ÓõæÑóÉõ ÇáäøõæÑö ãóÏóäöíøóÉñ

æóåöíó ÃóÑúÈóÚñ æó ÓöÊøõæäó ÂíóÉð

سورة النور

مدنية وهي اثنتان أو أربع وستون آية

بسم اللّه الرحمن الرحيم

_________________________________

١

سورة خبر مبتدأ محذوف إي هذه سورة وإنما أشير إليها مع عدم سبق ذكرها لأنها باعتبار كونها في شرف الذكر في حكم الحاضر المشاهد وقوله تعالى

أنزلناها مع ما عطف عليه صفات لها مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة من حيث الذات بالفخامة من حيث الصفات

وأما كونها مبتدأ محذوف الخبر على أن يكون التقدير فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها فيأباه أن مقتضى المقام بيان شأن السورة الكريمة لا أن في جملة ما أوحي إلى النبي صلى اللّه عليه و سلم سورة شأنها كذا وكذا وحملها على السورة الكريمة بمعونة المقام يوهم أن غيرها من السور الكريمة ليست على تلك الصفات وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره أنزلناها فلا محل له حينئذ من الإعراب أو على تقدير اقرأ ونحوه أو دونك عند من يسوغ حذف أداة الإغراء فمحل أنزلنا النصب على الوصفية

وفرضناها أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا وفيه من الإيذان بغاية وكادة الفرضية ما لا يخفي وقرئ فرضناها بالتشديد لتأكيد الإيجاب أو لتعدد الفرائض أو لكثرة المفروض عليهم من السلف والخلف

وأنزلنا فيها أي في تضاعيف السورة

آيات بينات إن أريد بها الآيات التي نيطت بها الأحكام المفروضة وهو الأظهر فكونها في السورة ظاهر ومعنى كونها بينات وضوح دلالاتها على أحكامها لا على معانيها على الإطلاق فإنها أسوة لسائر الآيات في ذلك وتكرير أنزلنا مع استلزام إنزال السورة لإنزالها لإبراز كمال العناية بشأنها وإن أريد جميع الآيات فالظرفية باعتبار اشتما ل الكل على كل واحد من أجزائه وتكرير أنزلنا مع أن جميع الآيات عين السورة وإنزالها عين إنزالها لاستقلالها بعنوان رائق داع إلى تخصيص إنزالها بالذكر إبانة لخطرها ورفعا لمحلها كقوله تعالى ونجيناه من عذاب غليظ بعد قوله تعالى ونجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا

لعلكم تذكرون بحذف إحدى التاءين وقرئ بإدغام الثانية في الذال أي تتذكرونها فتعلمون بموجبها عند وقوع الحوادث الداعية إلى إجراء إحكامها وفيه إيذان بأن حقها أن تكون على ذكر منهم بحيث متى مست الحاجة إليها استحضروها

٢

الزانية والزاني شروع في تفصيل ما ذكر من الآيات البينات وبيان أحكامها والزانية هي المرأة المطاوعة للزنا الممكنة منه كما تنبئ عنه الصيغة لا المزنية كرها وتقديمها على الزاني لأنها الأصل في الفعل لكون الداعية فيها أوفر ولولا تمكينها منه لم يقع ورفعهما على الابتداء والخبر قوله تعالى

فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط إذا اللام بمعنى الموصول والتقدير التي زنت والذي زنى كما في قوله تعالى واللذان يأتياها منكم فآذوهما

وقيل الخبر محذوف أي فيما أنزلنا أو فيما فرضنا الزانية والزاني أي حكمهما وقوله تعالى فاجلدوا الخ بيان لذلك الحكم وكان هذا عاما في حق المحصن وغيره وقد نسخ في حق المحصن قطعا ويكفينا في تعيين الناسخ القطع بأنه صلى اللّه عليه و سلم قد رجم ماعزا أو غيره فيكون من باب نسخ الكتاب بالسنة المشهورة وفي الإيضاح الرجم حكم ثبت بالسنة المشهورة المتفق عليها فجازت الزيادة بها على الكتاب وروى عن علي رضي اللّه عنه جلدتها بكتاب اللّه ورجمتها بسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم

وقيل نسخ بآية منسوخة التلاوة وهي الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما البتة نكالا من اللّه واللّه عزيز حكيم ويأباه ما روي عن علي رضي اللّه عنه ولا تأخذكم بهما رأفة وقرئ بفتح الهمزة وبالمد أيضا على فعالة أي رحمة ورقة

في دين اللّه في طاعته وإقامة حده فتطلوه أو تسامحوه فيه وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها

إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر من باب التهييج والإلهاب فإن الإيمان بهما يقتضي الجد في طاعته تعالى والاجتهاد في إجراء أحكامه وذكر اليوم الآخر لتذكير ما فيه من العقاب في مقابلة المسامحة والتعطيل

وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين أي لتحضره زيادة في التنكيل فإن التفضيح قد ينكل أكثر مما ينكل التعذيب والطائفة فرقة يمكن أن تكون حافة حول شيء من الطوف وأقلها ثلاثة كما روي عن فنادة وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أربعة إلى أربعين وعن الحسن عشرة والمراد جمع يحصل به التشهير والزجر

٣

الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك حكم مؤسس

على الغالب المعتاد جىء به لزجر

المؤمنين بهن وقد رغب بعض من ضعفه المهاجرين في نكاح وسرات كانت بالمدينة من بغايا المشركين فاستأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم في ذلك فنفروا عنه ببيان أنه من أفعال الزناة وخصائص المشركين كأنه قيل الزاني لا يرغب إلا في نكاح إحداهما والزانية لا يرغب في نكاحها إلا أحدهما فلا تحوموا حوله كيلا تنتظموا في سلكهما أو تتسموا بسمتهما فإيراد الجملة الأولى مع أن مناط التنفير هي الثانية إما للتعريض بقصرهم الرغبة عليهن حيث استأذنوا في نكاحهن أو لتأكيد العلاقة بين الجانبين مبالغة في الزجر والتنفير وعدم التعرض في الجملة الثانية للمشركة للتنبيه على أن مناط الزجر والتنفير هوالزنا لا مجرد الإشراك وإنما تعرض لها في الأولى إشباعا في التنفير عن الزانية بنظمها في سلك المشركة وحرم ذلك أي نكاح الزواني على المؤمنين لما أن فيه من التشبه بالفسقة والتعرض للتهمة والتسبب لسوء القالة والطعن في النسب واختلال

 أمر المعاش وغير ذلك من المفاسد ما لا يكاد يليق بأحد من الأداني والأراذل فضلا عن المؤمنين ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغة في الزجر

وقيل النفي بمعنى النهي وقد قرئ به والتحريم على حقيقته والحكم إما مخصوص بسبب النزول أو منسوخ بقوله تعالى وأنكحوا الأيامي منكم فإنه متناول للمسافحات ويؤيده ما روي أنه صلى اللّه عليه و سلم سئل عن ذلك فقال أوله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال وما قيل من أن المراد بالنكاح هو الوطء بين البطلان

٤

والذين يرمون المحصنات بيان لحكم العفائف إذا نسبن إلى الزنا بعد بيان حكم الزواني ويعتبر في الإحصان ههنا مع مدلوله الوضعي الذي هو العفة عن الزنا الحرية والبلوغ والإسلام وفي التعبير عن التفوه بما قالوا في حقهن بالرمي المنبئ عن صلابة الآلة وإيلام المرمى وبعده عن الرامي إيذان بشدة تأثيره فيهن وكونه رجما بالغيب والمراد به رميهن بالزنا لا غير وعدم التصريح به للاكتفاء بإيرادهن عقيب الزواني ووصفهن بالإحصان الدال بالوضع على نزاهتهن عن الزنا خاصة فإن ذلك بمنزلة التصريح بكون رميهن به لا محالة ولا حاجة في ذلك إلى الاستشهاد باعتبار الأربعة من الشهداء على أن فيه مؤنة بيان تأخر نزول الآية عن قوله تعالى فاستشهدوا عليهن أربعة ولا بعدم وجوب الحد بالرمي بغير الزنا على أن فيه شبهة المصاردة كأنه قيل والذين يرمون العفائف المنزهات عما رمين به من الزنا

ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون عليهن بما رموهن به وفي كلمة ثم إشعار بجواز تأخير الإتيان بالشهود كما أن في كلمة لم إشارة إلى تحقيق العجز عن الإتيان بهم وتقرره خلا أن اجتماع الشهود لا بد منه عند الأداء خلافا للشافعي رحمه اللّه تعالى فإنه جوز التراخي بين الشهادات كما بين الرمي والشهادة ويجوز ان يكون أحدهم زوج المقذوفة خلافا له أيضا وقرئ بأربعة شهداء

فاجلدوهم ثمانين جلدة لظهور كذبهم وافترائهم بعجزهم عن الإتيان بالشهداء لقوله تعالى فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند اللّه هم الكاذبون وانتصاب ثمانين كانتصاب المصادر ونصب جلدة على التمييز وتخصيص رميهن بهذا الحكم مع أن حكم رمي المحصنين أيضا كذلك لخصوص الواقعة وشيوع الرمي فيهن

ولا تقبلوا لهم شهادة عطف على اجلدوا داخل في حكمه تتمة له لما فيه من معنى الزجر لأنه مؤلم للقلب كما أن الجلد مؤلم للبدن وقد آذى المقذوف بلسانه فعوقب باهدار منافعه جزاء وفاقا واللام في لهم متعلقة بمحذوف هو حال من شهادة قدمت عليها لكونها نكرة ولو تأخرت عنها لكانت صفة لها وفائدتها تخصيص الرد بشهادتهم الناشئة عن أهليتهم الثابتة لهم عند الرمي وهو السر في قبول شهادة الكافر المحدود في القذف بعد التوبة والإسلام لأنها ليست ناشئة عن أهليته السابقة بل عن أهلية حدثت له بعد إسلامه فلا يتناولها الرد فتدبر ودع عنك ما قيل من أن المسلمين لا يعبأون بسبب الكفار فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشين والشنار ما يلحقه بقذف المسلم فإن ذلك بدون مامر من الاعتبار تعليل في مقابلة النص ولا يخفي حاله فالمعنى لا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات حال كونها حاصلة لهم عند الرمي

أبدا أي مدة حياتهم وإن تابوا وأصلحوا لما عرفت من أنه تتمة للحد كأنه قيل فاجلدوهم وردوا شهادتهم أي فاجمعوا لهم الجلد والرد فيبقى كأصله

وأولئك هم الفاسقون كلام مستأنف مقرر لما قبله ومبين لسوء حالهم عند اللّه عز و جل وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر والفساد أي أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة والتجاوز عن الحدود الكاملون فيه كأنهم هم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم لا غيرهم من الفسقة وقوله تعالى

٥

إلا الذين تابوا استثناء من الفاسقين كما ينبئ عنه التعليل الآتي ومحل المستثني النصب لأنه من موجب وقوله تعالى

من بعد ذلك لتهويل المتوب عنه أي من بعد ما اقترفوا ذلك الذنب العظيم الهائل

وأصلحوا أي أصلحوا أعمالهم التي من جملتها ما فرط منهم بالتلافي والتدارك ومنه الاستسلام للحد والاستحلال من المقذوف

فإن اللّه غفور رحيم تعليل لما يفيده الاستثناء من العفو عن المؤاخذة بموجب الفسق كأنه قيل فحينئذ لا يؤاخذهم اللّه تعالى بما فرط منهم ولا ينظمهم في سلك الفاسقين لأنه تعالى مبالغ في المغفرة والرحمة هذا وقد علق الشافعي رحمه اللّه الاستثناء بالنهي فمحل المستثني حينئذ الجر على البدلية من الضمير في لهم وجعل الأبد عبارة عن مدة كونه قاذفا فتنتهي بالتوبة فتقبل شهادته بعدها

٦

والذين يرمون أزواجهم بيان لحكم الرامين لأزواجهم خاصة بعد بيان حكم الرامين لغيرهن لكن لا بأن يكون هذا مخصصا للمحصنات بالأجنبيات ليلزم بقاء الآية السابقة ظنية فلا يثبت بها الحد فإن من شرائط التخصيص أن لا يكون المخصص متراخى النزول بل بكونه ناسخا لعمومها ضرورة تراخي نزولها كما سيأتي فتبقى الآية السابقة قطعية الدلالة فيما بقي بعد النسخ لما بين موضعه أن دليل النسخ غير معلل

ولم يكن لهم شهداء يشهدون بما رموهن به من الزنا وقرئ بتأنيث الفعل

إلا أنفسهم بدل من شهداء أو صفة لها على أن إلا بمعنى غير جعلوا من جملة الشهداء إيذانا من أول الأمر بعدم إلغاء قولهم بالمرة ونظمه في سلك الشهادة في الجملة وبذلك ازداد حسن إضافة الشهادة إليهم في قوله تعالى

فشهادة أحدهم أي شهادة كل واحد منهم وهو مبتدأ وقوله تعالى

أربع شهادات خبره أي فشهادتهم المشروعة أربع شهادات

باللّه متعلق بشهادات لقربها

وقيل بشهادة لتقدمها وقرئ أربع شهادات بالنصب على المصدر والعامل فشهادة على أنه إما خبر لمبتدأ محذوف أي فالواجب شهادة أحدهم

وأما مبتدأ محذوف الخبر أي فشهادة أحدهم واجبة

إنه لمن الصادقين أي فيما رماها به من الزنا وأصله على أنه الخ فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل عنها للتأكيد

٧

والخامسة أي الشهادة الخامسة للأربع المتقدمة أي الجاعلة لها خمسا بانضمامها إليهن وإفرادها عنهن مع كونها شهادة أيضا لاستقلالها بالفحوى أو كادتها في إفادة ما يقصد بالشهادة من تحقيق الخبر وإظهار الصدق وهي مبتدأ خبره

أن لعنة اللّه عليه إن من الكاذبين فيما رماها به من الزنا فإذالا عن الزوج حبست الزوجة حتى تعترف فترجم أو تلاعن

٨

ويدرأ عنها العذاب أي العذاب الدنيوي وهو الحبس المغيا على أحد الوجهين الرجم الذي هو أشد العذاب

أن تشهد أربع شهادات باللّه إنه أي الزوج

لمن الكاذبين أي فيما رماني به من الزنا

٩

والخامسة بالنصب على أربع شهادات

أن غضب اللّه عليها إن كان أي الزوج

من الصادقين أي فيما رماني به في الزنا وقرئ والخامسة بالرفع على الابتداء وقرئ أن بالتخفيف في الموضعين ورفع اللعنة والغضب وقرئ أن غضب اللّه وتخصيص الغضب بجانب المرأة للتغليظ عليها لما أنها مادة الفجور ولأن النساء كثيرا ما يستعملن اللعن فربما يجترئن على التفوه به لسقوط وقعه عن قلوبهن بخلاف غضبه تعالى روي أن آية القذف لما نزلت قرأها رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم على المنبر فقام عاصم بن عدي الأنصاري رضي اللّه عنه فقال جعلني اللّه فداك إن وجد رجل مع امرأته رجلا فأخبر جلد ثمانين وردت شهادته وفسق وإن ضربه بالسيف قتل وإن سكت سكت عل غيظ وإلى أن يجيء بأربعة شهداء فقد قضى الرجل حاجته ومضى اللّهم افتح وخرج فاستقبله هلال بن أمية أو عويمر فقال ما وراءك قال شر وجدت على امرأتي خولة وهي بنت عاصم شريك بن سحماه فقال واللّه هذا سؤالي ما أسرع ما ابتليت به فرجعا فأخبرا رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فكلم خولة فأنكرت فنزلت فلاعن بينهما والفرقة الواقعة باللعان في حكم التطليقة البائنة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما اللّه ولا يتأبد حكمها حتى إذا أكذب الرجل نفسه بعد ذلك فحد جاز له أن يتزوجها وعند أبي يوسف وزفر والحسن بن زياد والشافعي رحمهم اللّه هي فرقة بغير طلاق توجب تحريما مؤبدا ليس لهما اجتماع بعد ذلك أبدا

١٠

ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته وأن اللّه تواب حكيم التفات إلى خطاب الراجين والمرميات بطريق التغليب لتوفية مقام الامتنان حقه وجواب لولا محذوف لتهويله والإشعار بضيق العبارة عن حصره كأنه قيل ولولا تفضله تعالى عليكم ورحمته وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة حكيم في جميع أفعاله وأحكامه التي من جملتها ما شرع لكم من حكم اللعان لكان ما كان مما لا يحيط به نطاق البيان ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك لوجب على الزوج حد القذف مع أن الظاهر صدقه لأنه أعرف بحال زوجته وأنه لا يفتري عليها لاشتراكهما في الفضاحة وبعد ما شرع لهم ذلك لو جعل شهاداته موجبة لحد الزنا عليها لفات النظر لها ولو جعل شهاداتها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له ولا ريب في خروج الكل عن سنن الحكمة والفضل والرحمة فجعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما حتما دارئه لما توجه إليه من الغائلة الدنيوية وقد ابتلي الكاذب منهما في تضاعيف شهاداته من العذاب بما هو أتم مما درأته عنه وأطم وفي ذلك من أحكام الحكم البالغة وآثار التفضل والرحمة ما لا يخفي أما على الصادق فظاهر

وأما على الكاذب فهو إمهاله والستر عليه في الدنيا ودرء الحد عنه وتعريضه للتوبة حسبما ينبئ عنه التعرض لعنوان توابيته سبحانه ما أعظم شأنه وأوسع رحمته وأدق حكمته

١١

إن الذين جاءوا بالإفك أي بأبلغ ما يكون من الكذب والافتراء

وقيل هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك وأصله الإفك وهو القلب لأنه مأفوك عن وجهه وسننه والمراد به ما أفك به الصديقة أم المؤمنين رضي اللّه عنها وفي لفظ المجيء إشارة إلى أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل وذلك أن رسول اللّه صلى اللّه علي وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها قالت عائشة رضي اللّه عنها فأقرع بيننا في غزوة غزاها قيل غزوة بني المصطلق فخرج سهمي فخرجت معه صلى اللّه علي وسلم بعد نزول آية الحجاب فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير ووجدت عقدي بعد ما استمررت الجيش فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب فتممت منزلي وظننت أني سيفقدونني ويعودون في طلبي فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه فخمرت وجهي بالجلبابي و واللّه ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكرى فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاض الناس في حديثي فهلك من هلك وقوله تعالى عصبة منكم خبر إن أي جماعة وهي من العشرة إلى الأربعين وكذا العصابة وهم عبد اللّه بن أبي وزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم وقوله تعالى

لا تحسبوا شرا لكم استئناف خوطب به رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وأبو بكر وعائشة وصفوان رضي اللّه عنهم تسلية لهم من أول الأمر والضمير للإفك

بل هو خير لكم لاكتسابكم به الثواب العظيم وظهور كرامتكم على اللّه عز و جل بإنزال ثماني عشرة آية في نزاهة ساحتكم وتعظيم شأنكم وتشديد الوعيد فيمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيرا

لكل امرئ  منهم أي من أولئك العصبة ما اكتسب من الإثم بقدر ما خاض فيه

والذي تولى كبره أي معظمه وقرئ بضم الكاف وهي لغة فيه منهم من العصبة وهو ابن أبي فإنه بدأ به وأذاعه بين الناس عداوة لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم

وقيل هو وحسان ومسطح فإنهما شايعاه بالتصريح به فإفراد الموصول حينئذ باعتبار الفوج أو الفريق أو نحوهما

له عذاب عظيم أي في الآخرة أو في الدنيا أيضا فأنهم جلدوا وردت شهادتهم وصار ابن أبي مطرودا مشهودا عليه بالنفاق وحسان أعمى و أشل اليدين ومسطح مكفوف البصر وفي التعبير عنه بالذي وتكرير الإسناد وتنكير العذاب ووصفه بالعظم من تهويل الخطب ما لا يخفي

١٢

لولا إذ سمعتموه تلوين للخطاب وصرف له عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وذويه إلى الخائضين بطريق الالتفات لتشديد ما في لولا التحفيضة من التوبيخ ثم العدول عنه إلى الغيبة في قوله تعالى

ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا لتأكيد التوبيخ والتشنيع لكن لا بطريق الإعراض عنهم وحكاية جناياتهم لغيرهم على وجه المثابة بل بالتوسل بذلك إلى وصفهم بما يوجب الإتيان بالمحضض عليه ويقتضيه اقتضاء تاما ويزجرهم عن ضده زجرا بليغا فإن كون وصف الإيمان مما يحملهم على إحسان الظن ويكفهم عن أسامة

بأنفسهم أي بأبناء جنسهم النازلين منزلة أنفسهم كقوله تعالى ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وقوله تعالى و لا تلمزوا أنفسكم مما لايب فيه فإخلاهم بموجب ذلك الوصف أقبح و أشنع و التوبيخ عليه أدخل مع ما فيه من التوسل به إلى التصريح بتوبيخ الخائضات ثم ان كان المراد بالإيمان الإيمان الحقيقي فإيجابه لما ذكر واضح والتوبيخ خاص بالمؤمنين و إن كان مطلق الإيمان الشامل لما يظهره المنافقون أيضا فإيجابه له من حيث انهم كانوا يحترزون عن إظهار ما ينافي مدعاهم فالتوبيخ حينئذ متوجه إلى الكل و توسيط الظرف بين لولا و فعلها لتخصيص التخصيص بأول زمان سماعهم و قصر التوبيخ على تأخير الإنيان بالمحضض عليه عن ذلك الآن و التردد فيه ليفيد أن عدم الإتيان به رأسا في غاية ما يكون من القباحة والشناعة أي كان الواجب أن يظن المؤمنون والمؤمنات أول ما سمعوه ممن اخترعه بالذات أو بالواسطة من غير تلعثم وتردد بمثلهم من آحاد المؤمنين خيرا

وقالوا في ذلك الآن

هذا إفك مبين أي ظاهر مكشوف كونه إفكا فكيف بالصديقة ابنة الصديق أم المؤمنين حرمة رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم

١٣

لولا جاءوا عليه بأر شهداء إما من تمام القول المحضض عليه مسوق لحث السامعين على إلزام المسمعين و تكذيبهم إ تكذيب ماسمعوه منهم بقولهم هذا إفك مبين و توبيخهم على تركه أي هلا جاء الخائضون

بأربعة شهداء يشهدون على ما قالوا فإذا لم يأتوا بهم وإنما قيل بالشهداء لزيادة التقرير

فأولئك إشارة إلى الخائضين و ما فيه من معنى البعد للإيذان بغلوهم في الفساد وبعد منزلتهم عن الشر أي أولئك المفسدون

عند اللّه أي في حكمه و شرعه المؤسس على الدلائل الظاهرة المتقنة

هم الكاذبون الكاملون في الكذب المشهود

عليهم بذلك المستحقون لإطلاق الاسم عليهم دون غيرهم ولذلك رتب عليهم الحد خاصة

وأما كلام مبتدأ مسوق من جهته تعالى للاحتجاج على كذبهم بكون ما قالوه قولا لا يساعده الدليل أصلا

١٤

ولولا فضل اللّه عليكم خطاب للسامعين والمسمعين جميعا

ورحمته في الدنيا من فنون النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة

والآخرة من الآلاء التي من جملتها العفو بعد التوبة

لمسكم عاجلا

فيما أفضتم فيه بسبب ما خضتم فيه من حديث الإفك والإبهام لتهويل أمره والاستهجان بذكره بقال أفاض في الحديث وخاض واندفع وهضب بمعنى

عذاب عظيم يستحقر دونه التوبيخ والجلد

١٥

إذ تلقونه بحذف إحدى التاءين ظرف للمس أي لمسكم ذلك العذاب العظيم وقت تلقيكم إياه من المخترعين

بألسنتكم والتقي والتلقف والتلقن معان متقاربة خلا أن في الأول معنى الاستقبال وفي الثاني معنى الخطف والأخذ بسرعة وفي الثالث معنى الحذق والمهارة وقرئ تتلقونه تتلقونه على الأصل وتلقونه من لقيه وتلقونه بكسر حرف المضارعة وتلقونه من إلقاء بعضهم على بعض وتلقونه وتألقونه من الولق والإلق وهو الكذب وتثقفونه من ثقفته إذا طلبته فوجدته وتثقفونه أي تتعبونه

وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم أي

تقولون قولا مختصا بالأفواه من غير أن يكون له مصداق ومنشأ في القلوب لأنه ليس بتعبير عن علم به قلوبكم كقوله تعالى يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم

وتحسبونه هينا سهلا لا تبعه له أو ليس له كثير عقوبه

وهو عند اللّه والحال أنه عنده عز و جل

عظيم لا يقادر قدره في الوزر واستجرار العذاب ولولا إذ سمعتموه من المخزعين والمشايعين لهم قلتم تكذيبا لهم وتهويلا لما ارتكبوه ما يكون لنا ما يمكننا أن نتكلم بهذا وما يصدر عنا ذلك بوجه من الوجوه وحاصلة نفى وجود التكلم به لا نفى وجوده على وجه الصحة والاستقامة والإنبغاء وهذا إشارة إلى ما سمعوه وتوسيط الظرف بين لولا وقلتم لما مر من تخصيص التخضيض بأول وقت السماع وقصر التوبيخ واللوم على تأخير القول المذكور عن ذلك الآن ليفيد أنه المحتمل للوقوع المفتقر إلى التخضيض على تركه

وأما ترك القول نفسه رأسا فيما لا يتوهم وقوعه حتى يحضض على فعله ويلام على تركه وعلى هذا ينبغي أن يحمل ما قيل إن المعنى إنه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم وأماما قيل من أن ظروف الأشياء منزلة منزلة أنفسها لوقوعها فيها وإنها لا تنفك عنها لذلك يتسع فيها مالا يتسع في غيرها فهي ضابطة ربما تستعمل فيماإذا وضع الظرف موضع المظروف بأن ج مفعولا صريحا لفعل مذكور كما في قوله تعالى واذكروا إذا جعلكم خلفاء أو مقدر كعامة الظروف المنصوبة إضمار اذكروا أما ههنا فلا حاجة إليها أصلا لما تحققت أن مناط التقديم توجبه التحضيض إليه وذلك يتحقق في جميع متعلقات الفعل كما في قوله تعالى فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها سبحانك تعجب ممن تفوه به وأصله أن يذكر عند معاينة العجيب من صنائعه تعالى تنزيها له سبحانه على أن يصعب عليه أمثاله ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه أو تنزيه له تعالى عن أن تكون حرمة نبيه فاجرة فإن فجورها تنفير عنه ومخل بمقصود الزواج فيكون تقريرا لما قبله وتمهيدا لقوله تعالى فلولا إن كنتم غير مدينين لعظم المبهوت عليه واستحالة صدقه فإن حقارة الذنوب وعظمها باعتبار متعلقاتها

١٧

يعظكم اللّه أي ينصحكم

أن تعودوا لمثله أي كراهة أن تعودوا أو يزجركم من أن تعودوا أو في أن تعودوا من قولك وعظته في كذا فتركه

أبدأ أي مدة حياتكم

إن كنتم مؤمنين فإن الإيمان وازع عنه لا محالة وفيه تهييج وتقريع

١٨

ويبين اللّه لكم الآيات الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب دلالة ذلك واضحة لتتعظوا وتتأدبوا بها أي ينزلها كذلك أي مبنية ظاهرة الدلالة على معانيها لا أنه يبينها بعد أن لم تكن كذلك وهذا كما في قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل أي خلقهما صغيرا و كبيرا ومنه قولك ضيق فم الركية ووسع أسفلها وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار شأن البيان

واللّه عليم بأحوال جميع مخلوقاته جلائلها دقائقها

حكيم في جميع تدابيره وأفعاله فأنى يمكن صدق ما قيل في حق حرمه من اصطفاه لرسالاته وبعثه إلى كافة الخلق ليرشدهم إلى الحق ويزكيهم ويطهرهم تطهيرا وإظهارا الاسم الجليل ههنا لتأكيد استقلال الاعتراض التذبيلي والإشعار بعلة الألوهية للعلم والحكمة

١٩

إن الذين يحبون أي يريدون ويقصدون

أن تشيع الفاحشة أي تنتشر الخصلة المفرطة في القبح وهي الفرية والرمى بالزنا أو نفس الزنا فالمراد بشيوعها شيوع خبرها أي يحبون شيوعها ويتصدون مع ذلك لإشاعتها وإنما لم يصرح به اكتفاء بذكر المحبة فإنها مستتبعة له لا محالة

في الذين آمنوا متعلق بتشيع أن تشيع فيما بين الناس وذكر المؤمنين لأنهم العمدة فيهم أو بمضمر هو حال من الفاحشة فالموصول عبارة عن المؤمنين خاصة أن يحبون أن تشيع الفاحشة كائنة في حق المؤمنين وفي شأنهم لهم بسبب ما ذكر عذاب أليم في الدنيا من الحد وغيره مما يتفق من البلايا الدنيوية و لقد ضرب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عبد اللّه بن أبي وحسانا ومسطحا حد القذف وضرب صفوان حسانا ضربة بالسيف و عف بصره

والآخرة من عذاب النار وغير ذلك مما يعلمه اللّه عز و جل واللّه يعلم جميع الأمور التي من جملتها ما في الضمائر من المحبة المذكورة وأنتم تعلمون ما يعلمه تعالى إنما تعلمون ما ظهر لكم من الأقوال والأفعال المحسوسة فابتلوا أموركم على ما تعملونه وعاقبوا في الدنيا على ما تشاهدونه من الأحوال الظاهرة واللّه سبحانه هو المتولي للسرائر فيعاقب في الآخرة على ما تكنه الصدور هذا إذا جعل

العذاب الأليم في الدنيا عبارة عن حد القذف أو متنظما له كما أطبق عليه الجمهور أما إذا بقي على إطلاقه يراد بالمحبة نفسها من غير أن يقارنها التصدي للإشاعة وهو الأنسب بسياق النظم الكريم فيكون ترتيب العذاب عليها تنبيها على أن عذاب من يباشر الإشاعة ويتولاها أشد وأعظم ويكون الاعتراض التذبيلي أعنى قوله تعالى

واللّه يعلم وأنتم لا تعلمون تقريرا لثبوت العذاب الأليم لهم وتعليلا له

٢٠

ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته تكرير للمنة بترك المعالجة بالعقاب للتنبيه على كمال عظم الجزيرة

وأن اللّه رؤوف رحيم عطف على فضل اللّه وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والإشعار باستتباع صفة الألوهية للرأفة والرحمة وتغيير سبكه وتصديره بحرف التحقيق لما أن بيان اتصافه تعالى في ذاته بالرأفة التي هي كمال الرحمة والرحيمية التي هي المبالغة فيها على الدوأم والاستمرار لا بيان حدوث تعلق رأفته ورحمته بهم كما أن المراد بالمعطوف عليه وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه

٢١

يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان أي لا تسلكوا مسالكه كل ما تأتون وما تذرون من الأفاعيل التي من جملتها إشاعة الفاحشة وحبها وقرئ خطوات بسكون الطاء وبفتحها أيضا

ومن يتبع خطوات الشيطان وضع الظاهران موضع ضمير يهما حيث لم يقل ومن يتبعها أو ومن يتبع خطواته لزيادة التقرير والمبالغة في التنفير والتحذير

فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر علة للجزاء وضعت موضعه كأنه قيل فقدار تكب الفحشاء والمنكر لأن دأبه المستمر أن يأمر بهما فمن اتبع خطواته فقد امتثل بأمره قطعا والفحشاء ما أفرط قبحه كالفاحشة والمنكر ما ينكره الشرع ضمير إنه للشيطان

وقيل للشأن على ما رأى من لا يوجب عود الضمير من الجملة الجزائية إلى اسم الشرط أو على أن الأصل يأمره

وقيل هو عائد إلى من أي فإن ذلك المتبع يأمر الناس بهما لأن شان الشيطان هو الإضلال فمن اتبعه يترقى من رتبة الضلال والفساد إلى رتبة الإضلال والإفساد

ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته بما من جملته هاتيك البيانات والتوفيق للتوبة الماحصة للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها

مازكا أي ما طهر من دنسها و قرىءماركى بالتشديد أى ما طهر اللّه تعالى ومن في قوله تعالى منكم بيانية وفي قوله تعالى

من أحد زائدة وأحد في حيز الرفع على الفاعلية على القراءة الأولى وفي محل النصب على المفعولية على القراءة الثانية أبدا لا إلى نهاية

ولكن اللّه يزكي يطهر من يشاء من عباده بإضافة آثار فضله ورحمته على التوبة ثم قبولها منه كما فعل بكم

واللّه سميع مبالغ في سمع الأقوال التي من جملتها ما أظهروه من التوبة

عليم بجميع المعلومات التي من جملتها نياتهم وفيه حث لهم على الإخلاص في التوبة وإظهارالإسم الجليل للإيذان باستدعاء الألوهية للسمع والعلم مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذبيلي

٢٢

ولا يأتل أي لا يحلف افتعال من الآلية

وقيل لا يقصر من الألو والأول هوالأظهر لنزوله في شأن الصديق رضي اللّه عنه حين حلف أن لا ينفق على مسطح بعد وكان ينفق عليه لكونه ابن خالته وكان من فقراء المهاجرين ويعضده قراءة من قرأ ولا يتأل

أولو الفضل منكم في الدين وكفى به دليلا على فضل الصديق رضي اللّه تعالى عنه

والسعة في المال

أن يؤتوا أي على أن لا يؤتوا أو قرئ بناء الخطاب على الالتفات

أولو القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل اللّه صفات لموصوف واحد جئ بها بطريق العطف تنبيها على أن كلا منها علة مستقلة لاستحقاقه الإيتاء

وقيل لموصوفات أقيمت هي مقامها وحذف المفعول الثاني لغاية ظهوره أي على أن لا يؤتوهم شيئا

وليعفوا ما فرط منهم

وليصفحوا بالإغضاء عنه وقد قرئ الأمر أن بتاء الخطاب على وفق قوله تعالى

ألا تحبون أن يغفر اللّه لكم أي بمقابلة عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم

واللّه غفور رحيم مبالغ في المغفرة والرحمة مع كمال قدرته على المؤاخذة وكثرة ذنوب الداعية إليها وفيه ترغيب عظيم في العفو ووعد الكريم بمقابلته كأنه قيل ألا تحبون أن يغفر اللّه لكم فهذا من موجباته روى أنه صلى اللّه عليه و سلم قرأها على أبي بكر رضي اللّه عنه فقال بلى أحب أن يغفر اللّه لي فرجع إلى مسطح نفقته وقال اللّه أعلم لا أنزعها أبدا

٢٣

إن الذين يرمون المحصنات أي العفائف مما رمين به من الفاحشة

الغافلات عنها على الإطلاق بحيث لم يخطر ببالهن شيء منها ولا من مقدماتها أصلا ففيها من الدلالة على كمال النزاهة ما ليس في المحصنات أي السليمات الصدور التقيات القلوب عن كل سوء

المؤمنات أي المتصفات بالإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به من الواجبات والمحظوات وغيرها إيمانا حقيقيا تفصيليا كما ينبئ عنه تأخير المؤمنات عما قبلها مع أصالة وصف الإيمان فإنه للإيذان بأن المراد بها المعنى الوصفي المعرب عما ذكر لا المعنى الاسمي المصحح لإطلاق الاسم في الجملة كما هو المتبادر على تقدير التقديم والمراد بها عائشة الصديقة رضي اللّه عنها والجمع باعتبار

 أن رميها رمى لسائر أمهات المؤمنين لاشتراك الكل في العصمة والنزاهة والانتساب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم كما في قوله تعالى كذبت قوم نوح لمرسلين ونظائره

وقيل أمهات المؤمنين فيدخل فيهن الصديقة دخولا أوليا

وأما ما قيل من أن المراد هي الصديقة والجمع باعتبار استتباعها للمتصفات بالصفات المذكورة من نساء الأمة فيأباه أن العقوبات المترتبة على رمي هؤلاء عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين ولا ريب في أن رمي غير أمهات المؤمنين ليس بكفر فيجب أن يكون المراد إياهن على أحد الوجهين فإنهن قد خصصن من بين سائر المؤمنات فجعل رميهن كفرا إبرازا لكرامتهن على اللّه عز و جل وحماية من أن يحوم حوله أحد بسور حتى أن ابن عباس رضي اللّه عنهما جعله أغلظ من سائر أفراد الكفر حين سئل عن هذه الآيات فقال من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة رضي اللّه عنها وهل هو منه رضي اللّه عنه إلا لتهويل أمر الإفك والتنبيه على أن كفر غليظ

لعنوا بما قالوه في حقهن

في الدنيا والآخرة حيث يلعنهم اللاعنون من المؤمنين والملائكة أبدا

ولهم مع ما ذكر من اللعن الأبدي

عذاب عظيم هائل لا يقادر قدره لغاية عظم ما اقترفوه من الجناية وقوله تعالى

٢٤

يوم تشهد عليهم الخ أما متصل بما قبله مسوق لتقرير العذاب المذكور بتعيين وقت حلوله وتهويله ببيان ظهور جناياتهم الموجبة له مع سائر جناياتهم المستتبعة لعقوباتها على كيفية هائلة وهيئة خارقة للعادات فيوم ظرف لما في الجار والمجرور المتقدم من معنى الاستقرار لا لعذاب وإن أغضبنا عن وصفة لإخلاله بجزالة المعنى

وأما منقطع عنه مسوق لتهويل اليوم ما يحويه على أنه ظرف لفعل مؤخر قد ضرب عنه الذكر صفحا للإيذان بقصور العبارة عن تفصيل ما يفع فيه من الطامة التامة والداهية العامة كأنه قي قبل يوم تشهد عليكم

ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يكون من الأحوال والأهوال مالا يحيط به حيطةالمقال على أن الموصول المذكور عبارة عن جميع أعمالهم السيئة وجناياتهم القبيحة لا عن جناياتهم المعهودة فقط ومعنى شهادة الجوارح المذكورة بها أنه تعالى ينطقها بقدرته فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من أفاعيل صاحبها لا أن كلا منها يخبر بجناياتهم المعهودة فحسب والموصول والمحذوف عبارة عنها وعن فنون العقوبات المترتبة عليها كافة لا عن إحداهما خاصة ففيه من ضروب التهويل وبالإجمال والتفصيل ما لا مزيد عليه وجعل الموصول المذكور عبارة عن خصوص جناياتهم المعهودة وحمل شهادة الجوارح على إخبار الكل بها فقط تحجير للواسع وتهوين لأمر الوازع والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم عليها في الدنيا وتقديم عليهم على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون الشهادة ضارة لهم مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر كما مر مرارا وقوله تعالى

٢٥

يومئذ يوفيهم اللّه دينهم الحق أي يوم إذ تشهد جوارحهم بأعمالهم القبيحة يطيعهم اللّه تعالى جزاءهم الثابت الذي يحقق أن يثبت لهم لا محالة وافيا كاملا كلام مبتدأ مسوق لبيان ترتيب حكم الشهادة عليها متض لبيان ذلك لمبهم المحذوف على وجه الإجمال ويجوز أن يكون يوم يشهد ظرفا ليوفيهم ويومئذ بدلا منه

وقيل هو منصوب على أنه مفعول لفعل مضمر أي اذكر يوم تشهد بالتذكير للفصل

ويعملون عند معاينتهم الأهوال والخطوب حسبما نطق به القرآن الكريم

أن اللّه هو الحق الثابت الذي يحق أن يثبت لا محالة في ذاته وصفا وأفعاله التي من جملتها كلماتها التامات المنبئة عن الشئون التي يشاهدونها منطبقة عليها

المبين المظهر للأشياء كما هي في أنفسها أو الظاهر أنه هو الحق وتفسيره بظهور ألوهيته تعالى وعدم مشاركة الغير له فيها وعدم قدرة ما سواه على الثواب والعقاب ليس له كثير مناسبة للمقام كما أن تفسير الحق بذي الحق البين أي العادل الظاهر عدله كذلك ولو تتبعت ما في الفرقان المجيد من آيات الوعيد الواردة حق كل كفار مريد وجبار عنيد لا تجد شيئا منها فوق هانيك القوارع المشحونة بفنون التهديد والتشديد وما ذاك إلا لإظهار منزلة النبي صلى اللّه عليه و سلم في علو الشأن والنباهة وإبراز رتبة الصديقة رضي اللّه عنها في العفة والنزاهة وقوله تعالى الخبيثات الخ كلام مستأنف مسوق على قاعدة السنة الإلهية الجارية فيما بين الخلق على موجب أن للّه تعالى ملكا يسوق الأهل إلى الأهل أي

٢٦

الخبيثات من النساء

للخبيثين من الرجال أي مختصات بهم لا يكدن يتجاوزنهم إلى غيرهم على أن اللام للاختصاص

والخبيثون أيضا

للخبيثات لأن المجانسة من دواعي الانضمام

والطيبات منهن

للطيبين أيضا منهم

و الطيبون للطيبات منهن بحيث لا يك يجاوزوهن إلى من عداهن وحيث كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أطيب الأطيبين وخيرة الأولين والآخرين تبين كون الصديقة رضي اللّه عنها من أطيب الطيبات بالضرورة واتضح بطلان ما قيل في حقها من الخرافات حسبما نطق به قوله تعالى و

أولئك مبرءون مما يقولون عل أن الإشارة إلى أهل البيت المنتظمين للصديقة انتظاما أوليا

وقيل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم والصديقة وصفوان وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان بعلو رتبة المشار إليهم وبعد منزلتهم في الفضل أي أولئك الموصوفون بعلو الشأن مبرءون مما نقوله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة

وقيل الخبيثات من القول للخبثين من الرجال والنساء أي مختصة ولائقة بهم لا ينبغي أن تقال في حق غيرهم وكذا الخبيثون من الفريقين أحفاء بأن يقال في حقهم خبائث القول والطيبات من الكلم للطيبين من الفريقين مختصة وحقيقة بهم وهم أحفاء بأن يقال في شأنهم طيبات الكلم أولئك الطيبون مبرءون مما يقول الخبيثون في حقهم فمآله تنزيه الصديقة أيضا

وقيل خبيثات القول مختصة بالخبيثين من فريقي الرجال والنساء لا تصدر عن غيرهم والخبيثون من الفريقين مختصون بخبائث القول متعرضون لها والطيبات من الكلام للطيبين من الفريقين أي مختصة بهم لا تصدر عن غيرهم والطيبون من الفريقين مختصون بطيبات الكلام لا يصدر عنهم غيرها أولئك الطيبون مبرءون مما يقوله الخبيثون من الخبائث أي لا يصدر عنهم مثل ذلك فمآله تنزيه القائلين سبحانك هذا بهتان عظيم

لهم مغفرة عظيمة لما لا يخلو عنه البشر من الذنوب

ورزق كريم هو الجنة

٢٧

يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم إثر ما فصل عن الزنا وعن رمي العفائف عنه شرع في تفصيل الزواجر عما عسى يؤدي إلى أحدهما من مخالطة الرجال والنساء ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات وتعليم الآداب الجميلة والأفاعيل المرضية المستتبعة لسعادة الدارين ووصف البيوت بمغايرة بيوتهم خارج مخرج العادة التي هي سكنى كل أحد في ملكه وإلا فالمآجر والمعير أيضا منهيان عن الدخول بغير إذن وقرئ بيوتا غير بيوتكم بكسر الباء لأجل الياء

حتى تستأنسوا أي تستأذنوا من يملك الإذن من أصحابها من الاستئناس بمعنى الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره فإن المستأنس مستعلم للحال مستكشف أنه هل يؤذن له أو من الستئساس الذي هو خلاف الاستيحاش لما أن المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا أذن له استأنس

وتسلموا على أهلها عند الاستئذان روي عن النبي صلى اللّه عليه و سلم أن التسليم أن يقول السلام عليكم أ أدخل ثلاث مرات فإن أذن له دخل وإلا رجع

ذلكم أي الاستئذان مع التسليم

خير لكم من أن تدخلوا بغتة أو على تحية الجاهلية حيث كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتا غير بيته يقول حييتم صباحا حييتم مساء فيدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف وروي أن رجلا قال للنبي صلى اللّه عليه و سلم أستأذن على أمي قال له نعم قال ليس لها خادم غيري أ أستأذن عليها كما دخلت قال صلى اللّه عليه و سلم أتحب أن تراها عريانة قال لا قال صلى اللّه عليه و سلم فاستأذن

لعلكم تذكرون متعلق بمضمر أي أمرتم به أو قيل لكم هذا كي تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بموجبه

٢٨

فإن لم تجدوا فيها أحدا أي ممن يملك الإذن على أن من لا يملكه من النساء والولدان وجدانه كفقدانه أو أحدا أصلا على أن مدلول النص الكريم عبارة هو النهي عن دخول البيوت الخالية لما فيه من الاطلاع على ما يعتاد الناس إخفاءه مع أن التصرف في ملك الغير محظور وطلقا

وأما حرمة دخول ما فيه النساء والولدان فثابتة بدلالة النص لأن الدخول حيث حرم مع ما ذكر من العلة فلأن يحرم عند انضمام ما هو أقوى منه إليه أعنى الإطلاع على العورات أولى

فلا تدخلوها واصبروا

حتى يؤذن لكم أي من جهة من يملك الإذن عند إتيانه ومن فسره بقوله حتى يأتي من بأذن لكم أو

حتى تجدوا من

يأذن لكم أو حتى تجدوا من يأذن لكم فقد أبرز القطعي في معرض الاحتمال ولما كان جعل النهي مغيا بالإذن مما يوهم الرخصة في الانتظار على الأبواب مطلقا بل في تكرير الاستئذان ولو بعد الرد ذلك بقوله

وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا أي إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع سواء كان الأمر ممن يملك الإذن أولا فارجعوا ولا تلحوا بتكرير الاستئذان كما في الوجه الأول ولا تلجوا بالإصرار على الانتظار إلى أن يأتي الآذن كما في الثاني فإن ذلك مما يجلب الكراهة في قلوب الناس ويقدح في المروءة أي قدح

هو أي الرجوع

أزكى لكم أي أظهر مما لا يخلوا عنه اللج والعناد والوقوف على الأبواب من دنس الدناءة والرذالة

واللّه بما تعملون عليم فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلفتموه فيجازيكم عليه

٢٩

ليس عليكم جناح أن تدخلوا أي بغير استئذان

بيوتا غير مسكونة أي غير موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة فقط بل ليتمتع بها من يضطر إليها كائنا من كان من غير أن يتخذها سكنا كالربط والخانات والحوانيت والحمامات ونحوها فإنها معدة لمصالح الناس كافة كما ينبئ عنه قوله تعالى

فيها متاع لكم فإنه صفة للبيوت أو استئناف جار مجرى التعليل لعدم الجناح أي فيها حق تمتع لكم كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والرجال والشراء والبيع والاغتسال وغير ذلك مما يليق بحال البيوت وداخليها فلا بأس بدخولها بغير استئذان من داخليها من قبل ولا ممن بعد يتولىأمرها ويقوم بتدبيرها من قوأم الرباطات والخانات وأصحاب الحوانيت ومتصر في الحمامات ونحوهم ويروى أن أبا بكر رضي اللّه عنه قال يا رسول اللّه إن اللّه تعالى قد أنزل عليك آية في الاستئذان وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلابإذن فنزلت

وقيل هي الخربات يتبرز فيها والمتاع التبرز والظاهر أنها من جملة ما ينتظمه البيوت لا أنها المرادة فقط وقوله تعالى

واللّه يعلم ما تبدون وما تكتمون وعيدا لمن يدخل مدخلا من هذه المداخل لفساد أو اطلاع على عورات

٣٠

قل للمؤمنين شروع في بيان أحكام كلية شاملة للمؤمنين كافة يندرج فيها حكم المستأذنين عند خولهم البيوت اندراجا أوليا وتلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وتفويض ما في حيزه من الأوأمر والنواهي إلى رأيه صلى اللّه عليه و سلم لأنها تكاليف متعلقة بأمور جزئية كثيرة الوقوع حقيقة بأن يكون الأمر بهار المتصدي لتدبيرها حافظا ومهيمنا عليهم ومفعول الأمر أمر آخر قد حذف تعويلا على دلالة جوابه عليه أي قل لهم غضوا

يغضوا من أبصارهم عما يحرم ويقتصر به على ما يحل

ويحفظوا فروجهم إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم وتقييد الغض بمن التبعيضية دون الحفظ لما في أمر النظر من السعة وقيل المراد بالحفظ ههنا خاصة هو الستر

ذلك أي ما ذكر من الغض والحفظ

أزكى لهم أي طهر لهم من دنس الريبة

إن اللّه خبير بما يصنعون لا يخفى عليه شيء مما يصدر عنهم من الأفاعيل التي من جملتها جالة النظر واستعمال سائر الحواس وتحريك الجوارح وما يقصدون بذلك فليكونوا على حذر منه في كل ما يأتون وما يذرون

٣١

وقل للمؤمنات أن يغضضن من أبصارهن فلا ينظرون إلى ما لا يحل لهن النظر إليه

ويحفظن فروجهن بالتستر أو التصون عن الزنا وتقديم الغض لأن النظر يريد الزنا ورائد الفساد

ولا يبدين زينتهن كالحلى وغيرها مما يتزين به وفيه من المبالغة في النهي عن إبداء مواضعها ما لا يخفى

إلا مظهر منها عند مزوالة الأمور التي لا بد منها عادة كالخاتم والكحل والخضاب ونحوها فإن في سترها حرجا بيننا

وقيل المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينة والمستثنى هو الوجه والكفان لأنها ليست بعورة

وليضربن بخمرهن على جيوبهن إرشاد إلى كيفية إخفاء بعض مواضع الزينة بعد النهي عن إبدائها وقد كانت النساء على عادة الجاهلية يسدلن خمرهن من خلفهن فتبدو نحو رهن وقلائدهن من جيوبهن لوسعها فأمرن بإرسال خمرهن إلى جيوبهن سترا لما يبدو منها وقد ضمن الضرب معنى الإلقاء فعلى بعدى وقرىء بكسر الجيم كما تقدم

ولا يبدين زينتهن كرر النهي لاستثناء بعض مواد الرخصة عنه باعتبار الناظر بعدما استثنى عنه بعض مواد الضرورة باعتبار المنظور

إلا لبعولهن فإنهم المقصودون بالزينة ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الموضع المعهود

أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو أخواتهن لكثرة المخالطة الضرورية بينهم وبينهن وقلة توقع الفتنة من قبلهم لما في الطباع الفريقين من النفرة عن الماسة القرائب و لهم ان ينظروا منهن ما عند المهنة و الخدمة و عدم ذكر وعدم ذكر الأعمام والأخوال لما أن الأحوط أن يتسترن عنهم حذرا أن يصفوهن لأبنائهم أو نسائهم المختصات بهن بالصحبة والخدمة من حرائر المؤمنات فإن الكوافر لا يتحرجن عن وصفهن للرجال

أو ما ملكت أيمانهم أي من الإماء فإن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها

وقيل من الإماء والعبيد لما روى أنه صلى اللّه عليه و سلم أتى فاطمة رضي اللّه عنها بعبد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فقال صلى اللّه عليه و سلم إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك

أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال أي أولى الحاجة إلى النساء وهم شيوخ الهم والممسوحون في المحبوب والخصى خلاف

وقيل هم البلةالذين يتتبعون الناس لفضل طعامهم ولا يعرفون شيئا من أمور النساء وقرىء غير بالنصب على الحالية

أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء لعدم تمييزهم من الظهور بمعنىالإطلاع أو لعدم بلوغهم حد الشهوة من الظهور بمعنى الغلبة والطفل جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين أي ما يخفينه من الرؤية من زينتهن أي

ولا يضربن بأرجلهن الأرض ليتقعقع خلخالهن فليعلم أنهن ذوات خلخال فإن ذلك مما يورث الرجال ميلا إليهن ويوهم أن لهن ميلا إليهم و في النهى عن إبداء صوت الحلى بعد النهى عن إبداء عينها من المبالغة في الزجر عن إبداء موضعها مالا يخفى

وتوبوا إلى اللّه جميعا تلوين للخطاب وصرف له عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم إلى الكل بطريق التغليب لإبراز كمال العناية بما في حيزه من أمر التوبة وأنها من معظمات المهمات الحقيقة بأن يكون سبحانه وتعالى هو الآمر بها لما أنه لا يكاد يخلوا أحد من المكلفين عن نوع تفريط في إقامة مواجب التكاليف كما ينبغي وناهيك يقول رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم شيبتني سورة هود لما فيها من قوله عز و جل فاستقم كما أمرت لا سيما إذا كان المأمور به الكف عن الشهوات

وقيل توبوا عما كنتم تفعلونه في الجاهلية فإنه إن وجب بالإسلام لكن يجب الندم عليه والعزم على تركه كلما خطر بباله وفي تكرير الخطاب بقوله تعالى أيها المؤمنين تأكيد للإيجاب وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال حتما وقرئ أيه

المؤمنون لعلكم تفلحون تفوزون بذلك بسعادة الدارين

٣٢

وأنكحوا الأيامي منكم بعد ما زجر تعالى عن السفاح وماديه القريبة والبعيدة أمر بالنكاح فإنه مع كونه مقصودا بالذات من حيث كونه مناطا لبقاء النوع خير مزجرة عن ذلك و أيامي مقلوب أيا يم جمع أيم وهو من لا زوج له من الرجال والنساء بكرا كان أو ثيبا كما يفصح من قال

... فإن تنكحى أنكح وإن تتأيمى ... وإن كنت أفتى منكم أتأيم ...

أي زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر

والصالحين من عبادكم وأمائكم على أن الخطاب للأولياء والسادات واعتبار الصلاح في الأرقاء لأن من لا صلاح له منهم بمعزل من أن يكون خليفا بأن يعتني مولاه بشأنه ويشق عليه ويتكلف في نظم مصالحه بما لا بد منه شرعا وعادة من بذل المال والمنافع بل حقه أن يستبقيه عنده

وأما عدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر فلأن الغالب فيهم الصلاح على أنهم مستبدون في التصرفات المتعلقة بأنفسهم وأموالهم فإذا عزموا النكاح فلا بد من مساعدة الأولياء لهم إذ ليس عليهم في ذلك غرامة حتى يعتبر في مقابلتها غنيمة عائدة إليهم عاجلة أو آجلة

وقيل المراد هو الصلاح للنكاح والقيام بحقوقه

إن يكونوا فقراء يغنهم اللّه من فضله إزاحة لما عسى يكون وازعا من النكاح من فقر أحد الجانبين أي لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة فإن في فضل اللّه عز و جل غنية عن المال فإنه فقر أحد غادروائح يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب أو وعد منه سبحانه بالإغناء لقوله صلى اللّه عليه و سلم اطلبوا الغنى في هذه الآية لكنه مشروط بالمشيئة كما في قوله تعالى وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم اللّه من فضله إن شاء اللّه

واللّه واسع غنى ذو سعة لا يرزؤه إغناء الخلائق إذا لا نفاد لنعمته ولا غاية لقدرته مع ذلك

عليم يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر حسبما تقضيه الحكمة والمصلحة

٣٣

وليستعفف إرشاد للعاجزين عن مبادى النكاح وأسبابها إلى ما هو أولى لهم وأحرى بهم بعد بيان جواز منا كحة الفقراء أي ليجتهد في العفة وقمع شهوة

الذين لا يجدون نكاحا أي أسباب نكاح أولا يتمكنون مما ينكح به من المال

حتى يغنيهم اللّه من فضله عدة كريمة بالتفضل عليه بالغنى ولطف لهم في استعفافهم وتقوية لقلوبهم وإيذان بأن فضله تعالى أولى بالأعفاء وأدنى من الصلحاء والذين

يبتغون الكتاب بعد ما أمر بإنكاح صالحي المماليك الأحقاء بالإنكاح أمر بكتابة من ستحقها منهم والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة أي الذين يطلبون المكاتبة

مما ملكت أيمانهم عبدا كان أو أمة وهي أن يقول المولى لمملوكه كاتبتك على كذا درهما تؤديه إلى وتعتق ويقول المملوك قبلته أو نحو ذلك فإن أداه إليه عتق قالوا معناه وكتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت على العتق عنده والتحقيق أن المكاتبة اسم للعقد الحاصل من مجموع كلاميهما كسائر العقود الشرعية المنعقدة بالإيجاب والقبول ولا ريب في أن ذلك لا يصدر حقيقة إلا من المتعاقدين وليس وظيفة كل منهما في الحقيقة إلا الإتيان بأحد شطريه معربا عما يتم من قبله ويصدر عنه من الفعل الخاص به من غير تعرض لما يتم من قبل صاحبه ويصدر عنه من فعله الخاص به إلا أن كلا من ذينك الفعلين لما كان بحيث لا يمكن تحققه في نفسه إلا منوطا بتحقق الآخر ضرورة أن التزام العتق بمقابلة البدل من جهة المولى لا يتصور تحققه إلا بالتزام البدل من طرف العبد كما أن عقد البيع الذى هو تمليك المبيع بالثمن من جهة البائع لا يمكن تحققه بتملكه به من جانب المشتري لم يكن بدمن تضمين أحدهما الآخر وقت الإنشاء فكما أن قول البائع بعت إنشاء لعقد البيع على معنى أنه إيقاع لما يتم من قبله أصالة ولما يتم من قبل المشتري ضمنا إيقاعا متوقفا على رأيه توقفا شبيها بتوقف عقد الفضولي كذلك قول المولى كاتبتك على كذا إنشاء لعقد الكتابة أي إيقاع لما يتم من قبله من التزام العتق بمقابلة البدل أصالة ولما يتم من قبل العبد من التزام البدل ضمنا إيقاعا متوقفا على قبوله فإذا قبل تم العقد ومحل الموصول الرفع على الابتداء خبره

فكاتبوهم والفاء لتضمنه معنى الشرط أو النصب على أنه مفعول لمضمر يفسره هذا والأمر فيه للندب لأن الكتابة عقد يتضمن الإرفاق فلا تجب كغيرها ويجوز حالا ومؤجلا ومنجما وغير منجم وعند الشافعي رحمه اللّه لا يجوز إلا مؤجلا منهما وقد فصل في موضعه

إن علمتم خيرا أي أمانة ورشدا وقدرة على أداء البدل بتحصيله من وجه حلال وصلاحها لا يؤذي الناس بعد العتق وإطلاق العنان

وآتوهم من مال اللّه الذي آتاكم أمر للوالي ببذل شيء من أموالهم وفي حكمه حط شيء

من مال الكتابة ويكفي في ذلك أقل ما يتمول وعن علي رضي اللّه عنه حط الربع وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما الثلث وهو للندب عندنا وعند الشافعي للوجوب ويرده قوله صلى اللّه عليه و سلم المكاتب عبد ما بقي عليه درهم إذا لو وجب الحط لسقط عنه الباقي حتما وأيضا لو وجب الحط لكان وجوبه معلقا بالعقد فيكون العقد موجبا ومسقطا معا وأيضا فهو عقد معاوضة فلا يجبر على الحطيطة كالبيع

وقيل معنى آتوهم أقرضوهم

وقيل هو أمر لهم بان ينفقوا عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا وإضافة المال إليه تعالى ووصفه بإينائه إياهم للحث على الامتثال بالأمر بتحقيق المأمور به كما في قوله تعالى وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فإن ملاحظة وصول المال إليهم من جهته تعالى مع كونه هو المالك الحقيقي له من أقوى الدواعي إلى صرفه إلى الجهة المأمور بها

وقيل هو أمر بإعطاء سهمهم من الصدقات فالأمر للوجوب حتما والإضافة والوصف لتعيين المأخذ

وقيل هو أمر ندب لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم ويحل ذلك للمولى وإن كان غنيا لتبدل العنوان حسبما ينطق به قوله صلى اللّه عليه و سلم في حديث بريرة هو لها صدقة ولنا هدية

ولا تكرهوا فتياتكم أي إماءكم فإن كلا من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة وعلى ذلك مبنى قوله صلى اللّه عليه و سلم ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي لهذه العبارة في هذا المقام باعتبار مفهومها الأصلي حسن موقع ومزيد مناسبة لقوله تعالى

على البغاء وهو الزنا من حيث صدوره عن النساء لأنهن اللاتي يتوقع منهن ذلك غالبا دون من عداهن من العجائز والصغائر وقوله تعالى

إن أردن تحصنا ليس لتخصيص النهى بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا وإخراج ما عداها من حكمه كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهن الزنا لخصوص الزاني أو لخصوص الزمان أو لخصوص المكان أو لغير ذلك من الأمور المصححة للإكراه في الجملة بل للمحافظة على عادتهم المستمرة حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور وقصورهن في معرفة الأمور الداعية إلى المحاسن الزاجرة عن تعاطي القبائح فإن عبد اللّه بن أبى كانت له ست جوار يكرهن على الزنا وضرب عليهن ضرائب فشكت اثنتان منهن إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فنزلت وفيه من زيادة تقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا عليه من القبائح ما لا يخفى فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه حرمه من إمائه فضلا عن أمرهن به أو إكراهن عليه لا سيما إرادتهن التعفف فتأمل ودع عنك ما قيل من أن ذلك لأن الإكراه لا يتأتي إلا مع إرادة التحصن وما قيل من أنه إن جعل شرطا للنهى لا يلزم من عدمه جواز الإكراه لجواز أن يكون ارتفاع ئالنهى لامتناع المنهى عنه فإنهما بمعزل من التحقيق وإيثار كلمة إن على إذا مع تحقق الإرادة في مورد النص حتما للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع وتعليله بأن الإرادة المذكورة منهن في حيز الشاذ النادر مع خلوه عن الجدوى بالكلية يأباه اعتبار تحققها إباء ظاهرا تعالى

لتبتغوا عرض الحياة الدنيا قيد للإكراه لكن لا باعتبار أنه مدار النهى عنه بأعتبار أنه المعتاد فيما بينهم كما قبله لهم فيما هم عليه من احتمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير أي لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال الوشيك الاضمحلال فالمراد بالابتغاء الطلب المقارن لنيل المطلوب واستيفائه بالفعل إذ هو الصالح لكونه غاية للإكراه مترتبا عليه لا المطلق المتناول للطلب السابق الباعث عليه ومن يكرههن الخ جملة مستأنفة سيقت لتقرير النهى وتأكيد وجوب العمل به ببيان خلاص المكروهات عن عقوبة المكره عليه عبارة ورجوع غائلة الإكراه إلى المكرهين إشارة أي ومن يكرهن على ما ذكر من البغاء

فإن اللّه من بعد إكراههن غفور رحيم أي لهن كما وقع في مصحف ابن مسعود عليه قراءة ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهم وكما ينبئ عنه قوله تعالى من بعد إكراههن أي كونهن مكرهات على أن الإكراه مصدر من المبنى للمفعول فإن توسيطه بين اسم إن وخبرها للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة وكان الحسن البصري رحمه اللّه إذا قرأ هذه الآية يقول لهن واللّه لهن واللّه في تخصيصها بهن وتعيين مدارهما مع سبق ذكر المكرهين أيضا في الشرطية دلالة بينة على كونهم محرومين منهما بالكلية كأنه قيل لا للمكروه ولظهوره هذا التقدير اكتفى به عن العائد إلى اسم الشرط فتجويز تعلقها بهم بشرط التوبة استقلالا أو معهن إخلال بجزالة النظم الجليل وتهوين لأمر النهى في مقام التهويل وحاجتهن إلى المغفرة المتنبئة عن سابقة الإثم إما باعتبار أنهن وإن كن مكروهات لا يخلون في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة ما بحكم الجبلة البشرية

وأما باعتبار أن الإكراه قد يكون قاصرا عن حد الالجاء المزيل للاختيار بالمرة

وأما لغاية تهويل أمر الزنا وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه والتشديد في تحذير المكرهين ببيان أنهن حيث كن عرضة للعقوبة لولا أن تداركهن المغفرة والرحمة مع قيام العذر في حقهن فما حال من يكرهن في استحقاق العذاب

٣٤

ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات كلام مستأنف جيء به في تضاعيف ما ورد من الآيات السابقة واللاحقة لبيان جلالة شئونها المستوجبة للإقبال الكلي على العمل بمضمونها وصدر بالقسم الذي تعرب عنه اللام لإبراز كمال العناية بشأنه أي وباللّه لقد أنزلنا إليكم هذه السورة الكريمة آيات مبينات لكل ما بكم حاجة إلى بيانه من الحدود وسائر الأحكام والأداب وغير ذلك مما هو من مبادئ بيانها على أن إسناد التبيين إليها مجازي أو آيات واضحات تصدقها الكتب القديمة والعقول السليمة على أن مبينات من بين بمعنى تبين ومنه المثل قد بين الصبح لذي عينين وقرئ على صيغة التي بينت وأوضحت في هذه السورة من معاني الأحكام والحدود وقد جوز أن يكون الأصل مبينا فيها الأحكام فانسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول ومثلا من الذين خلوا من قبلكم عطف على آيات أي وأنزلنا مثلا كائنا من قبيل أمثال الذين مضوا من قبلكم من القصص العجيبة والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء عليهم السلام فينتظم قصة عائشة رضي اللّه عنها المحاكية لقصة يوسف عليه السلام وقصة مريم رضي اللّه عنها وسائر الأمثال الواردة في السورة الكريمة انتظاما واضحا وتخصيص الآيات المبينات بالسوابق وحمل المثل على القصة العجيبة فقط يأباه تعقيب الكلام بما سيأتي من التمثيلات وموعظة تتعظون به وتنزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات وسائر ما يخل بمحاسن الآداب فهي عبارة عما سبق من الآيات والمثل لظهور كونها من المواعظ بالمعنى المذكور ومدار العطف هو التغاير العنواني المنزل منزلة التغاير الذاتي وقد خصت الآيات بما يبين الحدود والأحكام والموعظة بما وعظ به من قوله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين اللّه وقوله تعالى لولا إذ سمعتموه وغير ذلك من الآيات الواردة في شأن الآداب وإنما قيل

للمتقين مع شمول الموعظة للكل حسب شمول الإنزال لقوله تعالى أنزلنا إليكم حثا للخاطبين على الاعتناء بالانتظام في سلك المتقين ببيان أنهم المغتنمون لآثارها المقتبسون من أنوارها فحسب

وقيل المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة جميع ما في القرآن المجيد من الآيات والأمثال والمواعظ فقوله تعالى

٣٥

اللّه نور السنوات والأرض الخ حينئذ استئناف مسوق لتقرير ما فيها من البيان مع الإشعار بكونه في غاية الكمال على الوجه الذي ستعرفه

وأما على الأول فلتحقيق أن بيانه تعالى ليس مقصورا على ما ورد في السورة الكريمة بل هو شامل لكل ما يحق بيانه من الأحكام والشرائع ومباديها وغاياتها المترتبة عليها في الدنيا والآخرة وغير ذلك مما له مدخل في البيان وأنه واقع منه تعالى على أتم الوجوه وأكملها حيث عبر عنه بالتنوير الذي هو أقوى مراتب البيان وأجلاها وعبر عن المنور بنفس النور تنبيها على قوة التنوير وشدة التأثير وإيذانا بأنه تعالى ظاهر بذاته وكل ما سواه ظاهر بإظهاره كما أن النور نير بذاته وما عداه مستنير به وأضيف النور إلى السموات والأرض للدلالة على كمال شيوع البيان المستعار له وغاية شموله لكل ما يليق به من الأمور التي لها مدخل في إرشاد الناس بوساطة بيان شمول المستعار منه لجميع ما يقبله ويستحقه من الأجرام العلوية والسفلية فإنهما قطران للعالم الجسماني الذي لا مظهر للنور الحسى سواه أو على شمول البيان لأحوالهما وأحوال ما فيهما من الموجودات إذ ما من موجود إلا وقد بين من أحواله ما يستحق البيان إما تفصيلا أو إجمالا كيف لا ولا ريب في بيان كونه دليلا على وجود الصانع وصفاته وشاهدا بصحة البعث أو على تعلق البيان بأهلهما كما قال ابن عباس رضي اللّه عنهما هادي أهل السماوات و الأرض فهم بنوره يهتدون و بهداه من حيرة الضلالة ينجون هذا و أما حمل التنوير على إخراجه تعالى للماهيات من العدم إلى الوجود إذ هو الأصل في الإظهار كما أن الإعدام هو الأصل في الإخفاء أو على تزيين السموات بالنيرين وسائر الكواكب وما يفيض منها من الأنوار أو بالملائكة عليهم السلام وتزيين الأرض بالأنبياء عليهم السلام والعلماء والمؤمنين أو بالنبات والأشجار أو على تدبيره تعالى لأمورهما وأمور ما فيهما فمما لا يلائم المقام ولا يساعد حسن النظام مثل نوره أي نوره الفائض منه تعالى على الأشياء المستنيرة به وهو القرآن المبين كما يعرب عنه ما قبله من وصف آياته بالإنزال والتبيين وقد صرح بكونه نورا أيضا في قوله تعالى وأنزلنا إليكم نورا مبينا وبه قال ابن عباس رضي اللّه عنهما والحسن وزيد

ابن أسلم رحمهم اللّه تعالى وجعله عبارة عن الحق وإن شاع استعارته له كا ستعارة الظلمة للباطل يأباه مقام بيان شأن الآيات ووصفها بما ذكر من التبيين مع عدم سبق ذكر الحق ولأن المعتبر في مفهوم النور هو الظهور والإظهار كما هو شأن القرآن الكريم

وأما الحق فالمعتبر في مفهومه من حيث هو حق هو الظهور لا الإظهار والمراد بالمثل الصفة العجيبة أي صفة

نوره العجيبة

كمشكاة أي كصفة كوة نافذة في الجدار في الإنارة والتنوير

فيها مصباح سراج ضخم ثاقب وقيل المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل

والمصباح الفتيلة المشتعلة المصباح

في زجاجة أي قنديل من الزجاج الصافي الأزهر وقرئ بفتح الزاى وكسرها في الموضعين

الزجاجة كأنها كوكب درى متلألئ وقاد شبيه بالدر في صفائه وزهرته ودرارى الكواكب عظامها المشهورة وقرئ درئ بدال مكسورة وراء مشددة وياء ممدودة بعدها همزة على أنه فعيل من الدرء وهو الدفع أي مبالغ في دفع الظلام بضوئه أو في دفع بعض أجزاء ضيائه لبعض عند البريق واللمعان وقرئ بضم الدال والباقي على حاله وفي إعادة المصباح والزجاجة معرفين إثر سبقهما منكرين والإخبار عنهما بما بعدهما مع انتظام الكلام بأن يقال كمشكاة فيها مصباح في زجاجة كأنها كوكب درى من تفخيم شأنهما ورفع مكانهما بالتفسير إثر الإبهام والتفصيل بعد الإجمال وبإثبات ما بعدهما لهما بطريق الإخبار المنبئ عن القصد الأصلي دون الوصف المبني على الإشارة إلى الثبوت في الجملة ما لا يخفي ومحل الجملة الأولى الرفع على أنها صفة لمصباح ومحل الثانية الجر على أنها صفة لزجاجة و اللام مغنية عن الرابط كأنه قيل فيها لمصباح الجر على أنها صفة لزجاجة واللام مغنية عن الرابط كأنه قيل فيها مصباح هو في زجاجة هي كأنها كوكب درى

يوقد من الشجرة أي يبتدأ إيقاد المصباح من شجرة

مباركة أي كثيرة المنافع بأن رويت ذبالته بزيتها

وقيل إنما وصفت بالبركة لأنها تنبت في الأرض التي بارك اللّه تعالى فيها للعالمين

زيتونة بدل من شجرة وفي إبهامها ووصفها بالبركة ثم الإبدال منها تفخيم لشأنها وقرئ توقد بالناء على أن الضمير القائم مقام الفاعل للزجاجة دون المصباح وقرئ توقد على صيغة الماضي من التفعل أي ابتداء ثقوب المصباح منها وقرئ توقد بحذف إحدى التاءين من تتوقد على إسناده إلى الزجاجة

لا شرقية ولا غربية تقع الشمس عليها حينا دون حين بل بحيث تقع عليها طول النهار كالتي على قلة أو صحراء واسعة فتقع الشمس عليها حالتي الطلوع والغروب وهذا قول ابن عباس رضي اللّه عنهما وسعيد بن جبير وقتادة وقال الفراء والزجاج لا شرقية وحدها ولا غربية وحدها لكنها شرقية وغربية أي تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها فتكون شرقية وغربية تأخذ حظها من الأمرين

فيكون زيتها أضوأ

وقيل لا ثابتة في شرق المعمورة ولا في غربها بل في وسطها وهو الشأم فإن زيوتها أجود ما يكون

وقيل لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها ولا في مقنأة نغيب عنها دائما فتتركها نيأ وفي الحديث لا خير في شجرة ولا في نبات في مقنأة ولا خير فيهما في مضحى يكاد زيتها

يضيء ولو لم تمسسه نار أي هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضيء بنفسه من غير مساس نار أصلا وكلمة في أمثال هذه المواقع ليست لبيان انتفاء شيء في الزمان الماضي لانتفاء غيره فيه فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ثقة بدلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصد إلى بيان الإعراب على القواعد الصناعية بل هي لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم الموجب أو المنفى كلما كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له إجمالا بإدخالها على أبعدها منه إما لوجود المانع كما في قوله تعالى أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة

وأما لعدم الشرط كما في هذه الآية الكريمة ليظهر بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو انتفاؤه مع عداه من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشيء متى تحقق مع ما ينافيه من وجود المانع أو عدم الشرط فلأن يتحقق بدون ذلك أولى ولذلك لا يذكر معه شيء آخر من سائر الأحوال ويكتفي عنه بذكر الواو العاطفة للجملة عل نظيرتها المقابلة لها المتناولة لجميع الأحوال المغايرة لها عند تعددها وهذا معنى قولهم إنها لاستقصاء الأحوال على سبيل الإجمال وهذا أمر مطرد في الخبر الموجب والمنفي فإنك إذا قلت فلان جواد يعطي ولو كان فقيرا أو بخيل لا يعطي ولو كان غنيا تريد بيان تحقق الإعطاء في الأول وعدم تحققه في الثاني في جميع الأحوال المفروضة والتقدير يعطى لو لم يكن فقيرا ولو كان فقيرا ولا يعطى لو لم يكن غنيا ولو كان غنيا فالجملة مع ما عطفت هي عليه في حيز النصب على الحالية من المستكن في الفعل الموجب أو المنفي أي يعطى أولا يعطى كائنا على جميع الأحوال وتقدير الآية الكريمة يكاد زيتها يضيء لو مسته نار ولو لم تمسه نار أي يضيء كائنا على كل حال من وجود الشرط وعدمه وقد حذفت الجملة الأولى حسبما هو المطرد في الباب لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة

نور خبر مبتدأ محذوف وقوله تعالى

على نور متعلق بمحذوف هو صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة والجملة فذلكة للتمثيل وتصريح بما حصل منه وتمهيد لما يعقبه أي ذلك النور الذى عبر به عن القرآن ومثلت صفته العجيبة الشأن بما فصل من صفة المشكاة نور عظيم كائن على نور كذلك لا

على أنه عبارة عن

نور واجد معين أو غير معين فوق نور آخر مثله ولا عن مجموع نورين اثنين فقط بل عن نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه بحد معين وتحديد مراتب تضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر لكونه أقصى مراتب تضاعفه عادة فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره بسبب انضمام الشعاع المنعكس منه إلى أصل الشعاع بخلاف المكان المتسع فإن الضوء ينبث فيه وينتشر والقنديل أعون شيء على الزيادة الإنارة و كذلك الزي وصفاؤه وليس وراء هذه المراتب مما يزيد نورها إشراقا ويمده بإضاءة مرتبة أخرى عادة هذا وجعل النور عبارة عن النور المشبه به مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل

يهدي اللّه لنوره أي يهدي هداية خاصة موصلة إلى المطلوب حتما لذلك النور المتضاعف العظيم الشأن وإظهاره في مقام الإضمار لزيادة تقريره وتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية الناشئة من إضافته إلى ضميره عز و جل

من يشاء هدايته من عباده بأن يوفقهم لفهم ما فيه من دلائل حقيته وكونه من عند اللّه تعالى من الإعجاز والاخبار عن الغيب وغير ذلك من موجبات الإيمان به وفيه إيذان بأن ماط هذه الهداية وملاكها ليس إلا مشيئته تعالى وأن تظاهر الأسباب بدونها بمعزل من الإفضاء إلى المطالب

ويضرب اللّه الأمثال للناس في تضاعيف الهداية حسبما يقتضي حالهم فإن له دخلا عظيما في باب الإرشاد لأنه إبرار للمعقول في هيئة المحسوس وتصوير لأوابد المعاني بصورة المأنوس ولذلك مثل نوره المعبد به عن القرآن المبين بنور المشكاة وإظفاره الاسم الجليل في مقام الإضمار للإيذان باختلاف حال ما أسند إليه تعالى من الهداية الخاصة وضرب الأمثال الذي هو من قبيل الهداية العامة كما يفصح عنه تعليق الأولى بمن يشاء والثانية بالناس كافة

واللّه بكل شيء عليم مفعولا كان أو محسوسا ظاهرا كان أو باطنا ومن قضيته أن تتعلق مشيئته بهداية من يليق بها ويستحقها من الناس دون من عداهم لمخالفته الحكمة التي عليها مبنى التكوين والتشريع وأن تكون هدايته العامة على فنون مختلفة وطرائق شتى حسبما تقتضيه أحوالهم والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله وإظهار الاسم الجليل لتأكيد استقلال الجملة والإشعار بعلة الحكم وبما ذكر من اختلاف حال المحكوم به ذاتا وتعلقا

٣٦

في بيوت أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه لما ذكر شأن القرآن الكريم في بيانه للشرائع والأحكام ومباديها وغاياتها المترتبة عليها من الثواب والعقاب وغير ذلك من أحوال الآخرة وأهوالها وأشير إلى كونه في غاية ما يكون من التوضيح والإظهار حيث مثل بما فصل من نور المشكاة وأشير إلى أن ذلك النور مع كونه في أقصى مراتب الظهور إنما يهتدي بهداه من تعلقت مشيئة اللّه تعالى بهدايته دون من عداه عقب ذلك بذكر الفريقين وتصوير بعض أعمالهم المعربة عن كيفية حالهم في الاهتداء وعدمه والمراد بالبيوت المساجد كلها حسبما روى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما

وقيل هي المساجد التي بناها نبي من أنبياء اللّه تعالى الكعبة التي بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبيت المقدس الذي بناه داود وسليمان عليهما السلام ومسجد المدينة ومسجد قباء اللذان بناهما رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وتنكيرها للتفخيم والمراد بالإذن في رفعها الأمر ببنائها رفيعة لا كسائر البيوت

وقيل هو الأمر برفع مقدارها بعبادة اللّه تعالى فيها فيكون عطف الذكر عليه من قبيل العطف التفسيري وأياما كان ففي التعبير عنه بالإذن تلويح بأن اللائق بحال المأمور أن يكون متوجها إلى المأمور به قبل ورود الأمر به ناويا لتحقيقه كأنه مستأذن كأنه مستأذن في ذلك فيقع الأمر به موقع الإذن فيه والمراد بذكر اسمه تعالى ما يعم جميع أدكاره تعالى وكلمة في متعلقة بقوله تعالى

يسبح له وقوله تعالى

فيها تكرير لها للتأكيد والتذكير لما بينهما من الفاصلة وللإيذان بأن التقديم للاهتمام لا لقصر التسبيح على الوقوع في البيوت فقط وأصل التسبيح التنزيه والتقديس يستعمل باللام وبدونها أيضا كما في قوله تعالى سبح أسم ربك الأعلى به الصلوات المفروضة كما ينبئ عنه تعيين الأوقات بقوله تعالى

بالغو والآصال أي بالغدوات والعشايا على أن الغدو إما جمع غداة كقنى في جمع قناة كما قيل أو مصدر أطلق على الوقت حسبما يشعر به اقترانه بالآصالو هو جمع أصيل و هو العشى و العشى و هو الشامل الأوقات ما عدا صلاة الفجر المؤداة يالغداة ويجوز أن يراد به نفس التنزيه على أنه عبارة عما يقع منه في أثناء الصلوات وأوقاتها لزيادة شرفه وإنافته على سائر أفراده أو عما يقع في جميع الأوقات وأفراد طرفى النهار بالذكر لقيامهما مقام كلها لكونهما العمدة فيها بكونهما مشهودين وكونهما أشهر ما يقع فيه المباشرة للأعمال والأشتغال بالاشغال وقرئ والإيصال وهو الدخول في الأصيل وقوله تعالى

٣٧

رجال فاعل يسبح وتأخيره عن الظروف لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ولأن في وصفه نوع طول فيخل تقديمه بحسن الانتظام وقرئ يسبح على البناء للمفعول بإسناده إلى أحد الظروف ورحال مرفوع بما ينبئ عنه حكاية الفعل من غير تسمية الفاعل على طريقة قوله لبيك يزيد ضارع لخصومة كأنه قيل من يسبح له فقيل يسبح له رجال وقرئ تسبح بتأنيث الفعل مبنيا للفاعل لأن جمع التكسير قد يعامل معاملة المؤنث ومبنيا للمفعول على أن يسند إلى أوقات الغدو والآصال بزيادة الباء وتجعل الأوقات مسبحة مع كونها مسبحا فيها أو يسند إلى ضمير التسبيحة أي تسبيح له التسبيحة على المجاز المسوغ لإسناده إلى الوقتين كما خرجوا قراءة أبي جعفر ليجزي قوما أي ليجزى الجزاء قوما بل هذا أولى من ذل هنا مفعول صريح

لا تلهيهم تجارة صفة لرجال مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة مفيدة لكمال تبتلهم إلى اللّه تعالى واستغراقهم فيها حكى عنهم من التسبيح من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم كائنا ما كان وتخصيص التجارة بالذكر لكونهما أقوى الصوارف عندهم وأشهرها أي لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة ولا بيع أي ولا فرد من أفراد البياعات وإن كان في غاية الربح وإفراده بالذكر مع اندراجه تحت التجارة للإيذان بإنافته على سائر أنواعها لأن ربحه متيقن ناجز وربح ما عداه متوقع في الثاني الحال عند البيع فلم يلزم من نفي إلهاء ما عداه نفي إلهائه ولذلك كررت كلمة لا لتذكير النفي وتأكيده وقد نقل عن الواقدي أن المراد بالتجارة هو الشراء لأنه أصلها ومبدؤها

وقيل هو الجلب لأنه الغالب فيها ومنه يقال تجر في كذا أي جلبه

عن ذكر اللّه بالتسبيح والتحميد

وإقام الصلاة أي إقامتها لمواقيتها من غير تأخير وقد أسقطت التاء المعوض عن العين الساقطة بالأعلال وعوض عنها الإضافة كما في قوله وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا أي عدة الأمر

ولإيتاء الزكاة أي المال الذي فرض إخراجه للمستحقين وإيراده ههنا وإن لم يكن مما يفعل في البيوت لكونه قرينة لا تفارق إقامة الصلاة في عامة المواضع مع ما فيه من التنبيه على أن محاسن أعمالهم غير منحصرة فيما يقع في المساجد وكذلك قوله تعالى

يخافون الخ فإنه صفة ثانية لرجال أو حال من مفعول لا تلهيهم وأيا ما كان فليس خوفهم مقصورا على كونهم في المساجد وقوله تعالى

يوما مفعول ليخافون

لا ظرف له وقوله تعالى

تتقلب فيه القلوب والأبصار صفة ليوما أي تضطرب وتتغير في أنفسها من الهول والفزع وتشخص كما في قوله تعالى وإذ زاغت والأبصار وبلغت القلوب الحناجر أو تتغير أحوالها وتتقلب فتتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعا عليها وتبصر الأبصار بعد أن كانت عمياء أو تتقلب القلوب بين توقع النجارة وخوف الهلاك والأبصار من أي ناحية يؤخذ بهم ويؤتي كتابهم

٣٨

ليجزيهم اللّه متعلق بمحذوف يدل عليه ما حكى من أعمالهم المرضية أي يفعلون ما يفعلون من المداومة على التسبيح والذكر وإيتاء الزكاة والخوف من غير صارف لهم عن ذلك ليجزيهم اللّه تعالى

أحسن ما عملوا أي أحسن جزاء أعمالهم حسبما وعد لهم بمقابلة حسنة واحدة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف

ويزيدهم من فضله أي يتفضل عليهم بأشياء لم توعد لهم بخصوصياتها أو بمقاديرها ولم تخطر ببالهم كيفياتها ولا كمياتها بل إنما وعدت بطريق الإجمال في مثل قوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة وقوله صلى اللّه عليه و سلم حكاية عنه عز و جل أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وغير ذلك من المواعيد الكريمة التي من جملتها قوله تعالى

واللّه يرزق من يشاء بغير حساب فإنه تذبيل مقرر للزيادة وعد كريم بأنه تعالى يعطيهم غير أجزية أعمالهم من الخيرات ما لا يفي به الحساب

وأما عدم سبق الوعد بالزيادة ولو إجمالا وعدم خطورها ببالهم ولو بوجه ما فيأباه نظمها في سلك الغاية والموصول عبارة عمن ذكرت صفاتهم الجميلة كأنه قيل واللّه يرزقهم بغير حساب ووضعه موضع ضميرهم للتنبيه بما في حيز الصلة على أن مناط الرزق المذكور في محض مشيئته تعالى لا أعمالهم المحكية كما أنها الماط لما سبق من الهداية لنوره تعالى لا لظاهر الأسباب وللإيذان بأنهم ممن شاء اللّه تعالى لأن يرزقهم كما أنهم ممن شاء اللّه تعالى أن يهديهم لنوره حسبما يعرب عنه ما فصل من أعمالهم الحسنة فإن جميع مل ذكر من الذكر والتسبيح وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وخوف اليوم الآخر وأهواله ورجاء الثواب مقتبس من القرآن الكريم العظيم الذي هو المعنى بالنور وبه يتم بيان أحوال من اهتدى بهداه على أوضح وجه وأجلاه وهذا وقد قيل قوله تعالى في بيوت الخ من تتمة التمثيل وكلمة في متعلقة بمحذوف هي صفة لمشكاة أي كائنة في بيوت

وقيل لمصباح وقيل لزجاجة

وقيل متعلقة بيوقد والكل مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل كيف لا وأن ما بعد قوله تعالى ولو لم تمسسه نار على ما هو الحق أو ما بعد قوله تعالى نور على نور على ما قيل إلى قوله تعالى بكل شيء عليم كلام متعلق بالممثل قطعا فتوسيطه بين أجزاء التمثيل مع كونه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه بالأجنبي يؤدي إلى كون ذكر حال المنتفعين بالتمثيل المهديين لنور القرآن الكريم بطريق الاستتباع والاستراط مع كون بيان حال أضدادهم مقصودا بالذات ومثل هذا مما لا عهد به في كلام الناس فضلا أن يحمل عليه الكلام المعجز والذين كفروا عطف على ما ينساق إليه ما قبله كأنه قيل الذين آمنوا أعمالهم حالا وما لا كما وصف

٣٩

والذين كفروا أعمالهم أي أعمالهم التي هي من أبواب البر كصلة الأرحام وفك العناة وسقاية الحاج وعمارة البيت وإغاثة الملهوفين وقرى الأضياف ونحو ذلك مما لو قارنه الإيمان لاستتبع الثواب كما في قوله تعالى مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد الآية

كسراب وهو ما يرى في الفلوات من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة فيظن أنه ماء يسرب أي يجري

بقيعة متعلق بمحذوف هو صفة لسراب أي كائن في قاع وهي الأرض المنبسطة

المستوية وقيل هي جمع قاع كجيرة جمع جار وقرىء بقيعات بتاء ممدودة كديمات إما على أنها جمع قيعة أو على أن الأصل قيعة قد أشبعت فتحة العين فتولد منها ألف

يحسبه الظمآن ماء صفة أخرى لسراب و تخصيص الحسبان بالظمآن مع شموله لكل من يراه كائنا من كان من العطشان والريان لتكميل التشبيه بتحقيق شركة طرفيه في وجه الشبه الذي هو المطلع المطمع والمقطع الموئس

حتى إذا جاءه أي إذا جاء العطشان ما حسبه ماء وقيل موضعه

لم يجده أي ما حسبه ماء وعلق به رجاءه

شيئا أصلالا محققا ولا متوهما كما كان يراه من قبل فضلا عن وجدانه ماء وبه تم بيان أحوال الكفرة بطريق التمثيل وقوله تعالى

ووجد اللّه عنده فوفاه حسابه واللّه سريع الحساب بيان لبقية أحوالهم العارضة لهم بعد ذلك بطريق التكملة لئلا يتوهم أن قصارى أمرهم هو الخيبة والقنوط فقط كما هو شأن الظمآن ويظهر أنه يعتريهم بعد ذلك التمثيل من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم المذكورة عينا ولا أثرا كما في قوله تعالى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا كيف لا و أن الحكم بأن أعمال الكفرة كسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده سيئا حكم بأنها بحيث يحسبونها في الدنيا نافعة لهم في الآخرة حتى إذا جاءوها لم يجدوها شيئا كأنه قيل حتى إذا جاء الكفرة يوم القيامة أعمالهم التي كانوا في الدنيا يحسبونها نافعة لهم في الآخرة يجدوها شيئا ووجدوا اللّه أي حكمه وقضاءه عند المجيء

وقيل عند العمل فوفاهم أي أعطاهم وافيا كاملا حسابهم أي حساب أعمالهم المذكورة وجزاءها فإن اعتقادهم لنفعها بغير أيمان وعملهم بموجبه كفر على كفره وجب للعقاب قطا وإفراد الضميرين الراجعين إلى الذين كفروا إما لإرادة الجنس كالضمان الواقع في التمثيل

وأما للحمل على كل واحد منهم وكذا إفراد ما يرجع إلى أعمالهم هذا وقدفيل نزل في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد في الجاهلية وليس المسوح والتمس الدين فلما جاء الإسلام كفر

٤٠

أو كظلمات عطف على كسراب وكلمة للتنويع  إثر ما مثلت أعمالهم التي كانوا يعتمدون عليها أقوى إعتماد ويفتخرون بها في كل واد وناد بما ذكر من حال السراب مع زيادة حساب وعقاب مثلت أعمالهم القبيحة التي ليس فيها شائبة خيرية يغتر بها المغترون بظلمات كائنة

في بحر لجى أي عميق كثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر وقيل إلى اللجة وهي أيضا معظمه

يغشاه صفة أخرى للبحر أي يستره ويغطيه بالكلية

موج وقوله تعالى

من فوقه موج جملة من مبتدأ أو خبر محلها الرفع على أنها صفة لموج أو الصفة هي الجار و المجرور وموج الثاني فاعل له لاعتماده على الموصوف والكلام فيه كما مر في قوله تعالى نور على نور أي يغشاه أمواج متراكمة متراكبة بعضها على بعض وقوله تعالى من فوقه

سحاب صفة لموج الثاني على أحد الوجهين المذكورين من فوق ذلك الموج سحاب ظلماني ستر أضواء النجوم وفيه إيماء إلى غاية تراكم الأمواج وتضاعيفها حتى كأنها بلغت السحاب

ظلمات حبر مبتدأ محذوف أي هي ظلمات

بعضها فوق بعض أي متكاثفة متراكمة وهذا بيان لكمال شدة الظلمات كما أن قوله تعالى نور بيان لغاية قوة النور خلا أن ذلك متعلق بالمشبه وهذا بالمشبه به كما يعرب عنه ما بعده وقرىء بالجر على الإبدال من الأولى وقرىء بإضافة السحاب إليها

إذا أخرج أي من ابتلى بها وإضماره من غير ذكره لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة

يده جعلها بمرأى منه قريبة من عينه لينظر إليها

لم يكد يراها وهي أقرب شيء منه فضلا عن أن يراها

ومن لم يجعل اللّه له نورا الخ اعتراض تذييلى جيء به لتقدير ما أفاده التمثيل من كون أعمال الكفرة كما فصل وتحقيق أن ذلك لعدم هدايتة تعالى إياهم لنوره وأيراد الموصول للإشارة بما في حيز الصلة إلى علة الحكم وأيهم ممن لم يشأ اللّه تعالى هدايتهم أي من لم يشأ اللّه أن يهديه لنوره الذي هو القرآن هداية خاصة مستتبعة للإهتداء حتما ولم يوقفه للإيمان به

فما له من نور أى فما له هداية ما من أحد أصلا و قوله تعالى

٤١

ألم تر الخ استئناف خوطب به النبي صلى اللّه عليه و سلم للإيذان بأنه تعالى أفاض عليه صلى اللّه عليه و سلم أعلى المراتب النور وأجلاها وبين له من أسرار الملك الملكوت وأدقها وأخفاها والهمزة للتقرير أي قد علمت عملا يقينيا شبيها بالمشاهدة في القوة والرصانة بالوحي الصريح والاستدلال الصحيح

أن اللّه يسبح له أي ينزهه تعالى على الدوأم في ذاته وصفاته و أفعاله عن كل مالا يليق بشأنه الجليل من نقص أو خلل

من في السماوات والأرض أي ما فيهما إما بطريف الاستقرار فيهما من العقلاء وغيرهم كائنا ما كان أو بطريق الجزئية منهما تنزيها تفهمه العقول السليمة فإن كل موجود من الموجودات الممكنة مركبا كان أو بسيطا فهو من حيث ماهيته ووجود أحواله يدل على وجود صانع واجب الوجود متصف بصفات الكمال مقدس عن كل مالا يليق بشأن من شئونه الجليلة وقد نبه على كمال قوة تلك الدلالة وغاية وضوحها حيث عبر عنها بما يخص العقلاء من التسبيح الذي هو أقوى مراتب التنزيه وأظهرها تنزيلا للسان الحال منزلة لسان المقال وأكد ذلك بإيثار كلمة من على ما كان كل شيء مما عز وهان و كل فرد من أفراد الأعراض والأعيان عاقل ناطق ومخبر صادق بعلو شأنه تعالى وعزة سلطانه وتخصيص التنزيه بالذكر مع دلالة ما فيهما على اتصافه تعالى بنعوت الكمال أيضا لما أن مساق الكلام لتقبيح حال الفكرة في إخلالهم بالتنزيه بجعلهم الجمادات شركاء له في الألوهية ونسبتهم إياه إلى اتخاذ الولد تعالى عن ذلك علوا كبيرا وحمل التسبيح على ما يليق بكل نوع من أنواع المخلوقات بأن يرادبه معنى مجازى شامل لتسبيح العقلاء وغيرهم حسبما هو المتبادر من قوله تعالى كل قد علم صلاته وتسبيحه يرده أن بعضا من العقلاء وهم الكفرة من الثقلين لا يسبحونه بذلك المعنى قطعا وإنما تسبيحهم ما ذكر من الدلالة التي يشاركهم فيها غير العقلاء أيضا وفيه مزيد تخطئة لهم وتعيير ببيان أنهم يسبحونه تعالى باعتبار أخس جهاتهم التي هي الجمادية والجسمية والحيوانية ولا يسبحونه باعتبار أشرفها التي هي الإنسانية والطير بالرفع عطفا على من وتخصيصها بالذكر مع اندارجها في جملة ما في الأرض لعدم استقرار قراها واستقلالها بصنع بارع وإنشاء رائع قصد بيان تسبيحها من تلك الجهة لوضوح إنبا عن كمال قدرة صانعها ولطف تدبير مبدعها حسبما يعرب عنه التقيد بقوله تعالى

صافات أي تسبيحه تعالى حال كونها صافات أجنحتها فإن إعطاءه تعالى للأجرام الثقيلة ما تتمكن من الوقوف في الجو والحركة كيف تشاء من الأجنحة والأذناب الخفيفة وإرشادها إلى كيفية استعمالهما بالقبض والبسط حجة نيرة واضحة المكنون وآية بينة لقوم يعقلون دالة على كمال قدرة الصانع المجيد وغاية حكمة المبتدىء المعيد وقوله تعالى

كل قد علم صلاته وتسبيحه بيان لكمال عراقة كل واحد مما ذكر في التنزيه ورسوخ قدمه فيه بتمثيل حاله بحال من يعلم ما يصدر عنه من الأفاعيل فيفعلها عن قصد ونية لا عن إتفاق بلا روية وقد أدمج في تضاعيفه الإشارة إلى أن لكل واحد من الأشياء المذكورة مع ما ذكر من التنزيه حاجة ذاتية إليه تعالى واستفاضه من لا يهمه بلسان استعداده وتحقيقه أن كل واحد من الموجودات الممكنة في حد ذاته بمعزل من استحقاق الوجود لكنه مستعد لأن يفيض عليه منه تعالى ما يلقى بشأنه من الوجود وما يتبعه من الكمالات ابتداء وبقاء فهو مستفيض منه تعالى على الاستمرار ففيض عليه في كل آن من فيوض الفنون المتعلقة بذاته وصفاته مالا يحيط به نطاق البيان بحيث لو انقطع ما بينه وبين العناية والربانية من العلاقة لانعدم بالمدة وقد عبر عن تلك الاستفاضة المعنوية بالصلاة التي هي الدعاء والابتهال لتكميل التمثيل وإفادة المزايا المذكورة فيما مر على التفصيل وتقديمها على التسبيح في الذكر لقدمها عليه في الرتبة وهذا ويجور أن يكون العلم على حقيقتة ويراد به مطلق الإدراك وبما ناب عنه التنوين في كل أنواع الطير وأفرادها بالصلاة وبالتسبيح ما ألهمه اللّه تعالى كل واحد منها من الدعاء والتسبيح المخصوصين به لكن لا على أن يكون الطير معطوفا على كلمة من مرفوعا برافعها فإنه يؤدي إلى أن يراد بالتسبيح معنى مجازى شامل للتسبيح المقالى والحالى من العقلاء وغيرهم وقد عرفت ما فيه بل بفعل مضمر أريد به التسبيح المخصوص بالطير معطوف على المذكور كما مر في قوله تعالى وكثير من الناس أي تسبح الطير تسبيحا خاصا بها حال كونها صافات أجنحتها وقوله تعالى قل قد علم صلاته وتسبيحه أي دعاه وتسبيحه اللذين ألهمهما اللّه عز و جل إياه لبيان كمال رسوخه فيهما وأن صدورهما عنه ليس بطريق الاتفاق بلا روية بل عن علم وإيقان من غير إخلال بشيء منهما حسبما ألهمه اللّه تعالى فإن إلهامه تعالى لكل نوع من أنواع المخلوقات علوما دقيقة لا يكاد يهتدي إليه جهابذة العقلاء مما لا سبيل إلى إنكاره أصلا كيف لا وأن القنفذ مع كونه أبعد الأشياء من الإدراك قالوا إنه يحس بالشمال والجنوب قبل هبوبها فيغير المدخل إلى حجرة حتى روى أنه كان بقسطنطينية قبل الفتح الإسلامي رجل قد أثرى بسبب أنه كان ينذر الناس بالرياح قبل هبوبها وينتفعون بإنذاره بتدارك أمور سفائنهم وغيرها وكان السبب في ذلك أنه كان يقتني في داره قنفذا يستدل بأحواله على ما ذكر وتخصيص تسبيح الطير بهذا المعنى بالذكر لما أن أصواتها أظهر وجودا وأقرب حملا على التسبيح وقوله تعالى

واللّه عليم بما يفعلون أي ما يفعلونه اعتراض مقرر لمضمون ما قبله وما على الوجه الأول عبارة عما ذكر من الدلالة الشاملة لجميع الموجودات من العقلاء وغيرهم والتعبير عنها بالفعل مسندا إلى ضمير العقلاء لما مر غير مرة وعلى الثاني إما عبارة عنها عن التسبيح الخاص بالطير معا أو تسبيح الطير فقط فالفعل على حقيقته وإسناده إلى ض لما مر والاعتراض حينئذ مقرر لتسبيح الطير فقط وعلى الأولين لتسبيح الكل هذا وقد قيل إن الضمير في قوله تعالى وقد علم اللّه عز و جل وفي صلاته وتسبيحه لكل أي قد علم اللّه تعالى صلاة كل واحد مما في السماوات والأرض وتسبيحه فالاعتراض حينئذ مقرر لمضمونه على الوجهين لكن لأعلى أن تكون ما عبارة عما تعلق به علمه تعالى من صلاته وتسبيحه بل عن جميع أحواله العارضة له وأفعاله الصادرة عنه وهما داخلتان فيها دخولا أولياء

٤٢

واللّه ملك السماوات والأرض لا لغيره لأنه الخالق لهما ولما فيهما من الذوات والصفات وهو المتصرف في جميعها إيجادا وإعداما بدءا وإعادة وقوله تعالى

وإلى اللّه أي إليه تعالى خاصة لا إلى غيره

المصير أي رجوع الكل بالفناء والبعث بيان لاختصاص الملك به تعالى في المعاد إثر بيان اختصاصه به تعالى في المبدأ وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربية المهابة والإشعار بعلة الحكم

٤٣

ألم تر أن اللّه يزجى سحابا الإزجاء سوق الشيء برفق وسهولة غلب في سوق شيء يسير أو غير معتد به ومنه البضاعة المزجاة ففيه إيماء إلى أن السحاب بالنسبة إلى قدرته تعالى مما لا يعتد به

ثم يؤلف بينه أي بين أجزائه بضم بعضها إلى بعض وقرئ يولف بغير همزة ثم يجعله ركاما أي متراكما بعضه فوق بعض

فترى الودق أي المطر إثر تراكمه وتكاثفه وقوله تعالى

يخرج من خلاله أي من فتوقه حال من الودق لأن الرؤية بصرية وفي تعقيب الجعل المذكور برؤيته خارجا لا بخروجه من المبالغة في سرعة الخروج على طريقة قوله تعالى فقلنا اضرب بعصاك البحر * فانفلق ومن الاعتناء بتقرير الرؤية ما لا يخفى والخلال جمع خلل كجبال وجبل

وقيل مفرد كحجاب وحجاز ويؤيده أنه قرئ من خللّه

وينزل من السماء من الغمام فإن كل ما علاك سماء

من جبال أي من قطع عظام تشبه الجبال في العظم كائنة

فيها وقوله تعالى

من برد مفعول ينزل على أن من تبعيضية والأوليان لابتداء الغاية على أن الثانية بدل اشتمال من الأولى بإعادة الجار أن ينزل مبتدئا من السماء من جبال فيها بعض يرد

وقيل المفعول محذوف ومن برد بيان للجبال أن ينزل مبتدئا من السماء من جبال فيها من جنس البرد بردا والأول أظهر لخلوه عن ارتكاب الحذف والتصريح ببعضه المنزل

وقيل المفعول من مشبهة بالجبال في الكثرة وأياما كان فتقديم الجار والمجرور على المفعول لما غير مرة من الاعتناء بالمقدم

والتشريق إلى المؤخر

وقيل المراد بالسماء المظلة وفيها جبال من برد أن كما في الأرض جبالا من حجر وليس في العقل وما ينفيه من قاطع والمشهر أن الأنجرة إذا تصاعدت ولم تحللّها حرارة فبلغت الطبق الباردة من الهواء وقوى البرد اجتمع هناك وصار سحابا وإن لم يشتد البرد تقاطر مطرا وإن اشتد فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل ثلجا وإلا نزل بردا وقد يبرد الهواء بردا مفرطا فينقبض وينعقد سحابا وينزل منه المطر أو الثلج وكل ذلك مستند إلى إدارة اللّه تعالى ومشيئته المبنية على الحكم والمصالح

فيصيب به أي ما ينزله من البرد

من يشاء أن يصيبه به فيناله ما يناله من ضرر نفسه وماله ويصرفه عمن يشاء أن يصرفه عنه فينجو من غائلته

يكاد سنا برقه أي ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء والتأليف وغيرهما وإضافة البرق إليه قبل الأخبار بوجوده فبه للإيذان بظهور أمره واستغنائه عن التصريح به وقرىء بالمد بمعنى الرفعة والعلو وبإدغام الدال في السين وبرقه يفتح الراء على أنه جمع برقه وهي مقدار على البرق كالغرفة وبضمها للاتباع لضمة الباء

يذهب بالأبصار أي يخطفها من فرط الأضاءة وسرعق ورودها وفي إطلاق الأبصار مزيد تهويل لأمره وبيان لشدة تأثيره فيها كأنه يكاد يذهب بها ولو عند الاغماض وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة من حيث إنه توليد للضد من الضد وقرىء يذهب من الإذهاب على زيادة الباء

٤٤

يقلب اللّه الليل والنهار بالمعاقبة بينهما أو ينقص أحدهما وزيادة الآخر أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما مما يقع فيهما من الأمور التي من جملها ما ذكر من أزجاء السحاب وما ترتب عليه

إن في ذلك إشارة إلى ما فصل آنفا وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه للإيذان يعلو رتبته بعد منزلته

لعبرة أي لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم ووحدته وكمال قدرته وإحاطة علمه بجميع الأشياء ونفاذ مشيئته وتنزيهه عما لا يليق بشأن العلي

لأولي الأبصار لكل من له بصير

٤٥

واللّه خلق كل دابة أي كل حيوان يدب على الأرض وقرىء خالق كل دابة بالإضافة من ماء وهو جزء مادة أو ماء مخصوص وهو النطفة فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكل لأن من الحيوانات ما يتولد لا عن نطفة

وقيل من ماء متعلق بداية وليس صلة الخلق

فمنهم من يمشي على بطنه كالحية وتسمية حركها مشيا مع كونها زحفا بطريق الاستعارة أو المشاكلة ومنهم من يمشي على

رجلين كالإنس والطير

ومنهم من يمشي على أربعة كالنعم والوحش وعدم التعريض لما يمشي على أكثر من أربع كالعناكب ونحوها من الحشرات لعدم الاعتداد بها وتذكير الضمير في منهم لتغليب العقلاء والتعبير عن الأصناف بكلمة من ليوافق التفصيل الإجمال والترتيب لتقديم ما هو أعرف في القدرة

يخلق اللّه من يشاء مما ذكر ومما لم يذكر بسيطا كان أو مركبا على ما يشاء من الصور والأعضاء

والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفاعيل مع اتحاد العنصر وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتفخيم شأن الخلق المذكور والإيذان بأنه من أحكام الألوهية

إن اللّه على كل شيء قدير فيفعل ما يشاء كما يشاء وإظهار الجلالة كما ذكر مع تأكيد استقلال الاستئناف التعليلي

٤٦

لقد أنزلنا آيات مبينات أي لكل مل يليق بيانه من الأحكام الدينية والأسرار التكوينية

واللّه يهدي من يشاء أن يهديه بتوفيقه للنظر الصحيح فيما وإرشاد إلى التأمل في مطاويها

إلى صراط المستقيم موصل إلى حقيقة الحق والفوز بالجنة

٤٧

ويقولون آمنا باللّه وبالرسول شروع في بيان أحوال بعض من لم يشأ اللّه هدايته إلى الصراط المستقيم قال الحسن نزلت على المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر

وقيل نزلت في بشر المنافق خاصم يهوديا فدعاه إلى كعب بن الأشراف واليهودي يدعوه إلى النبي صلى اللّه عليه و سلم

وقيل في المغيرة بن وائل خاصم عليا رضي اللّه عنه في أرض وماء فإني أن يحاكم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وأياما كان فصيغه الجمع للإيذان بأن للقائل طائفة يساعدونه ويشايعونه في تلك المقالة كما يقال بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم

وأطعنا أي أطعناها في الأمر والنهي

ثم يتولى عن قبول حكمه

فريق منهم من بعد ذلك أي من بعد ما صدر عنهم ما صدر من ادعاء الإيمان باللّه وبالرسول والطاعة لهما على التفصيل وما في ذلك من معنى البعد للإيذان بكونه أمرا معتدا به واجب المراعاة

وما أولئك إشارة إلى القائلين لا إلى الفريق المتولي منهم فقط لعدم اقتضاء نفى الإيمان عنهم نفيه عن الأولين بخلاف العكس فإن نفيه عن القائلين مقتض لنفيه عنهم على أبلغ وجه وآكده وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلتهم في الكفر والفساد أي وما أولئك الذين يدعون الإيمان والطاعة ثم يتولى بعضهم الذين يشاركونهم في العقد والعمل

بالمؤمنين أي المؤمنين حقيقة كما يعرب عنه اللام أي ليسو بالمؤمنين المعهودين بالإخلاص في الإيمان والثبات عليه

٤٨

وإذا دعوا إلى اللّه ورسوله ليحكم أي الرسول

بينهم لأنه المباشر حقيقة للحكم وإن كان ذلك حكم اللّه حقيقة وذكر اللّه تعالى لتفيخمه صلى اللّه عليه و سلم والإيذان بجلالة محله عنده تعالى

إذا فريق منهم معرضون أي فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليه صلى اللّه عليه و سلم لكون الحق عليهم بأنه صلى اللّه عليه و سلم يحكم بالحق عليهم وهو شرح للتولي ومبالغة فيه

٤٩

وإن لم يكن لهم الحق لا عليهم

يأتوا إليه مذعنين منقادين لجزمهم بأنه صلى اللّه عليه و سلم يحكم لهم وإلى صلة ليأتوا فإن الإتيان والمجيء يعديان بالى أو لمذعنين

 على تضمين معنى الإسراع والإقبال كما في قوله تعالى فأقبلوا إليه يزفون والتقديم للاختصاص

٥٠

أفي قلوبهم مرض إنكار واستقباح لإعراضهم المذكور وبيان لمنشئه بعد استقصاء عدة من القبائح المحققة فيهم والمتوقعة منهم وترديد المنشئية بينها فمدار الاستفهام ليس نفس ما وليته الهمزة وأم من الأمور الثلاثة بل هو منشئيتها له كأنه قيل أذلك أى إعراضهم المذكور لأنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم

أم لأنهم

ارتابوا في أمر نبوته صلى اللّه عليه و سلم مع ظهور حقيتها أم لأنهم

يخافون أن يحيف اللّه عليهم ورسوله ثم أضرب عن الكل وأبطلت منشيته وحكم بأن المنشأ شيء آخر من شنائعهم حيث قيل

بل أولئك هم الظالمون أى ليس ذلك لشيء مما ذكر أما الأولان فلأنه لو كان لشيء منها لأعرضوا عنه صلى اللّه عليه و سلم عند كون الحق لهم ولما أتوا إليه صلى اللّه عليه و سلم مذعنين لحكمه لتحقق نفاقهم وارتيابهم حينئذ أيضا وأما الثالث فلا نتفائه رأسا حيث كانوا لا يخافون الحيف أصلا لمعرفتهم بتفاصيل أحواله صلى اللّه عليه و سلم في الأمانة والثبات علىالحق بل لأنهم هم الظالمون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم ويتم لهم جحوده فيأبون المحاكمة إليه صلى اللّه عليه و سلم لعلمهم بأنه صلى اللّه عليه و سلم يقضى عليهم بالحق فمناط النفي المستفاد من الإضراب في الأولين هو وصف منشئيتهما للإعراض فقط مع تحققهما في نفسهما وفي الثالث هو الأصل والوصف جميعا هذا وقد خص الارتياب بماله منشأ مصحح لعروضه لهم في الجملة والمعنى أم ارتابوا بأن رأوا منه صلى اللّه عليه و سلم تهمة فزالت ثقتهم ويقينهم به صلى اللّه عليه و سلم فمدار النفي حينئذ نفس الارتياب ومنشيته معا فتأمل فيما ذكر على التفصيل ودع عنك ما قيل

وقيل حسبما

يقتضيه النظر الجليل

٥١

إنما كان قول المؤمنين بالنصب على انه خبر كان وأن مع ما في حيزها اسمها وقرئ بالرفع على العكس والأول أقوى صناعة لأن الأولى للاسمية ما هو أوغل في التعريف وذلك هو الفعل المصدر بأن إذ لا سبيل إليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين فإنه يحتمله كما إذا اعتزلت عنه الإضافة لكن قراءة الرفع أقعد بحسب المعنى وأوفى لمقتضى المقام لما أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل هو الخبر فالأحق بالخبرية ما هو اكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدوث وأوفر اشتمالا على نسب خاصة بعيدة من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامع ولا ريب في أن ذلك ههنا في أن مع ما في حيزها أتم وأكمل فإذا هو أحق بالخيرية وأما ما تفيده الإضافة من النسبة المطلقة الإجمالية فحيث كانت قليلة الجدوى سهلة الحصول خارجا وذهنا كان حقها أن تلاحظ ملاحظة مجملة وتجعل عنوانا للموضوع فالمعنى إنما كان مطلق القول الصادر عن المؤمنين

إذا دعوا إلى اللّه ورسوله ليحكم أى الرسول صلى اللّه عليه و سلم

بينهم أى وبين

خصومهم سواء كانوا منهم أو من غيرهم

أن يقولوا سمعنا وأطعنا أى خصوصية هذا القول المحكى عنهم لا قولا آخر أصلا وأما قراءة النصب فمعناها إنما كان قول المؤمنين أى إنما كان قولا لهم عند الدعوة خصوصية قولهم المحكى عنهم ففيه من جعل النسبتين وأبعدهما وقوعا وحضورا في الأذهان وأحقهما بالبيان مفروغا عنها عنوانا للموضوع وإبراز ما هو بخلافها في معرض القصد الأصلى ما لا يخفى وقرئ ليحكم على بناء الفعل للمفعول مسندا إلى مصدره مجاويا لقوله تعالى إذا إذا دعوا أى ليفعل الحكم كما في قوله تعالى لقد تقطع بينكم أى وقع التقطع بينكم وأولئك إشارة إلى المؤمنين باعتبار صدور القول المذكور عنهم وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل أى

أولئك المنعوتون بما ذكر من النعت الجميل

هم المفلحون أى هم الفائزون بكل مطلب والناجون من كل محذور

٥٢

ومن يطع اللّه ورسوله استئناف جئ به لتقرير مضمون ما قبله من حسن حال المؤمنين وترغيب من عداهم في الانتظام في سلكهم أى ومن يطعهما كائنا من كان فيما أمرا به من الأحكام الشرعية اللازمة والمتعدية

وقيل في الفرائض والسنن والأول هو الأنسب بالمقام

ويخش اللّه ويتقه بإسكان القاف المبنى على تشبيهه بكنف وقرئ بكسر القاف والهاء وبإسكان الهاء أى ويخش اللّه على ما مضى من ذنوبه ويتقه فيما يستقبل

فأولئك الموصوفون بما ذكر من الطاعة والخشية والاتقاء

هم الفائزون بالنعيم المقيم

لا من عداهم

٥٣

واقسموا باللّه حكاية لبعض آخر من أكاذيبهم مؤكد بالأيمان الفاجرة وقوله تعالى

جهد أيمانهم نصب على أنه مصدر مؤكد لفعله الذي هو في حيز النصب على أنه حال من فاعل أقسموا أى أقسموا به تعالى يجهدون أيمانهم جهدا ومعنى جهد اليمين بلوغ غايتها بطريق الاستعارة من قولهم جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها أى جاهدين بالغين أقصى مراتب اليمين في الشدة والوكادة

وقيل هو مصدر مؤكد لأقسموا أى أقسموا إقسام اجتهاد في اليمين قال مقاتل من حلف باللّه فقد اجتهد في اليمين لئن أمرتهم أى بالخروج إلى الغزو لا عن ديارهم وأموالهم كما قيل لأنه حكاية لما كانوا يقولون لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا وإن أقمت أقمنا وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا وقوله تعالى ليخرجن جواب لأقسموا بطريق حكاية فعلهم لا حكاية قولهم وحيث كانت مقالتهم هذه كاذبة ويمينهم فاجرة أمر صلى اللّه عليه و سلم بردها حيث قيل قل أى ردا عليهم وزجرا لهم عن التفوه بها وإظهارا لعدم القبول لكونهم كاذبين فيها

لا تقسموا أى على ما ينبئ عنه كلامكم من الطاعة وقوله تعالى

طاعة معروفة خبر مبتدأ محذوف والجملة تعليل للنهى أى لا تقسموا على ما تدعون من الطاعة لأن طاعتكم طاعة نفاقية واقعة باللسان فقط من غير مواطأة من القلب وإنما عبر عنها بمعروفة للإيذان بأن كونها كذلك مشهور معروف لكل احد وقرئ بالنصب والمعنى تطيعون طاعة معروفة هذاوحملها على الطاعة الحقيقية بتقدير ما يناسبها من مبتدأ أو خبر أو فعل مثل الذي يطلب منكم طاعة معروفة حقيقتة لا نفاقية أو طاعة معروفة أمثل أو ليكن طاعة معروفة أو أطيعوا طاعة معروفة مما لا يساعده المقام

إن اللّه خبير بما تعملون من الأعمال الظاهرة والباطة التى من جملتها ما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة وما تضمرونه في قلوبكم من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين وغيرها من فنون الشر والفساد تضمرونه الجملة تعليل للحكم بأن طاعتهم طاعة نفاقية مشعر بأن مدار شهرة أمرها فيما بين المؤمنين إخباره تعالى بذلك ووعيد لهم بأنه تعالى مجازيهم بجميع أعمالهم السيئة التي منها نفاقهم

٥٤

قل اطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول كرر الامر بالقول لإبراز كمال العناية به والإشعار باختلافهما من حيث أن المقول في الأول نهى بطريق الرد والتقريع كما في قوله تعالى اخسئوا فيها ولا تكلمون وفي الثاني أمر بطريق التكليف والتشريع وإطلاق الطاعة المأمور بها عن وصف الصحة والإخلاص ونحوهما بعد وصف طاعتهم بما ذكر للتنبيه على أنها ليست من الطاعة في شيء أصلا وقوله تعالى

فإن تولوا خطاب للمأمورين بالطاعة من جهته تعالى وارد لتأكيد الأمر بها والمبالغة في إيجاب الامتثال به والحمل عليه بالترهيب والترغيب لما أن تغيير الكلام المسوق لمعنى من المعاني وصرفه عن سننه المسلوك ينبئ عن اهتمام جديد بشأنه من المتكلم ويستجلب مزيد رغبة فيه من السامع كما أشير إليه في تفسير قوله تعالى ولو جئنا بمثله مددا لا سيما إذا كان ذلك بتغيير الخطاب بالواسطة إلى الخطاب بالذات فإن في خطابه تعالى إياهم بالذات بعد أمره تعالى إياهم بوساطته صلى اللّه عليه و سلم وتصديه لبيان حكم الامتثال بالأمر والتولى عنه إجمالا وتفصيلا من إفادة ما ذكر من التأكيد والمبالغة ما لا غاية وراءه وتوهم أنه داخل تحت القول المأمور بحكايته من جهته تعالى وأنه أبلغ في التبكيت تعكيس للأمر والفاء لترتيب ما بعدها على تبليغه صلى اللّه عليه و سلم للمأمور به إليهم وعدم التصريح به للإيذان بغاية ظهور مسارعته صلى اللّه عليه و سلم إلى تبليغ ما أمر به وعدم الحاجة إلى الذكر أى

إن تتولوا عن الطاعة إثر ما أمرتم بها

فإنما عليه أى فاعلموا أنما عليه صلى اللّه عليه و سلم

ما حمل أى ما أمر به من التبليغ وقد شاهدتموه عند قوله أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وعليكم

ما حملتم أى ما أمرتم به من الطاعة ولعل التعبير عنه بالتحميل للإشعار بثقله وكونه مؤنة باقية في عهدتهم بعد كأنه قيل وحيث توليتم عن ذلك فقد بقيتم تحت ذلك الحمل الثقيل وقوله تعالى ما حمل محمول على المشاكلة

وإن تطيعوه أى فيما امركم به من الطاعة تهتدوا إلى الحق الذى هو المقصد الأصلى الموصل إلى كل خير والمنجي من كل شر وتأخيره عن بيان حكم التولى لما في تقديم الترهيب من تأكيد الترغيب وتقريبه مما هو من بابه من الوعد الكريم وقوله تعالى

وما على الرسول إلا البلاغ المبين اعتراض مقرر لما قبله من أن غائلة التولى وفائدة الإطاعة مقصورتان عليهم واللام إما للجنس المنتظم له صلى اللّه عليه و سلم انتظاما أوليا أو للعهد أي ما على جنس

الرسول كائنا من كان أو ما عليه صلى اللّه عليه و سلم إلا التبليغ الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح أو الواضح على أن المبين من أبان بمعنى بان وقد علمتم أنه قد فعله بما لا مزيد عليه وإنما بقى ما حملتم وقوله تعالى

٥٥

وعد اللّه الذين آمنوا منكم استئناف مقرر لما في قوله تعالى وإن تطيعوه تهتدوا من الوعد الكريم ومعرب عنه بطريق التصريح ومبين لتفاصيل ما أجمل فيه من فنون السعادات الدينية والدنيوية التى هي من آثار الاهتداء ومتضمن لما هو المراد بالطاعة التي نيط بها الاهتداء والمراد بالذين آمنوا كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر على الإطلاق من أى طائفة كان وفي أى وقت كان لا من آمن من طائفة المنافقين فقط ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة فحسب ضرورة عموم الوعد الكريم للكل كافة فالخطاب في منكم لعامة الكفرة لا للمنافقين خاصة ومن تبعيضيه

وعملوا الصالحات عطف على آمنوا داخل معه في حيز الصلة وبه يتم تفسير الطاعة التى أمر بها ورتب عليها ما نظم في سلك الوعد الكريم كما أشير إليه وتوسيط الظرف بين المعطوفين لإظهار أصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام وللإيذان بكونه أول ما يطلب منهم وأهم ما يجب عليهم وأما تأخيره عنهما في قوله تعالى وعد اللّه الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما فلأن من هناك بيانية والضمير الذين معه صلى اللّه عليه و سلم من خلص المؤمنين ولا ريب في أنه جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة مثابرون عليهما فلا بد من ورود بيانهم بعد ذكر نعوتهم الجليلة بكمالها هذا ومن جعل الخطاب للنبي صلى اللّه عليه و سلم وللأمة عموما على أن من تبعيضية أوله صلى اللّه عليه و سلم ولمن معه من المؤمنين خصوصا على أنها بيانية فقد نأى عما يقتضيه سباق النظم الكريم وسياقه بمنازل وأبعد عما يليق بشأنه صلى اللّه عليه و سلم بمراحل

ليستخلفنهم في الأرض جواب للقسم إما بالإضماء أو بتنزيل وعده تعالى منزلة القسم لتحقق إنجازه لا محالة أى ليجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم أو خلفا من الذين لم يكونوا على حالهم من الإيمان والأعمال الصالحه

كما استخلف الذين من قبلهم هم بنو إسرائيل استخلفهم اللّه عز و جل في مصر والشام بعد إهلاك فرعون والجبابرة أو هم ومن قبلهم من الأمم المؤمنة التي أشير إليهم في قوله تعالى ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا اللّه جاءتهم رسلهم بالبينات إلى قوله تعالى فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكتكم الأرض من بعدهم ومحل الكاف النصب على أنه مصدر تشبيهي مؤكد للفعل بعد تأكيده بالقسم وما مصدرية أى ليستخلفنهم استخلافا كائنا كاستخلافه تعالى للذين من قبلهم وقرئ كما استخلف على البناء للمفعول فليس العامل في الكاف حينئذ الفعل المذكور بل ما يدل هو عليه من فعل مبنى للمفعول جار منه مجرى المطاوع فإن استخلافه تعالى إياهم مستلزم لكونهم مستخلفين لا محالة كأنه قيل ليستخلفنهم في الأرض فيستخلفن فيها استخلافا أى مستخلفية كائنة كمستخفلية من قبله وقد مر تحقيقه في قوله تعالى كما سئل موسى من قبل ومن هذا القبيل قوله تعالى وأنبتها نباتا حسنا على أحد الوجهين أى فنتبت نباتا حسنا وعليه قول من قال وعضة دهر يا ابن مروان لم تدع

... من المال إلا مسحت أو بحلف أى فلم يبق إال مسحت الخ وليمكنن لهم دينهم عطف على ليستخلفنهم منتظم معه ف سلك الجواب وتأخيره عنه مع كونه أجل الرغائب الموعودة وأعظمها لما أن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل فتصدير المواعيد بها في الاستمالة أدخل والمعنى ليجعلن دينهم ثابتا مقررا بحيث يستمرون على العمل بأحكامه ويرجعون إليه في كل ما يأتون وما يذرون والتعبير عن ذلك بالتمكين الذى هو جعل الشيء مكانا لآخر يقال مكن له في الأرض أى جعلها مقرا له ومنه قوله تعالى إنا مكنا له في الأرض ونظائره وكلمة في للإبذان بأن ما جعل مقرا له قطعة منها لا كلها للدلالة على كمال ثبات الدين ورصانة أحكامه وسلامته من التغيير والتبديل لا بتنائه على تشبيهه بالأرض في الثبات والقرار مع ما فيه من مراعاة المناسبة بينه وبين الاستخلاف في الأرض وتقديم صلة التمكين على مفعوله الصريح للمسارعة إلى بيان كون الموعود من منافعهم تشويقها لهم إليه وترغيبا لهم في قبوله عند وروده ولأن في توسيطها بينه وبين وصفه أعنى قوله تعالى

الذي ارتضى لهم وفي تأخيرها عنه من الإخلال بجزالة النظم الكريم ما لا يخفى وفي إضافة الدين إليهم وهو دين الإسلام ثم وصفه بارتضائه لهم تأليف لقلوبهم ومزيد ترغيب فيه وفضل تثبيت عليه

وليبدلنهم بالتشديد وقرئ بالتخفيف من الإبدال

من بعد خوفهم أى من الأعداء

أمنا حيث كان أصحاب النبي صلى اللّه عليه و سلم قبل الهجرة عشر سنين بل اكثر خائفين ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا يصبحون في السلاح ويمسون كذلك حتى قال رجل منهم ما يأتى علينا يوم نأمن فيه فقال صلى اللّه عليه و سلم لا تعبرون إلايسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديدة فانزل اللّه عز و جل هذه الآية وأنجزو عده وأظهرهم على جزيرة العرب وفتح لهم بلاد الشرق والغرب وصاروا لى حال يخافهم كل من عداهم وفيه من الدلالة على صحة النبوة للإخبار بالغيب على ما هو عليه قبل وقوعه ما لا يخفى

وقيل المراد الخوف من العذاب والأمن منه في الآخرة يعبدونني حال من الموصول الأول مفيدة لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد أو استئناف ببيان المقتضى للاستخفاف وما انتظم معه في سلك الوعد

لا يشركون بي شيئا حال من الواو أى يعبدونني غير مشركين بي في العبادة شيئا

ومن كفر أى اتصف بالكفر بأن ثبت واستمر عليه ولم يتأثر بما مر من الترهيب الترغيب فإن الإصرار عليه بعد مشاهدة دلائل التوحيد كفر مستأنف زائدة على الأصل

وقيل كفر بعد الإيمان

وقيل كفر هذه النعمة العظيمة والأول هو الأنسب بالمقام

بعد ذلك أى بعد ذلك الوعد الكريم بما فصل من المطالب العالية المستوجبة لغاية الاهتمام بتحصيلها والسعي الجميل في حيازتها

فأولئك البعداء عن الحق التائهون في تيه الغواية والضلال

هم الفاسقون الكاملون في الفسق والخروج عن حدود الكفر والطغيان

٥٦

وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام فإن خطابه تعالى للمأمورين بالطاعة على طريق الترهيب من التولي بقوله تعالى فإن تولوا الخ وترغيبه تعالى إياهم في الطاعة بقوله تعالى وإن تطيعوه تهتدوا الخ وعده تعالى إياهم على الإيمان والعمل الصالح بما فصل من الاستخلاف وما يتلوه من الرغائب الموعودة ووعيده على الكفر مما يوجب الأمر بالإيمان والعمل الصالح والنهي عن الكفر فكأنه قيل فآمنوا وعملوا صلاحا وأقيموا أو فلا تكفروا وأقيموا وعطفه على أطيعوا اللّه مما لا يليق بجزالة النظم الكريم

وأطيعوا الرسول أمرهم اللّه سبحانه وتعالى بالذات بما أمرهم به بواسطة الرسول صلى اللّه عليه و سلم من طاعته التي هي طاعته تعالى في الحقيقة تأكيدا للأمر السابق وتقريرا لمضمونه على ان المراد بالمطاع فيه جميع الأحكام الشرعية المنتظمة للآداب المرضية أيضا أى وأطيعوه في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه أو تكميلا لما قبله من الأمرين الخاصين المتعلقين بالصلاة والزكاة على أن المراد بما ذكر ما عداهما من الشرائع أى وأطيعوه في سائر ما يأمركم به الخ وقوله تعالى

لعلكم ترحمون متعلق على الأول بالامر الأخير المشتمل على جميع الأوأمر وعلى الثاني بالأوأمر الثلاثة أى افعلوا ما ذكر من الإقامة والإيتاء والإطاعة راجين أن ترجموا

٥٧

لا تحسبن الذين كفروا لما بين حال من أطاعه صلى اللّه عليه و سلم وأشير إلى فوزه بالرحمة المطلقة المستتبعة لسعادة الدارين عقب ذلك ببيان حال من عصاه صلى اللّه عليه و سلم ومآل أمره في الدينا والآخرة بعد بيان تناهيه في الفسق تكميلا لأمر الترغيب والترهيب والخطاب إما لكل أحد ممن يصلح له كائنا من كان

وأما للرسول صلى اللّه عليه و سلم على منهاج قوله تعالى فلا تكونن من المشركين ونظائره للإيذان بأن الحسبان المذكور من القبح والمحذوريه بحيث ينهى عنه من يمتنع صدوره عنه فكيف بمن يمكن ذلك منه ومحل الموصول النصب على أنه مفعول أول للحسبان وقوله تعالى

معجزين ثانيهما وقوله تعالى

في الأرض ظرف لمعجزين لكن لا لإفادة كون الإعجاز المنفي فيها لا في غيرها فإن ذلك مما لا يحتاج إلى البيان بل لإفادة شمول عدم الإعجاز بجميع أجزائها أى لا تحسبنهم معجزين اللّه عز و جل عن إدراكهم وإهلاكهم في قطر من أقطار الأرض بما رحبت وإن هربوا منها كل مهرب وقرئ لا يحسبن بياء الغيبة على أن الفاعل كل أحد والمعنى كما ذكر أى لا يحسبن أحد الكافرين معجزين له سبحانه في الأرض أو هو الموصول والمفعول الأول محذوف لكونه عبارة عن أنفسهم كأنه قيل لا تحسبن الكافرين أنفسهم معجزين في الأرض وأما جعل معجزين مفعولا أول وفي الأرض مفعولا ثانيا فبمعزل من المطابقة لمقتضى المقام ضرورة أن مصب الفائدة هو المفعول الثاني ولا فائدة في بيان كون المعجزين في الأرض وقد مر في قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة وقوله تعالى

ومأواهم النار معطوف على جملة النهى بتأويلها بجملة خبرية لأن المقصود بالنهى عن الحسبان تحقيق نفي الحسبان كأنه قيل ليس الذين كفروا معجزين ومأواهم الخ أو على جملة مقدرة وقعت تعليلا للنهي كأنه قيل لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض فإنهم مدركون ومأواهم الخ

وقيل الجملة المقدرة بل هم مقهورون فتدبر

ولبئس المصير  جواب لقسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف أي وباللّه لبئس المصير هي أي النار والحملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله وفي إيراد النار بعنوان كونها مأوى ومصير الهم إثر نفي فوتهم بالهرب في الأرض كل مهرب من الجزالة مالا غاية وراءه فللّه در شأن التنزيل

٥٨

يأيها الذين آمنوا رجوع إلى بيان تتمة الأحكام السابقة بعد تمهيد ما يوجب الامتثال بالأوأمر والنواهي الواردة فيها وفي الأحكام اللاحقة من التمثيلات والترغيب والترهيب والوعد والوعيد والخطاب إما للرجال خاصة وللنساء داخلات في الحكم بدلالة النص أو للفريقين جميعا بطريق التغليب روى أن غلام الأسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كرهته فنزلت وقيل أرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم مدلج بن عمرو الأنصاري وكان غلاما وقت الظهيرة ليدعو عمر رضي اللّه عنه فدخل عليه وهو نائم قد انكشف عنه ثوبه فقال عمر رضي اللّه عنه لودتت أن اللّه تعالى نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلا بإذن ثم انطلق معه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية

ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم من العبيد والجواري

والذين لم يبلغوا الحلم أي الصبيان القاصرون عن درجة البلوغ المعهود والتعبير عنه بالحلم لكونه أظهر دلائله منكم أي من الأحرار

ثلاث مرات أي ثلاثة أوقات في اليوم والليلة والتعبير عنها بالمرات للإيذان بأن مدار وجوب الاستئذان مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا أنفسها

من قبل صلاة الفجر لظهور أنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة ومحله النصب على أنه بدل من ثلاث مرات أو مرات أو الرع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي أحدها من قبل الخ

وحين تضعون ثيابكم أي ثيابكم التي تلبسونها في النهار وتخلعونها لأجل القيلولة وقوله تعالى

من الظهيرة وهي شدة الحر عند انتصاف النهار بيان للحين والصريح ! ! الأمر أعني وضع الثياب في هذا الحين دون الأول والآخر لما أن التجرد عن الثياب فيه لأجل القيلولة لقلة زمانها كما ينبئ عنها إيراد الحين مضافا إلى فعل حادث متقض ووقوعها في النهار الذي هو مئنة لكثرة الورود والصدور ومظنة لظهور الأحوال وبروز الأمور ليس من التحقق والإطراد بمنزله ما في الوقتين المذكورين فإن تحقق التجرد وإطراده فيهما أمر معروف لا يحتاج إلى التصريح به

ومن بعد صلاة العشاء ضرورة أنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف وليس المراد بالقبلية والبعدية المذكورتين مطلقهما المتحقق في الوقت الممتد المتخلل بين الصلاتين كما في قوله تعالى وإن كنت من قبله لمن الغافلين وقوله تعالى من بعد أن نزع الشيطان بيني وبين أخوتي بل ما يعرض منهما لطرفي ذلك الوقت الممتد المتصلين بالصلاتين المذكورتين اتصالا عاديا وقوله تعالى

ثلاث عورات خبر مبتدأ محذوف وقوله تعالى

لكم متعلق بمحذوف هو صفة لثلاث عورات أي كائنة لكم والجملة استئناف مسوق لبيان علة وجوب الاستئذان أي هن ثلاثة أوقات يختل فيها التستر عادة والعورة في الأصل هو الخلل غلب في الخلل الواقع فيما يهم حفظه ويعتني بستره أطلقت على الأوقات المشتملة عليها مبالغة كأنها نفس العورة وقرئ ثلاث عورات بالنصب بدلا من ثلاث مرات

ليس عليكم ولا عليهم أي على المماليك والصبيان

جناح أى إثم فى الدخول بغير استئذان لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر والإطلاع على العورات

بعدهن أي بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنتين منهن وإيرادها بعنوان البعدية مع أن كل وقت من تلك الأوقات قبل عورة من العورات كما أنها بعد أخرى منهن لتوفية حق التكليف والترخيص الذي هو عبارة عن رفعه إذا لرخصة إنما تتصور في فعل يقع بعد زمان وقوع الفعل المكلف والجملة على القراءتين مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها بالطرد والكس وقد جوز على القراءة الأولى كونها في محل الرفع على أنها صفة أخرى لثلاث عورات

وأما على القراءة الثانية فهي مستأنفة لا غير إذ لو جعلت صفة لثلاث عورات وهي بدل من ثلاث مرات لكان التقدير ليستأذنكم هؤلاء في ثلاث عورات لا إثم في ترك الاستئذان بعدهن وحيث كان انتفاء الإثم حينئذ مما لم يعلمه السامع إلا بهذا الكلام لم يتسن إبرازه في معرض الصفة بخلاف قراءة الرفع فإن انتفاء الإثم حينئذ معلوم من صدر الكلام وقوله تعالى

طوافون عليكم استئناف ببيان العذر المرخص في ترك الاستئذان وهي المخالطة الضرورية وكثرة المداخلة وفيه دليل على تعليل الأحكام وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاثة وبين غيرها بكونها عورات

بعضكم على بعض أي بعضكم طائف على بعض طوافا كثيرا أو بعضكم يطوف على بعض

كذلك إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا من تفخيم شأن المشار إليه والإيذان ببعد منزلته وكونه من الوضوح بمنزلة المشار إليه حسا أي مثل ذلك التبيين

يبين اللّه لكم الآيات الدالة على الأحكام أي ينزلها بينة واضحة الدلالات عليها لا أنه تعالى يبينها بعد أن لم تكن كذلك والكاف مقحمة وقد مر تفصيله في قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا ولكم متعلق يبين وتقديمه على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر

وقيل يبين علل الأحكام وليس بواضح مع أنه مؤد إلى تخصيص الآيات بما ذكر ههنا

واللّه عليم مبالغ في العلم بجميع المعلومات فيعلم أحوالكم

حكيم في جميع أفاعيله فيشرع لكم ما فيه صلاح أمركم معاشا ومعادا

٥٩

وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم لما بين فيما مر آنفا حكم الأطفال في أنه لا جناح عليهم في ترك الاستئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة عقب ببيان حالهم بعد البلوغ دفعا لما عسى يتوهم أنهم وإن كانوا أجانب ليسوا كسائر الأجانب بسبب اعتيادهم الدخول أي إذا بلغ الأطفال الأحرار الأجانب

فليستأذنوا إذا أرادوا الدخول عليكم وقوله تعالى

كما استأذن الذين من قبلهم في حيز النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد للفعل السابق والموصول عبارة عمن قيل لهم لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا الآية ووصفهم بكونهم قبل هؤلاء باعتبار ذكرهم قبل ذكرهم لا باعتبار بلوغهم قبل بلوغهم كما قيل لما أن المقصود بالتشبيه بيان كيفية استئذان هؤلاء وزيادة إيضاحه ولا يتسنى ذلك إلا بتشبيهه باستئذان المعهودين عند السامع ولا ريب في أن بلوغهم قبل بولغ هؤلاء مما لا يخطر ببال أحد وإن كان الأمر

كذلك في الواقع وإنما المعهود المعروف ذكرهم قبل ذكرهم أي فليستأذنوا استئذانا كائنا مثل استئذان المذكورين قبلهم بأن يستأذنوا في جميع الأوقات ويرجعوا إن قيل لهم ارجعوا حسبما فصل فيما سلف

كذلك يبين اللّه لكم آياته واللّه عليم حكيم الكلام فيه كالذي سبق والتكرير للتأكيد والمبلغة في الأمر بالاستئذان وإضافة الايات إلى ضمير الجلالة لتشريفها

٦٠

والقواعد من النساء أي العجائز

اللاتي قعدن عن الحيض والحمل اللاتي

لا يرجون نكاحا أي لا يطمعن فيه لكبرهن

فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن أي الثياب الظاهرة كالجلباب ونحوه والفاء فيه لأن اللام في القواعد بمعنى اللاتي أو للوصف بها

غير متبرجات بزينة غير مظهرات لزينة مما أمر بإخفائه في قوله تعالى ولا يبدين زينتهن وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يخفى من قولهم سفينة بارجة لا غطاء عليها والبرج سعة العين بحيث يرى بيضاها محيطا بسوادها كله إلا أنه خص بكشف المراة زينتها ومحاسنها للرجال

وأن يستعففن بترك الوضع

خير لهن من الوضع لبعده من التهمة

واللّه سميع مبالغ في سمع جميع ما يسمع فيسمع ما يجري بينهن وبين الرجال من المقاولة

عليم فيعلم مقاصدهن وفيه من الترهيب ما لا يخفى

٦١

ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج كانت هؤلاء الطوائف يتحرجون من المؤاكلة الأصحاء حذارا من استقذارهم إياهم وخوفا من تأذيهم بأفعالهم وأوضاعهم فإن الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت حذارا من استقذارهم إياهم وخوفا من تأذيهم بأفعالهم وأوضاعهم فإن الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت إليه عين أكيله وهو لا يشعر به والأعرج بتفسح في مجلسه فيأخذ أكثر من موضعه فيضيق على جليسه والمريض لا يخلو عن حالة تؤذي قرينه

وقيل كانوا يدخلون على الرجل لطلب العلم فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو إلى بعض من سماهم اللّه عز و جل في الآية الكريمة فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون ذهب بنا إلى بيت غيره ولعل أهله كارهون لذلك وكذا كانوا يتحرجون من الأكل من أموال الذين كانوا إذا خرجوا إلى الغزو خلفوا هؤلاء في بيوتهم ودفعوا إليهم مفاتيحها وأذنوا لهم أن يأكلوا مما فيها مخافة أن لا يكون إذنهم عن طيب نفس منهم وكان غير هؤلاء أيضا يتحرجون من الأكل في بيوت غيرهم فقيل لهم ليس على الطوائف المعدودة

ولا على أنفسكم أي عليكم وعلى من يماثلكم في الأحوال من المؤمنين حرج

أن تأكلوا أي تأكلوا أنتم وهم معكم وتعميم الخطاب للطوائف المذكورة أيضا يأباه ما قبله وما بعده فإن الخطاب فيهما لغير أولئك الطوائف حتما

من بيوتكم أي البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيتهم كبيته لقوله صلى اللّه عليه و سلم أنت ومالك لأبين وقوله صلى اللّه عليه و سلم إن أطيب مال الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه

أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم وقرئ بكسر الهمزة والميم وبكسر الأولى وفتح الثانية

أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه من البيوت التي تملكون التصرف فيها بإذن أربابها على الوجه الذي مر بيانه

وقيل هي بيوت المماليك والمفاتح جمع مفتح وجمع المفتاح مفاتيح وقرئ مفتاحه

أو صديقكم أي أو بيوت صديقكم وإن لم يكن بينكم وبينهم قرابة نسبية فإنهم أرضى بالتبسط وأسر به من كثير من الأقرباء روى عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن الصديق أكبر من الوالدين إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالأباء والأمهات بل قالوا فما لنا من شافعين ولا صديق حميم والصديق يقع على الواحد والجمع كالخليط والقطين وأضرابهما وهذا فيما إذا علم رضا صاحب البيت بصريح الإذن أو بقرينة دالة عليه ولذلك خصص هؤلاء بالذكر الاعتيادهم التبسط فيما بينهم وقوله تعالى

ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا كلام مستأنف مسوق لبيان حكم آخر من جنس ما بين قبله حيث كان فريق من المؤمنين كبني ليث ابن عمرو من كنانة يتحرجون أن يأكلوا طعامهم منفردين وكان الرجل منهم لا يأكل ويمكث يومه حتى يجد ضيفا يأكل معه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا وربما قعد الرجل والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فإذا أمسى ولم يجد أحد أكل

وقيل كان الغنى منهم يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصدقته فيدعوه إلى طعامه فيقول إني أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير

وقيل كان قوم من الأنصار لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاءوا

وقيل كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاما عزلوا للأعمى وأشباهه طعاما على عده فبين اللّه تعالى أن ذلك ليس بواجب وقوله تعالى جميعا حال من فاعل تأكلوا وأشتاتا عطف عليه داخل في حكمه وهو جمع شت على أنه صفة كالحق يقال أمر شت أي متفرق أو على أنه في الأصل مصدر وصف به مبالغة أي ليس عليكم جناح أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين

فإذا دخلتم شروع في بيان الآداب التي تجب رعايتها عند مباشرة ما رخص فيه إثر بيان الرخصة فيه

بيوتا أي من البيوت

المذكورة

فسلموا على أنفسكم أي على أهلها الذين بمنزلة أنفسكم لما بينكم وبينهم من القرابة الدينية والنسبية الموجبة لذلك

تحية من عند اللّه أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ويجوز أن يكون صلة للتحية فإنها طلب الحياة التي هي من عنده تعالى وانتصابها على المصدرية لأنها بمعنى التسليم

مباركة مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوأمهما

طيبة تطيب بها نفس المستمع وعن أنس رضي اللّه عنه أنه صلى اللّه عليه و سلم قال متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين

كذلك يبين اللّه لكم الآيات تكرير لتأكيد الأحكام المختتمة به وتفخيمها

لعلكم تعقلون أي ما في تضاعيفها من الشرائع والأحكام وتعملون بموجبها وتحوزون بذلك سعادة الدارين وفي تعليل هذا التبيين بهذه الغاية القصوى بعد تذييل الأولين بما يوجبهما من الجزالة ما لا يخفى

٦٢

إنما المؤمنون الذين آمنوا باللّه ورسوله استئناف جئ به في أواخر الأحكام السابقة تقريرا لها وتأكيدا لوجوب مراعاتها وتكميلا لها ببيان بعض آخر من جنسها وإنما ذكر الإيمان باللّه ورسوله في حيز الصلة للموصول الواقع خبرا للمبتدأ مع تضمنه له قطعا تقرير لما قبله وتمهيدا لما بعده وإيذانا بأنه حقيق بأن يجعل قرينا للإيمان بهما منتظما في سلكه فقوله تعالى

وإذا كانوا معه على أمر جامع الخ معطوف على أمنوا داخل معه في حيز الصلة أي إنما الكاملون في الإيمان الذين آمنوا باللّه ورسوله عن صميم قلوبهم وأطاعوهما في جميع الأحكام التي من جملتها ما فصل من قبل من الأحكام المتعلقة بعامة أحوالهم المطردة في الوقوع وأحوالهم الواقعة بحسب الاتفاق كما إذا كانوا معه صلى اللّه عليه و سلم على أمر مهم يجب اجتماعهم في شأنه كالجمعة والأعياد والحروب وغيرها من الأمور الداعية إلى اجتماع أولي الآراء والتجارب ووصف الأمر بالجمع للمبالغة وقرئ أمر جميع لم يذهبوا أي من المجمع مع كون ذلك الأمر مما لا يوجب حضورهم لا محالة كما عند إقامة الجمعة ولقاء العدو بل يسوغ التخلف عنه

حتى يستأذنوه صلى اللّه عليه و سلم في الذهاب لا على أن نفس الاستئذان غاية لعدم الذهاب بل الغاية هي الإذن المنوط برأيه صلى اللّه وعليه وسلم والاقتصار على ذكره لأنه الذي يتم من قبلهم وهو المعتبر في كمال الإيمان لا الإذن ولا الذهاب المترتب عليه واعتباره في ذلك لما أنه كالمصداق لصحته والمميز للمخلص فيه عن المنافق فإن ديدنه التسلل للفرار ولتعظيم ما في الذهاب بغير إذنه صلى اللّه عليه و سلم من الجناية وللتنبيه على ذلك عقب بقوله تعالى

إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون باللّه ورسوله فقضى بأن المستأذنين هم المؤمنون باللّه ورسوله كما حكم في الأول بأن الكاملين في الإيمان هم الجامعون بين الإيمان بهما وبين الاستئذان وفي أولئك من تفخيم شأن المستأذنين ما لا يخفى فإذا استأذنوك بيان لما هو وظيفته صلى اللّه عليه و سلم في هذا الباب إثر بيان ما هو وظيفة المؤمنين وأن الإذن عند الاستئذان ليس بأمر محتوم بل هو مفوض إلى رأيه صلى اللّه عليه و سلم والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي بعد ما تحقق أن الكاملين في الإيمان هم المستأذنون

فإذا استأذنوك لبعض شأنهم أي لبعض أمرهم المهم وخطبهم الملم

فأذن لمن شئت منهم لما علمت في ذلك من حكمة ومصلحة

واستغفر لهم اللّه فإن الاستئذان وإن كان لعذر قوي لا يخلو عن شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة

إن اللّه غفور مبالغ في مغفرة فرطات العباد

رحيم مبالغ في إفاضة آثار الرحمة عليهم والجملة تعليل للمغفرة الموعودة في ضمن الأمر بالاستغفار لهم

٦٣

لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم استئناف مقرر لمضمون ما قبله والالتفات لإبراز مزيد الاعتناء بشأنه أي لا تجعلوا دعوته صلى اللّه عليه و سلم إياكم في الاعتقاد والعمل بها

كدعاء بعضكم بعضا أي لا تقيسوا دعاءه صلى اللّه عليه و سلم إياكم على دعاء بعضكم بعضا في حال من الأحوال وأمر من الأمور التي من جملتها المساهلة فيه والرجوع عن مجلسه صلى اللّه عليه و سلم بغير استئذان فإن ذلك من المحرمات

وقيل لا تجعلوا دعاءه صلى اللّه عليه و سلم ربه كدعاء صغيركم كبيركم يجيبه مرة ويرده أخرى فإن دعاءه مستجاب لا مرد له عند اللّه عز و جل وتقرير الجملة حينئذ لما قبلها إما من حيث إن استجابته تعالى لدعائه صلى اللّه عليه و سلم مما يوجب امتثالهم بأوأمره صلى اللّه عليه سلم ومتابعتهم له في الورود والصدور أكمل إيجاب

وأما من حيث إنها موجبة للاحتراز عن التعرض لسخطه صلى اللّه عليه و سلم المؤدي إلى ما يوجب هلاكهم من دعائه صلى اللّه عليه و سلم عليهم

وأما ما قيل من أن المعنى لا تجعلوا نداءه صلى اللّه عليه و سلم كنداء بعضكم بعضا باسمه ورفع الصوت والنداء من رواء الحجرات ولكن بلقيه المعظم مثل يا رسول اللّه يا نبي اللّه مع غاية التوقير والتفخيم والتواضع وخفض الصوت فلا يناسب المقام فإن قوله تعالى

قد يعلم اللّه الذي يتسللون منكم الخ وعيد لمخالفي أمره صلى اللّه عليه و سلم فيما ذكر من قبل فتوسيط ما ذكر بينهما مما لا وجه له والتسلل الخروج من البيت على التدريج والخفية وقد للتحقيق كما أن رب تجئ للتكثير حسبما بين في مطلع سورة الحجر أي يعلم اللّه الذين يخرجون من الجماعة قليلا قليلا على خفية

لواذا أي ملاوذة بأن يستتر بعضهم ببعض حتى يخرج أو بأن يلوذ بمن يخرج بالإذن إراءة أنه من أتباعه وقرئ بفتح اللام وانتصابه على الحالية من ضمير يتسللون أي ملاوذين أو على أنه مصدر مؤكد لفعل مضمر هو الحال في الحقيقة أي يلوذون لواذا والفاء في قوله تعالى

فليحذر الذين يخالفون عن أمره لترتيب الحذر أو الأمر به على ما قبلها من علمه تعالى بأحوالهم فإنه مما يوجب الحذر البتة أى يخالفون أمره بترك مقتضاه ويذهبون سمتا خلاف سمته وعن إما لتضمنه معنى الإعراض أو حمله على معنى يصدون عن أمره دون المؤمنين من خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه وحذف المفعول لما أن المقصود بيان المخالف والمخالف عنه والضمير للّه تعالى لأنه الآمر حقيقة أو للرسول صلى اللّه عليه و سلم لأنه المقصود بالذكر

أن تصيبهم فتنة أي محنة في الدنيا أو

يصيبهم عذاب أليم أي في الآخرة وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع وإعادة الفعل صريحا للاعتناء بالتهديد والتحذير واستدل به على أن الأمر للإيجاب فإن ترتيب العذابين على مخالفته كما يعرب عنه التحذير عن إصابتهما يوجب وجوب الامتثال به حتما

٦٤

ألا إن للّه ما في السموات والأرض من الموجودات بأسرها خلفا وملكا وتصرفا إيجادا وإعداما بدء وإعادة

قد يعلم ما انتم عليه أيها المكلفون من الأحوال والأوضاع التي من جملتها الموافقة والمخالفة والإخلاص والنفاق

ويوم يرجعون إليه عطف على ما أنتم عليه أي يعلم يوم يرجع المنافقون المخالفون للأمر إليه تعالى للجزاء والعقاب وتعليق علمه تعالى بيوم رجوعهم لا يرجعهم لزيادة تحقيق علمه تعالى بذلك وغاية تقريره لما أن العلم بوقت وقوع الشيء مستلزم للعمل بوقوعه على أبلغ وجه وآكده وفيه إشعار بأن علمه تعالى لنفس رجوعهم من الظهور بحيث لا يحتاج إلى البيان قطعا ويجوز أن يكون الخطاب أيضا خاصا بالمنافقين على طريقه الالتفات وقرئ يرجعون مبنيا للفاعل

فينبئهم بما عملوا من الأعمال السيئة التي من جملتها مخالفة الأمر فيترتب عليه ما يليق به من التوبيخ والجزاء وقد مر وجه التعبير عن الجزاء بالتنبئة في قوله تعالى إنما بغيكم على أنفسكم الآية

واللّه بكل شيء عليم لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء عن النبي صلى اللّه عليه و سلم من قرأ سورة النور أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي واللّه سبحانه وتعالى أعلم

﴿ ٠