١١٣

أخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم: بنو أبيرق: بشر، وبشير، ومبشر، وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم ينحله بعض العرب، ثم يقول: قال فلان كذا وكذا، قال فلان كذا وكذا، وإذا سمع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: واللّه ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث فقال: أو كلما قال الرجال قصيدة أضحوا فقالوا: ابن الأبيرق قالها.

وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الرزمك ابتاع الرجل منها فخص بها بنفسه، وأما العيال فإنما طعامهم الشعير، فقدمت ضافطة الشام فابتاع عمي رفاعة بن زر جملا من الرزمك، فجعله في مشربة له وفي المشربة سلاح له درعان وسيفاهما وما يصلحهما، فعدا عدي من تحت الليل فنقب المشربة وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا، فذهب بطعامنا وسلاحنا قال: فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق قد استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم. قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار - واللّه ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام، فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه، ثم أتى بني أبيرق وقال: أنا أسرق، فواللّه ليخالطنكم هذا السيف أو لتتبين هذه السرقة. قالوا: إليك عنا أيها الرجل - فواللّه - ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها. فقال لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له؟.

قال قتادة: فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقلت: يا رسول اللّه إن أهل بيت منا أهل جفاء، عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: "سأنظر في ذلك، فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: يا رسول اللّه إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا، أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة: فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكلمته. فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت؟ قال قتادة: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك، فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: اللّه المستعان... فلم نلبث أن نزل القرآن {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيما} لبني أبيرق {واستغفر اللّه} أي مما قلت لقتادة {إن اللّه كان غفورا رحيما، ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} إلى قوله {ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفورا رحيما} أي أنهم لو استغفروا اللّه لغفر لهم {ومن يكسب إثما} إلى قوله {فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا} قولهم للبيد {ولولا فضل اللّه عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك} يعني أسير بن عروة وأصحابه إلى قوله {فسيؤتيه أجرا عظيما}.

فلما نزل القرآن أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة. قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح - وكان شيخا قد عسا في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولا - فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هو في سبيل اللّه، فعرفت أن إسلامه كان صحيحا، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة بنت سعد، فأنزل اللّه (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى) (النساء الآية ١١٥) إلى قوله (ضلالا بعيد) فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر، فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت فرمت به في الأبطح، ثم قالت أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير".

وأخرج ابن سعد عن محمود بن لبيد قال: "عدا بشير بن الحارث على علية رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان الظفري فنقبها من ظهرها وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما فأتى قتادة بن النعمأن النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره بذلك، فدعا بشيرا فسأله، فأنكر ورمى بذلك لبيد بن سهل رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب، فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد بن سهل قوله {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك اللّه} إلى قوله {ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفورا رحيما} يعني بشير بن أبيرق {ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا} يعني لبيد بن سهل حين رماه بنو أبيرق بالسرقة، فلما نزل القرآن في بشير وعثر عليه هرب إلى مكة مرتدا كافر، فنزل على سلافة بنت سعد بن الشهيد، فجعل يقع في النبي صلى اللّه عليه وسلم وفي المسلمين، فنزل القرآن فيه، وهجاه حسان بن ثابت حتى رجع وكان ذلك في شهر ربيع سنة أربع من الهجرة".

وأخرج ابن سعد من وجه آخر عن محمود بن لبيد قال: كان أسير بن عروة رجلا منطيقا ظريفا بليغا حلوا، فسمع بما قال قتادة بن النعمان في بني أبيرق للنبي صلى اللّه عليه وسلم، حين اتهمهم بنقب علية عمه وأخذ طعامه والدرعين، فأتى أسير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في جماعة جمعهم من قومه، فقال: "إن قتادة وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل حسب ونسب وصلاح، يؤنبونهم بالقبيح، ويقولون لهم ما لا ينبغي بغير ثبت ولا بينة، فوضع لهم عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما شاء ثم انصرف، فأقبل بعد ذلك قتادة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليكلمه، فجبهه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جبها شديدا منكرا، وقال: بئسما صنعت، وبئسما مشيت فيه. فقام قتادة وهو يقول: لوددت أني خرجت من أهلي ومالي، وأني لم أكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في شيء من أمرهم، وما أنا بعائد في شيء من ذلك. فأنزل اللّه على نبيه في شأنهم {إنا أنزلنا إليك الكتاب} إلى قوله {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} يعني أسير بن عروة وأصحابه {إن اللّه لا يحب من كان خوانا أثيما} ".

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك اللّه} إلى قوله {ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة اللّه} فيما بين ذلك في طعمة بن أبيرق درعه من حديد التي سرق، وقال أصحابه من المؤمنين للنبي صلى اللّه عليه وسلم: اعذره في الناس بلسانك، ورموا بالدرع رجلا من يهود بريئا.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق، وفيما هم به النبي صلى اللّه عليه وسلم من عذره، فبين اللّه شأن طعمة بن أبيرق، ووعظ نبيه صلى اللّه عليه وسلم، وحذره أن يكون للخائنين خصيما، وكان طعمة بن أبيرق رجلا من الأنصار، ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كانت وديعة عندهم، ثم قدمها على يهودي كان يغشاهم، يقال له زيد بن السمين، فجاء اليهودي إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم يهتف، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر، جاءوا إلى نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليعذروا صاحبهم، وكان نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد هم بعذره حتى أنزل اللّه في شأنه ما أنزل، فقال {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} إلى قوله {يرم به برئيا} وكان طعمة قذف بها برئيا، فلما بين اللّه شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين، فأنزل اللّه في شأنه (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين...) (النساء الآية ١١٤) الآية.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: "إن نفرا من الأنصار غزوا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأظن بها رجلا من الأنصار، فأتى صاحب الدرع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي. فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده، فانطلقوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: يا نبي اللّه إن صاحبنا بريء، وإن سارق الدرع فلان، وقد أحطنا بذلك علما، فأعذر صاحبنا على رؤوس الناس، وجادل عنه فإنه إن لا يعصمه اللّه بك يهلك، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس، فأنزل اللّه {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك اللّه} يقول: بما أنزل اللّه إليك إلى قوله {خوانا أثيما} ثم قال للذين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلا {يستخفون من الناس} إلى قوله {وكيلا} يعني الذين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين، ثم قال {ومن يكسب خطيئة...} الآية. يعني السارق والذين جادلوا عن السارق".

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: " كان رجل سرق درعا من حديد في زمأن النبي صلى اللّه عليه وسلم طرحه على يهودي، فقال اليهودي: واللّه ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت علي. وكان الرجل الذي سرق له جيران يبرئونه ويطرحونه على اليهودي، ويقولون: يا رسول اللّه إن هذا اليهودي خبيث يكفر باللّه وبما جئت به، حتى مال عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم ببعض القول، فعاتبه اللّه في ذلك فقال {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيما، واستغفر اللّه} بما قلت لهذا اليهودي {إن اللّه كان غفورا رحيما} ثم أقبل على جيرانه فقال {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم} إلى قوله {وكيلا} ثم عرض التوبة فقال {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفورا رحيما، ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه} فما أدخلكم أنتم أيها الناس على خطيئة هذا تكلمون دونه {ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا} وإن كان مشركا {فقد احتمل بهتانا} إلى قوله {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى} قال: أبى أن يقبل التوبة التي عرض اللّه له وخرج إلى المشركين بمكة، فنقب بيتا يسرقه، فهدمه اللّه عليه فقتله.

وأخرج ابن المنذر عن الحسن "أن رجلا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اختان درعا من حديد، فلما خشي أن توجد عنده ألقاها في بيت جار له من اليهود وقال: تزعمون إني اختنت الدرع - فواللّه - لقد انبئت أنها عند اليهودي، فرفع ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وجاء أصحابه يعذرونه، فكأن النبي صلى اللّه عليه وسلم عذره حين لم يجد عليه بينة، ووجدوا الدرع في بيت اليهودي، وأبى اللّه إلا العدل، فأنزل اللّه على نبيه {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق} إلى قوله {أمن يكون عليهم وكيلا} فعرض اللّه بالتوبة لو قبلها إلى قوله {ثم يرم به بريئا} اليهودي ثم قال لنبيه صلى اللّه عليه وسلم {ولولا فضل اللّه عليك ورحمته} إلى قوله {وكان فضل اللّه عليك عظيما} فأبرئ اليهودي، وأخبر بصاحب الدرع قال: قد افتضحت الآن في المسلمين، وعلموا أني صاحب الدرع ما لي إقامة ببلد، فتراغم فلحق بالمشركين، فأنزل اللّه (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى) (النساء الآية ١١٤) إلى قوله (ضلالا بعيد) ".

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك اللّه} قال: بما أوحى اللّه إليك، نزلت في طعمة بن أبيرق، استودعه رجل من اليهود درعا، فانطلق بها إلى داره، فحفر لها اليهودي ثم دفنها، فخالف إليها طعمة فاحتفر عنها فأخذها، فلما جاء اليهودي يطلب درعه كافره عنها، فانطلق إلى أناس من اليهود من عشيرته فقال: انطلقوا معي فإني أعرف موضع الدرع، فلما علم به طعمة أخذ الدرع فألقاها في بيت أبي مليك الأنصاري، فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلم تقدر عليها، وقع به طعمة وأناس من قومه فسبوه قال: أتخونوني...؟ فانطلقوا يطلبونها في داره، فأشرفوا على دار أبي مليك فإذا هم بالدرع، وقال طعمة: أخذها أبو مليك وجادلت الأنصار دون طعمة، وقال لهم: انطلقوا معي إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقولوا له ينضح عني ويكذب حجة اليهودي، فإني إن أكذب كذب على أهل المدينة اليهودي، فأتاه أناس من الأنصار فقالوا: يا رسول اللّه جادل عن طعمة وأكذب اليهودي. فهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يفعل، فأنزل اللّه عليه {ولا تكن للخائنين خصيما} إلى قوله {أثيما} ثم ذكر الأنصار ومجادلتهم عنه فقال {يستخفون من الناس ولا يستخفون من اللّه} إلى قوله {وكيلا} ثم دعا إلى التوبة فقال {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه} إلى قوله {رحيما} ثم ذكر قوله حين قال أخذها أبو مليك، فقال {ومن يكسب إثما} إلى قوله {مبينا} ثم ذكر الأنصار وأتيانها إياه أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه فقال: {لهمت طائفة منهم أن يضلوك} ثم ذكر مناجاتهم فيما يريدون أن يكذبوا عن طعمة فقال: (لا خير في كثير من نجواهم) (النساء الآية ١١٥) فلما فضح اللّه طعمة بالقرآن بالمدينة هرب حتى أتى مكة فكفر بعد إسلامه، ونزل على الحجاج بن علاط السلمي، فنقب بيت الحجاج، فأراد أن يسرقه، فسمع الحجاج خشخشته في بيته وقعقعة جلود كانت عنده، فنظر فإذا هو بطعمة فقال: ضيفي وابن عمي فأردت أن تسرقني؟ فأخرجه فمات بحرة بني سليم كافرا، وأنزل اللّه فيه (ومن يشاقق الرسول) (النساء الآية ١١٥) إلى (وساءت مصيرا).

(يتبع...)

@(تابع... ١): الآيات ١٠٥ - ١١٣... ...

وأخرج سنيد وابن جرير وابن المنذر عن عكرمة قال: استودع رجل من الأنصار طعمة بن أبيرق مشربة له فيها درع فغاب، فلما قدم الأنصاري فتح مشربته فلم يجد الدرع، فسأل عنها طعمة بن أبيرق فرمى بها رجلا من اليهود يقال له زيد بن السمين، فتعلق صاحب الدرع بطعمة في درعه، فلما رأى ذلك قومه أتو النبي صلى اللّه عليه وسلم، فكلموه ليدرأ عنه، فهم بذلك، فأنزل اللّه {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس} إلى قوله {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} يعني طعمة بن أبيرق وقومه {ها أنتم هؤلاء جادلتم} إلى قوله {يكون عليهم وكيلا} محمد صلى اللّه عليه وسلم وقوم طعمة {ثم يرم به برئيا} يعني زيد بن السمين {فقد احتمل بهتانا} طعمة بن أبيرق {ولولا فضل اللّه عليك ورحمته} لمحمد صلى اللّه عليه وسلم {لهمت طائفة} قوم طعمة (لا خير في كثير) (النساء الآية ١١٤) الآية للناس عامة (ومن يشاقق الرسول) (النساء الآية ١١٥) قال: لما أنزل القرآن في طعمة بن أبيرق لحق بقريش ورجع في دينه، ثم عدا على مشربة للحجاج بن علاط البهري فنقبها، فسقط عليه حجر فلحج فلما أصبح أخرجوه من مكة، فخرج فلقي ركبا من قضاعة، فعرض لهم فقال: ابن سبيل منقطع به. فحملوه حتى إذا جن عليه الليل عدا عليهم فسرقهم ثم انطلق، فرجعوا في طلبه فأدركوه فقذفوه بالحجارة حتى مات. فهذه الآيات كلها فيه نزلت إلى قوله (إن اللّه لا يغفر أن يشرك به) (النساء الآية ١١٥).

وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار، استودع درعا فجحدها صاحبها، فلحق به رجال من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، فغضب له قومه وأتوا نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: خونوا صاحبنا وهو أمين مسلم، فأعذره يا نبي اللّه وازجر عنه، فقام النبي صلى اللّه عليه وسلم فعذره وكذب عنه وهو يرى أنه بريء وأنه مكذوب عليه، فأنزل اللّه بيان ذلك فقال {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك اللّه} إلى قوله {أمن يكون عليهم وكيلا} فبين خيانته فلحق بالمشركين من أهل مكة وارتد عن الإسلام، فنزل فيه (ومن يشاقق الرسول) (النساء الآية ١١٥) إلى قوله (وساءت مصيرا).

وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية العوفي "أن رجلا يقال له طعمة بن أبيرق سرق درعا على عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم، فرفع ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فألقاها في بيت رجل، ثم قال لأصحاب له: انطلقوا فاعذروني عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فإن الدرع قد وجد في بيت فلان. فانطلقوا يعذرونه عند النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأنزل اللّه {ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به برئيا فقد احتمل بهتانا} قال: بهتانه قذفه الرجل".

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} قال: اختان رجل من الأنصار عما له درعا فقذف بها يهوديا كان يغشاهم، فجادل الرجل قومه، فكأن النبي صلى اللّه عليه وسلم عذره ثم لحق بدار الشرك، فنزلت فيه (ومن يشاقق الرسول...) (النساء الآية ١١٤) الآية.

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إياكم والرأي، فإن اللّه قال لنبيه صلى اللّه عليه وسلم {لتحكم بين الناس بما أراك اللّه} ولم يقل بما رأيت.

وأخرج ابن المنذر عن عمرو بن دينار أن رجلا قال لعمر {بما أراك اللّه} قال: مه، إنما هذه للنبي صلى اللّه عليه وسلم خاصة.

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية العوفي {لتحكم بين الناس بما أراك اللّه} قال: الذي أراه في كتابه.

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مالك بن أنس عن ربيعة قال: إن اللّه أنزل القرآن وترك فيه موضعا للسنة، وسن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم السنة وترك فيها موضعا للرأي.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال: قال لي مالك: الحكم الذي يحكم به بين الناس على وجهين، فالذي يحكم بالقرآن والسنة الماضية فذلك الحكم الواجب والصواب، والحكم يجتهد فيه العالم نفسه فيما لم يأت فيه شيء فلعله أن يوفق. قال: وثالث التكلف لما لا يعلم، فما أشبه ذلك أن لا يوفق.

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {لتحكم بين الناس بما أراك اللّه} قال: بما بين اللّه لك.

وأخرج ابن أبي حاتم عن مطر {لتحكم بين الناس بما أراك اللّه} قال: بالبينات والشهود.

وأخرج عبد وابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا قال: "من صلى صلاة عند الناس لا يصلي مثلها إذا خلا فهي استهانة استهان بها ربه، ثم تلا هذه الآية {يستخفون من الناس ولا يستخفون من اللّه وهو معهم} ".

وأخرج عبد بن حميد عن حذيفة مثله، وزاد: ولا يستحيي أن يكون الناس أعظم عنده من اللّه.

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي رزين {إذ يبيتون} قال: إذ يؤلفون ما لا يرضى من القول.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق علي عن ابن عباس في قوله {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه} قال: أخبر اللّه عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنبا صغير كان أو كبيرا ثم استغفر اللّه يجد اللّه غفورا رحيما ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال.

وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه، وإذا أصاب البول شيئا منه قرضه بالمقراض، فقال رجل: لقد آتى اللّه بني إسرائيل خيرا فقال ابن مسعود: ما آتاكم اللّه خير مما آتاهم، جعل لكم الماء طهورا وقال {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفورا رحيما}.

وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال: من قرأ هاتين الآيتين من سورة النساء ثم استغفر غفر له {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفورا رحيما}. (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فتستغفروا اللّه واستغفر لهم الرسول..) (النساء الآية ٤٨) الآية.

وأخرج ابن جرير عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاءت امرأة إلى عبد اللّه بن مغفل، فسألته عن امرأة فجرت فحبلت ولما ولدت قتلت ولدها فقال: ما لها إلا النار. فانصرفت وهي تبكي، فدعاها ثم قال: ما أرى أمرك إلا أحد أمرين {من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفورا رحيما} فمسحت عينها ثم مضت.

وأخرج ابن أبي حاتم وابن السني في عمل اليوم والليلة وابن مردويه عن علي قال: سمعت أبا بكر يقول: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "ما من عبد أذنب فقام فتوضأ فأحسن وضوءه، ثم قام فصلى واستغفر من ذنبه إلا كان حقا على اللّه أن يغفر له، لأن اللّه يقول {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفورا رحيما} ".

وأخرج أبو يعلى والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا جلس وجلسنا حوله، وكانت له حاجة فقام إليها وأراد الرجوع ترك نعليه في مجلسه أو بعض ما يكون عليه، وأنه قام فترك نعليه، فأخذت ركوة من ماء فاتبعته فمضى ساعة ثم رجع ولم يقض حاجته، فقال: "إنه أتاني آت من ربي فقال: إنه {من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر اللّه يجد اللّه غفورا رحيما} فأردت أن أبشر أصحابي. قال أبو الدرداء: وكانت قد شقت على الناس التي قبلها (من يعمل سوءا يجز به) (النساء الآية ١٢٣) فقلت: يا رسول اللّه وإن زنى وإن سرق ثم استغفر ربه غفر اللّه له؟ قال: نعم. قلت: الثانية... قال نعم. قلت: الثالثة... قال: نعم. على رغم أنف عويمر".

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن سيرين {ثم يرم به برئيا} قال: يهوديا.

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله {وعلمك ما لم تكن تعلم} قال: علمه اللّه بيان الدينا والآخرة. بين حلاله وحرامه ليحتج بذلك على خلقه.

وأخرج عن الضحاك قال: علمه الخير والشر. واللّه أعلم.

﴿ ١١٣