سُورَةُ الْبَيِّنَةِ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ ثَمَانِي آياَتٍ سورة البينةمدنية مختلف فيها وآيها ثمان بسم اللّه الرحمن الرحيم _________________________________ ١لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب أي اليهود والنصارى وإيرادهم بذلك العنوان للإشعار بعلة ما نسب إليهم من الوعد باتباع الحق فإن مناط ذلك وجدانهم له في كتابهم وإيراد الصلة فعلا لما أن كفرهم حادث بعد أنبيائهم والمشركين أي عبدة الأصنام وقرئ والمشركون عطفا على الموصول منفكين أي عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق والإيمان بالرسول المبعوث في آخر الزمان والعزم على إنجازه وهذا الوعد من أهل الكتاب مما لا ريب فيه حتى أنهم كانوا يستفتحون ويقولون اللّهم افتح علينا وانصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان ويقولون لأعدائهم من المشركين قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم وأما من المشركين فلعله قد وقع من متأخريهم بعد ما شاع ذلك من أهل الكتاب واعتقدوا صحته بما شاهدوا من نصرتهم على أسلافم كما يشهد به أنهم كانوا يسألونهم عن رسول اللّه هل هو المذكور في كتابهم وكانوا يغرونهم بتغيير نعوته عليه السلام وانفكاك الشيء عن الشيء أن يزايله بعد التحامه كالعظم إذا انفك من مفصله وفيه إشارة إلى كمال وكادة وعدهم أي لم يكونوا مفارقين للوعد المذكور بل كانوا مجمعين عليه عازمين على إنجازه حتى تأتيهم البينة التي كانوا قد جعلوا إتيانها ميقاتا لاجتماع الكلمة والاتفاق على الحق فجعلوه ميقاتا للانفكاك والافتراق وإخلاف الوعد والتعبير عن إتيانها بصيغة المضارع باعتبار حال المحكي لا باعتبار حال الحكاية كما في قوله تعالى واتبعوا ما تتلو الشياطين أي تلت وقوله تعالى ٢رسول بدل من البينة عبر عنه عليه السلام بالبينة للإيدان بغاية ظهور أمره وكونه ذلك الموعود في الكتابين وقوله تعالى من اللّه متعلق بمضمر هو صفة لرسول مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي رسول وأي رسول كائن منه تعالى وقوله تعالى يتلو صفة أخرى له أو حال من الضمير في متعلق الجار صحفا مطهرة أي منزهة عن الباطل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أو من أن يمسه غير المطهرين ونسبة تلاوتها إليه عليه السلام من حيث إن تلاوة ما فيها بمنزلة تلاوتها وقوله تعالى ٣فيها كتب قيمة صفة لصحفا أو حال من ضميرها في مطهرة ويجوز أن يكون الصفة أو الحال الجار والمجرور فقط وكتب مرتفعا به على الفاعلية ومعنى قيمة مستقيمة ناطقة بالحق والصواب وقوله تعالى ٤وما تفرق الذين أوتوا الكتاب الخ كلام مسوق لغاية تشنيع أهل الكتاب خاصة وتغليظ جناياتهم ببيان أن ما نسب إليهم من الانفكاك لم يكن لاشتباه ما في الأمر بل كان بعد وضوح الحق وتبين الحال وانقطاع الأعذار بالكلية وهو السر في وصفهم بإيتاء الكتاب المنبئ عن كمال تمكنهم من مطالعته والإحاطة بما في تضاعيفه من الأحكام والأخبار التي من جملتها نعوت النبي بعد ذكرهم فيما سبق بما هو جار مجرى اسم الجنس للطائفتين ولما كان هؤلاء والمشركون باعتبار اتفاقهم على الرأي المذكور في حكم فريق واحد عبر عما صدر عنهم عقيب الاتفاق عند الإخبار بوقوعه بالانفكاك وعند بيان كيفية وقوعه بالتفرق اعتبارا لاستقلال كل من فريقي أهل الكتاب وإيذانا بأن انفكاكهم عن الرأي المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأي آخر بل بطريق الاختلاف القديم وقوله تعالى إلا من بعد ما جاءتهم البينة استثناء مفرغ من أعم الأوقات أي وما تفرقوا في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة الدالة على أن رسول اللّه هو الموعود في كتابهم دلالة جلية لا ريب فيها كقوله تعالى وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم وقوله تعالى ٥وما أمروا إلا ليعبدوا اللّه جملة حالية مفيدة لغاية قبح ما فعلوا أي والحال أنهم ما أمروا في كتابهم إلا لأجل أن يعبدوا اللّه وقيل اللام بمعنى أن أي إلا بأن يعبدوا اللّه ويعضده قراءة إلا أن يعبدوا اللّه مخلصين له الدين أي جاعلين دينهم خالصا له تعالى أو جاعلين أنفسهم خالصة له تعالى في الدين حنفاء مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة فالأمر ظاهر وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أن أمرهم باتباع شريعتنا أمر لهم بجميع أحكامها التي هما من جملتها وذلك إشارة إلى ما ذكر من عبادة اللّه تعالى وبالإخلاص وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته دين القيمة أي دين الملة القيمة وقرئ الدين القيمة على تأويل الدين بالملة هذا وقد قيل قوله تعالى لم يكن الذين كفروا إلى قوله كتب قيمة حكاية لما كانوا يقولونه قبل مبعثه عليه السلام من أنهم لا ينفكون عن دينهم إلى مبعثه ويعدون أن ينفكوا عنه حينئذ ويتفقوا على الحق وقوله تعالى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب الخ بيان لإخلافهم الوعد وتعكيسهم الأمر بجعلهم ما هو سبب لانفكاكهم عن دينهم الباطل حسبما وعدوه سببا لثباتهم عليه وعدم انفكاكهم عنه ومثل ذلك بأن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه لا أنفك عما أنا فيه حتى أستغني فيستغني فيزداد فسقا فيقول له واعظه لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر وما عكفت على الفسق إلا بعد اليسار وأنت خبير بأن هذا إنما يتسنى بعد اللتيا والتي على تقدير أن يراد بالتفرق تفرقهم عن الحق بأن يقال التفرق عن الحق مستلزم للثبات على الباطل فكأنه قيل وما أجمعوا على دينهم إلا من بعد ما جاءتهم البينة وأما على تقدير أن يراد به تفرقهم فرقا فمنهم من آمن ومنهم من أنكر ومنهم من عرف وعاند كما جوزه القائل فلا فتأمل ٦إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم بيان لحال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا وذكر المشركين لئلا يتوهم اختصاص الحكم بأهل الكتاب حسب اختصاص مشاهدة شواهد النبوة في الكتاب بهم ومعنى كونهم فيها أنهم يصيرون إليها يوم القيامة وإيراد الجملة الاسمية للإيذان بتحقق مضمونها لا محالة أو أنهم فيها الآن أما على تنزيل ملابستهم لما يوجبها منزلة ملابستهم لها وأما على أن ما هم فيه من الكفر والمعاصي عين النار إلا أنها ظهرت في هذه النشأة بصور عرضية وستخلعها في النشأة الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقة كما مر في قوله تعالى وإن جهنم لمحيطة بالكافرين في سورة الأعراف خالدين فيها حال من المستكن في الخبر واشتراك الفريقين في دخول دار العذاب بطريق الخلود لا ينافي تفاوت عذابهم في الكيفية فإن جهنم دركات وعذابها ألوان أولئك إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما هم فيه من القبائح المذكورة وما فيه من معنى البعد للإشعار بغاية بعد منزلتهم في الشر أي أولئك البعداء المذكورون هم شر البرية شر الخليقة أي أعمالا وهو الموافق لما سيأتي في حق المؤمنين فيكون في حيز التعليل لخلودهم في النار أو شرهم مقاما ومصيرا فيكون تأكيدا لفظاعة حالهم وقرئ بالهمزة على الأصل ٧إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات بيان لمحاسن أحوال المؤمنين إثر بيان سوء حال الكفرة جريا على السنة القرآنية من شفع الترهيب بالترغيب أولئك المنعوتون بما هو في القاصية من الشرف والفضيلة من الإيمان والطاعة هم خير البرية وقرئ خيار البرية وهو جمع خير نحو جيد وجياد ٨جزاؤهم بمقابلة ما لهم من الإيمان والطاعة عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار إن أريد بالجنات الأشجار الملتفة الأغصان كما هو الظاهر فجريان الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد بها مجموع الأرض وما عليها فهو باعتبار الجزء الظاهر وأيا ما كان فالمراد جريانها بغير أخدود خالدين فيها أبدا متنعمين بفنون النعم الجسمانية والروحانية وفي تقديم مدحهم بخيرية وذكر الجزاء المؤذن بكون ما منحوه في مقابلة ما وصفوا به وبيان كونه من عنده تعالى والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم وجمع الجنات وتقييدها بالإضافة وبما يزيدها نعيما وتأكيد الخلود بالأبود من الدلالة على غاية حسن حالهم مالا يخفى رضي اللّه عنهم استئناف مبين لما يتفضل عليهم زيادة على ما ذكر من أجزية أعمالهم ورضوا عنه حيث بلغوا من المطالب قاصيتها وملكوا من المآرب ناصيتها وأتيح لهم مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذلك أي ما ذكرمن الجزاء والرضوان لمن خشي ربه فإن الخشية التي هي من خصائص العلماء بشؤون اللّه عز و جل مناط لجميع الكمالات العلمية والعملية المستتبعة للسعادة الدينية والدنيوية والتعرض لعنوان الربوبية المعربة عن المالكية والتربية للإشعار بعلة الخشية والتحذير من الاغترار بالتربية عن النبي من قرأ سورة البينة لم يكن كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقيلا |
﴿ ٠ ﴾