٣٠

أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر قال‏:‏ أقبل أبو بكر رضي اللّه عنه يستأذن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والناس ببابه جلوس، والنبي صلى اللّه عليه وسلم جالس، فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي اللّه عنهما، فدخلا والنبي صلى اللّه عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو ساكت فقال عمر رضي اللّه عنه‏:‏ لأكلمن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعله يضحك، فقال عمر رضي اللّه عنه‏:‏ يا رسول اللّه لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى بدا ناجذه، وقال‏:‏ هن حولي يسألنني النفقة‏.‏ فقام أبو بكر رضي اللّه عنه إلى عائشة رضي اللّه عنها ليضربها، وقام عمر إلى حفصة كلاهما يقولان‏:‏ تسألان النبي صلى اللّه عليه وسلم ما ليس عنده‏.‏ فنهاهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن هذا، فقلن نساؤه‏:‏ واللّه لا نسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده‏.‏ وأنزل اللّه الخيار فبدأ بعائشة رضي اللّه عنها فقال ‏"‏اني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك‏.‏ قالت‏:‏ ما هو‏؟‏ فتلا عليها ‏{‏يا أيها النبي قل لأزواجك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏ قالت عائشة رضي اللّه عنها‏:‏ أفيك استأمر أبوي‏؟‏‏!‏ بل اختار اللّه ورسوله، وأسألك أن لا تذكر إلى امرأة من نسائك امرأة ما اخترت، فقال‏:‏ ان اللّه لم يبعثني متعنتا، وإنما بعثني معلما مبشرا، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها‏"‏‏.‏

وأخرج ابن سعد عن أبي سلمة الحضرمي قال ‏"‏جلست مع أبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما، وهما يتحدثان وقد ذهب بصر جابر رضي اللّه عنه، فجاء رجل فجلس، ثم قال‏:‏ يا أبا عبد اللّه أرسلني اليك عروة بن الزبير، أسألك فيم هجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساءه‏؟‏، فقال جابر رضي اللّه عنه‏:‏ تركنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة لم يخرج إلى الصلاة، فأخذنا ما تقدم وما تأخر، فاجتمعنا ببابه يسمع كلامنا ويعلم مكاننا، فاطلنا الوقوف، فلم يأذن لنا، ولم يخرج الينا، فقلنا‏:‏ قد علم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكانكم، ولو أراد أن يأذن لكم لأذن فتفرقوا لا تؤذوه، فتفرقوا غير عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه يتنحنح ويتكلم ويستأذن حتى أذن له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏.‏ قال عمر رضي اللّه عنه‏:‏ فدخلت عليه وهو واضع يده على خده أعرف به الكآبة، فقلت له‏:‏ أي نبي اللّه - بأبي وأمي يا رسول اللّه - ما الذي رابك‏؟‏ وما الذي لقي الناس بعدكم من فقدهم لرؤيتك‏؟‏ فقال‏:‏ يا عمر سألتني الاماء ما ليس عندي - يعني نساءه - فذاك الذي بلغ بي ما ترى‏.‏

فقلت‏:‏ يا نبي اللّه قد صككت جميلة بنت ثابت صكة ألصقت خدها منها بالأرض لأنها سألتني ما ليس عندي، وأنت يا رسول اللّه على موعد من ربك، وهو جاعل بعد العسر يسرا‏.‏ قال‏:‏ فلم أزل أكلمه حتى رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد تحلل عنه بعض ذلك، فخرجت، فلقيت أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه، فحدثته الحديث، فدخل أبو بكر على عائشة رضي اللّه عنها، قد علمت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يدخر عنكن شيئا، فلا تسأليه ما لا يجد، انظري حاجتك فاطلبيها الي، وانطلق عمر رضي اللّه عنه إلى حفصة، فذكر لها مثل ذلك، ثم اتبعا أمهات المؤمنين، فجعلا يذكران لهن مثل ذلكن فأنزل اللّه تعالى في ذلك ‏{‏يا أيها النبي قل لأزواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا‏}‏ يعني متعة الطلاق ويعني بتسريحهن‏:‏ تطليقهن طلاقا جميلا ‏{‏وإن كنتن تردن اللّه ورسوله والدار الآخرة فإن اللّه أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما‏}‏‏.‏

فانطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فبدأ بعائشة رضي اللّه عنها فقال‏:‏ ان اللّه قد أمرني ان أخيركن بين أن تخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة، وبين أن تخترن الدنيا وزينتها، وقد بدأت بك وأنا أخيرك قالت‏:‏ وهل بدأت بأحد قبلي منهن‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قالت‏:‏ فاني أختار اللّه ورسوله والدار الآخرة، فاكتم علي ولا تخبر بذاك نساءك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ بل أخبرهن بهن فأخبرهن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جميعا، فاخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة، فكان خياره بين الدنيا والآخرة‏.‏ اتخترن الآخرة أو الدنيا‏؟‏ قال ‏{‏وإن كنتن تردن اللّه ورسوله والدار الآخرة فإن اللّه أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما‏}فاخترن أن لا يتزوجن بعده، ثم قال ‏{‏يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة‏}‏ يعني الزنا ‏{‏يضاعف لها العذاب ضعفين‏}‏ يعني في الآخرة ‏{‏وكان ذلك على اللّه يسيرا، ومن يقنت منكن للّه ورسوله‏}‏ يعني تطيع اللّه ورسوله ‏{‏وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين‏}‏ مضاعفا لها في الآخرة ‏{‏واعتدنا لها رزقا كريما‏}‏ ‏{‏يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض‏}‏ يقول فجور ‏{‏وقلن قولا معروفا، وقرن في بيوتكن‏}‏ يقول لا تخرجن من بيوتكن ‏{‏ولا تبرجن‏}‏ يعني القاء القناع فعل الجاهلية الأولى، ثم قال جابر رضي اللّه عنه‏:‏ ألم يكن الحديث هكذا‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏

وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عائشة رضي اللّه عنها ‏"‏أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاءها حين أمره اللّه أن يخير أزواجه قالت‏:‏ فبدأ بي فقال‏:‏ اني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن تستعجلي حتى تستأمري أبويك، قد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقة، فقال‏:‏ ان اللّه قال{‏يا أيها النبي قل لأزواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها‏}‏ إلى تمام الآيتين‏.‏ فقلت له‏:‏ ففي أي هذا استأمر أبوي، فاني أريد اللّه ورسوله والدار الآخرة، وفعل أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم مثل ما فعلت‏"‏‏.‏

وأخرج ابن سعد عن عمرو بن سعيد عن أبيه عن جده قال ‏"‏لما خير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساءه بدأ بعائشة رضي اللّه عنها قال‏:‏ ان اللّه خيرك فقالت‏:‏ اخترت اللّه ورسوله، ثم خير حفصة رضي اللّه عنها فقلن جميعا‏:‏ اخترنا اللّه ورسوله، غير العامرية اختارت قومها، فكانت بعد تقول‏:‏ أنا الشقية وكانت تلقط البعر وتبيعه، وتستأذن على أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم وتقول‏:‏ أنا الشقية‏"‏‏.‏

وأخرج ابن سعد عن أبي جعفر رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم‏:‏ ما نساء أغلى مهورا منا، فغار اللّه لنبيه صلى اللّه عليه وسلم، فأمره أن يعتزلهن، فاعتزلهن تسعة وعشرين يوما، ثم أمره أن يخيرهن فخيرهن‏.‏

وأخرج ابن سعد عن أبي صالح قال‏:‏ اخترنه صلى اللّه عليه وسلم جميعا غير العامرية، كانت ذاهبة العقل حتى ماتت‏.‏

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عائشة رضي اللّه عنها قالت‏"‏حلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليهجرنا شهرا، فدخل علي صبيحة تسعة وعشرين، فقلت‏:‏ يا رسول اللّه ألم تكن حلفت لتهجرنا شهرا، قال‏:‏ ان الشهر هكذا وهكذا وهكذا‏.‏ وضرب بيده جميعا، وخنس يقبض أصبعا في الثالثة، ثم قال‏:‏ يا عائشة اني ذاكر لك أمرا، فلا عليك أن تعجلي حتى تستشيري أبويك، وخشي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حداثة سني قلت‏:‏ وما ذاك يا رسول اللّه‏؟‏ قال‏:‏ اني أمرت أن أخيركن، ثم تلا هذه الآية ‏{‏يا أيها النبي قل لأزواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها‏}‏ إلى قوله ‏{‏أجرا عظيما‏}‏ قالت‏:‏ فيم استشير أبوي يا رسول اللّه‏؟‏ بل أختار اللّه ورسوله، فسر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك، وسمع نساؤه فتواترن عليه‏"‏‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ إنما خير رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أزواجه بين الدنيا والآخرة‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة والحسن رضي اللّه عنهما قالا‏:‏ أمره اللّه أن يخيرهن بين الدنيا والآخرة، والجنة والنار، قال الحسن رضي اللّه عنه‏:‏ في شيء كن أردنه من الدنيا‏.‏ وقال قتادة رضي اللّه عنه‏:‏ في غيرة كانت غارتها عائشة رضي اللّه عنها، وكان تحته يومئذ تسع نسوة، خمس من قريش‏.‏ عائشة‏.‏ وحفصة‏.‏ وأمر حبيبة بنت أبي سفيان‏.‏ وسودة بنت زمعة‏.‏ وأم سلمة بنت أبي أمية‏.‏ وكانت تحته صفية بنت حي الخيبرية‏.‏ وميمونة بنت الحارث الهلالية‏.‏ وزينب بنت جحش الأسدية‏.‏ وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق‏.‏ وبدأ بعائشة رضي اللّه عنها، فلما أختارت اللّه ورسوله والدار الآخرة رؤي الفرح في وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فتتابعن كلهن على ذلك، فلما خيرهن واخترن اللّه ورسوله والدار الآخرة، شكرهن اللّه تعالى على ذلك ان قال ‏{‏لا تحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن‏}‏ فقصره اللّه تعالى عليهن، وهن التسع اللاتي اخترن اللّه ورسوله‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير رضي اللّه عنه في قوله{‏يا أيها النبي قل لأزواجك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏ قال أمر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم ان يخبر نساءه في هذه الآية فلم تختر واحدة منهن نفسا غير الحميرية‏.

﴿ ٣٠