذف المميز

لدلالة الخالقين عليه كما حذف المأذون فيه في قوله تعالى أذن للذين يقتلون لدلالة الصلة عليه أي أحسن الخالقين خلقا فالحسن للخلق قيل نظيره قوله صلى اللّه عليه و سلم إن اللّه جميل يحب الجمال أي جميل فعله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعا فاستكن روى أن عبد اللّه بن أبي سرح كان يكتب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم الوحي فلما انتهى صلى اللّه عليه و سلم إلى قوله خلقا آخر سارع عبد اللّه إلى النطق به قبل إملائه صلى اللّه عليه و سلم فقال اكتبه هكذا نزلت فشك عبد اللّه فقال إن كان محمد يوحى إليه فأنا كذلك فلحق بمكة كافرا ثم أسلم يوم الفتح

وقيل مات على كفره وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنه قال لما نزلت هذه الآية قال عمر رضي اللّه عنه فتبارك اللّه أحسن الخالقين فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم هكذا نزل يا عمر وكان رضي اللّه عنه يفتخر بذلك ويقول وافقت ربي في أربع الصلاة خلف المقام وضرب الحجاب على النسوة وقولي لهن أو ليبدله اللّه خيرا منكن فنزل قوله تعالى عسى ربه عن طلقكن أن يبدله الآية والرابع فتبارك اللّه أحسن الخالقين انظر كيف وقعت هذه الواقعة سببا لسعادة عمر رضي اللّه عنه وشقاوة ابن أبي سرح حسبما قال تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا لا يقال فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن وذلك قادح في إعجازه لما أن الخارج عن قدرة البشر ما كان مقدار أقصر السور على أن إعجاز هذه الآية الكريمة منوط بما قبلها كما نعرب عنه الفاء فإنها اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله

١٥

ثم إنكم بعد ذلك أي بعد ما ذكر من الأمور العجيبة حسبما ينبئ عنه ما في اسم الإشارة من معنى البعد المشعر بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل والكمال وكونه بذلك ممتازاص منزلا منزلة الأمور الحسية

لميتون لصائرون إلى الموت لا محالة كما تؤذن به صيغة النعت الدالة على الثبوت دون الحدوث الذي تفيده صيغة الفاعل وقد قرئ لمائتون

١٦

ثم إنكم يوم القيامة أي عند النفخة الثانية

تبعثون من قبوركم للحساب والمجازاة بالثواب والعقاب

١٧

ولقد خلقنا فوقكم بيان لخلق ما يحتاج إليه بقاؤهم إثر بيان خلقهم أي خلقنا في جهة العلو من غير اعتبار فوقيتها لهم لأن تلك النسبة إنما تعرض لها بعد خلقهم سبع طرائق هي السموات السبع سميت بها لأنها طورق بعضها فوق بعض مطارقة النعل فإن كل ما فوقه مثله فهو طريقة أو لأنها طرائق الملائكة أو الكواكب فيها مسيرها

وما كنا من الخلق عن ذلك المخلوق الذي هو السموات أو عن جميع المخلوقات التي هي من جملتها أو عن الناس

غافلين مهملين أمرها بل نحفظها عن الزوال والاختلال وندبر أمرها حتى تبلغ منتهى ما قدر لها من الكمال حسبما اقضته الحكمة وتعلقت به المشيئة ويصل إلى ما في الأرض منافعها كما ينبئ عنه قوله تعالى

١٨

وأنزلنا من السماء ماء هو المطر أو الأنهار النازلة من الجنة قيل هي خمسة أنهار سيحون نهر الهند وجيحون نهر بلخ ودجلة والفرات نهر العراق والنيل نهر مصر أنزلها اللّه تعالى من عين واحدة من عيون الجنة فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس في فنون معايشهم ومن ابتدائية متعلقة بأنزلنا وتقديمها على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والعدول عن الإضمار لأن الإنزال لا يعتبر فيه عنوان كونها طرائق بل مجرد كونها جهة العلو بقدر بتقدير لائق لاستجلاب منافعهم ودفع مضارهم أو بمقدار ما علمنا من حاجاتهم ومصالحهم

فأسكناه في الأرض أي جعلناه ثابتا قارا فيها

وإنا على ذهاب به أي إزالته بالإفساد أو التصعيد أو التغوير بحيث يتعذبر استنباطه

لقادرون كما كنا قادرين على إزالة وفي تنكير ذهاب إيماء إلى كثرة طرقه ومبالغة في الإبعاد به ولذلك جعل أبلغ من قوله تعالى قل أرأيتم عن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء

١٩

فأنشأنا لكم به أي بذلك الماء

جنات من نخيل وأعناب لكم فيها في الجنات

فواكه كثيرة تتفكهون بها

ومنها من الجنات

تأكلون تغذيا أو ترزقون وتحصلون معايشكم من قولهم فلان يأكل من حرفته ويجوز أن يعود الضميران للنخيل والأعناب أي لكم في ثمراتها أنواع من الفواكه الرطب والعنب والتمر والزبيب والعصير والدبس وغير ذلك وطعام يأكلونه

٢٠

وشجرة بالنصب عطف على جنات وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف دل عليه ما قبله أي ومما أنشئ لكم به شجرة وتخصيصها بالذكر من بين الأشجار لاستقلالها بمنافع معروفة قيل هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان وقوله تعالى

تخرج من طور سيناء وهو جبل موسى عليه السلام بين مصر وأيلة

وقيل بفلسطين ويقال له طور سنين فإما أن يكون الطور اسم الجبل وسيناء اسم البقعة أضيف إليها أو المركب منهما علم له كامرئ القيس ومنع صرفه على قراءة من كسر السين للتعريف والعجمة أو التأنيث على تأويل البقعة لا للألف لأنه فيعال كديماس من السناء بالمد وهو الرفعة أو بالقصر وهو النور أو ملحق بفعلان كعلباء من السين إذ لا فعلاء بألف التأنيث بخلاف سيناء فإنه فيعال ككيسان أو فعلاء كصحراء إذ لا فعلال في كلامهم وقرئ بالكسر والقصر والجملة صفة لشجرة وتخصيصها بالخروج منه مع خروجها من سائر البقاع أيضا لتعظيمها ولانه المنشأ الأصلي لها وقوله تعالى

تنبت بالدهن صفة أخرى لشجرة والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا منها أي تنبت ملتبسة به ويجوز كونها صلة معدية أي تنبيته بمعنى تتضمنه وتحصله فإن النبات حقيقة صفة للشجرة لا للدهن وقرئ تنبت من الإفعال وهو إما من الإنبات بمعنى النبات كما في قول زهير رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل أو على تقدير تنبت زيتونها ملتبسا بالدهن وقرئ على البناء للمفعول وهو كالأول وتثمر بالدهن وتخرج بالدهن وتنبت بالدهان

وصبغ لآكلين معطوف على الدهن جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشيء على الآخر أي تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يصبغ فيه الخبز أي يغمس فيه للائتدام وقرئ وصباغ كدباغ في دبغ

٢١

وإن لكم في الأنعام لعبرة بيان للنعم الفائضة عليهم من جهة الحيوان إثر بيان النعم الواصلة إليهم من جهة الماء والنبات وقد بين أنها مع كونها في نفسها نعمة ينتفعون بها على وجوه شتى عبرة لابد من أن يعتبروا بها ويستدلوا بأحوالها على عظيم قدرة اللّه عز و جل وسابغ رحمته ويشكروه ولا يكفروه وخص هذا بالحيوان لما أن محل العبرة فيه أظهر مما في النبات وقوله تعالى

نسقيكم مما في بطونها تفصيل لما فيها من مواقع العبرة وما في بطونها عبارة إما عن الألبان فمن تبعيضية والمراد بالبطون الجوف أو عن العلف الذي يتكون منه اللبن فمن ابتدائية والبطون على حقيقتها وقرئ بفتح النون وبالتاء أي تسقيكم الأنعام

ولكم فيها منافع كثيرة غير ما ذكر من أصوافها واشعارها

ومنها تأكلون فتنتفعون بأعيابها كما تنتفعون بما يحصل منها

٢٢

وعليها أي على الأنعام فإن الحمل عليها لا يقتضي الحمل على جميع أنواعها بل يتحقق بالحمل على البعض كالإبل ونحوها

وقيل المراد هي الإبل خاصة لأنها هي المحمول عليها عندهم والمناسب للفلك فإنها سفائن البر قال ذو الرمة سفينة بر تحت خدي زمامها فالضمير فيه كما في قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن

وعلى الفلك تحملون أي في البر والبحر وفي الجمع بينها وبين الفلك في إيقاع الحمل عليها مبالغة في تحملها للحمل وهو الداعي إلى تأخير ذكر هذه المنفعة مع كونها من المنافع الحاصلة منها عن ذكر منفعة الأكل المتعلقة بعينها

٢٣

ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه شروع في بيان إهمال الأمم السابقة وتركهم النظر والاعتبار فيما عدد من النعم الفائتة للحصر وعدم تذكرهم بتذكير رسلهم وما حاق بهم لذلك من فنون العذاب تحذيرا للمخاطبين وتقديم قصة نوح عليه السلام على سائر القصص مما لا يخفي وجهه وفي إيرادها إثر قوله تعالى وعلى الفلك تحملون من حسن الموقع ما لا يوصف والواو ابتدائية واللام جواب قسم محذوف وتصدير القصة به لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها أي وباللّه لقد أرسلنا نوحا الأخ ونسبه الكريم وكيفية بعثه وكمية لبثه فيما بينهم قد مر تفصيله في سورة الأعراف وسورة هود

فقال متعطفا عليهم ومستميلا لهم إلى الحق

يا قوم ابعدوا اللّه أي اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله تعالى في سورة هود أن لا تعبدوا إلا اللّه وترك التقييد به للإبذان بأنها هي العبادة فقط والعبادة بالإشراك فليست من العبادة في شيء رأسا وقوله تعالى

مالكم من إله غيره استئناف مسوق لتعليل العبادة المأمور بها أو تلعيل الأمر بها وغيره بالرفع صفة لإله باعتبار محله الذي هو الرفع على أنه فاعل أو مبتدأ خبره لكم أو محذوف ولكم للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود أو في العالم إله غيره تعالى وقرئ بالجر باعتبار لفظه

أفلا تتقون أي أفلا تقوت أنفسكم عذابه الذي يستوجبه ما أنتم عليه من ترك عبادته كما يفصح عنه قوله تعالى إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم وقوله تعالى عذاب يوم أليم

وقيل أفلا تخافون أن ترفضوا عبادة اللّه الذي هو ربكم الخ وليس بذاك

وقيل أفلا تخافون أن يزيل عنكم نعمه الخ وفيه ما فيه والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أتعرفون ذلك أي مضمون قوله تعالى ما لكم من إله غيره فلا تتقون عذابه بسبب إشراككم به في العبادة ما لا يستحق الوجود لولا إيجاد اللّه تعالى إياه فضلا عن استحقاق العبادة فالمنكر عدم الاتقاء مع تحقق ما يوجبه أو ألا تلاحظون ذلك فلا تتقونه فالمنكر كلا الأمرين فالممالعة حينئذ في الكمية وفي الأول في الكيفية

٢٤

فقال الملأ أي الإشراف

الذين كفروا من قومه وصف الملأ بما ذكر مع اشتراك الكل فيه للإيذان بكمال عراقتهم في الكفر وشدة شكيمتهم فيه أي قالوا لعوأمهم

ما هذا إلا بشر مثلكم أي في الجنس والوصف من غير فرق بينكم وبينه وصفوه عليه السلام بذلك مبالغة في وضع رتبته العالية وحطها عن منصب النبوة بريد

أن يتفضل عليكم أي يريد أن يطلب الفضل عليكم ويتقدمكم بادعاء الرسالة مع كونه مثلكم وصفوه بذلك إغضابا للمخاطبين عليه عليه السلام وإغراء لهم على معاداته عليه السلام وقوله تعالى

ولو شاء اللّه لأنزل ملائكة بيان لعدم رسالة البشر على الإطلاق على زعمهم الفاسد بعد تحقيق بشريته عليه السلام أي لو شاء اللّه تعالى إرسال الرسول لأرسل رسلا من الملائكة وإنما قيل لأنزل لأن إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال فمفعول المشيئة مطلق الإرسال المفهوم من الجواب لأنفس مضمونه كما في قوله تعالى ولو شاء لهداكم ونظائره

ما سمعنا بهذا أي بمثل هذا الكلام الذي هو الأمر بعبادة اللّه خاصة وترك عبادة ما سواه

وقيل بمثل نوح عليه السلام

في دعوى النبوة في

آبائنا الأولين أي الماضين قبل بعثته عليه السلام قالوه إما لكونهم وآبائهم في فترة متطاولة

وأما لفرط غلوهم في التكذيب والعناد وأنهما كهم في الغي والفساد وأيا ما كان فقولهم هذا ينبغي أن يكون هو الصادر عنهم في مبادئ دعوته عليه السلام كما تنبئ عنه الفاء في قوله تعالى فقال الملأ الخ

وقيل معناه ماسمعنا به عليه السلام أنه نبي فالمراد بآبائهم الأولين الذين مضموا قبلهم في زمن نوح عليه السلام وقولهم المذكور هو الذي صدر عنهم في أواخر أمره عليه السلام وهو المناسب لما بعده من حكاية دعائه عليه السلام وقولهم

٢٥

إن هو أي ما هو

إلا رجل به جنة أي جنون أو جن يخيلونه ولذلك يقول ما يقول

فتربصوا به أي احتملوه واصبروا عليه وانتظروا

حتى حين لعله يفيق مما فيه محمول حينئذ

 على ترامي أحوالهم في المكابرة والعناد وإضرابهم عما وصفوه عليه السلام به من البشرية وإرادة التفضل إلى وصفه عليه السلام بما ترى وهم يعرفون أنه عليه السلام أرجح الناس عقلا وأرزنهم قولا وعلى الأول على تناقض مقالاتهم الفاسدة قاتلهم اللّه أنى يؤفكون قال استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية كلام الكفرة كأنه قيل فماذا قال عليه السلام بعد ما سمع منهم هذه الأباطيل فقيل

٢٦

قال لما رآهم قد أصروا على الكفر والتكذيب وتمادوا في الغواية والضلال حتى يئس من إيمانهم بالكلية وقد أوحى اللّه إليه إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن

رب انصرني بإهلاكهم بالمرة فإنه حكاية إجمالية لقوله عليه السلام رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا الخ

بما كذبوني أي بسبب تكذيبهم إياي أو بدل تكذيبهم

٢٧

فأوحينا إليه عند ذلك

أن اصنع الفلك أن مفسرة لما في الوحي من معنى القول

بأعيننا ملتبسا بحفظنا وكلاءتنا كأن معه عليه السلام منه عز وعلا حفاظا وحراسا يكلئونه بأعينهم من التعدي أو من الزيغ في الصنعة

ووحينا وأمرنا وتعليمنا لكيفية صنعها والفاء في قوله تعالى

فإذا جاء أمرنا لترتيب مضمون ما بعدها على تمام صنع الفلك والمراد بالأمر العذاب كما في قوله تعالى لا عاصم اليوم من أمر اللّه لا الأمر بالركوب كما قيل وبمجيئه كمال اقترابه أو ابتداء ظهوره أي إذا جاء إثر تمام الفلك عذابنا وقوله تعالى

وفار التنور عطف بيان لمجيء الأمر روى أنه قيل له عليه السلام إذا فار الماء من التنور اركب أنت ومن معك وكان تنور آدم عليه السلام فصار إلى نوح عليه السلام فلما نبع منه الماء أخبرته امرأته فركبوا واختلف في مكانه فقيل كان في مسجد الكوفة أي في موضعه عن يمين الداخل من باب كندة اليوم

وقيل كان في عين وردة من الشام وقد مر تفصيله في تفسير سورة هود عليه السلام

فاسلك فيها أي ادخل فيها يقال سلك فيه أي دخل فيه وسلكه فيه أدخله فيه ومنه قوله تعالى ما سلككم في سقر من كل أي

من كل أمة زوجين أي فردين مزدوجين كما يعرب عنه قوله تعالى اثنين فإنه نص في الفردين دون الجمعين أو الفريقين وقرئ بالإضافة على أن المفعول اثنين أي من كل أمتي زوجين وهما أمة الذكر وأمة الأنثى كالجمال والنوق والحصن والرماك وهذا صريح في ان الأمر كان قبل صنعة الفلك وفي سورة هود حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين فالوجه أن يحمل إما على أنه حكاية لأمر آخر تنجيزي ورد عند فوران التنور الذي نيط به الأمر التعليقي اعتناء بشأن المأمور به أو على أن ذلك هو الأمر السابق بعينه لكن لما كان الأمر التعليقي قبل تحقق المعلق به في حق إيجاب المأمور به بمنزلة العدم جعل كأنه إنما حدث عند تحققه فحكى على صورة النجيز وقد مر في تفسير قوله

تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وأهلك منصوب بفعل معطوف على فاسلك لا بالعطف على زوجين أو اثنين على القراءتين لأدائه إلى اختلال المعنى أي واسلك أهلك والمراد به امرأته وبنوه وتأخير الأمر بإدخالهم عما ذكر من إدخال الأزواج فيها لكونه عريقا فيما أمر به من الإدخال فإن نحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام بل إلى معاونة من أهله وأتباعه وأماهم فإنما يدخلونها باختيارهم بعد ذلك ولأن في المؤخر ضرب تفصيل بذكر الاستثناء وغيره فتقديمه يؤدي إلى الإخلال بتجاوب أطراف النظم الكريم ي

إلا من سبق عليه القول منهم أي القول بإهلاك الكفرة وإنما جيء بعلي لكون السابق ضارا كما جيء باللام في قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى لكونه نافعا

ولا تخاطبني في الذين ظلموا بالدعاء لإنجائهم

إنهم مغرقون تعليل للنهي أو لما ينبئ عنه من عدم قبول الدعاء أي إنهم مقضى عليهم بالإغراق لا محالة لظلمهم بالإشراك وسائر المعاصي ومن هذا شأنه لا يشفع له ولا يشفع فيه كيف لا وقد أمر بالحمد على النجاة منهم بهلاكهم بقوله تعالى

٢٨

فإذا استويت أنت ومن معك أي من أهلك وأشياعك

على الفلك فقل الحمد للّه الذي نجانا من القوم الظالمين على طريقة قوله تعالى فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد للّه رب العالمين

٢٩

وقل رب أنزلني في السفينة أو منها

منزلا مباركا أي إنزالا أو موضع إنزال يستتبع خيرا كثيرا وقرئ منزلا أي موضع نزول

وأنت خير المنزلين أمر عليه السلام بأن يشفع دعاءه بما يطابقه من ثنائه عز و جل توسلا به إلى الإجابة وإفراده عليه السلام بالأمر مع شركة الكل في الاستواء والنجاة لإظهار فضله عليه السلام والإشعار بأن في دعائه وثنائه مندوحة عما عداه

٣٠

إن في ذلك الذي ذكر مما فعل به عليه السلام وبقومه

لآيات جليلة يستدل بها أولو الأبصار ويعتبر بها ذوو الاعتبار

وإن كنا لمبتلين إن مخففة من أن واللام فارقة بينها وبين النافية وضمير الشأن محذوف أي وإن الشأن كنا مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد و مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويتذكر كقوله تعالى ولقد تركناها آية فهل من مدكر

٣١

ثم أنشأنا من بعدهم أي من بعد إهلاكهم

قرنا آخرين هم عاد حسبما روى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما وعليه أكثر المفسرين وهو الأوفق لما هو المعهود في سائر السور الكريمة من إيراد قصتهم إثر قصة قوم نوح

وقيل هم ثمود

٣٢

فأرسلنا فيهم جعلوا موضعا للإرسال كما في قوله تعالى كذلك أرسلناك في أمة ونحوه لا غاية له كما في مثل قوله تعالى ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه للإيذان من أول الأمر بأن من أرسل إليهم لم يأتهم من غير مكانهم بل إنما نشأ فيما بين أظهرهم كما ينبئ عنه قوله تعالى

رسولا منهم أي من جملتهم نسبا فإنهما عليهما السلام كانا منهم وأن في قوله تعالى

أن اعبدوا اللّه مفسرة لأرسلنا لتضمنه معنى القول أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا اللّه تعالى وقوله تعالى

ما لكم من إله غيره تعليل للعبادة المأمورة بها أو للأمر بها أو لوجوب الامتثال به

افلا تتقون أي عذابه الذي يستدعيه ما أنتم عليه من الشرك والمعاصي والكلام في العطف كالذي مر في قصة نوح عيه السلام

٣٣

وقال الملأ من قومه حكاية لقولهم الباطل إثر حكاية القول الحق الذي ينطق به حكاية إرسال الرسول بطريق العطف على ان المراد حكاية مطلق تكذيبهم له عليه السلام إجمالا لا حكاية ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من المحاورة والمقاولة تفصيلا حتى يحكى بطريق الاستئناف المبني على السؤال كما ينبئ عنه ما سيأتي من حكاية سائر الأمم أي وقال الإشراف من قومه

الذين كفروا في محل الرفع على أنه صفة للملأ وصفوا بذلك ذما لهم وتنبيها على غلوهم في الكفر وتأخيره عن من قومه لعطف قوله تعالى

وكذبوا بلقاء الآخرة وما عطف عليه على الصلة الأولى أي كذبوا بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب أو بمعادهم إلى الحياة الثانية بالبعث

وأترفناهم ونعمناهم

في الحياة الدنيا بكثرة الأموال والأولاد أي قالوا لأعقابهم مضلين لهم

ما هذا إلا بشر مثلكم أي في الصفات والأحوال وإيثار مئلكم على مثلنا للمبالغة في تهوين أمره عليه لاسلام وتوهينه

يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون تقرير للمماثلة وما خبرية والعائد إلى الثاني منصوب محذوف أو مجرور قد حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه

٣٤

ولئن أطعتم بشرا مثلكم أي فيما ذكر من الأحوال والصفات أي إن امتثلتم بأوأمر

إنكم إذا أي على تقدير الاتباع

لخاسرون عقولكم ومغبونون في آرائكم حيث أذللتم أنفسكم انظر كيف جعلوا اتباع الرسول الحق الذي يوصلهم إلى سعادة الدارين خسرانا دون عبادة الأصنام التي لا خسران وراءها قاتلهم اللّه أنى يؤفكون وإذا وقع بين اسم إن وخبرها لتأكيد مضمون الشرط والجملة جواب لقسم محذوف قبل إن الشرطية المصدرة باللام الموطئة أي وباللّه لئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون

٣٥

أيعدكم استئناف مسوق لتقرير ما قبله من زجرهم عن اتباعه عليه السلام بإنكار وقوع ما يدعوهم إلى الإيمان به واستبعاده

أنكم إذا متم بكسر الميم من مات يموت وقرئ بضمها من مات

 يموت

وكنتم ترابا وعظاما نخرة مجردة عن اللحوم والأعصاب أي كان بعض أجزائكم من اللحم ونظائره ترابا وبعضها عظاما وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابه من الأجزاء البادية أو كان متقدموكم ترابا صرفا ومتأخروكم عظاما وقوله تعالى

أنكم تأكيد للأول لطول الفصل بينه وبين خبره الذي هو قوله تعالى

مخرجون أي من القبور أحياء كما كنتم

وقيل أنكم مخرجون مبتدأ وإذا متم خبره على معنى إخراجكم إذا متم ثم أخبر بالجملة عن أنكم

وقيل رفع أنكم مخرجون بفعل هوجزاء الشرط كأنه قيل إذا متم وقع إخراجكم ثم أوقعت الجملة الشرطية خبرا عن أنكم والذي تقتضيه جزالة النظم الكريم هو الأول وقرئ أيعدكم إذا متم الخ

٣٦

هيهات هيهات تكرير لتأكيد البعد أي بعد الوقوع أو الصحة لما توعدون

وقيل اللام لبيان المستبعد ما هو كما في هيت لك كأنهم لما صوتوا بكلمة الاستبعاد قيل لماذا هذا الاستبعاد فقيل

لما توعدون وقيل هيهات بمعنى البعد وهو مبتدأ خبره لما توعدون وقرئ بالفتح منونا للتنكير وبالضم منونا على أنه جمع هيهة وغير منون تشبها بقبل وبالكسر على الوجهين وبالسكون على لفظ الوقف وإبدال التاء هاء

٣٧

إن هي إلا حياتنا الدنيا أصله إن الحياة إلا حياتنا فأقيم الضمير مقام الأولى لدى الثانية عليها حذرا من التكرار وإسعارا بإغنائها عن التصريح كما في هي النفس تتحمل ما حملت وهي العرب تقول ما شاءت وحيث كان الضمير بمعنى الحياة الدالة على الجنس كانت إن النافية بمنزلة لا النافية للجنس وقوله تعالى

نموت ونحيا جملة مفسرة لما ادعوه من أن الحياة هي الحياة الدنيا أي يموت بعضنا ويولد بعض إلى انقراض العصر

وما نحن بمبعوثين بعد الموت

٣٨

إن هو أي ما هو إلا رجل افترى على اللّه كذبا فيما يدعيه من إرساله وفيما يعدنا من أن اللّه يبعثنا

وما نحن له بمؤمنين بمصدقين فيما يقوله

٤٠

قال أي هود عليه السلام عند يأسه من إيمانهم بعد ما سلك في دعوتهم كل مسلك متضرعا إلى اللّه عز و جل

رب انصرني عليهم وانتقم لي منهم

بما كذبون أي بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه

٤٠

قال تعالى إجابة لدعائه وعدة بالقبول

عما قليل أي عن زمان قليل وما مزيدة بين الجار والمجرور لتأكيد معنى القلة كما زيدت في قوله تعالى فبما رحمة من اللّه أو نكرة موصوفة أي عن شيء قليل

ليصبحن نادمين على ما فعلوه من التكذيب وذلك عند معاينتهم للعذاب

٤١

فأخذتهم الصيحة لعلهم حين أصابتهم

الريح العقيم أصيبوا في تضاعيفها بصيحة هائلة أيضا وقد روى أن شداد بن عاد حين أتم بناء إرم سار إليها بأهله فلما دنا منها بعث اللّه عليهم صيحة من السماء فهلكوا

وقيل الصيحة نفس العذاب والموت

وقيل هي العذاب المصطلم قال قائلهم

... صاح الزمان بآل برمك صيحة ... خروا لشدتها على الأذقان ...

بالحق متعلق بالأخذ أي بالأمر الثابت الذي لا دفاع له أو بالعدل من اللّه تعالى أو بالوعد الصدق

فجعلناهم غثاء أي كغثاء السيل وهو حميله

فبعدا للقوم الظالمين إخبار أو دعاء وبعدا من المصادر التي لا يكاد يستعمل ناصبها والمعنى بعدوا بعدا أي هلكوا واللام لبيان من قيل له بعدا ووضع الظاهر موضع الضمير للتعليل

٤٢

ثم أنشأنا من بعدهم أي بعد هلاكهم

قرونا آخرين هم قوم صالح ولوط وشعيب عليهم السلام وغيرهم

٤٣

ما تسبق من أمة أجلها أي ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة الوقت الذي عين لهلاكهم أي ما تهلك أمة قبل مجئ أجلها

وما يستأخرون ذلك الأجل بساعة وقوله تعالى

٤٤

ثم أرسلنا رسلنا عطف على أنشأنا لكن لا على معنى أن إرسالهم متراخ عن إنشاء القرون المذكورة جميعا بل على معنى أن أرسال كل رسول متأخر عن إنشاء قرن مخصوص بذلك الرسول كأنه قيل ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولا خاصا به والفصل بين المعطوفين بالجملة المعترضة الناطقة بعدم تقدم الأمم أجلها المضروب لهلاكهم للمسارعة إلى بيان هلاكهم على وجه إجمالي تترى أي متواترين واحدا بعد واحد من الوتر وهو الفرد والتاء بدل من الواو كما في تولج ويتقوا والألف للتأنيث باعتبار أن الرسل جماعة وقرئ بالتوين على أنه مصدر بمعنى الفاعل وقع حالا وقوله تعالى كلما جاء أمة رسولها كذبوه استئناف مبين لمجيء كل رسول لأمته ولما صدر عنهم عند تبليغ الرسالة والمراد بالمجيء إما التبليغ

وأما حقيقة المجيء للإيذان بأنهم كذبوه في أو الملاقاة وإضافة الرسول إلى الأمة مع إضافة كلهم فيما سبق إلى نون العظمة لتحقيق أن كل رسول جاء أمته الخاصة به لا أن كلهم جاءوا كل الأمم والإشعار بكمال شناعتهم وضلالهم حيث كذبت كل واحدة منهم رسولها المعين لها

وقيل لان الإرسال لائق بالمرسل والمجيء بالمرسل إليهم

فأتبعنا بعضهم بعضا في الهلاك حسبما تبع بعضهم بعضا في مباشرة أسبابه التي هي الكفر والتكذيب وسائر المعاصي

وجعلناهم أحاديث لم يبق منهم إلا حكايات يعتبر بها المعتبرون وهو اسم جمع للحديث أو جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به تلهيا كأعاجيب جمع أعجوبة وهي ما يتعجب منه أي جعلناهم أحاديث يتحدث بها تلهيا وتعجبا

فبعدا لقوم لا يؤمنون اقتصر ههنا على وصفهم بعدم الإيمان حسبما

اقتصر على حكاية تكذيبهم إجمالا

وأما القرون الأولون فحيث نقل عنهم ما مر من الغلو وتجاوز الحد في الكفر والعدوان وصفوا بالظلم

٤٥

ثم أرسلنا موسى وأخاه هرون بآياتنا هي الآيات التسع من اليد والعصا والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص الثمرات والطاعون ولا مساغ لعد فلق البحر منهاإذ المراد هي الآيات التي كذبوها واستكبروا عنها

وسلطان مبين أي حجة واضحة ملزمة للخصم وهي إما العصا وإفرادها بالذكر مع اندراجها في الآيات لما أنها أم آياته عليه الصلاة و السلام وأولاها وقد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها ثعبانا وتلقفها لما أفكته السحرة حسبما فصل في تفسير سورة طه

وأما التعرض لانقلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربها وحراستها وصيرورتها شمة وشجرة خضراء مثمرة ودلوا ورشاء وغير ذلك مما ظهر منها من قبل ومن بعد في غير مشهد فرعون وقومه فغير ملائم لمتقضى المقام

وأما نفس الآيات كقوله إلى الملك القرم وبان الهمام الخ عبر عنها بذلك على طريقة العطف تنبيها على جمعها لعنوانين جليلين وتنزيلا لتغايرهما منزلة التغاير الذاتي

٤٦

إلى فرعون وملئه أي أشراف قومه خصوا بالذكر لأن إرسال بني إسرائيل منوط بآرائهم لا بآراء أعقابهم فاستكبروا عن الانقياد وتمردوا

وكانوا قوما عالين متكبرين متمردين

٤٧

فقالوا عطف على استكبروا وما بينهما اعتراض مقرر للاستكبار أي كانوا قوما عادتهم الاستكبار والتمرد أي قالوا فيما بينهم بطريق المناصحة

أنؤمن لبشرين مثلنا ثنى البشر لأنه يطلق على الواحد كقوله تعالى بشرا سويا كما يطلق على الجمع كما في قوله تعالى فإما ترين من البشر أحدا ولم يثن المثل نظرا إلى كونه في حكم المصدر وهذه القصص كما نرى تدل على أن مدار شبه المنكرين للنبوة قياس حال الأنبياء على أحوالهم بناء على جهلهم بتفاصيل شؤون الحقيقة البشرية وتباين طبقات أفرادها في مراقى الكمال ومهاوي النقصان بحيث يكون بعضها في أعلى عليين وهم المختصون بالنفوس الزكية المؤيدون بالقوة القدسية المتعلقون لصفاء جواهرهم بكلا العالمين الروحاني والجسماني يتلقون من جانب ويلقون إلى جانب ولا يعوقهم التلق بمصالح الخلق عن التبتل إلى جناب الحق وبعضها في اسفل سافلين كأولئك الجهلة الذين هم كالأنعام بل هم أصل سبيلا وقومهما يعنون بني إسرائيل

لنا عابدون أي خادمون منقادون لنا كالعبيد وكأنهم قصدوا بذلك التعريض بشأنهما عليهما الصلاة والسلام وخطر تبتهما العلية عن منصب الرسالة من وجه آخر غير البشرية واللام في لنا متعلقة بعابدون قدمت عليه رعاية للفواصل والجملة حال من فاعل نؤمن مؤكدة لإنكار الإيمان لهما بناء على زعمهم الفاسد المؤسس على قياس الرياسة الدينية على الرياسات الدنيوية الدائرة على التقدم في نيل الحظوظ الدنية من المال والجاه كدأب قريش حيث قالوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وجهلهم بأن مناط الاصطفاء للرسالة هو السبق في حيازة ما ذكر من النعوت العلية وإحراز الملكات السنية جبلة واكتسابا

٤٨

فكذبوهما أي فتموا على تكذيبهما وأصروا واستكبروا استكباراص

فكانوا من المهلكين بالغرق في بحر قلزم

٤٩

ولقد آتينا أي بعد إهلاكهم وإنجاء بني إسرائيل من ملكتهم

موسى الكتاب أي التوراة وحيث كان إيتاؤه عليه الصلاة و السلام إياها لإرشاد قومه إلى الحق كما هو شأن الكتب الإلهية جعلوا كأنهم أوتوها فقيل

لعلهم يهتدون أي إلى طريق الحق بالعمل بما فيها من الشرائع والأحكام

وقيل أريد آتينا قوم موسى فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كما في قوله تعالى على خوف من فرعون وملئهم أي من آل فرعون وملئهم ولا سبيل إلى عود الضمير إلى فرعون وقومه لظهور أن التوراة إنما نزلت بعد إغراقهم لبني إسرائيل

وأما الاستشهاد على ذلك بقوله تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى فمما لا سبيل إليه ضرورة أن ليس المراد بالقرون الأولى ما يتناول قوم فرعون بل من قبلهم من الأمم المهلكة خاصة كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط كما سيأتي في سورة القصص

٥٠

وجعلنا ابن مريم وأمه آية وأية آية دالة على عظيم قدرتنا بولادته منها من غير مسيس بشرف الآية أمر واحد نسب إليهما أو جعلنا ابن مريم آية بأن تكلم في المهد فظهرت منه معجزات جمة وأمه آية بأنها ولدته من غير مسيس فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها والتبعير عنهما بما ذكر من العنوانين وهما كونه عليه الصلاة و السلام ابنها وكونها أمه عليه الصلاة و السلام للإيذان من أول الأمر بحيثية كونهما آية فإن نسبته عليه الصلاة و السلام إليها مع أن النسب إلى الآباء دالة على أن لا أب له أي جعلنا ابن مريم وحدها من غير أن يكون له أب وأمه التي ولدته خاصة من غير مشاركة الأب آية وتقديمه عليه الصلاة و السلام لأصالته فيما ذكر من كونه آية كما أن تقديم أمه في قوله تعالى وجعلناها وابنها آية للعالمين لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ

وآويناهما إلى ربوة أي أرض مرتفعة قيل هي أيليا أرض بيت المقدس فإنها مرتفعة وأنها كبد الأرض وأقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا على ما يروى عن كعب

وقيل دمشق وغوطتها

وقيل فلسطين والرملة

وقيل مصر فإن قراها على الربا وقرئ بكسر الراء وضمها ورباوة بالكسر والضم

ذات قرار مستقر من أرض منبسطة سهلة يستقر عليها ساكنوها وقيل ذات ثمار وزروع لأجلها يستقر فيها ساكنوها

ومعين أي وماء معين ظاهر جار فعيل من معن الماء إذا جرى وأصله الإبعاد في المشي أو من الماعون وهو النفع لأنه نفاع أومفعول من عانه إذا أدركه بالعين فإنه لظهوره يدرك بالعيون وصف ماؤها بذلك للإيذان بكونه جامعا لفنون المنافع من الشرب وسقى ما يسقى من الحيوان والنبات بغير كلفة والتنزه بمنظره الموفق

٥١

يأيها الرسل كلوا من الطيبات حكاية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على وجه الإجمال لما خوطب به كل رسول في عصره جيء بها إثر حكاية إيواء عيسى عليه السلام وأمه إلى الربوة إيذانا بأن ترتيب مبادئ التنعم لم يكن من خصائصه عليه السلام بل إباحة الطيبات شرع قديم جرى عليه جميع الرسل عليهم السلام ووصوا به أي وقلنا لكل رسول كل من الطيبات

واعمل صالحا فعبر عن تلك الأوأمر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع عند الحكاية إجمالا للإيجاز وفيه من الدلالة على بطلان ما عليه الرهابنة من رفض الطيبات ما لا يخفى

وقيل حكاية لما ذكر لعيسى عليه السلام وأمه عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا

وقيل نداء وخطاب له والجمع للتعظيم وعن الحسن ومجاهد وقتادة والسدى والكبي رحمهم اللّه تعالى أنه خطاب لرسول اللّه صلى للّه عليه وسلم وحده على دأب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجمع وفيه إبانة لفضله وقيامه مقام الكل في حيازة كما لا تهتم والطيبات ما يستطاب ويستلذ من مباحات المأكل والفواكه حسبما ينبئ عنه سياق النظم الكريم فالأمر للترفيه واعملوا صالحا أي عملا صالحا فإنه المقصود منكم والنافع عند ربكم

إني بما تعملون من الأعمال الظاهرة والباطنة

عليم أجازيكم عليه

٥٢

وإن هذه استئناف داخل فيما خوطب به الرسل عليهم السلام على الوجه المذكور مسوق لبيان أن ملة الإسلام والتوحيد مما أمر به كافة الرسل عليهم السلام والأمم وإنما أشير إليها بهذه للتنبيه على كمال ظهور أمرها في الصحة والسداد وانتظامها بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة

أمتكم أي ملتكم وشريعتكم أيها الرسل

أمة واحدة أي ملة وشريعة متحدة في أصول الشرائع التي لا تتبدل بتبدل الأعصار

وقيل هذه إشارة إلى الأمم المؤمنة للرسل والمعنى إن هذه جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإيمان والتوحيد في العبادة

وأنا ربكم من غير أن يكون لي شريك في الربوبية وضمير المخاطب فيه وفي قوله تعالى

فاتقون أي في شق العصا والمخالفة بالإخلال بمواجب ما ذكر من اختصاص الربوبية بي للرسل والأمم جميعا على أن الأمر في حق الرسل للتهييج و الإلهاب و في حق الأمم للتحذير و الإيجاب و الفاء لترتيب الأمر أو وجوب الامتثال به على ما قبله من اختصاص الربوبية به تعالى واتحاد الأمة فإن كلا منهما موجب للاتقاء حتما وقرئ وأن هذه بفتح الهمزة على حذف اللام أي ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون أي إن تتقون فاتقون كما مر في قوله تعالى وإياي فارهبون

وقيل على العطف على ما أي إني عليم بأن أمتكم أمة الخ

وقيل على حذف فعل عامل فيه أي واعلموا أن هذه أمتكم الخ وقرئ وإن هذه على أنها مخففة من إن

٥٣

فتقطعوا أمرهم حكاية لما ظهر من أمم الرسل بعدهم من مخالفة الأمر وشق العصا والضمير لما دل عليه الأمة من أربابها أولها على التفسير بن والفاء لترتيب عصيانهم على الأمر لزيادة تقبيح حالهم أي تقطعوا أمر دينهم مع اتحاده وجعلوه قطعا متفرقة وأديانا مختلفة

بينهم زبرا أي قطعا جمع زبور بمعنى الفرقة ويؤديه قراءة زبرا بفتح الباء جمع زبرة وهو حال من أمرهم أو من واو تقطعوا أو مفعول ثان له فإنه متضمن لمعنى جعلوا وقبل كتبا فيكون مفعولا ثانيا أو حالا من أمرهم على تقدير المضاف أي مثل زبر وقرئ بتخفيف الباء كرسل في رسل

كل حزب من أولئك المتحزبين

بما لديهم من الدين الذي اختاروه

فرحون معجبون معتقدون أنه الحق

٥٤

فذرهم في غمرتهم شبه ما هم فيه من الجهالة بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها لاعبون بها وقرئ غمراتهم والخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم والفاء لترتيب الأمر بالترك على ما قبله من كونهم فرحين بما لديهم فإن انهماكهم فيما هم فيه وإصرارهم عليه من مخايل كونهم مطبوعا على قلوبهم أي اتركهم على حالهم

حتى حين هو حين قتلهم أو موتهم على الكفر أو عذابهم فهو وعيد لم بعذاب الدنيا والآخرة وتسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم ونهى له عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره وفي التنكير والإبهام ما لا يخفى من التهويل

٥٥

أيحسبون أنما نمدهم به أي نعطيهم إياه ونجعله مددا لهم فما موصولة وقوله تعالى

من مال وبنين بيان لها وتقديم المال على البنين مع كونهم أعز منه قد مر وجهه في سورة الكهف لا خبر لأن وإنما الخبر قوله تعالى

٥٦

نسارع لهم في الخيرات على حذف الراجع إلى الاسم أي أيحسبون أن الذي نمدهم به من المال والبنين نسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم على أن الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه وقوله تعالى

بل لا يشعرون عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي كلا لا نفعل ذلك بل هم لا يشعرون بشيء أصلا كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور ليتأملوا ويعرفوا أن ذلك الإمداد استدراج لهم واستجرار إلى زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات وقرئ بمدهم على الغيبة وكذلك يسارع ويسرع ويحتمل أن يكون فيهما ضمير الممد به وقرئ يسارع مبنيا للمفعول

٥٧

إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون استئناف مسوق لبيان من له المسارعة في الخيرات إثر إقناط الكفار عنها وإبطال حسبانهم الكاذب أي من خوف عذابه حذرون

٥٨

والذين هم بآيات ربهم المنصوبة والمنزلة

يؤمنون بتصديق مدلولها

٥٩

والذين هم بربهم لا يشركون شركا جليا ولا خفيا ولذلك أخر عن الإيمان بالآيات والتعرض لعنوان الربوبية في المواقع الثلاثة للإشعار بعليتها للإشفاق والإيمان وعدم الإشراك

٦٠

والذين يؤتون ما آتوا أي يعطون ما أعطوه من الصدقات وقرئ يأتون ما أتوا أي يفعلون ما فعلوه من الطاعات وايا ما كان فصيغة الماضي في الصلة الثانية الدلالة على التحقق كما أن صيغة المضارع في الأولى للدلالة عن الاستمرار

وقلوبهم وجلة حال من فاعل يؤتون أو يأتون أي يؤتون ما آتوه أو يفعلون من العبادات ما فعلوه والحال أن قلوبهم خائفة أشد الخوف

أنهم إلى ربهم راجعون أي من أن رجوعهم إليه عز و جل على أن مناط الوجل أن لا يقبل منهم ذلك وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به حينئذ لا مجرد رجوعهم إليه تعالى

وقيل لأن مرجعهم إليه تعالى والموصولات الاربعة عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر في حين صلاتها من الأوصاف الأربعة لا عن طوائف كل واحدة منها متصفة بما ذكر في حيز صلاتها من الأوصاف الأربعة لا عن طوائف كل واحدة منها متصفة كأنه قيل إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون وبآيات ربهم يؤمنون الخ وإنما كرر الموصول إيذانا باستقلال كل واحدة من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حيالها وتنزيلا لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها

٦١

أولئك إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بها وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد رتبتهم في الفضل أي أولئك المنعوون بما فصل من النعوت الجليلة خاصة دون غيرهم

يسارعون في الخيرات أي في نيل الخيرات التي من جملها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة كما في قوله تعالى فآتاهم اللّه ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وقوله تعالى وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين فقد أثبت لهم ما نفى عن أضدادهم خلا أنه غير الأسلوب حيث لم يقل أولئك نسارع لهم في الخيرات بل أسند المسارعة إليهم إيمان لي كمال استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم وإيثار كلمة في على كلمة إلى للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات لاأنهم خارجون عنها متوجهون إليها بطريق المسارعة في قوله تعالى كما وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة الآية

وهم لها سابقون أي إياها سابقون واللام لتقوية العمل كما في قوله تعالى هم لها عاملون أي ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا

وقيل المراد بالخيرات الطاعات والمعنى يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة وهم لأجلها سابقون فاعلون السبق أو لأجلها الناس والأول هو الأولى

٦٢

ولا نكلف نفسا إلا وسعها جملة مستأنفة سيقت للتحريض على ما وصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الخيرات ببيان سهولته وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاقة أي عادتنا جارية على أن لا نكلف نفسا من ا لنفوس إلا ما في وسعها على أن المراد استمرار النفي بمعونة المقام لا نفي الاستمرار كما مر مرارا أو للترخيص فيما هو قاصر عن درجة أعمال أولئك الصالحين ببيان انه تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم وبستفرغوا وسعهم قال مقاتل من لم يستطع القيام فليصل قاعدا ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء وقوله تعالى

ولدينا كتاب الخ تتمة لما قبله ببيان أحوال ما كلفوه من الأعمال وأحكامها المترتبة عليها من الحساب والثواب والعقاب والمراد بالكتاب صحائف الأعمال التي يقرءونها عند الحساب حسبما يعرب عنه قوله تعالى

ينطق بالحق كقوله تعالى هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون أي عندنا كتاب قد أثبت فيه أعمال كل أحد على ما هي عليه أو أعمال السابقين والمقتصدين جميعا لا أنه أثبت فيه أعمال الأولين وأهمل أعمال الآخرين ففيه قطع معذرتهم أيضا وقوله بالحق متعلق بينطق أي يظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه ذاتا ووصفا ويبينه للناظر كما يبينه النطق ويظهره للسامع فيظهر هنالك جلائل أعمالهم ودقائقها ويرتب عليها أجزيتها إن خيرا فخير وإن شرا فشر وقوله تعالى

وهم لا يظلمون بيان لفضله تعالى وعد له في الجزاء إثر بيان لطفه في التكليف وكتب الأعمال أي لا يظلمون في الجزاء بنقص ثواب أ بزيادة عذاب بل يجزون بقدر أعمالهم التي كلفوها ونطقت بها صحائفها بالحق وقد جوز أن يكون تقريرا لما قبله من التكليف وكتب الأعمال أي لا يظلمون بتكليف ما ليس في وسعهم ولا بعدم كتب بعض أعمالهم التي من جملتها أعمال المقتصدين بناء على قصورها عن درجة أعمال السابقين بل يكتب كل منها على مقاديرها وطبقاتها والتعبير عما ذكر من الأمور بالظلم مع أن شيئا منها ليس بظلم على ما تقرر من أن الأعمال الصالحة لا توجب أصل الثواب فضلا عن إيجاب مرتبة معينة منه حتى تعد الإنابة بما دونها نقصا وكذلك الأعمال السيئة لا توجب درجة معينة من العذاب حتى يعد التعذيب بما فوقها زيادة وكذا تكليف ما في الوسع وكتب الأعمال ليسا مما يجب عليه سبحانه حتى يعد تركهما ظلما لكمال تنزيه ساحة السبحان عنها بتصويرها بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى وتسميتها باسمه وقوله تعالى

٦٣

بل قلوبهم في غمرة من هذا إضراب عما قبله والضمير للكفرة لا للكل كما قبله أي بل قلوب الكفرة في غفلة غامرة لها من هذا الذي بين في القرآن من أن لديه تعالى كتابا ينطق بالحلق ويظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد فيجزون بها كما ينبيء عنه ما سيأتي من قوله تعالى قد كانت آياتي تتلى عليكم الخ

وقيل مما عليه أولئك الموصوفون بالأعمال الصالحة

ولهم أعمال سيئة كثيرة

من دون ذلك  الذي ذكر من كون قلوبهم في غفلة عظيمة مما ذكر وهي فنون كفرهم ومعاصيهم التي من جملتها ما سيأتي من طعنهم في القرآن حسبما ينبئ عنه قوله تعالى مستكبرين به سامرا تهجرون

وقيل متخطية لما وصف به المؤمنون من الأعمال الصالحة المذكورة وفيه أنه لا مزية في وصف أعمالهم الخبيثة بالتخطي للأعمال الحسنة للمؤمنين

وقيل متخطية عماهم عليه من الشرك ولا يخفى بعده لعدم جريان ذكره

هم لها عاملون مستمرون عليها معتادون فعلها ضارون بها لا يكادون يبرحونها

٦٤

حتى إذا أخذنا مترفيهم أي متنعميهم وهم الذين أمدهم اللّه تعالى بما ذكر من المال والبنين وحتى مع كونها غاية لأعمالهم المذكورة مبدأ لما بعدها من مضمون الشرطية أي لا يزالون يعملون أعمالهم إلى حيث إذا أخذنا رؤساءهم بالعذاب قيل هو القتل والأسر يوم بدر

وقيل هو الجوع الذي أصابهم حين دعا عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بقوله اللّهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف فقحطوا حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحرقة والأولاد والحق أنه العذاب الأخروى إذ هو الذي يفاجئون عنده الجؤار فيجابون بالرد والإقناط عن النصر

وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار حسبما ينبئ عنه قوله تعالى ولقد أخذناهم

بالعذات فما استكانوا لربهم وما يتضرعون فإن المراد بهذا العذاب ما جرى عليهم يوم بدر من القتل والأسر حتما

وأما عذاب الجوع فإن أبا سفيان وإن تضرع فيه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لكن لم يرد عليه بالإقناط حيث روى أنه صلى اللّه عليه و سلم قد دعا بكشفه فكشف عنهم ذلك

إذا هم يجأرون أي فاجئوا الصراخ بالاستغاثة من اللّه عز و جل كقوله تعالى فإليه تجأرون وهو جواب الشرط وتخصيص مترفيهم بما ذكر من الأخذ بالعذاب ومفاجأة الجؤار مع عمومه لغيرهم أيضا لغاية ظهور انعكاس حالهم وانتكاس أمرهم وكون ذلك أشق عليهم ولأنهم مع كونهم متمنعين محميين بحماية غيرهم من المنعة والحشم حين لقوا ما لقوا من الحالة الفظيعة فأن يلقاها من عداهم من الحماة والخدم أولى وأقدم

  ٦٥

لا تجأروا اليوم على إضمار القول مسوقا لردهم وتبكيتهم وإقناطهم مما علقوا به أطماعهم الفارغة من الإغاثة والإعانة من جهته تعالى وتخصيص اليوم بالذكر لتهويله والإيذان بتفويتهم وقت الجؤار وقد جوز كونه جواب الشرط وأنت خبير بأن المقصود الأصلي في الجملة الشرطية هو الجواب فيؤدي ذلك إلى أن يكون مفاجأتهم إلى الجؤار غير مقصود أصلي وقوله تعالى

إنكم منا لا تنصرون تعليل للنهي عن الجؤار ببيان عدم إفادته ونفعه أي لا يلحقكم من جهتنا نصرة تنجيكم مما دهمكم

وقيل لا تغاثون ولا تمنعون منا ولا يساعده سباق النظم الكريم لأن جؤارهم ليس إلى غيره تعالى حتى يرد عليهم بعدم منصور يتهم من قبله ولا سياقه فإن قوله تعالى

٦٦

قد كانت آياتي تتلى عليكم الخ صريح في أنه تعليل لما ذكرنا من عدم لحوق النصر من جهته تعالى بسبب كفرهم بالآيات ولو كان النصر المنفي متوهما من الغير لعلل بعجزه وذله أو بعزة اللّه تعالى وقوته أي قد كانت آياتي تتلى عليكم في الدنيا

فكنتم على أعقابكم تنكصون أي تعرضون عن سماعها أشد الإعراض فضلا عن تصديقها والعمل بها والنكوص الرجوع قهقري

٦٨

مستكبرين به أي بالبيت الحرام أو بالحرم والإضمار قيل الذكر لاشتهار استكبارهم وافتخارهم بانهم خدامه وقوأمه أو بكتابي الذي عبر عنه بآياتي على تضمين الاستكبار معنى التكذيب أو لأن استكبارهم على المسلمين قد حدث بسبب استماعه ويجوز أن تتعلق الباء بقوله تعالى

سامرا أي تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه حيث كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا والسامر كالحاضر في الإطلاق على الجمع

وقيل هو مصدر جاء على لفظ الفاعل وقرئ سمرا وسمارا وأن تتعلق بقوله تعالى

تهجرون من الهجر بالفتح بمعنى الهذيان أو الترك أي تهذون في شأن القرآن أو تتركونه أو من الهجر بالضم وهو الفحش ويؤيده قراءة تهجرون من أهجر في منطقه إذا فحش فيه وقرئ تهجرون من هجر الذي هو مبالغة في هجر إذا هذى

٦٨

أفلم يدبروا القول الهمزة لإنكار الواقع واسقباحه والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي أفعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار والهجر فلم يتدبروا القرآن ليعرفوا بما فيه من إعجاز النظم وصحة المدلول والإخبار عن الغيب أنه الحق من ربهم فيؤمنوا به فضلا عما فعلوا في شأنه من القبائح وأم في قوله تعالى

أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين منقطعة وما فيها من معنى بل للإضراب ولاانتقال عن التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بآخر والهمزة لإنكار الوقوع لا لإنكار الواقع أي بل أجاءهم من الكتاب ما لم يأت أباءهم الأولين حى استبدعوه واستبعدوه فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال يعني أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل عليهم السلام سنة قديمة له تعالى لا يكاد يتسنى إنكاره وأن مجيء القرآن على طريقته فمن أين ينكرونه

وقيل أم جاءهم من الأمن من عذابه تعالى ما لم يأت آباءهم الأولين كإسماعيل عليه السلام وأعقابه من عدنان وقحطان ومضر وربيعة وقس والحرث بن كعب وأسد بن خزيمة وتميم بن مرة وتبع وضبة بن أد فآمنوا به تعالى وبكتبه ورسله وأطاعوه

٦٩

أم لم يعرفوا رسولهم إضراب وانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بوجه آخر والهمزة لإنكار الوقوع أيضا أي بل ألم يعرفوه صلى اللّه عليه و سلم بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق وكمال العلم مع عدم التعلم من أحد وغير ذلك مما حازه من الكمالات اللائقة بالانبياء عليهم السلام

فهم له منكرون أي جاحدون بنبوته فجحودهم بها مترتب على عدم معرفقتهم بشأنه عليه السلام ومن ضرورة انتفاء المبنى بطلان ما بنى عليه أي فهم غير عارفين له عليه السلام فهو تأكيد لما قبله

٧٠

أم يقولون به جنة انتقال إلى توبيخ آخر والهمزة لإنكار الواقع كالأولى أي بل أيقولون به جنة أي جنون مع أنه أرجح الناس عقلا وأثقبهم ذهنا وأتقنهم رأيا وأوفرهم رزانة ولقد روعي في هذه التوبيخات الأربعة التي اثنان منها متعلقان بالقرآن والباقيان به صلى اللّه عليه و سلم الترقي من الأدنى إلى الأعلى حيث وبخوا أو لا بعدم التدبر وذلك يتحقق مع كون القول غير متعرض له بوجه من الوجوه ثم وبخوا بشيء لو اتصف به القول لكان سببا لعدم تصديقهم به ثم وبخوا بما يتعلق بالرسول صلى اللّه عليه و سلم من عدم معرفتهم به صلى اللّه عليه و سلم و ذلك يتحقق بعدم المعرفة بخير ولا شرثم بما لو كان فيه صلى اللّه عليه و سلم ذلك لقدح في رسالته صلى اللّه عليه و سلم ما سبق أي ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول صلى اللّه عليه و سلم

بل جاءهم صلى اللّه عليه وسلم

بالحق أي الصدق الثابت الذي لا محيد عنه أصلا ولا مدخل فيه للباطل بوجه من الوجوه

وأكثرهم للحق من حيث هو حق أي حق كان لا لهذا الحق فقط كما ينبيء عنه الإظهار في موقع الإضمار

كارهون لما في جبلتهم من الزيغ والانحراف المناسب للباطل ولذلك كرهوا هذا الحق الأبلج وزاغوا عن الطريق الأنهج وتخصيص أكثرهم بهذا الوصف لا يقتضي إلا عدم كراهة الباقين لكل حق من الحقوق وذلك لا ينافي كراهتهم لهذا الحق المبين فنأمل

وقيل تقييد الحكم بالأكثر لأن منهم من ترك الإيمان استنكافا من توبيخ قومه أو لقلة فطنته وعدم تفكره لا لكراهته الحق وأنت خبير بأن التعرض لعدم كراهة بعضهم للحق مع اتفاق الكل على الكفر به مما لا يساعده المقام أصلا

٧١

ولو اتبع الحق أهواءهم استئناف مسوق لبيان أن أهواءهم الزائغة التي ما كرهوا الحق إلا لعدم موافقته إياها مقتضية للطامة أي لو كان ما كرهوه من الحق الذي من جملته ما جاء به صلى اللّه عليه و سلم موافقا لأهوائهم الباطلة

لفسدت السموات والأرض ومن فيهن وخرجت عن الصلاح والانتظام بالكلية لأن مناط النظام ليس إلا ذلك وفيه من تنويه شأن الحق والتنبيه على سمو مكانه ما لا يخفى

وأما ما قيل لو أتبع الحق الذي جاء به صلى اللّه عليه و سلم أهواءهم وانقلب شركا لجاء اللّه تعالى بالقيامة ولاهلك العالم ولم يؤخر ففيه أنه لا يلائم فرض مجيئه صلى اللّه عليه و سلم به وكذا ما قيل لو كان في الواقع إلهان لا يناسب المقام وأما ما قيل لو أتبع الحق أهواءهم لخرج عن الإلهية فمالا احتمال له أصلا بل آتياهم بذكرهم انتقال من تشنيعهم بكراهة الحق الذي به يقوم العالم إلى تشنيعهم بالإعراض عما جبل عليه كل نفس من الرغبة فيما فيه خيرها والمراد بالذكر القرآن الذي هو فخرهم وشرفهم حسبما ينطق به قوله تعالى وإنه لذكر لك ولقومك أي بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال فهم بما فعلوه من النكوص

عن ذكرهم أي فخرهم وشرفهم خاصة

معرضون لا عن غير ذلك مما لا يوجب الإقبال عليه والاعتناء به وفي وضع للظاهر موضع الضمير مزيد تشنيع لهم وتقريع والفاء لترتيب ما بعدها من إعراضهم عن ذكرهم

 على ما قبلها من إيتاء ذكرهم لا لترتيب الإعراض على الإيتاء مطلقا فإن المستتبع لكون إعراضهم إعراضا عن ذكرهم هو إيتاء ذكرهم لا الإتياء مطلقا وفي إسناد الإتيان بالذكر إلى نور العظمة بعد إسناده إلى ضميره صلى اللّه عليه و سلم تنويه لشأن النبي صلى اللّه عليه و سلم وتنبيه على كونه بمثابة عظيمة منه عز و جل وفي إيراد القرآن الكريم عند نسبته إليه صلى اللّه عليه و سلم بعنوان الحقية وعند نسبته إليه تعالى بعنوان الذكر من لانكتة السرية والحكمة العبقرية ما لا يخفى فإن التصريح بحقيته المستلزمة لحقية من جاء به هو الذي يقتضيه مقام حكاية ما قاله المبطلون في شأنه

وأما التشريف فإنما يليق به تعالى لا سيما رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أحد المشرفين

وقيل المراد بالذكر ما تمنوه بقولهم لو أن عندنا ذكرا من الأولين

وقيل وعظهم وايد ذلك أنه قرئ بذكراهم والتشنيع على الأولين أشد فإن الإعراض عن وعظهم ليس في مثابة إعراضهم عن شرفهم أو عن ذكرهم الذي يتمنونه في الشناعة والقباحة

٧٢

أم تسألهم انتقال من توبيخهم بما ذكر من قوله أم يقولون به جنة إلى التوبيخ بوجه آخر كأنه قيل أم يزعمون أنك تسألهم على أداء الرسالة

خرجا أي جعلا فلأجل ذلك لا يؤمنون بك وقوله تعالى

فخراج ربك خير أي رزقه في الدنيا وثوابه في الآخرة تعليل لنفي السؤال المستفاد من الإنكار أي لا تسألهم ذلك فإن ما رزقك اللّه تعالى في الدنيا والعقبى خير لك من ذلك وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى اللّه عليه و سلم من تعليل الحكم وتشريفه صلى اللّه عليه و سلم ما لا يخفى والخرج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك والخراج غالب في الضريبة على الأرض

وقيل الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك

وقيل الخرج أخص من الخراج ففي النظم الكريم إشعار بالكثرة واللزوم وقرئ خرجا فخرج وخراجا فخراج

وهو خير الرازقين تقرير لخيرية خراجه تعالى

٧٣

وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم تشهد العقول السليمة باستقامته ليس فيه شائبة اعوجاج توهم اتهامهم لك بوجه من الوجوه ولقد ألزمهم اللّه عز وعلا وأزاح عللّهم في هذه الآيات حيث حصر أقسام ما يؤدي إلى الإنكار والاتهام وبين انتفاء ماعدا كراهتهم للحق وقلة فطنتهم

٧٤

وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة وصفوا بذلك تشنيعا لهم بما هم عليه من الانهماك في الدنيا وزعمهم أن لا حياة إلا الحياة الدنيا وإشعارا بعلة الحكم فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أقوى الدواعي إلى طلب الحق وسلوك سبيله

عن الصراط أي عن جنس الصراط

لناكبون لعادلون فضلا عن الصراط المستقيم أو عن الصراط المستقيم الذي تدعوهم إليه والأول أدل على كمال ضلالهم وغاية غوايتهم لما أنه ينبئ عن كون ما ذهبوا إليه مما لا يطلق عليه اسم الصراط ولو كان معوجا

٧٥

ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر أي قحط وجدب

للجوا لتمادوا في

طغاينهم إفراطهم في الكفر والاستكبار وعداوة الرسول صلى اللّه عليه و سلم والمؤمنين

يعمهون أي عامهين عن الهدى روى أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة عن أهل مكة وأخذهم اللّه تعالى بالسنين حتى أكلوا العلهز جاء أبو سفيان إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فقال له أنشدك اللّه والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين قال بلى فقال قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت والمعنى لو كشفنا عنهم ما أصابهم من القحط والهزال برحمتنا إياهم ووجدوا الخصب لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الإفراط في الكفر والاستكبار ولذهب عنهم هذا التملق والإبلاس وقد كان كذلك وقوله تعالى

٧٦

ولقد أخذناهم بالعذاب استئناف مسوق للاستشهاد على مضمون الشرطية والمراد بالعذاب ما نالهم يوم بدر من القتل والأسر وما أصابهم من فنون العذاب التي من جملتها القحط المذكور واللام جواب قسم محذوف أي وباللّه لقد أخذناهم بالعذاب

فما استكانوا لربهم بذلك أي لم يخضعوا ولم يتذللوا على أنه إما استفعال من الكون لان الخاضع ينتقل من كون إلى كون أو افتعال من السكون قد أشبعت فتحته كمنتزاح في منتزح بل أقاموا على ما كانوا عليه من العتو والاستكبار وقوله تعالى

وما يتضرعون اعتراض مقرر لمضمون ما قبله أي وليس من عاتهم التضرع إليه تعالى

٧٧

حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد هو عذاب الآخرة كما ينبئ عنه التهويل بفتح الباب والوصف بالشدة وقرئ فتحنا بالتشديد

إذا هم فيه مبلسون أي متحيرون آيسون من كل خير أي محناهم بكل محنة من القتل والأسر والجوع وغير ذلك فما رؤى منهم لين مقادة وتوجه إلى الإسلام قط

وأما ما أظهره أبو سفيان فليس من الاستكانة له تعالى والتضرع إليه تعالى في شيء وإنما هو نوع خنوع إلى أن يتم غرضه فحاله كما قيل إذا جاع ضغا وإذا شبع طغا وأكثرهم مستمرون على ذلك إلى ن يروا عذاب الآخرة فحينئذ يبلسون

وقيل المراد بالباب الجوع فإنه أشد وأعم من القتل والأسر والمعنى أخذناهم أولا بما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم فما وجد منهم تضرع واستكانة حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أطم وأتم فأبلسوا الساعة وخضعت رقابهم وجاءك أعتاهم وأشدهم شكيمة في العناد يستعطفك والوجه هو الأول

٧٨

وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار لتشاهدوا بها الآيات التنزيلية والتكوينية

والأفئدة لتتفكروا بها ما تشاهدونه وتعتبروا اعتبارا لائقا

قليلا ما تشكرون أي شكرا قليلا غير معتد به تشكرون تلك النعم الجليلة لما أن العمدة في الشكر صرف تلك القرى التي هي في أنفسها نعم باهرة إلى ما خلقت هي له وأنتم تخون بذلك إخلالا عظيما

٧٩

وهو الذي ذرأكم في الأرض أي خلقكم وبثكم فيها بالتناسل

وإليه تحشرون أي تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم لا إلى غيره فما لكم لا تؤمنون به ولا تشكرونه

٨٠

وهو الذي يحيي ويميت من غير أن يشاركه في ذلك شيء من الأشياء وله خاصة اختلاف الليل والنهار أي هو المؤثر في اختلافهما أي تعاقبهما أو اختلافهما ازديادا وانتقاصا أو لأمره وقضائه اختلافهما

أفلا تعقلون أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أو أتتفكرون فلا تعقلون بالنظر والتأمل أن الكل منا وأن قدرتنا تعم جميع الممكنات التي من جملتها البعث وقرئ يعقلون على أن الالتفات إلى الغيبة لحكاية سوء حال المخاطبين لغيرهم

وقيل على أن الخطاب الأول لتغليب المؤمنين وليس بذاك

٨١

بل قالوا عطف على مضمر يقتضيه المقام أي فلم يعقلوا بل قالوا

مثل ما قال الأولون أي آباؤهم ومن دان بدينهم

٨٢

قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون تفسير لما قبله من المبهم وتفصيل لما فيه من الإجمال وقد مر الكلام فيه

٨٣

لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا أي البعث

من قبل متعلق بالفعل من حيث إسناده إلى آبائهم لا إليهم أي ووعد آباؤنا من قبل أو بمحذوف وقع حالا من آباؤنا أي كائنين من قبل إن هذا أي ما

هذا إلا أساطير الأولين أي أكاذيبهم التي سطروها جمع أسطورة كأحدوثة وأعجوبة وقيل جمع أسطار جمع سطر

٨٤

قل لمن الأرض ومن فيها من المخلوقات تغليبا للعقلاء على غيرهم

إن كنتم تعلمون جوابه محذوف ثقة بدلالة الاستفهام عليه أي إن كنتم تعلمون شيئا ما فأخبروني به فإن ذلك كاف في الجواب وفيه من المبالغة في وضوح الأمر وفي تجهيلهم ما لا يخفى أو إن كنتم تعلمون ذلك فأخبروني وفيه استهانة بهم وتقرير لجهلهم ولذلك أخبر بجوابهم قبل أن يجيبوا حيث قيل

٨٥

سيقولون للّه لأن بديهة العقل تضطرهم إلى الاعتراف بأنه تعالى خالقها

قل أي عند اعترافهم بذلك تبكيتا لهم

أفلا تذكرون أي أتعلمون ذلك أو أتقولون ذلك فلا تتذكرون أن من فطر الأرض وما فيها ابتداء قادر على إعادتها ثانيا فإن البدء ليس بأهون من الإعادة

بل الأمر بالعكس في قياس العقول وقرئ تتذكرون على الأصل

٨٦

قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم أعيد الرب تنويها لشأن العرش ورفعا لمحله عن أن يكون تبعا للسموات وجودا وذكرا ولقد روعي في الأمر بالسؤال الترقي من الأدنى إلى الأعلى

٨٧

سيقولون للّه باللام نظرا إلى معنى السؤال فإن قولك من ربه ولمن هو في معنى واحد وقرئ هو وما بعده بغير لام نظرا إلى لفظ السؤال

قل إفحاما لهم وتوبيخا

أفلا تتقون أي أتعلمون ذلك ولا تقون أنفسكم عقابه بعدم العمل بموجب العلم حيث تكفرون به وتنكرون البعث وتثبتون له شريكا في الربوبية

٨٨

قل من بيده ملكوت كل شيء مما ذكر وما لم يذكر أي ملكه التام القاهر

وقيل خزائنه

وهو يجير أي يغيث غيره إذا شاء

ولا يجار عليه أي ولا يغيث أحد عليه أي لا يمنع أحد منه بالنصر عليه

إن كنتم تعلمون أي شيئا ما أو ذلك فأجيبوني على ما سبق

٨٩

سيقولون للّه أي للّه ملكوت كل شيء وهو الذي يجير ولا يجار عليه

قل فأنى تسحرون أي فمن أين تخدعون وتصرفون عن الرشد مع علمكم به إلى ما أنتم عليه من الغنى فإن من لا يكون مسحورا مختل العقل لا يكون كذلك

٩٠

بل أتيناهم بالحق الذي لا محيد عنه من التوحيد والوعد بالبعث

وإنهم لكاذبون فيما قالوا من الشرك وإنكار البعث

٩١

ما اتخذ اللّه من ولد كما يقوله النصارى والقائلون إن الملائكة بنات اللّه تعالى عن ذلك علوا كبيرا

وما كان معه من إله يشاركه في الألوهية كما يقوله عبدة الأوثان وغيرهم

إذن لذهب كل إله بما خلق جواب لمحاجتهم وجزاء لشرط قد حذف لدلالة ما قبله عليه أي لو كان معه آلهة كما يزعمون لذهب كل واحد منهم بما خلقه واستبد به وأمتاز ملكه عن ملك الآخرين ووقع بينهم التغالب والتحارب كما هو الجاري فيما بين الملوك

ولعلا بعضهم على بعض فلم يكن بيده وحده ملكوت كل شيء وهو باطل لا يقول به عاقل قط مع قيام البرهان على استباد جميع الممكنات إلى واجب الوجود واحد بالذات

سبحان اللّه عما يصفون أي يصفونه من أن يكون له أنداد وأولاد

٩٢

عالم الغيب والشهادة بالجر على أنه بدل من الجلالة

وقيل صفة لها وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وأيا ما كان فهو دليل آخر على انتفاء الشريك بناء على توافقهم في تفرده تعالى بذلك ولذلك رتب عليه بالفاء قوله تعالى

فتعالى عما يشركون فإن تفرده تعالى بذلك موجب لتعاليه عن أن يكون له شريك

٩٣

قل رب إما تريني أي إن كان لابد من أن تريني

ما يوعدون من العذاب الدنيوي المستأصل

وأما العذاب الأخروي فلا يناسبه المقام

٩٤

رب فلا تجعلني في القوم الظالمين أي قرينا لهم فيما هم فيه من العذاب وفيه إيذان بكمال فظاعة ما وعدوه من العذاب وكونه بحيث يجب أن يستعيذ منه من لا يكاد يمكن أن يخيق به ورد لإنكارهم إياه واستعجالهم به على طريقة الاستهزاء به

وقيل أمر به صلى اللّه عليه و سلم هضما لنفسه

وقيل لأن شؤم الكفرة قد يحيق بمن وراءهم كقوله تعالى واتقوا فتنة لا تصبن الذين ظلموا منكم خاصة وروى أنه تعالى اخبر نبيه صلى اللّه عليه و سلم بأن له في أمته نقمة ولم يطلعه على وقتها فأمره بهذا الدعاء وتكرير النداء وتصدير كل من الشرط والجزاء به لإبراز كمال الضراعة والابتهال

٩٥

وإنا على أن نريك ما نعدهم من العذاب

لقادرون ولكنا نؤخره لعلمنا بان بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمنون أولأنا لا نعذبهم وأنت فيهم

وقيل قد أراه ذلك وهو ما أصابهم يوم بدر أو فتح مكة ولا يخفى بعده فإن المبتادر أن يكون ما يستحقونه من العذاب الموعود عذابا هائلا مستأصلا لا يظهر على يديه صلى اللّه عليه و سلم للحكمة الداعية إليه

٩٦

ادفع بالتي هي أحسن السيئة وهو الصفح عنها والإحسان في مقابلتها لكن لا بحيث يؤدي إلى وهن في الدين

وقيل هي كلمة التوحيد والسيئة الشرك

وقيل هو الأمر بالمعروف والسيئة المنكر وهو أبلغ من ادفع بالحسنة السيئة لما فيه من التنصيص على التفضيل وتقديم الجار والمجرور على المفعول في الموضعين للاهتمام

نحن أعلم بما يصفون أي بما يصفونك به أو بوصفهم إياك على خلاف ما أنت عليه وفيه وعيد لهم بالجزاء والعقوبة وتسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وإرشاد له صلى اللّه عليه و سلم إلى تفويض أمره إليه تعالى

٩٧

وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين أي وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت به من المحاسن التي من جملتها

 دفع السيئة بالحسنة وأصل الهمز النخس ومنه مهماز الرائض شبه حثهم للناس على الماصي بهمز الرائض الدواب على الإسراع أو الوثب والجمع للمرات أو لتنوع الوساوس أو لتعدد المضاف إليه

٩٨

وأعوذ بك رب أن يحضرون أمر صلى اللّه عليه و سلم بأن يعوذ به تعالى من حضورهم بعد ما أمر بالعوذ من همزاتهم للمبالغة في التحذير من ملابستهم وإعادة الفعل مع تكرير النداء لإظهار كمال الاعتناء بالمأمور به وعرض نهاية الابتهال في الاستدعاء أي أعوذ بك من أن يحضروني ويحوموا حولي في حال من الأحوال وتخصيص حال الصلاة وقراءة القرآن كما روى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما وحال حلول الأجل كما روى عن عكرمة رحمه اللّه لأنها أحرى الأحوال بالاستعاذة منها

٩٩

حتى إذا جاء أحدهم الموت حتى هي التي يبتدأ بها الكلام دخلت على الجملة الشرطية وهي مع ذلك غاية لما قبلها متعلقة بيصفون وما بينهما اعتراض مؤكد للإغضاء بالاستعاذة به تعالى من الشياطين أن يزلوه صلى اللّه عليه و سلم عن الحلم ويغروه على الانتقام لكن لا بمعنى أنه العامل فيه لفساد المعنى بل بمعنى أنه معمول لمحذوف يدل عليه ذلك وتعلقها بكاذبون في غاية البعد لفظا ومعنى أي يسمرون على الوصف المذكور حتى إذا جاء أحدهم أي أحد كان الموت الذي لأمر دله وظهرت له أحوال الآخرة

قال تحسرا على ما فرط فيه من الإيمان والطاعة

رب ارجعون أي ردني إلى الدنيا والواو لتعظيم المخاطب

وقيل لتكرير قوله ارجعني كما قيل في قفانيك ونظائره

١٠٠

لعلى أعمل صالحا فيما تركت أي في الإيمان الذي تركته لم ينظمه في سلك الرجاء كسائر الأعمال الصالحة بأن يقول لعلى أو من فأعمل الخ للإشعار بأنه أمر مقرر الوقوع غنى عن الإخبار بوقوعه قطعا فضلا عن كونه مرجو الوقوع أي لعلي أعمل في الإيمان الذي آتى به البتة عملا صلاحا

وقيل فيما تركته من المال أو من الدنيا وعنه صلى اللّه عليه و سلم إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا أنرجعك إلى الدنيا فيقول إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى اللّه تبارك وتعالى

وأما الكافر فيقول ارجعوني

كلا ردع عن طلب الرجعة واستبعاد لها

إنها أي قوله رب ارجعون الخ

كلمة هو قائلها لا محالة لتسلط الحسرة عليه

ومن ورائهم أي أمامهم والضمير لأحدهم والجمع باعتبار المعنى لأنه في حكم كلهم كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ

برزخ حائل بينهم وبين الرجعة

إلى يوم يبعثون يوم القيامة وهو إقناط كلى عن الرجعة إلى الدنيا لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا وإنما الرجعة يومئذ إلى الحياة الأخروية

١٠١

فإذا نفخ في الصور لقيام الساعة وهي النفخة الثانية التي يقع عندها البعث والنشور وقيل المعنى فإذا نفخ في الأجساد أرواحها على أن الصور جمع الصورة لا القرن ويؤيده القراءة بفتح الواو به مع كسر الصاد

فلا أنساب بينهم تنفعهم لزوال الزاحم والتعاطف من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه أو لا أنساب يفتخرون بها يومئذ كما هي

بينهم اليوم ولا يتساءلون أي لا يسأل بعضهم بعضا لاشتغال كل منهم بنفسه ولا يناقضه قوله تعالى فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون لأن هذا عند ابتداء النفخة الثانية وذلك بعد ذلك

١٠٢

فمن ثقلت موازينه موزونات حسناته من العقائد والأعمال أي فمن كانت له عقائد صحيحة وأعمال صالحة يكون لها وزن وقدر عند اللّه تعالى

فأولئك هم المفلحون الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مهروب

١٠٣

ومن خفت موازينه أي ومن لم يكن له من العقائد والأعمال ماله وزن وقدر عنده وهم الكفار لقوله تعالى فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا وقد مر تفصيل ما في هذا المقام من الكلام في تفسير سورة الأعراف

فأولئك اللذين خسروا أنفسهم ضيعوها بتضييع زمان استكمالها وأبطلوا استعدادها لنيل كما لها واسم الإشارة في الموضعين عبارة عن الموصول وجمعه باعتبار معناه كما أن إفراد الضميرين في الصلتين باعتبار لفظه

في جهنم خالدون بدل من الصلة أو الخبر ثان لأولئك

١٠٤

تلفح وجوههم النار تحرقها واللفح كالنفخ إلا أنه أشد تأثيرا منه وتخصيص الوجوه بذلك لأنها اشرف الاعضاء فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار وهو السر في تقديمها على الفاعل

وهم فيها كالحون من شدة الاحتراق والكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان وقرئ كلحون

١٠٥

ألم تكن آياتي تتلى عليكم على إضمار القول أي يقال لهم تعنيفا وتوبيخا وتذكيرا لما به استحقوا ما ابتلوا به من العذاب ألم تكن آياتي تتلى عليكم في الدنيا

فكنتم بها تكذبون حينئذ

١٠٦

قالوا ربنا غلبت علينا أي ملكتنا شقوتنا التي اقترفناها بسوء اختيارنا كما ينبئ عنه إضافتها إلى أنفسهم وقرئ شقوتنا بالفتح وشقاواتنا أيضا بالفتح والكسر

وكنا بسبب ذلك

قوما ضالين عن الحق لذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب وهذا كما ترى اعتراف منهم بأن ما أصابهم قد أصابهم بسوء صنيعهم

وأما ما قيل من أنه اعتذار منهم بغلبة ما كتب عليهم من الشقاوة الأزلية فمع أنه باطل في نفسه لما أنه لا يكتب عليهم من السعادة والشقاوة إلا ما علم اللّه تعالى أنهم يفعلونه باختيارهم ضرورة أن العلم تابع للمعلوم يرده قوله تعالى

١٠٧

ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون أي أخرجنا من النار وارجعنا إلى الدنيا فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه من الكفر والمعاصي فإنا متجاوزون الحد في الظلم ولو كان اعتقادهم أنهم مجبورون على ما صدر عنهم لما سألوا الرجعة إلى الدنيا ولما وعدوا الإيمان و الطاعة بل قولهم فإن عدنا صريح في أنهم حينئذ على الإيمان و الطاعة و إنما الموعود على تقدير الرجعة إلى الدنيا إحدائهما

١٠٨

قال اخسئوا فيها أي اسكتوا في النار سكوت هوان وذلوا وانزجروا انزجار الكلاب إذا زجرت من خسأت الكلب إذا زجرته فخسأ أي انزجر

ولا تكلمون  أي باستدعاء الإخراج من النار والرجع إلى الدنيا

وقيل لا نكلمون في رفع العذاب ويرده التعليل الآتي

وقيل لا تكلمون رأسا وهو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلب لا يفهمون ولا يفهمون ويرده الخطابات الآتية قطعا وقوله تعالى

١٠٩

إنه تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي أن الشأن وقرئ بالفتح أي لأن الشأن

كان فريق من عبادى وهم المؤمنون

وقيل أنهم الصحابة

وقيل أهل الصفة رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين

يقولون في الدنيا

ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الرحمين

١١٠

فاتخذتموهم سخريا أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم ربنا الخ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين بقولهم ربنا آمنا الخ وتتشاغلون باستهزائهم

حتى أنسوكم أي الاستهزاء بهم

ذكرى من فرط اشتغالكم باستهزائهم

وكنتم منهم تضحكون وذلك غاية الأستهزاء وقوله تعالى

١١١

إني جزيتهم اليوم استئناف لبيان حسن حالهم وأنهم انتفعوا بما آذوهم

بما صبروا بسبب صبرهم على أذيتكم وقوله تعالى

أنهم هم الفائزون ثاني مفعولي الجزاء أي جزيتهم فوزهم بمجامع مرادتهم مخصوصين به وقرئ بكسر الهمزة على أنه تعليل للجزاء وبيان لكونه في غاية ما يكون من الحسن

١١٢

قال أي اللّه عز و جل أو الملك المأمور بذلك تذكيرا لما لبثوا فيما سألوا الرجوع غليه من الدنيا بعد التنبيه على استحالته بقوله اخسئوا فيها الخ وقرئ قل على الأمر للملك

كم لبثتم في الأرض التي تدعون إليها عدد

سنين تمييز لكم

١١٣

قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم استقصارا لمدة لبثهم فيها

فاسأل العادين أي المتمكنين من العد فإنما بما دهمنا من العذاب بمعزل من ذلك أو الملائكة العادين لأعمار العباد وأعمالهم وقرئ العادين بالتخفيف أي المعتدين فأنهم أيضا يقولون ما نقول كأنهم الأتباع يسمون الرؤساء بذلك لظلمهم إياهم إضلالهم وقرئ العاديين أي القدماء المعمرين فإنهم أيضا يستقصرون مدة لبثهم

١١٤

قال أي اللّه تعالى أو الملك وقرئ قل كما سبق

إن لبثتم إلا قليلا تصديقا لهم في ذلك

لو أنكم كنتم تعلمون أي تعمون شيئا ولو كنتم من أهل العلم والجواب محذوف ثقة بدلالة ما سبق عليه أي لعلمتم يومئذ قلة لبثكم فيها كما علمتم اليوم ولعملتم بموجبه ولم تخلدوا إليها

١١٥

أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا أي ألم تعلموا شيئا فحسبتم أنما خلقناكم بغير حكمة بالغة حتى أنكرتم البعث فعبثا حال من نون العظمة أي عابثين أو مفعول له أي أنما خلقناكم للعبث

وأنكم إلينا لا ترجعون عطف على أنما فإن خلقكم بغير بعث من قبيل العبث وإنما خلقناكم لنعيدكم ونجازيكم على أعمالكم وقرئ ترجعون بفتح التاء من الرجوع

١١٦

فتعالى اللّه استعظام له تعالى لشئون التي تصرف عليها عباده من البدء والإعادة والإثابة والعقاب بموجب الحكمة البالغة أي ارتفع بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأحواله وأفعاله وعن خلو أفعاله عن الحكم والمصالح والغايات الحميدة

الملك الحق الذي يحق له الملك على الإطلاق إيجادا وإعداما بدءا إعادة إحياء وأماتة عقابا وإثابة وكل ما سواه مملوك له مقهور تحت ملكوته

لا إله إلا هو فإن كل ما عداه عبيده

رب العرش الكريم فكيف بما تحته ومحاط به من الموجودات كائنا ما كان ووصفه بالكرم إما لأنه منه ينزل الوحي الذي منه القرآن الكريم أو الخير والبركة والرحمة أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين وقرئ الكريم بالرفع على أنه صفة الرب كما في قوله تعالى ذو العرش المجيد

١١٧

ومن يدع مع اللّه إلها آخر يعبده إفرادا وإشراكا

لا برهان له به صفة لازمة لإلها كقوله تعالى يطير بجناحيه جيء بها للتأكيد وبناء الحكم عليه تنبيها على أن التدين بما لا دليل عليه باطل فكيف بما شهدت بديهة العقول بخلافه أو اعتراض بين الشرط والجزاء كقولك من

 أحسن إلى زيد لا أحق منه بالإحسان فاللّه مثيبه

فإنما حسابه عند ربه فهو مجاز له على قدر ما يستحقه

إنه لا يفلح الكافرون أي أن الشأن الخ وقرئ بالفتح على أنه تعليل أو خبر ومعناه حسابه عدم الفلاح والأصل حسابه أنه لا يفلح هو فوضع الكافرون موضع الضمير لأن من يدع في معنى الجمع وكذلك حسابه أنه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا يفلحون بدئت السورة الكريمة بتقرير فلاح المؤمنين وختمت بنفي الفلاح عن الكافرين ثم أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بالاستغفار والاسترحام فقيل

١١٨

وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين إيذانا بأنهما من أهم الأمور الدينية حيث أمر به من قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكيف بمن عداه عن النبي صلى اللّه عليه و سلم من قرأ سورة المؤمنين بشرته الملائكة بالروح والريحان وما تقر به عينه عند نزول ملك الموت وعنه صلى اللّه عليه و سلم أنه قال لقد أنزلت على عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ قد افلح المؤمنون حتى ختم العشر وروى أن أولها وآخرها من كنوز الجنة من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح

﴿ ٠