٨٦

أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم "ماخلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله، وفي لفظ: إلا حدث نفسه بقتله".

أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله {ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى} قال: هم الوفد الذين جاؤوا مع جعفر وأصحابه من ارض الحبشة.

وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال: ما ذكر اللّه به النصارى قال: هم ناس من الحبشة آمنوا إذ جاءتهم مهاجرة المؤمنين، فذلك لهم.

وأخرج النسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد اللّه بن الزبير قال: نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه {واذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى اعينهم تفيض من الدمع}.

وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والواحدي من طريق ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام وعروة بن الزبير قالوا "بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه كتابا إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه، وأرسل النجاشي إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم، ثم أمر جعفر بن أبي طالب أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ عليهم سورة مريم، فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع، وهم الذين أنزل فيهم {ولتجدن أقربهم مودة} إلى قوله {مع الشاهدين}.

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير في قوله {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا} قال: هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلا أختارهم من قومه الخير الخير، فالخير في الفقه والسن، وفي لفظ: بعث من خيار أصحابه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثين رجلا، فلما أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دخلوا عليه، فقرأ عليهم سورة يس، فبكوا حين سمعوا القرآن، وعرفوا أنه الحق، فأنزل اللّه فيهم {ذلك بان منهم قسيسين ورهبانا..} الآية. و نزلت هذه الآية فيهم أيضا {الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون} (القصص الآية ٥٢) إلى قوله {أؤلئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا} (القصص الآية ٥٤)

وأخرج ابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن عروة قال: كانوا يرون ان هذه الآية نزلت في النجاشي {واذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول} قال: إنهم كانوا برايين يعني ملاحين، قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة، فلما قرأ عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم القرأن آمنوا وفاضت أعينهم، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم "إذا رجعتم إلى ارضكم انقلبتم عن دينكم، فقالوا لن ننقلب عن ديننا، فأنزل اللّه ذلك من قولهم {واذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول} ".

وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال "ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في الذين أقبلوا مع جعفر من أرض الحبشة، وكان جعفر لحق بالحبشة هو وأربعون معه من قريش، وخمسون من الأشعريين، منهم أربعة من عك، أكبرهم أبو عامر الأشعري وأصغرهم عامر، فذكر لنا أن قريشا بعثوا في طلبهم عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد، فأتوا النجاشي فقالوا: ان هؤلاء قد أفسدوا دين قومهم، فأرسل اليهم فجاؤوا فسألهم، فقالوا: بعث اللّه فينا نبيا كما بعث في الأمم قبلنا يدعونا إلى اللّه وحده، ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر، ويأمرنا بالصلة، وينهانا عن القطيعة، ويأمرنا بالوفاء، وينهانا عن النكث، وإن قومنا بغوا علينا، وأخرجونا حين صدقناه وآمنا به، فلم نجد أحد نلجأ اليه غيرك فقال: معروفا. فقال عمرو وصاحبه: انهم يقولون في عيسى غير الذي تقول. قال: وما تقولون في عيسى؟ قالوا: نشهد أنه عبد اللّه ورسوله، وكلمته وروحه، ولدته عذراء بتول. قال: ما أخطأتم، ثم قال لعمرو وصاحبه: لولا أنكما أقبلتما في جواري لفعلت بكما، وذكر لنا أن جعفر وأصحابه إذ أقبلوا جاء أولئك معهم فآمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم. قال قائل: لو قد رجعوا إلى أرضهم لحقوا بدينهم، فحدثنا أنه قدم مع جعفر سبعون منهم، فلما قرأ عليهم نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فاضت أعينهم".وأخرج ابن جرير و,ابن أبي حاتم عن السدي قال "بعث إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إثنا عشر رجلا، سبعة قسيسين وخمسة رهبانا، ينظرون إليه ويسألونه، فلما لقوه قرأ عليهم ما أنزل اللّه بكوا وآمنوا، وأنزل اللّه فيهم {واذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول} الآية".

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال "كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين، فبعث جعفر بن أبي طالب، وابن مسعود، وعثمان بن مظعون في رهط من اصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة، فلما بلغ المشركين بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم، وذكروا أنهم سبقوا أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى النجاشي، فقالوا انه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها، زعم أنه نبي وأنه بعث إليك رهطا ليفسدوا عليك قومك، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم. قال: ان جاؤوني نظرت فيما يقولون، فلما قدم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأتوا إلى باب النجاشي فقالوا: استأذن لأولياء اللّه؟ فقال: ائذن لهم فمرحبا بأولياء اللّه، فلما دخلوا عليه سلموا فقال الرهط من المشركين: ألم تر أيها الملك انا صدقناك وانهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيى بها؟... فقال لهم: ما يمنعكم أن تحيوني بتيحيتي؟ قالوا: أنا حييناك بتحية اهل الجنة وتحية الملائكة. فقال لهم: مايقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ قالوا: يقول عبد اللّه ورسوله، وكلمة من اللّه، وروح منه ألقاها إلى مريم، ويقول في مريم: إنها العذراء الطيبة البتول. قال: فأخذ عودا من الأرض فقال: ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود، فكره المشركون قوله وتغير لون وجوههم، فقال: هل تقرأون شيئا مما أنزل عليكم؟ قالوا: نعم. قال: فاقرأوا وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى، فجعلت طائفة من القسيسسن والرهبان كلما قرأوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. قال اللّه {ذلك بأن منهم قسيسيين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون، واذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} ".

وأخرج الطبراني عن سلمان في إسلامه قال "لما قدم النبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة صنعت طعاما، فجئت به فقال: ماهذا؟ قلت: صدقة. فقال لأصحابه: كلوا ولم يأكل، ثم إني رجعت حتى جمعت طعاما فأتيته به فقال: ماهذا؟ قلت: هدية. فأكل وقال لأصحابه: كلوا. قلت يا رسول اللّه، أخبرني عن النصارى؟ قال: لا خير فيهم ولافيمن أحبهم، فقمت وأنا مثقل، فأنزل اللّه {لتجدن أشد الناس عداوة للذين أمنوا اليهود} حتى بلغ {تفيض من الدمع} فأرسل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال لي: يا سلمان، ان أصحابك هؤلاء الذين ذكر اللّه".

وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة في قوله {ولتجدن أقربهم مودة...} الآية. قال: أناس من اهل الكتاب، كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى يؤمنون به وينتهون اليه، فلما بعث اللّه محمدا صدقوه وآمنوا به وعرفوا ما جاء به من الحق أنه من اللّه، فاثنى عليهم بما تسمعون.

وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن أبي شيبة في مسنده وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه والحارث بن أسامة في مسنده والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبزار وابن الأنباري في المصاحف وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن سلمان "أنه سئل عن قوله {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا} قال: الرهبان الذين في الصوامع، نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا} ولفظ البزار دع القسيسين؛ أقرأني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {ذلك بأن منهم صديقين} ولفظ الحكيم الترمذي: قرأت على النبي صلى اللّه عليه وسلم {ذلك بأن منهم قسيسين} فأقرأني {ذلك بأن منهم صديقين} ".

وأخرج البيهقي في الدلائل عن سلمان قال: كنت يتيما من رامهرمز، وكان ابن دهقان رامهرمز يختلف إلى معلم يعلمه، فلزمته لأكون في كنفه وكان لي أخ أكبر مني، وكان مستغنيا في نفسه، وكنت غلاما فقيرا، فكان إذا قام من مجلسه تفرق من يحفظه، فإذا تفرقوا خرج، فتقنع بثوبه ثم صعد الجبل، فكان يفعل ذلك غير مرة متنكرا قال: فقلت اما انك تفعل كذا وكذا، فلم لا تذهب بي معك؟ قال: أنت غلام وأخاف ان يظهر منك شيء. قال: قلت لا تخف. قال: فإن في هذا الجبل قوما في برطيل لهم عبادة وصلاح، يذكرون اللّه عز وجل ويذكرون الآخرة، يزعمون انا عبدة النيران وعبدة الأوثان، وأنا على غير دين. قلت: فاذهب بي معك إليهم. قال: لا أقدر على ذلك حتى أستأمرهم، وانا أخاف أن يظهر منك شيء فيعلم أبي فيقتل القوم فيجري هلاكهم على يدي. قال: قلت لن يظهر مني ذلك، فاستأمرهم فقال: غلام عندي يتيم فأحب أن يأتيكم ويسمع كلامكم، قالوا: ان كنت تثق به. قال: أرجو ان لا يجيء منه إلا ما أحب.

قالوا: فجيء به. فقال لي: قد استأذنت القوم أن تجيء معي، فإذا كانت الساعة التي رأيتني أخرج فيها فأتني ولا يعلم بك احد، فإن أبي إن علم قتلهم. قال: فلما كانت الساعة التي يخرج تبعته، فصعد الجبل فانتهينا إليهم فإذا هم في برطيلهم. قال: علي. وأراه قال: هم ستة او سبعة. قال: وكانت الروح قد خرجت منهم من العبادة، يصومون النهار ويقومون الليل، يأكلون الشجر وما وجدوا، فقعدنا إليهم فأثنى ابن الدهقان علي خيرا، فتكلموا فحمدوا اللّه واثنوا عليه، وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء حتى خلصوا إلى عيسى بن مريم، قالوا: بعثه اللّه وولده بغير ذكر، بعثه اللّه رسوله، وسخر له ماكان يفعل من إحياء الموتى، وخلق الطير، وابراء الأعمى والأبرص، فكفر به قوم وتبعه قوم. وإنما كان عبد اللّه ورسوله ابتلى به خلقه. قال: وقالوا قبل ذلك: يا غلام، ان لك ربا، وإن لك معادا، وإن بين يديك جنة ونارا إليها تصير، وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة لا يرضى اللّه بما يصنعون وليسوا على دين، فلما حضرت الساعة التي ينصرف فيها الغلام انصرف وانصرفت معه، ثم غدونا إليهم فقالوا مثل ذلك وأحسن، فلزمتهم فقالوا: يا غلام، إنك غلام، وانك لا تستطيع أن تصنع كما نصنع، فكل واشرب وصل ونم.

قال: فاطلع الملك على صنيع ابنه، فركب الخيل حتى أتاهم في برطيلهم، فقال: ياهؤلاء، قد جاورتموني فأحسنت جوراكم ولم تروا مني سوءا، فعمدتم إلى ابني فافسدتموه علي، قد أجلتكم ثلاثا، فإن قدرت عليكم بعد ثلاث أحرقت عليكم برطيلكم هذا فالحقوا ببلادكم، فاني أكره أن يكون مني إليكم سوء. قالوا: نعم، ماتعمدنا اساءتك، ولا أردنا إلا الخير، فكف ابنه عن إتيانهم فقلت له: اتق اللّه، فانك تعرف أن هذا الدين دين اللّه، وإن أباك ونحن على غير دين، إنما هم عبدة النيران لا يعرفون اللّه، فلا تبع آخرتك بدنيا غيرك. قال: يا سلمان، هو كما تقول، وإنما أتخلف عن القوم بقيا عليهم ان اتبعت القوم يطلبني أبي في الخيل، وقد جزع من إتياني إياهم حتى طردهم، وقد أعرف أن الحق في أيديهم. قلت: أنت اعلم، ثم لقيت اخي فعرضت عليه فقال: انا مشتغل بنفسي وطلب المعيشة، فأتيتهم في اليوم الذي أرادوا أن يرتحلوا فيه فقالوا: يا سلمان، قد كنا نحذر، فكان ما رأيت، اتق اللّه واعلم أن الدين ما أوصيناك به، وإن هؤلاء عبدة النيران لا يعرفون اللّه ولا يذكرونه، فلا يخدعنك أحد عن ذلك. قلت: ما أنا بمفارقكم.

قالوا: إنك لا تقدر على أن تكون معنا، نحن نصوم النهار ونقوم الليل ونأكل الشجر وما أصبنا، وأنت لا تستطيع ذلك. قال: قلت: لا أفارقكم. قالوا: أنت اعلم قد اعلمناك حالنا فإذا أبيت فاطلب أحدا يكون معك، واحمل معك شيئا تأكله لا تستطيع مانستطيع نحن. قال: ففعلت، فلقيت أخي فعرضت عليه فأبى، فأتيتهم فتحملوا فكانوا يمشون وأمشي معهم، فرزقنا اللّه السلامة حتى أتينا الموصل، فأتينا بيعه بالموصل، فلما دخلوا حفوا بهم وقالوا: أين كنتم؟ قالوا: كنا في بلاد لا يذكرون اللّه، بها عباد نيران فطردونا فقدمنا عليكم، فلما كان بعد قالوا: يا سلمان، إن ههنا قوما في هذه الجبال هم أهل دين وإنا نريد لقاءهم، فكن أنت ههنا مع هؤلاء فإنهم أهل دين، وسترى منهم ما تحب، قلت: ما أنا بمفارقكم. قال: وأوصوا بي أهل البيعة فقال أهل دين البيعة: أقم معنا فإنه لا يعجزك شيء يسعنا. قلت: ما انا بمفارقكم.

فخرجوا وأنا معهم، فأصبحنا بين الجبال، فإذا صخرة وماء كثير في جرار وخبز كثير، فقعدنا عند الصخرة، فلما طلعت الشمس خرجوا من بين تلك الجبال، يخرج رجل رجل من مكانه كأن الارواح انتزعت منهم حتى كثروا، فرحبوا بهم وحفوا وقالوا: أين كنتم لم نركم؟ قالوا: كنا في بلاد لا يذكرون اسم اللّه فيها عبدة النيران، وكنا نعبد اللّه فيها فطردونا، فقالوا: ماهذا الغلام؟ قال: فطفقوا يثنون علي، وقالوا: صحبنا من تلك البلاد فلم نر منه إلا خيرا. قال: فو اللّه إنهم لكذا إذ طلع عليهم رجل من كهف رجل طويل، فجاء حتى سلم وجلس، فحف به أصحابي الذين كنت معهم وعظموه، وأحدقوا به فقال لهم: أين كنتم؟ فأخبروه فقال: وما هذا الغلام معكم؟ فأثنوا علي خيرا، وأخبروه باتباعي إياهم، ولم أر مثل إعظامهم إياه، فحمد اللّه واثنى عليه، ثم ذكر من أرسل من رسله وأنبيائه، وما لقوا وما صنع بهم حتى ذكر مولد عيسى بن مريم، وانه ولد بغير ذكر، فبعثه اللّه رسولا، وأجرى على يديه إحياء الموتى وابراء الأعمى والأبرص، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه، وأنزل عليه الإنجيل وعلمه التوراة، وبعثه رسولا إلى بني إسرائيل، فكفر به قوم وآمن به قوم، وذكر بعض ما لقي عيسى بن مريم، وأنه كان عبدا انعم اللّه عليه، فشكر ذلك له ورضي عنه حتى قبضه اللّه، وهو يعظمهم ويقول: اتقوا اللّه والزموا ما جاء عيسى به، ولا تخالفوا فيخالف بكم، ثم قال: من أراد أن يأخذ من هذا شيئا فليأخذ. فجعل الرجل يقوم فيأخذ الجرة من الماء والطعام والشيء، وقام اليه أصحابي الذين جئت معهم فسلموا عليه وعظموه، فقال لهم: الزموا هذا الدين وإياكم أن تفرقوا واستوصوا بهذا الغلام خيرا، وقال لي: هذا دين اللّه الذي ليس له دين فوقه وما سواه هو الكفر.

قال: قلت: ما أفارقك. قال: إنك لن تستطيع أن تكون معي، إني لا أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد، لا تقدر على الكينونة معي. قال: وأقبل على أصحابه فقالوا: يا غلام، إنك لا تستطيع أن تكون معه. قلت: ما أنا بمفارقك. قال: يا غلام، فإني أعلمك الآن، إني أدخل هذا الكهف ولا أخرج منه إلى الأحد الآخر، وأنت أعلم. قلت: ما أنا بمفارقك. قال له أصحابه: يا فلان، هذا غلام ونخاف عليه. قال: قال لي: أنت أعلم. قلت: إني لا أفارقك. فبكى أصحابي الاولون الذين كنت معهم عند فراقهم إياي. فقال: خذ من هذا الطعام ما ترى أنه يكفيك إلى الأحد الآخر، وخذ من هذا الماء ما تكتفي به ففعلت، وتفرقوا وذهب كل انسان إلى مكانه الذي يكون فيه، وتبعته حتى دخل الكهف في الجبل فقال: ضع ما معك وكل واشرب، وقام يصلي، فقمت معه أصلي قال: وانفتل الي فقال: إنك لا تستطيع هذا، ولكن صل ونم، وكل واشرب، ففعلت فما رأيته لا نائما ولا طاعما إلا راكعا وساجدا إلى الاحد الآخر. فلما أصبحنا قال: خذ جرتك هذه وانطلق، فخرجت معه أتبعه حتى انتهينا إلى الصخرة، واذا هم قد خرجوا من تلك الجبال، واجتمعوا إلى الصخرة ينتظرون خروجه، فقعدوا وجاد في حديثه نحو المرة الأولى. فقال: الزموا هذا الدين ولا تفرقوا، واتقوا اللّه واعلموا أن عيسى بن مريم كان عبد اللّه انعم اللّه عليه، ثم ذكروني فقالوا: يا فلان، كيف وجدت هذا الغلام؟ فاثنى علي وقال: خيرا. فحمدوا اللّه، فإذا خبز كثير وماء، فأخذوا وجعل الرجل يأخذ بقدر ما يكتفي به ففعلت، وتفرقوا في تلك الجبال ورجع إلى كهفه ورجعت معه.

فلبث ماشاء اللّه، يخرج في كل يوم احد ويخرجون معه، ويوصيهم بما كان يوصيهم به، فخرج في أحد فلما اجتمعوا حمد اللّه ووعظهم وقال مثل ماكان يقول لهم، ثم قال لهم آخر ذلك: يا هؤلاء، إني قد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، وأنه لا عهد لي بهذا البيت منذ كذا وكذا، ولا بد لي من إتيانه، فاستوصوا بهذا الغلام خيرا، واني رأيته لا بأس به، قال: فجزع القوم فما رأيت مثل جزعهم، وقالوا: يا أبا فلان، أنت كبير وأنت وحدك، ولا نأمن أن يصيبك الشيء ولسنا أحوج ما كنا إليك. قال: لا تراجعوني لا بد لي من إتيانه ولكن استوصوا بهذا الغلام خيرا وافعلوا وافعلوا. قال: قلت: ما أنا بمفارقك. قال: يا سلمان، قد رأيت حالي وماكنت عليه وليس هذا لك، إنما أمشي أصوم النهار وأقوم الليل، ولا أستطيع أن أحمل معي زادا ولاغيره ولا تقدر على هذا. قال: قلت: ما أنا بمفارقك. قال: أنت أعلم قالوا: يا أبا فلان، إنا نخاف عليك وعلى هذا الغلام. قال: هو أعلم قد أعلمته الحالة، وقد رأى ماكان قبل هذا. قلت: لا أفارقك. فبكوا وودعوه وقال لهم: اتقوا اللّه وكونوا على ما أوصيتكم به، فإن أعش فلعلي أرجع اليكم، وإن أمت فإن اللّه حي لا يموت، فسلم عليهم وخرج وخرجت معه، وقال لي: احمل معك من هذا الخبز شيئا تأكله.

فخرج وخرجت معه يمشي واتبعه، يذكر اللّه، ولا يلتفت ولا يقف على شيء حتى إذ امسى قال: يا سلمان صل أنت ونم، وكل واشرب، ثم قام هو يصلي إلى أن انتهى إلى بيت المقدس، وكان لا يرفع طرفه إلى السماء حتى انتهينا إلى بيت المقدس، واذا على الباب مقعد قال: يا عبد اللّه، قد ترى حالي فتصدق علي بشيء، فلم يلتفت إليه ودخل المسجد ودخلت معه، فجعل يتتبع أمكنة من المسجد يصلي فيها، ثم قال: يا سلمان، إني لم أنم منذ كذا وكذا ولم أجد طعم نوم، فإن أنت جعلت لي أن توقظني إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا نمت، فاني أحب أن أنام في هذا المسجد وإلا لم أنم. قال: قلت: فإني أفعل. قال: فانظر إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا فأيقظني إذا غلبتني عيني، فنام فقلت في نفسي: هذا لم ينم منذ كذا وكذا وقد رأيت بعض ذلك، لأدعنه ينام حتى يشتفى من النوم.

وكان فيما يمشي وأنا معه يقبل علي فيعظني، ويخبرني أن لي ربا وأن بين يديه جنة ونارا وحسابا، ويعلمني بذلك ويذكرني نحو ما كان يذكر القوم يوم الاحد حتى قال فيما يقول لي: يا سلمان، اللّه تعالى سوف يبعث رسولا اسمه أحمد يخرج بتهامة - وكان رجلا أعجميا لا يحسن أن يقول تهامة ولامحمد - علامته انه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم، وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب، فأما أنا فاني شيخ كبير ولا أحسبني ادركه، فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه. قلت: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه؟ قال: وإن أمرك فإن الحق فيما يجيء به، ورضا الرحمن فيما قال.

فلم يمض إلا يسير حتى استيقظ فزعا يذكر اللّه تعالى فقال: يا سلمان، مضى الفيء من هذا المكان ولم أذكر اللّه، أينما جعلت لي على نفسك؟ قال: قلت: أخبرتني أنك لم تنم منذ كذا وكذا، وقد رأيت بعض ذلك فاحببت أن تشتفي من النوم فحمد اللّه، فقام وخرج فتبعته فقال المقعد: يا عبد اللّه، دخلت فسألتك فلم تعطني، وخرجت فسألتك فلم تعطني، فقام ينظر هل يرى أحد فلم يره، فدنا منه فقال: ناولني يدك، فناوله فقال: قم بسم اللّه، فقام كأنه نشط من عقال صحيحا لا عيب فيه، فخلى عن يده، فانطلق ذاهبا فكان لا يلوي على أحد ولا يقوم عليه، فقال لي المقعد: يا غلام، أحمل على ثيابي حتى أنطلق وأبشر أهلي، فحملت عليه ثيابه وانطلق لا يلوي علي.

فخرجت في أثره أطلبه، وكلما سالت عنه قالوا: أمامك. حتى لقيني الركب من كلب فسألتهم، فلما سمعوا لغتي أناخ رجل منهم بعيره فحملني، فجعلني خلفه حتى بلغوا بي بلادهم قال: فباعوني فاشترتني امرأة من الانصار فجعلتني في حائط لها، وقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبرت به، فأخذت شيئا من تمر حائطي فجعلته على شيء، ثم أتيته فوجدت عنده اناسا، واذا أبو بكر أقرب القوم منه، فوضعته بين يديه فقال: ما هذا؟ قلت صدقة. فقال للقوم: كلوا ولم يأكل هو، ثم لبثت ما شاء اللّه، ثم اخذت مثل ذلك فجعلته على شيء، ثم أتيته به فوجدت عنده أناسا، واذا أبو بكر أقرب القوم منه، فوضعته بين يديه فقال: ماهذا؟ قلت: هدية. قال: بسم اللّه، فأكل وأكل القوم، قال: قلت: في نفسي هذه من آياته، كان صاحبي رجلا أعجميا لم يحسن أن يقول تهامة قال تهمة، وقال أحمد فدرت خلفه ففطن بي فأرخى ثوبه فإذا الخاتم في ناحية كتفه الايسر، فتبينته ثم درت حتى جلست بين يديه فقلت: أشهد أن لا إله إلا اللّه وانك رسول اللّه.

قال: من أنت؟ قلت: مملوك، فحدثته بحديثي وحديث الرجل الذي كنت معه وما امرني به، قال: لمن أنت؟ قلت: لامرأة من الانصار جعلتني في حائط لها. قال: يا أبا بكر، قال: لبيك... قال: اشتره. قال: فاشتراني أبو بكر فاعتقني، فلبثت ما شاء اللّه أن ألبث، ثم أتيته فسلمت عليه وقعدت بين يديه، فقلت: يا رسول اللّه، ما تقول في دين النصارى؟ قال: لا خير فيهم ولا في دينهم، فدخلني أمر عظيم فقلت في نفسي: هذا الذي كنت معه ورأيت منه ما رأيت، أخذ بيد المقعد فأقامه اللّه على يديه، لا خير في هؤلاء ولا في دينهم، فانصرفت وفي نفسي ماشاء اللّه، فأنزل اللّه بعد على النبي صلى اللّه عليه وسلم {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وانهم لا يستكبرون} إلى آخر الآية.

فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم علي بسلمان، فأتاني الرسول فدعاني وأنا خائف، فجئت حتى قعدت بين يديه، فقرأ بسم اللّه الرحمن الرحيم {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} إلى آخر الآية. فقال: يا سلمان، أولئك الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى إنما كانوا مسلمين، فقلت: يا رسول اللّه، فوالذي بعثك بالحق لقد امرني باتباعك. فقلت له: وإن امرني بترك دينك وما أنت عليه، فأتركه؟ قال: نعم، فاتركه فإن الحق وما يحب اللّه فيما يأمرك.

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله {قسيسين} قال: علماؤهم.

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: القسيسون. عبادهم.

وأخرج ابن جرير عن ابن إسحق قال: سألت الزهري عن هذه الآية {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون} وقوله {واذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} (الفرقان الآية ٦٣) قال: مازلت أسمع علمائنا يقولون: نزلت في النجاشي وأصحابه.

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله {فاكتبنا مع الشاهدين} قال: أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم. وفي لفظ: قال: يعنون بالشاهدين محمدا صلى اللّه عليه وسلم وامته، انهم قد شهدوا له أنه بلغ، وشهدوا للمرسلين أنهم قد بلغوا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله {ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين} قال: القوم الصالحون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصاحبه رضي اللّه عنهم.

﴿ ٨٦