ÓõæÑóÉõ ÇáúÝõÑúÞóÇäö ãóßøöíøóÉñ æóåöíó ÓóÈúÚñ æóÓóÈúÚõæäó ÂíóÉð سورة الفرقان مكية إلا الآيات ٦٨ و ٦٩ و ٧٠ فمدنية وآياتها ٧٧ بسم اللّه الرحمن الرحيم _________________________________ ١ تبارك الذي نزل الفرقان البركة النماء والزيادة حسية كانت أو معنوية وكثرة الخير ودامه أيضا ونسبتها إلى اللّه عز و جل على المعنى الأول وهو الأليق بالمقام باعتبار تعاليه عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله التي من جملتها تنزيل القرآن الكريم المعجز الناطق بعلو شأنه تعالى وسمو صفاته وابتناء أفعاله على أساس الحكم والمصالح وخلوها عن شائبة الخلل بالكلية وصيغة التفاعل للمبالغة فيما ذكر فإن مالا يتصور نسبته إليه سبحانه حقيقة من الصيغ كالتكبر ونحوه لا تنسب إليه تعالى إلا باعتبار غايتها وعلى المعنى الثاني باعتبار كثرة ما يفيض منه على مخلوقاته لا سيما على الإنسان من فنون الخيرات التي من جملتها تنزيل القرآن المنطوي على جميع الخيرات الدينية والدنيوية والصيغة حينئذ يجوز أن تكون الإفادة نماء تلك الخيرات وتزايدها شيئا فشيئا وآنا فآنا بحسب حدوثها أو حدوث متعلقاتها ولاستقلالها بالدلالة على غاية الكمال وتحققها بالفعل والإشعار بالتعجب المناسب للإنشاء والإنباء عن نهاية التعظيم لم يجز استعمالها في حق غيره تعالى ولا استعمال غيرها من الصيغ في حقه تعالى والفرقان مصدر فرق بين الشيئين أي فصل بينهما سمى به القرآن لغاية فرقه بين الحق والباطل بأحكامه أو بين المحق والمبطل بإعجازه أو لكونه مفصولا بعضه من بعض في نفسه أو في إنزاله على عبده محمد صلى اللّه عليه و سلم وإيراده صلى اللّه عليه و سلم بذلك العنوان لتشريفه والإيذان بكونه صلى اللّه عليه و سلم في أقصى مراتب العبودية والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبدا للمرسل ردا على النصارى ليكون غاية التنزيل أي نزله عليه ليكون هو صلى اللّه عليه و سلم أو الفرقان للعالمين من الثقلين نذيرا أي منذرا أو إنذارا مبالغة أو ليكون تنزيله إنذارا أو عدم التعرض للتبشير لانسياق الكلام على أحوال الكفرة وتقديم اللام على عاملها لمراعاة الفواصل وإبراز تنزيل لفرقان في معرض الصلة التي حقها أن تكون معلومة الثبوت للموصول عند السامع مع إنكار الكفرة له لإجرائه مجرى المعلوم المسلم تنبيها على كمال قوة دلائله وكونه بحيث لا يكاد يجهله أحد كقوله تعالى لا ريب فيه ٢ الذي له ملك السموات والأرض أي له خاصة دون غيره لا استقلالا ولا اشتراكا السطان القاهر والاستيلاء الباهر عليهما المستلزمان للقدرة التامة والتصرف الكلي فيهما وفيما فيهما إيجادا وإعداما وإحياء وأماتة وأمرا ونهيا حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح ومحله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها أو على أنه نعت للموصول الأول أو بيان له أو بدل منه وما بينهما ليس بأجنبي لأنه من تمام صلته ومعلومية مضمونة للكفرة مما لا ريب فيه لقوله تعالى قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون للّه ونظائره أو مدح له تعالى بالرفع أو بالنصر ولم يتخذ ولدا كما يزعم الذين يقولون في حق المسيح ولملائكة ما يقولون فسبحان اللّه عما يصفون وهو معطوف على ما قبله من الجملة الظرفية ونظمه في سلك الصلة للإيذان بأن مضمونه من الوضوح والظهور بحيث لا يكاد يجهله جاهل لا سيما بعد تقرير ما قبله ولم يكن له شريك في الملك أي ملك السموات و الأرض وهو أيضا عطف على الصلة وإفراده بالذكر مع أن ما ذكر من اختصاص ملكهما به تعالى مستلزم له قطعا للتصريح ببطلان زعم الثنوية القائلين بتعدد الآلهة والدرء في نحورهم وتوسيط نفي اتخاذ الولد بينهما للتنبيه على استقلاله وأصالته والاحتراز عن توهم كونه تتمة للأول وخلق كل شيء أي أحدث كل موجود من الموجودات إحداثا جاريا على سنن التقدير حسبما اقتضته إرادته المبنية على الحكم البالغة بأن خلق كلا منها من مواد مخصوصة على صور معينة ورتب فيه قوى وخواص مختلفة الآثار والأحكام فقدره أي هيأه لما أراد به من الخصائص والأفعال اللائقة به تقديرا بديعا لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه كتهيئة الإنسان للفهم والإدراك والنظر والتدبر في أمور المعاش والمعاد واستنباط الصائع المتنوع ومزاولة الأعمال المختلفة وهكذا أحوال سائر الأنواع وقيل أريد بالخلق مطلق الإيجاد والإحداث مجازا من غير ملاحظة معنى التقدير وإن لم يخل عنه في نفس الأمر فالمعنى أوجد كل شيء فقدره في ذلك الإيجاد تقديرا وأما ما قيل من أنه أنه سمى إحداثه تعالى خلقا لأنه تعالى لا يحدث شيئا إلا على وجه التقدير من غير تفاوت ففيه أن ارتكاب المجاز بحمل الخلق على مطلق الإحداث لتجريده عن معنى التقدير فاعتباره فيه بوجه من الوجوه مخل بالمرام قطعا وقيل المراد بالتقدير الثاني هو التقدير للبقاء إلى الأجل المسمى وأيا ما كان فالجملة جارية مجرى التعليل لما قبلها من الجمل المنتظمة مثلها في سلك الصلة فإن خلقه تعالى لجميع الأشياء على ذلك النمط البديع كما يقتضي استقلاله تعالى باتصافه بصفات الألوهية يقتضي انتظام كل ما سواه كائنا ما كان تحت ملكوته القاهرة بحيث لا يشذ عنها شيء من ذلك قطعا وما كان كذلك كيف يتوهم كونه ولدا له سبحانه أو شريكا في ملكه ٣ واتخذوا من دونه آلهة بعدما بين حقيقة الحق في مطلع السورة الكريمة بذكر تنزله تعالى للفرقان العظيم على رسوله صلى اللّه عليه و سلم ووصفه تعالى بصفات الكمال وتنزيهه عما لا يليق بشأنه الجليل عقب ذلك بحكاية أباطيل المشركين في حق المنزل سبحانه والمنزل والمنزل عليه على الترتيب وإظهار بطلانها والإضمار من غير جريان ذكرهم للثقة بدلالة ما قبله من نفي الشريك عليهم أي اتخذوا لأنفسهم متجاوزين اللّه تعالى الذي ذكر بعض شئونه الجليلة من اختصاص ملك السموات والأرض به تعالى وانتفاء الولد والشريك عنه وخلق جميع الأشياء وتقديرها أبدع تقدير آلهة لا يخلقون شيئا أي لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء أصلا وهم يخلفون كسائر المخلوقات وقيل لا يقدرون على أن يختلقوا شيئا وهم يختلقون حيث تختلقهم عبدتهم بالنحت والتصوير وقوله تعالى ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا لبيان ما لم يدل عليه ما قبله من مراتب عجزهم وضعفهم فإن بعض المخلوقين العاجزين عن الخلق ربما يملك دفع الضر وجلب النفع في الجملة كالحيوان وهؤلاء لا يقدرون على التصرف في ضر ما ليدفعوه عن أنفسهم ولا في نفع ما حتى يجلبوه إليهم فكيف يملكون شيئا منهما لغيرهم وتقديم ذكر الضر لأن دفعه مع كونه أهم في نفسه أول مراتب النفع وأقدمها والتنصيص على قوله تعالى ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا أي لا يقدرون على التصرف في شيء منها بإماتة الأحياء وإحياء الموتى وبعثهم بعد بيان عجزهم عما هو أهون من هذه الأمور من دفع الضر وجلب النفع للتصريح بعجزهم عن كل واحد مما ذكر على التفصيل والتنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادرا على جميع ذلك وفيه إيذان بغاية جهلهم وسخافة عقولهم كأنهم غير عارفين بانتفاء ما نفي عن ألهتم من الأمور المذكورة مفتقرون إلى التصريح بذلك ٤ وقال الذين كفورا إن هذا إلا إفك شروع في حكاية أباطليهم المتعلقة بالمنزل والمنزل عليه معا وإبطالها والموصول إما عبارة عن غلاتهم في الكفر والطغيان وهم النضر بن الحرث وعبد اللّه بن أمية ونوفل بن خويلد ومن ضامهم وروى عن الكلبي ومقاتل أن القائل هو مضر بن الحرث والجمع لمشايعة الباقين له في ذلك وأما عن كلهم ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة والإيذان بأن ما تفوهوا به كفر عظيم في كلمة هذا حط لرتبة المشار إليه أي ما هذا إلا كذب مصروف عن وجهه افتراه يريدون أنه اختلقه رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وأعانه عليه أي على اختلاقه قوم آخرون يعنون اليهود بأن يلقوا إليه أخبار الأمم الدارجة وهو يعبر عنها بعبارته وقيل هما جبر ويسار كانا يصنعان السيف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل وقيل هو عابس وقد مر تفصيله في سورة النحل فقد جاءوا ظلما منصوب بجاءوا فإن جاءوا أتى يستعملان في معنى فعل فيعديان تعديته أو بنزع الخافض أي بظلم قاله الزجاج والتنوين للتفخيم أي جاءوا بما قالوا ظلما هائلا عظيما لا يقادر قدره حيث جعلوا الحق البحت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إفكا مفترى من قبل البشر وهو من جهة نظمه الرائق وطرزه الفائق بحيث لو اجتمعت الإنس والجن على مباراته لعجزوا عن الإتيان بمثل آية من آياته ومن جهة اشتماله على الحكم الخفية والأحكام المستتبعة للسعادات الدينية والدنيوية والأمور الغيبية بحيث لا يناله عقول البشر ولا يفي بفهمه القوى والقدر وزورا أي كذبا كبيرا لا يبلغ غايته حيث نسبوا إليه صلى اللّه عليه و سلم ما هو برئ منه والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنهما أمران متغايران حقيقة يقع أحدهما عقيب الآخر أو يحصل بسببه بل على أن الثاني هو عين الأول حقيقة وإنما الترتيب بحسب التغاير الاعتباري وقد لتحقيق ذلك المعنى فإن ما جاءوه من الظلم والزور هو عين ما حكى عنهم لكنه لما كان مغايرا له في المفهوم وأظهر منه بطلانا رتب عليه بالفاء ترتيب اللازم على الملزوم تهويلا لأمره ٥ وقالوا أساطير الأولين بعد ما جعلوا الحق الذي لا محيد عنه إفكا مختلقا بإعانة البشر بينوا على زعمهم الفاسد كيفية الإعانة والأساطير جمع أساطر أو أسطورة كأحدوثة وهي ما سطره المتقدمون من الخرافات اكتتبها أي كتبها لنفسه على الإسناد المجازي أو استكتبها وقرئ على البناء للمفعول لأنه صلى اللّه عليه و سلم أمي وأصله اكتتبها له كاتب فحذف اللام وأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب ثم حذف الفاعل لعدم تعلق الغرض العلمي بخصوصه وبني الفعل للضمير المنفصل فاستتر فيه فهي تملي عليه أي تلقي عليه تلك الأساطير بعد اكتتابها ليحفظها من أفواه من يمليها عليه من ذلك المكتتب لكونه أميا لا يقدر على أن يتلقاها منه بالقراءة أو تملي على الكاتب على أن معنى اكتتبها أراد اكتتابها أو استكتابها ورجع الضمير المجرور إليه صلى اللّه عليه و سلم لإسناد الكتابة في ضمن الاكتتاب إليه صلى اللّه عليه و سلم بكرة وأصلا أي دائما أو خفية قبل انتشار الناس وحين يأوون إلى مساكنهم انظر إلى هذه الرتبة من الجراءة العظيمة قاتلهم اللّه أنى يؤفكون ٦ قل لهم ردا عليهم وتحقيقا للحق أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض وصفه تعالى بإحاطة علمه بجميع المعلومات الجلية والخفية للإيذان بانطواء ما أنزله على أسرار مطوية عن عقول البشر مع ما فيه من التعريض بمجازاتهم بجناياتهم المحكية التي هي من جملة معلوماته تعالى أي ليس ذلك مما يفتري ويفتعل بإعانة قوم وكتابة آخرين من الأحاديث الملفقة وأساطير الأولين بل هو أمر سماوي أنزله اللّه الذي لا يعزب عن علمه شيء من الأشياء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع لا يحوم حوله الأفهام حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته وأخبركم بمغيبات مستقبلة وأمور مكنونة لا يهتدي إليها ولا يوقف عليها إلا بتوفيق العليم الخبير وقد جعلتموه إفكا مفترى من قبيل الأساطير واستوجبتم بذلك أن يصب عليكم سوط العذاب صبا فقوله تعالى إنه كان غفورا رحيما تعليل ما هو المشاهد من تأخير العقوبة أي أنه تعالى أزلا وأبدا مستمر على المغفرة والرحمة المستتبعين للتأخير فلذلك لا يعجل بعقوبتكم على ما تقولن في حقه مع كمال استيجابه إياها وغاية قدرته تعالى عليها ٧ وقالوا مال هذا الرسول شروع في حكاية جنايتهم المتعلقة بخصوصية المنزل عليه وما استفهامية بمعنى إنكار الوقوع ونفيه مرفوعة على الابتداء خبرها ما بعدها من الجار والمجرور وفي هذا تصغير لشأنه صلى اللّه عليه و سلم وتسميته صلى اللّه عليه و سلم رسولا بطريق الاستهزاء به صلى اللّه عليه و سلم كما قال فرعون إن رسولكم الذي أرسل إليكم وقوله تعالى يأكل الطعام حال من الرسول والعامل فيها ما عمل في الجار من معنى الاستقرار أي أي شيء وأي سبب حصل لهذا الذي يدعي الرسالة حال كونه يأكل الطعام كما نأكل ويمشي في الأسواق لابتغاء الأرزاق كما نفعله على توجهيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب الذي هو مضمون الجملة الحالية كما في قوله تعالى فما لهم لا يؤمنون وقوله مالكم لا ترجون للّه وقارا فكما أن كلا من عدم الإيمان وعدم الرجاء أمر محقق قد أنكروا ستبعد تحققه لانتفاء سببه بل لوجود سبب نقيضه كذلك كل من الأكل والمشي أمر محقق قد استبعد تحققه لانتفاء سببه بل لوجود سبب عدمه خلا أن استبعاد المسبب وإنكار السبب ونفيه في عدم الإيمان وعدم الرجاء بطريق التحقيق وفي الأكل والمشي بطريق التهكم والاستهزاء فإنهم لا يستبعدونهما ولا ينكرون سببهما حقيقة بل هم معترفون بوجودهما وتحقق سببهما وإنما الذي يستبعدونه الرسالة المنافية لهما على زعمهم يعنون أنه إن صح ما يدعيه فما باله لم يخالف حاله حالنا وهل هو إلا لعمههم وركاكة عقولهم وقصور أنظارهم على المحسوسات فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأمور نفسانية كما أشير إليه بقوله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد لولا أنزل إليه ملك أي على صورته وهيئته فيكون معه نذيرا تنزل منهم من اقتراح أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والشرب إلى اقتراح أن يكون معه ملك يصدقه ويكون ردءا له في الإنذار وهو يعبر عنه ويفسر ما يقوله للعامة وقوله تعالى ٨ أو يلقى إليه كنز تنزل من تلك المرتبة إلى اقتراح أن يلقى إليه من السماء كنز يستظهر به ولا يحتاج إلى طلب المعاش ويكون دليلا على صدقه وقوله تعالى أو تكون له جنة يأكل منها تنزل من ذلك إلى اقتراح ما هو أيسر منه وأقرب من الوقوع وقرئ نأكل بنون الحكاية وفيه مزيد مكابرة وفرط تحكم وقال الظالمون هم القائلون الأولون وإنما وضع المظهر وضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيما قالوه ملكونه إضلالا خارجا عن حد الضلال مع ما فيه من نسبته صلى اللّه عليه و سلم إلى المسحورية أي قالوا للمؤمنين إن تتبعون أي ما تتبعون إلا رجلا مسحورا قد سحر فغلب على عقله وقيل ذا سحر وهي الرئة أي بشرا لا ملكا على أن الوصف لزيادة التقرير والأول هو الأنسب بحالهم ٩ انظر كيف ضربوا لك الأمثال استعظام للأباطيل التي اجترءوا على التفوه بها وتجيب منها أي انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقاويل العجيبة الخارجة عن العقول الجارية لغرابتها مجرى الأمثال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة البعيدة من الوقوع فضولا أي عن طريق المحاجة حيث لم يأتوا بشيء يمكن صدوره عمن له أدنى عقل وتمييز فبقوا متحيرين فلا يستطيعون سبيلا إلى القدح في نبوتك بأن يجدوا قولا يستقرون عليه وإن كان باطلا في نفسه أو فضلوا عن الحق ضلالا مبينا فلا يحدون طريقا موصلا إليه فإن من اعتاد استعمال أمثال هذه الأباطيل لا يكاد يهتدي إلى استعمال المقدمات الحقة تبارك الذي أي تكاثر وتزايد خيرالذي إن شاء جعل لك في الدنيا عاجلا شيئا خيرا لك من ذلك الذي اقترحوه من أن يكون لك جنة تأكل منها بأن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرة وقوله تعالى جنات تجري من تحتها الأنهار بدل من خيرا ومحقق لخيرته مما قالوا لأن ذلك كان مطلقا عن قيد التعدد وجريان الأنهار ويجعل لك قصورا عطف على محل الجزاء الذي هو جعل وقرئ بالرفع عطفا على نفسه لأن الشرط إذا كان ماضيا جاز في جزائه الرفع والجزم كما في قول القائل ... وإن أتاه خليل يوم مسئلة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم ... ويجوز أن يكون استئنافا بوعد ما يكون له في الآخرة وقرئ بالنصب على أنه جواب بالواو وتعليق ذلك بمشيئته تعالى للإيذان بأن عدم جعلها بمشيئته المبنية على الحكم والمصالح وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين للتنبيه على خروجهما عن دائرة العقل واستغنائهما عن الجواب لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية وإنما الذي له وجه في الجملة هو الاقتراح الأخير فإنه غير مناف للحكمة بالكلية فإن بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أو توافي الدنيا مع النبوة ملكا عظيما ١١ بل كذبوا بالساعة إضراب عن توبيخهم بحكاية جناياتهم السابقة وانتقال منه إلى توبيخهم بحكاية جناياتهم الأخرى للتخلص إلى بيان ما لهم في الآخرة بسببها من فنون العذاب بقوله تعالى وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا الخ أي أعتدنا لهم نارا عظيمة شديدة الاشتعال شأنها كيت وكيت بسبب تكذيبهم بها على ما يشعر به وضع الموصول موضع ضميرهم أو لكل من كذب بها كائنا من كان وهم داهلون في زمرتهم دخولا أوليا ووضع الساعة موضع ضميرها للمبالغة في التشنيع ومدار إعناد السعير لهم وإن لم يكن مجرد تكذيبهم بالساعة بل مع تكذيبهم بسائر ما جاء به الشريعة الشريفة لكن الساعة لما كانت هي العلة القريبة لدخولهم السعير أشير إلى سببية تكذيبها لدخولها وقيل هو عطف على وقالوا ما لهاذ الخ على معنى بل أتوا بأعجب من ذلك حيث كذبوا بالساعة وأنكروها والحال أنا قد أعتدنا لكل من كذب بها سعيرا فإن جراءتهم على التكذيب بها وعدم خوفهم مما أعد لمن كذب بها من أنواع العذاب أعجب من القول السابق وقيل هو متصل بما قبله من الجواب المبني على التحقيق المنبئ عن الوعد بالجنات في الآخرة مسوق لبيان أن ذلك لا يجدي نفعا ولا يحلي بطائل على طريقة قول من قال ... عوجوا لنعم فحيوا دمنة الدار ... ماذا تحيون من نؤى وأحجار ... والمعنى أنهم لا يؤمنون بالساعة فكيف يقتنعون بهذا الجواب وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة وقيل المنى بل كذبوا بها فقصرت أنظارهم على الحظوظ الدنيوية وظنوا أن الكرامة ليست إلا بالمال وجعلوا فقرك ذريعة إلى تكذيبك وقوله تعالى ١٢ إذار أنهم الخ صفة للسعير أي إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد كقوله صلى اللّه عليه و سلم لا تتراءى ناراهما أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى على المجاز كأن بعضها يرى البعض ونسبة الرؤية إليها لا إليهم للإيذان بأن التغيظ والزفير منها لهجيان غضبها عليهم عند رؤيتها إياهم حقيقة أو تمثيلا ومن في قوله تعالى من مكان بعيد إشعار بأن بعد ما بينها وبينهم من المسافة حين رأتهم خارج عن حدود البعد المعتاد في المسافات المعهودة وفيه مزيد تهويل لأمرها قال الكلبي والسدي من مسيرة عام وقيل من مسيرة مائة سنة سمعوا لها تغيظا وزفيرا أي صوت تغيظ على تشبيه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره وهو صوت يسمع من جوفه هذا وإن الحياة لما لم تكن مشروطة عندنا بالبنية أمكن أن يخلق اللّه تعالى فيها حياة فترى وتتغيظ وتزفر وقيل إن ذلك لزبانيتها فنسب إليها على حذف المضاف ١٣ وإذا ألقوا منها مكبانا نصب على الظرفية ومنها حال منه لأنه في الأصل صفة له ضيقا صفة لمكانا مفيدة لزيادة شدة فإن الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة وهو السر في وصف الجنة بأن عرضها السموات و الأرض وعن ابن عباس وابن عمر رضي اللّه تعالى عنهم تضيق جهنم عليهم كما يضيق الزج على الرمح وسئل النبي صلى اللّه عليه و سلم عن ذلك فقال والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط قال الكلبي الأسفلون يرفعهم اللّهب والأعلون يحطهم الداخلون فيزدحمون فيها وقرئ ضيقا بسكون الياء مقرنين حال من مفعول ألقوا أي إذا ألقوا منها مكانا ضيقا حال كونهم مقرنين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوأمع وقيل مقرنين مع الشياطين في السلاسل كل كافر مع شيطان وفي أرجلهم الأصفاد دعوا هنالك أي في ذلك المكان الهائل والحالة الفظيعة ثبورا أي يتمنون هلاكا وينادونه يا ثبوراه تعال فهذا حينك وأوانك ١٤ لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا على تقدير قول إما منصوب على أنه حال من فاعل دعوا أي دعوه مقولا لهم ذلك حقيقة بأن يخاطبهم الملائكة به لتنبيههم على خلود عذابهم وأنهم لا يجابون إلى ما يدعونه ولا ينالون ما يتمنونه من الهلاك المنجى أو تمثيلا وتصويرا لحالهم بحال من يقال له ذلك من غير أن يكون هناك قول ولا خطاب أي دعوه حال كونهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك وأما مستأنف وقع جوابا عن سؤال ينسحب عليه الكلام كأنه قيل فماذا يكون عند دعائهم المذكور فقيل يقال لهم ذلك إقناطا مما علقوا به أطماعهم من الهلاك وتنبيها على أن عذابهم الملجئ لهم إلى استدعاء الهلاك بالمرة أبدى لا خلاص لهم منه أي لا تقتصروا على دعاء ثبور واحد وادعوا ثبورا كثيرا أي بحسب كثرة الدعاء المتعلق به لا بحسب كثرته في نفسه فإن ما يدعونه ثبور واحد في حد ذاته لكنه كلما تعلق به دعاء من تلك الأدعية الكثيرة صار كأنه ثبور مغاير لما تعلق به دعاء آخر منها وتحقيقه لا تدعوه دعاء واحدا وادعوه أدعية كثيرة فإن ما أنتم فيه من العذاب لغاية شدته وطول مدته مستوجب لتكرير الدعاء في كل آن وهذا أدل على فظاعة العذاب وهو له من جعل تعدد الدعاء وتجدده لتعدد العذاب بتعدد أنواعه وألوانه أو لتعدده بتجدد الجلود كما لا يخفى وأما ما قيل من أن المعنى إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا إنما هو ثبور كثير إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها فلا غاية لهلاكهم فلا يلائم المقام كيف لا وهم إنما يدعون هلاكا ينهى عذابهم وينجيهم منه فلابد أن يكون الجواب إقناطا لهم من ذلك ببيان استحالته ودوأم ما يوجب استدعاءه من العذاب الشديد وتقييد النهى والأمر باليوم لمزيد التهويل والتفظيع والتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام المعهود ١٥ قل تقريعا لهم وتهكما بهم وتحسيرا على ما فاتهم أذلك إشارة إلى ما ذكر من السعير باعتبار اتصافها بما فصل من الأحوال الهائلة وما فيه من معنى البعد للإشعار بكونها في الغاية القاصية من الهول والفظاعة أي قل لهم أذلك الذي ذكر من السعير التي أعتدت لمن كذب بالساعة وشأنها كيت وكيت وشأن أهلها ذيت وذيت خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون أي وعدها المتقون وإضافة الجنة إلى الخلد للمدح وقيل للتمييز عن جنات الدنيا والمراد بالمتقين المتصفون بمطلق التقوى لا بالمرتبة الثانية ولا الثالثة منها فقط كانت تلك الجنة لهم في علم اللّه تعالى أو في اللوح المحفوظ أو لأن ما وعده اللّه تعالى فهو كائن لا محالة فحكى تحققه ووقوعه جزاء على أعمالهم حسبما مر من الوعد الكريم ومصيرا ينقلبون إليه ١٦ لهم فيها ما يشاءون أي ما يشاءونه من فنون الملاذ والمشتهيات وأنواع النعيم كما في قوله تعالى ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولعل كل فريق منهم يقتنع بما أتيح له من درجات النعيم ولا تمتد أعناق هممهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية فلا يلزم الحرمان ولا تساوي مراتب أهل الجنان خالدين حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ وقيل من فاعل يشاءون كان أي ما يشاءونه وقيل الوعد المدلول عليه بقوله تعالى وعد المتقون على ربك وعدا مسئولا أي موعودا حقيقيا بأن يسأل ويطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون أو مسئولا يسأله الناس في دعائهم بقولهم ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك أو الملائكة بقولهم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم وما في على من معنى الوجوب لامتناع الخلف في وعده تعالى ولا يلزم منه الإلجاء إلى الإنجاز فإن تعلق الإرادة بالموعود متقدم على الوعد الموجب للإنجاز وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى اللّه عليه و سلم من تشريفه والإشعار بأنه صلى اللّه عليه و سلم هو الفائز اثر ذي أثير بمغانم الوعد الكريم ما لا يخفى ١٧ ويوم يحشرهم نصب على أنه مفعول لمضمر مقدم معطوف على قوله تعالى قل أذلك الخ أي واذكر لهم بعد التقريع والتحسير يوم يحشرهم اللّه عز و جل وتعليق التذكير باليوم مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث الهائلة قد مر وجهه غير مرة أو على أنه ظرف لمضمر مؤخر قد حذف للتنبيه على كمال هو له وفظاعة ما فيه والإيذان بقصور العبارة عن بيانه أي يوم يحشرهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي ببيانه المقال وقرئ بنون العظمة بطريق الالتفات من الغيبة إلى التكلم وبكسر الشين أيضا وما يعبدون من دون اللّه أريد به ما يعم العقلاء وغيرهم إما لأن كلمة ما موضوعة للكل كما ينبئ عنه أنك إذا رأيت شبحا من بعيد تقول ما هو أو لأنه أريد به الوصف لا الذات كأنه قيل ومعبوديهم أو لتغليب الأصنام على غيرها تنبيها على أنهم مثلها في السقوط عن رتبة المعبودية أو اعتبارا لغلبة عبدتها أو أريد به الملائكة والمسيح وعزير بقرينة السؤال والجواب أو الأصنام ينطقها اللّه تعالى أو تكلم بلسان الحال كما قيل في شهادة الأيدي والأرجل فيقول أي اللّه عزل وجل للمعبودين إثر حشر الكل تقريعا للعبدة وتبكيتا لهم وقرئ بالنون كما عطف عليه وقرئ هذا بالياء والأول بالنون على طريق الالتفات إلى الغيبة أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء بأن دعوتموهم إلى عبادتكم كما في قوله تعالى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون اللّه أم هم ضلوا السبيل أي عن السبيل بأنفسهم لإخلالهم بالنظر الصحيح وأعراضهم عن المرشد فحذف الجار وأوصل الفعل إلى المفعول كقوله تعالى وهو يهدي السبيل والأصل إلى السبيل أو السبيل وتقديم الضميرين على الفعلين لأن المقصود بالسؤال هو المتصدي للفعل لا نفسه قالوا استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية السؤال كأنه قيل فماذا قالوا في الجواب فقيل ١٨ قالوا سبحانك تعجبا مما قيل لهم لأنهم إما ملائكة معصومون وجمادات لا قدرة لها على شيء أو إشعارا بأنهم الموسومون بتسبيحه تعالى وتوحيده فكيف يتأتى منهم إضلال عباده أو تنزيها له تعالى عن الأنداد ما كان ينبغي لها أي ما صح وما استقام لنا أن نتخذ من دونك أي متجاوزين إياك من أولياء نعبدهم لما بنا من الحالة المنافية له فأنى يتصور أن نحمل غيرنا على أن يتخذ وليا غيرك فضلا ان يتخذنا وليا أو أن نتخذ من دونك أولياء أي اتباعا فإن الولي كما يطلق على المتبوع يطلق على التابع كالمولى يطلق على الأعلى والأسفل ومنه أولياء الشيطان أي أتباعه وقرئ على البناء للمفعول من المتعدي إلى المفعولين كما في قوله تعالى واتخذ اللّه إبراهيم خليلا ومفعوله الثاني من أولياء على أن من للتبعيض أي أن نتخذ بعض أولياء وهي على الأول مزيدة وتنكير أولياء من حيث أنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام ولكن متعتهم وآباءهم استدارك مسوق لبيان أنهم هم الضالون بعد بيان تنزههم عن إضلالهم وقد نعى عليهم سوء صنيعهم حيث جعلوا أسباب الهداية أسبابا للضلالة أي ما أضللناهم ولكنك متعتهم وآباءهم بانواع النعم ليعرفوا حقها ويشكروها فاستغرقوا في الشهوات وانهمكوا فيها حتى نسوا الذكر أي غفلوا عن ذكرك أو عن التذكر في آلائك والتدبر في آياتك فجعلوا أسباب الهداية بسوء اختيارهم ذريعة إلى الغواية وكانوا أي في قضائك المبني على علمك الأزلي المتعلق بما سيصدر عنهم فيما لا يزال باختيارهم من الأعمال السيئة قوما بورا أي هالكين على أن بورا مصدر وصف به الفاعل مبالغة ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع أو جمع بائر كعوذ في جمع عائذ والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله وقوله تعالى ١٩ فقد كذبوكم حكاية لاحتجاجه تعالى على العبدة بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن المعبودين عند تمام جوابهم وتوجيهه إلى العبدة مبالغة في تقريعهم وتبكيتهم على تقدير قول مرتب على الجواب أي فقال اللّه تعالى عند ذلك فقد كذبوكم المعبودون أيها الكفرة بما تقولون أي في قولكم إنهم آلهة وقيل في قولكم هؤلاء أضلونا ويأباه أن تكذيبهم في هذا القول لا تعلق له بما بعده من عدم استطاعتهم للصرف والنصر أصلا وإنما الذي يستتبعه تكذيبهم في زعمهم أنهم آلهتهم وناصروهم وأيا ما كان فالباء بمعنى في أو هي صلة للتكذيب على أن الجار والمجرور بدل اشتمال من الضمير المنصوب وقرئ بالياء أي كذبوكم بقولهم سبحانك الآية فما تستطيعون أي ما تملكون صرفا أي دفعا للعذاب عنكم بوجه من الوجه كما يعرف عنه التنكير أي لا بالذات ولا بالواسطة وقيل حيلة من قولهم إنه ليتصرف في أموره أي يحتال فهيا وقيل توبة ولا نصرا أي فردا من أفراد النصر لا من جهة أنفسكم ولا من جهة غيركم والفاء لترتيب عدم الاستطاعة على ما قبلها من التكذيب لكن لا على منى أنه لولاء لوجدت الاستطاعة حقيقة بل في زعمهم حيث كانوا يزعمون أنهم يدفعون عنهم العذاب وينصرونهم وفيه ضرب تهكم بهم وقرئ يستطيعون على صيغة الغيبة أي ما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب أو يحتالوا لكم ولا ينصروكم وترتب ما بعد الفاء على ما قبلها كما مر بيانه ومن يظلم منكم أيها المكلفون كدأب هؤلاء حيث ركبوا متن المكابرة والعناد واستمروا على ما هم عليه من الفساد وتجاوزوا في اللجاج كل حد معتاد نذقه في الآخرة عذابا كبيرا لا يقادر قدره وهو عذاب النار وقرئ يذقه على أن الضمير للّه سبحانه وتعالى وقيل لمصدر الفعل الواقع شرطا وتعميم الظلم لا يستلزم اشتراك الفاسق للكافر في إذاقة العذاب الكبير فإن الشرط في اقتضاء الجزاء مقيد بعدم المزاحم وفاقا وهو التوبة والإحباط بالطاعة إجماعا وبالعفو عندنا ٢٠ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق جواب عن قولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق والجملة الواقعة بعد إلا صفة لموصوف قد حذف ثقة بدلالة الجار والمجرور عليه وأقيمت هي مقامه كما في قوله تعالى وما منا إلا له مقام معلوم والمعنى ما أرسلنا أحدا قبلك من المرسلين إلا آكلين وماشين وقيل هي حال والتقدير إلا وإنهم ليأكلون الخ وقرئ يمشون على البناء للمفعول أي يمشيهم حوائجهم أو الناس وجعلنا بعضكم تلوين للخطاب بتعميمه لسائر الرسل عليهم الصلاة والسلام بطريق التغليب والمراد بهذا البعض كفار الأمم فإن اختصاهم بالرسل وتبعيتهم لهم مصحح لأن يعدوا بعضا منهم وبما في قوله تعالى لبعض رسلهم لكن لا على معنى جعلنا مجموع البعض الأول فتنة أي ابتلاء ومحنة لمجموع البعض الثاني ولا على معنى جعلنا كل فرد من أفراد البعض الأول فتنة لكل فرد من أفراد البعض الثاني ولا على معنى جعلنا بعضا مبهما من لأولين فتنة لبعض مبهم من الآخرين ضرورة أن مجموع الرسل من حيث هو مجموع غير مفتون بجموع الأمم ولا كل فرد منهم بكل فرد من لأم ولا بعض مبهم من الأولين ببعض منهم من الآخرين على بل معنى جعلنا كل بعض معين من الأمم فتنة لبعض معين من الرسل كأنه قيل وجعلنا كل أمة مخصوصة من الأمم الكافرة فتنة لرسولها المعين المبعوث إليها وإنما لم يصرخ بذلك تعويلا على شهادة الحال هذا وأما تعميم الخطاب لجميع المكلفين وإبقاء البعضين على العموم والإبهام على معنى وجعلنا بعضكم ايها الناس فتنة لبعض آخر منكم فيأباه قوله تعالى أتصبرون فإنه غاية للجعل المذكور ومن البين أن ليس ابتلاء كل أحد من آحاد الناس مغيا بالصبر بل بما يناسب حاله على أن الاقتصار على ذكره من غير تعرض لمعادل له مما يدل على أن اللائق بحال المفتونين والمتوقع صدوره عنهم هو الصبر لا غير فلابد أن يكون المراد بهم الرسل فيحصل به تسليته صلى اللّه عليه و سلم فالمعنى جرت سنتنا بموجب حكمتنا على ابتلاء المرسلين بأممهم وبمناصبتهم لهم العداوة وإيذائهم لهم وأقاويلهم الخارجة عن حدود الإنصاف لنعم صبركم وقوله تعالى وكان ربك بصيرا وعد كريم للرسول صلى اللّه عليه و سلم بالأجر الجزيل لصبره الجميل مع مزيد تشريف له صلى اللّه عليه و سلم بالالتفات إلى اسم الرب مضافا إلى ضميره صلى اللّه عليه و سلم ٢١ وقال الذين لا يرجون لقاءنا شروع في حكاية بعض آخر من أقاويلهم الباطلة وبيان بطلانها إثر إبطال أباطيلهم السابقة والجملة معطوفة على قوله تعالى وقالوا ما لهذا الرسول الخ ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على أن ما يحكي عنهم من الشناعة بحيث لا يصدر عمن يعتقد المصير إلى اللّه عز و جل ولقاء الشيء عبارة عن مصادفته من غير أن يمنع مانع من إدراكه بوجه من الوجوه والمراد بلقائه تعالى إما الرجوع إليه تعالى بالبعث والحشر رأو لقاء حسابه تعالى كما في قوله تعالى إِنِّي ظننت أني ملاق حسابيه وبعدم رجائهم إياه عدم توقعهم له أصلا لإنكارهم البعث والحساب بالكلية لا عدم أملهم حسن اللقاء ولا عدم خوفهم سوء اللقاء لأن عدمهما غير مستلزم لما هم عليه من العتو والاستكبار وإنكار البعث والحساب رأسا أي وقال الذين لا يتوقعون الرجوع إلينا أو حسابنا المؤدى إلى سوء العذاب الذي تستوجبه مقالتهم لولا أنزل علينا الملائكة أي هلا أنزلوا علينا ليخبرونا بصدق محمد صلى اللّه عليه و سلم وقيل هلا أنزلوا علينا بطريق الرسالة وهو الأنسب قولهم أو نرى ربنا من حيث أن كلا القولين ناشئ عن غاية غلوهم في المكابرة العتو حسبما يعرب عنه قوله تعالى لقد استكبروا في أنفسهم أي في شأنها حتى اجترءوا على التفوه بمثل هذه العظيمة الشنعاء وعتوا أي تجاوزا الحد في الظلم والطغيان عتوا كبيرا بالغا أقصى غاياته حيث أملوا نيل مرتبة المفاوضة الإلهية من غير توسط الرسول والملك كما قالوا لولا يكلمنا اللّه ولم يكتفوا بما عاينوا من المعجزات القاهرة التي تخر لها صم الجبال فذهبوا في الاقتراح كل مذهب حتى منتهم أنفسهم الخبيثة أماني لا تكاد ترنوا إليها أحداق الأمم ولا تمتد إليها أعناق الهمم ولا ينالها إلا أولوا العزائم الماضية من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واللام جواب قسم محذوف أي واللّه لقد استكبروا الآية وفيه من الدلالة على غاية قبح ما هم عليه والإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم ما لا يخفى ٢٢ يوم يرون الملائكة استئناف مسوق لبيان ما يلقونه عند مشاهدتهم لما اقترحوه من نزول الملائكة علهم السلام بعد استعظامه وبيان كون في غاية ما يكون من الشناعة وإنما قيل يوم يرون دون أن يقال يوم ينزل الملائكة إيذانا من أول الأمر بأن رؤيتهم لهم ليست على طريق الإجابة إلى ما اقترحوه بل على وجه آخر غير معهود ويوم منصوب على الظرفية بما يدل عليه قوله تعالى لا بشرى يومئذ للمجرمين فإنه في معنى لا يبشر يومئذ المجرمون والعدول إلى نفي الجنس للمبالغة في نفي البشرى وما قيل من أنه بمعنى يمنعون البشرى أو يعدمونها تهوين للخطب في مقام التهويل فإن منع البشرى وفقدانها مشعران بأن هناك بشرى يمنعونها أو يفقدونها وأين هذا من نفيها بالكلية وحيث كان نفيها كناية عن إثبات ضدها كما أن نفي المحبة في مثل قوله تعالى واللّه لا يحب الكافرين كناية عن البغض والمقت دل على ثبوت النذر لهم على أبلغ وجه وآكده وقيل منصوب بفعل مقدر يؤكده بشرى على أن لا غير نافية للجنس وقيل منصور على المفعولة بمضمر مقدم عليه أي اذكر يوم رؤيتهم الملائكة ويومئذ على كل حال تكرير للتأكيد والتهويل مع ما فيه من الإيذان بان تقديم الظرف للاهتمام لا لقصر نفي البشرى على ذلك الوقت فقط فإن ذلك مخل بتفظيع حالهم وللمجرمين تبيين على أنه مظهر وضع موضع الضمير تسجيلا عليه بالإجرام مع ما هم عليه من الكفر وحمله على العموم بحيث يتناولوا فساق المؤمنين ثم الالتجاء في إخراجهم عن الحرمان الكلي إلى أن نفي البشرى حينئذ لا يستلزم نفيه في جميع الأوقات فيجوز أن يبشروا بالعفو والشفاعة في وقت آخر بمعزل عن الحق بعيد ويقولون عطف على ما ذكر من الفعل المنفي المنبئ عن كمال فظاعة ما يحيق بهم من الشر وغاية هول مطلعه ببيان أنهم يقولون عند مشاهدتهم له حجرا محجورا وهي كلمة يتكلمون بها عند لقاء عدو موتور وهجوم نازلة هائلة يضعونها موضع الاستعاذة حيث يطلبون من اللّه تعالى أن يمنع المكروه فلا يلحقهم فكان المعنى نسأل اللّه تعالى أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا وكسر الحاء تصرف فيه لاختصاصه بموضوع واحد كما في قعدك وعمرك وقد قرئ حجرا بالضم والمعنى أنهم يطلبون نزول الملائكة عليهم السلام ويقترحونه وهم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة وفزعوا منهم فزعا شديدا وقالوا ما كانوا يقولونه عند نزول خطب شنيع وحلول بأس شديد فظيع ومحجورا صفة لحجرا وإرادة للتأكيد كما قالوا ذيل ذائل وليل أليل وقيل يقولها الملائكة إقناطا للكفرة بمعنى حراما محركا عليكم الغفران أو الجنة أو البشرى أي جعل اللّه تعالى ذلك حراما عليكم وليس بواضح ٢٣ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا بيان لحال ما كانوا يعملونه في الدنيا من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف ومن على أسير وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم التي لو كانوا عملوها مع الإيمان لنالوا ثوابها بتمثيل حالهم وحال أعمالهم المذكور بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى أشيائهم وقصد ما تحت أيديهم فأنحى عليها بالإفساد والتحريف ومزقها كل تمزيق بحيث لم يدع لها عينا ولا أثرا أي عمدنا إليها وأبطلناها أي أظهرنا بطلانها بالكلية من غير أن يكون هناك قدوم ولا شيء يقصد تشبيهه به والهباء شبه غبار يرى في شعاع الشمس يطلع من الكوة من الهبوة وهي الغبار ومنثورا صفته شبه به أعمالهم المحبطة في الحقارة وعدم الجدوى ثم بالمنثور منه في الانتشار بحيث لا يمكن نظمه أو مفعول ثالث من حيث إنه كالخبر بعد لخبر كما في قوله تعالى كونوا قردة خاسئين ٢٤ أصحاب الجنة هم المؤمنون المشار إليهم في قوله تعالى قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون الخ يومئذ أي يوم إذ يكون ما ذكر رمن عدم التبشير وقولهم حجرا محجورا وجعل أعمالهم هباء منثورا خير مستقرا المستقر المكان الذي يستقر فيه في أكثر الأوقات للتجالس والتحادث وأحسن مقيلا المقيل المكان الذي يؤوى إليه للاسترواح إلى الأزواج والمتنع بمغازلتهم سمى بذلك لما أن التمتع به يكون وقت القيلولة غالبا وقيل لأنه يفرغ من الحساب في منتصف ذلك اليوم فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وفي وصفه بزيادة الحسن مع حصول الخيرية بعطفه على المستقر رمز إلى أنه مزين بفنون الزين والزخارف والتفضيل المعتبر فيهما إما لإرادة الزيادة على الإطلاق أي هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل وأما بالإضافة إلى ما للكفرة المتنعمين في الدنيا أو إلى ما لهم في الآخرة بطريق التهكم بهم كما مر في قوله تعالى قل أذلك خير الآية هذا وقد جوز أن يراد بأحدهما المصدر أو الزمان إشارة إلى أن مكانهم وزمانهم أطيب ما يتخيل من الأمكنة والأزمنة ٢٥ ويوم تشقق السماء اي تتفتح واصله تتشقق فحذفت إحدى التاءين كما في تلظى وقرئ بإدغام التاء في الشين بالغمام بسبب طلوع الغمام منها وهو الغمام الذي ذكر في قوله تعالى هل ينظرون إلا أن يأتيهم اللّه في ظلل من الغمام والملائكة قيل هو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة لم يكن إلا لبني إسرائيل ونزل الملائكة تنزيلا أي تنزيلا عجيبا غير معهود قيل تنشق سماء سماء وينزل الملائكة خلال ذلك الغمام بصحائف أعمال العباد وقرئ ونزلت الملائكة وننزيل وتنزل على صيغة المتكلم من الإنزال والتنزيل ونزل الملائكة وأنزل الملائكة ونزل الملائكة على حذف النون الذي هو فاء الفعل من تنزل ٢٦ الملك يومئذ الحق للرحمن اي السلطنة القاهرة والإستيلاء الكلى العام الثابت صورة ومعنى ظاهرا وباطنا بحيث لا زوال له أصلا ثابت للرحمن يؤمئذ فالملك مبتدأ والحق صفته وللرحمن خبرة ويومئذ ظرف لثبوت الخبر للمبتدأ وفائدة التقييد أن ثبوت الملك المذكور له تعالى خاصة يومئذ وأما فيما عداه من ايام الدنيا فيكون لغيره أيضا تصرف صوري في الجملة وقيل الملك مبتدأ والحق خبره وللرحمن متعلق بالحق أو بمحذوف على التبيين أو بمحذوف هو صفة للحق ويومئذ معمول للملك وقيل الخبر يومئذ والحق نعت للملك وللرحمن على ما ذكر وأيا ما كان فالجملة بمعناها عاملة في الظرف أي ينفرد اللّه تعالى بالملك يوم تشقق وقيل الظرف منصوب بما ذكر فالجملة حينئذ استئناف مسوق لبيان أحواله وأهواله وإيراده تعالى بعنوان الرحمانية للإيذان بأن اتصافه تعالى بغاية الرحمة لا يهون الخطب على الكفرة لعدم استحقاقهم للرحمة كما في قوله تعالى يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم والمعنى أن الملك الحقيقي يومئذ للرحمن وكان ذلك اليوم مع كون الملك فيه للّه تعالى المبالغ في الرحمة لعباده يوما على الكافرين عسيرا شديدا لهم وتقديم الجار والمجرور لمراعاة الفواصل وأما للمؤمنين فيكون يسيرا بفضل اللّه تعالى وقد جاء في الحديث انه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله ٢٧ ويوم يعض الظالم على يديه عض اليدين والأنامل وأكل البنان وحرق الأسنان ونحوها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من رواد فهما والمراد بالظالم إما عقبة بن أبي معيط على ما قيل من أنه كان يكثر مجالسة النبي صلى اللّه عليه و سلم فدعاه صلى اللّه عليه و سلم يوما إلى ضيافته فأبى صلى اللّه عليه و سلم أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه فقال صبأت فقال لا ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له فقال إني لا أرضى منك إلا ان تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك فقال صلى اللّه عليه و سلم لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فأسر يوم بدر فأمر عليا رضي اللّه عنه فقتله وقيل قتله عاصم بن ثابت الأنصاري وطعن صلى اللّه عليه و سلم أبيا يوم أحد في المبارزة فرجع إلى مكة ومات وأما جنس الظالم وهو داخل فيه دخولا أوليا وقوله تعالى يقول الخ حال من فاعل بعض وقوله تعالى يا ليتني الخ محكي به ويا إما لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه أو المنادى محذوف أي يا هؤلاء ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا أي طريقا واحدا منجيا من هذه الورطات وهو طريق الحق ولم تتشعب بي طريق الضلالة أو حصلت في صحبته صلى اللّه عليه و سلم طريقا ولم أكن ضالا لا طريق لي قط يا ويلنا بقلب ياء المتكلم ألفا كما في صحارى ومدارى وقرئ على الأصل ٢٨ ياويلتي أي هلكتي تعالى واحضري فهذا أوانك ليتني لم أتخذ فلانا خليلا يريد من أضله في الدنيا فإن فلانا كناية عن الأعلام كما أن الهن كناية عن الأجناس وقيل فلان كناية عن علم ذكور من يعقل وفلانة عن علم إناثم وفل كناية عن نكرة من يعقل من الذكور وفلة عمن يعقل من الإناث والفلان والفلانة من غير العاقل ويخص فل بالنداء إلا في ضرورة كما في قوله ... في لجة أمسك فلانا عن فل ... وقوله ... خذ حد ثاني عن فلن وفلان ... وليس فل مرخما من فلان خلافا للفراء واختلفوا في لام فل وفلان فقيل واو وقيل ياء هذا فإن أريد بالظالم عقبة ففلان كناية عن أبي وإن أريد بن الجنس فهو كناية عن علم كل من يضله كائنا من كان من شياطين الإنس والجن وهذا التمني منه وإن كان مسوقا لإبراز الندم والحسرة لكنه متضمن لنوع تعلل واعتذار بتوريك جنايته إلى الغير وقوله تعالى ٢٩ لقد أضلني عن الذكر تعليل لتمنيه المذكور وتوضيح لتعللّه وتصديره باللام القسمية للمبالغة في بيان خطئه وإظهار ندمه وحسرته أي واللّه لقد أضلني عن ذكر اللّه تعالى أو عن القرآن أو عن موعظة الرسول صلى اللّه عليه و سلم أو كلمة الشهادة بعد إذ جاءني وتمكنت منه وقوله تعالى وكان الشيطان للإنسان خذولا أي مبالغا في الخذلان حيث يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك ثم يتركه ولا ينفعه اعتراض مقرر لمضمون ما قبله إما من جهته تعالى أو من تمام كلام الظالم على أنه سمى خليله شيطانا بعد وصفه بالإضلال الذي هو أخص الأوصاف الشيطانية أو على أنه أراد بالشيطان إبليس لأنه الذي حمله على مخالة المضلين ومخالفة الرسول الهادي صلى اللّه عليه و سلم بوسوسته وإغوائه لكن وصفه بالخذلان يشعر بأنه كان يعده في الدنيا ويمنيه بأن ينفعه في الاخرة وهو أوفق بحال إبليس ٣٠ وقال الرسول عطف على قوله تعالى وقال الذين لا يرجون لقاءنا وما بينها اعتراض مسوق لاستعظام ما قالوه وبيان ما يحيق بهم في الآخرة من الأهوال والخطوب وإيراده صلى اللّه عليه و سلم بعنوان الرسالة لتحقيق الحق والرد على نحورهم حيث كان ما حكى عنهم قدحا في رسالته صلى اللّه عليه و سلم أي قالوا كيت وكيت وقال الرسول إثر ما شاهد منهم غاية العتو ونهاية الطغيان بطريق البث إلى ربه عز و جل يا رب إن قومي يعني الذين حكى عنهم ما حكى من الشنائع اتخذوا هذا القرآن الذي من جملته هذه الآيات الناطقة بما يحيق بهم في الآخرة من فنون العقاب كما ينبئ عنه كلمة الإشارة مهجورا أي أنه متروكا بالكلية ولم يؤمنوا به ولم بعرفوا إليه رأسا ولم يتأثروا بوعيده وفيه تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم فإنه روى عنه صلى اللّه عليه السلام أنه قال من تعلم القرآن و علق مصحفا لم يتعاهده و لم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به العالمين عبدك هذا أتخذل مهجورا اقض بيني وبينه وقيل هو من هجر إذا هذى أي جعلوه مهجورا فيه إما على زعمهم الباطل وأما بأن هجروا فيه إذا سمعوه كما يحكى عنهم من قولهم لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه وقد جوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر كالمجلود والمعقول فالمعنى اتخذوه وهجرا وهذيانا وفيه من التخدير والتخويف مالا يخفى فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا شكوا إلى اللّه تعالى قولهم عجل لهم العذاب ولم ينظروا وقولة تعالى ٣١ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم وحمل له على الاقتداء بمن قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يقولون ما بقولون ويفعلون من الأباطيل جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين هم أصحاب الشريعة والدعوة إليها عدوا من مجرمي قومهم فاصبر كما صبروا وقولة تعالى وكفى بربك هاديا ونصيرا وعد كريم له صلى اللّه عليه و سلم بالهداية إلى كافة مطالبة والنصر على أعدائه أي كفاك مالك أمرك ومبلغك إلى الكمال هاديا لك إلى ما وصلك إلى غاية الغابات التي من جملتها تبليغ الكتاب أجله وإجراء أحكامه في أكتاف الدنيا إلى يوم القيامة ونصيرا لك على جميع من يعاديك ٣٢ وقال الذين كفروا حكاية لا قتراحم الخاص بالقرآن الكريم بعد حكاية اقتراحهم في حقه صلى اللّه عليه و سلم والقائلون هم القائلون أولا وإيرادهم بعنوان الكفر لذمهم به والأشعار بعلة الحكم لولا نزل عليه القرآن التنزيل ههنا مجرد عن معنى التدريج كما فى فى قوله تعالى أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ويجوز أن يراد به الدلالة على كثرة المنزل في نفسه أي هلا أنزل كله جملة واحدة كالكتب الثلاثة وبطلان هذه الكلمة الحمقاء مما لا يكاد يخفي على أحد فإن الكتب المتقدمة لم يكن شاهد صحتها ودليل كونها من عند اللّه تعالى إعجازها وأما القرآن الكريم فبينة صحته آية كونه من عند اللّه تعالى نظمه المعجز الباقي على مر الدهور المتحقق في كل جزء من أجزائه المرقدة بمقدار أقصر السور حسبما وقع به التحدي ولا ريب في أن ما يدور عليه فلك الإعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الأحوال ومن ضرورة تغيرها وتجددها تغير ما يطابقها حتما على أن فيه فوائد جمه أشير إلى بعض منها بقوله تعالى كذلك لنثبت به فؤادك فإنه استئناف وارد من جهته تعلى لرد مقالهم الباطل وبيان الحكمة في التنزيل التدريجي ومحل الكاف النصب على أنها صفه لمصدر مؤكد لمضمر معلل بما يعده وذلك إشارة إلى ما يفهم من كلامهم أي مثل ذلك التنزيل المفرق الذي قد حوا فيه واقترحوا خلافه ونزلناه لا تنزيل مغايرا له لنقوى بذلك التنزيل المفرق فؤادك فإن فيه تيسير الحفظ النظم وفهم المعاني وضبط الأحكام والوقوف على تفاصيل ما روعي فيها من الحكم والمصالح المبينة على المناسبة على أنها مونطة بأسبابها الداعية إلى شرعها ابتداء أو تبديلا بالنسخ من أحوال المكلفين وكذلك عامة ما ورد في القرآن المجيد من الأخبار وغيرها متعلقة بأمور حادثة من الأقاويل والأفاعيل ومن قضية تجددها تجدد ما يتعلق بها كالاقتراحات الواقعة من الكفرة الداعية إلى حكايتها وإبطالها وبيان ما يؤول إليه حالهم في الآخرة على أنهم في هذا الاقتراح كالباحث عن حتفه بظلفه حيث أمروا بالإتيان بمثل نوبة من نوب التنزيل فظهر عجزهم عن المعارضة وضاقت عليهم الأرض بما رحبت فكيف لو تحدوا بكلمة وقوله تعالى رتلناه ترتيلا عطف على ذلك المضمر وتنكير ترتيلا للتفخيم أي كذلك نزلناه ورتلناه ترتيلا بديعا لا يقادر قدره معنى ترتيله تفريقه آية بعد آية قاله النخعى والحسن وقتادة وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما بيناه بيانا فيه ترتيل وتثيبت وقال السدى فصلناه تفصيلا وقال مجاهد جعلنا بعضه في إثر بعض وقيل هو الأمر بترتيل قراءته بقوله تعالى ورتل القرآن ترتيلا وقيل قرأناه عليك بلسان جبريل عليه السلام شيئا فشئيا في عشرين أو ثلاث وعشرين سنة على تؤدة وتمهل ولايأتوك بمثل من الأمثال من جملتها ما حكى من اقتراحاتهم القبيحة الخارجة عن دائرة العقول الجارية لذلك مجرى الأمثال أي ٣٣ لا يأتونك بكلام عجيب هو مثل في البطلان يريدون به القدح في حقك وحق القرآن إلا جئناك في مقابلته بالحق أي بالجواب الحق الثابت الذي ينحي عليه بالإبطال ويحسم مادة القيل والقال كما مر من الأجوبة الحقة القالعة لعروق أسئلتهم الشنيعة الدامغة لها بالكلية وقوله تعالى وأحسن تفسيرا عطف على الحق أي جئناك بأحسن الحسن في حد ذاته لا أن ما يأتون به له حسن في الجملة وهذا أحسن منه كما مروا الاستثناء مفرغ محله النصب على الحالية أي لا يأنونك بمثل إلا حال إتياننا إياك الحق الذي لا مجيد عنه وفيه من الدلاله على المسارعة إلى إبطال ما أتوا به وتثبيت فؤاده صلى اللّه عليه و سلم مالا يخفى وهذا بعبارته ناطق ببطلان جميع الأسئله وبصحة جميع الأجوبة وبإشارته منبىء عن بطلان السؤال الأخير وصحة جوابة إذلولا أن تنزيل القرآن على التدريج لما أمكن إبطال تلك الاقتراحات الشنيعة ولما حصل تثبيت فؤاده صلى اللّه عليه و سلم من تلك الحيثية هذا وقد جوز أن يكون المثل عبارة عن الصفة العريبة التي كانوا يقترحون كونه صلى اللّه عليه و سلم عليها من مقارنة الملك والاستغناء عن الأكل والشرب وحيازة الكنز والجنة ونزول القرآن عليه جملة واحده على معنى لا يأتوك بحال عجيبة يقترحون اتصافك بها قائلين هلا كان على هذه الحالة إلا أعطياك نحن من الأحوال الممكنة ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفا لما بعثت عليه ودلالة على صحته وهو الذي أنت عليه في الذات والصفات ويأباه الاستثناء المذكور فإن المتبادر منه يكون ما أعطاه اللّه تعالى من الحق مترتبا على ما أتوا به من الأباطيل دامغا لها ولا ريب في ما آتاه اللّه تعالى من الملكات السنية اللائقة بالرسالة قد أتاه من أول الأمر لا بمقابلة ما حكى عنهم من الاقتراحات لأجل دمغها وإبطالها ٣٤ الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أي يحشرون كائين على وجوههم يسبحون عليها ويجرون إلى جهنم وقيل مقلوبين وجوههم على قفاهم وأرجلهم إلى فوق روى عنه صلى اللّه عليه و سلم يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث ثلث على الدواب و ثلث على وجوههم و ثلث على وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا وأما ما قيل متعلقة قلوبهم بالسفليات متوجهة وجوههم إليها فبيعد لأن هول ذلك اليوم ليس بحيث يبقى لهم عنده تعلق بالسفليات أو توجه إليها في الجملة ومحل الموصول إما النصب أو الرفع على الذم أو الرفع على الابتداء وقوله تعالى أولئك بدل منه أو بيان له وقوله تعالى شرمكانا وأضل سبيلا خبر له أو اسم الإشارة مبتدأ ثان وشر خبره والجملة خبر للمصول ووصف السبيل بالضلال من باب الإسناد المجازي للمبالغة والمفضل عليه الرسول صلى اللّه عليه و سلم على مهاج قوله تعالى قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند اللّه من لعنه اللّه وغضب عليه كأنه قي إن حاملهم على هذه الاقتراحات تحقير مكانه صلى اللّه عليه و سلم بتضليل سبيله ولا يعلمون حالهم ليعلموا أنهم شر مكانا وأضل سبيلا وقيل هو متصل بقوله تعالى أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ٣٥ ولقد آتينا موسى جملة مستأنفة سيقت لتأكيد ما مر من التسلية والوعد بالهداية والنصر في قوله تعالى وكفى بربك هاديا ونصيرا بحكاية ما جرى بين من ذكر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبين قومهم حكاية إجمالية كافية فيما هو المقصود واللام جواب لقسم محذوف أي وباللّه لقد آتينا موسى التوراة أي أنزلناها عليه بالآخرة وجعلنا معه الظرف متعلق بجعلنا وقوله تعالى أخاه مفعول أول له وقوله تعالى هرون بدل منن أخاه أو عطف بيان له على عكس ما وقع في سورة طه وقوله تعالى وزيرا وفعول به ثان له وقد مرئمة معنى الوير أي جلعناه في أول الأمر وزيرا له ٣٦ فقلنا لهما حينذ اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا هم فرعون وقومه والآيات هي المعجزات التسع المفصلات الظاهرة على يدي موسى عليع السلام ولم يوصف القوم لهما عند إرسالهما إليهم بهذا الوصف ضرورة تأخر تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن ذهابهما المتأخر عن الأمر به بل إنما وصفوا بذلك عنه الحكاية لرسو ل اللّه صلى اللّه عليه و سلم بيانا لعلة استحفافهم لما يحكى بعده من التدمير أي فذهبا اليهم فأرياهم آياتتا كلها فكذبوها تكذيبا مستمرا فدمرناهم التكذيب أثر ذلك التكذيب المستمر تدميرا عجيبا هائلا لا يقادر قدره ولا يدرك كنهه فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء بما هو المقصود وحمل قوله تعالى فدمرناهم على معنى فحكمنا بتدميرهم مع كونه تعسفا ظاهرا مما لا وجه له إذ لا فائدة يعتد بها في حكاية الحكم بيتدمير قد وقع وانقضى والتعرض في مطلع القصة لإيتاء الكتاب مع أنه كان بعد مهلك القوم ولم يكن له مدخل في هلاكهم كسائر الأيات للإيذان من أول الأمر ببلوغه صلى اللّه عليه و سلم غاية الكمال و نيله نهاية الامال التي هي إنجاء بني إسرائيل من ملكه فرعون وإرشادهم إلى الطريق الحق صلى اللّه عليه و سلم غايى الكمال ونيله نهاية بما في التوراة من الأحكام إذا به يحصل تأكيد الوعد بالهداية على الوجه الذي مربيانه وقرىء فدمرتهم وفدمراهم وفدمراهم على التأكيد بالنون الثقيلة ٣٧ وقوم نوح منصوب بمضمر يدل عليه قوله تعالى فدمرناهم أي ودمرنا قوم نوح وقيل عطف على مفعول فدمر ناهم وليس من ضرورة ترتيب تدميرهم على ما قبله ترتب تدمير هؤلاء عليه لا سيما وقد بين سببه بقوله تعالى لما كذبوا الرسل أي نوحا ومن قبله من الرسل أو نوحا وحده لأن تكذيبه تكذيب للكل لا تفاقهم على التوحيد والإسلام وقيل هو منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى أغرقناهم وإنما يتسنى ذلك على تقدير كون كلمه لما ظرف زمان وأما على تقدير كونها حرف وجود لوجود فلا لأنه حينئذ جواب لها وجواب لما لا يفسر ما قبله مع أنه مخل بعطف المنصوبات الآتيه على قوم نوح لما أن إهلاكهم ليس بالإغراق فالوجه ما نقدم وقوله تعالى أغرقناهم استناف مبين لكيفية تدميرهم وجعلناهم أي جعلنا إفراقهم أو قصتهم للاس آيه أي آية عظيمة يعتبر بها كل من شاهدها أو سمعها وهي مفعول ثان لجعلنا وللناس ظرف لغوله أو متعلق محذوف وق حالا من آية إذ لو تأخر عنها لكان صفة لها وأعتدنا للظالمين أي لهم والإظهار في موقع الإضمار للإبذان بتجاوزهم الحد في الكفر والتكذيب عذابا أليما هو عذاب الآخرة لا فائدة في الإخبار بإعتياد العذاب الذي قد أخبر بوقوعة من قبل أو لجميع الظالمين الباقين الذين لم يعتبروا بما جرى عليهم من العذاب فيدخل في زمرتهم قريش دخولا أةليا ويحتمل العذاب الدنيوي الأخروى ٣٨ وعادا عطف على قوم نوح وقيل على المفعول الأول لجعلناهم وقيل على الظالمين إذهو في معنى وعدنا الظالمين وكلاهما بعيد وثمود الكلام فيه وفيما بعده كما فيما قبله وقرىء وثمودا على تأويل الحى أنه الأب الأقصى وأصحاب الرس هم قوم يعبدون الأصنام فبعث اللّه تعالى إليهم شعيبا عليه السلام فكذبوه فبينما هم حول الرس وهي البءر التي لم تطو بعد إذ انهارت فخسف بهم وبديارهم وقيل الرس قرية بفلج اليمامة كان فيها بقايا ثمود فبعث إليهم نبي فقتلوخ فهلكوا أو قيل هو الأخدود وقيل بءر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار وقيل هم أصحاب حنظلة بن صفوان النبي صلى اللّه عليه و سلم ابتلاهم اللّه بطير عظيم كان فيها من كل لون وسموها عنقاء لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتخ أو دمخ فتنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد ولذلك سميت مغربا فدعا عليها حنظلة عليه السلام فأصابتها الصاعقة ثم إنهم قتلوه عليه السلام فأهلكوا وقيل قوم كذبوا رسولهم فرسوه أى دسوه في بئر وقرونا أي أهل قرون قيل القرن أربعون سنة وقيل سبعون وقيل مائة وعشرون بين ذلك أي بين ذلك المذكور من الطوائف والأمم وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك ويحسب الحاسب أعدادا متكاثرة ثم يقول فذلك كيت وكيت على ذلك المذكور وذلك المحسوب كثيرا لا يعلم مقدارها إلا العليم الخبير ولعل الإكتفاء في شؤن تلك القرون بهذا البيان الإجمالي لما أن كل قرن منها لم يكن في الشهرة وغرابة القصة بمثابة الأمم المذكورة ٣٩ وكلا منصوب بمضمر يدل عليه ما بعده فإن ضرب المثل في معنى التذكير والتحذير والمحذوف الذي عوض عنه التنوين عبارة إما عن الأمم التي لم يذكر أسباب إهلاكهم وأما عن الكل فإن ما حكى عن قوم نوح وقوم فرعون تكذيبهم للآيات والرسل لا عدم التأثير من الأمثال المضروبة أي ذكرنا وأنذرنا كل واحد من المذكورين ضربنا له الأمثال أي بينا له القصص العجينة الزاجرة عما هم عليه من الكفر و المعاصي بواسطة الرسل وكلا الامال التي هي إنجاء بني إسرائيل تبرنا تتبيرا عجيبا هلائلا لما أنهم لم يتأثروا بذلك ولم يرفعوا له رأسا وتمادوا على ما هم عليه عن الكفر والعدوان وأصل التتبير التفتيت قال الزجاج كل شيء كسرته وفتتته فقد تبرته ومنه التبر لفئات الذهب والفضة ٤٠ ولقد أتوا جملة مستأنفة مسوقة لبيان مشاهدتهم لآثار هلاك بعض الأمم المتبرة وعدم اتعاظهم بها وتصديرها بالقسم لمزيد تقرير مضمونها أى وباللّه لقد أتى قريش في متاجرهم إلى الشام على القرية التي أمطرت أى أهلكت بالحجارة وهي قرى قوم لوط وكانت خمس قرى ما نجت منها إلا واحدة كان أهلها لا يعملون العمل الخبيث وأما البواقي فأهلكها اللّه تعالى بالحجارة وهي المرادة بقول تعالى مطر السوء وانتصابه إما على أنه مصدر مؤكد بحذف الزوائد كما قيل في أنبته اللّه تعالى نباتا حسنا أى أمطار السوء أو على تركهم بعلة الحكم لولا نزل عليه القرآن التنزيل ههنا مجرد عن معنى التدريج كما في قوله تعالى يسألك الامال التي هي إنجاء بني إسرائيل التذكر عند مشاهدة ما يوجبه والهمزة لإنكار نفي استمرار رؤيتهم لها وتقرير استمرارها حسب استمرار ما يوجبها من إتيانهم عليها لا لإنكار استمرار نفي رؤيتهم وتقرير رؤيتهم لها في الجملة والفاء لعطف مدخولها على مقدر يقتضيه المقام أي ألم يكونوا ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها أو أكانوا ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها في مرار مرورهم ليتعظوا بما كانوا يشاهدونه من آثار العذاب فالمنكر في الأول ترك النظر وعدم النظر الرؤية معا وفي الثاني عدم الرؤية مع تحقق النظر الموجب لها وقوله تعالى بل كانوا لا يرجون نشورا إما إضراب عما قبله من عدم رؤيتهم لآثار ما جرى على أهل القرى من العقوبة وبيان لكون وعدم اتعاظهم بسبب إنكارهم لكون ذلك عقوبة لمعاصيهم لا لعدم رؤيتهم لآثارها خلا أنه اكتفى عن التصريح بإنكارهم ذلك بذكر ما يستلزمه من إنكارهم للجزاء الأخروى الذي هو الغابة من خلق العالم وقد كنى عن ذلك بعدم النشور أى عدم توقعه كأنه قيل بل كانوا ينكرون النشور المستتبع للجزاء الأخروى ولا يرون لنفس من النفوس نشورا أصلا مع تحققه حتما وشموله للناس عموما واطراده وقوعا فكيف يعترفون بالجزاء الدنيوي في حق طائفة خاصة مع عدم الإطراد والملازمة بينه وبين المعاصي حتى يتذكروا ويتعظوا بما شاهدوه من آثار الهلاك وإنما يحملونه على الإتفاق وأما انتقال من التوبيخ بما ذكر من ترك التذكر إلى التوبيخ بما هو أعظم منه من عدم توقع النشور ٤١ وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أى ما يتخذونك إلا مهزوءا به على معنى قصر معاملتهم معه صلى اللّه عليه و سلم على اتخاذهم إياه صلى اللّه عليه و سلم هزؤا لا على معنى قصر اتخاذهم على كونه هزؤا كما هو المتبادر من ظاهر العبارة كأنه قيل ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزؤا وقد مر تحقيقه في قوله تعالى إن أتبع إلا ما يوحى إلى من سورة الأنعام وقوله تعالى أهذا الذي بعث اللّه رسولا محكى بعد قول مضمر هو حال من فاعل يتخذونك أي يستهزؤن بك قائلين أهذا الذي الخ والإشارة للإستحقار وإبراز بعث اللّه رسولا في معرض التسليم بجعله صلة للموصول الذي هو صفته صلى اللّه عليه و سلم مع كونهم في غاية النكير لبعثه صلى اللّه عليه و سلم بطريق التهكم والاستهزاء وإلا لقالوا أبعث اللّه هذا رسولا أو أهذأ الذي يزعم أنه بعثه اللّه رسولا إن كاد إن مخففه من ٤٢ إن وضمير الشأن محذوف أي إنه كاد ليضلنا عن آلهتنا أي ليصرفنا عن عبادتها صرفا كليا بحيث يبعدنا عنها لا عن عبادتها فقط والعدول إلى الإضلال لغاية ضلالهم بإدعاء أن عبادتها طريق سوى لولا أن صبرنا عليها ثبتنا عليها واستمسكنا بعبادتها ولولا في أمثال هذا الكلام تجرى مجرى التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى كما أشير إليه في قوله تعالى ولقد همت به الخ وهذا اعتراف منهم بأنه صلى اللّه عليه و سلم قد بلغ من الإجتهاد في الدعوة إلى الحق وإظهار المعجزات وإقامة الحجج والبينات إلى حيث شارفوا أن يتركوا دينهم لولا فرط لجاجهم وغاية عنادهم يروي أنه من قول أبي جهل وسوف يعلمون جواب من جهته تعالى لآخر كلامهم ورد لما ينبىء عنه من نسبته صلى اللّه عليه و سلم إلى الضلال في ضمن الإضلال أي سوف يعلمون البتة وإن تراخى حين يرون العذاب الذي يستوجبه كفرهم وعنادهم من أضل سبيلا وفيه ما لا يخفى من الوعيد والتنبيه على أنه تعالى لا يهملهم وإن أمهلهم ٤٣ أرأيت من اتخذ إلهه هواه تعجيب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من شناعة حالهم بعد حكاية قبائحهم من الأقوال والأفعال وبيان ما لهم من المصير والمال وتنبيه على أن ذلك من الغرابة بحيث يجب أن يرى ويتعجب منه وإلهه مفعول ثان لأتخذ قدم على الأول للأعتناء به لأنه الذي يدور عليه أمر التعجب ومن توهم أنهما على الترتيب بناء على تساويهما في التعريف فقد زل منه أن المفعول الثاني في هذا الباب هو المتلبس بالحالة الحادثة أي أرأيت من جعل هواه إلها لنفسه من غير أن يلاحظ وبنى عليه أمر دينه معرضا عن استماع الحجة الباهرة البرهان النير بالكلية على معنى انظر إليه وتعجب منه وقوله تعالى أفأنت تكون عليه وكيلا إنكار واستبعاد لكونه صلى اللّه عليه و سلم حفيظا عليه يزجره عما هو عليه من الضلال ويرشده إلى الحق طوعا أو كرها والفاء لترتيب الإنكار على ما قبله من الحالة الموجبة له كأنه قيل أبعد ما شاهدت غلوه في طاعة الهوى وعتوه عن اتباع الهدى تقسره على الإيمان شاء أو أبى وقوله تعالى ٤٤ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إضراب وانتقال عن الإنكار المذكور إلى إنكار حسبانه صلى اللّه عليه و سلم لهم ممن يسمع أو يعقل حسبما ينبىء عنه جده صلى اللّه عليه و سلم في الدعوة وإهتمامه بالإرشاد والتذكير لكن لا على أنه لا يقع كالأول بل على أنه لا ينبغي أن يقع أى بل اتحسب أن أكثرهم يسمعون ما تتلوا عليهم من الآيات حتى السماع أو يعقلون ما في تضاعيفها من المواعظ الزاجرة عن القبائح الداعية إلى المحاسن فتعتني بشأنهم وتطمع في إيمانهم وضمير أكثرهم لمن وجمعه بإعتبار معناها كما أن الإفراد في الضمائر الأول بإعتبار لفظها وضمير الفعلين لأكثر لا لما أضيف هو إليه وقوله تعالى إن هم إلا كالأنعام الخ جملة مستأنفة مسوقة لتقرير النكير وتأكيده وحسم مادة الحسبان بالمرة أى ما هم في عدم الإنتفاع بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات وإنتفاء التدبر فيما يشاهدونه من الدلائل والمعجزات إلا كالبهائم التي هي مثل في الغفلة وعلم في الضلالة بل هم أضل منها سبيلا لما أنها تنقاد لصاحبها الذي يعلفها ويتعهدها وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها وتأوى إلى معاطنها وهؤلاء لا ينقادون لربهم وخالقهم ورازقهم ولا يعرفون إحسانهم إليهم من إساءة الشيطان الذي هو أعدى عدوهم ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهنى والمورد العذب الروى ولأنها إن لم تعتقد حقا مستتبعا لاكتساب الخير لم تعتقد باطلا مستوجبا لأقتراف الشر بخلاف هؤلاء حيث مهدوا قواعد الباطل وفرعوا عليها أحكام الشرور ولأن أحكام جهالتها وضلالتها مقصورة على أنفسها لاتتعدى إلى أحد وجهالة هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفتنى والفساد وصد الناس عن سنين السداد وهيجان الهرج والمرج فيما بين العباد ولأنها غير معطلة لقوة من القوى المودعة بل صارفة لها إلى ما خلقت هي له فلا تقصير من قبلها في طلب الكمال وأما هؤلاء فهم معطلون لقواهم العقلية مضيعون للفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها مستحقون بذلك أعظم العقاب وأشد النكال ٤٥ ألم ترى إلى ربك بيان لبعض دلائل التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها وضلالتهم والخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم والهمزة للتقرير والتعرض لعنوان الربوبية مع الأضافة إلى ضميره صلى اللّه عليه و سلم لتشريفه صلى اللّه عليه و سلم وللإيذان بأن ما يعقبه من آثار ربوبيته ورحمته تعالى أي ألم تنظر إلى بديع صنعه تعالى كيف مد الظل أي كيف أنشأ ظل أي مظل كان من جبل أو بناء أو شجر عند إبتداء طلوع الشمس ممتدا لا أنه تعالى مده بعد أن لم يكن كذلك كما بعد نصف النهار إلى غروبها فإن ذلك مع خلوه عن التصريح بكون نفسه بإنشائه تعالى وإحداثه يأباه سياق النظم الكريم وأم ما قيل من أن المراد بالظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وأنه أطيب الأوقات فإن الظلمة الخالصة تنفر عنها الطباع وشعاع الشمس يسخن الجو ويبهر البصر ولذلك وصف به الجنة في قوله تعالى وظل ممدود فغير سديد إذ لاريب في أن المراد تنبيه الناس على عظيم قدرة اللّه عز و جل وبالغ حكمته فيما يشاهدونه فلا بد أن يراد بالظل ما يتعارفونه من حالة مخصوصة يشاهدونها في موضع يحول بينه وبين الشمس جسم كثيف مخالفة لما في جوانبه من مواقع ضح الشمس وما ذكر وإن كان في الحقيقة ظلا للأفق الشرقي لكنهم لا يعدونه ظلا ولا يصفونه بأوصافه المعهودة ولعل توجيه الرؤية إليه سبحانه وتعالى مع ان المراد تقرير رؤيته صلى اللّه عليه و سلم لكيفة مد الظل للتنبيه على أن نظره صلى اللّه عليه و سلم غير مقصور على ما يطالعه من الآثار والصنائع بل مطمح أنظاره معرفة شئون الصانع المجيد وقوله تعالى ولو شاء لجعله ساكنا جملة إعترضت بين المعطوفين للتنبيه من أول الأمر على أنه لا مدخل فيما ذكر من المد للأسباب العادية وإنما المؤثر فيه المشيئة والقدرة ومفعول المشيئة محذوف على القاعدة المستمرة من وقوعها وكون مفعولها مضمون الجزاء أي ولو شاء سكونه لجعله ساكنا أي ثابتا على حاله من الطول والإمتداد وإنما عبر عن ذلك بالسكون لما أن مقابله الذي هو تغير حاله حسب تغير الأوضاع بين المضل وبين الشمس يرى رأي العين حركه وانتقالا وحاصله أنه لا يعتريه اختلاف حال بأن لا تنسخه الشمس وأما التعليل بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد فمداره الغفول عما سيق له النظم الكريم ونطق به صريحا من بيان كمال قدرته القاهرة وحكمته الباهرة بنسبة جميع الأمور الحادثة إليه تعالى الذات وإسقاط الأسباب العادية عن رتبة السببية والتأثير بالكلية وقصرها على مجرد الدلالة على وجود المسببات لا بذكر قدرته تعالى على بعض الخوارق كإقامة الشمس في مقام واحد على أنها أعظم من إبقاء الظل على حاله في الدلالة على ما ذكر من كمال القدرة والحكمة مكونه من فروعها ومستتبعاتها فهي أولى وأحق بالإيراد في معرض البيان وقوله تعالى ثم جعلنا الشمس عليه دليلا عطف على مد داخل في حكمه أي جعلناها علامة يستدل بأحوالها المتغيرة على أحواله من غير أن يكون بينهما سببية وتأثير قطعا حسبما نطق به الشرطية المعترضة والإلتفات إلى نون العظمة لما في الجعل المذكور العاري عن التأثير مع ما يشاهد بين الشمس والظل من الدوران المطرد المنبىء عن السببيه من مزيد دلالة على عظم القدرة ودقة الحكمة وهو السر في إيراد كلمة التراخي وقوله تعالى ثم قبضناه ٤٦ ثم قبضناه عطف على مد داخل في حكمه وثم للتراخي الزماني لما أن في بيان كون القبض والمد مر تبين دائرين على قطب مصالح المخلوقات مزيد دلالة على الحكمة الربانية ويجوز أن تكون للتراخي الرتبي أى أزلناه بهد ما أنشأناه ممتدا ومحوناه بمحص قدرتنا ومشيئتنا عند إيقاع شعاع الشمس موقعة من غير أن يكون له تأثير في ذلك أصلا وإنما عبر عنه بالقبض المنبىء عن جميع المنبسط وطيه لما أنه قد عبر عن إحداثه بالمد الذي هو البسط طولا وقوله تعالى إلينا للتنصيص على كون مرجعه إليه تعالى كما أن حدوثه منع عز و جل قبضا يسيرا أي على مهل قليلا حسب ارتفاع دليله على وتيرة معينة مطردة مستتبعة لمصالح المخلوقات ومرافقها وقبل إن اللّه تعالى حين بنى السماء كالقبلة المضروبة ودحا الأرض تحتها ألقت القبة طلها على الأرض لعدم النير وذلك مدة تعالى إياه ولو شاء لجعله ساكنا مستقرا على تلك الحالة ثم خلق الشمس وجعلها على ذلك الظل أي سلطها عليه ونصبها دليلا متبوعا له كما يتبع الدليل في الطريق فهو يزيد بها وينقص ويمتد ويقلص ثم نسخه بها فقبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسيرا وقبضا سهلا عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الإجرام التي تلقى الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه كما ذكر إنشاؤه بإنشائها ووصفه باليسر على طريقة قوله تعالى ذلك حشر علينا يسير وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع ٤٧ وهو الذي جعل لكم الليل لباسا بيان لبعض بدائع آثار قدرته تعالى وحكمته وروائع أحكام رحمته ونعمه الفائضة على الخلق وتلوين الخطاب لتوفية مقام الإمتنان حقه واللام متعلقة بجعل وتقديمها على مفعوليه للإعتناء ببيان كون ما يعقبه من منافعهم وفي تعقيب بيان أحوال الظل ببيان أحكام الليل الذي هو ظل الأرض من لطف المسلك ما لا مزيد عليه أي هو الذي جعل لكم الليل كاللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس والنوم سباتا أي وجعل النوم الذي يقع في الليل غالبا قطعا عن الأفاعيل المختصة بحال اليقظة عبر عنه بالسبات الذي الموت لما بينها من المشابهة التامة في انقطاع أحكام الحياة وعليه قوله تعالى وهو الذي يتوفاكم بالليل وقوله تعالى اللّه يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها وجعل النهار نشورا أي زمان بعث من ذلك السبات كبعث الموتى على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أو نفس البعث على طريق المبالغة وفيه إشارة إلى أن النوم واليقظة أنموذج للموت والنشور وعن لقمان عليه السلام يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت وتنشر ٤٨ وهو الذي أرسل الرياح وقرىء بالتوحيد على أن المراد هو الجنس بشرا تخفيف بشر جمع بشور أي مبشرين وقرىء بشرى وقرى نشرا بالنون جمع نشور أي ناشرات للسحاب وقرىء بالتخفيف وبفتح النون أيضا على أنه مصدر وصف به مبالغة وقوله تعالى بين يدى رحمته استعارة بديعة أي قدام المطر والإلتفات إلى نون العظمة في قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا لإبراز كمال العناية بالإيزال لأنه نتيجة ما ذكر من إرسال الرياح أي أنزلنا بعظمتنا بما رتبنا من إرسال الرياح من جهة الفوق ماء بليغا في الطهارة وما قيل إنه ما يكون طاهرا في نفسه ومطهرا لغيره فهو شرح لبلاغته في الطهارة كما ينبىء عنه قوله تعالى وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم فإن الطهور في العربية إما صفة كما تقول ماء طهورا واسم كما في قوله صلى اللّه عليه و سلم التراب طهور المؤمن وقد جاء بمعنى الطهارة كما في قولك تطهرت طهورا حسنا كقولك وضوءا حسنا ومنه قوله تعالى صلى اللّه عليه و سلم لا صلاة إلا بطهور ووصف الماء به إشعار بتمام النعمة فيه وتتميم للنعمة فيما بعده فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهورها فبواطهم أحق بذلك وأولى ٤٩ لنحي به أي بما أنزلنا من الماء الطهور بلدة ميتا بإنبات النبات والتذكير لأن البلدة بمعنى البلد ولأنه غير جار على الفعل كسائر أبنية المبالغة فأجرى مجرى الجامد والمراد به القطعة من الأرض عامرة كانت أو غامرة ونسقيه أي ذلك الماء الطهور عند جريانه في الأودية أو اجتماعه في الحياض والمنافع أو الآبار مما خلقنا أنعاما وأناسى كثيرا أي أهل البوادي الذين يعيشون بالحيا ولذلك نكر الأنعام والأناسى وتخصيصهم بالذكر لأن أهل القرى والأمصار يقيمون بقرب الأنهار والمبالغ فيهم وبما لهم من الأنعام غنية عن سقيا السماء وسائر الحيوانات تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب غالبا مع أن مساق الآيات الكريمة كما هو للدلالة على عظم القدرة فهو لتعداد أنواع النعمة والأنعام حيث كانت قنية للإنسان وعامة منافعهم ومعايشهم منوطة بها قدم سقيها على سقيهم كما قدم عليها إحياء الأرض فإنه سبب لحياتها وتعيشها وقرىء نسقيه وأسقى وسقى لغتان وقيل أسقاه جعل له سقيا وأناسى جمع أنسى أو أنسان كظرابي في ظربان على أن أصله أناسين فقلبت نونه ياء وقرىء أناسي بالتخفيف بحذف ياء أفاعيل كأناعم في أناعيم ٥٠ ولقد صرفناه أي وباللّه لقد كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر لما مر من الغايات الجميلة في القرآن وغيره من الكتب السماوية بينهم أي بين الناس من المتقدمين والمتأخرين ليذكروا ليتفكروا ويعرفوا بذلك كمال قدرته تعالى وواسع رحمته في ذلك ويقوموا بشكر نعمته حق قيام وقيل الضمير للمطر وتصريفه بينهم إنزاله في بعض البلاد دون غيرها أو في بعض الأوقات دون بعض أو جعله تارة وابلا وأخرى طلا وحينا ديمه ووقتا رهمة والأول هو الأظهر فأبى أكثر الناس ممن سلف وخلف إلا كفورا أي لم يفعل إلا كفران النعمة وقلة الاكتراث لها أو وإلا جحودها بأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ولا يذكر وصنع اللّه تعالى ورحمته ومن لا يرى الأمطار إلا من الأنواء فهو كافر بخلاف من يرى أن الكل يخلق اللّه تعالى والأنواء أمارات لجعله تعالى ٥١ ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا نبيا ينذر أهلها فيخف عليك أعباء النبوة لكن لم نشأ ذلك فلم نفعله بل قصرنا الأمر عليك حسبما ينطق به قوله تعالى ليكون للعالمين نذيرا إجلالا لك وتعظيما وتفضيلا لك على سائر الرسل ٥٢ فلا تطع الكافرين أي فقابل ذلك بالثبات والأجتهاد في الدعوة وإظهار الحق والتشدد معهم كأنه نهى لرسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم عن المداراة معهم والتلطف في الدعوة لما أنه صلى اللّه عليه و سلم كان يود أن يدخلوا في الإسلام ويجتهد في ذلك بتأليف قلوبهم أشد الإجتهاد وجاهدهم به أي بالقرآن بتلاوة ما في تضاعيفه من القوارع والزواجر والمواعظ وتذكير أحوال الأمم المكذبة جهادا كبيرا فإن دعوة كل العالمين على الوجه المذكور جهاد كبير لا يقادر قدره كما وكيفا وقيل الضمير المجرور لترك الطاعة المفهوم من النهى عن الطاعة وأنت خبير بأن مجرد ترك الطاعة يتحقق بلا دعوة أصلا وليس فيه شائبة الجهاد فضلان عن الجهاد الكبير اللّهم إلا أن تجعل الباء للملابسة ليكون المعنى وجاهدهم بما ذكر من أحكام القرآن الكريم ملابسا بترك طاعتهم كأنه قيل فجاهدهم بالشدة والعنف لا بالملاءمة والمدأرأة كما في قوله تعالى يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم وقد جعل الضمير لما دل عليه قوله تعالى ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا من كونه صلى اللّه عليه و سلم نذير كافة القرى لأنه لو بعث في كل قرية نذير لوجب على كل نذير مجاهدة قريته فاجتمعت على رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم تلك المجاهدات كلها فكبر من أجل ذلك جهاده وعظم فقيل له صلى اللّه عليه و سلم وجاهدهم بسبب كونك نذير كافة القرى جهادا كبيرا جامعا لكل مجاهدة وأنت خبير بأن بيان سبب كبر المجاهدة بحسب الكمية ليس فيه مزيد فإنه بين بنفسه وإنما اللائق بالمقام بيان سبب كبرها وعظمها في الكيفية ٥٣ وهو الذي مرج البحرين أي خلاهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان من مرج دابته إذا خلاها هذا عذب فرأت قامع للعطش لغاية عذوبته وهذا ملح أجاج بليغ الملوحة وقرىء ملح فلعله تخفيف مالح كبرد في بارد وجعل بينهما برزخا حاجزا غير مرئى من قدرته كما في قوله تعالى بغير عمد وترونها وحجرا محجورا وتنافرا مفرطا كأن كلامهما يتعوذ من الآخر بتلك المقالة وقيل حدا محدودا وذلك كدجلة تدخل البحر وتشقه وتجرى في خلاله فراسخ لا يتغير طعمها وقيل المراد بالبحر العذب اله ! العظيم وبالمالح البحر الكبير وبالبرزخ ما بينهما من الأرض فيكون أثر القدرة في الفصل واختلاف الصفة مع أن مقتضى طبيعة كل عنصر التضام والتلاصق والتشابه في الكيفية ٥٤ وهو الذي خلق من الماء بشرا هو الماء الذي خمر به طينة آدم علية السلام أو جعله جزءا من مادة البشر ليجتمع ويسلس ويستعد لقبول الأشكال والهيئات بسهولة أو هو النطفة فجعله نسبا وصهرا أي قسمة قسمين ذوى نسب أي ذكورا ينتسب إليهم وذوات صهرا أي إناثا يصاهر بهن كقولة تعالى فجعل منة الزوجين الذكر والأنثى وكان ربك قديرا مبالغا في القدرة حيث قدر على أن يخلق من مادة واحدة بشرا ذا اعضاء مختلفة وطباع متباعدة وجعله قسمين متقابلتين وربما يخلق من نطفة واحدة توأمين ذكرا وأنثى ٥٥ ويعبدون من دونه اللّه الذي شأنه ما ذكر ما لا ينفعهم ولا يضرهم أي ما ليس من شأنه النفع والضر أصلا وهو الأصنام أو كل ما يعبدون من دونه تعالى إذ ما من مخلوق يستقل بالنفع والضر وكان الكافر على ربه الذي ذكرت آثار ربوبيته ظهيرا يظاهر الشيطان بالعداوة والشرك والمراد بالكافر الجنس أو أبو جهل وقيل هينا مهينا لا اعتداد به عنده تعالى من قولهم ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك فيكون كقوله تعالى ولا يكلمهم اللّه ولا ينظر إليهم ٥٦ وما أرسلناك إلا مبشرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين ٥٧ قل لهم ما أسألكم عليه أي على تبليغ الرسالة الذي ينبىء عنه الإرسال من أجر من جهتكم إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا أي الأفعال من يريد أن يتقرب إليه تعالى ويطلب الزلفى عنده بالإيمان والطاعة حسبما أدعوهم إليهما فصور ذلك بصورة الأجر من حيث أنه مقصود الإتيان به واستثنى منه قلعا كليا لشائبة الطمع وإظهارا لغاية الشفقة عليهم حيث جعل ذلك مع كون نفعه عائدا إليهم عائدا إليه صلى اللّه عليه و سلم وقيل الإستثناء منقطع أي لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فليفعل ٥٨ وتوكل على الحي الذي لا يموت في الإستكفاء عن شرورهم والإغناء عن اجورهم فإنه الحقيق بأن يتوكل بأن عليه دون الأحياء الذين من شأنهم الموت فإنهم إذا ماتوا اضاع من توكل عليهم وسبح بحمده ونزهه عن صفات النقصان مثنيا عليه بنعوت الكمال طالبا لمزيد الإنعام بالشكر على سوابغه وكفى به بذنوب عباده ما ظهر منها وما بطن خبيرا أي مطلعا عليها بحيث لا يخفى عليه شيء منها فيجزيهم جزاء وافيا ٥٩ الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش قد سلف تفسيره ومحل الموصول الجر على أنه صفة أخرى للحى وصف بالصفة الفعلية بعد وصفه بالأبدية التي هي من الصفات الذاتية والإشارة إلى الصافة بالعلم الشامل لتقرير وجوب التوكل عليه تعالى وتأكيده فإن من أنشأ هذه الأجرام العظام على هذا النمط الفائق والنسق الرائق بتدبير متين وترتيب رصين في أوقات معينة مع كمال قدرته على إبداعها دفعة لحكم جليلة وغايات جميلة لا تقف على تفاصيلها العقول أحق من يتوكل عليه وأولى من يفوض الأمر إليه الرحمن مرفوع على المدح أي هو الرحمن وهو في الحقيقة وصف آخر للحي كما قرىء بالجر مفيد لزيادة تأكيد ما ذكر من وجوب التوكل عليه تعالى وإن لم يتبعه في الإعراب لما تقرر من ان المنصوب والمرفوع مدحا وان خرجا عن التبيعة لما قبلهما صورة حيث لم يتبعاه في الأعراب وبذلك سميا قطعا لكنهما تابعان له حقيقة ألا يرى كيف النزموا حذف الفعل والمتدأ في النصب والرفع وما لتصوير كل منهما بصورة متعلق من متعلقات ما قبله وتنبيها على شدة الإتصال بينهما وقد مر تمام التحقيق في تفسير قوله عز و جل الذين يؤمنون بالغيب الآية وقيل الموصول مبتدأ والرحمن خبره وقيل الرحمن بدل من المستكن في استوى فأسال به أي بتفاصيل ما ذكر إجمالا من الخلق واستواء لا بنفسهما فقط إذ بعد بيانهما لا يبقى إلى السؤال حاجة ولا في تعديته بالباء فائدة فإنها مبنية على تضمينه معنى الإعتناء المستدعي لكون المسؤل أمرأ خطيرا مهتما بشأنه غير حاصل للسائل وظاهر أن نفس الخلق والإستواء بعد الذكر ليس كذلك وما قيل من أن التقدير إن شككت فيه فأسأل به خبيرا على أن الخطاب له صلى اللّه عليه و سلم والمراد غيره بمعزل من السداد بل التقدير إن شئت تحقيق ما ذكر أو تفصيل ما ذكر فاسأل معنيا به خبيرا عظيم الشأن محيطا بظواهر الأمور وبواطنها وهو اللّه سبحانه يطلعك على جلية الأمر وقيل فاسأل به من جده في الكتب المتقدمة ليصدقك فيه فلا حاجة حينئذ إلى ما ذكرنا وقيل الضمير للرحمن والمعنى إن أنكروا إطلاقه على اللّه تعالى فاسأل عنه من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا مجيء ما يردافه في كتبهم وعلى هذا يجوز أن يكون الرحمن مبتدأ وما بعده خبرا وقرىء فسل ٦٠ وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن قالوا لما أنهم ما كانوا يطلقونه على اللّه تعالى أو لانهم ظنوا أن المراد به غيره تعالى ولذلك قالوا أنسجد لما تأمرنا أي للذي تأمرنا بسجوده أو لأمرك إيانا من غير أن نعرف أن المسجود له ماذا وقيل لأنه كان معربا لم يسمعوه وقرىء يأمرنا بياء الغيبة على أنه قول بعضهم لبعض وزادهم أى الأمر بسجود الرحمن نفورا عن الإيمان ٦١ تبارك الذي جعل في السماء بروجا هي البروج الإثنا عشر سميت به وهي القصور العالية لأنها للكواكب السيارة كالمنازل الرفيعة لسكانها واشتقاقه من البرج لظهوره وجعل فيها سراجا هي الشمس لقوله تعالى وجعل الشمس سراجا وقرىء سرجا وهي
الشمس والكواكب الكبار وقمرا هنيرا مضيئا بالليل وقرىء قمرا أي ذا قمر وهي مع قمراء ولما أن الليالي بالقمر تكون قمرا ضيف إليها ثم حذف وأجرى حكمه على المضاف إليه القائم مقامه كما في قول حسان رضي اللّه عنه بردى يضيق بالرحيق السلسل أي ماء بردى ويحتمل أن يكون بمعنى القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب ٦٢ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفه أي ذوى خلفة يخلف كل منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه أو بأن يعتقبا كقوله تعالى واختلاف الليل والنهار وهي اسم للحالة من خلف كالركبة والجلسة من ركب وجلس لمن أراد أن يذكر أي يتذكر آلاء اللّه عز و جل ويتفكر في بدائع صنعه فيعلم أنه لا بد لها من صانع حكيم واجب الذات رحيم للعباد أو أراد شكورا أي أن يشكر اللّه تعالى على ما فيهما من النعم أو ليكونا وقتين للذاكربن من فاته ورده في أحدهما تداركه في الآخر وقرى أن يذكر من ذكر بمعنى تذكر وعباد الرحمن كلام مستأنف مسوق لبيان أو صاف خلص عباد الرحمن وأحوالهم الدنيوية والأخروية بعد بيان حال النافرين عن عبادته والسجود له والإضافة للتشريف وهو مبتدأ خبره ما بعده من الموصول وما عطف عليه وقيل هو ما في آخر السورة الكريمة من الجملة المصدرة الإشارة وقرىء ٦٣ عباد الرحمن أي عباده المقبولون الذين يمشون على الأرض هونا أي بسكينة وتواضع وهونا مصدر وصف به ونصبه إما على أنه حال من فاعل يمشون أو على أنه نعث لمضدره أي يمشون هينين ليني الجانب من غير فظاظة أو مشيا هينا وقوله تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون أي السفهاء كما في قول من قال ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلية ... قالوا سلاما بيان لحالهم في المعاملة مع غيرهم إثر بيان حالهم في أنفسهم أي إذا خاطبوهم بالسوء قالوا تسليما منكم ومتاركة لا خير بيننا و بينكم شر وقيل سدادا من القول يسلمون به من الأذية والإثم وليس فيه تعرض لمعاملتهم مع الكفرة حتى يقال نسختها آية القتال كما نقل عن أبي العالية وقوله تعالى ٦٤ والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما بيان لحالهم في معاملتهم مع ربهم أي يكونون ساجدين لربهم وقائمين أي يحبون الليل كلا أو بعضا بالصلاة وقيل من قرأ شيئا من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجدا وقائما وقيل هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء وتقديم السجود على القيام لرعاية ٦٥ والذين يقولون أي في أعقاب صلواتهم أو في عامة أو قاتهم ربنا أصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما أي شرا دائما وهلاكا لازما وفيه مزيد مدح لهم ببيان أنهم مع حسن معاملتهم مع الخلق واجتهادهم في عبادة الحق يخافون العذاب ويبتهلون إلى اللّه تعالى في صرفه عنهم مختلفين بأعمالهم كقوله تعالى والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ٦٦ إنها ساءت مستقرا ومقاما تعليل لإستدعائهم المذكور بسوء حالها في نفسها إثر تعليله بسوء حال عذابها وقد جوز أن يكون تعليلا للأولى وليس بذاك وساءت في حكم بئست وفيها ضمير مبهم يفسره مستقرا والمخصوص بالذم محذوف معناه ساءت مستقرا ومقاما هي وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة بأسم إن وجعلها خبرا لها قيل ويجوز أن يكون ساءت بمعنى أحزنت وفيها ضميرا اسم إن ومستقرا حال أو تمييز وهو بعيد خال عما في الأول من المبالغة في بيان سوء حالها وكذا جعل التعليلين من جهة تعالى ٦٧ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا لم يجاوزوا حد الكرم ولم يقتروا ولم يضيقوا تضييق الشحيح وقيل الإسراف هو الإتفاق في المعاصي والقتر منع الواجبات والقرب وقرىء بكسر التاء مع فتح الياء وبكسرها مخففة ومشدة مع ضم الياء وكان بين ذلك أي بين ما ذكر من الإسراف والقتر قواما وسطا وعدلا سمى به لإستقامة الطرفين كما سمى به سواء لا ستوائهما وقرىء بالكسر وهو ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص وهو خبر ثان أو حال مؤكدة أو هو الخبر وبين ذلك لغو وقد جوز أن يكون اسم كان على أنه مبنى لإضافته إلى غير متمكن ولا يخفى ضعفه فإنه بمعنى القوأم فيكون كالإخبار بشيء عن نفسه ٦٨ والذين لا يدعون مع اللّه إلها آخر شروع في بيان اجتنابهم عن المعاصي بعد بيان إتيانهم بالطاعات وذكر نفى الإسراف والقتر لتحقيق معنى الإقتصاد والتصريح بوصفهم بنفي الإشراك مع ظهور إيمانهم لإظهار كمال الإعتناء بالتوحيد والإخلاص وتهويل أمر القتل والزنا بنظمهما في سلكه وللتعريض بما كان عليه الكفرة من قريش وغيرهم أي لا يعبدون معه تعالى إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم اللّه أي حرمها بمعنى حرم قتلها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه مبالغة في التحريم إلا بالحق أي لا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها أو لا يقتلون قتلا ما إلا قتلا ملتبسا بالحق أو لا يقتلونها في حال من الأحوال إلا حال كونهم ملتبسين بالحق ولا يزنون أي الذين لا يفعلون شيئا من هذه العظائم القبيحة التي جمعهن الكفرة حيث كانوا مع إشراكهم به سبحانه مداومين على قتل النفوس المحرمة التي من جملتها الموءودة مكبين على الزنا لا يرعون عنه أصلا ومن يفعل ذلك أي ما ذكر كما هو دأب الكفرة المذكورين يلق في الآخرة وقرىء يلق بالتشديد مجزوما أثاما وهو جزاء الإثم كالوبال والنكال وزنا ومعنى وقيل هو الإثم أي يلق جزاء الإثم والتنوين على التقديرين للتفخيم وقرىء أياما أي شدائد يقال يوم ذو أيام لليوم الصعب ٦٩ يضاعف له العذاب يوم القيامة بدل من يلق لاتحادهما في المعنى كقوله ... متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا وقرىء ... بالرفع على الإستئناف أو على الحالية وكذا ما عطف عليه وقرىء يضعف ونضعف له العذاب بالنون ونصب العذاب ويخلد فيه أي في ذلك العذاب المضاعف مهانا ذليلا مستحقرا جامعا للعذاب الجسماني والروحاني وقرىء يخلد ويخلد مبنيا للمفعول من الإخلاد والتخليد وقرىء تخلد بالتاء على الإلتفات المنبىء عن شدة الغضب ومضاعفة العذاب لإنضمام المعاصي إلى الكفر كما يفصح عنه قوله تعالى ٧٠ إلا من تاب وأمن وعمل صالحا وذكر الموصوف مع جريان الصالح والصالحات مجرى الإسم للإعتناء والتنصيص على مغايرته للأعمال السابقة فأولئك إشارة إلى الموصول والجمع بإعتبار معناه كما أن الإفراد في الأفعال الثلاثة بإعتبار لفظه أي أولئك الموصوفون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح يبدل اللّه سيئاتهم حسنات بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لواحق طاعتهم أو يبدل بملكة المعصية ودواعيها في النفس ملكة الطاعة بأن يزيل الأولى ويأتى بالثانية وقيل بأن يوفقه لأضداد ما سلف منه أو أن يثبت له بدل كل عقاب ثوابا وقيل يبدلهم بالشرك إيمانا وبقتل المسلمين قتل المشركين وبالزنا عفة وإحصانا وكان اللّه غفورا رحيما اعتراض تذيبلى مقرر لما قبله من المحو والإثبات ٧١ ومن تاب أي عن المعاصي بتركها بالكلية والندم عليها وعمل صالحا يتلافى به ما فرط منه أو خرج عن المعاصي ودخل في الطاعات فإنه بما فعل يتوب إلى اللّه أي يرجع إليه تعالى متابا أي متابا عظيم الشأن مرضيا عنده تعالى ما حيا للعقاب محصلا للثواب أو يتوب متابا إلى اللّه تعالى الذي يحب التوابين ويحسن إليهم أو فإنه يرجع إليه تعالى أو إلى ثوابه مرجعا حسنا وهذا تعيمم بعد تخصيص ٧١ والذين لا يشهدون الزور لا يقيمون الشهادة الكاذبة أو لا يحضرون محاضر الكذب فإن مشاهدة الباطل مشاركة فيه وإذا مروا على طريق الإتفاق باللغو أي ما يجب أن يلغى ويطرح مما لا خير فيه مروا كراما معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش والصفح عن الذنوب والكناية عما يستهجن التصريح به ٧٣ والذين إذا ذكروا بآيات ربهم المنطوية على المواعظ والأحكام لم يخروا عليها صما وعميانا أي اكبوا عليها سامعين بآذان واعية مجلين لها بعيون راعية وإنما عبر عن ذلك بنفي الضد تعريضا بما يفعله الكفرة والمنافقون وقيل الضمير للمعاصي المدلول عليها باللغو ٧٤ والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة اعين بتوفيقهم للطاعة وحيازة الفضائل فان المؤمن إذا ساعده اهلة في طاغة اللّه عز و جل وشاركوه فيها يسر بهم قلبه وتقر بهم عينة لما يشاهده من مشايعتهم له في مناهج الدين وتوقع لحوقهم به في الجنة حسبما وعد بقولة تعالي الحقنا بهم ذريتهم ومن ابتدائتة أو بيانية وقرئ وذريتا وتنكير الاعين لارادة تنكير القرة تعظيما وتقليلها لان المراد أعين المنقين ولا ريب في قلتها نظرا الي غيرها واجعلنا للمتقين إماما أي أجعلنا بحيث يقتدون بنا في إقامة مواسم الدين بإفاضة العلم والتوفيق للعمل وتوحيده للدلالة على الجنس وعدم الإلباس كقوله تعالى ثم يخرجكم طفلا أو لأن المراد واجعل كل واحد منا إماما أو لأنهم كنفس واحدة لاتحاد طريقتهم واتفاق كلمتهم كذا قالوا وأنت خبير بأن مدار الكل صدور هذا الدعاء إما عن الكل بطريق المعية وأنه محال لاستحانة إجتماعهم في عصر واحد فما ظك بإجتماعهم في مجلس واحد واتفاقهم على كلمة واحدة وأما عن كل واحد منهم بطريق تشريك غيره في استدعاء الإمامة وأنه ليس بثابت جزما بل الظاهر صوره عنهم بطريق الإنفراد وأن عبارة كل واحد منهم عند الدعاء واجعلني للمتقين إماما خلا أنه حكيت عبارات الكل بصيغة المتكلم مع الغير للقصد إلى الإيجاز على طريقة قوله تعالى يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا وأتقى إماما على حاله وقيل الإمام جمع آم بمعنى قاصد كصيام جمع صائم ومعناه قاصدين لهم مقتدين بهم وإعادة الموصول في المواقع السبعة مع كفاية ذكر الصلات بطريق العطف على صلة الموصول الأول للإبذان بأن كل واحد مما ذكر في حيز صلة الموصولات المذكورة وصف جليل على حيالة له شأن خطير حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل ولا يجعل شيء من ذلك تتمة لغيره وتوسيط العاطف بين الموصولات لتنزيل الإختلاف العنواني منزلة الإختلاف الذاتي كما في قوله ... إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتائب في المزدحم ... ٧٥ أولئك إشارة إلى المتصفين بما فصل في حين صلة الموصولات الثمانية من حيث اتصافهم به وفيه دلالة على أنهم متميزون بذلك أكمل تميز منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل وهو مبتدأ خبرة قوله تعالى يجزون الغرفة والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مبينة لما لهم في الآخرة من السعادة الأبدية إثر بيان ما لهم في الدنيا من الأعمال السنية والغرفة الدرجة العالية من المنازل وكل بناء مرتفع عال أي يثابون أعلى منازل الجنة وهي اسم جنس أريد به الجمع كقوله تعالى وهم في الغرفات آمنون وقيل هي اسم من أسماء الجنة بما صبروا أي بصبرهم على المشاق من مضض الطاعات ورفض الشهوات وتحمل المجاهدات ويلقون فيها من جهة الملائكة تحية وسلاما أي يحيهم الملائكة ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة من الآفات أو يعطون النبقية والتخليد مع السلامة من كل آفة وقيل يحيى بعضهم بعضا ويسلم عليه وقرىء يلقون من لقي ٧٦ خالدين فيها لا يموتون ولا يخرجون حسنت مستقرا ومقاما الكلام فيه كالذي مر في مقابلة قل أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم بأن يبين للناس أن الفائزون بتلك النعماء الجليلة التي يتنافس فيها المتنافسون إنما نالوها بما عدد من محاسنهم ولولاها لم يعتد بهم أصلا أي ٧٧ قل لهم كافة مشافها لهم بما صدر عن جنسهم من خير وشر ما يعبأ بكم ريي لولا دعاؤكم أي أي عبء يعبأ بكم وأي اعتداد يعتد بكم لولا عبادتكم له تعالى حسبما مر تفصيله فإن ما خلق له الإنسان معرفته تعالى وطاعته وإلا فهو وسائر البهائم سواء وقال الزجاج معناه أي وزن يكون لكم عنده وقيل معناه ما يصنع بكم ربي لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام وقيل ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهة ويجوز أن تكون مانافية وقوله تعالى فقد كذبتم بيان لحال الكفرة من المخاطبين كما أن ما قبله بيان لحال المؤمنين منهم أي فقد كذبتم بما أخبرتكم به وخالقتموه أيها الكفرة ولم تعملوا عمل أولئك المذكورين وقيل فقد قصرتم في العبادة من قولهم كذب القتال إذا لم يبالغ فيه وقرىء فقد كذب الكافرون أي الكافرون منكم لعموم الخطاب للفريقين وفائدته الإيذان بأن مناط فوز أحدهما وخسران الآخر مع الإتحاد الجنسي المصحح للإشتراك في الفوز ليس إلا إختلافهما في الأعمال فسوف يكون لزاما أي يكون جزاء التكذيب أو أثره لازما يحيق بكم لا محالة حتى يكبكم في النار كما تعرب عنه الفاء الدالة على لزوم ما بعدها لما قبلها وإنما أضمر من غير ذكر للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره وللتنبيه على أنه مما لا يكتنهه البيان وقيل يكون العذاب لزاما وعن مجاهد رحمه اللّه هو القتل يوم بدر وأنه لوزم بين القتلى وقرىء لزاما بالفتح بمعنى اللزوم كالثبات والثبوت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من قرأ سورة الفرقان لقي اللّه تعالى وهو مؤمن بأن الساعة آنية لا ريب فيها وأدخل الجنة بغير نصب |
﴿ ٠ ﴾