ÓõæÑóÉõ ÇáúÈóÞóÑóÉö ãóÏóäöíøóÉñ

æóåöíó ãöÇÆóÊóÇäö æóÓöÊøñ æóËóãóÇäõæäó ÂíóÉð

سورة البقرة

فصل في فضيلتها

روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فان البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان.

وروى أبو أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فانهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف اقرؤوا البقرة، فان أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة.والمراد بالزهراوين: المنيرتين. يقال لكل منير: زاهر. والغيايه: كل شيء أظل الانسان فوق رأسه، مثل السحابة والغبرة. يقال: غايا القوم فوق رأس فلان بالسيف، كأنهم أظلوه به.قال لبيد:

فتدليت عليه قافلا  وعلى الأرض غيايات الطفل

ومعنى فرقان: قطعتان. والفرق: القطعة من الشيء. قال عز وجل: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَٱلطَّوْدِ ٱلْعَظِيمِ} الشعراء: ٦٣. والصواف: المصطفة المتضامة لنظل قارئها. والبطلة: السحرة.

فصل

في نزولهاقال ابن عباس: هي أول ما نزل بالمدينة، وهذا قول الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وقتادة، ومقاتل، وذكر قوم أنها مدنية سوى آية، وهي قوله عز وجل: {وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللّه} البقرة: ٢٨١. فانها أنزلت يوم النحر بمنى في حجة الوداع.

_________________________________

١

فصل

{الۤمۤ}

وأما التفسير. فقوله: {الم} اختلف العلماء فيها وفي سائر الحروف المقطعة في أوائل السور على ستة أقوال.

احدها: أنها من المتشابه الذي لا يعلمه الا اللّه. قال أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه: للّه عز وجل في كل كتاب سر، وسر اللّه في القرأن أوائل السور، وإلى هذا المعنى ذهب الشعبي، وأبو صالح، وابن زيد.

والثاني: أنها حروف من أسماء، فاذا ألفت ضربا من التأليف كانت أسماء من أسماء اللّه عز وجل. قال علي بن أبي طالب: هي أسماء مقطعة لو علم الناس تأليفها علموا اسم اللّه الذي إذا دعي به أجاب. وسئل ابن عباس عن «آلر» و«حم» و «نون» فقال اسم الرحمن على الجهاء، و الى نحو هذا ذهب أبو العالية، والربيع بن أنس.

والثالث: أنها حروف أقسم اللّه بها، قاله ابن عباس، وعكرمة. قال ابن قتيبة: ويجوز أن يكون أقسم بالحروف المقطعة كلها، واقتصر على ذكر بعضها كما يقول القائل تعلمت «أ ب ت ث» وهو يريد سائر الحروف، وكما يقول: قرأت الحمد، يريد فاتحة الكتاب، فيسميها بأول حرف منها، وإنما أقسم بحروف المعجم لشرفها ولأنها مباني كتبه المنزلة، وبها يذكر ويوحد، قال ابن الانباري: وجواب القسم محذوف، تقديره: وحروف المعجم لقد بين اللّه لكم السبيل، وأنهجت لكم الدلالات بالكتاب المنزل، وإنما حذف لعلم المخاطبين به، ولأن في قوله:

{ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} دليلا على الجواب.

والرابع: انه أشار بما ذكر من الحروف الى سائرها، والمعنى أنه لما كانت الحروف أصولا للكلام المؤلف، أخبر أن هذا القرأن إنما هو مؤلف من هذه الحروف، قاله الفراء، وقطرب.

فان قيل: فقد علموا أنه حروف، فما الفائدة في أعلامهم بهذا؟

فالجواب أنه نبه بذلك على إعجازه، فكأنه قال: هو من هذه الحروف التي تؤلفون منها كلامكم، فما بالكم تعجزون عن معارضته؟ٰ فاذا عجزتم فاعلموا أنه ليس من قول محمد عليه السلام.

والخامس: أنها أسماء للسور. روي عن زيد بن أسلم، وابنه، وأبي فاختة سعيد ابن علاقة مولى أم هانىء.

والسادس: أنها من الرمز الذي نستعمله العرب في كلامها. يقول الرجل للرجل: هل تا؟ فيقول له: بلى، يريد هل تأتي؟ فيكتفي بحرف من حروفه. وأنشدوا:

قلنا لها قفي لنا فقالت قاف  لا تحسبى أنا نسينا الإيجاف

أراد قالت:أقف. ومثله:

نادوهم ألا الجموا ألا تا  قالوا جميعا كلهم ألا فا

يريد: ألا تركبون؟ قالوا: بلى فاركبوا. ومثله:

بالخير خيرات وإن شرا فا  ولا أريد الشر إلا أن تا

معناه: وإن شرا فشر ولا أريد الشر إلا أن تشاء . والى هذا القول ذهب الأخفش، والزجاج، وابن الأنباري. وقال أبو روق عطية بن الحارث الهمداني: كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يجهر بالقراءة في الصلوات كلها، وكان المشركون يصفقون ويصفرون، فنزلت هذه الحروف المقطعة فسمعوها فبقوا متحيرن. وقال غيره إنما خاطبهم بما لا يفهمون ليقبلوا على سماعه، لأن النفوس تطلع الى ما غلب عنها معناه، فإذا أقبلوا إليه خاطبهم بما يفهمون، فصار ذلك كالوسيلة الى الإبلاغ، إلا أنه لا بد له من معنى يعلمه غيرهم، أو يكون معلوما عند المخاطبين، فهذا الكلام يعم جميع الحروف. وقد خص المفسرون قوله « الم » بخمسة أقوال:

احدها: أنه من المتشابه الذي لا يعلم معناه الا اللّه عز وجل، وقد سبق بيانه.

والثاني: ان معناه: أنا اللّه أعلم. رواه أبوا الضحى عن ابن عباس وبه قال ابن مسعود، وسعيد بن جبير.

والثالث: أنه قسم. رواه أبو صالح عن ابن عباس، وخالد الحذاء عن عكرمة.

والرابع: أنها حروف من أسماء. ثم فيها قولان.

احدهما: أن الألف من«اللّه» واللام من«جبريل» والميم من«محمد» قاله ابن عباس.

فان قيل: إذا كان قد تنوول من كل اسم حرفه الأول اكتفاء به، فلم أخذت اللام من جبريل وهي أخر الإسم؟ٰ

فالجواب: أن مبتدأ القرآن من اللّه تعالى، فدل على ذلك بابتداء أول حرف من اسمه، وجبريل انختم به التنزيل والإقرأء، فتنوول من اسمه نهاية حروفه، و«محمد» مبتدأ في الإقرأء فتنوول أول حرف فيه.

والقول الثاني: أن الألف من«اللّه» تعالى، واللام من«لطيف» والميم من«مجيد» قاله أبو العالية.

والخامس: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله مجاهد، والشعبي، وقتادة، وابن جريج.

٢

قوله تعالىذلك» فيه قولان.

احدهما: أنه بمعنى هذا، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والكسائي، وأبي عبيدة، والأخفش. واحتج بعضهم بقول خفاف بن ندبة.

اقول له والرمح يأطر متنه  تأمل خفافا إنني أنا ذلكا

أي: أنا هذا. وقال ابن الأنباري. إنما أراد: أنا ذلك الذي تعرفه.

والثاني: أنه إشارة الى غائب. ثم فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أنه أراد به ما تقدم إنزاله عليه من القرآن.

والثانى: أنه أراد به ما وعده أن يوحيه إليه في قبوله: {سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} المزمل: ٥.

والثالث: أنه أراد بذلك ما وعد به أهل الكتب السالفة، لأنهم وعدوا بنبي وكتاب.

و {ٱلْكِتَـٰبِ} القرآن. وسمي كتابا، لأنه جمع بعضه الى بعض، ومنه الكتيبة، سميت بذلك لاجتماع بعضها الى بعض. ومنه كتبت البغلة. قوله تقالى:

{لاَ رَيْبَ فِيهِ}الريب: الشك. والهدى: الإرشاد. والمتقون: المحترزون مما اتقوه. وفرق شيخنا علي بن عبيد اللّه بين التقوى والورع، فقال: التقوى: أخذ عدة، والورع: دفع شبهة، فالتقوى: متحقق السبب، والورع: مظنون المسبب.

واختلف العلماء في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال.

احدها: أن ظاهرها النفي، ومعناها النهى، وتقديرها: لا ينبغي لأحد أن يرتاب به لإتقانه وإحكامه. ومثله: {مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِٱللّه مِن شَىْء} يوسف: ٣٨. أي: ما ينبغي لنا. ومثله: {فَلا * رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} البقرة: ١٩٦ وهذا مذهب الخليل، وابن الأنباري.

والثاني: أن معناها: لا ريب فيه أنه هدى للمتقين. قاله المبرد.

والثالث: أن معناها: لا ريب فيه أنه من عند اللّه، قاله مقاتل في آخرين

فان قيل: فقد ارتاب به قوم.

فالجواب: انه حق في نفسه، فمن حقق النظر فيه علم. قال الشاعر:

ليس في الحق يا أمامة ريب  إنما الريب ما يقول الكذوب

فان قيل: فالمتقى مهتد، فما فائدة اختصاص الهداية به؟

فالجواب من وجهين.

احدهما: أنه أراد المتقين، والكافرين، فاكتفى بذكر أحد الفريقين،كقوله تقالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ} النحل: ٨١. أراد: والبرد.

والثاني: أنه خص المتقين لانتفاعهم به، كقوله: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـٰهَا} النازعات: ٤٥. وكان منذرا لمن يخشى ولمن لا يخشى.

٣

قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ} الايمان في اللغة: التصديق، والشرع أقره على ذلك، وزاد فيه القول والعمل. وأصل الغيب: المكان المطمئن الذي يستتر فيه لنزوله عما حوله فسمي كل مستتر: غيبا.

وفي المراد بالغيب هاهنا ستة اقوال.

احدها: أنه الوحي، قاله ابن عباس، وابن جريج.

والثاني: القرآن قاله أبو رزين العقيلي، وزر بن حبيش.

والثالث: اللّه عز وجل، قاله عطاء، وسعيد بن جبير.

والرابع: ما غاب عن العياد من أمر الجنة والنار، ونحو ذلك مما ذكر في القرآن. رواه السدي عن أشياخه، وإليه ذهب أبو العالية، وقتادة.

والخامس: أنه قدر اللّه عز وجل، قاله الزهري.

والسادس: أنه الايمان بالرسول في حق من لم يره. قال عمرو بن مرة: قال أصحاب عبد اللّه: له طوبى لك، جاهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وجالسته فقال: إن شان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان مبينا لمن رآه، ولكن أعجب من ذلك: قوم يجدون كتابا مكتوبا يؤمنون به ولم يروه، ثم قرأ: {ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ} قوله تعالى:

{وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ} الصلاة في اللغة: الدعاء. وفي الشريعة: أفعال وأقوال على صفات مخصوصة.

وفي تسميتها بالصلاة ثلاثة أقوال.

احدها: أنها سميت بذلك لرفعاالصلاة، وهو مغرز الذنب من الفرس.

والثاني: أنها من صليت العود إذا لينته، فالمصلي يلين ويخشع.

والثالث: أنها مبنية على السؤال والدعاء، والصلاة في اللغة: الدعاء، وهي في هذا المكان اسم جنس. قال مقاتل: أراد بها هاهنا: الصلوات الخمس. وفي معنى إقامتها ثلاثة أقوال.

احدها: أنه تمام فعلها على الوجه المأمور به، روي عن ابن عباس، ومجاهد.

والثاني: أنه المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، قاله قتادة، ومقاتل.

والثالث: إدامتها، والعرب تقول في الشيء الراتب: قائم، وفلان يقيم أرزاق الجند، قاله ابن كيسان. قوله تعالى:

{وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ} أي: أعطيناهم {يُنفِقُونَ} أي يخرجون. وأصل الإنفاق الإخراج. يقال: نفقت الدابة: إذا خرجت روحها.

وفي المراد بهذه النفقة أربعة أقوال.

احدها: أنها النفقة على الأهل والعيال، قاله ابن مسعود، وحذيفة.

والثاني: أنها الزكاة المفروضة، قاله ابن عباس، وقتادة.

والثالث: أنها الصدقات النوافل، قاله مجاهد والضحاك.

والرابع: أنها النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة، ذكره بعض المفسرين، وقالوا: إنه كان فرض على الرجل أن يمسك مما في يده مقدار كفايته يومه وليلته، ويفرق باقيه على الفقراء. فعلى قول هؤلاء، الآية منسوخة بآية الزكاة، وغير هذا القول أثبت. واعمل أن الحكمة في الجمع بين الإيمان بالغيب وهو عقد القلب، وبين الصلاة وهي فعل البدن، وبين الصدقة وهو تكليف يتعلق بالمال أنه ليس في التكليف قسم رابع، إذ ما عدا هذه الأقسام فهو ممتزج بين أثنين منهما، كالحج والصوم ونحوهما.

٤

قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} اختلفوا فيمن نزلت على قولين.

احدهما: أنها نزلت في عبد اللّه بن سلام وأصحابه، رواه الضحاك عن أبن عباس، واختاره مقاتل.

والثاني: أنها نزلت في العرب الذي آمنوا بالنبي وما أنزل من قبله. رواه صالح عن ابن عباس،

قال المفسرون: الذي أنزل إليه، القرأن. وقال شيخنا علي بين عبيد اللّه: القرآن وغيره مما أوحي إليه. قوله تعالى:

{وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} يعني الكتب المتقدمة والوحي فأما «الآخرة» فهي اسم لما بعد الدنيا، وسميت آخرة، لأن الدنيا قد تقدمتها.

وقيل: سميت آخرة لأنها نهاية الأمر.

قوله تعالى تقالى: {يُوقِنُونَ} اليقين: ما حصلت به الثقة وثلج به الصدر، وهو أبلغ علم مكتسب.

٥

قوله تعالى: {أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى} أي: على رشاد. وقال ابن عباس: على نور واستقامة. قال ابن قتبية: المفلحون: الفائزون ببقاء الأبد. وأصل الفلاح: البقاء. ويشهد لهذا قول لبيد:

نحل بلادا كلها حل قبلنا  ونرجو الفلاح بعد عاد وحمير

يريد: البقاء. وقال الزجاج: المفلح: الفائز بما فيه غاية صلاح حاله. قال ابن الأنباري: ومنه: حي على الفلاح، معناه: هلموا الى سبيل الفوز ودخول الجنة.

٦

قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} في نزولها أربعة أقوال.

احدها: أنها نزلت في قادة الأحزاب، قاله أبو العالية.

والثاني: أنها نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، قاله الضحاك.

الثالث: انها نزلت في طائفة من إليهود، ومنهم حيي بن أخطب، قاله ابن السائب.

والرابع: أنها نزلت في مشركي العرب، كأبي جهل وأبي طالب، وأبي لهب وغيرهم ممن لم يسلم. قال مقاتل: فأما تفسيرها، فالكفر في اللغة: التغطية. تقول: كفرت الشيء إذا غطيته، فسمي الكافر كافرا، لأنه يغطي الحق. قوله تعالى:

{سَوَاء عَلَيْهِمْ} أي: متعادل عندهم الانذار وتركه، والإنذار: إعلام مع تخويف، وتناذر بنو فلان هذا الأمر: إذا خوفه بعضهم بعضا. قال شيخنا على بن عبيد اللّه: هذه الآية وردت بلفظ العموم، والمراد بها الخصوص، لأنها آذنت بأن الكافر حين إنذاره لا يؤمن، وقد آمن كثير من الكفار عند إنذارهم، ولو كانت على ظاهرها في العموم، لكان خبر اللّه لهم خلاف مخبره، ولذلك وجب نقلها الى الخصوص.

٧

قوله تعالى: {خَتَمَ ٱللّه عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ} الختم: الطبع، والقلب: قطعة من دم جامدة سوداء، وهو مستكن في الفؤاد، وهو بين النفس، ومسكن العقل، وسمي قلبا لتقلبه.

وقيل: لأنه خالص البدن، وإنما خصه بالختم لأنه محل الفهم. قوله تعالى:

{وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ} يريد: على أسماعهم، فذكره بلفظ التوحيد، ومعناه: الجمع، فاكتفى بالواحد عن الجميع، ونظيره قوله تعالى :

{ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} الحج: ٥. وأنشدوا من ذلك:

كلوا في نصف بطنكم تعيشوا  فان زمانكم زمن خميص

أي: في أنصاف بطونكم. ذكر هذا القول أبو عبيدة، والزجاج. وفيه وجه آخر، وهو أن العرب تذهب بالسمع مذهب المصدر، والمصدر يوحد، تقول: يعجبني حديثكم، ويعجبني ضربكم، فأما البصر والقلب فهما اسمان لا يجريان مجرى المصادر في مثل هذا المعنى. ذكره الزجاج، وابن القاسم. وقد قرأ عمرو بن العاص، وأبن أبي عبلة: {وَعَلَىٰ} قوله تعالى:

{سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَـٰرِهِمْ غِشَـٰوَةٌ} الغشاوة: الغطاء. قال الفراء: أما قريش وعامة العرب، فيكسرون الغين من«غشاوة» وعكل يضمون الغين، وبعض العرب يفتحها، وأظنها لربيعة. وروى المفضل عن عاصم«غشاوة» بالنصب على تقدير: جعل على أبصارهم غشاة. فأما العذاب، فهو الألم المستمر، وماء عذب: إذا استمر في الحلق سائغا.

٨

قوله تعالى: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ ءامَنَّا بِٱللّه} اختلفوا فيمن نزلت على قولين.

احدهما أنها في المنافقين، ذكره السدي عن ابن مسعود، وابن عباس، وبه قال أبو العالية، وقتادة، وابن زيد.

والثاني: أنها في منافقي أهل الكتاب. رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال ابن سيرين: كانوا يتخوفون من هذه الآية. وقال قتادة: هذه الآية نعت المنافق، يعرف بلسانه، وينكر بقلبه، و يصدق بلسانه ويخالف بعمله ويصبح على حالة ويمسي على غيرها ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبت ريح هب معها.

٩

قوله تعالى : {يُخَـٰدِعُونَ ٱللّه} قال ابن عباس: كان عبد اللّه بن أبي، ومعتب بن قشير، والجد بن القيس؛ إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، ونشهد أن صاحبكم صادق، فاذا خلوا لم يكونوا كذلك، فنزلت هذه الآية. فأما التفسير، فالخديعة: الحيلة والمكر، وسميت خديعة، لأتها تكون في خفاء. والمخدع: بيت داخل البيت تختفي فيه المرأة، ورجل خادع: إذا فعل الخديعة، سواء حصل مقصوده أو لم يحصل، فاذا حصل مقصوده، قيل: قد خدع. وانخدع الرجل: استجاب للخادع، سواء تعمد الاستجابة أو لم يقصدها، والعرب تسمي الدهر خداعا، لتلونه بما يخفيه من خير وشر. وفي معنى خداعهم اللّه خمسة أقوال.

احدها انهم كانوا يخادعون المؤمنين، فكأنهم خادعوا اللّه. روي عن ابن عباس، واختاره ابن قتيبة.

والثاني: انهم كانوا يخادعون نبي اللّه، فأقام اللّه نبيه مقامه، كما قال: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللّه} الفتح: ١٠. قاله الزجاج.

والثالث أن الخادع عند العرب: الفاسد.

وأنشدوا:

أبيض اللون لذيذ طعمه  طيب الريق إذا الريق خدع

أي: فسد. رواه محمد بن القاسم عن ثعلب عن ابن الاعرابي. قال ابن القاسم: فتأويل: يخادعون اللّه: يفسدون ما يظهرون من الايمان بما يضمرون من الكفر.

والرابع: أنهم كانوا يفعلون في دين اللّه مالو فعلوه بينهم كان خداعا.

والخامس: أنهم كانوا يخفون كفرهم، ويظهرون الإيمان به.

قوله تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو: {وَمَا * يُخَـٰدِعُونَ} وقرأ الكوفيون، واين عامر: {يُخَـٰدِعُونَ} ، والمعنى: أن وبال ذلك الخداع عائد عليهم.

ومتى يعود وبال خداعهم؟ عليهم فيه قولان.

احدهما: في دار الدنيا، وذلك بطريقين.

احدهما: بالاستدراج والإمهال الذي يزيدهم عذابا.

والثاني : باطلاع النبي والمؤمنين على أحوالهم التي أسروها.

والقول الثاني: ان عود الخداع عليهم في الآخرة، وفي ذلك قولان.

احدهما: أنه يعود عليهم عند ضرب الحجاب بينهم وبين المؤمنين،وذلك قوله: {قيل ٱرْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ} الحديد: ١٣.

والثاني: أنه يعود عليهم عند اطلاع أهل الجنة عليهم، فاذا رأوهم طمعوا في نيل راحة من قبلهم، فقالوا: {أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللّه} الأعراف: ٥٠. فيجيبونهم. {إِنَّ ٱللّه حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ} الأعراف: ٥١. قوله تعالي :

{وَمَا يَشْعُرُونَ} أي: وما يعلمون. وفي الذي لم يشعروا به قولان.

احدهما: انه إطلاع اللّه نبيه على كذبهم، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه إسرارهم بأنفسهم بكفرهم، قاله ابن زيد.

١٠

قوله تعالى: {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} المرض ها هنا: الشك، قاله عكرمة وقتادة. {فَزَادَهُمُ ٱللّه مَرَضًا} هذا الإخبار من اللّه تعالى أنه فعل بهم ذلك، و «الأليم» بمعنى المؤلم، والجمهور يقرؤون{يَكْذِبُونَ} بالتشديد، وقرأ الكوفيون سوى أبان، عن عاصم بالتخفيف مع فتح الياء.

١١

قوله تعالى: {وَإِذَا قيل لَهُمْ ضَلَلْنَا فِى ٱلاْرْضِ} اختلفوا فيمن نزلت على قولين.

احدهما: أنها نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو قول الجمهور، منهم ابن عباس، ومجاهد.

والثاني: أن المراد بها قوم لم يكونوا خلقوا حين نزولها، قاله سلمان الفارسي. وكان الكسائي يقرأ بضم القاف من«قيل» والحاء من«حيل» والغين من«غيض»، والجيم من«جيء»، السين من «سيء» و«سيئت». وكان ابن عامر يضم من ذلك ثلاثة«حيل» و«سبق» و«سيء» و«سئيت». وكان نافع يضم«سيء» و«سيئت»، ويكسر البواقي، والآخرون يكسرون جميع ذلك. وقال الفراء: أهل الحجاز من قريش ومن جاورهم من بني كنانة يكسرون القاف في «قيل» و«جيء» و«غيض»، وكثير من عقيل ومن جاورهم وعامة أسد، يشمون الى الضم من «قيل» و«جيء».

وفي المراد بالفساد ها هنا خمسة أقوال.

احدها: أنه الكفر، قاله ابن عباس.

والثاني: العمل بالمعاصي، قاله أبو العالية، ومقاتل.

والثالث: أنه الكفر والمعاصي، قاله السدي عن أشياخه.

والرابع: انه ترك امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، قاله مجاهد.

والخامس: أنه النفاق الذي صادفوا به الكفار، وأطلعوهم على أسرار المؤمنين، ذكره شيخنا علي بن عبيد اللّه. قوله تعالى:

{إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} فيه خمسة أقوال.

احدها: أن معناه إنكار ماعرفوا به، وتقديره: ما فعلنا شيئا يوجب الفساد.

والثاني: أن معناه: إنا نقصد الإصلاح بين المسلمين والكافرين، والقولان عن ابن عباس.

والثالث: انهم أرادوا مصافاة الكفار صلاح، لا فساد، قاله مجاهد، وقتادة.

والرابع: أنهم أرادوا أن فعلنا هذاهو الصلاح، وتصديق محمد هو الفساد، قاله السدي.

والخامس: أنهم ظنوا أن مصافاة الكفار صلاح في الدنيا لا في الدين، لأنهم اعتقدوا أن الدولة إن كانت للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقد أمنوه بمبايعته وإن كانت للكفار فقد أمنوهم بمصافاتهم، ذكره شيخنا.

١٢

قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ} قال الزجاج؛ ألا: كلمة يبتدأ بها: ينبه بها المخاطب، تدل على صحة ما بعدها. و«هم»: تأكيد للكلام.

وفي قوله تعالى {وَلَـٰكِن لاَّ} قولان.

احدهما: لا يشعرون أن اللّه يطلع نبيه على فسادهم.

والثاني: لا يشعرون أن ما فعلون فساد، لا صلاح.

١٣

قوله تعالى: {وَإِذَا قيل لَهُمْ ءامِنُواْ} في المقول لهم قولان.

احدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، ومقاتل.

والثاني: المنافقون، قاله مجاهد، وابن زيد، وفي القائلين لهم قولان.

احدهما: انهم أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، قاله ابن عباس، ولم يعين أحدا من الصحابة.

والثاني: أنهم معينون، وهم سعد بن معاذ، وأبو لبابة، وأسيد، ذكره مقاتل.

وفي الإيمان الذي دعوا إليه قولان.

احدهما: أنه التصديق بالنبي، وهو قول من قال: هم إليهود.

والثاني: أنه العمل بمقتضى ما أظهروه، وهو قول من قال: هم المنافقون.

وفي المراد بالناس ها هنا ثلاثة أقوال.

احدها: جميع الصحابة، قاله ابن عباس.

والثاني: عبد اللّه بن سلام، ومن أسلم معه من اليهود، قاله مقاتل.

والثالث: معاذ بن جبل، وسعد بن معاد، وأسيد بن حضير، وجماعة من وجوه الأنصار، عدهم الكلبي.

وفيمن عنوا بالسفهاء ثلاثة أقوال.

احدها: جميع الصحابة، قاله ابن عباس.

والثاني: النساء والصبيان، قاله الحسن.

والثالث: ابن سلام وأصحابة، قاله مقاتل.

وفيما عنوه بالغيب من إيمان الذين زعموا انهم السفهاء ثلاثة أقوال.

احدها: انهم أرادوا دين الإسلام، قاله ابن عباس، والسدي.

والثاني: أنهم أرادوا البعث والجزاء، قاله مجاهد.

والثالث: أنهم عنوا مكاشفة الفريقين بالعداوة. من غير نظر في عاقبة، وهذا الوجه والذي قبله يخرج على أنهم المنافقون، والأول يخرج على أنهم إليهود. قال ابن قتيبة: والسفهاء: الجهلة، يقال: سفه فلان رأيه إذا جهله، ومنه قيل للبذاء: سفه، لأنه جهل. قال الزجاج: وأصل السفه في اللغة: خفة الحلم، ويقال: ثوب سفيه: إذا كان رقيقا باليا، وتسفهت الريح الشجر: إذا مالت به. قال الشاعر:

مشين كما اهتزت رماح تسفهت  أعإليها مر الرياح النواسم

قوله تعالى: {وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ}. قال مقاتل: لا يعلمون أنهم هم السفهاء.

١٤

قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ}. اختلفوا فيمن نزلت على قولين.

احدهما: أنها نزلت في عبد اللّه بن أبي وأصحابه. قاله ابن عباس.

والثاني: أنها نزلت في المنافقين وغيرهم من أهل الكتاب الذين كانوا يظهرون للنبي صلى اللّه عليه وسلم من الإيمان ما يلقون رؤساءهم بضده، قاله الحسن. فأما التفسير: ف«إلى» بمعنى«مع» كقوله تعالى : {مَنْ أَنصَارِى إِلَى ٱللّه} أي: مع اللّه. والشياطين: جمع شيطان، قال الخليل: كل متمرد عند العرب شيطان.

وفي هذا الاسم قولان.

احدهما: أنه من شطن، أي: بعد عن الخير، فعلى هذا تكون النون أصلية. قال أمية بن أبي الصلت في صفة سليمان عليه السلام: أيما شاطن عصاه عكاه  ثم يلقى في السجن والأغلال عكاه: أوثقه. وقال النابغة:

نأت بسعاد عنك نوى شطون  فبانت والفؤاد بها رهين

والثاني: أنه من شاط يشيط: إذا التهب واحترق، فتكون النون زائدة. وأنشدوا:

وقد يشيط على أرماحنا البطل.

أي: يهلك.

وفي المراد، بشياطينهم ثلاثة أقوال.

احدها: انهم رؤوسهم في الكفر، قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، والسدي.

والثاني: إخوانهم من المشركين، قاله أبو العالية، ومجاهد.

والثالث: كهنتهم، قاله الضحاك، والكلبي.

قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ} قيه قولان.

احدهما: أنهم أرادوا إنا معكم على دينكم.

والثاني: إنا معكم على النصرة والمعاضدة. والهزء: السخرية.

١٥

قوله تعالى: {ٱللّه يَسْتَهْزِىء بِهِمُ} اختلف العلماء في المراد، باستهزاء اللّه بهم على تسعة أقوال.

احدها: أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار، فيسرعون إليه فيغلق، ثم يفتح لهم باب آخر، فيسرعون فيغلق، فيضحك منهم المؤمنون. روي عن ابن عباس.

والثاني: أنه إذا كان يوم القيامة جمدت النار لهم كما تجمد الإهالة في القدر، فيمشون فتنخسف بهم. روي عن الحسن البصري.

والثالث: أن الاستهزاء بهم: إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب، فيبقون في الظلمة، فيقال لهم: {ٱرْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً} [الحديد: ١٣] قاله مقاتل.

والرابع: أن المراد به: يجازيهم على استهزائهم، فقوبل اللفظ بمثله لفظا وإن خالفه معنى، فهو كقوله تعالى: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} الشورى: ٤٠ وقوله: {فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ} [البقرة: ١٩٤] وقال عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا  فنجهل فوق جهل الجاهلينا

أراد: فنعاقبه بأغلط من عقوبته.

والخامس: أن الاستهزاء من اللّه التخطئة لهم، والتجهيل، فمعناه: اللّه يخطى فعلهم، ويجهلم في الإقامة على كفرهم.

والسادس: أن استهزاءة: استدراجه إياهم.

والسابع: أنه إيقاع استهزائهم بهم، ورد خداعهم ومكرهم عليهم. ذكر هذا الأقوال محمد بن القاسم الأنباري.

والثامن: أن الاستهزاء بهم أن يقال لأحدهم في النار وهو في غاية الذل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ} [الدخان: ٤٩] ذكره شيخنا في كتابه.

والتاسع: أنه لما أظهروا من أحكام إسلامهم في الدنيا خلاف ما أبطن لهم في الآخرة، كان كالاستهزاءبهم. قوله تعالى:

{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ} فيه أربعة أقوال.

احدها: يمكن لهم، قاله ابن مسعود.

والثاني: يملي لهم قاله ابن عباس.

والثالث: يزيدهم قاله مجاهد.

والرابع: يمهلهم قاله الزجاج.

والطغيان: الزيادة على القدر، والخروج عن حيز الاعتدال في الكثرة، يقال: طغى البحر: إذا هاجت أمواجه، وطغى السيل: إذا جاء بماء كثير.

وفي المراد بطغاينهم قولان.

احدهما: أنه كفرهم قاله الجمهور.

والثاني: أنه عتوهم وتكبرهم قاله ابن قتيبة. «ويعمهون» بمعنى: يتحيرون، يقال: رجل عمه وعامه، أي: متحير. قال الراجز:

من مهمه يجتبنه في مهمه  ومَخْفَقٍ من لُهلُهٍ ولُهْلُهِ

أعمى الهدى بالجاهلين العمه

وقال ابن قبية: يعمهون يركبون رؤوسهم، فلا يبصرون.

١٦

قوله تعالى: {أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ}.

في نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أنها نزلت في جميع الكفار، قاله ابن مسعود، وابن عباس.

والثاني: أنها في أهل الكتاب، قاله قتادة والسدي ومقاتل.

والثالث: أنها في المنافقين، قاله مجاهد. واشتروا: بمعنى استبدلوا، والعرب تجعل من آثر شيئا على شيء مشتريا له، وبائعا للآخر، والضلالة والضلال بمعنى واحد.

وفيها للمفسرين ثلاثة أقوال.

احدها: ان المارد هاهنا الكفر، والمراد بالهدى: الإيمان، روي عن الحسن وقتادة والسدي.

والثاني: أنها الشك، والهدى: اليقين.

والثالث: أنها الجهل، والهدى: العلم.

وفي كيفية استبدالهم الضلالة بالهدى ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم آمنوا ثم كفروا، قاله مجاهد.

والثاني: أن اليهود آمنوا بالنبي قبل مبعثه، فلما بعث كفروا به، قاله مقاتل.

والثالث: ان الكفار لما بلغهم ما جاء به النبي من الهدى فردوه واختاروا الضلال، كانوا كمن أبدل شيئا بشيء، ذكره شيخنا علي بن عبيد اللّه.

قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ}.من مجاز الكلام، لأن التجارة لا تربح، وإنما يربح فيها، ومثله قوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ} سبأ: ٣٣ يريد: بل مكرهم في الليل والنهار. ومثله {فَإِذَا عَزَمَ ٱلاْمْرُ} محمد: ٢١ أي: عزم عليه

وأنشدوا:

حارث قد فرجت عني همي  فنام ليلي وتجلى غمي

والليل لا ينام، بل ينام فيه، وإنما يستعمل مثل هذا فيما يزول فيه الإشكال، ويعلم مقصود قائله، فأما إذا أضيف الى ما يصلح أن يوصف به، وأريد به ما سواه لم يجز، مثل أن تقول: ربح عبدك، وتريد: ربحت في عبدك. و الى هذا المعنى ذهب الفراء وابن قبية والزجاج. قوله تعالى:

{وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ}. فيه خمسة أقوال.

احدها: وما كانوا في العلم باللّه مهتدين.

والثاني: وما كانوا مهتدين من الضلالة.

والثالث: وما كانوا مهتدين الى تجارة المؤمنين.

والرابع: وما كانوا مهتدين في اشتراء الضلالة.

والخامس: أنه قد لا يربح التاجر، ويكون على هدى من تجارته، غير مستحق للذم فيما اعتمده، فنفى اللّه عز وجل عنهم الأمرين، مبالغة في ذمهم.

١٧

قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً}. هذه الآية نزلت في المنافقين. والمثل بتحريك الثاء: ما يضرب ويوضع لبيان النظائر في الاحوال.

وفي قوله تعالى«استوقد» قولان.

احدهما: أن السين زائدة،

وأنشدوا:

وداع دعا يا من يجيب الى الندى  فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أراد: فلم يجبه، وهذا قول الجمهور، منهم الاخفش وابن قتيبة.

والثاني: ان السين داخلة للطلب، أراد: كمن طلب من غيره نارا.

وفي«أضاءت» قولان:

احدهما: أنه من الفعل المتعدي، قال الشاعر:

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم  دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

وقال آخر.

أضاءت لنا النار وجها أغر  ملتبسا بالفؤاد التباسا

والثاني: أنه من الفعل اللازم. قال أبو عبيد: يقال أضاءت النار، وأضاءها غيرها. وقال الزجاج: يقال ضاء القمر، وأضاء.

وفي«ما» قولان.

احدهما: أنها زائدة، تقديره: أضاءت حوله.

والثاني: أنها بمعنى الذي. وحول الشيء: ما دار من جوانبه. والهاء: عادة على المستوقد.

فان قيل: كيف وحد. فقال: « كمثل الذي استوقد» ثم جمع فقال: « ذهب اللّه بنورهم»

فالجواب: أن ثعلبا حكى عن الفراء أنه قال: إنما ضرب المثل للفعل، لا لأعيان الرجال، وهو مثل للنفاق، وإنما قال: «ذهب اللّه بنورهم» لأن المعنى ذاهب الى المنافقين، فجمع لذلك. قال ثعلب: وقال غير الفراء: معنى الذي: الجمع، وحد اولا للفظه، وجمع بعد لمعناه، كما قال الشاعر:

فان الذي حانت بفلج دماؤهم  هم القوم كل القوم با أم خالد

فجعل«الذي» جمعا.

فصل

اختلف العلماء في الذي ضرب اللّه تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين على قولين.

احدهما: أنه ضرب بكلمة الإسلام التي يلفظون بها، ونورها صيانة النفوس. وحقن الدماء، فاذا ماتوا سلبهم اللّه ذلك العز، كما سلب صاحب النار ضوءه. وهذا المعنى موي عن ابن عباس.

والثاني: أنه ضرب لإقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول، فذهاب نورهم: إقبالهم على الكافرين والضلال، وهذا قول مجاهد.

وفي المراد ب«الظلمات» ها هنا أربعة أقوال.

احدها: العذاب، قاله ابن عباس،

والثاني: ظلمة الكفر، قاله مجاهد.

والثالث: ظلمة يلقيها اللّه عليهم بعد الموت، قاله قتادة.

والرابع: أنها نفاقهم، قاله السدي.

فصل

وفي ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم.

إحداها: أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره، لا من قبل نفسه، فاذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة، فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم؛ كان نور إيمانهم كالمستعار.

والثانية: أن ضياء النار يحتاج في دوامه الى مادة الحطب، فهو له كغذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج الى مادة الاعتقاد ليدوم.

والثالثة: أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد معها ضياء، فشبه حالهم بذلك.

١٨

قوله تعالى : {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ}. الصمم انسداد منافذ السمع، وهو أشد من الطرش. وفي البكم ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الخرس، قاله مقاتل، وأبو عبيد، وابن فارس.

والثاني: أنه عيب في اللسان لا يتمكن معه من النطق،

وقيل: إن الخرس يحدث عنه.

والثالث: أنه عيب في الفؤاد يمنعه ان يعي شيئا فيفهمه، فيجمع بين الفساد في محل الفهم ومحل النطق، ذكر هذين القولين شيخنا.

قوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}. فيه ثلاثة أقوال.

احدها: لا يرجعون عن ضلالتهم، قاله قتادة ومقاتل.

والثاني: لا يرجعون الى الإسلام، قاله السدي.

والثالث: لا يرجعون عن الصمم والبكم والعمى، وإنما أضاف الرجوع إليهم، لأنهم انصرفوا باختيارهم، لغلبة أهوائهم عن تصفح، الهدى بآلات التصفح ولم يكن بهم صمم ولا بكم حقيقة، ولكونهم لما التفتوا عن سماع الحق والنطق به؛ كانوا كالصمم البكم. والعرب تسمي المعرض عن الشيء: أعمى، والملتفت عن سماعه: أصم قال مسكين الدارمي: ما ضر جارا لي أجاوره  ألا يكون لبابه سترأعمى إذا ما جارتي خرجت  حتى يواري جارتي الخدروتصم عما بينهم أذني  حتى يكون كأنه وقر

١٩

قوله تعالى: {أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ ٱلسَّمَاء}. أو، حرف مردود على قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً} البقرة: ١٧

واختلف العلماء فيه على ستة أقوال.

احدها: انه داخل ها هنا للتخيير، تقول العرب: جالس الفقهاء أو النحويين، ومعناه: انت مخير في مجالسة أي الفريقين شئت، فكأنه خيرنا بين أن نضرب لهم المثل الأول او الثاني.

والثاني: انه داخل للابهام فيما قد علم اللّه تحصيله، فأبهم عليهم مالا يطلبون تفصيله، فكأنه قال: مثلهم كأحد هذين. ومثله قوله تعالى: {فَهِىَ كَٱلْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} البقرة: ٧٤ والعرب تبهم ما لا فائدة في تفصيله. قال لبيد :

تمنى ابتناي أن يعيش أبوهما  وهل أنا ألا من ربيعة أو مضر

أي: هل أنا إلا من أحد هذين الفريقين، وقد فنيا، فسبيلي أن أفنى كما فنيا.

والثالث: أنه بمعنى: بل.

وأنشد الفراء:

بدت مثل قرن الشمس في رونقالضحى  وصورتها او انت في العين أملح

والرابع: أنه للتفصيل، ومعناه بعضهم يشبه بالذي استوقد نارا، وبعضهم بأصحاب الصيب. ومثله قوله تعالى : {كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ} البقرة: ١٣٥ معناه:

قال بعضهم، وهم إليهود: كونوا هودا، وقال النصارى: كونوا نصارى. وكذا قوله: {فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَـٰتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} الأعراف: ٤ معناه: جاء بعضهم بأسنا بياتا، وجاء بعضهم بأسنا وقت القائلة.

والخامس: انه بمعنى الواو. ومثله قوله تعالى: {أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءابَائِكُمْ} النور: ٦١ قال جرير:

نال الخلافة أو كانت له قدرا  كما أتى ربه موسى على قدر

والسادس: أنه للشك في حق المخاطبين، إذ الشك مرتفع عن الحق عز وجل، ومثله قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: ٣٧] يريد: فالإعادة أهون من الابتداء فيما تظنون.

فأما التفسير لمعنى الكلام: او كأصحاب صيب، فأضمر الأصحاب، لأن في قوله {يَجْعَلُونَ أَصْـٰبِعَهُمْ فِى ءاذَانِهِم}، دليلا عليه. والصيب: المطر. قال ابن قبية: هو فيعل من صاب يصوب: إذا نزل من السماء، وقال الزجاج: كل نازل من علو الى استفال، فقد صاب يصوب، قال الشاعر:

كأنهم صابت عليهم سحابة  صواعقها لطيرهن دبيب

وفي الرعد ثلاثة أقوال.

احدها: انه صوت ملك يزجر السحاب، وقد روي هذا المعنى مرفوعا الى النبي صلى اللّه عليه وسلم، وبه قال ابن عباس ومجاهد. وفي رواية عن مجاهد: أنه صوت ملك يسبح. وقال عكرمة: هو ملك يسوق السحاب كما يسوق الحادي الابل.

والثاني: أنه ريح تختنق بين السماء والأرض. وقد روي عن أبي الجلد أنه قال: الرعد: الريح. واسم أبي الجلد: جيلان بن أبي فروة البصري، وقد روى عنه قتادة.

والثالث: انه اصطكاك أجرام السحاب، حكاه شيخنا علي بن عبيد اللّه.

وفي البرق ثلاثة أقوال.

احدها: أنه مخاريق يسوق بها الملك السحاب، روي هذا المعنى مرفوعا الى النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهو قول علي بن أبي طالب. وفي رواية عن علي: قال هو ضربة بمخراق من حديد. وعن ابن عباس: أنه ضربة بسوط من نور. قال ابن الانباري: المخاريق: ثياب تلف، ويضرب بها الصبيان بعضهم بعضا، فشبه السوط الذي يضرب به السحاب بذلك المخراق.

قال عمرو بن كلثوم:

كأن سيوفنا فينا وفيهم  مخاريق بأيدي لاعبينا

وقال مجاهد: البرق: مصع ملك، والمصع: الضرب والتحريك.

الثاني: ان البرق: الماء، قاله أبو الجلد. وحكى ابن فارس أن البرق: تلألؤ الماء.

والثالث: أنه نار تتقدح من اصطكاك اجرام السحاب لسيره، وضرب بعضه لبعض، حكاه شيخنا. والصواعق: جمع صاعقة، وهي صوت شديد من صوت الرعد يقع معه قطعة من نار تحرق ما تصيبه وروي عن شهر بن حوشب: أن الملك الذي يسوق السحاب، إذا اشتد غضبه، طار من فيه النار، فهي الصواعق. وقال غيره: هي نار تنقدح من اصطكاك اجرام السحاب. قال ابن قتيبة: وإنما سميت صاعقة، لأنها أصابت قتلت، يقال: صعقتهم أي: قتلتهم. قوله تعالى:

{وَٱللّه مُحِيطٌ بِٱلْكـٰفِرِينَ}. فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أنه لا يفوته أحد منهم، فهو جامعهم يوم القيامة. ومثله قوله تعالى: {أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء * عِلْمًا} الطلاق: ١٢ قاله مجاهد.

والثاني أن الإحاطة: الإهلاك، مثل قوله تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} الكهف: ٤٢

والثالث: أنه لا يخفى عليه ما يفعلون.

٢٠

قوله تعالى: {يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَـٰرَهُمْ}. يكاد بمعنى: يقارب، وهي كلمة إذا أثبتت انتفى الفعل، وإذا نفيت ثبت الفعل. وسئل بعض المتأخرين فقيل له:

أنحوي هذا العصر ماهي كلمة  جرت بلساني جرهم وثمود

إذا نفيت واللّه يشهد أثبتت  وإن أثبتت قامت مقام جحود

ويشهد للاثبات عند النفي قوله تعالى: {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} النساء: ٨٧ وقوله{إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} النور: ٤٠ ومثله {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} الزخرف: ٥٢ ويشهد للنفي عند الإثبات قوله تعالى {يَكَادُ ٱلْبَرْقُ} البقرة: ٢٠ و {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} النور: ٤٣ و {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء} النور: ٣٥. وقال ابن قتيبة: كاد: بمعنى هم ولم يفعل. وقد جاءت بمعنى الإثبات قال ذو الرمة:

ولو أن لقمان الحكيم تعرضت  لعينيه مي سافرا كاد يبرق

أي: لو تعرضت له لبرق، أي: دهش وتحير. قلت: وقد قال ذو الرمة في المنفية ما يدل على أنها تستعمل أنها تستعمل للاثبات، وهو قوله:

اذا غير النأي المحبين لم يكد  رسيس الهوى من حب مية يبرح

أراد: لم يبرح. قوله تعالى:

{يَخْطَفُ أَبْصَـٰرَهُمْ} قرأ الجمهور بفتح الياء، وسكون الخاء وفتح الطاء. وقرأ أبان بن تغلب، وأبان ابن يزيد كلاهما عن عاصم، بفتح الياء وسكون الخاء، وكسر الطاء مخففا. ورواه الجعفي عن أبي بكر عن عاصم، بفتح الياء وكسر الخاء، وتشديد الطاء، وهي قراءة الحسن، كذلك إلا أنه كسر الياء. وعنه: فتح الياء والخاء مع كسر الطاء المشددة. ومعنى «يخطف» يستلب، وأصل الاختطاف: الاستلاب، ويقال لما يخرج به الدلو: خطاف، لأنه يختطف ما علق به. قال النابغة:

خطاطيف حجن في حبال متينة  تمد بها أيد إليك نوازع

والحجن المتعقفة وجمل خيطف: سريع المر، وتلك السرعة الخطفى. قوله تعالى:

{كُلَّمَا أضاء لَهُمْ} قال الزجاج: يقال ضاء الشى يضوء، وأضاء يضيء، وهذه اللغة الثانية هى المختارة.

فصل

واختلف العلماء ما الذي يشبه الرعد مما يتعلق بأحوال المنافقين على ثلاثة أقوال.

احدها: أنه التحويف الذي في القرآن، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه ما يخافون أن يصيبهم من المصائب إذا علم النبي والمؤمنون بنفاقهم، قاله مجاهد والسدي.

والثالث: انه ما يخافونه من الدعاء الى الجهاد، وقتال من يبطنون مودته، ذكره شيخنا. واختلفوا: ما الذي يشبه البرق من أحوالهم على ثلاثة أقوال:

احدها: أنه ما يتبين لهم من مواعظ القرأن وحكمه.

والثاني: أنه ما يشى لهم من نور إسلامهم الذي يظهرونه.

والثالث: انه مثل لما ينالونه بإظهار الإسلام من حقن دمائهم، فانه بالإضافة الى ما ذخر لهم في الأجل كالبرق.واختلفوا في معنى قوله:

{يَجْعَلُونَ أَصْـٰبِعَهُمْ فِى ءاذَانِهِم مّنَ ٱلصَّوٰعِقِ} على قولين.

احدهما: أنهم كانوا يفرون من سماع القرآن لئلا يأمرهم بالجهاد مخالفة الموت، قاله الحسن والسدي.

والثاني: أنه مثل لإعراضهم عن القرآن كراهية له، قاله مقاتل.

واختلفوا في معنى {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ} على أربعة أقوال.

احدها: أن معناه: كلما أتاهم القرأن بما يحبون تابعوه، قاله ابن عباس والسدي.

والثاني: أن إضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم فيسرعون الى متابعته، قاله قتادة.

والثالث: انه تكلمهم بالاسلام، ومشيهم فيه اهتداؤهم به، فاذا تركواذلك وقفوا في ضلالة، قاله مقاتل.

والرابع: أن إضاءته لهم: تركهم بلا ابتلاء ولا امتحان، ومشيهم فيه: إقامتهم. على المسالمة باظهار ما يظهرونه. ذكره شيخنا. فأما قوله تعالى:

{وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} فمن قال :إضاءته: إتيانه إياهم بما يحبون، قال: إظلامه: إتيانه إياهم بما يكرهون. وعلى هذا سائر الأقوال التي ذكرناها بالعكس. ومعنى {قَامُواْ}: وقفوا. قوله تعالى:

{وَلَوْ شَاء ٱللّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَـٰرِهِمْ} قال مقاتل: معناه: لو شاء لأذهب أسماعهم وأبصارهم عقوبة لهم. قال مجاهد: من أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في نعت المنافقين.

٢١

قوله تعالى: {يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ}.

اختلف العلماء فيمن عنى بهذا الخطاب على أربعة أقوال.

احدها أنه عام في جميع الناس، وهو قول ابن عباس.

والثاني: أنه خطاب لليهود دون غيرهم، قاله الحسن ومجاهد.

والثالث: أنه خطاب للكفار من مشركي العرب وغيرهم، قاله السدي.

والرابع: أنه خطاب للمنافقين وإليهود، قاله مقاتل: و«الناس» اسم للحيوان الآدمي. وسموا بذلك لتحركهم في مراداتهم. والنوس: الحركة.

وقيل: سموا أناسا لما يعتريهم من النسيان.

وفي المراد بالعبادة هاهنا قولان.

احدهما: التوحيد،

والثاني: الطاعة، رويا عن ابن عباس. والخلق: والإيجاد. وإنما ذكر من قبلهم، لأنه أبلغ في التذكير، وأقطع للجحد، وأحوط في الحجة. وقيل إمنا ذكر من قبلهم لينبههم على الاعتبار بأحوالهم من إثابة مطيع، ومعاقبة عاص.

وفي«لعل» قولان:

احدهما: أنها بمعنى كي، وأنشدوا في ذلك:

وقلتم لنا كفوا الحروب لعنا  نكف ووثقتم لنا كل موثق

فلما كففنا الحرب كانت عهودكم  كلمع سراب في الملا متألق

يريد: لكي نكف، و الى هذا المعنى ذهب مقاتل وقطرب وابن كيسان.

والثاني: أنها بمعنى الترجي، ومعناها: اعبدوا اللّه راجين للتقوى، ولآن تقوا أنفسكم بالعبادة عذاب ربكم. وهذا قول سيبويه. قال ابن عباس: لعلكم تتقون الشرك، وقال الضحاك: لعلكم تتقون النار. وقال مجاهد: لعلكم تطيعون.

٢٢

قوله تعالى: {ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلاْرْضَ فِرَاشاً} إنما سميت الأرض أرضا لسعتها، من قولهم: أرضت القرحة: إذا اتسعت.

وقيل: لانحطاطها عن السماء، وكل ما سفل: أرض،

وقيل: لأن الناس يرضونها بأقدامهم، وسميت السماء سماء لعلوها. قال الزجاج: وكل ما علا على الأرض فاسمه بناء، وقال ابن عباس: البناء هاهنا بمعنى السقف. قوله تعالى :

{وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء} يعني: من السحاب. {مَاء} معنى: المطر. {فَلاَ تَجْعَلُواْ للّه أَندَاداً} يعني: شركاء ،أمثالا. يقال: هذا ند هذا، ونديده.

وفيما أريد بالأنداد هاهنا قولان.

احدهما: الأصنام قاله ابن زيد.

والثاني: رجال كانوا يطيعونهم في معصية اللّه قاله السدي.

قوله تعالى : {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} فيه ستة أقوال.

احدهما: وأنتم تعلمون أنه خلق السماء، وأنزل الماء، وفعل ما شرحه في هذه الآيات، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس وقتادة و مقاتل.

الثاني: وانتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابكم التوراة والانجيل، روي عن ابن عباس أيضا، وهو يخرج على قول من قال: الخطاب لأهل الكتاب.

والثالث: وأنتم تعلمون انه لا ند له، قاله مجاهد.

والرابع: أن العلم هاهنا بمعنا العقل، قاله ابن قتبية.

والخامس: وأنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه. ذكره شيخنا علي بن عبيد اللّه .

والسادس: وأنتم تعلمون أنها حجارة، سمعته من الشسيخ أبي محمد بن الخشاب.

٢٣

قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ} سبب نزلوها أن إليهود قالوا: هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي، وإنا لفي شك منه، فنزلت هذه الآية. وهذا مروي عن ابن عباس ومقاتل. و «إن» ها هنا لغير شك، لأن اللّه تعالى علم أنهم مرتابون، ولكن هذا عادة العرب، يقول الرجل لابنه: إن كنت ابني فأطعني. وقيل إنها هاهنا بمعنى إذ، قال أبو زيد: ومنه قوله تعالى: {وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ كُنتُمْ} البقرة: ٢٧٨. قوله تعالى:

{عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ} قال ابن قتيبة: السورة تهمز و لا تهمز، فمن همزها جعلها من أسأرت، يعني أفضلت لأنها قطعة من القرآن، ومن لم يهمزها جلعها من سورة البناء، أي منزلة بعد منزلة. قال النابغة في النعمان:

ألم تر أن اللّه أعطاك سورة  ترى كل ملك دونها يتذبذب

والسورة في هذا البيت: سورة المجد، وهي مستقارة من سورة البناء. وقال ابن الأنباري: قال أبو عبيدة: إنما سميت السورة سورة لأنه يرتفع فيها من منزلة الى منزلة، مثل سورة البناء. معنى: أعطاك سورة، أي: منزلة شرف ارتفعت إليها عن منازل الملوك. قال ابن القاسم: ويجوز أن تكون سميت سورة لشرفها، تقول العرب: له سورة في المجد، أي: شرف وارتفاع، او لأنها قطعة من القرآن من قولك: أسأرت سؤرا، أي: أبقيت بقية،

وفي هاء «مثله» قولان:

احدهما: أنها تعود على القرآن المنزل، قاله قاله قتادة، والفراء و مقاتل.

والثاني: أنها تعود على النبي، صلى اللّه عليه وسلم فيكون التقدير: فأتوا بسورة من مثل هذا العبد الأمي، ذكره أبو عبيدة والزجاج وابن القاسم. فعلى هذا القول: تكون «من» لا بتداء الغاية، وعلى: الأول تكون زائدة. قوله تعالى:

{وَٱدْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ ٱللّه} فيه قولان.

احدهما: أن معناه: اسعينوا من المعونة، قاله السدي والفراء.

والثاني: استغيثوا من الاستغاثة، وأنشدوا:

فلما التقت فرساننا ورجالهم  دعوا يال كعب واعتزينا لعامر

وهذا قول ابن قتيبة:

وفي شهدائهم ثلاثة أقوال.

احدهما: أنهم آلهتم، قاله ابن عباس والسدي و مقاتل والفراء. قال ابن قتيبة: وسموا شهداء، لأنهم يشهدونهم، ويحضرونهم. وقال غيره: لأنهم عيدوهم ليشهدوا لهم عند اللّه.

و الثاني: أنهم أعوانهم، روي عن ابن عباس أيضا.

والثالث: أن معناه قأتوا بناس يشهدون ما تأتون به مثل القرآن، روي عن مجاهد. قوله تعالى:

{إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ} أي: في قولكم: إن هذا القرأن ليس من عند اللّه، قاله ابن عباس.

٢٤

قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} في هذه الآية مضمر مقدر، يقتضي الكلام تقديمه، وهو انه لما تحداهم بما في الآية الماضية من التحدي، فسكتوا عن الإجابة، قال: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} وفي

قوله تعالى: {وَلَن تَفْعَلُواْ} أعظم دلالة على صحة نبوة نبينا، لأنه أخبر أنهم لا يفعلون، ولم يفعلوا. والوقود: بفتح الواو: الحطب، وبضمها: التوقد، كالوضوء بالفتح: الماء، وبالضم: المصدر، وهو: اسم حركات المتوضىء. وقرأ الحسن و قتادة: وقودها بضم الواو، والاختيار الفتح. والناس أو قدوا فيها بطريق العذاب، والحجارة، لبيان قوتها وشدتها، إذ هي محرقة للحجارة.

وفي هذه الحجارة قولان.

احدهما: أنها أصنامهم التي عبدوها، قاله الربيع بن أنس.

والثاني: أنها حجارة الكبريت، وهي أشد الأشياء حرا، إذا أحميت يعذبون بها. ومعنى «اعدت»: هيئت. وإنما خوفهم بالنار إذا لم يأتوا بمثل القرآن، لأنهم إذا كذبوه. وعجزوا عن الاتيان. بمثله. ثبتت عليهم الحجة، وصار الخلاف عنادا، وجزاء المعاندين النار.

٢٥

قوله تعالى: {وَبَشّرِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ} البشارة: أول خبر يرد على الإنسان، وسمي بشارة، لأنه يؤثر في بشرته، فان كان خيرا، أثره المسرة والإنبساط، وإن شرا، أثر الاجتماع والغم، والأغلب في عرف الاستعمال أن تكون البشارة بالخير، وقد تستعمل في الشر، ومنه قوله تعالى: {بَشّرِ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} النساء:١٣٨

قوله تعالى: {وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاِ} يشمل كل عمل صالح، وقد روي عن عثمان بن عفان أنه قال: أخلصواالأعمال. وعن على رضي اللّه عنه أنه قال: أقاموا الصلوات المفروضات. فأما الجنات، فجمع جنة. وسميت الجنة جنة، لاستتار أرضها بأشجارها، وسمي الجن جنا، لاستتارهم، والجنين من ذلك، والدرع جنة، وجن الليل: إذا ستر، وذكر عن المفضل أن الجنة: كل بستان فه نخل. وقال الزجاج: كل نبت كثف وكثر وستر بعضه بعضا، فهو جنة. قوله تعالى:

{تَجْرِى مِن تَحْتِهَا} أي: من تحت شجرها لا من تحت أرضها. قوله تعالى:

{هَـٰذَا ٱلَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: ان معناه: هذا الذي طعمنا من قبل، فرزق الغداة كرزق العشيء، روي عن ابن عباس والضحاك و مقاتل.

والثاني: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، قاله مجاهد وابن زيد.

والثالث: أن ثمر الجنة إذا جني خلفه مثله، فاذا لأوا ما خلف الجنى اشتبه عليهم، فقالوا: {هَـٰذَا ٱلَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} قاله يحيى بن أبي كثير وأبو عبيدة.

قوله تعالى: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَـٰبِهاً} فيه ثلاثة أقوال

احدها: أنه متشابه في المنظر واللون، مختلف في الطعم، قاله مجاهد وابو العالية والضحاك والسدي و مقاتل.

والثاني: انه متشابه في جودته، لا رديء فيه، قاله الحسن وابن جريج.

والثالث: أنه يشبه ثمار الدنيا في الخلقة والاسم، غير أنه أحسن في المنظر والطعم، قاله قتادة وابن زيد.

فإن قال قائل: ما وجه الامتنان بمتشابهه، وكلما تنوعت المطاعم واختلفت الوانها كان أحسن؟ٰ

فالجواب: أنا إن قلنا: إنه متشابه المنظر مختلف الطعم، كان أغرب عند الخلق وأحسن، فانك لو رأيت تفاحة فيها طعم سائر الفاكهة، كان نهاية في العجب. وإن قلنا: إنه متشابه في الجودة؛ جاز اختلافه في الألوان والطعوم. وإن قلنا: إنه يشبه صورة ثمار الدنيا مع اختلاف المعاني؛ كان اطرف وأعجب، وكل هذه مطالب مؤثرة. قوله تعالى:

{وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوٰجٌ مُّطَهَّرَةٌ} أي: في الخلق، فانهن لا يحصن ولا يبلن، ولا يأتين الخلاء. وفي الخلق، فانهن لا يحسدن، و لايغرن، ولا ينظرن الى غير أزواجهن. قال ابن عباس: نقية عن القذى والأذى. قال الزجاج: و«مطهرة» أبلغ من طاهرة، لأنه للتكثير. والخلود: البقاء الدائم الذي لا انقطاع له.

٢٦

قوله تعالى: {إِنَّ ٱللّه لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أنه نزل قوله تعالى: {ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللّه لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ} الحج: ٧٣ ونزل قوله: {كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً} العنكبوت: ٤١ قالت إليهود: وما هذا من الأمثال؟ٰ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس والحسن وقتادة و مقاتل والفراء.

والثاني: انه لما ضرب اللّه المثلين المتقدمين، وهما قوله تعالى: {كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً} البقرة: ١٧ وقوله {أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ ٱلسَّمَاء} البقرة: ١٩ قال المنافقون: اللّه أجل وأعلى من ان يضرب هذه الأمثال، فنزلت هذه الآية، رواه السدي عن أشياخه.

وروي عن الحسن و مجاهد نحوه. والحياء بالمد: الانقباض والاحتشام، غير أن صفات الحق عز وجل لا يطلع لها على ماهية، وإنما تمر كما جاءت. وقد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: إن ربكم حيي كريم

وقيل: معنى لا يستحيي: لا يترك. وحكى ابن جرير الطبري عن بعض اللغويين أن معنى لا يستحيي: لا يخشى. ومثله: {وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللّه أَحَقُّ أَن تَخْشَـٰهُ} الأحزاب: ٣٧ أي: تستحيي منه. فالاستحياء والخشية ينوب كل واحد منهما عن الآخر. وقرأ مجاهد وابن محيصن: لا يستحي بياء واحدة، وهي لغة. قوله تعالى:

{أَن يَضْرِبَ مَثَلاً}قال ابن عباس: أن يذكر شبها، واعلم أن فائدة المثل أن يبين للمضروب له الأمر الذي ضرب لأجله، فينجلي غامضه.

قوله تعالى: {مَا} ما زائدة، وهذا اختيار أبي عبيدة والزجاج والبصريين.

وأنشدوا للنابغة:

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا  الى حمامتنا أو نصفه فقد

وذكر ابو جعفر الطبري أن المعنى: ما بين بعوضة الى ما فوقها، ثم حذف ذكر:«بين» و«الى» إذ كان في نصب البعوضة، ودخول الفاء في«ما» الثانية؛ دلالة عليهما كما قالت العرب: مطرنا مازبالة فالثعلبية، وله عشرون ما ناقة فجملا، وهي أحسن الناس ما قرنا فقدما يعنون: ما بين قرنها الى قدمها. وقال: غيره نصب البعوضة على البدل من المثل. وروى الأصمعي عن نافع:«بعوضة» بالرفع، على إضمار هو. والبعوضة: صفيرة البق. قوله تعالى:

{بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} فيه قولان.

احدهما: أن معناه فما فوقها في الكبر، قاله ابن عباس، وقتادة، وابن جريج، والفراء.

والثاني: فما فوقها في الصغر، فيكون معناه: فما دونها، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة: وقد يكون الفوق بمعنى: دون، وهو من الأضداد، ومثله: الجون؛ يقال للأسود والأبيض. والصريم: الصبح، والليل. والسدفة: الظلمة، والضوء، والحلل: الصغير، والكبير. والناهل: العطشان، والريان: والمائل: القائم، واللاطىء بالأرض. والصارخ: المغيث، والمستغيث. والهاجد: المصلي بالليل، والنائم. والروهة: الارتفاع، والانحدار. والتلعة: ما ارتفع من الارض، وما انهبط من الارض. والظن: يقين، وشك. والاقرأء: الحيض، والاطهار. والمفرع في الجبل: المصعد، والمنحدر. والوراء: خلفا وقداما. وأسررت الشىء أخفيته، وأعلنته. وأخفيت الشىء: اظهرته وكتمته. ورتوت الشىء: شددته، وأرخيته. وشعبت الشىء: جمعته، وفرقته. وبعت الشىء. بمعنى: بعته، واشتريته. وشربت الشىء اشتريته. وبعته. والحي خلوف: غيب ومختلفون.

وواختلفوا في قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} هل هو من تمام قول الذين قالوا: {مَاذَا أَرَادَ ٱللّه بِهَـٰذَا مَثَلاً} البقرة: ٢٦ أو هو مبتدأ من كلام اللّه عز وجل؟ على قولين.

احدهما: أنه تمام الكلام الذي قبله، قاله الفراء، وابن قتيبة. قال الفراء: كأنهم قالوا: ماذا اراد اللّه بمثل لا يعرفه كل أحد، يضل به هذا، ويهدي به هذا؟ٰ ثم استؤنف الكلام والخبر عن اللّه فقال اللّه: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَـٰسِقِينَ} البقرة: ٢٦

والثاني: أنه مبتدأ من قول اللّه تعالى، قاله السدي ومقاتل.

فأما الفسق؛ فهو في اللغة: الخروج، يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرها. فالفاسق: الخارج عن طاعة اللّه الى معصيته.

وفي المراد بالفاسقين هاهنا، ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم إليهود، قاله أبن عباس ومقاتل.

والثاني: المنافقون، قاله أبو العالية والسدي.

والثالث: جميع الكفار.

٢٧

قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللّه} هذه صفة للفاسقين، وقد سبقت فيهم الأقوال الثلاثة. والنقض: ضد الإبرام، ومعناه حل الشىء بعد عقده. وينصرف النقض الى كل شىء بحسبه، فنقض البناء: تفريق جمعه بعد إحكامه. ونقض العهد: الإعراض عن المقام على أحكامه.

في هذا العهد ثلاثة أقوال.

احدها: أنه ما عهد الى أهل الكتاب من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم والوصية باتباعه، قاله ابن عباس و مقاتل.

والثاني: أنه ما عهد إليهم في القرآن، فأقروا به ثم كفروا، قاله السدي.

والثالث: أنه الذي أخذه عليهم حين استخرج ذرية آدم من ظهره، قاله الزجاج. ونحن وإن لم نذكر ذلك العهد، فقد ثتب بخبر الصادق، فيجب الايمان به.

وفي «من» قولان.

احدهما: أنها زائدة،

والثاني: أنها لابتداء الغاية، كأنه قال: ابتداء نقض العهد من بعد ميثاقه.

وفي هاء «ميثاقه» قولان.

احدهما: أنها ترجع الى اللّه تعالى،

والثاني: أنها ترجع الى العهد، فتقديره: بعد إحكام التوفيق فيه.

وفي: الذي أمر اللّه... أن يوصل: ثلاثة أقوال.

احدها: الرحم والقرابة، قاله ابن عباس وقتادة والسدي.

والثاني: أنه رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، قطعوه بالتكذيب، قاله الحسن.

والثالث: الإيمان باللّه، وأن لا يفرق بين أحد من رسله، فآمنوا ببعض وكفروا بعض، قاله مقاتل.

وفي فسادهم في الأرض ثلاثة أقوال.

احدها: أنه استدعاؤهم الناس الى الكفر، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه العمل بالمعاصي، قاله السدي، و مقاتل.

والثالث: أنه قطعهم الطريق على من جاء مهاجرا الى النبي، صلى اللّه عليه وسلم، ليمنعوا الناس من الاسلام. والخسران في اللغة: لنقصان.

٢٨

قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللّه} في كيف قولان.

احدهما: أنه استفهام في معنى التعجب، وهذا التعجب للمؤمنين، أي: اعجبوا من هؤلاء كيف يكفرون، وقد ثبتت حجة اللّه عليهم، قاله ابن قتيبة والزجاج.

والثاني: أنه استفهام خارج مخرج التقرير والتوبيخ. تقديره: ويحكم كيف تكفرون باللّه؟ٰ قال العجاج: طربا وأنت قنسري  والدهر بالانسان دواري أراد: أتطرب وأنت شيخ كبير؟ٰ قاله ابن الانباري. قوله تعالى:

{وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا}. قال الفراء: أي: وقد كنتم أمواتا. ومثله {أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} النساء: ٩٠ أي: قد حصرت. ومثله: {إن كان قميصه قد من دبر فكذبت} يوسف: ٢٦ أي: فقد كذبت، ولولا إضمار «قد» لم يجز مثله في الكلام. وفي الحياتين، والموتتين اقوال. أصحها: أن الموتة الأولى، كونهم نطفا وعلقا ومضغا، فأحياهم في الأرحام ثم يميتهم بعد خروجهم الى الدنيا، ثم يحييهم للبعث يوم القيامة، وهذا قول ابن عباس وقتادة و مقاتل والفراء وثعلب، والزجاج، وابن قتيبة، وابن الانباري.

٢٩

قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعا} أي: لأجلكم، فبعضه للانتفاع، وبعضه للاعتبار. {ثُمَّ ٱسْتَوَى إِلَى ٱلسَّمَاء} أي: عمد الى خلقها، والسماء: لفظها لفظ الواحد، ومعناها، معنى الجمع، بدليل قوله:

{فَسَوَّاهُنَّ}. وأيها أسبق في الخلق: الأرض، ام السماء؟ فيه قولان.

احدهما: الأرض، قاله مجاهد.

والثاني: السماء، قاله مقاتل.

واختلفوا في كيفية تكميل خلق الأرض وما فيها، فقال ابن عباس: بدأ بخلق الارض في يومين، ثم خلق السموات في يومين، وقدر فيها أقواتها في يومين. وقال الحسن و مجاهد: جمع خلق الارض وما فيها في أربعة أيام متوالية، ثم خلق السماء في يومين. والعليم: جاء على بناء: فعيل، للمبالغة في وصفه بكمال العلم.

٣٠

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ} كان أبوا عبيدة يقول: «إذ» ملغاة، وتقدير الكلام: وقال ربك، وتابعه ابن قتيبة، وعاب ذلك عليهما الزجاج وابن القاسم. وقال الزجاج: إذ: معناها: الوقت، فكأنه قال: ابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة. والملائكة: من الألوك، وهي الرسالة قال لبيد:

وغلام أرسلته أمه  بألوك فبذلنا ما سأل

وواحد الملائكة: ملك والاصل فيه: ملأك.

وأنشد سيبويه:

فلست لإنسي ولكن لملأك  تنزل من جو السماء يصوب

قال أبو إسحاق: ومعنى ملأك: صاحب رسالة، يقال: مألكة ومالكة وملأكة، ومالك: جمع مألكة. قال الشاعر:

أبلغ النعمان عني مألكا  أنه قد طال حبسي وانتظاري

وفي هؤلاء الملائكة قولان.

احدهما: أنهمن جميع الملائكة، قاله السدي عن أشياخه.

والثاني: أنهم الذين كانوا مع إبليس حين أهبط الى الأرض، ذكره أبو صالح عن ابن عباس. ونقل أنه كان في الأرض قبل آدم خلق، فأفسدوا، فبعث اللّه إبليس في جماعة من الملائكة فأهلكوهم.

واختلفوا ما المقصود في إخبار اللّه عز وجل الملائكة بخلق آدم على ستة أقوال.

احدها: أن اللّه تعالى علم في نفس إبليس كبرا، فأحب أن يطلع الملائكة عليه، وأن يظهر ما سبق عليه في علمه، رواه الضحاك عن ابن عباس، والسدي عن أشياخه.

والثاني: أنه أراد أن يبلو طاعة الملائكة: قاله الحسن.

والثالث: أنه لما خلق النار خافت الملائكة، فقالوا: ربنا لمن خلقت هذه؟ قال: لمن عصاني، فخافوا وجود المعصية منهم، وهم لا يعلمون بوجود خلق سواهم، فقال لهم: {إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً} البقرة: ٣٠ قاله ابن زيد.

والرابع: أنه أراد إظهار عجزهم عن الإحاطة بعلمه، فأخبرهم حتى قالوا:أتجعل فيها من يفسد فيها؟ فاجابهم: إني أعلم ما لا تعلمون.

والخامس: أنه أراد تعظيم آدم بذكره بالخلافة قبل وجوده، ليكونوا معظمين له إن أوجده.

والسادس: أنه أراد إعلامهم بانه خلقه ليسكنه الارض، وإن كانت ابتداء خلقه في السماء. والخليفة: هو القائم مقام غيره، يقال هذا خلف فلان وخليفته. قال ابن الانباري: والاصل في الخيلفة خليف، بغير هاء فدخلت الهاء للمبالغة في مدحه بهذا الوصف، كما قالوا: علامة ونسابة وراوية،

وفي معنى خلافة آدم قولان.

احدهما: انه خليفة عن اللّه تعالى في إقامة شرعه، ودلائل توحيده، والحكم في خلقه، وهذا قول ابن مسعود و مجاهد.

والثاني: انه خلف من سلف في الارض قبله، وهذا قول ابن عباس والحسن. قوله تعالى:

{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أن ظاهر الالف الاستفهام، دخل على معنى العلم ليقع به تحقيق. قال جرير: ألستم خير من ركب المطايا  وأندى العالمين بطون راح معناه: أنتم خير من ركب المطايا.

والثاني: انهم قالوه لاستعلام وجه الحكمة، لا على وجه الاعتراض. ذكره الزجاج.

والثالث: أنهم سألوا عن حال أنفسهم، فتقديره: أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نسبح بحمدك أم لا؟

وهل علمت الملائكة أنهم يفسدون بتوقيف من اللّه تعالى، أم قاسوا على حال من قبلهم؟ فيه قولان.

احدهما: أنه بتوقيف من اللّه تعالى، قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن و مجاهد وقتادة، وابن زيد وابن قتيبة.

وروى السدي عن أشياخه: أنهم قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الارض ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضا، فقالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا}.

والثاني: أنهم قاسوه على أحوال من سلف قبل آدم، روي نحو هذا عن ابن عباس وأبي العالية و مقاتل.

قوله تعالى: {وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَاء} قرأ الجمهور بكسر الفاء، وضمها ابن مصرف وابراهيم بن أبي عبلة، وهما لغتان، وروي عن طلحة وابن مقسم: ويسفك: بضم الياء، وفتح السين، وتشديد الفاء مع كسرها، وهي لتكثير الفعل وتكريره. وسفك الدم: صبه وإراقته وسفحه، وذلك مستعمل في كل مضيع، إلا أن السفك يختص الدم، والصب والسفح والإراقة يقال في الدم وفي غيره.

وفي معنى تسبيحهم أربعة أقوال.

احدها: أنه الصلاة، قاله ابن مسعود وابن عباس.

والثاني: انه قوله سبحان اللّه، قاله مقتادة.

والثالث: أنه التعظيم والحمد، قاله أبو صالح.

والرابع: انه الخضوع والذل، قاله محمد بن القاسم الانباري. قوله تعالى:

{وَنُقَدّسُ لَكَ} القدس: الطهارة، وفي معنى تقديسهم ثلاثة أقوال.

احدها: أن معناه: نتطهر لك من أعمالهم، قاله ابن عباس.

والثاني: نعظمك ونكبرك، قاله مجاهد.

والثالث: نصلي لك، قاله قتادة. قوله تعالى:

{إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فيه أربعة أقوال.

احدها: ان معناه: أعلم ما في نفس إبليس من البغى والمعصية، قاله ابن عباس، و مجاهد، والسدي عن أشياخه.

والثاني: أعلم أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون، قاله قتادة.

والثالث: أعلم أني أملأ جهنم من الجنة والناس، قاله ابن زيد.

والرابع: أعلم عواقب الامور، فانا أبتلي من تظنون أنه مطيع، فيؤديه الابتلاء الى المعصية كابليس، ومن تظنون به المعصية فيطيع، قاله الزجاج. الإشارة الى خلق آدم عليه السلام

روى أبو موسى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال: إن اللّه عز وجل، خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الارض، فجاء بنو آدم على قدر الارض، منهم الاحمر والأبيض والاسود، وبين ذلك، والسهل والحزن، وبين ذلك، والخبيث والطيب. قال الترمذي: هذا حديث صحيح.

وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. أنه قال: خلق اللّه تعالى آدم طوله ستون ذراعا.

وأخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: خلق اللّه آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة ما بين العصر الى الليل قال ابن عباس: لما نفخ فيه الروح، أتته النفخة من قبل رأسه، فجعلت لا تجري منه في شى إلا صار لحما ودما.

٣١

قوله تعالى: {وَعَلَّمَ ءادَمَ ٱلاسْمَاء كُلَّهَا}. في تسمية آدم قولان.

احدهما: لأنه خلق من أديم الارض، قاله ابن عباس وابن جبير و الزجاج.

والثاني: انه من الأدمة في اللون، قاله الضحاك والنضر بن شميل وقطرب.

وفي الاسماء التي علمه قولان.

احدهما: أنه علمه كل الاسماء، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير و مجاهد وقتادة.

والثاني: انه علمه أسماء معدودة لمسميات مخصوصة. ثم فيها أربعة أقوال.

احدها: أنه علمه أسماء الملائكة، قاله أبو القالية.

والثاني: أنه علمه أسماء الاجناس دون أنواعها، كقولك: إنسان وملك وجني وطائر، قاله عكرمة.

والثالث: انه علمه أسماء ما خلق من الارض من الدواب والهوام والطير، قال الكلبي و مقاتل وابن قتيبة.

والرابع: أنه علمه أسماء ذريته، قاله ابن زيد.

قوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} يريد: أعيان الخلق على الملائكة، قال ابن عباس: الملائكة هاهنا: هم الذين كانوا مع إبليس خاصة. قوله تعالى:

{أَنبِئُونِى}: أخبروني. قوله تعالى:

{إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ} فيه قولان.

احدهما: إن كنتم صادقين أني لا أخلق خلقا هو أفضل منكم وأعلم، قاله الحسن.

والثاني: أني أجعل فيها من يفسد فيها، قاله السدي عن أشياخه.

٣٢

قوله تعالى: {قَالُواْ سُبْحَـٰنَكَ}. قال الزجاج: لا اختلاف بين أهل اللغة أن التسبيح هو: التنزيه للّه تعالى عن كل سوء. والعليم بمعنى: العالم، جاء على بناء«فعيل» للمبالغة. وفي الحكيم قولان.

احدهما: أنه بمعنى الحاكم، قاله ابن قتيبة.

والثاني: المحكم للأشياء قاله الخطابي.

٣٣

قوله تعالى: {قَالَ يَـاءادَمُ ءادَمَ أَنبِئْهُم} أي: أخبرهم، وروي عن ابن عباس: أنبئهم بكسر الهاء، قال أبو علي: قراءة الجمهور على الأصل لأن أصل، هذا الضمير أن تكون الهاء مضمومة فيه، ألا ترى أنك تقول: ضربهم وأبناءهم، وهذا لهم. ومن كسر أتبع كسر الهاء التي قبلها وهي كسرة الباء. والهاء والميم تعود على الملائكة.

وفي الهاء والميم من«أسمائهم» قولان.

احدهما: أنها تعود على المخلوقات التي عرضها، قاله الاكثرون.

والثاني: أنها تعود على الملائكة، قاله الربيع بن أنس.

وفي الذي أبدوه قولان.

احدهما: أنه قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا}، ذكره السدي عن أشياخه.

والثاني: أنه ما أظهروه من السمع والطاعة للّه حيث مروا على جسد آدم، فقال إبليس: إن فضل هذا عليكم ما تصنعون؟ فقالوا: نطيع ربنا، فقال إبليس في نفسه: لئن فضلت عليه لأهلكنه، ولئن فضل علي لأعصينه، قاله مقاتل.

وفي الذي كتموه قولان.

احدهما: أنه اعتقاد الملائكة أن اللّه تعالى لا يخلق خلقا أكرم منهم، قاله الحسن وأبو العالية وقتادة.

والثاني: أنه ما أسره إبليس من الكبر والعصيان، وراه السدي عن أشياخه، وبه قال مجاهد وابن جبير و مقاتل.

٣٤

قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلَـٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ} عامة القرأء على كسر التاء من الملائكة، وقرأ أبو جعفر والأعمش بضمها في الوصل، قال الكسائي: هي لغة أزدشنوءة.

وفي هؤلاء الملائكة قولان.

احدهما: أنهم جميع الملائكة، قاله السدي عن أشياخه.

والثاني: أنهم طائفة من الملائكة، روي عن ابن عباس، والاول أصح. والسجود في اللغة: التواضع والخضوع، وأنشدوا:

ساجد المنخر ما يرفعه  خاشع الطرف أصم المستمع

وفي صفة سجودهم لآدم قولان.

احدهما: أنه على صفة سجود الصلاة، وهو الأظهر.

والثاني: أنه الانحناء والميل المساوي للركوع. قوله تعالى:

{إِلاَّ إِبْلِيسَ}في هذا الاستثناء قولان.

احدهما: أنه استثناء من الجنس، فهو على هذا القول من الملائكة، قاله ابن مسعود في رواية، وابن عباس.

وقد روي عن ابن عباس أنه كان من الملائكة، ثم مسخه اللّه تعالى شيطانا،

والثاني: أنه من غير الجنس، فهو من الجن، قاله الحسن والزهري. قال ابن عباس: كان إبليس من خزان الجنة، وكان يدير أمر السماء الدنيا.

فان قيل: كيف استثني وليس من الجنس؟

فالجواب: أنه أمر بالسجود معهم فاستثي منهم لأنه لم يسجد، وهذا كما تقول: أمرت عبدي وإخوتي فأطاعوني إلا عبدي، هذا قول الزجاج.

وفي إبليس قولان.

احدهما اسم أعجمي ليس بمشتق، ولذلك لا يصرف، هذا قول أبي عبيدة، و الزجاج وابن الانباري.

والثاني: انه مشتق من الإبلاس، وهو: اليأس روي عن أبي صالح، وذكره ابن قتيبة وقال: إنه لم يصرف، لآنه لا سمي له، فاستثقل. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: والأول أصح، لأنه لو كان من الإبلاس لصرف، ألا ترى أنك لو سميت رجلا: بإخريط وإجفيل؛ لصرف في المعرفة.

قوله تعالى: {أَبَىٰ} معناه: امتنع، {وَٱسْتَكْبَرَ} استفعل من: الكبر وفي {وَكَانَ} قولان.

احدهما: انها بمعنى: صار، قاله قتادة.

والثاني: أنها بمعنى الماضي، فمعناه: كان في علم اللّه كافرا، قاله مقاتل وابن الانباري.

٣٥

قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَاءادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ} زوجه: حواء، قال الفراء: أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل: زوج، ويجمعونها: الازواج. وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون: زوجة، ويجمعونها: زوجات. قال الشاعر:

فان الذي يسعى يحرش زوجتي  كماش الى أسد الشرى يستبيلها

وأنشدني أبو الجراح:

يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم   أن ليس وصل اذا انحلت عرى الذنب

وفي الجنة التي أسكنها آدم قولان.

احدهما: جنة عدن.

والثاني: جنة الخلد. والرغد: الرزق الواسع الكثير، يقال: أرغد فلان إذا صار في خصب وسعة. قوله تعالى:

{وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ} أي: بالاكل، لا بالدنو منها. في الشجرة ستة أقوال:

احدها: أنها السنبلة، وهو قول ابن عباس، وعبد اللّه بن سلام، وكعب الاحبار، ووهب بن منبه، وقتادة، وعطية العوفي، ومحارب بن دثار، و مقاتل.

والثاني: أنها الكرم، روي عن ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وجعدة وبن هبير.

والثالث: أنها التين، روي عن الحسن، وعطاء بن أبي رباح، وابن جريج.

والرابع: أنها شجرة يقال لها: شجرة العلم، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والخامس: انها شجرة الكافور، نقل عن علي بن أبي طالب.

والسادس: انها النخلة، روي عن أبي مالك. وقد ذكروا وجها سابعا عن وهب بن منبه أنه قال: هي شجرة الخلد، وإنما الكلام على جنسها. قوله تعالى:

{فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّـٰلِمِينَ} قال ابن الانباري: الظلم وضع الشىء في غير موضعه، ويقال ظلم الرجل سقاءه اذا سقاه قبل أن يخرج زبده وقال الشاعر:

وصاحب صدق لم تربني شكاته  ظلمت وفي ظلمي له عامدا أجر

أراد بالصاحب: وطب اللبن، وظلمه إياه: أن يسقيه قبل أن يخرج زبده. والعرب تقول: هو أظلم من حية، لأنها تأتي الحفر الذي لم تحفرة فتسكنه، ويقال: قد ظلم الماء الوادي: إذا وصل منه الى مكان لم يكن يصل إليه فيما مضى.

فان قيل: ما وجه الحكمة في تخصيص تلك الشجرة بالنهي؟

فالجواب: أنه ابتلاء من اللّه تعالى بما أراد. وقال أبوا العالية: كان لها ثقل من بين أشجار الجنة، فلما أكل منها: قيل اخرج الى الدار التي تصلح لما يكون منك.

٣٦

قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}

أزلهما بمعنى: استزلهما، وقرأ حمزة: {فأزالهما} أراد: نحاهما. قال أبو علي الفارسي: لما كان معنى {ٱسْكُنْ أَنتَ أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ} اثبتا فيها، فثبتا؛ قابل حمزة الثبات بالزوال الذي يخالفه، ويقوي قرأءته: {فَأَخْرَجَهُمَا}. والشيطان: إبليس، وأضيف الفعل إليه، لأنه السبب.

وفي هاء {عَنْهَا} ثلاثة أقوال:

احدها: أنها تعود الى الجنة.

والثاني: ترجع الى الطاعة.

والثالث: ترجع الى الشجرة. فمعناه: فأزلهما بزلة صدرت عن الشجرة. وفي كيفية إزلاله لهما، ثلاثة أقوال.

احدها: أنه احتال حتى دخل إليهما الجنة، وكان الذي أدخله الحية، قاله ابن عباس والسدي.

والثاني: انه وقف على باب الجنة، وناداهما، قاله الحسن.

والثالث: أنه وسوس إليهما، وأوقع في نفوسهما من غير مخاطبة ولا مشاهدة، قاله ابن إسحاق، وفيه بعد قال الزجاج: الأجود: ان يكون خاطبها، لقوله: {وَقَاسَمَهُمَا}.

واختلف العلماء في معصية آدم بالاكل، فقال قوم: إنه نهي عن شجرة بعينها، فأكل من جنسها. وقال آخرون: تأول الكراهة في النهي دون التحريم. قوله تعالى:

{وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى ٱلارْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـٰعٌ إِلَىٰ حِينٍ} الهبوط بضم الهاء: الانحدار من علو، وبفتح الهاء: المكان الذي يهبط فيه، والى من انصرف هذا الخطاب؟ فيه ستة اقوال.

احدها: أنه انصرف الى آدم وحواء والحية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: الى آدم وحواء وإبليس والحية، حكاه السدي عن ابن عباس.

والثالث: الى آدم وإبليس، قاله مجاهد.

والرابع: الى آدم وحواء وإبليس، قاله مقاتل.

والخامس: الى آدم وحواء وذريتهما، قاله الفراء.

والسادس: الى آدم وحواء فحسب، ويكون لفظ الجمع واقعا على التثنية، كقوله {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَـٰهِدِينَ} الأنبياء: ٧٨ ذكره ابن الانباري، وهو العلة في قول مجاهد أيضا.

واختلف العلماء هل أهبطو جملة أو متفرقين؟على قولين.

احدهما: أنهم أهبطوا جملة، لكنهم نزلوا في بلاد متفرقة، قاله كعب، ووهب.

والثاني: أنهم أهبطوا متفرقين، فهبط إبليس قبل آدم، وهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بالأبلة قاله مقاتل.

وروي عن ابن عباس أنه قال: أهبطت الحية بنصيبين، قال: وأمر اللّه تعالى جبريل باخراج آدم، فقبض على ناصيته وخلصه من الشجرة التي قبضت عليه، فقال: أيها الملك ارفق بي. قال جبريل: إني لا أرفق بمن عصى اللّه، فارتعد آدم واضطرب، وذهب كلامه، وجبريل يعاتبه في معصيته، ويعدد نعم اللّه عليه، قال: وأدخل الجنة ضحوة، واخرج منها بين الصلاتين، فمكث فيها نصف يوم، خمسمائة عام مما يعد أهل الدنيا.

وفي العداوة المذكرة هاهنا ثلاثة أقوال.

احدها: أن ذرية بعضهم أعداء لبعض، قاله مجاهد.

والثاني: أن إبليس عدو لآدم وحواء وهما له عدو، قاله. مقاتل.

والثالث: أن إبليس عدو للمؤمنين وهم أعداؤه، قاله الزجاج.

وفي المستقر قولان.

احدهما: أن المراد به القبور، حكاه السدي عن ابن عباس.

والثاني: موضع الاسقرار، قاله أبو العالية، وابن زيد، و الزجاج، وابن قتيبة، وهو أصح. والمتاع: المنفعة. والحين: الزمان. قال ابن عباس: {إِلَىٰ حِينٍ} أي: الى فناء الأجل بالموت.

٣٧

قوله تعالى: {فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ}. تلقى: بمعنى أخذ، وقبل. قال ابن قتبية: كأن اللّه تعالى أوحى إليه ان يستغفره وسيتقبله بكلام من عنده، ففعل ذلك آدم فتاب عليه. وقرأ ابن كثير: {فَتَلَقَّى ءادَمُ} بالنصب،{كَلِمَـٰتُ}: بالرفع؛ على أن الكلمات هي الفاعلة.

وفي الكلمات أقوال.

احدها أنها قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ}. [الأعراف: ٢٣] قاله ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، و مجاهد، وعطاء الخراساني، وعبيد بن عمير، وأبي بن كعب، وابن زيد.

والثاني: أنه قال: أي رب؛ ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى. قال: ألم تنفخ في من روحك؟ قال: بلى. قال: ألم تسبق رحمتك الي قبل غضبك؟ قال: بلى. قال: ألم تسجد لي ملائكتك، وتسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: أي رب أرأيت إن تبت وأصلحت، أراجعي أنت الى الجنة؟ قال: نعم. حكاه السدي عن ابن عباس:

والثالث: أنه قال: اللّهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنك خير الغافرين، اللّهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فارحمني، فأنت خير الراحمين، اللّهم لا إله إلا أنت، سبحانك، وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي، إنك أنت التواب الرحيم. رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد وقد ذكرت أقوال من كلمات الاعتذار تقارب هذا المعنى. قوله تعالى:

{فَتَابَ عَلَيْهِ}. أصل التوبة: الرجوع، فالتوبة من آدم: رجوعه عن المعصية، وهي من اللّه تعالى: رجوعه عليه بالرحمة، والثواب الذي كلما تكررت توبة العبد تكرر قبوله، وإنما لم تذكر حواء في التوبة، لأنه لم يجر لها ذكر، لا أن توبتها لم تقبل، وقال قوم: إذا كان معنى قعل الاثنين واحد جاز، أن يذكر احدهما ويكون المعنى لهما، كقوله تعالى: {وَٱللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} التوبة: ٦٣ وقوله: {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ ٱلْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ} طه: ١١٧.

٣٨

قوله تعالى: {قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا}.

في إعادة ذكر الهبوط ـ وقد تقدم ـ قولان.

احدهما: أنه أعيد لأن آدم أهبط إهباطين،

احدهما من الجنة الى السماء،

والثاني: من السماء الى الأرض. وأيهما الاهباط المذكور في هذه الآية؟ فيه قولان.

والثاني: أنه إنما كرر الهبوط توكيدا. قوله تعالى:

{فَأَمَّا} قال الزجاج: هذه «إن» التي للجزاء، ضمت إليها «ما» والأصل في اللفظ«إن» ما مفصولة، ولكنها مدغمة، وكتبت على الإدغام، فاذا ضمت «ما» لى «إن» لزم الفعل النون الثقيلة أو الخفيفة. وإنما تلزمه النون لأن «ما» تدخل مؤكدة، ودخلت النون مؤكدة أيضا، كما لزمت اللام النون في القسم في قولك: واللّه لتفعلن، وجواب الجزاء الفاء.

وفي المراد«بالهدى» هاهنا قولان.

احدهما: أنه الرسول، قاله ابن عباس و مقاتل.

والثاني: الكتاب، حكاه بعض المفسرين. قوله تعالى:

{فَلاَ خَوْفٌ} وقرأ يعقوب: فلا خوف: بفتح الفاء من غير تنوين، وقرأ ابن محيصن بضم الفاء من غير تنوين. والمعنى: فلا. خوف عليهم فيما يستقبلون من العذاب، ولا هم يحزنون عند الموت. والخوف لأمر مستقبل، والحزن لأمر ماض.

٣٩

قوله تعالى: {يَحْزَنُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَـٰتِنَا} في معنى الآية: ثلاثة أقوال.

احدها أنها العلامة، فمعنى آية: علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها، والذي بعدها، قال الشاعر:

ألا أبلغ لديك بني تميم  بآية ما يحبون الطعاما

وقال النابغة:

توهمت آيات لها فعرفتها  لستة أعوام وذا العام سابع

وهذا اختيار أبي عبيد.

والثاني: أنها سميت آية، لأنها جماعة حروف من القرآن، وطائفة منه. قال ابو عمرو الشيباني: يقال: خرج القوم بآياتهم، أي: بجماعتهم.

وأنشدوا:

خرجنا من النقبين لا حي مثلنا  بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا

والثالث: أنها سميت آية، لأنها عجب، وذلك أن قارئها يستدل إذا قرأها على مباينتها كلام المخلوقين، وهذا كما تقول: فلان آية من الآيات؛ أي: عجب من العجائب. ذكره ابن الانباري.

في المراد بهذه الآيات أربعة أقوال.

احدها: آيات الكتب التي تتلى.

والثاني: معجزات الأنبياء،

والثالث: القرآن.

والرابع: دلائل اللّه في مصنوعاته. وأصحاب النار: سكانها، سموا أصحابا، لصحتبهم إياها بالملازمة.

٤٠

قوله تعالى: { يا بَنِى إِسْرٰءيلَ} اسرائيل: هو يعقوب، وهو اسم أعجمي. قال ابن عباس: ومعناه: عبد اللّه. وقد لفظت به العرب على اوجه، فقالت: إسرائل، واسرال، والسرائيل، واسرائين. قال أمية: إنني زارد الحديد على الناس  دروعا سوابغ الأذيال لا أرى من يعينني في حياتي  غير نفسي إلا بني إسرال وقال أعرابي صاد ضبا، فإتى به أهله: يقول أهل السوق لما جينا  هذا ورب البيت إسرائيناأراد: هذا مما مسخ من بني اسرائيل. والنعمة: المنة، مثلها؛ النعماء. والنعمة، بفتح النون: التنعم، وأراد بالنعمة: النعم، فوحدها، لأنهم يكتفون بالواحد من الجميع، كقوله تعالى: {وَالْمَلَـئِكَةُ بَعْدَ ذٰلِكَ ظَهِيرٌ} التحريم: ٤٠ أي ظهراء. وفي المراد بهذه النعمة ثلاثة أقوال.

احدها: أنها ما استوعدهم من التوراة التي فيها صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قاله ابن عباس.

والثاني: أنها ما أنعم به على أبائهم وأجدادهم إذ أنجاهم من آل فرعون، وأهلك عدوهم، واعطاهم التوراة، ونحو ذلك قاله الحسن و الزجاج. وإنما من عليهم بما أعطى آباءهم لأن فخر الآباء فخر للأبناء، وعار الآباء عار على الأبناء.

والثالث: انها جمع نعمة على تصريف الأحوال.

والمراد من ذكرها: شكرها إذ من لم يشكر فما ذكر.

قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ} قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: اوفيت، واهل نجد يقولون: وفيت بغير ألف. قال: الزجاج يقال: وفى بالعهد، واوفى به،

وأنشد:

أما ابن طوق فقد اوفى بذمته  كما وفى بقلاص النجم حاديها

وقال ابن قتيبة. يقال: وفيت بالعهد، وأوفيت به، واوفيت الكيل لا غير. وفي المراد بعهده: اربعة أقوال.

احدها: انه لما عهده إليهم في التوراة من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم رواه ابو صالح عن ابن عباس.

والثاني: أنه امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، رواه الضحاك عن ابن عباس.

والثالث: أنه الإسلام، قاله أبو العالية.

والرابع: أنه العهد المذكور في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللّه مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرٰءيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً} المائدة: ١٣ قاله قتادة. قوله تعالى: {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} قال ابن عباس أدخلكم الجنة. قوله تعالى: {وَإِيَّـٰىَ فَٱرْهَبُونِ} أي خافون.

٤١

قوله تعالى: {وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ} يعني القرآن {مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ} يعني التوراة او الانجيل، فان القرأن يصدقهما أنهما من عند اللّه، ويوافقهما في صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم. {وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} إنما قال: أول كافر، لأن المتقدم الى الكفر أعظم من الكفر بعد ذلك، إذ المبادر لم يتأمل الحجة، وإنما بادر بالعناد فحاله أشد.

وقيل: ولاتكونوا أول كافر به بعد أن آمن، والخطاب لرؤساء إليهود.

وفي هائه قولان.

احدهما: انها تعود الى المنزل، قاله ابن سعود وابن عباس.

والثاني: أنها تعود على ما معهم، لأنهم اذا كتموا وصف النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو معهم، فقد كفروا، به ذكره الزجاج. قوله تعالى:

{وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَـٰتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّـٰىَ فَٱتَّقُونِ} أي: لا تستبدلوا بآياتي ثمنا قليلا. وفيه ثلاثة أقوال.

احدها: انه ما كانوا يأخذون من عرض الدنيا.

والثاني: بقاء رئاستهم عليهم.

والثالث: أخذ الأجرة على تعليم الدين.

٤٢

قوله تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَـٰطِلِ}. تلبسوا: بمعنى تخلطوا. يقال: لبست الأمر عليهم، ألبسه: إذا عميته عليهم، وتخليطهم: أنهم قالوا: إن اللّه عهد إلينا أن نؤمن بالنبي الأمي، ولم يذكر أنه من العرب.

وفي المراد بالحق قولان.

احدهما: انه امر النبي صلى اللّه عليه وسلم، قاله ابن عباس، ومجاهد، و قتادة، وأبوا العالية، والسدي و مقاتل.

والثاني: أنه الإسلام، قاله الحسن.

٤٣

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَ بَنِى} يريد: الصلوات الخمس وهي هاهنا اسم جنس، والزكاة: مأخوذه من الزكاء، وهو النماء، والزيادة. يقال: زكا الزرع يزكو زكاء. وقال ابن الأنباري: معنى الزكاة في كلام العرب: الزيادة والنماء، فسميت زكاة، لأنها تزيد في المال الذي تخرج منه، وتوفره وتقيه من الآفات. ويقال: هذا أزكى من ذاك، أي: أزيد فضلا منه. قوله تعالى:

{وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ} أي: صلوا مع المصلين. قال ابن عباس: يريد محمد صلى اللّه عليه وسلم، والصحابة رضى اللّه عنهم.

وقيل: إنما ذكر الركوع، لأنه ليس في صلاتهم ركوع، والخطاب لليهود. وفي هذه الآية دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع، وهي إحدى الروايتين عن احمد رضي اللّه عنه.

٤٤

قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرّ}. قال ابن عباس: نزلت في إليهود، كان الرجل يقول لقرابته من المسلمين في السر: اثبت على ما أنت عليه فانه حق. والالف في «أتأمرون» ألف الاستفهام، ومعناه التوبيخ.

وفي«البر» هاهنا ثلاثة أقوال.

احدها: أنه التمسك بكتابهم، كانوا يامرون باتباعه ولا يقومون به.

والثاني: اتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم، روي القولان عن ابن عباس.

والثالث: الصدقة، كانوا يأمرون بها، ويبخلون. ذكره الزجاج. قوله تعالى:

{وَتَنسَوْنَ} أي تتركون. وفي«الكتاب» قولان.

احدهما: أنه التوراة، قاله الجمهور.

والثاني: أنه القرآن، فلا يكون الخطاب على هذا القول لليهود.

٤٥

قوله تعالى: {وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَـٰشِعِينَ} الأصل في الصبر: الحبس، فالصابر حابس لنفسه عن الجزع. وسمي الصائم صابرا لحبسه نفسه عن الأكل والشرب والجماع، والمصبورة: البهيمة تتخذ غرضا. وقال مجاهد: الصبر هاهنا: الصوم.

وفيما امروا بالصبر عليه ثلاثة أقوال.

احدها: أنه أداء الفرائض، قاله ابن عباس، و مقاتل.

والثاني: أنه ترك المعاصي، قاله قتادة.

والثالث: عدم الرئاسة، وهو خطاب لأهل الكتابين، ووجه الاستعانة بالصلاة أنه يتلى فيها ما يرغب في الآخرة، ويزهد في الدنيا. قوله تعالى:

{وَإِنَّهَا} في المكنى عنها ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الصلاة، قاله ابن عباس والحسن، و مجاهد والجمهور.

والثاني: أنها الكعبة والقبلة، لأنه لما ذكر الصلاة، دلت على القبلة، ذكره الضحاك، عن ابن عباس، وبه قال مقاتل.

والثالث: انها الاستعانة، لأنه لما قال: {وَٱسْتَعِينُواْ} دل على الاستعانة، ذكره محمد ابن القاسم النحوي. قوله تعالى:

{لَكَبِيرَةً} قال الحسن والضحاك: الكبيرة: الثقيلة، مثل قوله تعالى {كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} الشورى: ١٣ أي: ثقل، والخشوع في اللغة: التطامن والتواضع، وقيل السكون.

٤٦

قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُوا رَبّهِمْ}. الظن هاهنا: بمعنى اليقين، وله وجوه قد ذكرناها في «كتاب الوجوه والنظائر»

٤٧

قوله تعالى: {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ}. يعني: على عالمي زمانهم، قاله ابن عباس وابو العالية و مجاهد وابن زيد. قال ابن قتيبة: وهو من العام الذي اريد به الخاص.

٤٨

قال الزجاج: كانت إليهود تزعم أن آباءها الأنبياء تشفع لهم يوم القيامة، فآيسهم اللّه بهذه الآية من ذلك. قوله تعالى:

{وَٱتَّقُواْ يَوْمًا} فيه إضمار، تقديره: اتقوا عذاب يوم، أو: ما في يوم. والمراد باليوم يوم القيامة «وتجزي» بمعنى تقضي. قال ابن قتيبة: يقال: جزى الأمر عني يجزي، بغير همز، أي: قضى عني، وأجزأني بجزئني، مهموز أي كفاني. قوله تعالى:

{نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ}. قالوا: المراد بالنفس هاهنا: النفس الكافرة، فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص. قوله تعالى:

{وَلاَ تَقْبَلُواْ * مِنْهَا شَفَـٰعَةٌ} قرأ ابن كثير وأبوا عمرو بالتاء، وقرأ الباقون بالياء، إلا أن قتادة فتح الياء، ونصب الشفاعة، ليكون الفعل للّه تعالى. قال ابو علي: من قرأ بالتاء، فلأن الاسم الذي أسند إليه هذا الفعل مؤنث، فيلزم أن يلحق المسند أيضا علامة التأنيث، ومن قرأ بالياء، فلأن التأنيث في الاسم الذي أسند إليه الفعل ليس بحقيقي، فحمل على المعنى، كما أن الوعظ والموعظة بمعنى واحد وفي الآية إضمار، تقديره لا يقبل منها فيه شفاعة. والشفاعة مأخوذة من الشفع الذي يخالف الوتر، وذلك أن سؤال الشفيع يشفع سؤال المشفوع له. فأما «العدل» فهو الفداء، وسمي عدلا، لأنه يعادل المفدى. واختلف اللغويون: هل «العدل» و «العدل» بفتح العين وكسرها، يختلفان، أم لا؟ فقال الفراء: العدل بفتح العين: ما عادل الشى من غير جنسه، والعدل بكسرها: ما عادل الشى من جنسه، فهو المثل، تقول: عندي عدل غلامك، بفتح العين: إذا أردت قيمته من غير جنسه، وعندي عدل غلامك، بكسر العين: إذا كان غلام يعدل غلاما. وحكى الزجاج عن البصريين أن العدل والعدل في معنى المثل، وأن المعنى واحد، سواء كان المثل من الجنس او من غير الجنس. قوله تعالى:

{وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} أي يمنعون من عذاب اللّه.

٤٩

قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَـٰكُم} تقديره: واذكروا إذ نجيناكم، وهذه النعم على آبائهم كانت.

وفي آل فرعون ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم أهل مصر، قاله مقاتل.

والثاني: أهل بيته خاصة، قاله أبو عبيدة.

والثالث: أتباعه على دينه، قاله الزجاج. وهل الآل والاهل بمعنى، أو يختلفان؟ فيه قولان: وقد شرحت معنى الآل في كتاب «النظائر» وفرعون: اسم أعجمي، وقيل: هو لقبه.

وفي اسمه أربعة أقوال.

احدها: الوليد بن مصعب، قاله الأكثرون.

والثاني: فيطوس قاله مقاتل.

والثالث: مصعب بن الريان، حكاه ابن جرير الطبري.

والرابع: مغيث، ذكره بعض المفسرين. قوله تعالى:

{يَسُومُونَكُمْ} أي: يولونكم. يقال فلان: يسومك خسفا، أي: يوليك ذلا واستخفافا. وسوء العذاب: شديده. وكان الزجاج يرى أن قوله:

{يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} تفسير لقوله {يَسُومُونَكُمْ سُوء ٱلْعَذَابِ}، وأبى هذا بعض أهل العلم فقال: قد فرق اللّه بينهما في موضع آخر، فقال: {يَسُومُونَكُمْ سُوء ٱلْعَذَابِ وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} ابراهيم ٦ وإنما سوء العذاب: استخدامهم في أصعب الأعمال، وقال: الفراء: الموضع الذي طرحت فيه الواو، تفسير لصفات العذاب والموضع الذي فيه الواو، يبين أنه قد مسهم من العذاب غير الذبح، فكأنه قال: يعذبونكم بغير الذبح وبالذبح.

قوله تعالى: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} أي: يستبقون نساءكم، أي: بناتكم. وإنما استبقوا نساءهم للاستذلال والخدمة.

وفي البلاء ههنا قولان.

احدهما: انه بمعنى النعمة، قاله ابن عباس و مجاهد وأبو مالك، وابن قتيبة و الزجاج.

والثاني: انه النقمة، رواه السدي عن أشياخه. فعلى هذا القول يكون «ذا» في قوله تعالى:

{ذٰلِكُمْ} عائدا على سومهم سوء العذاب، وذبح أبنائهم واستحياء نسائهم، وعلى القول الاول يعود على النجاة من آل فرعون. قال أبو العالية: وكان السبب في ذبح الأنباء، أن الكهنة قالت لفرعون: سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه، فقتل الأبناء. قال الزجاج: فالعجب من حمق فرعون، إن كان الكاهن عنده صادقا، فما ينفع القتل؟ٰ وإن كان كاذبا فما معنى القتل؟ٰ

٥٠

قوله تعالى: {وَإِذَا * فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ} الفرق: الفصل بين الشيئين و«بكم» بمعنى «لكم». وإنما ذكر آل فرعون دونه، لأنه قد علم كونه فيهم. وفي قوله تعالى:

{وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}: قولان.

احدهما: أنه من نظر العين، معناه: وأنتم ترونهم يغرقون.

والثاني: أنه بمعنى: العلم، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظّلَّ} الفرقان: ٤٥. قاله الفراء. الاشارة الى قصتهم روى السدي عن أشياخه: ان اللّه تعالى أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل، وألقى على القبط الموت، فمات بكر كل رجل منهم، فأصبحوا يدفنونه، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس، قال عمرو بن ميمون: فلما خرج موسى بلغ ذلك فرعون، فقال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك، ليلتئذ. قال أبو السليل: لما انتهى موسى الى البحر قال: هيه أبا خالد، فأخذه أفكل، يعني: رعدة، قال مقاتل: تفرق الماء يمينا وشمالا كالجبلين المتقابلين، وفيهما كوى ينظر كل سبط الى الآخر. قال السدي: فلما رآه فرعون متفرقا قال: ألا ترون البحر فرق مني، فانفتح لي؟ٰ فأتت خيل فرعون فأبت أن تقتحم، فنزل جبريل على ماذيانة فتشامت الحصن ريح الماذيانة، فاقتحمت في إثرها، حتى إذا هم أولهم أن يخرج، ودخل آخرهم، أمر البحر أن يأخذهم، فالتطم عليهم.

٥١

قرأ ابو جعفر وأبوا عمرو: وعدنا بغير ألف هاهنا، وفي {ٱلاْعْرَافِ} و{طه} ووافقهما أبان عن عاصم في {البقرة} خاصة. وقرأ الباقون «واعدنا» بألف. ووجه القرأءة الأولى: إفراد الوعد من اللّه تعالى، ووجه الثانية: أنه لما قبل موسى وعد اللّه عز وجل، صار ذلك مواعدة بين اللّه تعالى وبين موسى. ومثله: {لا * تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا} البقرة: ٢٣٥. ومعنى الآية: وعدنا موسى تتمة أربعن ليلة، او انقضاء أربعين ليلة. وموسى: اسم أعجمي، اصله بالعبرانية: موشا فمو: هو الماء، وشا: هو الشجر، لأنه وجد عند الماء والشجر، فعرب بالسين.

ولماذا كان هذا الوعد؟ فيه قولان.

احدهما: لأخذ التوراة.

والثاني: للتكليم.

وفي هذه المدة قولان.

احدهما: أنها ذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وهذا قول من قال: كان الوعد لإعطاء التوراة.

والثاني: أنها ذو الحجة وعشر من المحرم، وهو قول من قال: كان الوعد للتكليم، وإنما ذكرت الليالي دون الأيام، لأن عادة العرب التأريخ بالليالي، لأن أول شهر ليله، واعتماد العرب على الأهلة، فصارت الأيام تبعا لليالي. وقال أبو بكر النقاش: إنما ذكر الليالي، لأنه امره أن يصوم هذا الأيام ويواصلها بالليالي، فلذلك ذكر الليالي وليس بشىء.

٥٢

قوله تعالى: {ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون. ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون} من بعده، أي: من بعد انطلاقه الى الجبل. الاشارة الى اتخاذهم العجل روى السدي عن أشياخه أنه لما انطلق موسى، واسختلف هارون، قال هارون: يا بني اسرائيلٰ إن الغنيمة لا تحل لكم، وإن حلي القبط غنيمة فاجمعوه واحفروا له حفيرة، فادفنوه، فان أحله موسى فخذوه، وإلا كان شيئا لم تأكلوه، ففعلوا. قال السدي: وكان جبريل قد أتى الى موسى ليذهب به الى ربه، فرأه السامري، فأنكره وقال: إن لهذا شأنا، فأخذ قبضة من أثر حافر الفرس، فقفها في الحفيرة، فظهر العجل.

وقيل: إن السامري أمرهم بالقاء ذلك الحلي، وقال إنما طالت غيبة موسى عنكم لأجل ما معكم من الحلي، فاحفورا لها حفيرة وقربوه الى اللّه، يبعث لكم نبيكم، فإنه كان عارية، ذكره أبو سليمان الدمشقي.

وفي سبب اتخاذ السامري عجلا قولان.

احدهما: أن السامري كان من قوم يعبدون البقر، فكان ذلك في قلبه، قاله ابن عباس،

والثاني: أن بني إسرائيل لما مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم، أعجبهم ذلك، فلما سألوا موسى أن يجعل لهم إلها وأنكر عليهم؛ أخرج السامري لهم في غيبته عجلا لما رأى من اسحسانهم ذلك، قاله ابن زيد.وفي كيفية اتخاذ العجل قولان.

احدهما: أن السامري كان صواغا، فصاغه وألقى فيه القبضة، قاله علي وابن عباس.

والثاني: أنهم حفروا حفيرة، وألقوا فيها حلي قوم فرعون وعواريهم تنزها عنها، فألقى السامري القبضة من التراب، فصار عجلا. روي عن ابن عباس أيضا. قال ابن عباس: صار لحما ودما وجسدا، فقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى قد جاء، وأخطأ موسى الطريق، فعبدوه وزفنوا حوله.

٥٣

قوله تعالى: {وَإِذَا * مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ} الكتاب: التوراة.

وفي الفرقان خمسة أقوال:

احدها: أنه النصر، قاله ابن عباس وابن زيد.

والثاني: أنه ما في التوراة من الفرق بين الحق والباطل، فيكون الفرقان نعتا للتوراة، قاله أبو العالية.

والثالث: أنه الكتاب فكرره بغير اللفظ. قال عدي بن زيد: فألقى قولها كذبا وميناوقال عنترة: أقوى وأفقر بعد أم الهيثم هذا قول مجاهد، واختيار الفراء و الزجاج.

والرابع: أنه فرق البحر لهم، ذكره الفراء و الزجاج وابن القاسم.

والخامس: أنه القرأن ومعنى الكلام: لقد آتينا موسى الكتاب، ومحمد الفرقان، ذكره الفراء، وهو قول قطرب.

٥٤

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَـٰقَوْمِ قَوْمٌ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ}. القوم: اسم للرجال دون النساء، قال اللّه تعالى: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء} [ الحجرات: ١١]

وقول العبدي: وما أدري وسوف إخال أدري  أقوم آل حصن أم نساءوإنما سموا قوما، لأنهم يقومون بالأمور. قوله تعالى:

{فَتُوبُواْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ} قال أبو علي: كان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يكسرون الهمزة من غير اختلاس ولا تخفيف.

وروى اليزيدي وعبد الوارث عن أبي عمرو: {بَارِئِكُمْ} بجزم الهمزة. روى عنه العباس بن الفضل: «بارئكم» مهموزة غير مثقلة. وقال سيبويه: كان أبو عمر يختلس الحركة في: «بارئكم» و «يأمركم» وما أشبه ذلك مما تتوالى فيه الحركات، فيرى من سمعه أنه قد أسكن ولم يسكن. والبارىء: الخالق ومعنى {فَٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}: ليقتل بعضكم بعضا، قاله ابن عباس و مجاهد.

واختلفوا فيمن خوطب بهذا على ثلاثة أقوال.

احدها: أنه خطاب للكل، قاله السدي عن أشياخه.

والثاني: أنه خطاب لمن لم يعبد ليقتل من عبد، قاله مقاتل.

والثالث: أنه خطاب للعابدين فحسب، أمروا أن يقتل بعضهم بعضا، قاله أبو سليمان الدمشقي.

وفي الاشارة بقوله: «ذا» في: «ذلكم» قولان.

احدهما: أنه يعود الى القتل.

والثاني: أنه يعود الى التوبة.

الإشارة الى قصتهم في ذلك

قال ابن عباس: قالوا لموسى: كيف يقتل الآباء، والإخوة الإخوة؟ فأنزل اللّه عليهم ظلمة لا يرى بعضهم بعضا، فقالوا: فما آية توبتنا؟ قال: أن يقوم السلاح فلا يقتل، وترفع الظلمة. فقتلوا حتى خاضوا في الدماء، وصاح الصبيان: يا موسى: العفو العفو. فبكى موسى، فنزلت التوبة، وقام السلاح، وارتفعت الظلمة. قال مجاهد: بلغ القتلى سبعين ألفا. قال قتادة: جعل القتل للقتيل شهادة، وللحي توبة.

٥٥

انظر تفسير الآية ٥٦

٥٦

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَـٰمُوسَىٰ مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللّه جَهْرَةً}. في القائلين لموسى ذلك قولان.

احدهما: أنهم السبعون المختارون، قاله ابن مسعود وابن عباس.

والثاني: جميع بني اسرائيل إلا من عصم اللّه منهم، قاله ابن زيد، قال: وذلك أنه أتاهم بكتاب اللّه، فقالوا: واللّه لا نأخذ بقولك حتى نرى اللّه جهرة؛ فيقول: هذا كتابي.

وفي «جهرة» قولان.

احدهما: أنه صفة لقولهم، أي: جهروا بذلك القول، قاله ابن عباس، وابوعبيدة.

والثاني: أنها الرؤية البينة، أي: ارناه غير مستتر عنا بشيء، يقال: فلان يتجاهر بالمعاصي، أي: لا يستتر من الناس، قاله الزجاج. ومعنى «الصاعقة»: ما يصعقون منه، أي: يموتون. ومن الدليل على أنهم ماتوا، قوله تعالى:

{ثُمَّ بَعَثْنَـٰكُم} هذا قول الأكثرين. وزعم قوم أنهم لم يموتوا، واحتجوا بقوله تعالى: {وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقًا} وهذا قول ضعيف، لأن اللّه تعالى فرق بين الموضعين، فقال هناك:

{فَلَمَّا أَفَاقَ} وقال هاهنا: {ثُمَّ بَعَثْنَـٰكُم} والإفاقة للمغشي عليه، والبعث للميت. قوله تعالى:

{وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أن معناه ينظر بعضكم الى بعض كيف يقع ميتا.

والثاني: ينظر بعضكم الى إحياء بعض.

والثالث: تنظرون العذاب كيف ينزل بكم، وهو قول من قال: نزلت نار فأحرقتهم.

٥٧

قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ}. {ٱلْغَمَامِ} السحاب، سمي غماما لأنه يغم السماء، أي: يسترها، وكل شى غطيته فقد غممته، وهذا كان في التيه.

وفي المن ثمانية أقوال.

احدها: أنه الذي يقع على الشجر فيأكله الناس، قاله ابن عباس والشعبي والضحاك.

والثاني: أنه الترنجبين، روي عن ابن عباس أيضا، وهو قول مقاتل.

والثالث: أنه صمغه، قاله مجاهد.

والرابع: انه يشبه الرب الفليظ، قاله عكرمة.

والخامس: أنه شراب، قاله أبو العالية والربيع بن أنس.

والسادس: أنه خبز الرقاق مثل الذرة، أو مثل النقي، قاله وهب.

والسابع: أنه عسل، قاله ابن زيد.

والثامن: أنه الزنجبيل، قاله السدي.

وفي السلوى قولان.

احدهما: أنه طائر، قال بعضهم: يشبه السماني، وقال بعضهم: هو السماني.

والثاني: أنه العسل ذكره ابن الانباري،

وأنشد:

وقاسمها باللّه جهدا لأنتم  ألذ من السلوى إذا ما نشورها

قوله تعالى:

{وَمَا ظَلَمُونَا} قال ابن عباس: ما نقصونا وضرونا بل ضروا أنفسهم.

٥٨

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ}.

في القائل لهم قولان.

احدهما: أنه موسى بعد مضى أربعين سنة.

والثاني: أنه يوشع بن نون بعد موت موسى. والقرية: مأخوذة من الجمع، ومنه: قريت الماء في الحوض. والمقراة: الحوض يجمع فيه الماء.

وفي المراد ب: هذه القرية قولان.

احدهما: أنها بيت المقدس، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسدي.

وروي عن ابن عباس أنها أريحا. قال السدي: واريحا: هي أرض بين المقدس.

والثاني: أنها قرية من أداني قرى الشام، قاله وهب. قوله تعالى:

{وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّدًا} قال ابن عباس: وهو أحد أبواب بيت المقدس، وهو يدعى: باب حطة. وقوله:

{سُجَّدًا} أي: ركعا. قال وهب: أمروا بالسجود شكرا للّه تعالى إذ ردهم إليها. قوله تعالى:

{وَقُولُواْ حِطَّةٌ} وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة {حِطَّةٌ} بالنصب.

وفي معنى حطة ثلاثة أقوال.

احدها: أن معناه: استغفروا، قاله ابن عباس ووهب. قال ابن قتيبة: وهي كلمة أمروا أن يقولوها في معنى الاستغفار، من: حططت، أي: حط عنا ذنوبنا.

والثاني: أن معناها: قولوا: هذا الأمر حق كما قيل لكم، ذكره الضحاك عن ابن عباس.

والثالث: أن معناها: لا إله إلا اللّه، قاله عكرمة. قال ابن جرير الطبري: فيكون المعنى: قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم. وهو قول: «لاإله إلا اللّه».

ولماذا أمروا بدخول القرية؟ فيه قولان.

احدهما: أن ذلك لذنوب ركبوها فقيل: {أَدْخِلُواْ ٱلقَرْيَةِ}،

{وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ} قاله وهب.

والثاني: أنهم ملواالمن والسلوى، فقيل:

{خَيْرٌ ٱهْبِطُواْ مِصْرًا} فكان أول ما لقيهم أريحا، فأمروا بدخولها. قوله تعالى:

{نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَـٰيَـٰكُمْ} قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي:

{نَّغْفِرْ لَكُمْ} بالنون مع كسر الفاء. وقرأ نافع وأبان عن عاصم {يَغْفِرَ} بياء مضمومة وفتح الفاء. وقرأ ابن عامر بتاء مضمومة مع فتح الفاء.

٥٩

قوله تعالى: {فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً}. اعلم ان اللّه عز وجل، أمرهم في دخولهم بفعل وقول، فالفعل السجود، والقول: حطة، فغير القوم الفعل والقول.

فأما تغيير الفعل؛ ففيه خمسة أقوال.

احدها: انهم دخلوا متزحفين على أوراكهم. رواه أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم.

والثاني: أنهم دخلوا من قبل أستاههم، قاله ابن عباس وعكرمة.

والثالث: أنهم دخلوا مقنعي رؤوسهم، قاله ابن مسعود.

والرابع: أنهم دخلوا على حروف عيونهم، قاله مجاهد.

والخامس: انهم دخلوا مستلقين، قاله مقاتل.

وأما تغيير القول؛ ففيه خمسة أقوال.

احدها: انهم قالوا مكان «حطة» حبة في شعرة، رواه أبوا هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم.

والثاني: انهم قالوا: حنطة، قاله ابن عباس، وعكرمة، و مجاهد، ووهب، وابن زيد.

والثالث: انهم قالوا: حنطة حمراء فيها شعرة، قاله ابن مسعود.

والرابع: أنهم قالوا: حبة حنطة مثقوبة فيها شعيرة سوداء، قاله السدي عن أشياخه.

والخامس: أنهم قالوا سنبلاثا، قاله أبو صالح. فاما الرجز؛ فهو العذاب، قاله الكسائي و ابو عبيدة و الزجاج.

وأنشدوا لرؤية:

حتى وقمنا كيدة بالرجز

وفي ماهية هذا العذاب ثلاثة أقوال.

احدها: أنه ظلمة وموت، مات منهم في ساعة واحدة، أربعة وعشرون ألفا، وهلك سبعون ألفا عقوبة، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه أصابهم الطاعون، عذبوا به أربعين ليلة ثم ماتوا، قاله وهب بن منية.

والثالث: انه الثلج، هلك به منهم سبعون ألفا، قاله سعيد بن جبير.

٦٠

قوله تعالى: {وَإِذِ ٱسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ}. استسقى بمعنى: استدعى ذلك، كقولك: استنصر.

وفي الحجر قولان.

احدهما: انه حجر معروف عين لموسى، قاله ابن عباس، وابن جبير، وقتادة، وعطية، وابن زيد، و مقاتل.

واختلفوا في صفته على ثلاثة أقوال.

احدها: أنه كان حجرا مربعا، قاله ابن عباس.

والثاني: كان مثل رأس الثور، قاله عطية.

والثالث: مثل راس الشاة، قاله ابن زيد. وقال سعيد بن جبير: هو الذي ذهب بثياب موسى. فجاءه جبريل فقال: إن اللّه تعالى يقول: لك ارفع هذا الحجر، فلي فيه قدرة، ولك فيه معجزة، فكان اذا احتاج الى الماء ضربه.

والقول الثاني: أنه أمر بضرب أي حجر كان، والأول أثبت. قوله تعالى:

{فَٱنفَجَرَتْ مِنْهُ}تقدير معناه: فضرب فانفجرت، فلما عرف بقوله: «فانفجرت» انه قد ضرب اكتفى، بذلك عن ذكر الضرب. ومثله: {أَنِ ٱضْرِب بّعَصَاكَ ٱلْبَحْرَ فَٱنفَلَقَ} [الشعراء: ٦٣] قاله الفراء. ولما كان القوم اثني عشر سبطا، أخرج اللّه لهم اثني عشرة عينا، ولأنه كان فيهم تشاحن فسلموا بذلك منه. قوله تعالى:

{وَلاَ تَعْثَوْاْ} العثو: أشد الفساد، يقال عثي، وعثا، وعاث، قال ابن الرقاع: لولا الحياء وأن رأسي قد عثا  فيه المشيب لزرت أم القاسم.

٦١

قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَـٰمُوسَىٰ مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وٰحِدٍ} هذا قولهم في التيه. وعنوا بالطعام الواحد: المن والسلوى. قال محمد بن القاسم: كان المن يؤكل بالسلوى، والسلوى بالمن، فلذلك كانا طعاما واحدا. والبقل هاهنا: اسم جنس، وعنوا به: البقول. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: تذهب العامة الى أن البقل: ما يأكله الناس خاصة دون البهائم من النبات الناجم الذي لايحتاج في أكله الى طبخ، وليس كذلك، إنما البقل: العشب، وما ينبت الربيع مما يأكله الناس والبهائم، يقال: بقلت الارض، وأبقلت، لغتان فصيحتان: إذا أنبت البقل. وابتقلت الإبل: إذا رعت قال أبو النجم يصف الإبل: تبقلت في أول التبقل  وبين رماحي مالك ونهشل وفي «القثاء» لغتان: كسر القاف وضمها، والكسر أجود، وبه قرأ الجمهور. وقرأ ابن مسعود، و أبو رجاء، وقتادة، وطلحة بن مصرف، والأعمش: بضم القاف. قال الفراء: الكسر لغة أهل الحجاز، والضم لغة تميم، وبعض بني أسد.

وفي «الفوم» ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الحنطة، قاله ابن عباس، والسدي عن أشياخه، والحسن وأبو مالك، قال الفراء: هي لغة قديمة، يقول أهلها: فوموا لنا، أي: اختبزوا لنا.

والثاني: أنه الثوم، وهو قراءة عبد اللّه وابي: «وثومها» واختاره الفراء، وعلل بأنه ذكر مع ما يشاكله، والفاء تبدل من الثاء، كما تقول العرب: الجدث، والجدف: للقبر، والأثافي والاثاثي، للحجارة التي توضع تحت القدر. ومغافير، والمغاثير: لضرب من الصمغ. وهذا قول مجاهد، والربيع بن أنس، و مقاتل، والكسائي، والنضر بن شميل وابن قتيبة.

والثالث: أنه الحبوب، ذكره ابن قتيبة و الزجاج. قوله تعالى:

{أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِى هُوَ أَدْنَىٰ}: أي: أرادأ {بِٱلَّذِى هُوَ خَيْرٌ}: أي: أعلى، يريد: أن المن والسلوى اعلى ما طلبتم. قوله تعالى:

{ٱدْخُلُواْ مِصْرَ} فيه قولان.

احدهما: أنه اسم لمصر من الأمصار غير معين، قاله ابن مسعود، و ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وإنما أمروا بالمصر، لأن الذي طلبوه في الأمصار.

والثاني: أنه أراد البلد المسمى بمصر، وفي قراءة عبد اللّه والحسن وطلحة بن مصرف والأعمش «مصر» بغير تنوين، قال أبو صالح عن ابن عباس: أراد مصر فرعون، وهذا قول أبوالعالية والضحاك، واختاره الفراء، واحتج بقرأءة عبد اللّه. قال: وسئل عنها الاعمش، فقال: هى مصر التي عليها صالح بن علي. وقال مفضل الضبي: سميت مصرا، لأنها أخر حدود المشرق، وأول حدود المغرب، فهى حد بينهما. والمصر: الحد. وأهل هجر يكتبون في عهدهم: اشترى فلان الدار بمصورها، أي: بحدودها. وقال عدي: وجاعل الشمس مصرا لاخفاء به  بين النهار وبين الليل قد فصلاوحكى ابن فارس ان قوما قالوا: سميت بذلك لقصد الناس إياها، كقولهم: مصرت الشاة، إذا حلبتها، فالناس يقصدونها، ولا يكادون يرغبون عنها إذا نزلوها.

قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذّلَّةُ}: أي: ألزموها، قال الفراء: الذلة والذل: بمعنى واحد وقال الحسن: هى الجزية.

وفي المسكنة قولان.

احدهما: انها الفقر والفاقة، قاله أبوالعالية، والسدي، وابو عبيدة، وروي عن السدي قال: هي فقر النفس.

والثاني: الخضوع، قاله الزجاج. قوله تعالى:

{وباؤوا} أي: رجعوا. وقوله تعالى:

{يَفْعَلْ ذٰلِكَ} إشارة الى الغضب.

وقيل: الى جميع ما ألزموه من الذلة والمسكنة وغيرها. قوله تعالى:

{وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيّينَ} كان نافع يهمز «النبيين» و«الانبياء» و«النبوة» وما جاء من ذلك، إلا في موضعين في الاحزاب: {تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِىّ} ٥٣ {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ} ٥٠ وإنما ترك الهمز في هذين الموضعين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد، وباقي القراء لا يهمزون جميع المواضع. قال: الزجاج الأجود ترك الهمز. واشتقاق النبي من: نبأ، وأنبأ، أي: أخبر. ويجوز ان يكون من: نبا ينبو: إذا ارتفع، فيكون بغير همز: فعيلا، من الرفعة قال عبد اللّه بن مسعود: كانت بنو اسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبي، ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار.  قوله تعالى:

{بِغَيْرِ ٱلْحَقّ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أن معناه: بغير جرم، قاله ابن الانباري.

والثاني: أنه توكيد، كقوله تعالى: {وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِى فِى ٱلصُّدُورِ}.

والثالث: أنه خارج مخرج الصفة لقتلهم أنه ظلم، فهو كقوله تعالى: {رَبّ ٱحْكُم بِٱلْحَقّ} فوصف حكمه بالحق، ولم يدل على انه يحكم بغير الحق. قوله تعالى:

{وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} العدوان: أشد الظلم. وقال الزجاج: الاعتداء: مجاوزة القدر في كل شى.

٦٢

قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ} فيهم خمسة أقوال.

احدها: أنهم قوم كانوا مؤمنين بعيسى قبل أن يبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم، قاله ابن عباس.

والثاني: أنهم الذين آمنوا بموسى، وعملوا بشريعته الى أن جاء عيسى، فآمنوا به وعملوا بشريعته الى أن جاء محمد. وهذا قول السدي عن أشياخه.

والثالث: انهم المنافقون، قاله سفيان الثوري.

والرابع: أنهم الذين كانوا يطلبون الإسلام، كقس بن ساعدة، وبحيرا، وورقة بن نوفل، وسلمان.

والخامس: أنهم المؤمنون من هذه الأمة. قوله تعالى:

{وَٱلَّذِينَ هَادُواْ} قال الزجاج: أصل هادوا في اللغة: تابوا وروي عن ابن مسعود أن اليهود سموا بذلك، لقول موسى: {هُدْنَـا إِلَيْكَ}، والنصارى لقول عيسى: {مَنْ أَنصَارِى إِلَى ٱللّه} وقيل: سموا النصارى لقرية، نزلها المسيح، اسمها: ناصرة،

وقيل: لتناصرهم.فأما «الصابئون» فقرأ الجمهور بالهمز في جيمع القرآن، وكان نافع لايهمز كل المواضع. قال الزجاج: معنى الصابئين: الخارجون من دين الى دين، يقال: صبأ فلان: إذا خرج من دينه. وصبأت النجوم: إذا طلعت وصبأ نابه: إذا خرج.

وفي الصابئين سبعة أقوال.

احدها: أنه صنف من النصارى ألين قولا منهم، وهم السائحون المحلقة اوساط رؤوسهم، روي عن ابن عباس.

والثاني: انهم قوم بين النصارى والمجوس، ليس لهم دين، قاله مجاهد.

والثالث: أنهم قوم بين اليهود والنصارى، قاله سعيد بن جبير.

والرابع: قوم كالمجوس، قاله الحسن والحكم.

والخامس: فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور، قاله أبوالعالية.

والسادس: قوم يصلون الى القبلة، ويعبدون الملائكة، ويقرؤون الزبور قاله قتادة.

والسابع: قوم يقولون لاإله إلا اللّه، فقط وليس لهم عمل ولاكتاب ولانبي، قاله ابن زيد. قوله تعالى:

{مَنْ ءامَنَ} في إعادة ذكر الإيمان ثلاثة أقوال.

احدها: أنه لما ذكر مع المؤمنين طوائف من الكفار رجع قوله: {مَنْ ءامَنَ} إليهم.

والثاني: أن المعنى من أقام على إيمانه.

والثالث: أن الايمان الأول نطق المنافقين بالإسلام. والثاني: اعتقاد القلوب. قوله تعالى:

{وَعَمِلَ صَـٰلِحَاً} قال ابن عباس: أقام الفرائض.

فصل

وهل هذه الآية محكمة أم منسوخة؟ فيه قولان.

احدهما: أنها محكمة، قاله مجاهد والضحاك في آخرين، وقدروا فيها: إن الذين آمنوا، ومن آمن من الذين هادوا.

والثاني: أنها منسوخة بقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ}، ذكره جماعة من المفسرين.

٦٣

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَكُمْ}. الخطاب بهذه الآية لليهود. والميثاق: مفعال من التوثق ييمين او عهد او نحو ذلك من الأمور التي تؤكد القول. وفي هذا الميثاق ثلاثة أقوال.

احدها: انه اخذ ميثاقهم ان يعملوا بما في التوراة، فكرهوا الإقرأر بما فيها، فرفع عليهم الجبل، قاله مقاتل. قال ابو سليمان الدمشقي: اعطوا اللّه عهدا ليعملن بما في التوراة، فلما جاء بها موسى قرأوا ما فيها من التثقيل، امتنعوا من اخذها، فرفع الطور عليهم.

والثاني: انه ما اخذه اللّه تعالى على الرسل وتابعيهم من الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، ذكره الزجاج.

والثالث: ذكره الزجاج أيضا، فقال: يجوز ان يكون الميثاق يوم أخذ الذرية من ظهر آدم. قوله تعالى:

{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ} قال ابو عبيدة: الطور في كلام العرب: الجبل. وقال ابن قتيبة: الطور: الجبل بالسريانية. وقال ابن عباس. ما أنبت من الجبال فهو طور، وما لم ينبت فليس بطور.

وأي الجبال هو؟ فيه ثلاثة اقوال.

احدها: جبل من جبال فلسطين، قاله ابن عباس،

والثاني: جبل نزلوا بأصله، قاله قتادة.

والثالث: الجبل الذي تجلى له ربه، قاله مجاهد.

وجمهور العلماء على أنه إنما رفع الجبل عليهم لإبائهم التوراة. وقال السدي: لإبائهم خول الأرض المقدسة. قوله تعالى:

{خُذُواْ مَا ءاتَيْنَـٰكُم بِقُوَّةٍ}.وفي المراد بالقوة أربعة أقوال.

احدها: الجد والاجتهاد، قاله ابن عباس وقتادة والسدي.

والثاني: الطاعة، قاله أبوالعالية.

والثالث: العمل بما فيه، قاله مجاهد.

والرابع: الصدق، قاله ابن زيد. قوله تعالى:

{ٱلاْيَـٰتِ مَا فِيهِ} فيه قولان.

احدهما: اذكروا ما تضمنه من الثواب والعقاب، قاله ابن عباس.

والثاني: معناه ادرسوا ما فيه، قاله الزجاج. قوله تعالى:

{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قال ابن عباس: تتقون العقوبة.

٦٤

قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أي: اعرضتم عن العمل بما فيه من بعد إعطاء المواثيق لتأخذنه بجد، فلولا فضل اللّه عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين بالعقوبة.

٦٥

قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى ٱلسَّبْتِ}.

السبت: اليوم المعروف قاله ابن الانباري: ومعنى السبت في كلام العرب: القطع، يقال قد سبت رأسه: إذا حلقه وقطع الشعر منه. ويقال: نعل سبتية: اذا كانت مدبوغة بالقرظ محلوقة الشعر، فسمي السبت سبتا، لأن اللّه تعالى ابتدأ الخلق فيه، وقطع فيه بعض خلق الارض، او: لأن اللّه تعالى أمر بنى إسرائيل فيه بقطع الأعمال وتركها. قال:

وقال بعضهم: سمي سبتا، لأن اللّه تعالى أمرهم بالاستراحة فيه من الأعمال، وهذا خطأ، لأنه لايعرف في كلام العرب: سبت بمعنى: استراح.

وفي صفة اعتدائعهم في السبت قولان.

احدهما: أنهم أخذوا الحيتان يوم السبت، قاله الحسن و مقاتل.

والثاني: انهم حبسوها يوم السبت واخذوها يوم الأحد، وذلك أن الرجل كان يحفر الحفيرة؛ ويجعل لها نهرا الى البحر، فاذا كان يوم السبت فتح النهر، وقد حرم اللّه عليه العمل يوم السبت، فيقبل الموج بالحيتان حتى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت الخروج فلا يطيق، فيأخذها يوم الأحد، قاله السدي. الإشارة الى قصة مسخهم روى عثمان بن عطاء عن أبيه قال: نودي الدين اعتدوا في السبت ثلاثة أصوات. نودوا: با أهل القرية، فانتبهت طائفة أكثر من الأولى، ثم نودوا: يا أهل القرية، فانتبه الرجال والنساء والصبيان، فقال اللّه لهم:

{كُونُواْ قِرَدَةً خَـٰسِئِينَ} فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون: يا فلان ألم ننهكم؟ فيقولون برؤوسهم: بلى. قال قتادة: فصار القوم قردة تعاوي، لها أذناب بعدما كانوا رجالا ونساء. وفي رواية عن قتادة: صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، وما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم.

وقال غيره كانوا نحوا من سبعين ألفا، وعلى هذا القول العلماء، غير مجاهد روي عن مجاهد أنه قال: مسخت قلوبهم ولم تمسخ أبدانهم، وهو قول بعيد، قال ابن عباس: لم يحيوا على الارض إلا ثلاثة أيام، ولم يحيا مسخ في الأرض فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة ايام، وماتوا في اليوم الثامن، وهذا كان في زمان داود عليه السلام. قوله تعالى:

{خَـٰسِئِينَ} الخاسى في اللغة المبعد يقال للكلب اخسأ أي تباعد

٦٦

قوله تعالى: {فجعناها}. في المكنى عنها أربعة أقوال.

احدها: انها الخطيئة، رواه عطية عن ابن عباس.

والثاني: العقوبة رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال الفراء: الهاء: كناية عن المسخة التي مسخوها.

والثالث: انها القرية والمراد أهلها، قاله قتادة وابن قتيبة.

والرابع: أنها الأمة التي مسخت، قاله الكسائي، و الزجاج.

وفي النكال قولان.

احدهما: أنه العقوبة، قاله مقاتل.

والثاني: العبرة، قاله ابن قتيبة و الزجاج. قوله تعالى:

{نَكَـٰلاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: لما بين يديها من القرى وما خلفها، رواه عكرمة عن ابن عباس.

والثاني: لما بين يديها من الذنوب، وما خلفها: ما عملوا بعدها، رواه عطية من ابن عباس.

والثالث: لما بين يديها من السنين التي عملوا فيها بالمعاصي، وما خلفها: ما كان بعدهم في بني اسرائيل لئلا يعملوا بمثل أعمالهم، قاله عطية.

وفي المتقين قولان.

احدهما: انه عام في كل متق الى يوم القيامة، قاله ابن عباس.

والثاني: ان المراد بهم أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، قاله السدي عن أشياخه، وذكره عطية وسفيان.

٦٧

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}. ذكر السبب في أمرهم بذبح البقرة روى ابن سيرين عن عبيدة قال: كان في بني اسرائيل رجل عقيم لايولد له، وله مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله واحتمله ليلا، فأتى به حيا آخر، فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يديعه حتى تسلحوا، وركب بعضهم الى بعض، فأتوا موسى فذكروا له ذلك، فأمرهم بذبح البقرة.

وروى السدي عن أشياخه أن رجلا من بني اسرائيل كانت له بنت وابن اخ فقير، فخطب اليه ابنته، فأبى، فغضب وقال: واللّه لآقتلن عمي، ولآخذن ماله ولأنكحن ابنته، ولآكلن ذيته، فأتاه فقال: قد قدم تجار في بعض أسباط بني اسرائيل، فانطلق معي فخذ لي من تجارتهم لعلي اصيب فيها ربحا، فخرج معه، فلما بلغا ذلك السبط، قتله الفتى ثم رجع فلما أصبح، جاء كأنه يطلب عمه لا يدري أين هو، فاذا بذلك السبط قد اجتمعوا عليه، فأمسكهم وقال: قتلتم عمي وجعل يبكي وينادي: واعماه. قال أبوالعالية: والذي سأل موسى أن يسأل اللّه البيان: القاتل.

وقال غيره: بل القوم اجتمعوا فسألوا موسى، فلما أمرهم بذبح بقرة، قالوا: اتتخذنا هزوا. وقرأ ابن كثير، وابو عمرو، وابن عامر، والكسائي: هزؤا. بضم الهاء والزاي والهمزة، وقرأ حمزة و إسماعيل، وخلف في اختياره، والفراء عن عبد الوارث، والمفضل: هزءا، باسكان الزاي. ورواه حفص بالضم من غير همز، وحكى ابو علي الفارسي ان كل اسم على ثلاثة أحرف اوله مضموم، فمن العرب من يثقله، ومنهم من يخففه نحو العسر واليسر. قوله تعالى:

{قَالَ أَعُوذُ بِٱللّه أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ}. وانما انتفى من الهزء، لأن الهازئ جاهل لاعب، فلما تبين لهم أن الأمر من عند اللّه.

٦٨

{قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيّنَ لَّنَا مَا هِىَ} . قال الزجاج: وانما سألوا: ما هي لأنهم لايعلمون أن بقرة يحيا بضرب بعضها ميت.

فأما الفارض فهي: المسنة، يقال: فرضت البقرة فهي فارض: إذا أسنت. والبكر: الصغيرة التي لم تلد، والعوان: دون المسنة، وفوق الصغير. يقال حرب عوان: إذا لم تكن اول حرب، وكانت ثانية.

٦٩

انظر تفسير الآية ٧٠

٧٠

في الصفراء قولان.

احدهما: أنه من الصفرة، وهو: اللون المعروف، قاله ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وابن قتيبة، و الزجاج.

والثاني: أنها السوداء، قال الحسن البصري، ورده جماعة، فقال ابن قتيبة: هذا غلط في نعوت البقر، وإنما يكون ذلك في نعوت الإبل، يقال: بعير أصفر، أي: أسود، لآن السوداء من الإبل يشوب سوادها صفرة، ويدل على ذلك: قوله تعالى:

{فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا} والعرب لاتقول: أسود فاقع، وإنما تقول: أسود حالك، وأصفر فاقع. قال الزجاج: وفاقع نعت للأصفر الشديد الصفرة، يقال: أصفر فاقع، وأحمر قانى وأخضر ناضر، وأبيض يقق، وأسود حالك، وحلكوك ودجوجي، فهذه صفات المبالغة في الألوان. ومعنى

{تَسُرُّ ٱلنَّـٰظِرِينَ} تعجبهم قال ابن عباس: شدد القوم فشدد اللّه عليهم. وروى أبو هريرة، رضي اللّه عنه، عن النبي، صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال: «لولا أن بني اسرائيل استثنوا لم يعطوا الذي أعطوا» يعني بذلك قولهم.

{وَإِنَّا إِن شَاء ٱللّه لَمُهْتَدُونَ}وفي المراد باهتدائهم قولان.

احدهما: أنهم أرادوا: المهتدون الى البقرة، وهو قول الأكثرين.

والثاني: الى القاتل، ذكره ابو صالح عن ابن عباس.

٧١

قوله تعالى: {قال إنه يقول إنها بقرة لاذلول} قال قتادة: لم يذلها العمل فتثير الأرض. قال ابن قتيبة: يقال في الدواب: دابة ذلول: بينة الذل بكسر الذال، وفي الناس: رجل ذليل بين الذل بضم الذال. {تُثِيرُ ٱلاْرْضَ}: تقلبها للزراعة، ويقال للبقرة: المثيرة. قال الفراء: لاتقفن على ذلول، لأن المعنى: ليست بذلول فتثير الأرض، وحكى ابن القاسم أن أبا حاتم السجستاني أجاز الوقف على ذلول، ثم أنكره عليه جدا، وعلل بأن التي تثير الأرض لايعدم منها سقي الحرث، ومتى أثارت الأرض كانت ذلولاً. ومعنى: ولا تسقي الحرث: لايستقي عليها الماء لسقي الزرع. قوله تعالى:

{مُسَلَّمَةٌ} فيه أربعة أقوال.

احدها: مسلمة من العيوب، قاله ابن عباس، و أبوالعالية، وقتادة، و مقاتل.

والثاني: مسلمة من العل، قاله الحسن. وابن قتيبة.

والثالث: مسلمة من الشية، قاله مجاهد وابن زيد.

والرابع: مسلمة القوائم والخلق، قاله عطاء الخراساني.

فأما الشية، فقال الزجاج: الوشي في اللغة: خلط لون بلون. ويقال: وشيت الثوب أشيه شية ووشيا، كقولك: وديت فلانا ادية دية. ونصب: لاشية فيها على النفي. ومعنى الكلام: ليس فيها لون يفارق سائر لونها. وقال عطاء الخراساسني: لونها لون واحد. قوله تعالى:

{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ} قال ابن قتيبة: الآن: هو الوقت الذي أنت فيه، وهو حد الزمانين، حد الماضي من آخره، وحد المستقبل من أوله، ومعنى{جِئْتَ بِٱلْحَقّ} بنيت لنا. قوله تعالى:

{كَادُواْ يَفْعَلُونَ} فيه قولان.

احدهما: لغلاء ثمنها، قاله ابن كعب القرظي.

والثاني: لخوف الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم، قاله وهب. قال ابن عباس: مكثوا يطلبون البقرة أربعن سنة حتى وجدوها عند رجل، فأبى ان يبيعها الا بملء مسكها ذهبا، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، وعبيدة، ووهب، وابن زيد، والكلبي، و مقاتل في مقدار الثمن. فأما السبب الذي لأجله غلا ثمنها، فيحتمل وجهين.

احدهما: انهم شددوا فشدد اللّه عليهم.

والثاني: لإكرام اللّه عز وجل صاحبها، فإن كان برا بوالديه. فذكر بعض المفسرين أنه كان شاب من بني اسرائيل برا بأبيه، فجاء رجل يطلب سلعة هي عنده، فانطلق ليبيعه إياها، فاذا مفاتيح حانوته مع أبيه، وأبوه نائم فلم يوقظه، ورد المشتري، فأضعف له المشتري الثمن، فرجع الى أبيه، فوجده نائما، فعاد الى المشتري فرده، فأضعف له الثمن، فلم يزل ذلك دابها حتى ذهب المشتري، فأثابه اللّه على بره بأبيه أن نتجت له بقرة من بقرة، تلك البقرة.

وروي عن وهب بن منبه في حديث طويل أن فتى كان برا بوالديه، وكان يحتطب على ظهره، فاذا باعه تصدق بثلثه، واعطى أمه ثلثه، وأبقى لنفسه ثلثه، فقالت له يوما: إني ورثت من أبيك بقرة، فتركتها في البقر على اسم اللّه، فاذا أتيت البقر، فادعها باسم إله ابراهيم، فذهب فصاح بها، فأقبلت، فأنطقها اللّه، فقالت: اركبني يا فتى، فقال الفتى إن أمي لم تأمرني بهذا فقالت: أيها البر بأمهٰ لو ركبتني لم تقدر على، فانطلق فلوا أمرت الجبل أن ينقلع من أصله وينطلق معك لانقلع لبرك بأمك. فلما جاء بهاا قالت أمه: بعها بثلاثة دنانير على رضى مني، فبعث اللّه ملكا فقال: بكم هذه؟ قال: بثلاثة دنانير على رضى من أمي. قال: لك ستة ولا تستأمرها، فأبى، وعاد الى أمه فأخربها، فقالت: بعها بستة على رضى مني، فجاء الملك فقال: خذ اثني عشر ولاتستأمرها، فأبى وعاد الى أمه فأخرها، فقالت: يا بني: ذاك ملك، فقل له: بكم تأمرني أن أبيعها؟ فجاء اليه فقال له ذلك، فقال: يا فتى يشتري بقرتك هذه موسى بن عمران لقتيل يقتل في بني اسرائيل.

٧٢

قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} هذه الآية مؤخرة في التلاوة، مقدمة في المعنى، لأن السبب في الأمر بذبح البقرة قتل النفس، فتقدير الكلام: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها، فسألتم موسى فقال: {إِنَّ ٱللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} ونظيرها قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا * قَيِّماً} الكهف: ١ أراد: أنزل الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا، فأخر المقدم وقدم المؤخر، لأنه من عادة العرب قال الفرزدق: إن الفرزدق صخرة ملمومة  طالت فليس تنالها الأوعالاأراد: طالت الأوعال. وقال جرير:

طاف الخيال وأين منك لماما  فارجع لزورك بالسلام سلام.

أراد: طاف الخيال لماما، وأين هو منك؟ وقال الآخر: خير من القوم العصاة أميرهم  يا قوم فاسحيوا النساء الجلس أراد: خير من القوم العصاة النساء، فاستحيوا من هذا. ومعنى قوله:

{فَٱدرَأْتُمْ} اختلفتم، قاله ابن عباس و مجاهد. وقال الزجاج: ادارأتم، بمعنى: تدارأتم أي: تدافعتم، وألقى بعضكم على بعض، تقول: درأت فلانا: إذا دفعته، وداريته: إذا لاينته، ودريته إذا ختلته، فأدغمت التاء في الدال، لأنهما من مخرج واحد، فأما الذي كتموه، فهو أمر القتيل.

٧٣

قوله تعالى: {فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}. من قال: أقاموا في طلبها أربعين سنة؛ قال ضربوا قبره، ومن لم يقل ذلك، قال: ضربوا جسمه قبل دفنه.

وفي الذي ضرب به ستة أقوال.

احدها: أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف، رواه عكرمة عن ابن عباس. قال ابو سليمان الدمشقي: وذلك العظم هو أصل الأذن، وزعم قوم أنه لايكسر ذلك العظم من احد فيعيش. قال الزجاج: الغضروف في الأذن، وهو: ما أشبه العظم الرقيق من فوق الشحمة، وجميع أعلى صدفة الأذن، وهو معلق الشنوف، فأما العظمان اللذان خلف الأذن، الناتئان من مؤخر الأذن فيقال لهما: الخشاوان، والخششاوان، واحدهما: خشاء، وخششاء.

والثاني: انه ضرب بالفخذ، روي عن ابن عباس أيضا، وعكرمة، و مجاهد، وقتادة وذكر عكرمة و مجاهد انه الفخذ الأيمن.

والثالث: أنه البضعة التي بين الكتفين. رواه السدي عن أشياخه.

والرابع: أنه الذنب، رواه ليث عن مجاهد.

والخامس: أنه عجب الذنب، وهو عظم بني عليه البدن، روي عن سعيد بن جبير.

والسادس: أنه اللسان، قاله الضحاك.

وفي الكلام اختصار تقديره: فقلنا: اضربوه ببعضها ليحيا، فضربوه فيحي، فقام فأخبر بقاتله.

وفي قاتله أربعة أقوال.

احدها: بنو أخيه، رواه عطية عن ابن عباس.

والثاني: ابنا عمه، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهذان القولان يدلان على أن قاتله أكثر من واحد.

والثالث: ابن أخيه، قال السدي عن أشياخه وعبيدة.

والرابع: أخوه، قاله عبد الرحمن بن زيد. قوله تعالى:

{كَذٰلِكَ يُحْىِ ٱللّه ٱلْمَوْتَىٰ} فيه قولان.

احدهما: انه خطاب لقوم موسى.

والثاني: لمشركي قريش، احتج عليهم إذ جحدوا البعث بما يوافق عليه أهل الكتاب، قال ابو عبيدة: وآياته: عجائبه.

٧٤

قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ}: قال ابراهيم بن السري: قست في اللغة: غلظت ويبست وعست، فقسوة القلب: ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه. والقاسي: والعاسي الشديد الصلابة. وقال ابن قتيبة: قست وعست وعتت واحد، أي: يبست.

وفي المشار إليهم بها قولان.

احدهما: جميع بني اسرائيل.

والثاني: القاتل. قال ابن عباس: قال الذين قتلوه بعد أن سمى قاتله: واللّه ما قتلناه.

وفي كاف«ذلك» ثلاثة أقوال.

احدها: أنه إشارة الى إحياء الموتى، فيكون الخطاب لجميع بني اسرائيل.

والثاني: الى كلام القتيل فيكون الخطاب للقاتل، ذكرهما المفسرون.

والثالث: الى ما شرح من الآيات من مسخ القردة والخنازير، ورفع الجبل وانبجاس الماء، وإحياء القتيل ذكره الزجاج. وفي «أو» أقوال، هي بعينها مذكروة في قوله تعالى:

{أَوْ كَصَيّبٍ} وقد تقدمت. قوله تعالى:

{وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلانْهَـٰرُ} قال مجاهد: كل حجر ينفجر منه الماء، وينشق عن ماء او يتردى من رأس جبل، فمن خشية اللّه.

٧٥

قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ}. في المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال.

احدها: انه النبي صلى اللّه عليه وسلم، خاصة، قاله ابن عباس و مقاتل.

والثاني: انه المؤمنون، تقديره: أفتطمعون أن تصدقوا نبيكم، قاله أبوالعالية وقتادة.

والثالث: أنهم الأنصار، فانهم لما أسلموا أحبوا إسلام اليهود للرضاعة التي كانت بينهم، ذكره النقاش قال الزجاج: وألف «أفتطمعون» ألف استخبار، كأنه آيسهم من الطمع في إيمانهم.

وفي سماعهم لكلام اللّه قولان،

احدهما: أنهم قرؤوا التوراة فحرفوها، هذا قول مجاهد والسدي في آخرين، فيكون سماعهم لكلام اللّه بتبليغ نبيهم، وتحريفهم: تغيير ما فيها.

والثاني: أنهم السبعون الذين اختارهم موسى، فسمعوا كلام اللّه كفاحا عند الجبل، فلما جاؤوا الى قومهم قالوا: قال لنا: كذا وكذا، وقال في آخر قوله: إن لم تستطيعوا ترك ما أنهاكم؛ عنه فافعلوا ما تستطيعون. هذا قول مقاتل، والأول أصح وقد أنكر بعض أهل العلم، منهم الترمذي صاحب «النوادر» هذا القول إنكار شديد، وقال: إنما خص بالكلام موسى وحده، وإلا فأي ميزة؟ٰ وجعل هذا من الأحاديث لتي رواها الكلبي وكان كذابا. ومعنى

{عَقَلُوهُ}: سمعوه ووعوه.

وفي قوله تعالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قولان.

احدهما: وهم يعلمون أنهم حرفوه.

والثاني: وهم يعلمون عقاب تحريفه.

٧٦

قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ}. هذه الآية نزلت في نفر من اليهود، كانوا إذا لقوا النبي والمؤمنين قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم الى بعض، قالوا: اتحدثونهم بما فتح اللّه عليكم، هذا قول ابن عباس، وأبي العالية، و مجاهد، وقتادة، وعطاء الخراساني، وابن زيد و مقاتل. وفي معنى

{بِمَا فَتَحَ ٱللّه عَلَيْكُمْ} قولان.

احدهما: بما قضى اللّه عليكم، والفتح: القضاء، ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقّ} الاعراف: ٨٩ قال السدي عن أشياخه: كان ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين بما عذبوا به،

فقال بعضهم لبعض: اتحدثونهم بما فتح اللّه عليكم. من العذاب، ليقولوا: نحن احب الى اللّه منكم، واكرم على اللّه منكم.

والثاني: أن معناه بما علمكم اللّه. قال ابن عباس، وأبوالعالية، وقتادة: الذي فتحه عليهم: ما أنزله من التوراة في صفة محمد، صلى اللّه عليه وسلم، وقال مقاتل: كان المسلم يلقى حليفه، أو أخاه من الرضاعة من اليهود، فيسأله: اتجدون محمدا في كتابكم؟ فيقولون: نعم، إنه لحق. فسمع كعب بن الأشرف وغيره، فقال لليهود في السر: اتحدثون أصحاب محمد بما فتح اللّه عليكم، أي: بما بين لكم في التوراة من أمر ممد ليخاصموكم به عند ربكم باعترافكم أنه نبي، أفلا تعقلون أن هذا حجة عليكم؟ٰ قوله تعالى:

{عِندَ رَبّكُمْ} فيه قولان.

احدهما: انه بمعنى في حكم ربكم، كقوله. تعالى: {فَأُوْلَـئِكَ عِندَ ٱللّه هُمُ ٱلْكَـٰذِبُونَ} النور: ١٣.

والثاني: انه أراد يوم القيامة.

٧٧

{اَوَلَا يَعْلَمُونَ اَنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}

٧٨

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ} يعنى: اليهود. والأمي: الذي لا يكتب ولا يقرأ، قاله مجاهد.

وفي تسميته بالأمي قولان.

احدهما: لأنه على خلقة الأمة التي لم تتعلم الكتاب، فهو على جبلته، قاله الزجاج.

والثاني: انه ينسب الى أمه، لأن الكتابة في الرجال كانت دون النساء.

وقيل: لأنه على ما ولدته أمه. قوله تعالى:

{ لا يعلمون الكتاب} قال قتادة: لايدرون ما فيه. قوله تعالى:

{إِلاَّ أَمَانِىَّ} جمهور القرأء على تشديد الياء، وقرأ الحسن، وأبو جعفر، بتخفيف الياء، وكذلك: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} البقرة: ١١١ و {لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيّكُمْ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ} النساء: ١٢٣ {فِى أُمْنِيَّتِهِ} الحج: ٥٢ {وَغرَّتْكُمُ ٱلاْمَانِىُّ} الحديد: ١٤ كله بتخفيف الياء وكسر الهاء من «أمانيهم» ولا بخلاف في فتح ياء «الأماني».

وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال.

احدها: أنها الأكاذيب. قال ابن عباس: إلا أماني: يريد إلا قولا يقولونه بأفواههم كذبا. وهذا قول مجاهد واختيار الفراء وذكر الفراء. أن بعض العرب قال لابن دأب وهو يحدث: اهذا شىء رويته، أم شىء تمنيته؟ يريد: افتلعته؟.

والثاني: أن الأماني : التلاوة، فمعناه: لايعلمون فقه الكتاب، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم. قال الشاعر:

تمنى كتاب اللّه أول ليلة  تمني داود الزبور على رسل

وهذا قول الكسائي و الزجاج.

والثالث: أنها أمانيهم على اللّه، قاله قتادة. قوله تعالى:

{وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} قال مقاتل: ليسوا على يقين، فان كذب الرؤساء أو صدقوا، تابعوهم.

٧٩

قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَـٰبَ}. هذا الآية نزلت في أهل الكتاب الذين بدلوا التوراة وغيروا صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم فيها. وهذا قول ابن عباس وقتادة وابن زيد وسفيان.

فأما الويل: فروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ويل: واد في جهنم، يهوي الكافر فيه أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره

وقال الزجاج: الويل: كلمة تقولها العرب لكل من وقع في هلكة، ويستعملها هو أيضا. وأصلها في اللغة: العذاب والهلاك. قال ابن الانباري: ويقال: معنى الويل: المشقة من العذاب. ويقال: أصله: وي لفلان، أي: حزن. لفلان، فكثر الاستعمال للحرفين، فوصلت اللام ب «وي» وجعلت حرفا واحدا، ثم خبر عن «ويل» بلام أخرى، وهذا اختاير الفراء. والكتاب هاهنا: التوراة. وذكر الأيدي توكيد، والثمن القليل: ما يفنى من الدنيا.

وفيما يكسبون قولان.

احدهما: أنه عوض ما كتبوا.

والثاني: إثم ما فعلوا.

٨٠

قوله تعالى: {يَكْسِبُونَ وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} وهم: اليهود.

وفيما عنوا بهذه الأيام قولان.

احدهما: انهم أرادوا أربعن يوما، قاله ابن عباس، وعكرمة، و أبوالعالية، وقتادة، والسدي.

ولماذا قدروها بأربعين؟ فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم قالوا بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة، ونحن نقطع مسيرة كل سنة في يوم، ثم ينقضي العذاب وتهلك النار، قاله ابن عباس.

والثاني: أنهم قالوا: عتب علينا ربنا في أمر، فأقسم ليعذبنا أربعين ليلة، ثم يدخلنا الجنة، فلن تمسنا النار إلا أربعين يوما تحلة القسم، وهذا قول الحسن و أبي العالية.

والثالث: أنها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل، قاله مقاتل.

والقول الثاني: أن الأيام المعدودة سبعة أيام، وذلك لآن عندهم أن الدنيا سبعة ألاف سنة، والناس يعذبون لكل ألف سنة يوما من أيام الدنيا، ثم ينقطع العذاب، قاله ابن عباس. {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ ٱللّه عَهْدًا} أي: عهد إليكم أنه لايعذبكم إلا هذا المقدار؟ٰ

٨١

قوله تعالى: {بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيّئَةً}: بلى: بمنزلة «نعم» إلا أن «بلى» جواب النفي، ونعم، جواب الإيجاب قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: مالك علي شىء فقال الآخر: نعم: كان تصديقا أن لاشىء له عليه. ولو قال: بلى؛ كان ردا لقوله. قال ابن الانباري: وإنما صارت «بلى» تتصل بالجحد، لأنها رجوع عن الجحد الى التحقيق، فهي بمنزلة«بل». و«بل» سبيلها أن تأتي بعد الجحد، كقولهم: ما قام أخوك، بل أبوك. وإذا قال الرجل للرجل: ألا تقوم؟ فقال له بلى: أراد بل؛ أقوم، فزاد الألف على «بل» ليحسن السكوت عليها، لأنه لو قال: بل؛ كان يتوقع كلاما بعد بل؛ فزاد الألف ليزول هذا التوهم عن المخاطب. ومعنى: {بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيّئَةً}: بل من كسب. قال الزجاج: بلى رد لقولهم: {لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّمَا مَّعْدُودَةً} والسيئة هاهنا: الشرك في قول ابن عباس، وعكرمة، وابي وائل. و أبي العالية، و مجاهد، وقتادة، و مقاتل.

{وَأَحَـٰطَتْ بِهِ} أي: أحدقت به خطيئته.

وقرأ نافع «خطيئاته» بالجمع. قال عكرمة: مات ولم يتب منها. وقال ابو وائل الخطيئة: صفة للشرك. قال أبو علي: إما أن يكون المعنى: أحاطت بحسنته خطيئته، أي: أحبطتها، من حيث أن المحيط أكثر من الماط به، فيكون كقوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَـٰفِرِينَ} التوبة: ٤٩ وقوله {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} الكهف ٢٩ اويكون معنى أحاطت به أهلكته كقوله: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} يوسف ٦٦.

٨٢

{وَالَّذ۪ينَ اٰمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ اُوۨلٰۤئِكَ اَصْحَابُ الْجَنَّةِۚ هُمْ ف۪يهَا خَالِدُونَ۟}

٨٣

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرءيلَ} هذا الميثاق مأخوذ علهم في التوراة. قوله تعالى:

{لاتعبدون} وقرأ عاصم ونافع وابو عمرو وابن عامر، بالتاء على الخطاب لهم، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء على الإخبار عنهم. قوله تعالى:

{إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً} أي ووصيناهم بآبائهم وأمهاتهم خيرا، قال الفراء. والعرب تقول: أوصيك به خيرا وآمرك به خيرا. والمعنى: آمرك أن تفعل به ثم تحذف أن فيوصل الخير بالوصية والأمر قال الشاعر:

عجبت من دهماء إذ تشكونا  ومن أبي دهماء إذ يوصينا

خيرا بها كأننا جافونا

وأما الإحسان الى الوالدين، فهو: برهما. قال ابن عباس: لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار وقالت عائشة: ما بر والده من شد النظر اليه. وقال: عروة لا تمتنع عن شى أحباه. قوله تعالى:

{وَذِى ٱلْقُرْبَىٰ} أي ووصييناهم بذي القربى أن يصلوا أرحامهم. واما اليتامى فجمع يتيم، قال الاصمعي: اليتم في الناس من قبل الأب وفي غير الناس: من قبل الأم قال ابن الانباري: قال ثعلب اليتم: معناه في كلام العرب الانفراد: فمعنا صبي يتيم: منفرد عن أبيه

وانشدنا:

أفاطم إني هالك فتبيني  ولا تجزعي كل النساء يتيم

قال يروى يتيم ويئيم فمن روى يتيم بالتاء أراد كل النساء ضعيف منفرد ومن روى بالياء أراد كل النساء يموت عنهن اوزاجهن وقال انشدنا ابن الاعرابي:

ثلاثة احباب فحب علاقة  وحب تملاق وحب هو القتل

قال: فقلنا: له زدنا فقال: البيت يتيم أي: منفرد وقرأت على شيخنا ابي منصور اللغوي، قال إذا بلغ الصبي، زال عنه اسمه اليتم، يقال: منه يتم ييتم يتما ويتما وجمع اليتيم: يتامى وأيتام، وكل منفرد عند العرب يتيم ويتيمة. قال:

وقيل: أصل اليتم الغفلة وبه سمي اليتيم لأنه يتغافل عن بره، والمرأة تدعى يتيمة مالم تزوج فاذا تزوجت زال عنها اسم اليتم.

وقيل: لا يزول عنها اسم اليتم أبدا. وقال ابو عمرو: اليتم الإبطاء ومنه أخذ اليتيم لأن البر يبطى عنه، «والمساكين»: جمع مسكين وهو: اسم مأخوذ من السكون كأن المسكين قد اسكنه الفقر. قوله تعالى:

{وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} قرأ ابن كثير، وابو عمر، ونافع، وعاصم وابن عامر {حَسَنًا}: بضم الحاء والتخفيف، وقرأ حمزة والكسائي: {حَسَنًا} بفتح الحاء والتثقيل قال ابو علي من قرأ حسنا فجائز ان يكون الحسن لغة في الحسن كالبخل والبخل والرشد والرشد وجاء ذلك في الصفة كما جاء في الاسم ألا تراهم قالوا: العرب والعرب ويجوز ان يكون الحسن مصدرا كالكفر والشكر والشغل، وحذف المضاف معه كأنه قال: قولوا قولا ذا حسن. ومن قرأ {حَسَنًا} جعله صفة والتقدير عنده: قولوا للناس قولا حسنا. فحذف الموصوف.

واختلفوا في المخاطب بهذا على قولين.

احدهما: انهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن جبير، وابن جريج. ومعناه: اصدقوا وبينوا صفة النبي.

والثاني: انهم أمة محمد، صلى اللّه عليه وسلم، قال أبوالعالية: قولوا للناس معروفا، وقال محمد ابن علي بن الحسين: كلموهم بما تحبون أن يقولوا لكم. و زعم قوم ان المراد بذلك مساهلة الكفار في دعائهم الى الإسلام فعلى هذا: تكون منسوخة بآية السيف. قوله تعالى:

{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} أي: اعرضتم الا قليلا منكم وفيهم قولان.

احدهما: انهم اولهم الذين لم يبدلوا.

والثاني: انهم الذين آمنوا بالنبي محمد، صلى اللّه عليه وسلم، في زمانه.

٨٤

قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ} أي: لا يسفك بعضكم دم بعض، ولا يخرج بعضكم بعضا من داره، قال ابن عباس. ثم أقررتم يومئذ بالعهد وأنتم اليوم تشهدون على ذلك فالإقرأر على هذا متوجه الى سلفهم والشاهدة متوجهة الى خلفهم

٨٥

{ثُمَّ أَنتُمْ هَـٰؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} أي: يقتل بعضكم بعضا، روى السدي عن أشياخه قال: كانت قريظة خلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج فكانوا يقاتلون في حرب سمير فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النضير وحلفاءها، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها فيغلبونهم ويخربون الديار ويخرجون منها فإذا أسر الرجل من الفريقين كليهما، جمعوا له حتى يفدوه فتعيرهم العرب بذلك فتقول كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ٰ فيقولون: أمرنا أن نفديهم حرم علينا قتلهم فتقول العرب: فلم تقاتلونهم؟ٰ فيقولون نستحيي أن يستذل حلفاؤنا فعيرهم اللّه عز وجل فقال:

{ثُمَّ أَنتُمْ هَـٰؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن دِيَـٰرِهِمْ}الى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَـٰبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} فكان إيمانهم ببعضه: فداءهم الأسارى وكفرهم: قتل بعضهم بعضا. قوله تعالى:

{تَظَـٰهَرُونَ} قرأ عاصم وحمزة والكسائي: {تَظَـٰهَرُونَ} وفي {التحريم} {وَإِن تَظَاهَرَا} بتخفيف الظاء، وقرأ ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر بتشديد الظاء؛ مع إثبات الألف قال أبو علي: من قرأ {تَظَـٰهَرُونَ} بتشديد الظاء أدغم التاء في الظاء لمقاربتها لها فخفف بالإدغام، ومن قرأ {تَظَـٰهَرُونَ} خفيفة حذف التاء التي أدغمها أولئك من اللفظ فخفف بالحذف والتاء التي أدغمها ابن كثير هي التي حذفها عاصم وروي عن الحسن وابي جعفر {تُظْهِرُونَ} بتشديد الظاء من غير ألف فالتظاهر التعاون قال ابن قتيبة وأصله من الظهر، فكأن التظاهر: أن يجعل كل واحد من الرجلين أو من القوم الآخر ظهرا له يتقوى به، ويستند اليه قال مقاتل: والإثم المعصية والعدوان الظلم. قوله تعالى:

{وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَـٰرَىٰ} أصل الأسر: الشد قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر {يَأْتُوكُمْ أُسَـٰرَىٰ} وقرأ الاعمش وحمزة {أَسْرَىٰ} قال الفراء: أهل الحجاز يجمعون الأسير«أسارى» وأهل نجد اكثر كلامهم «أسرى» وهو أجود الوجهين في العربية، لأنه بمنزلة قولهم: جريح وجرحى وصريع وصرعى وروى الأصمعي عن أبي عمرو قال: الاسارى ما شدوا، والاسرى في ايديهم، إلا انهم لم يشدوا. وقال الزجاج: «فعلى» جمع لكل ما أصيب به الناس في أبدانهم وعقولهم يقال: هالك وهلكى، ومريض مرضى، وأحمق وحمقى وسكران وسكرى. فمن قرأ: {أُسَـٰرَىٰ}؛ فهى جمع الجمع تقول: اسير واسرى واسارى جمع اسرى. قوله تعالى:

{تفادهم} قرأ ابن كثير وابو عمر وابن عامر: {أُسَـٰرَىٰ تُفَـٰدُوهُمْ} وقرأ نافع وعاصم والكسائي {تُفَـٰدُوهُمْ} بألف. والمفاداة: إعطاء شىء وأخذ شىء مكانه {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَـٰبِ} وهو فكاك الأسرى {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} وهو الإخراج والقتل وقال مجاهد تفديه في يد غيرك وتقتله أنت بيدك.

وفي المراد بالخزي قولان.

احدهما: انه الجزية، قاله ابن عباس.

والثاني: قتل قريظة ونفي النضير، قاله مقاتل.

٨٦

قوله تعالى: {أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلاْخِرَةِ} قال ابن عباس. هم اليهود وقال مقاتل باعوا الآخرة بما يصيبونه من الدنيا.

٨٧

قوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَـٰبَ} يريد التوراة، وقفينا: أتبعنا قال ابن قتيبة: وهو مأخوذ من القفا، يقال: قفوت الرجل إذا سرت في أثره والبينات الآيات والواضحات كابراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى وأيدناه قويناه والأيد القوة. وفي روح القدس ثلاثة أقوال.

احدها: أنه جبريل والقدس الطهارة، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والضحاك والسدي في آخرين. وكان ابن كثير يقرأ: {بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ} ساكنة الدال قال ابو علي التخفيف والتثقيل فيه حسنان نحو: العنق والعنق والطنب والطنب.

وفي تأييده به ثلاثة. أقوال، ذكرها الزجاج

احدها: أنه أيد به لاظهار حجته وأمر دينه

والثاني: لدفع بني اسرائيل عنه إذ أرادوا قتله.

والثالث: انه أيد به في جميع أحواله.

والقول الثاني: انه الاسم الذي كان يحيي به الموتى، رواه الضحاك عن ابن عباس.

والثالث: انه الإنجيل، قاله ابن زيد.

٨٨

قوله تعالى: {حَقّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} قرأ: الجمهور باسكان اللام، وقرأ: قوم منهم الحسن وابن محيصن بضمها، قال الزجاج. قرأ: غلف بتسكين اللام، فمعناه: ذوات غلف فكأنهم قالوا: {قُلُوبَنَا} في أوعية. ومن قرأ {غُلْفٌ} بضم اللام فهو جمع «غلاف» فكأنهم قالوا: قلوبنا أوعية للعلم، فما بالها لا تفهم وهي اوعية للعلم؟ فعلى الأول: يقصدون إعراضه عنهم كأنهم يقولون مانفهم شيئا وعلى الثاني يقولون: لو كان قولك حقا لقبلته قلوبنا. قوله تعالى:

{فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} فيه خمسة أقوال.

احدها: فقليل من يؤمن منهم، قاله ابن عباس وقتادة.

والثاني: ان المعنى قليل ما يؤمنون به، قال معمر يؤمنون بقيل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره.

والثالث: أن المعنى فما يؤمنون قليلا ولا كثيرا، ذكره ابن الانباري. وقال هذا على لغة قوم من العرب يقولون: قلما رأيت مثل هذا الرجل وهم يريدون ما رأيت مثله.

والرابع: فيؤمنون قليلا من الزمان كقوله تعالى: {ءامِنُواْ بِٱلَّذِي أُنزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ}. ذكره ابن الانباري ايضا.

والخامس: أن المعنى فايمانهم قليل، ذكره ابن جرير الطبري وحكى في «ما» قولين.

احدهما: انها زائدة.

والثاني: ان «ما» تجمع جميع الأشياء ثم تخص بعض ما عمته بما يذكر بعدها.

٨٩

قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَـٰبٌ مّنْ عِندِ ٱللّه} يعني: القرآن، و«يستفتحون» يستنصرون. وكانت اليهود إذا قاتلت المشركين استنصروا باسم نبي اللّه، محمد صلى اللّه عليه وسلم.

٩٠

قوله تعالى: {بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ} بئس: كلمة مستوفية لجميع الذم ونقيضها «نعم» واشتروا بمعنى: باعوا والذي باعوها به قليل من الدنيا. قوله تعالى:

{بَغِيّاً} قال قتادة حسدا ومعنى الكلام كفروا: بغيا، لأن نزل اللّه الفضل على النبي، صلى اللّه عليه وسلم. وفي قوله تعالى:

{بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ} خمسة أقوال.

احدها: ان الغضب الاول لاتخاذهم العجل.

والثاني: لكفرهم بمحمد، حكاه السدي عن ابن مسعود و ابن عباس.

والثاني: ان الاول لتكذيبهم رسول اللّه.

والثاني: لعداوتهم لجبريل، رواه شهر عن ابن عباس.

والثالث: أن الاول حين قالوا: {ٱللّه مَغْلُولَةٌ} المائدة: ٦٤.

والثاني: حني كذبوا نبي اللّه رواه ابو صالح عن ابن عباس واختاره الفراء.

والرابع: ان الاول لتكذيبهم بعيسى والإنجيل.

والثاني: لتكذيبهم بمحمد والقرآن، قاله الحسن والشعبي، وعكرمة، و أبوالعالية، وقتادة، و مقاتل.

والخامس: ان الأول لتبديلهم التوراة.

والثاني: لتكذيبهم محمدا، صلى اللّه عليه وسلم، قاله مجاهد والمهين: المذل.

٩١

قوله تعالى: {ٱللّه} يعني: القرآن؛ {قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} يعنون: التوراة. وفي قوله: {وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءهُ} قولاان.

احدهما: أنه اراد بما سواه ومثله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} النساء: ٢٤ قاله الفراء، و مقاتل.

والثاني: بما بعد الذي أنزل عليهم، قاله الزجاج. قوله تعالى:

{وَهُوَ ٱلْحَقُّ} يعود على ما وراءه.

{فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاء ٱللّه} هذا جواب قولهم:

{نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} فان الأنبياء وتقتلون بمعنى: قتلتم فوضع المستقبل في موضع الماضي، لأت الوهم لا يذهب الى غيره. وأنشدوا في ذلك:

شهد الحطيئة حين يلقى ربه  أن الوليد أحق بالعذراراد: يشهد.

٩٢

قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءكُم مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ} فيها قولان.

احدهما: ما في الألواح من الحلال والحرام، قاله ابن عباس.

والثاني: الآيات التسع، قاله مقاتل.

وفي هاء «بعده» قولان.

احدهما: انها تعود الى موسى فمعناه: من بعد انطلاقه الى الجبل، قاله ابن عباس، و مقاتل.

والثاني: أنها تعود الى المجيء لأن «جاءكم» يدل على المجيء. وفي ذكر عبادتهم العجل تكذيب لقولهم: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} [البقرة:٩١]

٩٣

قوله تعالى: {قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} قال ابن عباس: كانوا إذا نظروا الى الجبل قالوا: سمعنا وأطعنا وإذا نظروا الى الكتاب؛ قالوا: سمعنا وعصينا. قوله تعالى:

{وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ} أي: سقوا حب العجل فحذف المضاف؛ وهو الحب وأقام المضاف اليه مقامه، ومثله قوله:

{ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ} البقرة: ١٩٧ أي: وقت الحج وقوله:

{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجّ} التوبة: ١٩ أي اجعلتم صاحب سقاية الحاج وقوله:

{وَاسْـئَلُواْ * ٱلقَرْيَةِ} يوسف: ٨٢ أي أهلها وقوله:

{إِذًا لأَذَقْنَـٰكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَوٰةِ} الاسراء: ٧٥ أي ضعف عذاب الحياة. وقوله:

{لَّهُدّمَتْ صَوٰمِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوٰتٌ} الحج: ٤٠ أي بيوت صلوات. وقوله:

{بَلْ مَكْرُ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ} سبأ: ٣٠ أي: مكركم فيهما. وقوله:

{فَلْيَدْعُ} العلق: ١٧ أي: أهله.

ومن هذا قول الشاعر:

أنبئت أن النار بعدك اوقدت  واستب بعدك يا كليب المجلس

أي: أهل المجلس وقال الآخر: وشر المنايا ميت بين أهله. أي: وشر المنايا منية ميت بين اهله. قوله تعالى:

{بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَـٰنُكُمْ} أي أن تكذبوا المرسلين، وتقتلوا النبيين بغير حق، وتكتموا الهدى. قوله تعالى:

{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} في «إن» قولان.

احدهما: انها بمعنى: الجحد فالمعنى: ما كنتم مؤمنين إذ عصيتم اللّه، وعبدتم العجل.

والثاني: أن تكون «إن» شرطا معلقا بما قبله، فالمعنى: إن كنتم مؤمنين؛ فبئس الإيمان إيمان يأمركم بعبادة العجل، وقتل الانبياء، ذكرهما ابن الأنباري.

٩٤

انظر تفسير الآية ٩٥

٩٥

قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ} كانت اليهود تزعم ان اللّه تعالى لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل، وولده فنزلت هذه الآية. ومن الدليل على علمهم بان النبي صلى اللّه عليه وسلم. صادق، انهم ما تمنوا الموت، واكبر دليل على صدقه أنه أخير أنهم لا يتمنونه بقوله تعالى:

{وَلَن يَتَمَنَّوْهُ} فما تمناه أحد منهم. والذي قدمته أيديهم؛ قبل الأنبياء وتكذيبهم وتبديل التوراة.

٩٦

قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ} اللام: لام القسم، والنون. توكيد له، والمعنى: ولتجدن اليهود في حال دعائهم الى تمني الموت أحرص الناس على حياة، وأحرص من الذين أشركوا.

وفي «الذين أشركوا» قولان.

احدهما: أنهم: المجوس، قاله ابن عباس، وابن قتيبة و الزجاج.

والثاني: مشركو العرب، قاله مقاتل.

قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ} في الهاء والميم من «احدهم» قولان.

احدهما: انها تعود على الذين أشركوا، قاله الفراء.

والثاني: ترجع الى اليهود، قال مقاتل، قال الزجاج. وإنما ذكر «ألف سنة» لأنها نهاية ما كانت المجوس تدعوبها لملوكها، كان الملك يحيا بأن يقال له: عش ألف نيروز، وألف مهرجان.

قوله تعالى: «وما هو» فيه قولان ذكرهما الزجاج.

احدهما: انه كناية عن أحدهم الذي جرى ذكره تقديره وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره.

والثاني: ان يكون هو كناية عما جرى من التعمير فيكون المعنى: وما تعميره بمزحزخه من العذاب، ثم جعل ان «يعمر» مبينا عنه كأنه قال: ذلك الشىء الدنيء ليس بمزحزحه من العذاب.

٩٧

انظر تفسير الآية ٩٨

٩٨

قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ} قال ابن عباس: أقبلت اليهود الى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: من يأتيك من الملائكة قال: جبريل، فقالوا: ذاك ينزل بالحرب والقتال ذاك عدونا، فنزلت هذه الآية والتي تليها.

وفي جبريل إحدى عشرة لغة.

إحداها: جبريل بكسر الجيم والراء من غير همز، وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ ابن عامر، وابو عمرو، قال ورقة بن نوفل:

و جبريل يأتيه وميكال معهما  من اللّه وحي يشرح الصدر منزل

وقال عمران بن حطان:

والروح جبريل فيهم لاكفاء له  وكان جبريل عند اللّه مأمونا

وقال حسان:

و جبريل رسول اللّه فينا  وروح القدس ليس له كفاء

واللغة الثانية: جبريل بفتح الجيم وكسر الراء وبعدها ياء ساكنة من غير همز على وزن فعليل وبها قرأ الحسن البصري وابن كثير وابن محيصن وقال الفراء: لا أشتهيها لأنه ليس في الكلام فعليل ولا أرى الحسن قرأها إلا وهو صواب لأنه اسم اعجمي.

والثالثة: جبرئيل بفتح الجيم والراء وبعدها همزة مكسورة على وزن: جبرعيل، وبها قرأ الأعمش، وحمزة، والكسائي، قال الفراء: وهي لغة تميم وقيس، وكثير من أهل نجد. وقال الزجاج: هي أجود اللغات وقال جرير:

عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد  وبجبرئيل وكذبوا ميكالا

والرابعة: جبرئل، بفتح الجيم والراء وهمزة بين الراء اللازم مكسورة من غير مد، على وزن جبرعل، رواها ابو بكر عن عاصم.

والخامسة: جبرئل بفتح الجيم وكسر الهمزة وتشديد اللام،

وهى قراءة أبان عن عاصم ويحيى بن يعمر.

والسادسة: جبرائيل، بهمزة مكسورة بعدها ياء مع الألف.

والسابعة: جبراييل، بيائين بعد الألف أولهما مكسورة.

والثامنة: جبرين، بفتح الجيم ونون مكان اللام.

والتاسعة: جبرين، بكسر الجيم وبنون، قال الفراء: هي لغة بني أسد. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن الانباري قال: في جبريل تسعة لغات، فكرهن. وذكر ابن الانباري في كتاب «الرد على من خالف مصحف عثمان» جبرائل، بفتح الجيم وإثبات الالف مع همزة مكسورة ليس بعدها ياء. وجبرئين، بفتح الجيم مع همزة مكسورة بعدها يا ونون.

فأما ميكائيل، ففيه خمس لغات.

إحداهن: ميكال مثل: مفعال بغير همز، وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ ابو عمرو وحفص عن عاصم.

والثانية: ميكائيل باثبات ياء ساكنة بعد الهمزة. مثل: ميكاعيل، وهي لغة تميم وقيس، وكثير من أهل نجد، وبها قرأ ابن عامر، وابن وحمزة، والكسائي، وابو بكر عن عاصم.

والثالثة: ميكائل بهمزة مكسورة بعد الألف من غير ياء مثل، ميكاعل، وبها قرأ نافع وابن شنبوذ، وابن الصباح جميعا عن قنبل.

والرابعة: ميكئل على وزن ميكعل، وبها قرأ ابن محيصن.

والخامسة: ميكائين بهمزة معها ياء ونون بعد الالف، ذكرها ابن الانباري. قال الكسائي: جبريل وميكائيل، اسمان لم تكن العرب تعرفهما فلما جاءا عربتهما قال ابن عباس، جبريل وميكائيل كقولك: عبد اللّه وعبد الرحمن ذهب الى أن «إيل» اسم اللّه واسم الملك «جبر» و«ميكا» وقال عكرمة: معنى جبريل: عبد اللّه ومعنى ميكائيل: عبيد اللّه وقد دخل جبريل وميكائيل في الملائكة، لكنه أعاد ذكرهما لشرفهما، كقوله تعالى: {فِيهِمَا فَـٰكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} الرحمن: ٦٨ وإنما قال:

{فَإِنَّ ٱللّه عَدُوٌّ لِّلْكَـٰفِرِينَ} ولم يقل: لهم ليدل على أنهم كافرون بهذه العداوة.

٩٩

{وَلَقَدْ اَنْزَلْنَاۤ اِلَيْكَ اٰيَاتٍ بَيِّنَاتٍۚ وَمَايَكْفُرُ بِهَاۤ اِلَّا الْفَاسِقُونَ}

١٠٠

قوله تعالى: {أَوْ كُلَّمَا عَـٰهَدُواْ عَهْدًا} الواو واو العطف، أدخلت عليها ألف الاستفهام. قال ابن عباس و مجاهد: والمشار اليهم: اليهود.

وقيل: العهد الذي عاهدوه انهم قالوا: واللّه لئن خرج محمد لنؤمنن به، وروي عن عطاء انها العهود التي كانت بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبينهم، فنقضوها، كفعل قريظة والنضير. ومعنى: نبذه رفضه.

١٠١

قوله تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ} يعني اليهود. والكتاب: التوراة.

وفي قوله تعالى: {كِتَـٰبِ ٱللّه} قولان.

احدهما: القرآن.

والثاني: انه التوراة لأن الكافرين بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، قد نبذوا التوراة.

١٠٢

قوله تعالى: {وَٱتَّبِعُـواْ ما تتلوا ٱلشَّيـٰطِينِ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: ان اليهود كانوا لا يسألون النبي عن شئ من التوراة إلا أجابهم، فسألوه عن السحر وخاصموه، به فنزلت هذه الآية، قاله أبوالعالية

والثاني: انه لما ذكر سليمان في القرآن قالت يهود المدينة: ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ابن داود كان نبيا؟ٰ واللّه ما كان إلا ساحرا، فنزلت هذه الآية. قاله ابن اسحاق. وتتلوا، بمعنى: تلت، و «على» بمعنى: «في» قاله المبرد. قال الزجاج: وقوله:

{عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ} أي: على عهد سليمان.

وفي كيفية ما تلت الشياطين على ملك سليمان ستة أقوال.

احدها: انه لما خرج سليمان عن ملكه؛ كتبت الشياطين السحر، ودفنته في مصلاه، فلما توفي استخرجوه، وقالوا: بهذا كان يملك الملك، ذكر هذا المعنى ابو صالح عن ابن عباس، وهو قول مقاتل.

والثاني: ان آصف كان يكتب ما يأمر به سليمان، ويدفنه تحت كرسيه فلما مات سليمان، استخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكذبا، وأضافوه الى سليمان، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.

والثالث: ان الشياطين كتبت السحر بعد موت سليمان، ثم اضافته اليه، قاله عكرمة.

والرابع: ان الشياطين ابتدعت السحر، فأخذه سليمان فدفنه تحت كرسيه لئلا يتعمله الناس، فلما قبض استخرجته فعلمته الناس، وقالوا: هذا علم سليمان، قاله قتادة.

والخامس: ان سليمان أخذ عهود الدواب، فكانت الدابة إذا أصابت إنسانا طلب إليها بذلك العهد، فتخلي عنه، فزاد السحرة السجع والسحر، قاله ابو مجلز.

والسادس: ان الشياطين كانت في عهد سليمان تسترق السمع، فتسمع من كلام الملائكة ما يكون في الارض من موت او غيث او أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا، حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب، وفشا في بني اسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس، فجمع تلك الكتب في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع ان يدنو من الكرسي إلا احترق وقال: لا أسمع أحدا يذكر ان الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه فلما مات سليمان؛ جاء شيطان الى نفر من بني اسرائيل فدلهم على تلك الكتب وقال: إنما كان سليمان يضبط أمر الخلق بهذا، ففشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، واتخذ بنوا اسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد صلى اللّه عليه وسلم، خاصموه بها، هذا قول السدي. وسليمان اسم عبراني، وقد تكلمت به العرب في الجاهلية، وقد جعله النابغة سليما ضرورة فقال: ونسج سليم كل قضاء ذائل . واضطر الحطيئة فجعله: سلاما فقال: فيه الرماح وفيه كل سابغة  جدلاء محكمة من نسج سلام وارادا. جميعا: داود ابا سليمان، فلم يستقم لهما الشعر، فجعلاه: سليمان وغيراه.كذلك قرأته على شيخنا ابي منصور اللغوي. وفي قوله:

{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـٰنُ} دليل على كفر الساحر، لأنهم نسبوا الى السحر، لا الى الكفر. قوله تعالى:

{وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ} وقرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وعاصم، بتشديد نون {وَلَـٰكِنِ} ونصب نون {ٱلشَّيـٰطِينِ}. وقرأ ابن عامر، و حمزة، والكسائي، بتخفيف النون من{لَكِنِ} ورفع نون {ٱلشَّيـٰطِينِ}. قوله تعالى:

{وَمَا أُنزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ} وقرأ ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، والزهري {ٱلْمَلَكَيْنِ} بكسر اللام، وقراءة الجمهور أصح.

وفي «ما» قولان.

احدهما: انها معطوفة على «ما» الأولى، فتقديره: واتبعوا ما تتلو الشياطين وما أنزل على الملكين.

والثاني: انها معطوفة على السحر، فتقديره: يعلمون الناس السحر، ويعملونهم ما أنزل على الملكين.

فان قيل: إذا كان السحر نزل على الملكين، فلماذا كره؟

فالجواب من وجهين، ذكرهما، ابن السري،

احدهما: انهما كانا يعلمان الناس ما السحر، ويأمران باجتنابه، وفي ذلك حكمة؛ لأن سائلا لو قال: ما الزني؟ لوجب أن يوقف عليه، ويعلم انه حرام.

والثاني: أنه من الجائز ان يكون اللّه تعالى امتحن الناس بالملكين، فمن قبل التعلم كان كافرا، ومن لم يقبله فهو مؤمن، كما امتحن بنهر طالوت.

وفي الذي انزل على الملكين قولان.

احدهما: انه السحر، روي عن ابن مسعود والحسن، وابن زيد.

والثاني: انه التفرقة بين المرء وزوجه، لا السحر، روي عن مجاهد وقتادة، و عن ابن عباس. كالقولين. قال الزجاج: وهذا من باب السحر ايضا. الإشارة الى قصة الملكين ذكر العلماء ان الملكين انما انزلا الى الارض لسبب، وهو انه لما كثرت خطايا بني آدم، دعت عليهم الملائكة فقال اللّه تعالى: لو انزلت الشهوة والشياطين منكم منزلتهما من بني آدم، لفعلتم مثل ما فعلوا، فحدثوا انفسهم أنهم إن ابتلوا، اعتصموا فأوحى اللّه إليهم أن اختاروا من أفضلكم ملكين، فاختاروا هاروت وماروت. وهذا مروي عن ابن مسعود، و ابن عباس.

واختلف العلماء: ماذا فعلا من المعصية على ثلاثة أقوال.

احدها: أنهما زنيا وقتلا وشربا الخمرة، قاله ابن عباس.

والثاني: انهما جارا في الحكم، قاله عبيد اللّه بن عتبة.

والثالث: انهما هما بالمعصية فقط، ونقل عن علي رضي اللّه عنه، ان الزهرة كانت امرأة جميلة وانها خاصمت الى المللكين هاروت وماروت، فراودها كل واحد منهما على نفسها، ولم يعلم صاحبه، وكانا يصعدان السماء آخر النهار، فقالت لهما: بم تهبطان وتصعدان؟ قالا باسم اللّه الأعظم، فقالت ما أما بمواتيتكما الى ما تريدان حتى تعلمانيه، فعلماها إياه، فطارت الى السماء فمسخها اللّه كوكبا.

وفي الحديث ان النبي صلى اللّه عليه وسلم لعن الزهرة وقال إنها فتنت ملكين إلا أن هذه الأشياء بعيد عن الصحة وتأول بعضهم هذا فقال إنه لما رأى الكوكب ذكر تلك المرأة، لاأن المرأة مسخت نجما.

واختلف العلماء في كيفيفة عذابهما؛ فروي عن ابن مسعود أنهما معلقان بشعورهما الى يوم القيامة، وقال مجاهد: إن جبا ملى نارا فجعلا فيه.فأما بابل؛ فروي عن الخليل ان ألسن الناس تبلبلت بها،

واختلفوا في حدها على ثلاثة اقوال.

احدها: انها الكوفة وسوادها، قاله ابن مسعود.

والثاني: انها من نصيبين الى رأس العين، قاله قتادة.

والثالث: انها جبل في وهذه من الأرض، قاله السدي. قوله تعالى:

{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} أي اختبار وابتلاء. قوله تعالى:

{إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللّه} يريد: بقضائه. {وَلَقَدْ عَلِمُواْ}: إشارة الى اليهود {لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ} يعني: اختاره، يريد: السحر واللم لام اليمين. فأما الخلاق، فقال الزجاج: هو النصيب والوافر من الخير. قوله تعالى:

{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ} أي: باعوها به{لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} العقاب فيه.

فصل

اختلف الفقهاء في حكم الساحر؛ فمذهب إمامنا احمد رضي اللّه عنه يكفر بسحره، قتل به، او لم يقتل، وهل تقبل توبته؟ على روايتين.

وقال الشافعي: لا يكفر بسحره فان قتل بسحره، وقال: سحري يقتل مثله، وتعمدت ذلك قتل قودا. وإن قال: قد يقتل، قد يخطى لم يقتل، وفيه الدية فأما ساحر أهل الكتاب، فانه لا يقتل عند احمد إلا أن يضر بالمسلمين، فيقتل لنقض العهد، وسواء في ذلك الرجل والمرأة.

وقال أبو حنيفة: حكم ساحر أهل الكتاب حكم ساحر المسلمين في ايجاب القتل، فأما المراة الساحرة فقال: تحبس ولا تقتل.

١٠٣

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ} يعني: الهيود، والمثوبة: الثواب {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} قال الزجاج: أي: يعلمون بعلمهم.

١٠٤

قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رٰعِنَا} قرأ الجمهور بلا تنوين، وقرأ الحسن، والأعمش، وابن محيصن، بالتنوين «وراعنا» بلا تنوين من راعيت، وبالتنوين من الرعونة، قال ابن قتيبة: راعنا بالتنوين: هو اسم مأخوذ من الرعن و الرعونة، أراد: لا تقولوا جهلا ولا حمقا.

وقال غيره: كان الرجل إذا أراد استنصات صاحبه، قال أرعني سمعك، فكان المنافقون يقولون: راعنا، يريدون: انت أرعن. وقوله:

{ٱنظُرْنَا} بمعنى: انتظرنا، وقال مجاهد: انظرنا اسمع منا، وقال ابن زيد: لا تعجل علينا.

١٠٥

قوله تعالى: ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب. قال ابن عباس: هم يهود المدينة ونصارى نجران، فالمشركون مشركو اهل مكة.

{أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم} أي: على رسولكم.

{مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ} أراد: النبوة والإسلام. وقال أبو سليمان الدمشقي: أراد بالخير: العلم والفقه والحكمة. {وَٱللّه يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء}

في هذه الرحمة قولان.

احدهما: انها النبوة، قاله علي بن أبي طالب، ومحمد بن علي بن الحسين، و مجاهد و الزجاج.

والثاني: انها الاسلام، قاله ابن عباس و مقاتل.

١٠٦

قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ} سبب نزولها: ان اليهود قالت لما نسخت القبلة: إن محمدا يحل لأصحابه إذا شاء. ويحرم عليهم إذا شاء: فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: النسخ في اللغة: إبطال شئ وإقامة آخر مقامه، تقول العرب: نسخت الشمس الظل: إذا أذهبته، وحلت محله،

وفي المراد بهذا النسخ ثلاثة أقوال.

احدها: رفع اللفظ والحكم.

والثاني: تبديل الآية بغيرها رويا، عن ابن عباس. والأول: قول السدي.

والثاني قول مقاتل.

والثالث: رفع الحكم مع بقاء اللفظ، رواه مجاهد عن أصحاب ابن مسعود، وبه قال أبوالعالية، وقرأ ابن عامر: {مَا نَنسَخْ} بضم النون، وكسر السيد قال ابو علي أي: ما نجده منسوخا كقولك: احمدت فلانا أي: وجدته محمودا وإنما يجده منسوخا بنسخه إياه. قوله تعالى:

{أَوْ نُنسِهَا} قرأ ابن كثير وابو عمرو: {ننسأها} بفتح النون مع الهمزة، والمعنى: نؤخرها قال أبو زيد: نسأت الإبل عن الحوض، فأنا انسأها: إذا اخرتها، ومنه: النسيئة في البيع.

وفي معنى نؤخرها ثلاثة أقوال.

احدها: نؤخرها عن النسخ فلا ننسخها، قاله الفراء.

والثاني: نؤخر إنزالها فلا ننزلها البتة.

والثالث: نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها، حكاهما ابو علي الفارسي. وقرأ سعد بن ابي وقاص: {تنسها} بتاء مفتوحة ونون وقرأ سعيد بن المسيب والضحاك تنسها بضم التاء، وقرأ نافع: {أوننسها} بنونين، الأولى مضمومة، والثاينة ساكنة أراد: أو ننسكها من النسيان. قوله تعالى:

{نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا} قال ابن عباس: بألين منها، وأيسر على الناس. قوله تعالى:

{أَوْ مِثْلِهَا} أي: في الثواب والمنفعة، فتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار.

١٠٧

{أَلَمْ تَعْلَمْ} لفظه لفظ الاستفهام. ومعناه التوقيف والتقرير. والملك في اللغة: تمام القدرة واستحكامها، فاللّه عز وجل يحكم بما يشاء على بعاده، وبغير ما يشاء من أحكام.

١٠٨

قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْـئَلُواْ رَسُولَكُمْ} في سبب نزولها خمسة أقوال.

احدها: ان رافع بن حريملة، ووهب بن زيد، قالا لرسول اللّه: ائتنا بكتاب نقرؤه تنزله من السماء علينا، وفجر لنا أنهارا حتى نتبعك فنزلت، الآية قاله ابن عباس.

والثاني: أن قريشا سألت النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، فقال: (هو لكم كالمائدة لبني اسرائيل [إن كفرتم] فأبوا) قاله مجاهد.

والثالث: ان رجلا قال: يا رسول اللّه لو كانت كفارتنا ككفارات بني اسرائيل، فقال: النبي صلى اللّه عليه وسلم اللّهم لا نبغيها، ما أعطاكم اللّه، خير مما أعطى بني اسرائيل، كانوا إذا أصاب أحدهم الخطيئة؛ وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فان كفرها كانت له خزينا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة، فقد أعطاكم اللّه خيرا مما أعطى بني اسرائيل. فقال: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللّه يَجِدِ ٱللّه غَفُوراً رَّحِيماً} النساء: ١١٠: وقال: الصلوات الخمس والجمعة الى الجمعة كفارة لما بينهن فنزلت هذه الآية. قال أبوالعالية.

والرابع: أن عبد اللّه بن أبي أمية المخزومي اتى النبي، صلى اللّه عليه وسلم، في رهط من قريش، فقال: يا محمد واللّه لا أؤمن بك، حتى تأتي باللّه والملائكة قبيلا، فنزلت هذه الآية. ذكره ابن السائب.

والخامس: أن جماعة من المشركين جاؤوا الى النبي صلى اللّه عليه وسلم،

فقال بعضهم: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا.

وقال آخر: ان اؤمن لك حتى تسير لنا جتال مكة، وقال عبد اللّه بن أبي أمية: لن أؤمن لك حتى تأتي بكتاب من السماء، فيه: من اللّه رب العالمين الى بن أبي أمية: اعلم أني قد ارسلت محمدا الى الناس.

وقال آخر: هلا جئت بكتابك مجتمعا، كما جاء موسى بالتوراة. فنزلت هذه الآية. ذكره محمد بن القاسم الأنباري.

وفي المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم قريش، قاله ابن عباس و مجاهد.

والثاني: اليهود، قاله مجاهد.

والثالث: جميع العرب، قاله أبو سليمان الدمشقي.

وفي «ام» قولان.

احدهما: انها بمعنى بل تقول العرب: هل لك علي حق، ام انت معروف بالظلم. يريدون: بل أنت. وأنشدوا: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى  وصورتها أم أنت في العين أملح ذكره الفراء و الزجاج

والثاني: بمعنى الاستفهام. فان اعترض معترض، فقال: إنما تكون للاستفهام إذا كانت مردودة على استفهام قبلها، فأين الاستفهام الذي تقدمها؟ فعنه جوابان.

احدهما: انه قد تقدمها استفهام، وهو قوله

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللّه عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} ذكره الفراء: وكذلك قال ابن الأنباري: هي مردودة على الألف في:

{أَلَمْ تَعْلَمْ} فإن اعترض على هذا الجواب،

فقيل: كيف يصح العطف ولفظ: {أَلَمْ تَعْلَمْ} ينبىء عن الواحد، و {تُرِيدُونَ} عن جماعة؟

فالجواب: أنه إنما رجع الخطاب من التوحيد الى الجمع، لأن ما خوطب به النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقد خوطبت به أمته، فاكتفى به من أمته في المخاطبة الأولى، ثم أظهر المعنى في المخاطبة الثانية. ومثل هذا قوله تعالى: {يأيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} الطلاق: ١ ذكر هذا الجواب ابن الأنباري فأما.

الجواب الثاني عن {أَمْ} فهو أنها للاستفهام، وليست مردودة على شيء. قال الفراء: إذا توسط الاستفهام الكلام؛ ابتدىء بالألف وبأم، وإذا لم يسبقه كلام لم يكن إلا بالألف أو «بهل» وقال ابن الانباري: «أم»: جارية مجرى «هل» غير أن الفرق بينهما أن هل استفهام مبتدأ لا يتوسط ولا يتأخر و «أم» استفهام متوسط، لا يكون إلا بعد كلام. فأما الرسول هاهنا؛ فهو محمد صلى اللّه عليه وسلم، والذي سئل موسى من قبل قولهم: {أَرِنَا ٱللّه جَهْرَةً} النساء: ١٥٣.

وهل سألوا ذلك نبيا أم لا؟ فيه قولان.

احدهما: أنهم سألوا ذلك فقالوا {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ...}  {تَأْتِىَ بِٱللّه وَٱلْمَلَـئِكَةِ قَبِيلاً} الاسراء: ٩٢. قاله ابن عباس.

والثاني: انهم بالغوا في المسائل، فقيل لهم بهذه الآية لعلكم تريدون أن تسألوا محمدا أن يريكم اللّه جهرة، قاله ابو سليمان الدمشقي. والكفر: الجحود، والإيمان: التصديق وقال أبوالعالية: المعنى: ومن يتبدل الشدة بالرخاء. وسواء السبيل: وسطه.

١٠٩

قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ}

في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن حيي بن أخطب وأبا ياسر كانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.

والثاني: أن كعب بن الأشرف كان يهجوا النبي ،ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول اللّه حين قدمها، فأمر النبي بالصفح عنهم، فنزلت هذه الآية، قاله عبد اللّه بن كعب بن مالك.

والثالث: أن نفرا من اليهود، دعوا حذيفة وعمارا الى دينهم فأبيا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى «ود» احب وتمنى. وأهل الكتاب: اليهود. قال الزجاج: من عند أنفسهم موصول: ب {وَدَّ كَثِيرٌ} لا بقوله: {حَسَدًا} لأن حسد الإنسان لا يكون إلا من عند نفسه. والمعنى: مودتهم لكفركم من عند أنفسهم، لا أنه عندهم الحق. فأما الحسد فهو تمني زوال النعمة عن المحسود، وإن لم يصر للحاسد مثلها، وتفارقه الغبطة، فانها تمني مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط. وحد بعضهم الحسد فقال: هو أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الأخيار، ولا يجوز أن يكون الفاضل حسودا، لأن الفاضل يجري على ما هو الجميل. وقال بعض الحكماء: كل أحد يمكن ان ترضيه إلا الحاسد، فانه لا يرضيه إلا زوال نعمتك. وقال الأصمعي: سمعت اعرابيا، يقول: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحاسد، حزن لازم ونفس دائم، وعقل هائم، وحسرة لا تنقضي. قوله تعالى:

{حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللّه بِأَمْرِهِ} قال ابن عباس: فجاء اللّه بأمره في النضير بالجلاء والنفي، وفي قريظة بالقتل والسبي.

فصل

وقد روي عن ابن مسعود، و ابن عباس، و أبي العالية، وقتادة، رضي اللّه عنهم: ان العفو والصفح منسوخ بقوله تعالى: {قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللّه وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللّه وَرَسُولُهُ} التوبة: ٢٩. وأبى هذا القول جماعة من المفسرين والفقهاء، واحتجوا بأن اللّه لم يأمر بالصفح والعفو مطلقا، وإنما أمر به الى غاية، وما بعد الغاية يخالف حكم ما قبلها، وما هذا سبيله لا يكون من باب المنسوخ، بل يكون الأول قد انقضت مدته بغايته، والآخر يحتاج الى حكم آخر.

١١٠

قوله تعالى: {تَجِدُوهُ} أي: تجدوا ثوابه.

١١١

انظر تفسير الآية ١١٢

١١٢

قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ} قال ابن عباس: اختصم يهود المدينة و نصارى نجران عند النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، ولا يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وكفروا بالإنجيل وعيسى. وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء، وكفروا بالتوراة وموسى، فقال اللّه تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} واعلم أن الكلام في هذه الآية. مجمل، ومعناه: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا. والهود، جمع: هائد {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} أي: ذاك شى يتمنونه، وظن يظنونه، هذا معنى قول ابن عباس و مجاهد. {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـٰنَكُمْ} أي: حجتكم إن كنتم صادقين بأن الجنة لا يدخلها الى من كان هودا أو نصارى. ثم بين تعالى بأنه ليس كما زعموا فقال: {بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} وأسلم، بمعنى: اخلص.

وفي الوجه قولان.

احدهما: أنه الدين.

والثاني: العمل. قوله تعالى:

{وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: في عمله؛ {فَلَهُ أَجْرُهُ} قال الزجاج: يريد: فهو يدخل الجنة.

١١٣

قوله تعالى: {وَهُمْ يَتْلُونَ ٱلْكِتَـٰبَ} أي: كل منهم يتلوا كتابه بتصديق ما كفر به، قاله السدي، وقتادة.

{كَذٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لاَّ يَعْلَمُونَ} وفيهم قولان.

احدهما: انهم مشركوا العرب، قاله لمحمد وأصحابه لستم على شيء قاله السدي عن أشياخه.

والثاني: انهم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى، كقوم نوح، وهود، و صالح، قاله عطاء. قوله تعالى:

{فَٱللّه يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ} قال الزجاج: يريد حكم الفصل بينهم فيريهم من يدخل الجنة عيانا ومن يدخل النار عيانا فأما الحكم بينهم في العقد فقد بينه لهم في الدنيا بما اقام على الصواب من الحجج.

١١٤

قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَـٰجِدَ ٱللّه} اختلفوا فيمن نزلت على قولين.

احدهما: أنها نزلت في الروم، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس من أجل أن بني اسرئيل قتلوا يحيى بن زكريا، فخرب وطرحت الجيف فيه، قاله ابن عباس في آخرين.

والثاني: أنها في المشركين الذين حالوا بين رسول اللّه وبين مكة يوم الحديبة، قاله ابن زيد.

وفي المراد بخرابها قولان.

احدهما: أنه نقضها،

والثاني: منع ذكر اللّه فيها.

قوله تعالى: {أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ} فيه قولان.

احدهما: أنه إخبار عن احوالهم بعد ذلك. قال السدي: لا يدخل رومي بيت المقدس إلا وهو خائف أن يضرب عنقه، أو قد أخيف بأداء الجزية.

والثاني: أنه خبر في معنى الأمر، تقديره: عليكم بالجد في جهادهم كي لا يدخلها احد إلا وهو خائف.

{لَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أن خزيهم الجزية، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه فتح القسطنطينية، قاله السدي.

والثالث: أنه طردهم عن المسجد الحرام فلا يدخله مشرك أبدا ظاهرا، قاله ابن زيد.

١١٥

قوله تعالى: {وللّه المشرق والمغرب} في نزولها اربعة أقوال.

احدها: أن الصحابة كانوا مع رسول اللّه في غزوة في ليلة مظلمة، فلم يعرفوا القبلة، فجعل كل واحد منهم مسجدا بين يديه وصلى، فلما أصبحوا إذا هم على غير القبلة، فذكروا ذلك لرسول اللّه، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، رواه عامر ابن ربيعه.

والثاني: أنها نزلت في التطوع بالنافلة، قاله ابن عمر.

والثالث: أنه لما نزل قوله تعالى {ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. غافر ٦٠. قالوا: الى أين فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.

والرابع: أنه لما مات النجاشي، وأمرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بالصلاة عليه؛ قالوا: أنه كان لا يصلي الى القبلة؛ فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. قوله تعالى:

{فَثَمَّ وَجْهُ ٱللّه} فيه قولان.

احدهما: فثم اللّه، يريد: علمه معكم اين كنتم، وهو ابن عباس، و مقاتل.

والثاني: فثم قبلة اللّه، قاله عكرمة و مجاهد. والواسع: الذي وسع غناه مفاقر عباده، ورزقه جميع خلقه. والسعة في كلام العرب: الغني.

فصل

وهذه الآية مستعملة الحكم في المجتهد إذا صلى إلى غير القبلة، وفي صلاة المتطوع على الراحلة، والخائف. وقد ذهب قوم إلى نسخها، فقالوا: إنها لما نزلت؛ توجه رسول اللّه إلى بيت المقدس، ثم نسخ ذلك بقوله{وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} البقرة: ١٤٤. وهذا مروي عن ابن عباس. قال شيخنا علي بن عبيد اللّه: وليس في القرآن أمر خاص بالصلاة إلى بيت المقدس، وقوله {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللّه} ليس صريحا بالأمر بالتوجه إلى بيت المقدس، بل فيه ما يدل على أن الجهات كلها سواء في جواز التوجه إليها، فإذا ثبت هذا؛ دل على أنه وجب التوجه إلى بيت المقدس بالسنة، ثم نسخ بالقرآن.

١١٦

قوله تعالى: {وَقَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللّه وَلَدًا} اختلفوا فيمن نزلت على اربعة أقوال.

احدها: أنها نزلت في اليهود إذ جعلوا عزيرا ابن اللّه، قاله ابن عباس.

والثاني: أنها نزلت في نصارى نجران، حيث قالوا عيسى ابن اللّه، قاله مقاتل.

والثالث: أنها في النصارى ومشركي العرب، لأن النصارى قالت عيسى ابن اللّه، والمشركين قالوا الملائكة بنات اللّه، ذكره إبراهيم بن السري.

والرابع: أنها في اليهود والنصارى ومشركي العرب، ذكره الثعلبي.

فأما القنوت؛ فقال الزجاج هو في اللغة بمعنيين.

احدهما: القيام.

والثاني: الطاعة والمشهور في اللغة والاستعمال أن القنوت: الدعاء في القيام فالقانت القائم بأمر اللّه. ويجوز أن يقع في جميع الطاعات، لأنه إن لم يكن قيام على الرجلين؛ فهو قيام بالنية. وقال ابن قتيبة: لا أرى أصل القنوت إلا الطاعة، لأن جيمع الخلال من الصلاة، والقيام فيها والدعاء وغير ذلك يكون عنها.

وللمفسرين في المراد بالقنوت هاهنا ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الطاعة، قاله ابن عباس، وابن جبير، و مجاهد، وقتادة.

والثاني: أنه الإقرار بالعبادة، قاله عكرمة، والسدي .

والثالث: القيام، قاله الحسن والربيع.

وفي معنى القيام قولان.

احدهما: أنه القيام له بالشهادة بالعبودية.

والثاني: أنه القيام بين يديه يوم القيامة.

فان قيل: كيف عم بهذا القول وكثير من الخلق ليس له بمطيع؟

فعنه ثلاثة اجوبة.

احدها: أن يكون ظاهرها ظاهر العموم ومعناها معنى الخصوص والمعنى: كل أهل الطاعة له قانتون.

والثاني: أن الكفار تسجد ظلالهم للّه بالغدوات والعشيات، فنسب القنوت إليهم بذلك.

والثالث: أن كل مخلوق قانت هل بأثر صنعه فيه، وجري أحكامه عليه، فذلك دليل على ذله للرب. ذكرهن ابن الانباري.

١١٧

قوله تعالى: {بَدِيعُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ} البديع: المبدع، وكل من أنشأ شيئا لم يسبق إليه قيل له: أبدعت. قال الخطابي: البديع، فعيل بمعنى: مفعل، ومعناه: أنه فطر الخلق مخترعا له لا على مثال سبق. قوله تعالى:

و{إِذَا قَضَى أَمْرًا} قال ابن عباس: معنى القضاء: الإرادة. وقال مقاتل: إذا قضى أمرا في علمه، فانما يقول له: كن فيكون.

والجمهور على ضم نون {فَيَكُونُ} بالرفع على القطع. والمعنى: فهو يكون. وقرأ ابن عامر بنصب النون. قال مكي ابن أبي طالب: النصب على الجواب، لكن فيه بعد.

فصل

وقد استدل أصحابنا على قدم القرآن بقوله: {كُنَّ} فقالوا: لو كانت «كن» مخلوقة؛ لافتقرت إلى إيجادها بمثلها وتسلسل ذلك، والمتسلسل محال.

فان قيل: هذا خطاب لمعدوم؛

فالجواب أنه خطاب تكوين يظهر أثر القدرة، ويستحيل أن يكون المخاطب موجودا، لأنه بالخطاب كان، فامتنع وجوده قبله أو معه. ويحقق هذا أن ما سيكون متصور للعلم، فضاهى بذلك الموجود، فجاز خطابه لذلك.

١١٨

قوله تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلّمُنَا ٱللّه} فيهم ثلاثة أقوال.

احدها انهم اليهود، قاله ابن عباس.

والثاني: النصارى، قاله مجاهد.

والثالث: مشركو العرب، قاله قتادة والسدي عن أشياخه. و {لَوْلاَ} بمعنى: هلا.

وفي {ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} ثلاثة أقوال.

احدها: انهم اليهود، قاله ابن عباس و مجاهد.

والثاني: اليهود والنصارى، قاله السدي. عن أشياخه.

والثالث: اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار، قاله قتادة.

{تَشَـٰبَهَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: في الكفر.

١١٩

قوله تعالى: { إِنَّا أَرْسَلْنَـٰكَ بِٱلْحَقّ}: في سبب نزولها قولان.

احدهما: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، قال يوما: ليت شعري ما فعل أبواي. فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.

والثاني: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: لو أنزل اللّه بأسه باليهود لآمنوا. فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.

وفي المراد {بِٱلْحَقّ} هاهنا ثلاثة أقوال.

احدها: أنه القرآن، قاله ابن عباس.

والثاني: الإسلام، قاله ابن كيسان. والثالث: الصدق. قوله تعالى:

{وَلاَ تُسْـئَلُ عَنْ} الأكثرون بضم التاء على الخبر، والمعنى لست بمسؤول عن اعمالهم. وقرأ نافع، ويعقوب بفتح التاء وسكون اللام، على النهي عن السؤال عنهم. وجوز أبو الحسن الأخفسشأن يكون معنى هذه القراءة: لا تسأل عنهم فانهم في أمر عظيم. فيكون ذلك على وجه التعظيم لما هم فيه. فأما الجحيم؛ فقال الفراء: الجحيم: النار: والجمر على الجمر. وقال أبو عبيدة: الجحيم النار المستحكمة المتلظية. وقال الزجاج: الجحيم: النار الشديدة الوقود، وقد جحم فلان النار: إذا شدد وقودها، ويقال لعين الأسد جحمة لشدة توقدها. ويقال لوقود الحرب، وهو شدة القتال فيها: جاحم. وقال ابن فارس: الجاحم المكان الشديد الحر. قال الأعشى:

يعدون للّهيجاء قبل لقائها  غداة اختضار البأس والموت جاحم

ولذلك سميت الجحيم. وقال ابن الأنباري: قال احمد بن عبيد: إنما سميت النار جحيما، لأنها أكثر وقودها، من قول العرب: جحمت النار أجحمها: إذا أكثرت لها الوقود. قال عمران بن حطان:

يرى طاعة اللّه الهدى وخلافه  الضلالة يصلي أهلها جاحم الحمر

١٢٠

قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَـٰرَىٰ} في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلي النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى قبلتهم، فلما صرف إلى الكعبة يئسوا منه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.

والثاني: انهم دعوه إلى دينهم، فنزلت، قاله مقاتل.

والثالث: انهم كانو يسألونه الهدنه، ويطمعونه في أنه إن هادنهم وافقوه؛ فنزلت، ذكر معناه الزجاج. قال الزجاج: والملة في اللغة: السنة والطريقه.

قال ابن عباس: و {هُدَى ٱللّه} هاهنا: الإسلام.

وفي الذي جاءه من العلم اربعة اقوال.

احدها: أنه التحول إلى الكعبة، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه البيان بأن دين اللّه الإسلام،

والثالث: أنه القرآن.

والرابع: العلم بضلالة القوم. {ما لك مِنَ ٱللّه مِن وَلِيّ} ينفعك {وَلاَ نَصِيرٍ} يمنعك من عقوبته.

١٢١

انظر تفسير الآية ١٢٢

١٢٢

قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ} اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على قولين.

احدهما: أنها نزلت في الذين آمنوا من اليهود، قاله ابن عباس.

والثاني: في المؤمنين من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، قاله عكرمة وقتادة.

وفي الكتاب قولان.

احدهما: أنه القرآن، قاله قتادة.

والثاني: أنه التوراة، قاله مقاتل. قوله تعالى:

{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} أي يعملون به حق عمله، قاله مجاهد.  قوله تعالى:

{أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} في هاء به قولان.

احدهما: أنها تعود على الكتاب،

والثاني: على النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم، وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله: {يُنصَرُونَ}

{وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَـٰتٍ} والابتلاء: الاختبار.

وفي إبراهيم ست لغات.

احدها: إبراهيم وهي اللغة الفاشية.

والثانية: إبراهم.

والثالثة: ابراهم.

والرابعة: إبراهم، ذكرهن الفراء.

والخامسة: إبراهام،

والسادسة: إبرهم، قال عبد المطلب: عذت بما عاذ به إبرهم  مستقبل الكعبة وهو قائم وقال أيضا: نحن آل اللّه في كعبته  لم يزل ذاك على عهد إبرهم

١٢٣

{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْز۪ى نَفْسٌ ...}

١٢٤

وفي الكلمات خمسة أقوال

احدها: أنها خمس في الرأس، وخمس في الجسد. أما التي في الرأس؛ فالفرق والمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك. وفي الجسد: تقليم الأظافر وحلق العانة، ونتف الإبط، والاستطابة بالماء، والختان، رواه طاووس عن ابن عباس.

والثاني: أنها عشر، ست في الإنسان، وأربع في المشاعر. فالتي في الإنسان: حلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقص الشارب، والسواك، والغسل من الجنابة، والغسل يوم الجمعة، والتي في المشاعر: الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمرة، ورمي الجمار والإفاضة، رواه حنش بن عبد اللّه عن ابن عباس.

والثالث: أنها المناسك، رواه قتادة عن ابن عباس.

الرابع: أنه ابتلاه بالكوكب، والشمس، والقمر، والهجرة، والنار، وذبح ولده والختان، قاله الحسن.

والخامس: أنها كل مسألة في القرآن، مثل قوله: {رَبّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ امِنًا} [إبراهيم: ٣٥]. ونحو ذلك، قاله مقاتل. فمن قال: هي أفعال فعلها؛ قال: معنى فأتمهن: عمل بهن. ومن قال: هي دعوات ومسائل؛ قال: معنى فأتمهن: أجابه اللّه إليهن.

وقد روي عن أبي حنيفة أنه قرأ: {إِبْرَاهِيمَ} رفع الميم {رَبَّهُ} بنصب الباء على معنى: اختبر ربه هل يستجيب دعاءه، ويتخذه خليلا أم لا؟. قوله تعالى:

{وَمِن ذُرّيَتِى} في الذرية قولان.

احدهما: أنها فعلية من الذر، لأن اللّه أخرج الخلق من صلب آدم كالذر.

والثاني: أن أصلها ذرورة، على وزن: فعلولة ولكن لما كثر التضعيف أبدل من الراء الأخيرة ياء، فصارت: ذروية، ثم أدغمت الواو في الياء، فصارت: ذرية ذكرهما الزجاج، وصوب الأول.

وفي العهد هاهنا سبعة أقوال.

احدها: أنه الإمامة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير.

والثاني: أنه الطاعة، رواه الضحاك عن ابن عباس.

والثالث: الرحمة، قاله عطاء وعكرمة.

والرابع: الدين، قاله أبوالعالية.

والخامس: النبوة، قاله السدي عن أشياخه.

والسادس: الأمان، قاله أبو عبيدة.

والسابع: الميثاق، قاله ابن قتيبة. والأول أصح.

وفي المراد بالظالمين هاهنا قولان.

احدهما: أنهم الكفار، قاله ابن جبير والسدي.

والثاني: العصاة قاله عطاء.

١٢٥

قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنَّاسِ} البيت هاهنا: الكعبة، والألف واللام تدخل للمعهود، أو للجنس، فلما علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس؛ انصرف إلى المعهود، قال الزجاج: والمثاب والمثابة واحد، كالمقام والمقامة، قال ابن قتيبة: والمثابة: المعاد، من قولك ثبت إلى كذا، أي: عدت إليه، وثاب إليه جسمه بعد العلة: إذا عاد، فأراد: أن الناس يعودون إليه مرة بعد مرة. قوله تعالى:

{وَأَمْناً} قال ابن عباس: يريد أن من أحدث حديثا في غيره، ثم لجأ إليه؛ فهو آمن، ولكن ينبغي لأهل مكة أن لا يبايعوه، ولا يطعموه، ولا يسقوه، ولا يؤووه، ولا يكلم حتى يخرج، فاذا خرج؛ أقيم عليه الحد. قال قال القاضي أبو يعلي: وصف البيت بالأمن، والمراد جميع الحرم، كما قال: {هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ} والمراد: الحرم كله لأنه لا يذبح في الكعبة، ولا في المسجد الحرام، وهذا على طريق الحكم، لا على وجه الخبر فقط.

وفي {مَّقَامِ إِبْرٰهِيمَ} ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الحرم كله، قاله ابن عباس.

والثاني: عرفة، والمزدلفة، والجمار، قاله عطاء وعن مجاهد كالقولين وقد روي عن ابن عباس وعطاء و مجاهد، قالوا الحج كله مقام إبراهيم.

والثالث: الحجر قاله سعيد بن جبير وهو الأصح. قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول اللّهٰ لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت.

وفي سبب وقوف إبراهيم على الحجر قولان.

احدهما: أنه جاء يطلب ابنه إسماعيل، فلم يجده، فقالت له زوجته: انزل، فأبى فقالت: فدعني اغسل رأسك، فأتته بحجر فوضع رجله عليه، وهو راكب، فغسلت شقه، ثم رفعته وقد غابت رجله فيه، فوضعته تحت الشق الآخر وغسلته، فغابت رجله فيه فجعله اللّه من شعاره، ذكره السدي عن ابن مسعود و ابن عباس.

والثاني: أنه قام على الحجر لبناء البيت، وإسماعيل يناوله الحجارة، قاله سعيد بن جبير. قرأ الجمهور، منهم: ابن كثير، و ابو عمرو، وعاصم، وحمزة: والكسائي: {وَٱتَّخَذُواْ} بكسر الخاء؛ على الأمر. وقرأ نافع، وابن عامر بفتح الخاء على الخبر.

قال ابن زيد: قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: أين ترون أن نصلي فقال عمر: إلى المقام، فنزلت: {وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرٰهِيمَ مُصَلًّى} وقال أبو علي: وجه فتح الخاء: أنه معطوف على ما أضيف إليه، كأنه قال: وإذ اتخذوا. ويؤكد الفتح في الخاء أن الذي بعده خبر، وهو قوله: وعهدنا. قوله تعالى:

{وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ} أي: أمرناهما وأوصنياهما وإسماعيل: اسم أعجمي وفيه لغتان: إسماعيل، و اسماعين.

وأنشدوا:

قال جواري الحي لما جينا  هذا ورب البيت إسماعينا

قوله تعالى:

{أَن طَهّرَا بَيْتِىَ} قال قتادة. يريد: من عبادة الأوثان، والشرك، وقول الزور.

فان قيل لم يكن هناك بيت؛ فما معنى أمرهما بتطهيره؟ فعنه جوابان:

احدهما: أنه كانت هناك أصنام، فامرا باخراجها، قاله عكرمة.

والثاني: أن معناه ابنياه مطهرا، قاله السدي. والعاكفون: المقيمون، يقال: عكف يعكف ويعكف عكوفا: إذا أقام، ومنه الاعتكاف.

وقد روى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال: إن اللّه تعالى ينزل في كل ليلة ويوم عشرين ومائة رحمة ينزل على هذا البيت: ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين.

١٢٦

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا} البلد: صدر القرى، والبالد: المقيم بالبلد، والبلدة: الصدر، ووضعت الناقة بلدتها: إذا بركت، والمراد بالبلد هاهنا: مكة. ومعنى:

{آمِنًا} ذا أمن. وأمن البلدة مجاز، والمراد: أمن من فيه.

وفي المراد بهذا الأمن ثلاثة أقوال.

احدها: انه سأله الأمن من القتل.

والثاني: من الخسف والقذف.

والثالث: من القحط والجدب، قال مجاهد: قال إبراهيم: لمن آمن فقال اللّه عز وجل: ومن كفر فسأرزقه. قوله تعالى:

{فَأُمَتّعُهُ} وقرأ ابن عامر: {فَأُمَتّعُهُ} بالتخفيف، من امتعت. وقرأ الباقون بالتشديد من: متعت. والإمتاع: إعطاء ماتحصل به المتعة. والمتعة: أخذ الحظ من لذة ما يشتهي. وبماذا يمتعه؟ فيه قولان.

احدهما: بالأمن.

والثاني: بالرزق والأضطرار: الإلجاء إلى الشيء، والمصير: ما ينتهي إليه الأمر.

١٢٧

قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَـٰعِيلُ}. القواعد: أساس البيت، واحدها: قاعدة. فأما قواعد النساء؛ فواحدتها: قاعد، وهي العجوز.

{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} أي: يقولان: ربنا فحذف ذلك، كقوله: {عَلَيْكُمْ} الرعد: ٢٥. أراد يقولون. و {ٱلسَّمِيعُ} بمعنى: السامع، لكنه ابلغ، لأن بناء فعيل للمبالغة. قال الخطابي ويكون السماع بمعنى القبول والاجابة، كقول النبي صلى اللّه عليه وسلم:

أعوذ بك من دعاء لا يسمع أي: لا يستجاب وقول المصلي: سمع اللّه لمن حمده، أي: قبل اللّه حمد من حمده

وأنشدوا:

دعوت اللّه حتى خفت أن لا  يكون اللّه يسمع ما أقول

الإشارة إلى بناء البيت

روى أنس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، قال: كانت الملائكة تحج إلى البيت قبل آدم.

وقال ابن عباس: لما أهبط آدم؛ قال اللّه تعالى: يا آدم اذهبٰ فابن لي بيتا فطف به، واذكرني حوله كما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي. فأقبل يسعى حتى انتهى إلى البيت الحرام، وبناه من خسمة أجبل: من لبنان، وطور سيناء، وطورزيتا، والجودي، وحراء، فكان آدم أول من أسس البيت، وطاف به، ولم يزل كذلك حتى بعث اللّه الطوفان، فدرس موضع البيت، فبعث اللّه إبرهيم واسماعيل. وقال علي بن أبي طالب، رضي اللّه عنه: لما أمر اللّه تعالى إبراهيم ببناء البيت؛ ضاق به ذرعا، ولم يدر كيف يصنع، فأنزل اللّه عليه كهيئة السحابة، فيها رأس يتكلم، فقال: يا إبراهيمٰ علم على ظلي، فلما علم ارتفعت. وفي رواية أنه كان يبني عليها كل يوم، قال: وحفر إبراهيم من تحت السكينة، فأبدى عن قواعد ما تحرك القاعدة منها دون ثلاثين رجلا.فلما بلغ موضع الحجر، قال لإسماعيل: التمس لي حجرا، فذهب يطلب حجرا، فذهب يطلب حجرا، فجاء جبريل بالحجر الأسود، فوضعه فلما جاء إسماعيل، قال من جاءك بهذا الحجر؟ قال: جاء به من لم يتكل على بنائي وبنائك. وقال ابن عباس، وابن المسيب، و أبوالعالية: رفعا القواعد التي كانت قواعد قبل ذلك. وقال السدي: لما أمره اللّه ببناء البيت؛ لم يدر أين يبني، فبعث اللّه له ريحا، فكنست حول الكعبة عن الأساس الأول الذي كان البيت عليه قبل الطوفان.

١٢٨

قوله تعالى: {رَبَّنَا وَٱجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} قال الزجاج: المسلم في اللغة: الذي قد استسلم لأمر اللّه، وخضع. والمناسك: المتعبدات. فكل متعبد منسك ومنسك، ومنه قيل للعابد: ناسك. وتسمى الذبيحة المتقرب بها إلى اللّه عز وجل: النسيكة. وكأن الأصل في النسك إنما هو من الذبيحة للّه تعالى.

قوله تعالى: {وارنا مناسكنا} أي: مذابحنا. قاله مجاهد.

وقال غيره: هي جميع أفعال الحج. وقرأ ابن كثير: {لَّكَ وَأَرِنَا} بجزم الراء. و {رَبّ أَرِنِى} الاعراف: ١٤٣. و {أَرِنَا ٱلَّذِينَ * أَضَلَّـٰنَا} فصلت: ٢٩. وقرأ نافع، وحمزة والكسائي {أَرِنَا} بكسر الراء في جميع ذلك وقرأ أبو بكر عن عاصم وابن عامر كذلك، إلا أنهما أسكنا الراء من {أَرِنَا ٱللَّذَيْنِ} وحدها قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: {أَرِنَا} وكثير من العرب يجزم الراء فيقول: {أَرِنَا مَنَاسِكَنَا} وقرأ بها بعض الثقات.

وأنشد بعضهم:

قالت سليمى اشتر لنا دقيقا  واشتر فعجل خادما لبيقا

وأنشدني الكسائي:

ومن يتق فان اللّه معه  ورزق اللّه مؤتاب وغادي

قال قتادة: أراهما اللّه مناسكهما: الموقف بعرفات، والإفاضة من جمع، ورمي الجمار، والطواف، والسعي، وقال أبو مجلز: لما فرغ إبراهيم من البيت أتاه جبريل، فأراه الطواف ثم أتى به جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فاخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبعا، وقال له: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان. ثم أتى به جمرة الوسطى، فعرض لهما الشيطان، فإخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبع حصيات، فقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان. ثم أتى به الجمرة القصوى، فعرض لهما الشيطان،فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبع حصيات فقال له: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان، ثم أتى به منى، فقال: هاهنا يحلق الناس رؤوسهم، ثم أتى به جمعا، فقال: هاهنا يجمع الناس، ثم أتى به عرفة، فقال: اعرفت؟ قال: نعم قال فمن ثم سميت عرفات.

١٢٩

قوله تعالى: {رَبَّنَا وَٱبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ} في الهاء والميم من {فِيهِمْ} قولان.

احدهما: أنها تعود على الذرية، قاله مقاتل، والفراء.

والثاني: على أهل مكة في قوله: {وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ} والمراد بالرسول محمد، صلى اللّه عليه وسلم،

وقد روى أبو أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قيل: يا رسول اللّه ما كان بدء أمرك؟ قال دعوة أبي إبراهيم، وبشري عيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام

والكتاب: القرآن والحكمة: السنة، قاله ابن عباس.

وروي عنه: الحكمة: الفقه والحلال والحرام، ومواعظ القرأن. وسميت الحكمة حكمة، لأنها تمنع من الجهل.

وفي قوله تعالى: {وَيُزَكّيهِمْ} ثلاثة أقوال.

احدها: أن معناه يأخذ الزكاه منهم فيطهرهم بها، قاله ابن عباس والفراء.

والثاني: يطهرهم من الشرك والكفر، قاله مقاتل.

والثالث: يدعوهم إلى ما يصيرون به أزكياء. قوله تعالى:

{إِنَّكَ أَنتَ ٱلعَزِيزُ} قال الخطابي: العز في كلام العرب على ثلاثة أوجه.

احدها: بمعنى الغلبة يقولون: من عزبز أي من غلب سلب يقال منه: عز يعز بضم العين من يعز، ومنه قوله تعالى: {وَعَزَّنِى فِى ٱلْخِطَابِ} ص: ٢٨

والثاني: بمعنى الشدة والقوة يقال، منه عز يعز، بفتح العين من يعز.

والثالث: أن يكون بمعنى: نفاسة القدر يقال: منه عز يعز بكسر العين، من يعز. ويتناول معنى العزيز على أنه الذي لا يعادله شيء، ولا مثل له.

١٣٠

قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْرٰهِيمَ} سبب نزولها أن عبد اللّه بن سلام دعا ابني اخيه مهاجرا وسلمة إلى الإسلام، فأسلم سلمة، ورغب عن الإسلام مهاجر، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل قال الزجاج: و «من» لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها التقرير والتوبيخ. والمعنى ما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نسفه. ويقال: رغبت في الشى إذا أردته. ورغبت عنه: إذا تركته. وملة إبراهيم: دينه. قوله تعالى:

{إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} فيه أربعة أقوال.

احدها: أن معناه: إلا من سفه نفسه، قاله الأخفش ويونس. قال يونس: ولذلك تعدي إلى النفس فنصبها، وقال الأخفش: نصبت النفس لإسقاط حرف الجر، لأن المعنى إلا من سفه في نفسه. قال الشاعر: نغالي اللحم للأضياف نيئا  ونرخصه إذا نضج القدور

والثاني: إلا من أهلك نفسه، قاله أبو عبيدة.

والثالث: الا من سفهت نفسه، كما يقال: غبن فلان رأية وهذا مذهب الفراء وابن قتيبة. قال الفراء: نقل الفعل عن النفس إلى ضمير {مِنْ} ونصبت النفس على التشبيه بالتفسير، كما يقال: ضقت بالأمر ذرعا، يريدون: ضاق ذرعي به، ومثله: {وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً} مريم: ٤.

والرابع: إلا من جهل نفسه، فلم يفكر فيها، وهو اختيار الزجاج. قوله تعالى:

{وَإِنَّهُ فِى ٱلاْخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} قال ابن الانباري: لمن الصالحي الحال عند اللّه تعالى. وقال الزجاج الصالح في الآخرة: الفائز.

١٣١

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} وذلك حين وقوع الاصطفاء، قال ابن عباس: لما رأى الكوكب والقمر والشمس، قال له ربه أسلم، أي: أخلص.

١٣٢

قوله تعالى: {وَوَصَّىٰ} قرأ ابن عباس وأهل المدينة: {وأوصى} بألف، مع تخفيف الصاد، والباقون بغير ألف مشددة الصاد، وهذا لاختلاف المصاحف. اخبرنا أبن ناصر، قال: أخبرنا ثابت، قال: أخبرنا ابن قشيش، قال: اخبرنا ابن حيويه، قال: حدثنا ابن الانباري، قال: أخبرنا ثعلب، قال: أملى علي خلف بن هشام البزار، قال: اختلف مصحفا أهل المدينة وأهل العراق في اثني عشر حرفا كتب اهل المدينة

{وأوصى} وأهل العراق {ٱلْعَـٰلَمِينَ وَوَصَّىٰ} وكتب أهل المدينة:

{وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ} آل عمران: ١٣٣. بغير واو وأهل العراق: {وَسَارِعُواْ} وكتب اهل المدينة:

{ويَقُولُ ٱلَّذِينَ ءامَنُوا} المائدة: ٥٣ وأهل العراق: {وَيَقُولُ} وكتب أهل المدينة:

{منْ يَرْتَدِدْ} المائدة: ٥٤ وأهل العراق {مَن يَرْتَدَّ} وكتب أهل المدينة:

{ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَّسْجِدًا} التوبة: ١٠٧. و أهل العراق

{وَٱلَّذِينَ} وكتب أهل المدينة: {خَيْرًا مِنْهُا مُنْقَلَباً} الكهف: ٣٦ و أهل العراق منها وكتب أهل المدينة:

{فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ} الشعراء: ٢١٧ و أهل العراق {وَتَوَكَّلْ} وكتب أهل المدينة:

و{أَن يُظْهِرَ فِى ٱلاْرْضِ ٱلْفَسَادَ} المؤمن: ٢٦. وأهل العراق: {أَوْ أَن يُظْهِرَ} وكتب أهل المدينة في «حم عسق»: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} بغير فاء، و أهل العراق: {فَبِمَا} وكتب أهل المدينة:

{مَا تَشْتَهِيهِ ٱلاْنْفُسُ} الزخرف: ٧١ بالهاء و أهل العراق: {مَا تَشْتَهِى} وكتب أهل المدينة:

{فان اللّه الغني الحميد} الحديد: ٢٦ و اهل العراق: {إِنَّ ٱللّه هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ} وكتب أهل المدينة:

{فَلاَ يَخَافُ عُقْبَـٰهَا} الشمس: ١٥ و أهل العراق: {وَلاَ يَخَافُ}.

ووصَّى أبلغ من اوصى، لأنها تكون لمرات كثيرة،

وهاء «بها» تعود على المسألة قاله عكرمة و الزجاج. قال مقاتل: وبنوه أربعة: إسماعيل، وإسحاق، ومدين، ومدائن، وذكر غير مقاتل أنهم ثمانية. قوله تعالى:

{فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} يريد: الزموا الإسلام، فاذا أدرككم الموت صادفكم عليه.

١٣٣

قوله تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ} سبب نزولها أن اليهود قالوا للنبي، صلى اللّه عليه وسلم: ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه يوم مات باليهودية؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.

١٣٤

قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} أي: مضت، يشير إلى إبراهيم وبنيه ويعقوب وبنيه.

١٣٥

قوله تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا} معناه: قالت اليهود: كونوا هودا، وقالت النصارى: كونوا نصارى، تهتدوا. {بَلْ مِلَّةَ إِبْرٰهِيمَ حَنِيفًا} المعنى: بل نتبع ملة إبراهيم في حال حنيفيته.

وفي الحنيف قولان.

احدهما: أنه المائل إلى العبادة. قال الزجاج: الحنيف في اللغة: المائل إلى الشىء، أخذ من قولهم؛ رجل أحنف، وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها. قالت أم الأحنف ترقصه: واللّه لولا حنف برجله  ودقة في ساقه من هزله  ما كان في فتيانكم من مثله

والثاني: أنه المستقيم، ومنه قيل للأعرج: حنيف نظرا له إلى السلامة، هذا قول ابن قتيبة، وقد وصف المفسرون الحنيف بأوصاف، فقال عطاء: هو المخلص، وقال ابن سائب: هو الذي يحج. وقال غيرهما: هو الذي يوحد ويحج، ويضحي ويختتن، ويستقبل الكعبة. فأما الأسباط: فهم بنوا يعقوب، وكانوا اثني عشر رجلا. قال الزجاج: السبط في اللغة: الجماعة الذين يرجعون إلى أب واحد. والسبط في اللغة: الشجرة لها قبائل، فالسبط: الذين هم من شجرة واحدة.

١٣٦

{قولوا آمنا باللّه وما أنزل إلينا...}

١٣٧

قوله تعالى: {فَإِنْ ءامَنُواْ} يعني: أهل الكتاب. قوله تعالى:

{بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ} ثلاثة أقوال.

احدها: أن معناه: مثل إيمانكم، فزيدت الباء للتوكيد، كما زيدت في قوله: {وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ} مريم: ٢٤. قاله ابن الانباري.

والثاني. أن المراد هاهنا: الكتاب، وتقديره: فان آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم، قاله أبو معاذ النحوي.

والثالث: أن المثل هاهنا: صلة، والمعنى: فان آمنوا بما آمنتنم به. ومثه قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء} الشورى: ١١.أي: ليس كهو شيء. وأنشدوا:

يا عاذلي دعني من عذلكا  مثلي لا يقبل من مثلكا

أي: أنا لا أقبل منك، فأما الشقاق؛ فهو المشاقة والعداوة، ومنه قولهم: فلان قد شق عصا المسلمين، يريدون: فارق ما اجتمعوا عليه من اتباع إمامهم، فكأنه صار في شق غير شقهم. قوله تعالى:

{فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللّه} هذا ضمان لنصر النبي صلى اللّه عليه وسلم.

١٣٨

قوله تعالى: {صِبْغَةَ ٱللّه} سبب نزولها أن النصارى كانوا إذا ولد لأحدهم ولد، فأتى عليه سبعة أيام، صبغوه في ماء لهم، يقال له: المعمودية، ليطهروه بذلك، ويقولون: هذا طهور مكان الختان، فاذا فعلوا ذلك؛ قالوا: صار نصرانيا حقا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. قال ابن مسعود و ابن عباس، و أبوالعالية، و مجاهد، والنخعي، وابن زيد،

{صِبْغَةَ ٱللّه}: دينه. قال الفراء: {صِبْغَةَ ٱللّه} نصب مردودة على الملة.

وقرأ ابن عبلة: {صِبْغَةَ ٱللّه} بالرفع على معنى: هذه صبغة اللّه.

و كذلك قرأ: {مِلَّةِ إِبْرٰهِيمَ} بالرفع ايضا على معنى: هذه ملة إبراهيم. قال ابن قتيبة: المراد بصبغة اللّه: الختان، فسماه صبغة، لأن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماء ويقولون هذا طهرة لهم كالختان للحنفاء فقال اللّه تعالى:

{صِبْغَةَ ٱللّه} أي: الزموا صبغة اللّه، لاصبغة النصارى اولادهم، وأراد بها: ملة ابراهيم. وقال غيره: إنما سمي الدين صبغة لبيان أثره على الإنسان، كظهور الصبغ على الثوب.

١٣٩

قوله تعالى: {أَتُحَاجُّونَنَا فِى اللّه} قال ابن عباس: يريد يهود المدينة، ونصارى نجران. والمحاجة: المخاصمة في الدين، فان اليهود قالت: نحن أهل الكتاب الأول.

وقيل: ظاهرت اليهود عبدة الأوثان، فقيل لهم: تزعمون انكم موحدون، ونحن نوحد، فلم ظاهرتم من لا يوحد؟ٰ قوله تعالى:

{وَلَنَا أَعْمَـٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـٰلُكُمْ} قال أكثر المفسرين: هذا الكلام اقتضى نوع مساهلة، ثم نسخ بآية السيف.

١٤٠

قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْمَـٰعِيلَ}.. الآية. سبب نزولها أن يهود المدينة، ونصارى نجران قالوا للمؤمنين: إن أنبياء اللّه كانوا منا من بني إسرائيل، وكانوا على ديننا، فنزلت هذه الأية، قاله مقاتل. ومعنى الآية: إن اللّه قد أعلمنا بدين الأنبياء، و لاأحد أعلم به منه. قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية ابي بكر، وأبو عمور:

{أَمْ يَقُولُونَ} بالياء على وجه الخبر عن اليهود. وقرأ بن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: {تَقُولُونَ} بالتاءلأن قبلها مخاطبة وهي «أتحاجوننا» وبعدها {قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ}.

وفي الشهادة التي كتموها قولان.

احدهما: أن اللّه تعالى شهد عندهم بشهادة لإبراهيم ومن ذكر معه انهم كانوا مسلمين، فكتموها، قاله الحسن، وزيد بن أسلم

والثاني: انهم كتموا الإسلام، وأمر محمد وهم يعلمون أنه نبي دينه الإسلام، قاله أبوالعالية و قتادة.

١٤١

{تلك أمة قد خلت...}

١٤٢

قوله تعالى: {سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَاء مِنَ ٱلنَّاسِ} فيهم ثلاثة أقوال.

احدها: انهم اليهود قاله البراء بن عازب، و مجاهد، وسعيد ابن جبير،

والثاني: انهم أهل مكة، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثالث: انهم المنافقون، ذكره السدي عن اين مسعود، وابن عباس. وقد يمكن أن يكون الكل قالوا ذلك، والاية نزلت بعد تحويل القبلة. والسفهاء: الجهلة. ما ولاهم، أي: صرفهم عن قبلتهم: يريد: قبلة المقدس.

واختلف العلماء في مدة صلاة النبي صلى اللّه عليه وسلم، إلى بيت المقدس بعد قدومة إلى المدينة على ستة أقوال.

احدها: أنه ستة عشر شهرا او سبعة عشر، قاله البراء به عازب.

والثاني: سبعة عشر شهرا، قاله ابن عباس.

والثالث: ثلاثة عشر شهرا، قاله معاذ بن جبل.

والرابع: تسعة اشهر أو عشرة أشهر، قاله أنس بن مالك.

والخامس: ستة عشر شهرا.

والسادس: ثمانية عشر شهرا، روي القولان عن قتادة.

وهل كان استقباله إلى بيت المقدس برأيه، أو عن وحي؟ فيه قولان؟

احدهما: أنه كان بأمر اللّه تعالى ووحيه، قاله ابن عباس وابن جريج.

والثاني: أنه كان باجتهاده ورأيه، قاله الحسن، و أبوالعالية، وعكرمة، والربيع. وقال قتادة: كان الناس يتوجهون إلى أي جهة شاؤوا بقوله: {وَللّه ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ} البقرة: ١١٥. ثم أمرهم باستقبال بيت المقدس.

وفي سبب اختياره بيت المقدس قولان.

احدهما: ليتألف أهل الكتاب ذكره بعض المفسرين.

والثاني: لامتحان العرب بغير ما ألفوه، قاله الزجاج.

١٤٣

قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} سبب نزولها أن اليهود قالوا: قبلتنا قبلة الانبياء، ونحن عدل بين الناس، فنزلت هذه الآية قاله، مقاتل والأمة: الجماعة والوسط: العدل قاله ابن عباس، وابو سعيد، و مجاهد، وقتادة، وقال ابن قتيبة: الوسط: العدل الخيار، ومنه قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} القلم: ٢٨ أي: أعدلهم، وخيرهم قال الشاعر:

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم  إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

وأصل ذلك أن خير الأشياء أوساطها، والغلو والتقصير مذمومان. وذكر ابن جرير الطبري أنه من التوسط في الفعل، فان المسلمين لم يقصروا في دينهم كاليهود، فانهم قتلوا الأنبياء، وبدلوا كتاب اللّه، ولم يغلوا كالنصارى، فانهم زعموا أن عيسى ابن اللّه. وقال أبو سليمان الدمشقي: في هذا الكلام محذوف، ومعناه: جعلت قبلتكم وسطا بين القبلتين، فان اليهود يصلون نحوالمغرب، والنصارى نحو المشرق، وانتم بينهما. قوله تعالى:

{لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ} فيه قولان.

احدهما: أن معناه لتشهدوا للأنبياء على أممهم. روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم:

أنه قال يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل، ويجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيءالنبي ومعه أكثر من ذلك، فيقال لهم: أبلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال للنبي: أبغتهم؟ فيقول: نعم، فيقال: من يشهد لك قال محمد وأمته فيشهدون أن الرسل قد بلغوا فيقال ما علمكم فيقولون أخبرنا نبينا أن الرسل قد بلغوا، فصدقناه. فذلك قوله:

{لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ} وهذا مذهب عكرمة، وقتادة،

والثاني: أن معناه لتكونوا شهداء لمحمد صلى اللّه عليه وسلم، على الأمم: اليهود والنصارى والمجوس، قاله مجاهد.

قوله تعالى: {وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} يعني: محمدا صلى اللّه عليه وسلم، وبماذا يشهد عليهم في ثلاثة أقوال.

احدها: بأعمالهم، قاله ابن عباس، و أبو سعيد الخدري، وابن زيد.

والثاني: بتبليغهم الرسالة، قاله قتادة، و مقاتل.

والثالث: بايمانهم، قاله أبوالعالية فيكون على هذا «علكيم» بمعنى: لكم. قال عكرمة: لا يسأل عن هذه الأمة إلا نبيها. قوله تعالى:

{وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا} يريد: قبلة بيت المقدس. {إِلاَّ لِنَعْلَمَ} فيه اربعة أقوال.

احدها: لنرى.

والثاني: لنميز رويا، عن ابن عباس.

والثالث: لنعلمه واقعا إذ علمه قديم، قاله جماعة من أهل التفسير وهو يرجع إلى قول ابن عباس لنرى.

والرابع: أن العلم راحع إلى المخاطبين، والمعنى لتعلموا انتم، قاله الفراء. قوله تعالى:

{مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ} أي: يرجع الى الكفر، قاله ابن زيد، و مقاتل. قوله تعالى:

{عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} في المشار إليها قولان.

احدهما: أنه التولية إلى الكعبة، قاله ابن عباس، و مجاهد، وقتادة، و مقاتل.

والثاني: أنها قبلة بيت المقدس قبل التحول عنها، قاله أبوالعالية و الزجاج. قوله تعالى:

{وَمَا كَانَ ٱللّه لِيُضِيعَ إِيمَـٰنَكُمْ} نزل على سبب وهو أن المسلمين قالوا: يا رسول اللّه أرأيت إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس. فأنزل اللّه {وَمَا كَانَ ٱللّه لِيُضِيعَ إِيمَـٰنَكُمْ} والإيمان المذكور هاهنا: أريد به الصلاة، في قول الجماعة.

وقيل: إنما سمي الصلاة إيمانا، لاشتمالها على قول ونية وعمل. قال: الفراء وإنما أسند الإيمان إلى الأحياء من المؤمنين والمعنى: فيمن مات من المسلمين قبل أن تحول القبلة لأنهم داخلون معهم في الملة. قوله تعالى:

{لَرَؤُوفٌ}  قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم {لَرَؤُوفٌ} على وزن: لرعوف في جميع القرآن، ووجهها: أن فعولا اكثر في كلامهم من فعل فباب ضروب وشكور، أوسع من باب حذر ويقظ. قرأ : ابو عمروا، وحمزة، والكسائي، و أبو بكر عن عاصم {لرؤف} على وزن: رعف ويقال: هو الغالب على أهل، الحجاز

قال جرير:

ترى للمسلمين عليك حقا  كفعل الوالد الرؤف الرحيم

والرؤوف بمعنى: الرحيم هذا قول الزجاج. وذكر الخطابي عن بعض أهل العلم أن الرأفة أبلغ الرحمة وأرقها. قال: ويقال: الرأفة أخص، والرحمة أعم.

١٤٤

قوله تعالى: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَاء} سبب نزولها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يحب أن يوجه إلى الكعبة، قاله البراء، ابن عباس وابن المسيب، و أبوالعالية، وقتادة، وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية مقدمة في النزول على قوله تعالى: {سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَاء مِنَ ٱلنَّاسِ}

واختلفوا في سبب اختيار النبي الكعبة علي بيت المقدس على قولين.

احدهما: أنها كانت قبلة إبراهيم، روى عن ابن عباس.

والثاني: لمخالفة اليهود، قاله مجاهد. ومعنى تقلب وجهه: نظره إليها يمينا وشمالا و «في» بمعنى «إلى» و «ترضاها» بمعنى: «تحبها» و«الشطر» النحو من غير خلاف قال إبن عمر: أتى الناس. آت وهم في صلاة الصبح بقباء، فقال: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وأمر أن يستقبل الكعبة، ألا فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا وهم في صلاتهم.

فصل

اختلف العلماء أي وقت حولت القبلة؟ على ثلاثة اقوال.

احدها: أنها حولت في صلاة الظهر يوم الاثنين للنصف من رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول اللّه المدينة. قاله البراء بن عازب، و معقل بن يسار،

والثاني: أنها حولت يوم الثلاثاء للنصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه المدينة، قاله قتادة.

والثالث: انها حولت في جمادى الآخرة، حكاه إبن سلامة المفسر عن إبراهيم الحربي.

وفي: {ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ} قولان.

احدهما: اليهود، قاله مقاتل.

والثاني: اليهود والنصارى، قاله أبو سليمان الدمشقي.

قوله تعالى: {لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ} يشير إلى ما أمر به من التوجه إلى الكعبة، ثم توعدهم بباقي الآية على كتمانهم ما علموا ومن أين علموا.

أنه الحق فيه أربعة أقوال.

احدها: أن في كتابهم الأمر بالتوجه إليها، قاله أبوالعالية.

والثاني: يعلمون أن المسجد الحرام قبلة، إبراهيم.

والثالث: أن في كتابهم أن محمدا رسول صادق فلا يأمر إلا بحق.

والرابع: انهم يعلمون جواز النسخ.

١٤٥

قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ بِكُلّ ءايَةٍ} سبب نزولها أن يهود المدينة ونصارى نجران قالوا للنبي: ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك، فنزلت هذه الآية قاله مقاتل. قوله تعالى:

{مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} يريد: الكعبة

{وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} لأن اليهود يصلون قبل المغرب إلى بيت المقدس، والنصارى قبل المشرق

{وَلَئِنِ ٱتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم} فصليت إلى قبلتهم

{مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ ٱلْعِلْمِ} قال مقاتل: يريد بالعلم: البيان.

١٤٦

قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ آتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَعْرِفُونَهُ}

في هاء «يعرفونه» قولان.

احدهما: أنها تعود على النبي صلى اللّه عليه وسلم، قاله ابن عباس.

والثاني: تعود على صرفه إلى الكعبة، قاله أبوالعالية، وقتادة، والسدي، و مقاتل، وروي عن ابن عباس أيضا.

وفي الحق الذي كتموه قولان.

احدهما: أنه النبي صلى اللّه عليه وسلم، قاله مجاهد.

والثاني: أنه التوجه إلى الكعبة، قاله السدي و مقاتل في آخرين.

وفي قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قولان.

احدهما: وهم يعلمون أنه حق،

والثاني: وهم يعلمون ما على مخالفه من العقاب.

١٤٧

قوله تعالى: {ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ} قال الزجاج: أي: هذا الحق من ربك. والممترون: الشاكون والخطاب عام.

١٤٨

قوله تعالى: {وَلِكُلّ وِجْهَةٌ} أي: لكل أهل دين وجهة. المراد بالوجهة: القبلة، قاله ابن عباس في آخرين. قال الزجاج: يقال جهة ووجهة.

وفي «هو» ثلاثة أقوال.

احدها: أنها ترجع إلى اللّه تعالى فالمعنى: اللّه موليها إياهم، أي: أمرهم بالتوجه إليها.

والثاني: ترجع إلى المتولى، فالمعنى: هو موليها نفسه فيكون «هو» ضمير كل.

والثالث: يرجع إلى البيت، قاله مجاهد: أمر كل قوم أن يصلوا إلى الكعبة

والجمهور يقرؤون: «موليها» وقرأ ابن عامر والوليد عن يعقوب «هو مولاها» بألف بعد اللام فضمير «هو» لكل، ومعنى القراءتين متقارب. قوله تعالى:

{فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرٰتِ} أي: بادروها. وقال قتادة: لا تغلبوا على قبلتكم،

{أَيْنَمَا تَكُونُواْ * يَأْتِ بِكُمُ ٱللّه جَمِيعًا} قال: ابن عباس وغيره هذا في يوم القيامة. فأما إعادة قوله:

١٤٩

{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ...}

١٥٠

قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} فانه تكرير، تأكيد ليحسم طمع أهل الكتاب في رجوع المسلمين أبدا إلى قبلتهم. قوله تعالى:

{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ} في الناس قولان.

احدهما: انهم أهل الكتاب قاله ابن عباس، و أبو العالية، وقتادة و مقاتل.

والثاني: مشركوا العرب، رواه السدي عن أشياخه. فمن قال بالأول قال: احتجاج أهل الكتاب انهم قالوا للنبي: مالك تركت قبلة بيت المقدس؟ٰ إن كانت ضلالة فقد دنت بها اللّه، وإن كانت هدى؛ فقد نقلت عنها وقال قتادة: قالوا: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه. ومن قال بالثاني قال: احتجاج المشركين أنهم قالوا: قد رجع إلى قبلتكم، ويوشك أن يعود إلى دينكم. وتسمية باطلهم حجة على وجه الحكاية عن المحتج به، كقوله تعالى:

{حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ} الشورى: ١٦. وقوله:

{فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ ٱلْعِلْمِ} [غافر: ٨٣].

قوله تعالى: {إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} قال الزجاج: معناه: إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له كما تقول: مالك علي حجة إلا الظلم، أي: إلا أن تظلمني. أي: مالك علي البتة، ولكنك تظلمني. قال ابن عباس:

{فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} في انصرافكم إلى الكعبة {وَٱخْشَوْنِى} في تركها.

١٥١

قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ} قال الزجاج: «كما» لا تصلح أن تكون جوابا لما قبلها، والأجود أن تكون معلقة بقوله: {فَٱذْكُرُونِى} وقد روي معناه عن علي، و ابن عباس، و مجاهد، مقاتل. والآية خطاب لمشركي العرب وفي قوله:

{وَيُزَكّيهِمْ} ثلاثة أقوال، قد سبق ذكرها في قصة إبراهيم.

والكتاب: القرآن. والحكمة: السنة.

١٥٢

قوله تعالى: {فَٱذْكُرُونِى} قال ابن عباس، وابن جبير: اذكروني بطاعتي اذكركم بمغفرتي، وقال ابراهيم بن السري: كما أنعمت عليكم بالرسالة، فاذكروني بتوحيدي وتصديق نبيي. قال:

فان قيل: كيف يكون جواب: {كَمَا أَرْسَلْنَا}: {فَٱذْكُرُونِى}؟ فان قوله: {فَٱذْكُرُونِى} أمر وقوله: {أَذْكُرْكُمْ} جزاؤه؛

فالجواب أن المعنى: إن تذكروني أذكركم. قوله تعالى:

{وَٱشْكُرُواْ لِي} الشكر الاعتراف بحق المنعم، مع الثناء عليه.

١٥٣

قوله تعالى: {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوةِ} سبب نزولها أن المشركين قالوا: سيرجع محمد إلى ديننا، كما رجع إلى قبلتنا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. وقال ابن عباس: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على أداء الفرائض، بالصلاة، وقد سبق الكلام في الصبر، وبيان الاستعانة به وبالصلاة.

١٥٤

قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ لاَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ فِى سَبيلِ ٱللّه أَمْوَاتٌ} سبب نزولها أنهم كانوا يقولون لقتلى بدر وأحد: مات فلان ببدر، مات فلان بأحد، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. ورفع الأموات باضمار مكنى من أسمائهم، أي: لا تقولوا هم اموات، ذكر نحوه الفراء.

فان قيل: فنحن نراهم موتى، فما وجه النهي؟

فالجواب أن المعنى: لا تقولوا: هم أموات لا تصل أرواحهم إلى الجنات، ولا تنال من تحف اللّه ما لا يناله الأحياء، بل هم أحياء، أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، فهم أحياء من هذه الجهة، وإن كانوا أمواتا من جهة خروج الأرواح، ذكره ابن الانباري.

فان قيل: أليس جميع المؤمنين منعمين بعد موتهم؟ فلم خصصتم الشهداء؟

فالجواب: أن الشهداء فضلوا على غيرهم بأنهم مرزوقون من مطاعم الجنة ومآكلها، وغيرهم منعم بما دون ذلك ذكره إبن جرير الطبري.

١٥٥

قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ٱلْخَوفْ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ٱلاْمَوَالِ} قال الفراء: «من» تدل على أن لكل صنف منها شيئا مضمرا، فتقديره بشىء من الخوف، وشىء من الجوع، و شيء من نقص الأموال.

وفيمن أريد في هذه الآية اربعة أقوال.

احدها: انهم أصحاب النبي خاصة، قاله عطاء.

والثاني: انهم أهل مكة.

والثالث: أن هذا يكون في آخر الزمان، قال كعب: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا ثمرة.

والرابع: أن الآية على عمومها.

فأما الخوف؛ فقال ابن عباس: وهو الفزع في القتال.

والجوع: المجاعة التي اصابت أهل مكة سبع سنين.

ونقص من الأموال: ذهاب أموالهم،

والأنفس بالموت والقتل الذي نزل بهم،

والثمرات لم تخرج كما كانت تخرج. وحكى أبو سليمان الدمشقي عن بعض أهل العلم: أن الخوف في الجهاد والجوع في فرض الصوم، ونقص الأموال: ما فرض فيها من الزكاة والحج، ونحو ذلك. والأنفس: ما يستشهد منها في القتال، والثمرات: ما فرض فيها من الصدقات.

{وَبَشّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ} على هذه البلاوي بالجنة.واعلم أنه إنما أخبرهم بما سيصيبهم، ليوطنوا أنفسهم على الصبر، فيكون ذلك أبعد بهم من الجزع.

{قَالُواْ إِنَّا للّه} يريدون: نحن عبيده يفعل بنا ما يشاء

{وَإِنَّـا إِلَيْهِ رٰجِعونَ} يريدون: نحن مقرون بالبعث والجزاء على أعمالنا، والثواب على صبرنا قال سعيد بن جبير: لقد أعطيت هذه الامة عند المصيبة شيئا لم يعطه الأنبياء قبلهم

١٥٦

{الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا إنا للّه وإنا إليه راجعون}. ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب، ألم تسمع إلى قوله {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ} قال الفراء: وللعرب في المصيبة ثلاث لغات: مصيبة، ومصابة، ومصوبة، زعم الكسائي أنه سمع أعرابيا يقول: جبر اللّه مصوبتك.

١٥٧

قوله تعالى: {أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰتٌ مّن رَّبْهِمْ} قال سعيد بن جبير: الصلوات من اللّه المغفرة {وَأُولَـئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ} بالاسترجاع قال عمر بن الخطاب: نعم العدلان، ونعمت العلاوة {أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ}.

١٥٨

قوله تعالى: {إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ ٱللّه}.

في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن رجالا من الأنصار ممن كان يهل لمناة في الجاهلية ومناة: صنم كان بين مكة والمدينة قالوا: يا رسول اللّه إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيما لمناة فهل علينا من حرج أن نطوف بهما؟ فنزلت هذه الآية. رواه عروة عن عائشة.

والثاني: أن المسلمين كانوا لا يطوفون بين الصفا والمروة، لأنه كان على الصفا تماثيل وأصنام، فنزلت هذه الآية. رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال الشعبي: كان وثن على الصفا يدعى: إساف، ووثن على المروة يدعى: نائلة، وكان أهل الجاهلية يسعون بينهما ويمسحونهما، فلما جاء الإسلام كفوا عن السعي بينهما، فنزلت هذه الآية.

والثالث: أن الصحابة قالت للنبي صلى اللّه عليه وسلم: إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة، وإن اللّه تعالى ذكر الطواف بالبيت، ولم يذكره بين الصفا والمروة، فهل علينا من حرج أن لا نطوف بهما، فنزلت هذه الآية.

رواه الزهري عن ابي بكر بن بعد الرحمن عن جماعة من أهل العلم. قال إبراهيم بن السري: الصفا في اللغة: الحجارة الصلبة الصلدة التي لا تنبت شيئا، وهو جمع واحدة صفاة وصفا، مثل: حصاة وحصى. والمروة: الحجارة اللينة وهذان الموضعان من شعائر اللّه أي: من اعلام متعبداته. وواحد الشعائر: شعيرة. والشعائر: كل ما كان من موقف أو سعي أو ذبح. والشعائر: من شعرت بالشىء: إذا علمت به، فسميت الاعلام التي هي متعبدات اللّه: شعائر اللّه. والحج في اللغة: القصد، وكذلك كل قاصد شيئا فقد اعتمره. والجناح: الإثم، أخذ من جنح: إذا مال وعدل، وأصله من جناح الطائر، وإنما اجتنب المسلمون الطواف بينهما، لمكان الأوثان، فقيل لهم: إن نصب الأوثان بينهما قبل الإسلام لا يوجب اجتنابهما فأعلم اللّه عز وجل أنه لا جناح في التطوف بهما، وأن من تطوع بذلك فان اللّه شاكر عليم. والشكر من اللّه: المجازاة والثناء الجميل، والجمهور قرؤوا

{وَمَن تَطَوَّعَ} بالتاء ونصب العين. منهم: ابن كثير، ونافع، وعاصم، و ابو عمرو، وابن عامر، وقرأ حمزة والكسائي «يطوع» بالياء وجزم العين. وكذلك خلافهم في التي بعدها بآيات.

فصل

اختلفت الرواية عن إمامنا احمد في السعي بين الصفا والمروة، فنقل الأثرم أن من ترك السعي لم يجزه حجه. ونقل أبو طالب: لا شيء في تركه عمدا أو سهوا، ولا ينبغي أن يتركه. ونقل الميموني أنه تطوع.

١٥٩

قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَـٰتِ وَٱلْهُدَىٰ} قال أبو صالح عن ابن عباس: نزلت في رؤساء اليهود، كتموا ما أنزل اللّه في التوراة من البينات والهدى، فالبينات: الحلال والحرام والحدود والفرائض والهدى: نعت النبي وصفته {مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّـٰهُ لِلنَّاسِ} قال مقاتل: لبني إسرائيل.

وفي الكتاب: قولان.

احدهما: أنه التوراة، وهو قول ابن عباس،

والثاني: التوراة والإنجيل، قاله قتادة.

{أُوْلَـئِكَ} إشارة إلى الكاتمين

{يَلْعَنُهُمُ ٱللّه} قال ابن قتية: أصل اللعن في اللغة الطرد ولعن اللّه إبليس أي: طرده ثم انتقل ذلك فصار قولا. قال الشماخ وذكر ماء: ذعرت به القطا ونفيت عنه  مقام الذئب كالرجل اللعين أي: الطريد

وفي اللاعنين اربعة أقوال.

احدها: أن المراد بهم دواب الأرض رواه البراء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهو قول مجاهد و عكرمة. قال مجاهد: يقولون إنما منعنا القطر بذنوبكم فيلعنونهم.

والثاني: انهم المؤمنون، قاله عبد اللّه بن مسعود.

والثالث: انهم الملائكة والمؤمنون، قاله أبوالعالية وقتادة.

والرابع: انهم الجن والإنس وكل دابة، قاله عطاء.

فصل وهذه الآية توجب إظهار علوم الدين، منصوصة كانت أو مستنبطة، وتدل على امتناع جواز اخذ الأجرة على ذلك، إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما يجب فعله، وقد روى الأعرج عن أبي هريرة أنه قال: إنكم تقولون: أكثر أبو هريرة على النبي صلى اللّه عليه وسلم، واللّه الموعد وايم اللّه: لولا آية في كتاب اللّه ما حدثت أحدا بشيء أبدا، ثم تلا {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا}.. إلى آخرها.

١٦٠

قوله تعالى: {إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ} قال ابن مسعود: إلا الذين تابوا من اليهود وأصلحوا أعمالهم، وبينوا صفة رسول اللّه في كتابهم.

فصل

وقد ذهب قوم إلى أن الآية التي قبل هذه منسوخة بالاستثناء في هذه، وهذا ليس ينسخ، لأن الاستثناء إخراج بعض ما شمله اللفظ، وذلك يقتضي التخصيص دون النسخ، ومما يحقق هذا أن الناسخ والمنسوخ لا يمكن العمل باحدهما إلا بترك العمل بالآخر، وهاهنا يمكن العمل بالمستثنى والمستثى منه.

١٦١

قوله تعالى: {إِن ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} إنما شرط الموت على الكفر، لأن حكمه يستقر بالموت، عليه

فان قيل: كيف قال: {وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وأهل دينه لا يلعنونه، فعنه ثلاثة اجوبة.

احدها: انهم يلعنونه في الآخرة قال اللّه عز وجل: {ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} العنكبوت: ٢٥. وقال: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} الأعراف: ٣٨.

والثاني: أن المراد بالناس هاهنا: المؤمنون قاله ابن مسعود وقتادة، و مقاتل، فيكون على هذا من العام الذي أريد به الخاص.

والثالث: أن اللعنة من الأكثر يطلق عليها: لعنة جميع الناس تغليبا لحكم الأكثر على الأقل.

١٦٢

قوله تعالى: {خَـٰلِدِينَ فِيهَا} في هاء الكناية قولان.

احدهما: أنها تعود إلى اللعنة، قاله ابن مسعود و مقاتل.

والثاني: أنها ترجع إلى النار و إن لم يجر لها ذكر فقد علمت.

١٦٣

قوله تعالى: {وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ} قال ابن عباس: إن كفار قريش قالوا يا محمد صف لنا ربك وانسبه. فنزلت هذه الآية، وسورة الإخلاص. والإله بمعنى: المعبود.

١٦٤

قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ} في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن المشركين قالوا للنبي اجعل لنا الصفا ذهبا إن كنت صادقا، فنزلت هذه الآية، حكاه السدي عن ابن مسعود، و ابن عباس.

والثاني: انهم لما قالوا انسب لنا ربك وصفه فنزلت: {وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ} قالوا: فأرنا آية ذلك فنزلت: {إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ} إلى قوله {يَعْقِلُونَ} رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثالث: أنه لما نزلت {وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ} قال كفار قريش: كيف يسع الناس إله واحد؟ فنزلت هذه الآية، قاله عطاء.

فأما {ٱلسَّمَـٰوَاتِ} فتدل على صانعها إذ هي قائمة بغير عمد، وفيها من الآيات الظاهرة ما يدل يسيره على مبدعه، وكذلك الأرض في ظهور ثمارها، وتمهيد سهولها، وإرساء جبالها، الى غير ذلك.

{وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ} كل واحد منهما حادث بعد أن لم يكن، وزائل بعد أن كان

{وَٱلْفُلْكِ}: السفن قال ابن قتيبة: الواحد والجمع بلفظ واحد وقال اليزيدي واحدة فلكة ويذكر ويؤنث. وقال الزجاج: الفلك: السفن ويكون واحدا، ويكون جمعا، لأن فعل، وفعل جمعهما واحد، ويأتيان كثيرا بمعنى واحد. يقال: العجم والعجم، والعرب والعرب، والفلك والفلك، والفلك يقال: لك شيء مستدير، أو فيه استدارة.

و {ٱلْبَحْرِ}: الماء العزير {بِمَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ} من المعايش.

{وَمَا أَنزَلَ ٱللّه مِنَ ٱلسَّمَاء مِن مَّاء} يعني: المطر والمطر ينزل على معنى واحد، وأجزاء الأرض والهواء على معنى واحد، والانواع تختلف في النبات والطعوم الألوان والأشكال المختلفات، وفي ذلك رد على من قال: إن انه من فعل الطبيعة لأنه لو كان كذلك لوجب أن يتفق موجبها، إذ المتفق لا يوجب المختلف، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى في قوله:

{يُسْقَىٰ بِمَاء وٰحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِى ٱلاْكُلِ} الرعد:٤. قوله تعالى:

{وَبَثَّ} أي: فرق.

قوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ ٱلرّيَاحِ}

قرأ ابن كثير {ٱلرّيَاحِ} على الجمع في خمسة مواضع: هاهنا وفي الحجر: ٢٢.

{وَأَرْسَلْنَا ٱلرّيَاحَ} وفي الكهف: ٤٦

{هَشِيمًا تَذْرُوهُ ٱلرّياحُ} وفي الروم: ٤٦

الحرف الأول {ٱلرّيَاحِ} وفي الجاثية: ٤

{وَتَصْرِيفِ ٱلرّيَاحِ} وقرأ باقي القرآن الريح وقرأ أبو جعفر

{ٱلرّيَاحِ} في خسمة عشر موضعا في البقرة وفي الأعراف: ٥٦

{يُرْسِلُ ٱلرّيَاحَ} وفي إبراهيم: ١٨

{ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرّيَاحِ} وفي الحجر: ٢٢

{ٱلرّيَاحَ لَوَاقِحَ} وفي سبحان ١٩. وفي الكهف: ٤٥.

{تَذْرُوهُ ٱلرّياحُ} وفي الأنبياء: ٨١ وفي الفرقان: ٤٨ {أَرْسَلَ ٱلرّيَـٰحَ} وفي النمل.

والثاني: من الروم: ٤٨ وفي سبأ: ١٢ وفي: صلى اللّه عليه وسلم: ٣٦. وفي عسق: ٣٣ {يُسْكِنِ ٱلرّيَاحِ} وفي الجاثية ٥

{وَتَصْرِيفِ ٱلرّيَاحِ} تابعه نافع إلا في سبحان. ورياح سليمان: الأنبياء ٨١. وتابع نافعا ابو عمرو إلا في حرفين: الريح في إبراهيم، وعسق، ووافق أبا عمرو وعاصم، وابن عامر، وقرأ حمزة {ٱلرّيَاحِ} جمعا في موضعين في الفرقان والحرف الأول من الروم، وباقيهن على التوحيد. وقرأ الكسائي مثل حمزة، إلا إنه زاد عليه في الحجر: ٢٢.

{ٱلرّيَاحَ لَوَاقِحَ} ولم يختلفوا فيما ليس فيه ألف ولام فمن جمع؛ فكل ريح تساوي اختها في الدلالة على التوحيد والنفع. ومن وحد؛ أراد الجنس.ومعنى تصريف الرياح: تقلبها شمالا مرة، وجنوبا مرة ودبورا اخرى، وصبا اخرى، وعذابا ورحمة

{وَٱلسَّحَابِ ٱلْمُسَخَّرِ}. المذلل.

والآية فيه من أربعة اوجه،

ابتداء كونه وانتهاء تلاشيه، وقيامه بلا دعامة، ولا علاقة وإرساله. إلى حيث شاء اللّه تعالى. لآيات. الاية: العلامة. أخبرنا عبد الوهاب الحافظ قال: أخبرنا عاصم قال: أخبرنا ابن بشران قال أخبرنا ابن صفوان قال حدثنا ابن أبي الدنيا قال حدثني هارون قال: حدثني عفان عن مبارك بن فضاله قال: سمعت الحسن يقول: كانوا يقولون يعني أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، الحمد للّه، الرفيق الذي لو جعل هذا الخلق خلقا دائما لا يتصرف، لقال الشاك في اللّه: لو كان لهذا الخلق رب لحادثه وإن اللّه تعالى قد حادث بما ترون من الآيات، أنه جاء بضوء طبق ما بين الخافقين، وجعل فيها معاشا، وسراجا وهاجا، ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق، وجاء بظلمة طبقت ما بين الخافقين، وجعل فيه سكنا ونجوما، وقمرا منيرا، و إذا شاء بنى بناء جعل فيه المطر، والبرق، والرعد، والصواعق، ما شاء، و إذا شاء صرف، ذلك و إذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس، و إذا شاء ذهب بذلك، وجاء بحر يأخذ أنفاس الناس، ليعلم الناس أن لهذا الخلق ربا يحادثه بما ترون من الآيات، كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا وجاء بالآخرة.

١٦٥

قوله تعالى: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللّه أَندَادًا} وفي الأنداد قولان: قد تقدما في أول السورة.

وفي قوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ ٱللّه} قولان.

احدهما: أن معناه يحبونهم كحب الذين آمنوا للّه، هذا قول ابن عباس، وعكرمة و أبي العالية، و ابن زيد، و مقاتل، و الفراء.

والثاني: يحبونم كمحبتهم للّه. أي: يسوون بين الأوثان وبين اللّه تعالى في المحبة. هذا اختيار الزجاج. قال والقول والاول ليس بشيء. والدليل على نقضه قوله:

{وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا للّه}

قال المفسرون أشد حبا للّه من أهل الأوثان لأوثانهم. قوله تعالى:

{وَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ}قرأ ابو عمرو، و ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {يَرَىٰ} بالياء، ومعناه: لو يرون عذاب الآخرة لعلموا أن القوة للّه جيمعا وقرأ نافع، وابن عامر، و يعقوب: {وَلَوْ تَرَى} بالتاء على الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم، والمراد به جميع الناس.

وجوابه محذوف، تقديره لرأيتم أمر عظيما، كما تقول: لو رأيت فلانا والسياط تأخذه وإنما حذف الجواب لأن المعنى واضح بدونه قال أبو علي وإنما قال: «إذ» ولم يقل: «إذا» وإن كانت «إذ» لما مضى لإرادة تقريب الأمر فأتى بمثال الماضي، وإنما حذف جواب «لو» لأنه أفخم لذهاب المتوعد إلى كل ضرب من الوعيد وقرأ أبو جعفر

{أَنَّ ٱلْقُوَّةَ للّه} و {إِنَّ ٱللّه} بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف، كأنه يقول فلا يحزنك ما ترى من محبتهم أصنامهم

{أَنَّ ٱلْقُوَّةَ للّه جَمِيعًا} قال ابن عباس: القوة القدرة والمنعة.

١٦٦

قوله تعالى: {...مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ} فيهم قولان.

احدهما: انهم القادة والرؤساء، قاله ابن عباس، و أبوالعالية، و قتادة، و مقاتل، و الزجاج.

والثاني: انهم الشياطين، قاله السدي. قوله تعالى:

{يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ} يشمل الكل {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ٱلاْسْبَابُ} أي: عنهم مثل قوله {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} الفرقان: ٥٩.

وفي {ٱلاْسْبَابُ} أربعة أقوال.

احدها: أنها المودات و إلى نحوه، ذهب ابن عباس، و مجاهد، وقتادة.

والثاني: أنها الأعمال، رواه السدي عن ابن مسعود، و ابن عباس، وهو قول ابي صالح، وابن زيد،

والثالث: أنها الأرحام، رواه أبن جريج، عن ابن عباس.

والرابع: أنها تشمل جميع ذلك، قال ابن قتيبة. هي الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا. فأما تسميتها بالأسباب فالسبب في اللغة: الحبل ثم قيل لكل ما يتوصل به إلى المقصود: سبب. والكرة: الرجعة إلى الدنيا، قاله ابن عباس، وقتادة، في آخرين.

١٦٧

{فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} يريدون: من القادة { كما تبرؤوا منا} في الآخرة

{كَذٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللّه أَعْمَـٰلَهُمْ} قال الزجاج: أي: كتبرؤ بعضهم من بعض، يريهم اللّه أعمالهم حسرات عليهم لأن أعمال الكافر لا تنفعه وقال ابن الأنباري: يريهم اللّه أعمالهم القبيحة حسرات عليهم. إذا رأوا أحسن المجازاة للمؤمنين بأعمالهم، قال: ويجوز أن يكون كذلك يريهم اللّه ثواب أعمالهم الصالحة وجزاءها، فحذقٰ الجزاء. وأقام الأعمال مقامه قاله ابن فارس: والحسرة: التلهف على الشيء الفائت.

وقال غيره: الحسرة: أشد الندامة.

١٦٨

قوله تعالى: {يـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى ٱلاْرْضِ حَلَـٰلاً طَيّباً} نزلت في ثقيف، و خزاعة، وبني عامر، بن صعصعة، فيما حرموا على انفسهم. من الحرث، والأنعام، وحرموا البحيرة، والسائبة، والحام، قاله ابن السائب. قوله تعالى:

{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ} قرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم {خُطُوٰتِ} . مثقلة وقرأ نافع، وابن عامر، وابو بكر عن عاصم، وحمزة {خُطُوٰتِ} ساكنة الطاء خفيفة. وقرأ الحسن و أبو الجوزاء {خُطُوٰتِ} بفتح الخاء وسكون الطاء من غير همز. وقرأ أبو عمران الجوني بضم الخاء والطاء مع الهمز. قاله ابن قتيبة: خطواته: سبيله ومسلكه، وهي جمع خطوة، والخطوة بضم الخاء: ما بين القدمين، وبفتحها: الفعلة الواحدة. واتباعهم خطواته: أنهم كانوا يحرمون أشياء قد احلها اللّه، ويخلون أشياء قد حرمها اللّه. قوله تعالى:

{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي: بين وقيل: أبان عداوته بما جرى له مع آدم.

١٦٩

قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِٱلسُّوء} السوء: كل إثم وقبح قال ابن عباس وإنما سمي سوءا لأنه تسوء عواقبه وقيل لأنه يسوء إظهاره

{وَٱلْفَحْشَاء} من فحش الشيء: إذا جاز قدره وفي المراد بها هاهنا خمسة أقوال.

احدها: أنها كل معصية لها حد في الدنيا.

والثاني: أنها ما لا يعرف في شريعة ولا سنة.

والثالث: أنها البخل وهذه الاقوال الثلاثة منقولة عن ابن عباس.

والرابع: أنها الزنى، قاله السدي.

والخامس: المعاصي، قاله مقاتل. قوله تعالى:

{وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللّه مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي: أنه حرم عليكم ما لم يحرم.

١٧٠

قوله تعالى: {تَعْلَمُونَ وَإِذَا قيل لَهُمُ ٱتَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ ٱللّه} اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال.

احدها: أنها في الذين قيل لهم {كُلُواْ مِمَّا فِى ٱلاْرْضِ حَلَـٰلاً طَيّباً} فعلى هذا تكون الهاء والميم عائدة عليهم، وهذا قول مقاتل.

والثاني: أنها نزلت في اليهود، وهي قصة مستأنفة فتكون الهاء والميم كناية عن غير مذكور ذكره ابن اسحاق عن ابن عباس.

والثالث: في مشركي العرب وكفار قريش فتكون الهاء والميم عائدة إلى قوله: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللّه أَندَادًا}

فعلى القول الأول يكون المراد بالذي أنزل اللّه تحليل الحلال. وتحريم الحرام

وعلى الثاني يكون: الإسلام.

وعلى الثالث: التوحيد والإسلام. و {أَلْفَيْنَا} بمعنى: وجدنا. قوله تعالى:

{ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا} من الدين، ولا يهتدون له، أيتبعونهم ايضا في خطئهم وافترائهم؟ٰ

١٧١

قوله تعالى: {وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى يَنْعِقُ} في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال

احدها: أن معناها: ومثل الذين كفروا كمثل البهائم التي ينعق بها الراعي، وهذا قول الفراء، وثعلب، قالا جميعا، أضاف المثل إلى الذين كفروا، ثم شبههم بالراعي، ولم يقل: كالغنم والمعنى: ومثل الذين كفروا كمثل البهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت، فلو قال لها الراعي: ارعي، أو اشربي؛ لم تدر ما يقول لها فكذلك الذين كفروا فيما يأتيهم من القرآن، وإنذار الرسول، فأضيف التشبيه إلى الراعي، والمعنى في المرعي، وهو ظاهر في كلام العرب، يقولون: فلان يخافك كخوف الأسد، والمعنى: كخوفه الأسد، لأن الأسد هو المعروف بأنه المخوف. قال الشاعر:

كانت فريضة ما تقول كما  كان الزناء فريضة الرجم

والمعنى كما كان الرجم فريضة الزنى.

والثاني: أن معناها: ومثل الذين كفروا، ومثلنا في وعظهم، كمثل الناعق والمنعوق به، فحذف: ومثلنا، اختصارا إذ كان في الكلام ما يدل عليه، وهذا قول ابن قتيبة و الزجاج.

والثالث: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتم التي يعبدون، كمثل الذي ينعق، هذا قول ابن زيد والذي ينعق هو الراعي يقال نعق بالغنم ينعق نعقا ونعيقا ونعاقا ونعقانا قال ابن الانباري: والفاشي في كلام العرب أنه لا يقال: نعق إلا في الصياح بالغنم وحدها، فالغنم تسمع الصوت ولا تعقل المعنى.

{صُمٌّ بُكْمٌ} إنما وصفهم بالصم والبكم، أنهم لأنهم في تركهم قبول ما يسمعون يمنزلة من لا يسمع، وكذلك في النطق، والنظر وقد سبق شرح هذا المعنى.

١٧٢

{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات...}

١٧٣

قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةَ} قرأ أبو جعفر «الميتة» هاهنا وفي المائدة، والنحل: و {بَلْدَةً مَّيْتاً} ق:١١. بالتشديد، حيث وقع والميتة في عرف الشرع: اسم لكل حيوان خرجت روحه بغير ذكاة. وقيل: إن الحكمة في تحريم الميتة أن جمود الدم فيها بالموت يحدث، أذى للآكل، وقد يسمى المذبوح في بعض الأحوال: ميتة حكما، لأن حكمه حكم الميتة، كذبيحة المرتد. فأما الدم؛ فالمحرم منه: المسفوح، لقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} الأنعام: ١٤٥ قال القاضي أبو يعلى: فأما الدم الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذبح، وما يبقى في العروق فهو مباح.فأما لحم الخنزير؛ فالمراد جملته، و إنما خص اللحم، لأنه معظم المقصود قال الزجاج: الخنزير يشتمل على الذكر والأنثى. ومعنى {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللّه} البقرة: ١٧٣ ما رفع فيه الصوت بتسمية غير اللّه، ومثله الإهلال بالحج، إنما هو رفع الصوت بالتلبية. قوله تعالى:

{فَمَنِ ٱضْطُرَّ} أي: ألجيء ضرورة. وقرأ أبو جعفر: {فَمَنِ ٱضْطُرَّ}بكسر الطاء حيث كان. وأدغم ابن محيصن الضاد في الطاء. قوله تعالى:

{غَيْرَ بَاغٍ} قال الزجاج: البغي: قصد الفساد. يقال: بغى الجرح: إذا ترامى إلى الفساد.

وفي قوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} اربعة أقوال.

احدها: أن معناه غير باغ على الولاة، ولا عاد يقطع السبيل، هذا قول سعيد بن جبير، و مجاهد.

والثاني: غير باغ في أكله فوق حاجته ولا متعد بأكلها وهو يجد غيرها، هذا قول الحسن، وعكرمة، وقتادة، والربيع.

والثالث: غير باغ أي مستحل، ولا عاد غير مضطر، روي عن سعيد بن جبير، و مقاتل.

والرابع: غير باغ شهوته بذلك ولا عاد بالشبع، منه قاله السدي.

فصل معنى الضرورة في إباحة الميتة: ان يخاف على نفسه أو بعض أعضائه. سئل احمد، رضي اللّه عنه، عن المضطر إذا لم يأكل الميتة، فذكر عن مسروق أنه قاله: من اضطر فلم يأكل فمات دخل النار، فأما مقدار ما يأكل؛ فنقل حنبل: يأكل مقدار ما يقيمه عن الموت.ونقل ابن منصور: يأكل بقدر ما يستغني فظاهر الأولى: أنه لا يجوز له الشبع، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وظاهر الثانيه: جواز الشبع، وهو قول مالك.

١٧٤

قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ ٱللّه مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ}.قال ابن عباس: نزلت في اليهود، كتموا اسم النبي صلى اللّه عليه وسلم، وغيروه في كتابهم. والثمن القليل: ما يصيبونه من اتباعهم من الدنيا.

{أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ} قال الزجاج: معناه: إن الذين يأكلونه يعذبون به، فكأنهم يأكلون النار

{وَلاَ يُكَلّمُهُمُ} هذا دليل على أن اللّه لا يكلم الكفار ولا يحاسبهم. قوله تعالى:

{وَلاَ يُزَكّيهِمْ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: لا يزكي اعمالهم، قاله مقاتل.

والثاني: لا يثني عليهم، قاله الزجاج.

والثالث: لا يطهرهم من دنس كفرهم وذنوبهم، قاله ابن جرير.

١٧٥

قوله تعالى: {أُوْلَـٰئكَ ٱلَّذِينَ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَـٰلَةُ} أي اختاروها على الهدى. قوله تعالى:

{فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ} فيه أربعة أقوال.

احدها: أن معناه فما أصبرهم على عمل يؤديهم إلى النار، قاله عكرمة والربيع.

والثاني: ما أجرأهم على النار قاله الحسن، و مجاهد وذكر الكسائي. أن أعرابيا حلف له رجل كاذبا فقال الأعرابي: ما أصبرك على اللّه يريد ما أجرأك.

والثالث: ما أبقاهم في النار كما تقول: ما أصبر فلانا على الحبس. أي ما أبقاه فيه ذكره، الزجاج.

والرابع: أن المعنى: فأي: شيء صبرهم على النار قاله ابن الأنباري،

وفي «ما» قولان.

احدهما: أنها للاستفهام تقديرها ما الذي أصبرهم قاله عطاء، والسدي، وابن زيد، و أبو بكر بن عياش.

والثاني: أنها للتعجب كقولك: ما أحسن زيدا، وما أعلم عمرا. وقال ابن الانباري: معنى الآية التعجب، واللّه يعجب المخلوقين، ولا يعجب هو كعجبهم.

١٧٦

قوله تعالى: {ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللّه نَزَّلَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ} الإشارة بذلك إلى ما تقدم من الوعيد بالعذاب. فتقديره ذلك العذاب بأن اللّه نزل الكتاب بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه.

وفي «الكتاب» قولان

احدهما: أنه التوراة

والثاني القرآن.

وفي «الحق» قولان.

احدهما: أنه العدل، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه ضد الباطل، قاله مقاتل. قوله تعالى:

{وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ} فيه قولان.

احدهما: أنه التوراة ثم في اختفلاهم فيها ثلاثة أقوال.

احدها: أن اليهود والنصارى اختلفوا فيها فادعى النصارى فيها صفة عيسى، وأنكر اليهود، ذلك

والثاني: انهم خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم،

والثالث: انهم خالفوا سلفهم في التمسك بها.

والثاني: أنه القرآن فمنهم من قال: شعر، ومنهم من قال: إنما يعلمه بشر. والشقاق: معاداة بعضهم لبعض. وفي معنى «بعيد» قولان.

احدهما: أن بعضهم متباعد في مشاقة بعض، قاله الزجاج.

والثاني: أنه بعيد من الهدى.

١٧٧

قوله تعالى: {لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} قال قتادة: ذكر لنا أن رجلا سأل عن «البر» فأنزلت هذه الآية، فدعاه رسول اللّه، فتلاها عليه، وفيمن خوطب بها قولان.

احدهما: انهم المسلمون.

والثاني: اهل الكتابين

فعلى القول الاول؛ معناها: ليس البر كله في الصلاة، ولكن البر ما في هذه الآية. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، و مجاهد، وعطاء، والضحاك، وسفيان،

وعلى القول الثاني؛ معناها: ليس البر صلاة اليهود إلى المغرب، وصلاة النصارى إلى المشرق، ولكن البر ما في هذه الآية، وهذا قول قتادة، والربيع، وعوف الأعرابي و مقاتل. وقرأ حمزة وحفص عن عاصم:

{لَّيْسَ ٱلْبِرَّ} بنصب الراء. وقرأ الباقون برفعها، قال أبو علي: كلاهما حسن لأن كل واحد من الاسمين؛ اسم «ليس» وخبرها معرفة، فاذا اجتمعا في التعريف تكافآ في كون احدهما اسما، والآخر خبرا، كما تتكافأ النكرتان.

وفي المراد بالبر ثلاثة أقوال.

احدها: الإيمان.

والثاني: التقوى.

والثالث: العمل الذي يقرب إلى اللّه. قوله تعالى:

{وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِٱللّه} فيه قولان.

احدهما: أن معناه: ولكن البر بر من آمن باللّه.

والثاني: ولكن ذا البر من آمن باللّه. حكاهما الزجاج.

وقرأ نافع، وابن عامر، {وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ} بتخفيف نون «لكن» و رفع «البر» وإنما ذكر اليوم الآخر، لأن عبدة الأوثان لا يؤمنون بالبعث

وفي المراد بالكتاب هاهنا قولان.

احدهما: أنه القرآن.

والثاني: أنه بمعنى الكتب، فيدخل في هذا اليهود لتكذيبهم بعض النبيين وردهم القرآن. قوله تعالى:

{وَءاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبّهِ} في هاء «حبه» قولان.

احدهما: أنها ترجع إلى المال.

والثاني: إلى الإيتاء. وكان الحسن إذا قرأها قال: سوى الزكاة المفروضة. قوله تعالى:

{ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ} يريد قرابة المعطي وقد شرحنا معنى: {ٱلْيَتَـٰمَىٰ * وَٱلْمَسَـٰكِينُ} عند رأس ثلاث وثمانين آية من هذه السورة.

فأما {ٱبْنُ * ٱلسَّبِيلِ} ففيه ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الضيف، قاله سعيد بن جبير، والضحاك، و مقاتل، و الفراء، وابن قتيبة و الزجاج،

والثاني: أنه الذي يمر بك مسافرا، قاله الربيع، بن أنس. وعن مجاهد وقتادة كالقولين. وقد روي عن الإمام احمد أنه قال: هو المنقطع به يريد بلدا آخر وهذا اختيار ابن جرير الطبري، وأبي سليمان الدمشقي، والقاضي أبو يعلى، ويحققه: أن السبيل الطريق، وابنه: صاحبه الضارب فيه فله حق على من يمر به إذا كان محتاجا. ولعل اصحاب القول الأول أشاروا إلى هذا، لأنه إن كان مسافرا، فانه ضيف لم ينزل.

والقول الثالث: أنه الذي يريد سفرا ولا يجد نفقة، ذكره الماوردي وغيره عن الشافعي. قوله تعالى:

{وَفِي ٱلرّقَابِ} أي: في فك الرقاب. ثم فيه قولان.

احدهما: انهم المكاتبون يعانون في كتابتهم بما يعتقون به، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وهو مروي عن علي بن أبي طالب، والحسن، وابن زيد والشافعي،

والثاني: انهم عبيد يشترون بهذا السهم ويعتقون، رواه مجاهد عن ابن عباس وبه قال مالك بن أنس، و أبو عبيد، وأبو ثور وعن احمد كالقولين. فأما البأساء: فهي: الفقر. والضراء: المرض. وحين البأس: القتال؛ قاله الضحاك.

{أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُوا} قال أبوالعالية: تكلموا بالإيمان وحققوه بالعمل.

١٧٨

قوله تعالى: {يـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ} روى شيبان عن قتادة أن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان، وكان الحي منهم إذا كان فيهم عدة ومنعة، فقتل عبدهم عبد قوم آخرين؛ قالوا: لن نقتل به إلا حرا، تعززا لفضلهم على غيرهم. و إذا قتلت امرأة منهم امرأة من آخرين؛ قالوا: لن نقتل بها إلا رجل؛ فنزلت هذا الآية. ومعنى «كتب» فرض، قاله ابن عباس وغيره. والقصاص: مقابلة الفعل بمثله، مأخوذ من: قص الأثر.

فان قيل: كيف يكون فرضا والولى مخير بينه وبين العفو؟

فالجواب: أنه فرض على القاتل للولي، لا على الولي. قوله تعالى:

{فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء} أي: من دم أخيه، أي: ترك له، القتل ورضي منه بالدية: ودل قوله {مِنْ أَخِيهِ} على أن القاتل لم يخرج عن الإسلام،

{فَٱتِبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ} أي: مطالبته بالمعروف، بأمر آخذ الدية بالمطالبة الجميلة التي لا يرهقة فيها:

{وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَـٰنٍ} يأمر المطالب بان لا يبخس ولا يماطل

{ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ} قال سعيد بن جبير: كان حكم اللّه على أهل التوراة أن يقتل قاتل العمد ولا يعفى عنه، ولا يؤخذ منه دية، فرخص اللّه لأمة محمد فان شاء ولي. المقتول عمدا، قتل وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية. قوله تعالى:

{فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ} أي: ظلم، فقتل قاتل صاحبه بعد أخذ الدية؛

{فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال قتادة: يقتل ولا تقبل منه الدية. فصل ذهب جماعة من المفسرين إلى أن دليل خطاب هذه الآية منسوخ، لأنه لما قال:

{ٱلْحُرُّ بِالْحُرّ}؛ اقتضى أن لا يقتل العبد بالحر، وكذلك لما قال:

{وَٱلاْنثَىٰ بِٱلاْنْثَىٰ} اقتضى أن لا يقتل الذكر بالأنثى من جهة دليل الخطاب، وذلك منسوخ بقوله تعالى:

{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ} قال شيخنا علي بن عبد اللّه:وهذا عند الفقهاء ليس بنسخ، لأن الفقهاء يقولون: دليل الخطاب حجة مالم يعراضه دليل دليل أقوى منه.

١٧٩

قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ} قال الزجاج إذا علم الرجل أنه إن قتل قتل؛ أمسك عن القتل فكان في ذلك حياة للذي هم بقتله ولنفسه، لأنه من أجل القصاص امسك. وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال:

أبلغ أبا مالك عني مغلغلة  وفي العتاب حياة بين أقوام

يريد: انهم إذا تعاتبوا أصلح من بينهم العتاب. والألباب: العقول، وإنما خصهم بهذا الخطاب و إن كان الخطاب عاما، لأنهم المنتفعون بالخطاب، لكونهم يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه. قوله تعالى:

{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} قال ابن عباس: لعلكم تتقون الدماء. وقال ابن زيد: لعلك تتقي أن يقتله فتقتل به. فصل نقل ابن منصور عن احمد: إذا قتل رجل رجلا بعصى أو خنقه، أو شدخ رأسه بحجر يقتل مثل الذي قتل به، فظاهر هذا: أن القصاص يكون بغير السيف، ويكون بمثل الآلة التي قتل بها، وهو قول مالك، والشافعي. ونقل عنه حرب: إذا قتله بخشبة قبل بالسيف. ونقل أبو طالب: إذا خنقه قتل بالسيف. فظاهر هذا: أنه لا يكون القصاص إلا بالسيف، وهو قول أبي حنيفة رحمه اللّه.

١٨٠

قوله تعالى: {كِتَـٰبَ * عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ}قال الزجاج: المعنى: وكتب عليكم، إلا أن الكلام إذا طال استغنى عن العطف بالواو وعلم أن معناه معنى الواو، وليس المراد: كتب عليكم أن يوصي احدكم عند الموت، لأنه في شغل حينئذ، وإنما المعنى: كتب علكيم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصية، فيقول الرجل: إذا أنا مت، فلفلان كذا. فأما الخير هاهنا؛ فهو المال في قول الجماعة.

وفي مقدار المال الذي تقع هذه الوصيه فيه ستة أقوال.

احدها: أنه ألف درهم فصاعدا، روي عن علي وقتادة.

والثاني: أنه سبعمائة درهم فما فوقها، رواه طاووس عن ابن عباس.

والثالث: ستون دينار فما فوقها، رواه عكرمة، عن ابن عباس.

والرابع: أنه المال الكثير الفاضل عن نفقة العيال، قالت عائشة لرجل سألها: إني أريد الوصية، فقالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة قالت: هذا شيء يسير، فدعه لعيالك.

والخامس: أنه من ألف درهم إلى خمسمائة، قاله إبراهيم النخعي.

والسادس: أنه القليل والكثير، رواه معمر عن الزهري. فأما المعروف؛ فهو الذي لا حيف فيه.

فصل

وهل كانت الوصية ندبا أو واجبة؟ فيه قولان.

احدهما: أنها كانت ندبا.

والثاني: أنها كانت فرضا، وهو أصح لقوله تعالى:

{كِتَـٰبَ} ومعناه: فرض. قال ابن عمر نسخت: هذه الآية بآية الميرات. وقال ابن عباس: نسختها {لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ ٱلْوٰلِدٰنِ وَٱلاْقْرَبُونَ} النساء: ٧.

والعلماء متفقون على نسخ الوصية للوالدين. والأقربين الذين يرثون وهم مختلفون في الأقربين الذين لا يرثون: هل تجب الوصية لهم؟ على قولين، اصحهما أنها لا تجب لأحد.

١٨١

قوله تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ} قال الزجاج: من بدل أمر الوصية بعد سماعه إياها، فانما إئمه على مبدله لا على الموصي، ولا على المصى له

{إِنَّ ٱللّه سَمِيعٌ} لما قد قاله الموصي {عَلِيمٌ} بما يفعله المصى إليه.

١٨٢

قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم {مُّوصٍ} ساكنة الواو، وقرأ حمزة، والكسائي، و أبو بكر، عن عاصم «موص» مفتوحة الواو مشددة الصاد.

وفي المراد بالخوف هاهنا قولان.

احدهما: أنه العلم.

والثاني: نفس الخوف فعلى الأول؛ يكون الجور قد وجد. وعلى الثاني: يخشى وجوده.«الجنف» الميل عن الحق. قال الزجاج: جنفا، أي: ميلا، أو إثما، أي: قصد الإثم وقال ابن عباس: الجنف: الخطأ، والإثم: العمد. قال أبو سليمان الدمشقي: الجنف: الخروج عن الحق. وقد يسمى به الممطىء والعامد ألا أن المفسرين عقلوا الجنف على المخطىء والإثم على العامد.

وفي توجيه هذه الآية قولان.

احدهما: أن معناه: من حضر رجلا يموت، فأسرف في وصيته، أو قصر عن حق؛ فليأمره بالعدل، هذا قول مجاهد.

والثاني: أن معناه: من اوصى بجور فرد وليه وصيته، أو ردها إمام من أئمة المسلمين إلى كتاب اللّه وسنة نبيه؛ فلا إثم عليه وهذا قول قتادة. قوله تعالى:

{فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} أي: بين الذين أوصى، لهم ولم يجر لهم ذكر، غير أنه لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له، وأنشد الفراء: وما أدري إذا يممت أرضا  أريد الخير أيهما يليني أألخير الذي أنا أبتغيه  أم الشر الذي هو يبتغيني فكنى في البيت الاول عن الشر بعد ذكره الخير وحده، لما في مفهوم اللفظ من الدلالة.

١٨٣

قوله تعالى: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ} الصيام في اللغة: الإمساك في الجملة، يقال: صامت الخيل: إذا امسكت عن السير، وصامت الريح: إذا امسكت عن الهبوب. والصوم في الشرع: عبارة عن الإمساك عن الطعام والشراب والجماع مع انضمام النية إليه.

وفي الذين من قبلنا ثلاثة أقوال.

احدها: انهم أهل الكتاب، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس، وهو قول مجاهد.

والثاني: انهم النصارى: قاله الشعبي والربيع،

والثالث: انهم جميع أهل الملل، ذكره أبو صالح عن ابن عباس.

وفي موضع التشبيه في كاف {كَمَا كُتِبَ} قولان.

احدهما: أن التشبيه في حكم الصوم وصفته، لا في عددة. قال سعيد بن جبير: كتب عليهم إذا نام احدهم قبل أن يطعم لم يحل له أن يطعم إلى القابلة، والنساء عليهم حرام ليلة الصيام، وهو عليهم ثابت. وقد أرخص لكم. فعلى هذا تكون هذه الآية منسوخة بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصّيَامِ ٱلرَّفَثُ}البقرة: ١٨٧. فانها فرقت بين صوم أهل الكتاب وبين صوم المسلمين.

والثاني: أن التشبيه في عدد الايام، ثم في ذلك قولان.

احدهما: أنه فرض على هذه الأمة صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وقد كان ذلك فرضا على من قبلهم، قال عطية عن ابن عباس في قوله تعالى:

{كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} قال: كان ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ برمضان قال معمر عن قتادة: كان اللّه قد كتب على الناس قبل رمضان ثلاثة أيام من كل شهر، فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ}

والثاني: أنه فرض على من قبلنا صوم رمضان بعينه، قال ابن عباس: فقدم النصارى يوما ثم يوما واخروا يوما، ثم قالوا: نقدم عشرا ونؤخر عشرا، وقال السدي عن أشياخه: اشتد على النصارى صوم رمضان، فجعل يتقلب عليهم في الشتاء والصيف، فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجلوا صياما في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا: نزيد عشرين يوما نكفر بها ما صنعنا. فعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة. قوله تعالى:

{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} لأن الصيام وصلة إلى التقى، إذ هو يكف النفس عن كثير مما تتطلع إليه من المعاصي، وقيل: لعلكم تتقون محظورات الصوم.

١٨٤

قوله تعالى: {أَيَّامًا مَّعْدُودٰتٍ} قال الزجاج: نصب «أياما» على الظرف كأنه قال: كتب عليكم الصيام في هذه الأيام. والعامل فيه «الصيام» كأن المعنى: كتب عليكم أن تصوموا أياما معدودوات.

وفي هذه الايام ثلاثة أقوال.

احدها: أنها ثلاثة أيام من كل شهر.

والثاني: أنها ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء.

والثالث: أنها شهر رمضان، وهو الأصح. وتكون الآية محكمة في هذا القول وفي القولين، قبله تكون منسوخة {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ} فيه إضمار: فأفطر.

فصل

وليس المرض والسفر على الإطلاق، فان المريض إذا لم يضر به الصوم؛ لم يجز له الإفطار، وإنما الرحمة موقوفة على زيادة المرض بالصوم واتفق العلماء أن السفر مقدر، واختلفوا في تقديره، فقال احمد، ومالك، والشافعي، أقله مسيرة ستة عشر فرسخا؛ يومان، وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقله مسيرة ثلاثة أيام، مسيرة اربعة وعشرين فرسخا. وقال الأوزاعي: أقله مرحلة يوم مسيرة ثمانية فراسخ. وقيل: إن السفر مشتق من السفر الذي هو الكشف. يقال سفرت المرأة عن وجهها، وأسفر الصبح: إذا أضاء فسمي الخروج إلى المكان البعيد: سفرا، لأنه يكشف عن أخلاق المسافر. قوله تعالى:

{وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} نقل عن ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وابن عمر، و ابن عباس، وسلمة بن الأكوع، وعلقمة، والزهري في آخرين في هذه الآية؟ انهم قالوا كان: من شاء صام، ومن شاء أفطر. وافتدى يطعم عن كل يوم مسكينا حتى نزلت: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فعلى هذا يكون معنى الكلام: وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية، ثم نسخت وروي عن عكرمة أنه قال: نزلت في الحامل والمرضع وقرأ أبو بكر الصديق، و ابن عباس: {وَعَلَى ٱلَّذِينَ} بضم الياء وفتح الطاء وتشديد الواو قال ابن عباس: هو الشيخ والشيخة. قوله تعالى:

{يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي «فدية» منون {طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ} موحد. وقرأ نافع، وابن عامر: «فدية» بغير تنوين «طعام» بالخفض «مساكين» بالجمع. قال أبو علي: معنى القراءة الأولى: على كل واحد طعام مسكين. ومثله: {فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ} النور: ٤. أي: اجلدوا كل واحد ثمانين. قال أبو زيد: أتينا الأمير فكسانا كلنا حلة، وأعطانا كلنا مئة، أي: فعل ذلك بكل واحد منا. قال: فأما من أضاف الفدية إلى الطعام فكاضافة البعض إلى ما هو بعض له، وذلك أنه سمى الطعام الذي يفدى به: فدية ثم أضاف الفدية إلى الطعام الذي يعم الفدية وغيرها فهو على هذا من باب: خاتم حديد. قوله تعالى:

{فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أن معناه من أطعم مسكينين، قاله ابن عباس، و مجاهد.

والثاني: أن التطوع إطعام مساكين، قاله طاووس.

والثالث: أنه زيادة المسكين على قوته، وهو مروي عن مجاهد وفعله أنس بن مالك لما كبر.

{وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} عائد إلى من تقدم ذكره من الأصحاء المقيمين المخيرين بين الصوم والإطعام على ما حكينا في اول الآية عن السلف، ولم يرجع ذلك إلى المرضى والمسافرين والحامل والمرضع، اذ الفطر في حق هؤلاء أفضل من الصوم، وقد نهوا عن تعريض أنفسهم للتلف، وهذا يقوي قول القائلين بنسخ الآية.

١٨٥

قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} قال الأخفش شهر رمضان بالرفع على تفسير الأيام، كانه لما قال: {أَيَّامًا مَّعْدُودٰتٍ} فسرها فقال: هي شهر رمضان قال: أبو عبيد وقرأ مجاهد {شَهْرُ رَمَضَانَ} بالنصب وأراه نصبه على معنى الإغراء: عليكم شهر رمضان فصوموه كقوله: {مّلَّةَ أَبِيكُمْ} وقوله {صِبْغَةَ ٱللّه} قلت: وممن قرأ بالنصب معاوية، والحسن وزيد بن علي وعكرمة، ويحيى بن يعمر، قال ابن فارس: الرمض: حر الحجارة من شدة حر الشمس، ويقال: شهر رمضان، من شدة الحر، لأنهم لما نقلوا اسماء الشهور عن اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التى وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر، ويجمع على رمضانات، وأرمضاء وأرمضة. قوله تعالى:

{ٱلَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ٱلْقُرْآنُ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أنه أنزل القرآن فيه جملة واحدة، وذلك في ليلة القدر إلى بيت العزة من السماء الدنيا، قاله ابن عباس.

والثاني: أن معناه أنه انزل القرآن بفرض صيامه، روي عن مجاهد، والضحاك.

والثالث: أن معناه: إن القرآن ابتدىء بنزوله فيه على النبي، صلى اللّه عليه وسلم، قاله ابن إسحاق، وابو سليمان الدمشقي. قال مقاتل: والفرقان المخرج في الدين من الشبهة والضلالة. قوله تعالى:

{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أي: من كان حاضرا غير مسافر

فان قيل: ما الفائدة في اعادة ذكر المرض والسفر في هذه الآية؟ وقد تقدم ذلك قيل: لأن في الآية المتقدمة منسوخا، فأعاده لئلا يكون مقرونا بالمنسوخ. قوله تعالى:

{يُرِيدُ ٱللّه بِكُمُ ٱلْيُسْرَ} قال ابن عباس، و مجاهد، وقتادة، والضحاك، اليسر: الإفطار في السفر والعسر: الصوم فيه. وقال عمر بن عبد العزيز: أي ذلك كان أيسر عليك فافعل: الصوم في السفر، أو الفطر. قوله تعالى:

{وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، {وَلِتُكْمِلُواْ} باسكان الكاف خفيفة. وقرأ أبو بكر عن عاصم بتشديد الميم، وذلك مثل: «وصى» و «أوصى» وقال ابن عباس: ولتكملوا عدة ما افطرتم.

وقال بعضهم: المراد به: لا تزيدوا على ما افترض، كما فعلت النصارى، ولا تنقلوه عن زمانه كما نقلته

{وَلِتُكَبّرُواْ ٱللّه عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ} قال ابن عباس: حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال، أن يكبروا للّه حتى يفرغوا من عيدهم.

فان قيل: ما وجه دخول الواو في قوله: {وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ٱللّه} وليس هناك ما يعطف عليه؟

فالجواب: أن هذه الواو عطفت اللام التي بعدها على لام محذوفة، والمعنى: ولا يريد بكم العسر، ليسعدكم، ولتكملوا العدة، فحذفت اللام الأولى لوضوح معناها، ذكره ابن الانباري.

فصل ومن السنة إظهار التكبير ليلة الفطر وليلة النحر، وإذا غدوا إلى المصلى.

واختلفت الرواية عن احمد، رضي اللّه عنه، متى يقطع في عيد الفطر، فنقل عنه حنبل: يقطع بعد فراغ الإمام من الخطبة. ونقل الأثرم: إذا جاء المصلى، قطع. قال القاضي أبو يعلى: يعني: إذا جاء المصلى وخرج الإمام.

١٨٦

قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي} في سبب نزولها خمسة أقوال.

احدها: أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال أقريب ربنا فنناجيه، ام بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية، رواه الصلت بن حكيم عن ابيه عن جده.

والثاني: أن يهود المدينة قالوا: يا محمدٰ كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تتزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام؟ٰ فنزلت هذه الآية، رواه ابو صالح عن ابن عباس.

والثالث: انهم قالوا: يا رسول اللّه: لو نعلم آية ساعة أحب إلى اللّه أن ندعو، فيها دعوانا فنزلت هذه الآية قاله عطاء.

والرابع: أن أصحاب النبي قالوا له: اين اللّه؟ فنزلت هذه الآية قاله الحسن.

والخامس: أنه لما حرم في الصوم الاول على المسلمين بعد النوم الأكل والجماع؛ أكل رجل منهم بعد أن نام، ووطى رجل بعد أن نام، فسألوا: كيف التوبة مما عملوا؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى الكلام: إذا سألوك عني، فأعلمهم اني قريب.

وفي معنى «أجيب» قولان.

احدهما: اسمع، قاله الفراء وابن القاسم.

والثاني: أنه من الإجابة {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى} أي: فليجيبوني.

قال الشاعر:

وداع دعا يا من يجيب إلى الندى  فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أراد: فلم يجبه وهذا قول ابي عبيدة، وابن قتبية، و الزجاج

{لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} قال أبوالعالية: يعني: يهتدون.

فصل

إن قال قائل: هذه الآية تدل على أن اللّه تعلى يجيب أوعيه الداعين، وترى كثيرا من الداعين لا يستجاب لهمٰ

فالوجواب: أن أبا سعيد روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال: ما من مسلم دعا اللّه تعالى بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم؛ الا أعطاه اللّه بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، و إما أن يدفع عنه من السوء مثلها.

و جواب آخر: وهو أن الدعاء تفتقر إجابته إلى شروط أصلها الطاعة للّه، ومنها أكل الحلال، فإن أكل الحرام يمنع إجابة الدعاء، ومنها حضور القلب، ففي بعض الحديث: يقبل اللّه دعاء من قلب غافل لاه .

وجواب آخر وهو أن الداعي قد يعتقد المصلحة في إجابته إلى ما سأل، وقد لا تكون المصلحة في ذلك، فيجاب إلى مقصوده الأصلي، وهو طلب المصلحة، وقد تكون المصلحة في التأخير أو في المنع.

١٨٧

قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصّيَامِ ٱلرَّفَثُ} سبب نزول هذه الآية أن الصحابة كانوا إذا نام الرجل قبل الأكل والجماع، حرما عليه إلى أن يفطر فجاء شيخ من الأنصار وهو صائم إلى اهله، فقال: عشوني، فقالوا: حتى نسخن لك طعاما، فوضع رأسه فنام، فجاؤوا بالطعام، فقال: قد كنت نمت، فبات يتقلب ظهرا لبطن، فلما أصبح اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم؛ فأخبره فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول اللّهٰ إني أردت أهلي الليلة، فقالت: إنها قد نامت، فظننتها تعتل، فواقعتها، فأخبرتني أنها قد نامت، فأنزل اللّه تعالى في عمر بن الخطاب: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ} وأنزل اللّه في الانصاري: {وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلابْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلاسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ} هذا قول جماعة من المفسرين.

واختلفوا في اسم هذا الانصاري على اربعة أقوال.

احدها: قيس بن صرمة، قاله البراء.

والثاني: صرمة بن أنس، قاله القاسم بن محمد، وقال عبد الرحمن بن ابي ليلى صرمة بن مالك،

والثالث: ضمرة بن أنس.

والرابع: أبو قيس بن عمر. وذكر القولين أبو بكر الخطيب. فأما «الرفث» فقال ابن عمر، وابن عباس، و مجاهد، وعطاء، والحسن، وابن جبير في آخرين: هو الجماع. قوله تعالى:

{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} فيه قولان.

احدهما: أن اللباس السكن ومثله {جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيْلَ لِبَاساً} الفرقان: ٤٧ أي: سكنا. وهذا قول ابن عباس، وابن جبير، و مجاهد، وقتادة.

والثاني: انهن بمنزلة اللباس، لإفضاء كل واحد ببشرته إلى بشرة صاحبه، فكنى عن اجتماعهما متجردين باللباس. قال الزجاج: والعرب تسمي المرأة: لباسا وإزارا، قال النابغة الجعدي:

إذا ماالضجيع ثنى جيدها  تثنت فكانت عليه لباسا

وقال غيره:

ألا أبلغ أبا حفص رسولا  فدىً لك من أخي ثقة إزاري

يريد: بالإزار امرأته قوله تعالى:

{عَلِمَ ٱللّه أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} قال ابن قتيبة: يريد: تخونونها بارتكاب ما تحرم عليكم. قال ابن عباس: وعنى بذلك فعل عمر، فإنه أتى اهله، فلما اغتسل اخذ يلوم نفسه ويبكي {فَٱلـنَ بَـٰشِرُوهُنَّ}: أصل المباشرة: إلصاق البشرة بالبشرة. وقال ابن عباس المراد بالمباشرة هاهنا: الجماع.

{وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللّه لَكُمْ} فيه اربعة اقوال:

احدها: أنه الولد، قاله ابن عباس، والحسن، و مجاهد في آخرين. قال بعض أهل العلم: لما كانت المباشرة قد تقع على ما دون الجماع اباحهم الجماع الذي يكون من مثله الولد فقال: {وَٱبْتَغُواْ مَا كَتَبَ ٱللّه لَكُمْ} يريد الولد.

والثاني: أن الذي كتب لهم الرخصة، وهو قول قتادة. وابن زيد.

والثالث: أنه ليلة القدر، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس.

والرابع: أنه القرآن، فمعنى: الكلام اتبعوا القرآن فما أبيح لكم وأمرتم به فهو المبتغى، وهذا اختيار الزجاج. قوله تعالى:

{وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلابْيَضُ} قال عدي بن حاتم: لما نزلت هذه الآية، عمدت إلى عقالين، ابيض واسود، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أقوم في الليل ولا أستبين الاسود من الابيض، فلما أصبحت؛ غدوة على رسول اللّه فأخبرته، فضحك وقال: إن كان وسادك إذا لعريض إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل وقال سهل بن سعد: نزلت بن سعد نزلت هذه الآية:

{حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلابْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلاسْوَدِ} ولم ينزل: {مِنَ ٱلْفَجْرِ} فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط احدهم في رجليه الخيط الاسود والخيط الابيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له زيهما، فأنزل اللّه بعد ذلك {مِنَ ٱلْفَجْرِ} فعلموا أنما يعني بذلك الليل والنهار.

فصل إذا شك في الفجر، فهل يدع السحور ام لا؟فظاهر كلام احمد يدل على أنه لا يدع السحور، بل يأكل حتى يستيقن طلوع الفجر. وقال مالك: أكره له أن يأكل إذا شك في طلوع الفجر، فان أكل فعليه القضاء وقال الشافعي: لا شيء عليه. قوله تعالى:

{وَلاَ تُبَـٰشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَـٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَـٰجِدِ} في هذه المباشرة قولان.

احدهما: أنها المجامعة، وهو قول الاكثرين.

والثاني: أنها ما دون الجماع من اللمس والقبلة، قاله ابن زيد. وقال قتادة: كان الرجل المعتكف إذا خرج من المسجد، فلقي امرأته باشرها إذا أراد ذلك، فوعظهم اللّه في ذلك. فصل الاعتكاف في اللغة: اللبث، يقال فلان معتكف على كذا، وعاكف. وهو فعل مندوب إليه، إلا أن ينذره الإنسان، فيجب. ولا يجوز إلا في مسجد تقام فيه الجماعات، ولا يشترط في حق المرأة مسجد تقام فيه الجماعة، إذ الجماعة لا تجب عليها. وهل يصح بغير صوم؟ فيه عن احمد روايتان. قوله تعالى:

{تِلْكَ حُدُودُ ٱللّه} قال ابن عباس: يعني: المباشرة

{فَلاَ تَقْرَبُوهَا} قال الزجاج: الحدود ما منع اللّه من مخالفتها، فلا يجوز مجاوزتها. وأصل الحد في اللغة: المنع، ومنه: حد الدار، وهو ما يمنع غيرها من الدخول فيها. والحداد في اللغة: الحاجب والبواب، وكل من منع شيئا فهو حداد قال الأعشى:

فقمنا ولما يصح ديكنا  إلى جونة عند حدادها

أي: عند ربها الذي يمنعها الا بما يريده. واحدت المرأة على زوجها، وحدت، فهي حاد، ومحد: إذا قطعت الزينة، وامتنعت منها، واحددت النظر إلى فلان: إذا منعت نظرك من غيره. وسمي الحديد حديدا، لأنه يمتنع به الأعداء. قوله تعالى:

{كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱللّه} أي مثل هذا البيان الذي ذكر.

١٨٨

قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُم بِٱلْبَاطِلِ} سبب نزولها: أن امرؤ القيس بن عابس وعبدان الحضرمي، اختصما في ارض، وكان عبدان. هو الطالب ولا بينة له، فأراد امرؤ القيس أن يحلف، فقرأ عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللّه وَأَيْمَـٰنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا} آل عمران: ٧٧. فكره أن خلف ولم يخاصم في الأرض. فنزلت هذه الآية. هذا قول جماعة، منهم سعيد بن جبير. ومعنى الآية لا يأكل بعضكم أموال بعض، كقوله: {فَٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} قال القاضي أبو يعلي:

والباطل على وجهين.

احدهما: أن يأخذه بغير طيب نفس من مالكه، كالسرقة والغصب، والخيانة،

والثاني: أن يأخذه بطيب نفسه، كالقمار، والغناء، وثمن الخمر. وقال الزجاج: الباطل الظلم. «وتدلوا» أصله في اللغة من: أدليت الدلو: إذا أرسلتها لتملأها، ودلوتها: إذا أخرجتها. ومعنى أدلى فلان بحجته: أرسلها وأتى بها على صحة. فمعنى الكلام: تعملون على ما يوجبه إدلاء الحجة: وتخونون في الأمانة، وأنتم تعلمون أن الحجة عليكم في الباطن.

وفي ها «بها» قولان.

احدهما: أنها ترجع إلى الاموال كأنه قال: لا تصانعوا ببعضها جورة الحكام.

والثاني: أنها ترجع إلى الخصومة

فان قيل: كيف أعاد ذكر الأكل فقال: «ولا تأكلوا» «لتأكلوا»

فالجواب: أنه وصل اللفظة الاولى بالباطل، والثانية بالإثم، فأعادها للزيادة في المعنى، ذكره ابن الانباري.

١٨٩

قوله تعالى: {يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلاهِلَّةِ} هذه الآية من اولها إلى قوله: «والحج» نزلت على سبب، وهو أن رجلين من الصحابة قالا: يا رسول اللّه ما بال الهلال يبدو، دقيقا ثم يزيد ويمتليء حتى يستدير ويستوي، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان؟ فنزلت: {يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلاهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجّ} هذا قول ابن عباس.

ومن قوله تعالى: {وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} إلى آخرها، يدل على سبب آخر، وهو انهم كانوا إذا حجوا ثم قدموا المدينة، لم يدخلوا من باب، ويأتون البيوت من ظهورها فنسي رجل فدخل من باب فنزلت: {وَلَيْسَ ٱلْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ ٱلْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا} هذا قول البراء بن عازب.

وفيما كانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها لأجله اربعة أقوال.

احدها: انهم كانوا يفعلون ذلك لأجل الإحرام، قاله ابن عباس، و أبوالعالية، والنخعي، وقتادة، وقيس النهشلي.

والثاني: لأجل دخول الشهر الحرام، قاله البراء بن عازب.

والثالث: أن أهل الجاهلية كانوا إذا هم احدهم بالشىء فاحتبس عنه؛ لم يأت بيته من بابه حتى يأتي الذي كان هم به، قاله الحسن.

والرابع: أن أهل المدينة كانوا إذا رجعوا من عيدهم فعلوا ذلك، رواه عثمان بن عطاء عن أبيه.فأما التفسير؛ فانما سألوه عن وجه الحكمة في زيادة الأهلة ونقصانها، فأخبرهم انها مقادير لما يحتاج الناس اليه في صومهم وحجهم وغير ذلك. والأهلة: جمع هلال.

وكم يبقى الهلال على هذه التسمية؟ فيه للعرب اربعة أقوال.

احدها: أنه يسمى هلالا لليلتين من الشهر.

والثاني: لثلاث ليال ثم يسمى قمرا.

والثالث: إلى أن يحجر وتحجيره أن يسير بخطة دقيقة، وهو قوال الأصمعي.

والرابع: إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل، حكى هذه الاقوال ابن السري. واختار الأول قال: واشتقاق الهلال من قولهم: استهل الصبي: إذا بكى حين يولد، و أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، فسمي هلالا، لأنه حين يرى يهل الناس بذكره. قوله تعالى:

{وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰ} مثل قوله تعالى: {وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِٱللّه} وقد سبق بيانه، واختلف القراء في البيوت وما أشبهها، فقرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي، بكسر باء «البيوت» وعي «العيون» وغين «الغيوب»

وروي عن نافع أنه ضم باء «البيوت» وعين «العيون» وغين «الغيوب» وجيم «الجيوب» وشين «الشيوخ»

وروى عنه قالون أنه كسر باء «البيوت» وقرأ أبو عمر، و أبو جعفر بضم الأحرف الخمسة، وكسرهن جميعا حمزة، واختلف عن عاصم. قال الزجاج: من ضم «البيوت» فعلى أصل الجمع: بيت وبيوت، مثل: قلب وقلوب، وفلس وفلوس، ومن كسر فانما كسر للياء التي بعد الباء. وذلك عند البصريين ردىء، لأنه ليس في الكلام فعول بكسر الفاء. وسمعت شيحنا أبا منصور اللغوي يقول: إذا كان الجمع على فعول، وثانيه ياء؛ جاز فيه الضم والكسر، تقول: بيوت وبيوت، وشيوخ وشيوخ، وقيود وقيود.

١٩٠

قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل اللّه الذين يقاتلونكم. سبب نزولها أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لما صد عن البيت، ونحر هديه بالحديبية، وصالحه المشركون على أن يرجع من العام المقبل؛ رجع فلما تجهز في العام المقبل؛ خاف أصحابه أن لا تفي لهم قريش بذلك، و أن يصدوهم ويقاتلوهم، وكره أصحابه القتال في الشهر الحرام؛ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. قوله تعالى:

{ولا تعتدوا} أي: ولا تظلموا. وفي المراد بهذا الاعتداء اربعة أقوال.

احدها: أنه قتل النساء والولدان، قاله ابن عباس، و مجاهد،

والثاني: أن معناه لا تقاتلوا من لم يقاتلكم، قاله سعيد بن جبير، و أبوالعالية، و ابن زيد.

والثالث: أنه إتيان ما نهوا عنه، قاله الحسن.

والرابع: أنه ابتداؤهم بالقتال في الحرم في الشهر الحرام، قاله مقاتل.

فصل

اختلف العلماء هل هذه الآية منسوخة أم لا؟ على قولين.

احدهما: أنها منسوخة.

واختلف أرباب هذا القول في المنسوخ منها على قولين.

احدهما: أنه اولها، وهو قوله: {وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللّه ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ} قالوا: وهذا يقتضي أن القتال يباح في حق من قاتل من الكفار، ولا يباح في حق من لم يقاتل، وهذا منسوخ بقوله: {وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}

والثاني: أن المنسوخ منها: {وَلاَ تَعْتَدُواْ}

ولهؤلاء في هذا الاعتداء قولان.

احدهما: أنه قتل من لم يقاتل،

والثاني: أنه ابتداء المشركين بالقتال، وهذا منسوخ بآية السيف.

والقول الثاني: أنها محكمة، ومعناها عند ارباب هذا القول: {وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللّه ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ} وهم الذين أعدوا أنفسهم للقتال، فأما من ليس بمعد نفسه للقتال، كالرهبان والشيوخ الفناة والزمنى، والمكافيف، والمجانين، فان هؤلاء لا يقاتلون، وهذا حكم باق غير منسوخ.

فصل

واختلف العلماء في اول اية نزلت في إباحة القتال على قولين.

احدهما: أنها قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـٰتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} الحج: ٣٩ قاله أبو بكر الصديق، و ابن عباس، وسعيد بن جبير، والزهري،

والثاني: أنها هذه الآية: {وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللّه} قاله أبوالعالية، و ابن زيد.

١٩١

قوله تعالى: {وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ} أي: وجدتموهم يقال: ثقفته أثقفه: إذا وجدته. قال القاضي ابو يعلى: قوله تعالى

{وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ} عام في جميع المشركين، الا من كان بمكة فانهم أمروا باخراجهم منها، الا من قاتلهم، فإنهم أمروا بقتالهم، يدل على ذلك قوله في نسق الآية، {ٱلْقَتْلِ وَلاَ تُقَـٰتِلُوهُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِيهِ} وكانوا قد آذوا المسلمين بمكة حتى اضطروهم إلى الخروج، فكأنهم أخرجوهم.

أما الفتنة ففيها قولان.

احدهما: أنها الشرك، قاله ابن مسعود، و ابن عباس، وابن عمر، وقتادة في آخرين.

والثاني: أنها ارتداد المؤمن إلى عبادة الأوثان، قاله مجاهد. فيكون معنى الكلام على القول الأول: شرك القوم أعظم من قتلكم إياهم في الحرم. وعلى الثاني: ارتداد المؤمن إلى الأوثان أشد عليه من أن يقتل محقا.

قوله تعالى: {وَلاَ تُقَـٰتِلُوهُمْ} قرأ ابن كثير، ونافع، و ابو عمرو، وعاصم: {وَلاَ تُقَـٰتِلُوهُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَـٰتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ} وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: {وَلاَ تُقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ يُقَـٰتِلُوكُمْ فَإِن قَـٰتَلُوكُمْ} بحذف الألف فيهن وقد اتفق الكل على قوله: {فَٱقْتُلُوهُمْ} واحتج من قرأ بالألف بقوله: {وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} واحتج من حذف الألف بقوله: {فَٱقْتُلُوهُمْ}

فصل

واختلف العلماء في قوله: {وَلاَ تُقَـٰتِلُوهُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِيهِ}: هل هو منسوخ ام لا؟ فذهب مجاهد في جماعة من الفقهاء إلى أنه محكم، وانه لا يقاتل فيه الا من قاتل، ويدل على ذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، أنه خطب يوم فتح مكة، فقال:

ياأيها الناس: إن اللّه حرم مكة يوم خلق السموات والارض، ولم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي. وإنما أحلت لي ساعة من النهار، ثم عادت حراما إلى يوم القيامة. فبين صلى اللّه عليه وسلم، أنه خص في تلك الساعة بالإباحة على سبيل التخصيص، لا على وجه النسخ فثبت بذلك خطر القتال في الحرم، إلا أن يقاتلوا فيدفعون دفعا، وهذا أمر مستمر، والحكم غير منسوخ، وقد ذهب قتادة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: {فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} التوبة: ٥ فأمر بقتالهم في الحل والحرم وعلى كل حال، وذهب الربيع ابن أنس، و ابن زيد، إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: {وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} وزعم مقاتل أنه منسوخ بقوله تعالى: {وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} البقرة: ١٩١. والقول الأول أصح. قوله تعالى: {فَإِن قَـٰتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ} قال مقاتل أي: فقاتلوهم.

١٩٢

قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أن معناه فإن انتهوا عن شركهم وقتالكم.

والثاني: عن كفرهم.

والثالث: عن قتالكم دون كفرهم. فعلى القولين الأولين تكون الآية محكمة ويكون معنى: {فَإِنَّ ٱللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ} غفور لشركهم وجرمهم، وعلى القول الأخير؛ يكون في معنى قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قولان.

احدهما: غفور لكم حيث أسقط عنكم تكليف قتالهم،

والثاني: أن معناه: يأمركم بالغفران والرحمة لهم. فعلى هذا تكون الآية منسوخة باية السيف.

١٩٣

قوله تعالى: {وَقَـٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} قال ابن عباس، والحسن، و مجاهد، وقتادة في آخرين: الفتنة هاهنا: الشرك. قوله تعالى:

{وَيَكُونَ ٱلدّينُ للّه} قال ابن عباس: أي: يخلص له التوحيد. والعدوان: الظلم، وأريد به هاهنا: الجزاء. فسمي الجزاء عدوانا مقابلة للشىء بمثله كقوله: {فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ} والظالمون هاهنا المشركون، قاله عكرمة، و قتادة في آخرين.

فصل وقد روي عن جماعة من المفسرين منهم قتادة، أن قوله تعالى:

{فَإِنِ ٱنتَهَواْ فَلاَ عُدْوٰنَ إِلاَّ عَلَى ٱلظَّـٰلِمِينَ} منسوخ بآية السيف، وإنما يستقيم هذا إذا قلنا: إن معنى الكلام: فإن انتهوا عن قتالكم مع إقامتهم على دينهم، فأما إذا قلنا: إن معناه: فإن انتهوا عن دينهم: فالآية محكمة.

١٩٤

قوله تعالى: {ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ} هذه الآية نزلت على سبب،

واختلفوا فيه على قولين.

احدهما: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أقبل هو و أصحابه معتمرين في ذي القعدة ومعهم الهدي، فصدهم المشركون فصالحهم نبي اللّه على أن يرجع عنهم ثم يعود في العام المقبل، فيكون بمكة ثلاث ليال، ولا يدخلها بسلاح ولا يخرج بأحد من أهل مكة، فلما كان العام المقبل؛ أقبل هو وأصحابه فدخلوها، فافتخر المشركون عليه إذ ردوه يوم الحديبة، فأقصه اللّه منهم وأدخله مكة في الشهر الذي ردوه فيه، فقال:

{ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَـٰتُ قِصَاصٌ} والى هذا المعنى ذهب ابن عباس، و مجاهد، وعطاء، و أبوالعالية، وقتادة، في آخرين.

والثاني: أن مشركي العرب قالوا للنبي عليه السلام انهيت عن قتالنا في الشهر الحرام قال «نعم» وأرادوا أن يفتروه في الشهر الحرام، فيقاتلوه فيه، فنزلت هذه الآية، يقول: إن استحلوا منكم شيئا في الشهر الحرام، فاستحلوا منهم مثله هذا قول الحسن، واختاره إبراهيم ابن السري و الزجاج. فأما أرباب القول الأول؛ فيقولون: معنى الآية: الشهر الحرام، الذي دخلتم فيه الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه عام أول.

{وَٱلْحُرُمَـٰتُ قِصَاصٌ}: اقتصصت لكم منهم في ذي القعدة، كما صدوكم في ذي القعدة. وقال الزجاج: الشهر الحرام، أي قتال الشهر الحرام بالشهر الحرام، فأعلم اللّه تعالى أن أمر هذه الحرمات لا تجوز للمسلمين إلا قصاصا، ثم نسخ ذلك بآية السيف،

وقيل: إنما جمع الحرمات، لأنة  اراد الشهر الحرام بالبلد الحرام، وحرمة الإحرام. قوله تعالى:

{فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ} قال ابن عباس: من قاتلكم في الحرم فقاتلوه. وإنما سمى المقابلة على الاعتداء اعتداء، لأن صورة الفعلين واحدة و إن كان احدهما طاعة والآخر معصية. قال الزجاج: والعرب تقول: ظلمني فلان فظلمته، أي: جازيته بظلمه. وجهل فلان علي فجهلت عليه. وقد سبق بيان هذا المعنى في أول السورة. قوله تعالى:

{وَٱتَّقُواْ ٱللّه} قال سعيد بن جبير: واتقوا اللّه ولا تبدؤوهم بقتال في الحرم.

١٩٥

قوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللّه} هذه الآية نزلت على سبب وفيه قولان.

احدهما: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، لما أمر بالتجهز إلى مكة، قال ناس من الأعراب: يا رسول اللّه بماذا نتجهز؟ فواللّه مالنا: زاد ولا مال فنزلت، قاله ابن عباس.

والثاني: أن الأنصار كانوا ينفقون ويتصدقون، فأصابتهم سنة فأمسكوا فنزلت، قاله أبو جبيرة بن الضحاك. والسبيل في اللغة: الطريق. و إنما استعملت هذه الكلمة في الجهاد، لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين. والتهلكة: بمعنى الهلاك، يقال: هلك الرجل يهلك هلاكا وهلكا وتهلكة. قال المبرد: وأراد بالأيدي: الأنفس، فعبر بالبعض عن الكل.

وفي المراد بالتهلكة هاهنا اربعة أقوال.

احدها: أنها ترك النفقة في سبيل اللّه، قاله حذيفة، و ابن عباس، والحسن، وابن جبير، وعكرمة، و مجاهد، وقتادة، والضحاك.

والثاني: أنها القعود عن الغزو شغلا بالمال، قاله أبو أيوب الانصاري.

والثالث: أنها القنوط من رحمة اللّه، قاله البراء، والنعمان بن بشير، وعبيدة.

والرابع: أنها عذاب اللّه، رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس.

قوله تعالى: {وَأَحْسِنُواْ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أن معناه أحسنوا الإنفاق وهو قول أصحاب، القول الأول.

والثاني: أحسنوا الظن باللّه، قاله عكرمة وسفيان، وهو يخرج على قول من قال التهلكة: القنوط،

والثالث: أن معناه: أدوا الفرائض، رواه سفيان عن ابي إسحاق.

١٩٦

قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للّه} قال ابن فارس: الحج في اللغة: القصد، والاعتمار في الحج أصله: الزيارة قال ثعلب: الحج بفتح الحاء: المصدر، وبكسرها، الاسم. قال: وربما قال الفراء: هما لغتان.

وذكر ابن الانباري في العمرة قولين.

احدهما: الزيارة

والثاني: القصد

وفي إتمامها اربعة أقوال.

احدهها: أن معنى إتمامها أن يفصل بينهما فيأتي بالعمرة في غير أشهر. الحج، قاله عمر بن الخطاب والحسن وعطاء

والثاني: أن يحرم الرجل من دويرة اهله، قاله علي بن ابي طالب، وطاووس، وابن جبير،

والثالث: أنه إذا شرع في احدهما لم يفسخه حتى يتم، قاله ابن عباس.

والرابع: أنه فعل ما أمر اللّه فيهما، قاله مجاهد. وجمهور القراء على نصب «العمرة» بايقاع الفعل عليها. وقرأ الأصمعي عن نافع والقزاز عن ابي عمرو، والكسائي عن ابي جعفر برفعها، وهي قراءة ابن مسعود، و ابي رزين، والحسن، والشعبي وقراءة الجمهور تدل على وجوبها. وممن ذهب إلى أن العمرة واجبة، علي، وابن عمر، و ابن عباس، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، وطاووس، وسعيد ابن جبير، و مجاهد، و احمد، والشافعي، وروي عن ابن مسعود، و جابر، والشعب، وإبراهيم، و أبي حنيفة، ومالك أنها سنة وتطوع. قوله تعالى

{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} قال ابن قتيبة: يقال: أحصره المرض والعدو: إذا منعه من السفر، ومنه هذه الآية. وحصره العدو: إذا ضيق عليه. وقال الزجاج: يقال للرجل إذا حبس: قد حصر فهو محصور.

وللعلماء في هذا الإحصار قولان.

احدهما: أنه لا يكون إلا بالعدو ولا يكون المريض محصرا، وهذا مذهب ابن عمر، وابن عباس، و أنس، ومالك، والشافعي، و احمد ويدل عليه قوله {فَإِذَا أَمِنتُمْ}.

والثاني: أنه يكون بكل حابس من مرض أو عدو أو عذر، وهو قول عطاء، و مجاهد، وقتادة، وأبي حنيفة، وفي الكلام اختصار وحذف، والمعنى: فإن أحصرتم دون تمام الحج والعمرة فحللتم؛ فعليكم ما استيسر من الهدي.

ومثله {أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} تقديره: فحلق، ففدية: والهدي: ما أهدي إلى البيت. وأصله: هدي مشدد، فخفف، قاله ابن قتيبة. وبالتشديد يقرأ الحسن، و مجاهد.

و في المراد { فما ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ} ثلاثة أقوال.

احدها: أنه شاة، قاله علي بن أبي طالب، و ابن عباس، والحسن، وعطاء، وابن جبير، وإبراهيم، وقتادة، و الضحاك.

والثاني: أنه ما تيسر من الإبل والبقر لا غير، قاله ابن عمر، وعائشة، والقاسم،

والثالث: أنه على قدر الميسرة، رواه طاووس عن ابن عباس، وروي عن الحسن، وقتادة قالا: اعلاه بدنه، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة، وقال احمد: الهدي من الأصناف الثلاثة، من الإبل والبقر، والغنم، وهو قول أبي حنيفة، رحمه اللّه، ومالك، والشافعي رحمهما اللّه . قوله تعالى:

{حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ} قال ابن قتيبة: المحل: الموضع الذي يحل به نحره، وهو من: حل يحل. وفي المحل قولان.

احدهما: أنه الحرم، قاله ابن مسعود والحسن، وعطاء، وطاووس، و مجاهد، وابن سيرين، والثوري، وأبو حنيفة،

والثاني: أنه الموضع الذي أحصر به فيذبحه ويحل، قاله مالك، والشافعي، و احمد. قوله تعالى:

{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} هذا نزل على سبب، وهو أن كعب بن عجرة كثر قمل رأسه حتى تهافت على وجهه، فنزلت هذه الآية فيه فكان يقول: في نزلت خاصة.

فصل قال شيخنا علي بن عبيد اللّه: اقتضى قوله:

{وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُ} تحريم حلق الشعر، سواء وجد به الأذى، أو لم يجد، حتى نزل:

{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} فاقتضى هذا إباحة حلق الشعر عند الأذى مع الفدية، فصار ناسخا لتحريمه المتقدم. ومعنى الآية: فمن كان منكم أي: من المحرمين محصرا كان أو غير محصر مريضا، واحتاج إلى لبس أو شيء يحظره الإحرام، ففعله أو به أذى من رأسه فحلق؛ ففدية من صيام.

وفي الصيام قولان.

احدهما: أنه ثلاثة ايام، روي في حديث كعب بن عجرة رضي اللّه عنه، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهو قول الجمهور.

والثاني: أنه صيام عشرة ايام، روي عن الحسن، وعكرمة، ونافع،

وفي الصدقة قولان.

احدهما: أنه إطعام ستة مساكين، روي في حديث كعب، وهو قول: من قال: الصوم ثلاثة ايام.

والثاني: أنها إطعام عشرة مساكين، وهو قول من أوجب صوم عشرة ايام، والنسك: ذبح شاة، يقال: نسكت للّه أي: ذبحت له، وفي النسك لغتان: ضم النون والسين، وبها قرأ الجمهور، وضم النون مع تسكين السين، وهي قراءة الحسن. قوله تعالى:

{فَإِذَا أَمِنتُمْ} أي: من العدو إذ المرض لا تؤمن معاودته وقال علقمة في آخرين: فاذا امنتم من الخوف والمرض.

{فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجّ} معناه: من بدأ بالعمرة في أشهر الحج، وأقام الحج، من عامه ذلك فعليه ما استيسر من الهدي.وهذا قول ابن عمر، وابن المسيب، وعطاء، والضحاك. وقد سبق الكلام فيما استيسر من الهدي.

{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجّ} قال الحسن: هي قبل التروية بيوم و يوم التروية، ويوم عرفة، وهذا قول عطاء، والشعبي، و أبي العالية، وابن جبير، وطاووس، وابراهيم، وقد نقل عن علي رضي اللّه عنه، وقد روي عن الحسن، وعطاء قالا: في أي العشر شاء صامهنى. ونقل عن طاووس، و مجاهد، وعطاء، انهم قالوا: في أي اشهر الحج شاء فليصمهن. ونقل عن ابن عمر أنه قال: من حين يحرم إلى يوم عرفة.

فصل

فإن لم يجد الهدي، ولم يصم الثلاثة ايام قبل يوم النحر، فماذا يصنع؟ قال عمر بن الخطاب، و ابن عباس، و ابن جبير، وطاووس، و ابراهيم: لا يجزئه إلا الهدي ولا يصوم. وقال ابن عمر وعائشة: يصوم ايام منى. ورواه صالح عن احمد، وهو قول مالك. وذهب آخرون إلى أنه لا يصوم ايام التشريق، بل يصوم بعدهن. روي عن علي. ورواه المروذي عن احمد، وهو قول الشافعي.

فصل

فان وجد الهدي بعد الدخول في صوم الثلاثة أيام، لم يلزمه الخروج منه، وهو قول مالك، والشافعي، وقال أبو حنيفة: يلزمه الخروج وعليه الهدي. وقال عطاء: إن صام يومين ثم أيسر فعليه الهدي. وإن صام ثلاثة ايام ثم أيسر؛ فليصم السبعة، ولا هدي عليه.

وفي معنى قوله: {فِي ٱلْحَجّ} قولان.

احدهما: أن معناه في أشهر الحج.

والثاني: في زمان الإحرام بالحج

وفي قوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} قولان.

احدهما: إذا رجعتم إلى أمصاركم، قاله ابن عباس، والحسن، و أبوالعالية، والشعبي، وقتادة.

والثاني: إذا رجعتم من حجكم، وهو قول عطاء، وسعيد بن جبير، وأبي حنيفة، ومالك قال: الأثرم: قلت لأبي عبيد اللّه، يعني: احمد بن حنبل: فصيام السبعة أيام إذا رجع متى يصومهن؟ أفي الطريق، ام في اهله؟ قال: كل ذلك قد تأوله الناس. قيل لأبي عبد اللّه: ففرق بينهن، فرخص في ذلك. قوله تعالى:

{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فيه خمسة أقوال.

احدها: أن معناه: كاملة في قيامها مقام الهدي، والى هذا المعنى ذهب ابن عباس، والحسن. قال القاضي أبو يعلى: وقد كان يجوز أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب استكمال الثواب، فأعلمنا اللّه تعالى أن العشرة بكمالها هي القائمة مقامه.

والثاني: أن الواو قد تقوم مقام او في مواضع منها قوله:

{فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء مَثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَاعَ} فأزال اللّه، عز وجل احتمال التخيير في هذه الآية، بقوله:

{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} والى هذا المعنى ذهب الزجاج.

والثالث: أن ذلك للتوكيد. وأنشدوا للفرزدق:

ثلاث واثنتان فهن خمس  وسادسة تميل إلى شمامي

وقال آخر:

هلا سألت جموع كندة يوم ولوا أين أينا

وقال آخر:

كم نعمة كانت له كم كم وكم

والقرآن نزل بلغة العرب،

وهي تكرر الشىء لتوكيده.

والرابع: أن معناه: تلك عشرة كاملة في الفصل، و إن كانت الثلاثة في الحج والسبعة بعد، لئلا يسبق إلى وهم احد أن السبعة دون الثلاثة، قاله أبو سليمان الدمشقي.

والخامس: أنها لفظة خبر ومعناها: الأمر، فتقديره: تلك عشرة فأكملوها. قوله تعالى:

{ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ}

في المشار إليه بذلك قولان.

احدهما: أنه التمتع بالعمرة إلى الحج.

والثاني: أنه الجزاء بالنسك والصيام. واللام من «لمن» في هذا القول بمعنى:«على». فأما حاضروا المسجد الحرام؛ فقال ابن عباس، وطاووس، و مجاهد: هم أهل الحرم. وقال عطاء: من كان منزله دون المواقيت. قال ابن الانباري: ومعنى الآية: إن هذا الفرض لمن كان من الغرباء. وإنما ذكر اهله وهو المراد بالحضور، لأن الغالب على الرجل أن يسكن حيث اهله ساكنون.

١٩٧

قوله تعالى: {ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ} في الحج لغتان. فتح الحاء وهي لأهل الحجاز، وبها قرأ الجمهور. وكسرها، وهي لتميم، وقيل: لأهل نجد، وبها قرأ الحسن. قال سيبويه: يقال: حج حجا، كقولهم: ذكر ذكرا. وقالوا: حجة، يريدون: عمل سنة. قال الفراء: المعنى: وقت الحج هذه الأشهر. وقال الزجاج: معناه: أشهر الحج أشهر معلومات.

وفي أشهر الحج قولان.

احدهما: أنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، قاله ابن مسعود، وابن عمر، و ابن عباس، وابن الزبير، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، والشعبي، وطاووس، والنخعي، وقتادة، ومكحول، و الضحاك، والسدي، و أبوحنيفة، و احمد بن حنبل، والشافعي، رضي اللّه عنهم.

والثاني: أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة، وهو مروي عن ابن عمر ايضا، وعطاء، وطاووس، و مجاهد، و الزهري، والربيع، ومالك ابن أنس. قال ابن جرير الطبري: إنما أراد هؤلاء أن هذه الأشهر أن ليست أشهر العمرة، إنما هي للحج، و إن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء منى، وقد كانوا يستحبون أن يفعلوا العمرة في غيرها. قال ابن سيرين: ما أحد من أهل العلم شك في أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج، وإنما قال: {ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ} وهي شهران وبعض الآخر على عادة العرب. قال الفراء: تقول العرب: له اليوم يومان لم اره، وانما هو يوم، وبعض آخر. وتقول: زرتك العام، وأتيتك اليوم، وإنما وقع الفعل في ساعة.

وذكر ابن الانباري: في هذا قولين.

احدهما: أن العرب توقع الجمع على التثنية، كقوله تعالى: {أُوْلَـئِكَ مُبَرَّءونَ مِمَّا يَقُولُونَ} وإنما يريد عائشة وصفوان. وكذلك قوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَـٰهِدِينَ} يريد: داود وسليمان.

والثاني: أن العرب توقع الوقت الطويل على الوقت القصير، فيقولون: قتل ابن الزبير أيام الحج، وانما كان القتل في أقصر وقت. فصل اختلف العلماء فيمن احرم بالحج، قبل أشهر الحج، فقال عطاء، وطاووس، و مجاهد، والشافعي:لا يجزئه ذلك، وجعلوا فائدة قوله:

{ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ} أنه لا ينعقد الحج إلا فيهن. وقال أبو حنيفة، ومالك، والثوري، والليث بن سعد، و احمد بن حنبل: يصح الإحرام بالحج قبل أشهر، فعلى هذا يكون قوله: {ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ} اى: معظم الحج يقع في هذه الأشهر، كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: «الحج عرفة» قوله تعالى:

{فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ} قال ابن مسعود: هو الإهلال بالحج، والاحرام به. وقال طاووس، وعطاء: هو أن يلبي. وروي عن علي، وابن عمر، و مجاهد، والشعبي في آخرين: أنه إذا قلد بدنته فقد أحرم، وهذا محمول على أنه قلدها ناويا للحج. ونص الإمام احمد بن حنبل، رضي اللّه عنه، في رواية الأثرم: أن الإحرام بالنية. قيل له: يكون محرما بغير تلبية؟ قال: نعم إذا عزم على الإحرام، وهذا قول مالك، والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يجوز الدخول في الإحرام إلا بالتلبية أو تقليد الهدي وسوقه. قوله تعالى:

{فَلاَ رَفَثَ} قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وابو جعفر: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} بالضم والتنوين. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، بغير تنوين، ولم يرفع احد منهم لام «جدال» إلا أبو جعفر. قال أبو علي: حجة من فتح أنه أشد مطابقة للمعنى المقصود، لأنه بالفتح قد نفى جميع الرفث والفسوق، كقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} فاذا رفع ونون؛ كان النفي لواحد منه، وإنما فتحوا لام الجدال، ليتناول النفي جميع جنسه، فكذلك ينبغي أن يكون جمع الاسمين قبله. وحجة من رفع أنه قد علم من فحوى الكلام نفي جميع الرفث، وقد يكون اللفظ واحدا، والمراد بالمعنى: الجميع.

وفي الرفث ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الجماع، قاله ابن عمر، والحسن، وعكرمة و مجاهد، وقتادة في آخرين.

والثاني: أنه الجماع، وما دونه من التعريض به، وهو مروي عن ابن عمر ايضا، و ابن عباس، وعمرو بن دينار في آخرين.

والثالث: أنه اللغو من الكلام، قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي.

وفي الفسوق ثلاثة أقوال.

احدها: أنه السباب، قاله ابن عمر، و ابن عباس، و إبراهيم في آخرين.

والثاني: أنه التنابز بالألقاب، مثل أن تقول لأخيك: يا فاسقد، ياظالم رواه الضحاك عن ابن عباس.

والثالث: أنه المعاصي، قاله الحسن، وعطاء، وطاووس، و مجاهد، وقتادة في آخرين، وهو الذي نختاره، لأن المعاصي تشمل الكل، ولأن الفاسق: الخارج من الطاعة إلى المعصية. قوله تعالى:

{وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجّ} الجدال:المراء. وفي معنى الكلام قولان.

احدهما: أن معناه: لا يمارين أحدا أحدا، فيخرجه المراء إلى الغضب، وفعل مالا يليق بالحج، و إلى هذا المعنى ذهب ابن عمر، و ابن عباس، وطاووس، وعطاء، وعكرمة والنخعي، وقتادة، و الزهري، و الضحاك في آخرين.

والثاني: أن معناه: لا شك في الحج ولا مراء، فانه قد استقام أمره وعرف وقته وزال النسيء عنه، قال مجاهد: كانوا يحجون في ذي الحجة عامين، وفي المحرم عامين، ثم حجوا في صقر عامين، وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافقت حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجة، النبي صلى اللّه عليه وسلم، بسنة ثم حج النبي من قابل في ذي الحجة، فذلك حين قال: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السموات والارض والى هذا المعنى ذهب السدي عن أشياخه، والقاسم بن محمد. قوله تعالى:

{وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ} قال ابن عباس: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فيسألون الناس، فأنزل اللّه تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ} قال الزجاج: أمروا أن يتزودوا، وأعلموا أن خير ما تزودوا تقوى اللّه عز وجل.

١٩٨

قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ}

قال ابن عباس: كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم، ويقولون: أيام ذكر فنزلت هذه الآية. والابتغاء: الالتماس، والفضل هاهنا: التماس الرزق بالتجارة والكسب. قال ابن قتيبة: أفضتم، بمعنى: دفعتم. وقال الزجاج: معناه: دفعتم بكثرة، يقال: أفاض القوم في الحديث: إذا اندفعوا فيه، و أكثروا التصرف.

وفي تسمية عرفات قولان.

احدهما: أن اللّه تعالى بعث جبريل إلى إبراهيم فحج به، فلما أتى عرفات قال: قد عرفت، فسميت عرفة قاله علي رضي اللّه عنه.

والثاني: أنها سميت بذلك لاجتماع آدم وحواء، وتعارفهما بها قاله الضحاك.قاله الزجاج: والمشعر: المعلم سمي بذلك: لأن الصلاة عنده. والمقام والمبيت والدعاء من معالم الحج، وهو مزدلفة، وهي جمع يسمى بالاسمين. قال ابن عمر، و مجاهد: المشعر الحرام المزدلفة كلها. قوله تعالى:

{وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} أي: جزاء هدايته لكم،

فان قيل ما فائدة تكرير الذكر؟ قيل فيه اربعة أجوبة.

احدها: أنه كرره للمبالغة في الأمر به.

والثاني: أنه وصل بالذكر الثاني ما لم يصل بالذكر الأول، فحسن تكريره فالمعنى: اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته.

والثالث: أنه كرره ليدل على مواصلته والمعنى اذكروه ذكرا بعد ذكر ذكر هذه الاقوال محمد بن القاسم النحوي.

والرابع: أن الذكر في قوله: {فَٱذْكُرُواْ ٱللّه عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ} هو صلاة المغرب والعشاء اللتان يجمع بينهما بالمزدلفة. والذكر في قوله:

{كَمَا هَدَاكُمْ} هو: الذكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع، حكاه القاضي أبو يعلى. قوله تعالى:

{وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ} في هاء الكناية ثلاثة أقوال.

احدها: أنها ترجع إلى الإسلام، قاله ابن عباس.

والثاني: أنها ترجع إلى الهدى، قاله مقاتل، و الزجاج.

والثالث: أنها ترجع إلى القرآن، قاله سفيان الثوري.

١٩٩

قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ} قالت عائشة: كانت قريش ومن يدين بدينها، وهم الحمس يقفون عشية عرفة بالمزدلفة. يقولون: نحن قطن البيت، وكان بقية العرب والناس يقفون بعرفات فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: سموا الحمس لأنهم تحمسوا في دينهم، أي: تشددوا والحماسة: الشدة في كل شيء.

وفي المراد بالناس هاهنا اربعة أقوال.

احدها: انهم جميع العرب غير الخمس ويدل عليه حديث عائشة، وهو قول عروة، و مجاهد، وقتادة.

والثاني: أن المراد بالناس هاهنا إبراهيم الخليل عليه السلام، قاله الضحاك بن مزاحم.

والثالث: أن المراد بالناس آدم، قاله الزهري: وقد قرأ أبو المتوكل، وأبو نهيك، ومورق: العجلي: «الناسي» باثبات الياء.

والرابع: انهم أهل اليمن وربيعة، فانهم كانوا يفيضون من عرفات، قاله مقاتل.

وفي المخاطبين بذلك قولان.

احدهما: أنه خطاب لقريش، وهو قول الجمهور.

والثاني أنه خطاب لجميع المسلمين، وهو يخرج على قول من قال: الناس آدم أو إبراهيم. والإفاضة هاهنا على ما يقتضيه ظاهر اللفظ: هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى صبيحة النحر، إلا أن جمهور المفسرين على أنها الإفاضة من عرفات، فظاهر الكلام لا يقتضي ذلك، كيف يقال: {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَـٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللّه} ثم أفيضوا من عرفات؟ غير اني اقول: وجه الكلام على ما قال أهل التفسير: أن فيه تقديما وتأخيرا، تقديره: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فاذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللّه. و«الغفور» من أسماء اللّه عز وجل، وهو من قولك: غفرت الشىء: إذا غطيته، فكأن الغفور هو الساتر لعبده برحمته، أو الساتر لذنوب عباده. والغفور: هو الذي يكثر المغفرة لأن بناء المفعول للمبالغة من الكثرة، كقولك: صبور وضروب وأكول.

٢٠٠

قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللّه} في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن أهل الجاهلية كانوا إذا اجتمعوا بالموسم، ذكروا أفعال آبائهم وأيامهم وأنسابهم في الجاهلية، فتفاخروا بذلك؛ فنزلت هذه الآية. وهذا المعنى مروي عن الحسن، وعطاء، و مجاهد.

والثاني: أن العرب كانوا إذا حدثوا أو تكلموا يقولون: وأبيك إنهم لفعلوا كذا وكذا فنزلت هذه الآية، وهذا مروي عن الحسن ايضا.

والثالث: انهم كانوا إذا قضوا مناسكهم، قام الرجل بمنى. فقال: اللّهم إن أبي كان عظيم الجفنة، كثير المال، فأعطني مثل ذكل فلا يذكر اللّه، إنما يذكر أباه، ويسأل أن يعطى في دنياه، فنزلت هذه الآية هذا قول السدي. والمناسك: المتعبدات

وفي المراد بها هاهنا قولان.

احدهما: أنها جميع أفعال الحج، قاله الحسن.

والثاني: أنها إراقة الدماء، قاله مجاهد.

وفي ذكرهم آبائهم اربعة أقوال.

احدها: أنه إقرارهم بهم.

والثاني: أنه حلفهم بهم.

والثالث: أنه ذكر إحسان آبائهم إليهم فانهم كانوا يذكرونهم وينسون إحسان اللّه إليهم.

والرابع: أنه ذكر الأطفال الآباء لأنهم اول نطقهم بذكر آبائهم، روي هذا المعنى عن عطاء، و الضحاك،

وفي «أو» قولان.

احدهما: أنها بمعنى «بل»

والثاني: بمعنى الواو. و «الخلاق» قد تقدم ذكره.

٢٠١

وفي حسنة الدنيا سبعة أقوال.

احدها: أنها المرأة الصالحة، قاله علي.

والثاني: أنها العبادة، رواه سفيان بن حسين عن الحسن.

والثالث: أنها العلم، والعبادة، رواه هشام عن الحسن.

والرابع: المال، قاله أبو وائل والسدي، وابن زيد.

والخامس: العافية، قاله قتادة.

والسادس: الرزق الواسع، قاله مقاتل.

والسابع: النعمة، قاله ابن قتيبة.

وفي حسنة الآخرة ثلاثة اقوال.

احدها: أنها الحور العين، قاله علي رضي اللّه عنه.

والثاني: الجنة، قاله الحسن، والسدي، و مقاتل.

والثالث: العفو والمعافاة، روي عن الحسن والثوري.

٢٠٢

قوله تعالى: {أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ} قال الزجاج: معناه: دعاؤهم مستجاب، لأن كسبهم هاهنا هو الدعاء، وهذه الآية متعلقة بما قبلها، إلا أنه قد روي أنها نزلت على سبب يخالف سبب اخواتها، فروى الضحاك عن ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول اللّه مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه؟ فقال: «لو كان علي ابيك دين قضيته اما كان ذلك يجزيء عنه» قال: نعم، قال: فدين اللّه أحق أن يقضى قال: فهل لي من أجر؟ فنزلت هذه الآية.

وفي معنى سرعة الحساب خمسة أقوال.

احدها: أنه قلته قاله ابن عباس.

والثاني: انه قرب مجيئه، قال مقاتل.

والثالث: أنه لما علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه كان سريع الحساب لذلك.

والرابع: أن المعنى واللّه سريع المجازاة، ذكر هذا القول والذي قبله الزجاج.

والخامس: أنه لا يحتاج إلى فكر، وروية كالعاجزين، قاله أبو سليمان الدمشقي.

٢٠٣

قوله تعالى: {وَٱذْكُرُواْ ٱللّه فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودٰتٍ} في هذا الذكر قولان.

احدهما: أنه التكبير عند الجمرات، وأدبار الصلوات، وغير ذلك من أوقات الحج.

والثاني: أنه التكبير عقيب الصلوات المفروضات. واختلف ارباب هذا القول في الوقت الذي يبتدىء فيه بالتكبير ويقطع على ستة أقوال.

احدها: أنه يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى ما بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق، قاله علي وابو يوسف ومحمد.

والثاني: أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، قاله ابن مسعود، وأبو حنيفة.

والثالث: من بعد صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد العصر من آخر أيام التشريق، قاله ابن عمر، وزيد بن ثابت، و ابن عباس، وعطاء.

والرابع: أنه يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد صلاة الظهر من يوم النفر، وهو الثاني من أيام التشريق، قاله الحسن.

والخامس: أنه يكبر من الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، قاله مالك بن أنس، وهو أحد قولي الشافعي.

والسادس: أنه يكبر من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهذا قول للشافعي، ومذهب إمامنا احمد. أنه كان محلا كبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة. أولها الفجر يوم عرفة، وآخرها العصر من آخر ايام التشريق، وان كان محرما كبر عقيب سبعة عشر صلاة اولها الظهر من يوم النحر، وآخرها العصر من آخر أيام التشريق. وهل يختص هذا التكبير عقيب الفرائض بكونها في جماعة، ام لا؟ فيه عن احمد روايتان.

إحداهما: يختص بمن صلاها في جماعة، وهو قول أبي حنيفة رحمه اللّه.

والثانية: يختص بالفريضة وإن صلاها وحده، وهو قول الشافعي.

وفي الأيام المعدودات ثلاثة أقوال.

احدها: أنها أيام التشريق، قاله ابن عمر، وابن عباس، والحسن، وعطاء، و مجاهد، وقتادة في آخرين.

والثاني: أنها يوم النحر ويومان بعده، روي عن علي، وابن عمر.

والثالث: أنها أيام العشر، قاله سعيد بن جبير، والنخعي. قال الزجاج: و«معدودات» يستعمل كثيرا للشىء القليل كما يقال: دريهمات وحمامات. قوله تعالى:

{فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ} أي: فمن: تعجل النفر الأول في اليوم الثاني من أيام منى؛ فلا إثم عليه، ومن تأخر إلى النفر الثاني، وهو اليوم الثالث من أيام منى، فلا إثم عليه

فان قيل، إنما يخاف الإثم المتعجل، فما بال المتأخر ألحق به، والذي أتى به أفضل؟ٰ فعنه اربعة أجوبة.

احدها: أن المعنى: لا إثم على المتعجل، والمتأخر مأجور، فقال: لا إثم عليه لتوافق اللفظة الثانية الاولى، كقوله: {فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ}

والثاني: أن المعنى: فلا إثم على المتأخر في ترك استعمال الرخصة،

والثالث: أن المعنى: قد زالت آثام المتعجل والمتأخر التي كانت عليها قبل حجهما.

والرابع: أن المعنى: طرح المأثم عن المتعجل والمتأخر إنما يكون بشرط التقوى.

وفي معنى: {لِمَنِ ٱتَّقَىٰ} ثلاثة أقوال.

احدها: لمن اتقى قتل الصيد، قاله ابن عباس.

والثاني: لمن اتقى المعاصي في حجه، قاله قتادة. وقال ابن مسعود: إنما مغفرة اللّه لمن اتقى اللّه في حجه.

والثالث: لمن اتقى فيما بقي من عمره، قاله أبوالعالية، و إبراهيم.

٢٠٤

قوله تعالى: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال.

احدها: أنها نزلت في الأخنس ابن شريق، كان لين الكلام، كافر القلب يظهر للنبي الحسن، ويحلف له أنه يحبه، ويتبعه على دينه، وهو يضمر غير ذلك، هذا قول ابن عباس، والسدي، و مقاتل.

والثاني: أنها نزلت فيمن نافق فأظهر بلسانه ما ليس في قلبه. وهذا قول الحسن، وقتادة وابن زيد.

والثالث: أنها نزلت في سرية الرجيع، وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهو بالمدينة: إنا قد اسلمنا، فابعث لنا نفرا من أصحابك يعلمونا ديننا، فبعث صلى اللّه عليه وسلم، خبيب بن عدي ومرثدا الغنوي، وخالد بن بكير، وعبد اللّه بن طارق، وزيد بن الدثنة، وأمر عليهم عاصم بن ثابت، فساروا نحو مكة فنزلوا بين مكة والمدينة ومعهم تمر، فأكلوا منه، فمرت عجوز فأبصرت النوى، فرجعت إلى قومها وقالت: قد سلك هذا الطريق أهل يثرب، فركب سبعون منهم حتى احاطوا بهم، فحاربوهم، فقتلوا مرثدا، وخالدا، وابن طارق، ونثر عاصم كنانته وفيها سبعة أسهم، فقتل بكل سهم رجلا من عظمائهم، ثم قال: اللّهم اني حميت دينك صدر النهار، فاحم لحمي آخر النهار، ثم احاطوا به فقتلوه، وأرادوا حز رأسه يبيعوه من سلافة بنت سعد، وكان قتل بعض اهلها، فنذرت: لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر، فأرسل اللّه تعالى رجلا من الدبر وهي: الزنابير فحمته فلم يقدروا عليه فقال: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه، فنأخذه، فجاءت، سحابة فأمطرت كالعزالي، فبعث اللّه الوادي، فاحتمله فذهب به، وأسروا خبيبا وزيدا، فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيبا ليقتلوه، لأنه قتل آباءهم، فلما خرجوا به ليقتلوه قال: دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فصلى ركعتين، ثم قال: لولا أن تقولوا: جزع خبيب؛ لزدت، وأنشأ يقول:

ولست أبالي حين اقتل مسلما  على أي شق كان في اللّه مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ  يبارك على أوصال شلو ممزع

فصلبوه حيا، فقال اللّهم: إنك تعلم أنه ليس احد حولي يبلغ رسولك سلامي، فجاءه رجل منهم، يقال له: أبو سروعة، ومعه رمح، فوضعه بين يدي خبيب، فقال له خبيب: اتق اللّه، فما زاده ذلك إلا عتوا. وأما زيد فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه فجاءه سفيان بن حرب حين قدم ليقتله، فقال: يا زيدٰ أنشدك اللّه، أتحب أن محمدا مكانك، وأنك في أهلك؟ فقال: واللّه ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي؟ ثم قتل وبلغ النبي الخبر فقال: أيكم يحتمل خبيبا عن خشبته وله الجنة؟ فقال الزبير: انا وصاحبي المقداد، فخرجا يمشيان بالليل ويمكثان بالنهار، حتى وافيا المكان، و إذا حول الخشبة أربعون مشركا نيام نشاوى، و إذا هو رطب يتثنى لم يتغير فيه شيء بعد أربعين يوما، فحمله الزبير على فرسه، وسار فلحقه سبعون منهم فقذف الزبير خبيبا فابتلعته الارض، وقال الزبير: ما جرأكم علينا يا معشر قريش؟ ثم رفع العمامة عن رأسه وقال انا الزبير بن العوام، وأمي صفية بنت عبد المطلب، وصاحبي المقداد، اسدان رابضان يدفعان عن شبلهما، فان شئتم ناضلتكم، وإن شئتم نازلتكم، وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا، وقدما على رسول صلى اللّه عليه وسلم و جبريل، عنده فقال: يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك.وقال بعض المنافقين في أصحاب خبيب ويح هؤلاء المقتولين، لا في بيوتهم قعدوا، ولا رسالة صاحبهم أدوا، فأنزل اللّه تعالى في الزبير والمقداد وخبيب وأصحابه والمنافقين هذه الآية، وثلاث آيات بعدها. وهذا الحديث بطوله مروي عن ابن عباس. قوله تعالى:

{وَيُشْهِدُ ٱللّه عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ} فيه قولان.

احدهما: أنه يقول إن اللّه يشهد أن ما ينطق به لساني هو الذي في قلبي.

والثاني: أنه يقول اللّهم اشهد علي بهذا القول، وقرأ ابن مسعود، ويستشهد اللّه بزيادة سين وتاء، وقرأ الحسن، وطلحة بن مصرف، وابن محيصن، وابن عبلة ويشهد بفتح الياء اللّه بالرفع. قوله تعالى:

{وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ} الخصام: جمع خصم، يقال: خصم وخصام وخصوم، قال الزجاج: والألد: الشديد الخصومة، واشتقاقه من لديدي العنق. وهما: صفحتا العنق. ومعناه: أن خصمه في أي وجه أخذ من أبواب الخصومة، غلبه في ذلك.

٢٠٥

قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّىٰ} فيه اربعة أقوال.

احدها: أنه بمعنى غضب، روي عن ابن عباس، وابن جريج.

والثاني: أنه الانصراف عن القول الذي قاله، قاله الحسن.

والثالث: أنه من الولاية فتقديره إذا صار واليا، قاله مجاهد، و الضحاك.

والرابع: أنه الانصراف بالبدن، قاله مقاتل، وابن قتيبة.

وفي معنى: «سعى» قولان.

احدهما: أنه بمعنى عمل، قاله ابن عباس، و مجاهد،

والثاني: أنه من السعي بالقدم، قاله أبو سليمان الدشقي،

وفي الفساد قولان.

احدهما: أنه الكفر،

والثاني: الظلم، والحرث: الزرع، والنسل: نسل كل شيء من الحيوان، هذا قول ابن عباس، وعكرمة في آخرين. وحكى الزجاج عن قوم: أن الحرث: النساء والنسل: الأولاد قال وليس هذا بمنكر، لأن المرأة تسمى حرثا.

وفي معنى إهلاكه للحرث والنسل ثلاثة أقوال.

احدها: أنه اهلاك ذلك بالقتل والإحراق والافساد، قاله الأكثرون.

والثاني: أنه إذا ظلم كان الظلم سببا لقطع القطر. فيهلك الحرث والنسل، قاله مجاهد. وهو يخرج على قول من قال: إنه من التولي.

والثالث: أنه إهلاك ذلك بالضلال الذي يؤول إلى الهلاك، حكاه بعض المفسرين. قوله تعالى:

{وَٱللّه لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ} قال ابن عباس: لا يرضى بالمعاصي وقد احتجت المعتزلة بهذه، الآية فأجاب أصحابنا بأجوبة.

منها: أنه لا يحبه دينا ولا يريده شرعا، فأما أنه لم يرده وجودا؛ فلا.

والثاني: أنه لا يحبه للمؤمنين دون الكافرين.

والثالث: أن الارادة معنى غير المحبة، فان الانسان قد يتناول المر، ويريد بط الجرح، ولا يحب شيئا من ذلك. و إذا بان في المعقول الفرق بين الأرادة والمحبة؛ بطل ادعاؤهم التساوي بينهما، وهذا جواب معتمد. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ} الزمر: ٧.

٢٠٦

قوله تعالى: {أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ} قال ابن عباس: هي الحمية.

وأنشدوا:

أخذته عزة من جهله  فتولى مغضبا فعل الضجر

ومعنى الكلام: حملته الحمية على الفعل بالإثم.

وفي «جهنم» قولان. ذكرهما ابن الانباري،

احدهما: أنها أعجمية لا تجر للتعريف والعجمة.

والثاني: أنها اسم عربي، ولم يجر للتأنيث والتعريف. قال رؤبة ركبة جهنام: بعيدة القعر. وقال الأعشي: دعوت خليلي مسحلا ودعوا له  جهنام جدعا للّهجين المذمم فترك صرفه يدل على أنه اسم أعجمي معرب.

وفي المعنى الكلام قولان.

احدها: فحسبه جهنم جزاء عن إثمه.

والثاني: فحسبه جهنم ذلا من عزة. والمهاد الفراش، ومهدت لفلان: إذا وطأت له ومنه: مهد الصبي.

٢٠٧

قوله تعالى: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ} اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على خمسة أقوال.

احدها: أنها نزلت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو معنى قول قمر وعلي رضي اللّه عنهما.

والثاني: أنها نزلت في الزبير والمقداد حين ذهبا لإنزال خبيب من خشبته، وقد شرحنا القصة. وهذا قول ابن عباس، و الضحاك.

والثالث: أنها نزلت في صهيب الرومي،

واختلفوا في قصته، فروي أنه أقبل مهاجرا نحو النبي، صلى اللّه عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش، فنزل فانتثل كنانته، وقال عد علمتم اني من ارماكم بسهم وايم اللّه لا تصلون الي حتى ارميكم بكل سهم معي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فان شئتم دللتكم على مالي قالوا: فدلنا على مالك نخل عنك، فعاهدهم على ذلك، فنزلت فيه هذه الآية، فلما رآه النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ربح البيع أبا يحيى وقرأ عليه القرآن. هذا قول سعيد بن المسيب، وذكر نحوه أبو صالح عن ابن عباس، وقال: إن الذي تلقاه فبشره بما نزل فيه أبو بكر الصديق. وذكر مقاتل أنه قال للمشركين: انا شيخ كبير لا يضركم إن كنت معكم أو عليكم، ولي عليكم حق لجواري، فخذوا مالي غير راحلة، واتركوني وديني، فاشترط أن لا يمنع عن صلاة ولا هجرة، فأقام ما شاء اللّه، ثم ركب راحلته، فأتى المدينة مهاجرا، فلقيه أبو بكر، فبشره وقال: نزلت فيك هذه الآية. وقال عكرمة: نزلت في صهيب، وابي ذر الغفاري، فأما صهيب، فأخذه أهله فافتدى بماله، واما أبو ذر فأخذه أهله فأفلت منهم حتى قدم مهاجرا.

والرابع: أنها نزلت في المجاهدين في سبيل اللّه، قاله الحسن، وابن زيد في آخرين.

والخامس: أنها نزلت في المهاجرين والأنصار حين قاتلوا على دين اللّه حتى ظهروا  هذا، قول قتادة، و بشري كلمة من الأضداد. يقال: شري بمعنى باع وبمعنى اشترى فمعناها: على قول من قال نزلت في صهيب معنى: يشتري وعلى بقية الأقوال بمعنى: يبيع.

٢٠٨

قوله تعالى: {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسّلْمِ كَافَّةً} اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة اقوال.

احدها: أنها نزلت فيمن اسلم من أهل الكتاب، كانوا بعد إسلامهم يتقون السبت ولحم الجمل، وأشياء يتقيها أهل الكتاب، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: أنها نزلت في أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبي، محمد صلى اللّه عليه وسلم، أمروا بالدخول في الإسلام، روي عن ابن عباس، ايضا وبه قال الضحاك.

والثالث: أنها نزلت في المسلمين يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها، قاله مجاهد، وقتادة.

وفي «السلم» ثلاث لغات: كسر السين، وتسكين اللام، وبها قرأ ابو عمرو، وابن عامر، في «البقرة» وفتحا السين في الأنفال» وسورة «محمد» وفتح السين مع تسكين اللام وبها قرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي، في المواضع الثلاثة، وفتح السين واللام. وبها قرأ الأعمش في «البقرة» خاصة.

وفي «معنى» السلم قولان.

احدهما: أنه الإسلام، قاله ابن عباس: وعكرمة، وقتادة، و الضحاك، والسدي، وابن قتيبة، و الزجاج في آخرين.

والثاني: أنها الطاعة، روي عن ابن عباس ايضا وهو قول أبي العالية، والربيع، وقال الزجاج: «كافة» بمعنى: الجميع وهو في اشتقاق اللغة ما يكف الشىء في آخره، من ذلك كفه القميص وكل مستطيل فحرفه كفه بضم الكاف، ويقال: في كل مستدير كفه، بكسر الكاف نحو كفة الميزان، ويقال: إنما سميت كفة الثوب، لأنها تمنعه ان بنتشر وأصل الكف: المنع وقيل لطرف اليد: كف لأنها تكف بها عن سائر البدن ورجل مكفوف قد كف: بصره أن ينظر

واختلفوا هل قوله: «كافة» يرجع إلى السلم أو إلى الداخلين فيه على قولين.

احدهما: أنه راجع إلى السلم فتقديره ادخلوا في جميع شرائع الإسلام، وهذا يخرج على القول الاول. الذي ذكرناه في نزول الآية.

والثاني: أنه يرجع إلى الداخلين فيه، فتقديره ادخلوا كلكم في الإسلام، وبهذا يخرج على القول الثاني وعلى القول الثالث يحتمل قوله: «كافة» ثلاثة أقوال.

احدها: أن يكون أمرا للمؤمنين بألسنتهم أن يؤمنوا بقلوبهم.

والثاني: أن يكون امر للمؤمنين بالدخول في جميع شرائعه.

والثالث: أن يكون أمرا لهم بالثبات عليه، كقوله تعالى: {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ} النساء: ١٣٦

و «خطوات الشيطان» المعاصي وقد سبق شرحها

٢٠٩

و «البينات» الدلالات الواضحات وقال ابن جريج: هي الإسلام والقرآن

٢١٠

و «وينظرون» بمعنى: ينتظرون. قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللّه} كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا. وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن احمد أنه قال: المراد به: قدرته وأمره قال: وقد بينه في قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ} الانعام: ١٥٨.

قوله تعالى: {فِي ظُلَلٍ مّنَ ٱلْغَمَامِ} أي: بظلل. والظلل: جمع ظلة و «الغمام»: السحاب الذي لا ماء فيه، قال الضحاك: في قطع من السحاب

ومتى يكون مجىء الملائكة فيه قولان.

احدهما: أنه يوم القيامة، وهو قول الجمهور.

والثاني: أنه عند الموت قاله قتادة وقرأ الحسن بخفض الملائكة {قُضِىَ ٱلاْمْرُ} فرغ منه {و إِلَى ٱللّه تُرْجَعُ ٱلامُورُ} أي: تصير قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وعاصم، ترجع: بضم التاء وقرأ ابن عامر وحمزة، والكسائي، بفتحها

فان قيل: فكأن الأمور كانت إلى غيره، فعنه اربعة أجوبه.

احدها: أن المراد به إعلام الخلق أنه المجازي على الأعمال بالثواب والعقاب، قاله الزجاج.

والثاني: أنه لما عبد قوم غيره ونسبوا أفعاله إلى سواه ثم انكشف الغطاء يوم القيامة، ردوا إليه ما أضافوه إلى غيره.

والثالث: أن العرب تقول: قد رجع علي من فلان مكروه إذا: صار إليه منه مكروه، و إن لم يكن سبق

قال الشاعر:

فان تكن الأيام أحسن مرة  إلي فقد عادت لهن ذنوب

ذكرهما ابن الانباري، ومما يشبه هذا قول لبيد:

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه  يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

أراد: يصير رمادا لا أنه كان رمادا، وقال أمية بن أبي الصلت

تلك المكارم لا قعبان من لبن  شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

أي: صار

والرابع: أنه لما كانت الأمور إليه قبل الخلق، ثم أوجدهم فملكهم بعضها رجعت إليه بعد هلاكهم،

فان قيل: قد جرى ذكر اسمه تعالى في قوله: {أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللّه} فما الحكمة في أنه لم يقل و إليه ترجع الامور

فالجواب: أن إعادة اسمه أفخم و أعظم والعرب إذا جرى ذكر شيء يفخم أعادوا لفظه وأنشدوا:

لا أرى الموت يسبق الموت شيئا  نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

فأعادوا ذكر الموت لفخامته في صدورهم ذكره الزجاج.

٢١١

قوله تعالى: {سَلْ بَنِى إِسْرٰءيلَ} الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم، والمعنى له وللمؤمنين، قال الفراء أهل الحجاز يقولون: سل بغير همز، وبعض تميم يقول: اسأل بالهمز وبعضهم يقول: إسل بالألف، وطرح الهمز والأولى أغربهن، وبها جاء الكتاب

وفي المراد بالسؤال قولان.

احدهما: أنه التقرير والإذكار بالنعم

والثاني: التوبيخ على ترك الشكر. والاية البينة: العلامة الواضحة كالعصا، والغمام، والمن، والسلوى، والبحر

وفي المراد. بنعمة اللّه قولان.

احدهما: أنها الآيات التي ذكرناها، قاله قتادة.

والثاني: أنها حجج اللّه الدالة على أمر النبي، صلى اللّه عليه وسلم قاله الزجاج.

وفي معنى تبديلها ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الكفر بها، قاله أبوالعالية، ومجاهد،

والثاني: تغيير صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم في التوراة، قاله أبو سليمان الدمشقي.

والثالث: تعطيل حجج اللّه بالتأويلات الفاسدة.

٢١٢

قوله تعالى: {زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا} في نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أنها نزلت في أبي جهل وأصحابه، قاله ابن عباس.

والثاني: نزلت في علماء اليهود، قاله عطاء.

والثالث: في عبد اللّه بن أبي وأصحابه من المنافقين، قاله مقاتل. قال الزجاج: وانما جاز في زين لفظ التذكير، لأن تأنيث الحياة ليس بحقيقي، إذ معنى الحياة ومعنى العيش واحد.

و إلى من يضاف هذا التزيين فيه قولان.

احدهما: أنه يضاف إلى اللّه وقرأ أبي بن كعب، والحسن، و مجاهد، وابن محيصن، وابن أبي عبلة، زين: بفتح الزاي والياء على معنى: زينها اللّه لهم.

والثاني: أنه يضاف إلى الشيطان، روي عن الحسن قال شيخنا علي ابن عبيد: اللّه والتزيين من اللّه تعالى هو التركيب الطبيعي، فانه وضع في الطبائع محبة المحبوب لصورة فيه تزينت للنفس، وذلك من صنعه وتزيين الشيطان باذكار ما وقع من إغفاله مما مثله يدعو لى نفسه لزينته فاللّه تعالى، يزين بالوضع والشيطان يزين بالإذكار.

وما السبب في سخرية الكفار من المؤمنين؟ فيه ثلاثة أقوال.

احدها: انهم سخروا منهم للفقر.

والثاني: لتصديقهم بالآخرة.

والثالث: لاتباعهم للنبي.صلى اللّه عليه وسلم وقيل: إنهم كانوا يوهمونهم أنكم على الحق، سخرية منهم بهم.

وفي معنى كونهم {فَوَقَـٰهُمُ} ثلاثة أقوال.

احدها: أن ذلك على أصله لأن المؤمنين في عليين والكفار في سجين،

والثاني: أن حجج المؤمنين فوق شبه الكافرين فهم المنصورون.

والثالث: في أن نعيم المؤمنين في الجنة، فوق نعيم الكافرين في الدنيا. قوله تعالى:

{وَٱللّه يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} فيه قولان.

احدهما: أنه يرزق من يشاء رزقا واسعا غير ضيق.

والثاني: يرزق من يشاء بلا محاسبة في الآخرة.

٢١٣

قوله تعالى: {كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وٰحِدَةً} في المراد «بالناس» هاهنا ثلاثة أقوال.

احدها: جميع بني آدم، وهو قول الجمهور.

والثاني: آدم وحده، قاله مجاهد، قال ابن الانباري، وهذا الوجه جائز، لأن العرب توقع الجمع على الواحد. ومعنى الآية: كان آدم ذا دين واحد، فاختلف ولده من بعده.

والثالث: آدم وأولاده كانوا على الحق فاختلفوا حين قتل قابيل وهابيل. ذكره ابن الانباري. والأمة هاهنا: الصنف والواحد على مقصد واحد.

وفي ذلك المقصد الذي كانوا عليه قولان.

احدهما: أنه الإسلام قاله أبي بن كعب، وقتادة، والسدي،ومقاتل.

والثاني: أنه الكفر رواه عطية عن ابن عباس.

ومتى كان ذلك فيه خمسة أقوال.

احدها: أنه حين عرضوا على آدم وأقروا بالعبودية قاله أبي بن كعب.

والثاني: في عهد ابراهيم كانوا كفارا، قاله ابن عباس.

والثالث: بين آدم و نوح، وهو قول قتادة.

والرابع: حين ركبوا السفينة كانوا على الحق، قاله مقاتل.

والخامس: في عهد آدم ذكره ابن الانباري: {فَبَعَثَ ٱللّه ٱلنَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ} بالجنة

و {مُّنذِرِينَ} بالنار هذا قول الأكثرين. وقال بعض السلف: مبشرين لمن آمن بك يا محمد، ومنذرين لمن كذبك.

{وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ}والكتاب: اسم جنس، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس. وذكر بعضهم أنه في التوراة.

وفي المراد بالحق ههنا قولان.

احدهما: أنه بمعنى الصدق والعدل.

والثاني: أنه القضاء فيما اختلفوا فيه {لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ} في الحاكم هاهنا ثلاثة أقوال.

احدها: أنه اللّه تعالى.

والثاني: أنه النبي الذي انزل عليه الكتاب.

والثالث: الكتاب كقوله تعالى {هَـٰذَا كِتَـٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقّ} [الجاثية: ٢٩].وقرأ أبو جعفر ليحكم بضم الياء وفتح الكاف. وقرأ مجاهد «لتحكم» بالتاء على الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم. قوله تعالى:

{فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ} يعني الدين. قوله تعالى:

{وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ} في هذه الهاء ثلاثة أقوال.

احدها: أنها تعود إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم، قاله ابن مسعود.

والثاني: إلى الدين، قاله مقاتل.

والثالث: إلى الكتاب قاله أبو سليمان الدمشقي. فأما «هاء» أوتوه فعائدة على الكتاب من غير خلاف. وقال الزجاج: ونصب بغيا على معنى المفعول له فالمعنى لم يوقعوا الاختلاف الا للبغي، لأنهم عالمون بحقيقة الأمر في كتبهم،

وقال الفراء في اختلافهم وجهان.

احدهما: كفر بعضهم بكتاب بعض.

والثاني: تبديل ما بدلوا. قوله تعالى:

{فَهَدَى ٱللّه ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ} أي لمعرفة ما اختفلوا فيه أو تصحيح ما اختلفوا فيه. وفي الذي اختلفوا فيه ستة أقوال.

احدها: أنه الجمعة جعلها اليهود السبت والنصارى الأحد فروى البخاري ومسلم في الصحيحين، من حديث أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة يبد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا واوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا اللّه له فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى.

والثاني: أنه الصلاة فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب،

والثالث: أنه إبراهيم قالت اليهود: كان يهوديا وقالت النصارى: كان نصرانيا.

والرابع: أنه عيسى جعلته اليهود لفرية وجعلته النصارى إلها.

والخامس: أنه الكتب، آمنوا ببعضها، وكفروا ببعضها.

والسادس: أنه الدين وهو الأصح، لأن جميع الاقوال داخلة في ذلك. قوله تعالى:

{بِإِذْنِهِ} قال الزجاج: إذنه علمه، وقال غيره أمره قال: بعضهم توفيقه.

٢١٤

قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ} في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن الصحابة أصابهم يوم الأحزاب بلاء وحصر، فنزلت هذا الآية، ذكره السدي عن أشياخه، وهو قول قتادة.

والثاني: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، لما دخل المدينة هو وأصحابه اشتد بهم الضر، فنزلت هذه الآية، قاله عطاء.

والثالث: أن المنافقين قالوا للمؤمنين لو كان محمد نبيا لم يسلط عليكم القتل، فأجابوهم من قتل منا دخل الجنة. فقالوا: لم تمنون انفسكم بالباطل؟ فنزلت هذه الآية قاله مقاتل. وزعم أنها نزلت يوم احد قال الفراء:

{أَمْ حَسِبْتُمْ} بمعنى: أظننتم، وقال الزجاج: «أم» بمعنى: بل. وقد شرحنا «أم» فيما تقدم شرحا كافيا. والمثل بمعنى: الصفة. و «زلزلوا» خوفوا وحركوا بما يؤذي، وأصل الزلزلة في اللغة من: زل الشىء عن مكانه، فاذا قلت: زلزلته فتأويله: كررت زلزلته من مكانه، وكل ما كان فيه ترجيع كررت فيه فاء الفعل، تقول: أقل فلان الشىء: إذا رفعه من مكانه، فاذا كرر رفعه ورده، قيل: قلقله فالمعنى أنه تكرر عليهم التحريك، بالخوف قاله ابن عباس. البأساء: الشدة والبؤس، والضراء: البلاء والمرض. وكل رسول بعث إلى أمته يقول:

{مَتَىٰ نَصْرُ ٱللّه} والنصر: الفتح والجمهور على فتح لام «حتى يقول» وضمها نافع. فصل ومعنى الآية: أن البلاء والجهد بلغ بالأمم المتقدمة إلى أن استبطؤوا النصر لشدة البلاء. وقد دلت على أن طريق الجنة إنما هو الصبر على البلاء. قالت عائشة: ما شبع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثلاثة أيام تباعا من خبز بر حتى مضى لسبيله. وقال حذيفة: اقر أيامي لعيني، يوم أرجع إلى أهلي فيشكون الي الحاجة. قيل: ولم ذلك؟ قال: لأني سمعت رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، يقول: إن اللّه يتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده بالخير وإن اللّه ليحمي المؤمن من الدنيا، كما يحمي المريض أهله الطعام أخبرنا أبو بكر الصوفي قال: أخبرنا أبو سعيد ابن أبي صادق قال:أخبرنا أبو عبد اللّه الشيرازي قال: سمعت ابا الطيب ابن الفرخان يقول: سمعت الجنيد يقول: دخلت على سري السقطي وهو يقول: وما رمت الدخول عليه حتى  حللت محله العبد الذليل وأغضيت الجفون على قذاها  وصنت النفس عن قال وقيل

٢١٥

قوله تعالى: {يَسْـئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أنها نزلت في عمرو بن الجموح الأنصاري، وكان له مال كثير فقال: يا رسول اللّه، بماذا نتصدق، وعلى من ننفق؟ فنزلت هذا الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: أن رجلا قال: للنبي صلى اللّه عليه وسلم، إن لي دينار، فقال: أنفقه على نفسك. فقال: إن لي دينارين. فقال: انفقها على أهلك. فقال: إن لي ثلاثة. فقال: أنفقها على خادمك. فقال: إن لي اربعة. فقال: أنفقها على والديك. فقال: إن لي خمسة. فقال: لأنفقها على قرابتك. فقال: إن لي ستة فقال: أنفقها في سبيل اللّه وهو أحسنها. فنزلت هذه الآية. رواه عطاء، عن ابن عباس.

قال الزجاج: «ماذا» في اللغة على ضربين،

احدهما: أن تكون «ذا» بمعنى الذي، و ينفقون صلته فيكون المعنى:

يسألونك أي شيء الذي ينفقو؟

والثاني: أن تكون «ما» مع «ذا» اسما واحدا، فيكون المعنى: يسألونك أي شيء ينفقون، قال وكأنهم سألوا: على من ينبغي أن يفضلوا، وما وجه الذي ينفقون؟ لأنهم يعلمون ما المنفق، وأعلمهم اللّه أن اولى من أفضل عليه الوالدان والأقربون. والخير: المال، قاله ابن عباس في آخرين. وقال ومعنى

«فللوالدين» فعلى الوالدين.

فصل

وأكثر علماء التفسير على أن هذه الآية منسوخة، قال ابن مسعود: نسختها آية الزكاة. وذهب الحسن إلى إحكامها، وقال ابن زيد: هي في النوافل، وهذا الظاهر منم الآية، لأن ظاهرها يقتضي الندب. ولا يصح أن يقال إنها منسوخة إلا أن يقال: إنها اقتضت وجوب النفقة على المذكورين فيها.

٢١٦

قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ} قال ابن عباس: لما فرض اللّه على المسلمين الجهاد شق عليهم وكرهوه، فنزلت هذه الآية، و كتب بمعنى: فرض في قول الجماعة قال الزجاج: يقال: كرهت الشىء أكرهه كرها، وكرها وكراهة وكراهية، وكل ما في كتاب اللّه من الكره، فالفتح فيه جائز إلا أن ابا عبيد ذكر أن الناس مجتمعون على ضم هذا الحرف الذي فيه هذه الآية. وإنما كرهوه لمشقته على النفوس، لا أنهم كرهوا فرض اللّه تعالى. وقال الفراء: الكره والكره: لغتان وكأن النحويين يذهبون بالكره إلى ما كان منك مما لم تكره عليه، فاذا أكرهت على الشىء استحبوا «كرها» بالفتح. وقال ابن قتيبة الكره بالفتح معناه الإكراه والقهر وبالضم معناه المشقة ومن نظائر هذا الجهد الطاقة والجهد المشقة ومنهم من يجعلهما واحدا. وعظم الشىء: أكبره. وعظمه: نفسه وعرض الشىء: إحدى نواحيه. وعرضه: خلاف طوله. والأكل: مصدر أكلت، والأكل: المأكول، وقال أبو علي: هما لغتان، كالفقر والفقر، والضعف والضعف، والدف والدف، والشهد والشهد. قوله تعالى:

{وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا} قال ابن عباس، يعنى الجهاد

{وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} فتح وغنيمة، أو شهادة

{وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا} وهو: القعود عنه

{وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} لا تصيبون فتحا، ولا غنيمة، ولا شهادة

{وَٱللّه يَعْلَمُ} أن الجهاد خير لكم {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} حين أحببتم القعود عنه.

فصل

اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا الآية على ثلاثة أقوال.

احدها: أنها من المحكم الناسخ للعفو عن المشركين.

والثاني: أنها منسوخة لأنها أوجبت الجهاد على الكل فنسخ ذلك بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} التوبة: ١٢٢.

والثالث: أنها ناسخة من وجه منسوخة من وجه. وقالوا إن الحال في القتال كانت على ثلاث مراتب. الاولى: المنع من القتال، ومنه قوله تعالى:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قيل لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} النساء: ٧٧.

والثانية: أمر الكل بالقتال ومنه قوله تعالى:

{ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً}. التوبة ٤١. ومثلها هذه الآية والثالثة كون القتال فرضا على الكفاية وهو قوله تعالى:

{وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} التوبة: ١٢٢. فيكون الناسخ منها ايجاب القتال بعد المنع منه، والمنسوخ منه وجوب القتال على الكل.

٢١٧

قوله تعالى: {يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} روى جندب بن عبد اللّه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بعث رهطا واستعمل عليهم ابا عبيدة، فلما انطلق ليتوجه بكى صبابة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فبعث مكانه عبد اللّه بن جحش، وكتب له كتابا، وأمره ألا يقرأه إلا بمكان كذا وكذا، وقال: لا تكرهن احدا من أصحابك على المسير، معك فلما صار إلى المكان، قرأ الكتاب واسترجع، وقال: سمعا وطاعة لأمر اللّه ولرسوله فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان من أصحابه، ومضى بقيتهم، فأتوا ابن الحضرمي فقتلوه، فلم يدروا ذلك اليوم، أمن رجب، أو من جمادى الآخرة؟ فقال المشركون للمسلمين قتلتم: في الشهر الحرام فأتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم، فحدثوه الحديث فنزلت هذه الآية، فقال بعض المسلمين: لئن كان أصابهم خير فما لهم أجر فنزلت: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ} إلى قوله: {رَّحِيمٌ} [البقرة: ٢١٨] قال الزهري: اسم ابن الحضرمي عمرو واسم الذي قتله عبد اللّه بن واقد الليثي قال ابن عباس كان أصحاب النبي، صلى اللّه عليه وسلم، يظنون تلك الليلة من جمادى، وكانت اول رجب.

وقد روى عطية عن ابن عباس أنها نزلت في شيئين.

احدهما: هذا.

والثاني: دخول النبي صلى اللّه عليه وسلم، مكة في شهر حرام يوم الفتح، حين عاب المشركون عليه القتال في شهر حرام.

وفي السائلين النبي، صلى اللّه عليه وسلم، عن ذلك قولان.

احدهما: انهم المسلمون سألوه هل أخطؤوا ام أصابوا، قاله ابن عباس، وعكرمة، و مقاتل.

والثاني: انهم المشركون سألوه على وجه العيب على المسلمين، قاله الحسن وعروة، و مجاهد. والشهر الحرام:شهر رجب، وكان يدعى الأصم، لأنه لم يكن يسمع فيه للسلاح قعقعة تعظيما له

{قِتَالٍ فِيهِ} أي: يسألونك عن قتال فيه.

{قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} قال ابن مسعود و ابن عباس: لا يحل. قال القاضي أبو يعلى: كان أهل الجاهلية يعتقدون تحريم القتال في هذه الاشهر، فأعلمهم اللّه تعالى في هذه الآية ببقاء التحريم.

فصل

اختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم: هل هو باق ام نسخ؟ على قولين.

احدهما: أنه باق روى ابن جريج، أن عطاء كان يحلف باللّه ما يحل للناس الآن أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيه، أو يغزوا وما نسخت.

والثاني: أنه منسوخ، قال سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، القتال جائز في الشهر الحرام. وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} التوبة: ٥ وبقوله تعالى: {قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللّه وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ} التوبة: ١٩ وهذا قول فقهاء الأمصار. قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللّه} هو مرفوع بالابتداء، وخبر هذه الأشياء: {أَكْبَرُ عِندَ ٱللّه}.

وفي المراد ب «سبيل اللّه» هاهنا قولان.

احدهما: أنه الحج لأنهم صدوا رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، عن مكة، قاله ابن عباس، والسدي عن أشياخه.

والثاني: أنه الإسلام، قاله مقاتل.

وفي هاء الكناية في قوله: {وَكُفْرٌ بِهِ} قولان

احدهما: أنها ترجع إلى اللّه تعالى، قاله السدي عن أشياخه، وقتادة، و مقاتل، وابن قتبية،

والثاني: أنها تعود إلى السبل. قاله ابن عباس. قال ابن قتيبة: وخفض «المسجد الحرام» نسقا على قوله: «سبيل اللّه» كأنه قال: وصد عن سبيل اللّه، وعن المسجد الحرام. قوله تعالى:

{وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} لما آذوا رسول اللّه وأصحابه؛ اضطروهم إلى الخروج فكأنهم أخرجوهم، فأعلمهم اللّه أن هذه الأفعال أعظم من قتل كل كافر. «والفتنة» هاهنا بمعنى الشرك. قاله ابن عمر، و ابن عباس، و مجاهد، وابن جبير، وقتادة، والجماعة. والفتنة في القرآن على وجوه كثيرة، قد ذكرتها في كتاب «النظائر»

{وَلاَ يَزَالُونَ} يعني: الكفار {يُقَـٰتِلُونَكُمْ} يعني المسلمين

و {حَبِطَتْ} بمعنى: بطلت.

٢١٨

قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أنه لما نزل القرآن بالرخصة لأصحاب عبد اللّه بن جحش في قتل ابن الحضرمي، قال بعض المسلمين: ما لهم أجر، فنزلت هذه الآية: وقد ذكرنا هذا في سبب نزول قوله تعالى {يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ} عن جندب بن عبد اللّه.

والثاني: أنه لما نزلت لهم الرخصة قاموا، فقالوا: يا رسول اللّه انطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.

وقال: {هَـٰجَرُواْ} من مكة إلى المدينة،

{وَجَـٰهِدُواْ} في طاعة اللّه ابن الحضرمي وأصحابه.

و {رَّحْمَةِ ٱللّه}: مغفرته وجنته. قال ابن الأنباري: الهجرة عند العرب من هجران الوطن والأهل والولد. والمهاجرون معناهم: المهاجرون الاولاد والأهل، فعرف مكان المفعول فأسقط. قال الشعبي اول لواء عقد في الإسلام لواء عبد اللّه بن جحش، واول مغنم قسم في الإسلام: مغنمه.

٢١٩

قوله تعالى: {يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أن عمر بن الخطاب قال: اللّهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت هذه الآية.

والثاني: أن جماعة من الانصار جاؤوا إلى النبي، صلى اللّه عليه وسلم، وفيهم عمر ومعاذ فقالوا: أفتنا في الخمر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزلت هذه الآية.

وفي تسمية الخمر خمرا ثلاثة أقوال.

احدها: أنها سميت خمرا لأنها تخامر العقل أي تخالطه،

والثاني: لأنها تخمر العقل أي تستره.

والثالث: لأنها تخمر أي تغطي ذكر. هذه الاقوال محمد بن القاسم، وقال الزجاج: الخمر في اللغة: ما ستر على العقل، يقال: دخل فلان في خمار الناس أي: في الكثير الذي يستتر فيهم، وخمار المرأة: قناعها سمي خمارا: لأنه يغطي. قال: والخمر هاهنا هي المجمع عليها، وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له: خمر و أن يكون في التحريم بمنزلتها، لأن العلماء أجمعوا على أن القمار كله حرام، وإنما ذكر الميسر من بينه، وجعل كله قياسا على الميسر، والميسر إنما يكون قمارا في الجزر خاصة. فأما الميسر؛ فقال ابن عباس، وابن عمر، والحسن، وسعيد بن جبير، و مجاهد، وقتادة، في آخرين: هو القمار. قال ابن قتيبة: يقال: يسرت: إذا ضربت بالقداح، ويقال للضارب بالقداح: ياسر و ياسرون، ويسر وأيسار.وكان أصحاب الثروة والأجواد في الشتاء عند شدة الزمان وكلبه ينحرون جزورا، ويجزئونها أجزاء، ثم يضربون عليها القداح، فاذا قمر القامر جعل ذلك لذوي الحاجة والمسكنة، وهو النفع الذي ذكره اللّه، وكانوا يتمادحون بأخذ القداح، ويتسابون بتركها ويعيبون من لا ييسر. قوله تعالى:

{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} قرأ الأكثرون «كبير» بالباء، وقرأ حمزة والكسائي بالثاء.

وفي إثم الخمر ثلاثة أقوال.

احدها: أن شربها ينقص الدين، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه إذا شرب سكر وآذى الناس، رواه السدي عن أشياخه.

والثالث: أنه وقوع العداوة والبغضاء وتغطية العقل الذي يقع به التمييز، قاله الزجاج.

وفي إثم الميسر قولان.

احدهما: أنه يشغل عن ذكر اللّه وعن الصلاة، ويوقع العداوة قاله ابن عباس

والثاني: أنه يدعوا إلى الظلم ومنع الحق، رواه السدي عن أشياخه. وجائز أن يراد جميع ذلك.

وأما منافع الخمر؛ فمن وجهين:

احدهما: الربح في بيعها.

والثاني: انتفاع الأبدان مع التذاذ النفوس. وأما منافع الميسر: فاصابة الرجل المال من غير تعب. وفي قوله تعالى:

{وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن} قولان.

احدهما: أن معناه: وإثمهما بعد التحريم، أكبر من نفعهما قبل التحريم، قاله سعيد بن جبير، و الضحاك، و مقاتل

والثاني: وإثمهما قبل التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم، ايضا، لأن الإثم الذي يحدث في اسبابها أكبر من نفعهما، وهذا منقول عن ابن جبير، ايضا

واختلفوا بماذا كانت الخمرة مباحة على قولين:

احدهما بقوله تعالى: {لِلشَّارِبِينَ وَمِن ثَمَرٰتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلاْعْنَـٰبِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} النحل: ٦٧. قاله ابن جبير.

والثاني: بالشريعة الاولى وأقر المسلمون على ذلك حتى حرمت.

فصل

اختلف العلماء: هل لهذه الآية تأثير في تحريم الخمر أم لا؟ على قولين.

احدهما: أنها تقتضي ذمها دون تحريمها، رواه السدي عن أشياخه. وبه قال سعيد بن جبير، و مجاهد، وقتادة، و مقاتل، وعلى هذا القول تكون هذه الآية منسوخة.

والقول الثاني: أن لها تأثيرا في التحريم، وهو أن اللّه تعالى أخبر أن فيها إثما كبيرا. والإثم كله محرم بقوله: {وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْىَ} الأعراف: ٣٣. هذا قول جماعة من العلماء. وحكاه الزجاج: واختاره القاضي أبو يعلى للعلة التي بيناها، واحتج لصحته بعض أهل المعاني فقال: لما قال اللّه تعالى:

{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ} وقع التساوي بين الأمرين فلما قال:

{وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} صار الغالب الإثم وبقي النفع مستغرقا في جنب الإثم، فعاد الحكم للغالب المستغرق فغلب جانب الخطر.

فصل فأما الميسر فالقول فيه مثل القول في الخمر، إن قلنا: إن هذه الآية دلت على التحريم، فالميسر حكمها حرام ايضا،

و إن قلنا: إنها دلت على الكراهة، فأقوم الاقوال أن نقول: إن الآية التي في المائدة نصت على تحريم الميسر. قوله تعالى:

{وَيَسْـئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} قال ابن عباس: إن الذي سأله عن ذلك عمرو ابن الجموح:قال ابن قتيبة: والمراد بالنفقة هاهنا: الصدقة والعطاء. قوله تعالى:

{قُلِ ٱلْعَفْوَ} قرأ ابو عمرو برفع واو «العفو» وقرأ الباقون بنصبها قال أبو علي: «ماذا» في موضع نصب فجوابه العفو بالنصب، كما تقول في جواب. ماذا انفقت؟/رهماً،أي: انفقت درهما. هذا وجه نصب العفو ومن رفع جعل «ذا» بمنزلة الذي ولم يجعل «ماذا» اسما واحدا، فاذا قال قائل: ماذا أنزل ربكم؟ فكانه قال: ما الذي أنزل ربكم؛ فجوابه: قرآن. قال الزجاج: «العفو» في اللغة: الكثرة والفضل، يقال قد عفا القوم: إذا كثروا و «العفو» ما اتى بغير كلفة. وقال ابن قتيبة العفو: الميسور. يقال: خذ ما عفاك، أي: ما أتاك سهلا بلا إكراه ولا مشقة.

وللمفسرين في المراد بالعفو هاهنا خمسة أقوال.

احدها: أنه ما يفضل عن حاجة المرء وعياله، رواه مقسم عن ابن عباس.

والثاني: ما تطيب به أنفسهم من قليل وكثير، رواه عطية عن ابن عباس،

والثالث: أنه القصد بين الإسراف والإقتار، قاله الحسن، وعطاء، وسعيد بن جبير،

والرابع: أنه الصدقة المفروضة، قاله مجاهد،

والخامس: أنه مالا يتبين عليهم مقداره من قولهم، عفا الأثر إذا خفي ودرس حكاه شيخنا عن طائفة من المفسرين. فصل وقد تكلم علماء الناسخ والمنسوخ في هذا الآية، فروى السدي عن أشياخه أنها نسخت بالزكاة، وأبي نسخها آخرون. وفصل الخطاب في ذلك أنا متى قلنا: إنه فرض عليهم بهذه الآية التصدق بفاضل المال، أو قلنا: إنه أوجبت عليهم هذه الآية صدقة قل الزكاة، فالآية منسوخة بآية الزكاة، ومتى قلنا: إنها محمولة على الزكاة المفروضة كما قال مجاهد أو على الصدقة المندوب إليها، فهي محكمة. قوله تعالى:

{كَذٰلِكَ يُبَيّنُ ٱللّه} قال الزجاج: إنما قال كذلك، وهو يخاطب جماعة لأن الجماعة معناها: القبيل كأنه قال: كذلك ياأيها القبيل. وجائز أن تكون الكفا للنبي، صلى اللّه عليه وسلم، كأنه قال: كذلك ياأيها النبي، لأن الخطاب له مشتمل على خطاب أمته، وقال ابن الأنباري: الكاف في «كذلك» إشارة إلى ما بين من الإنفاق، فكأنه قال: مثل ذلك الذي بينه لكم في الانفاق يبين الآيات: ويجوز أن يكون «كذلك» غير إشارة إلى ما قبله، فيكون معناه: هكذا قاله ابن عباس:

لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِى ٱلدُّنُيَا وَٱلاْخِرَةِ فتعرفون فضل ما بينهما فتعملون للباقي منهما.

٢٢٠

قوله تعالى: {وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَـٰمَىٰ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أنه لما أنزل اللّه تعالى {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} الاسراء: ٣٤. و {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً} النساء: ٩ انطلق من كان عنده مال يتيم فعزل طعامه، من طعامه وشرابه، من شرابه فجعل يفضل الشىء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم، فذكروه للنبي صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية. هذا قول ابن عباس، وعطاء، وسعيد بن جبير، و قتادة، و مقاتل.

والثاني: أن العرب كانوا يشددون في أمر اليتيم حتى لا يأكلون معه في قصعته، ولا يستخدمون له خادما، فسألوا النبي صلى اللّه عليه وسلم، عن مخالطتهمٰ فنزلت هذه الآية. ذكره السدي عن اشياخه، وهو قول الضحاك.

وفي السائلين للنبي، صلى اللّه عليه وسلم، عن ذلك قولان.

احدهما: أن الذي سأله ثابت بن رفاعة الأنصاري، قاله مقاتل.

والثاني: عبد اللّه بن رواحة، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى:

{قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} قال ابن قتيبة معناه تثمير أموالهم والتنزه عن أكلها لمن وليها خير

{وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوٰنُكُمْ} أي: فهم أخوانكم، في ذلك حكم إخوانكم. قال ابن عباس: والمخالطة: أن يشرب من لبنك وتشرب من لبنه، ويأكل في قصعتك وتأكل في قصعته.

{وَٱللّه يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ} يريد: المتعمد اكل مال اليتيم، من المتحرج الذي لا يألو إلا الإصلاح.

{وَلَوْ شَاء ٱللّه لاعْنَتَكُمْ} قال ابن عباس: أي: لأحرجكم ولضيق عليكم، وقال ابن الأنباري أصل العنت: التشديد تقول العرب: فلان يتعنت فلانا ويعنته أي: يشدد عليه، ويلزمه بما يصعب عليه أداؤه. قال ثم نقلت إلى معنى الهلاك واشتقاق الحرف، من قول العرب أكمة عنوت: إذا كانت شديدة شاقة المصعد فجعلت هذه اللفظة مستعملة في كل شدة.

٢٢١

قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَـٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أن رجلا يقال له مرثد بن أبي مرثد بعثه النبي، صلى اللّه عليه وسلم، إلى مكة ليخرج ناسا من المسلمين بها أسرى، فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها: عناق، وكانت خليلة له في الجاهلية، فلما أسلم اعرض عنها، فأتته فقالت: ويحك يا مرثد: ألا تخلو؟ فقال إن الإسلام قد حال بيني وبينك، ولكن إن شئت تزوجتك، إذا رجعت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، استأذنته في ذلك، فقالت له: أبي تتبرم؟ واستغاثت عليه، فضربوه ضربا شديدا، ثم خلوا سبيله، فلما قضى حاجته بمكة رجع إلى النبي، صلى اللّه عليه وسلم، فسأله: أتحل لي أن أتزوجها؟ فنزلت هذه الآية. هذا قول ابن عباس. وذكر مقاتل بن سليمان أنه أبو مرثد الغنوي.

والثاني: أن عبد اللّه بن رواحه كانت له أمة سوداء، و أنه غضب عليها فلطمها، ثم فزع، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأخبره خبرها؛ فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: «ما هي يا عبد اللّه» فقال: يا رسول اللّه هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا اللّه، وأنك رسول اللّه، فقال: «يا عبد اللّه هذه مؤمنة» فقال: والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل، فعابه ناس من المسلمين وقالوا: أنكح أمة، وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رغبة في أحسابهن، فنزلت هذه الآية. رواه السدي عن أشياخه. وقد ذكر بعض المفسرين أن قصة عناق وأبا مرثد كانت سببا لنزول قوله تعالى:

{وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَـٰتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ} وقصة ابن رواحه كانت سببا لنزول قوله تعالى:

{وَلامَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ} فأما التفسير، فقال المفضل: أصل النكاح: الجماع ثم كثر ذلك حتى قيل للعقد: نكاح، وقد حرم اللّه عز وجل نكاح المشركات عقدا ووطءا.

وفي «المشركات» هاهنا قولان.

احدهما: أنه يعم الكتابيات وغيرهن، وهو قول الأكثرين.

والثاني: أنه خاص في الوثنيات، وهو قول سعيد بن جبير، والنخعي، وقتادة.

وفي المراد بالأمة قولان.

احدهما: أنها المملوكة وهو قول الأكثرين فيكون المعنى: ولنكاح أمة مؤمنة خير من نكاح حرة مشركة.

والثاني: أنها المرأة وإن لم تكن مملوكة كما يقال: هذه أمة اللّه، وهذا قول الضحاك والأول أصح.

وفي قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} قولان.

احدهما: بجمالها وحسنها.

والثاني: بحسبها ونسبها.

فصل اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فقال القائلون بأن المشركات الوثنيات: هي محكمة، وزعم بعض من نصر هذا القول أن اليهود والنصارى ليسوا بمشركين باللّه، وإن جحدوا بنبوة نبينا.

قال شيخنا: وهو قول فاسد من وجهين.

احدهما: أن حقيقة الشرك ثابتة في حقهم حيث قالوا: عزير ابن اللّه، والمسيح ابن اللّه.

والثاني: أن كفرهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، يوجب أن يقولوا: إن ما جاء به ليس من عند اللّه وإضافة ذلك إلى غير اللّه شرك. فأما القائلون بأنها عامة في جميع المشركات، فلهم في ذلك قولان.

احدهما: أن بعض حكمها منسوخ بقوله: {وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ} المائدة: ٦. وبقي الحكم في غير أهل الكتاب محكما.

والثاني: أنها ليست منسوخة، ولا ناسخة، بل هي عامة في جميع المشركات، وما أخرج عن عمومها من اباحة كافرة، فلدليل خاص، وهو قوله تعالى: {وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ} المائدة: ٦. فهذه خصصت عموم تلك من غير نسخ، وعلى هذا عامة الفقهاء. وقد روي معناه عن جماعة من الصحابة، منهم: عثمان، وطلحة، وحذيفة، وجابر، و ابن عباس. قوله تعالى:

{وَلاَ تُنكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ} أي: لا تزوجوهم بمسلمة حتى يؤمنوا؛ والكلام في قوله تعالى:

{وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ} وفي قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} مثل الكلام في أول الآية. قوله تعالى:

{وَٱللّه يَدْعُواْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ}؛ قرأ الجمهور بخفض «المغفرة» وقرأ الحسن، والقزاز، عن أبي عمرو برفعها.

٢٢٢

قوله تعالى: {وَيَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ} روى ثابت عن أنس قال: كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهن لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسئل النبي صلى اللّه عليه وسلم، عن ذلك فنزلت هذه الآية، فأمرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم، أن يؤاكلوهن ويشاربوهن ويكونوا معهن في البيوت، وأن يفعلوا كل شيء ما عدا النكاح. وقال ابن عباس: جاء رجل يقال له: ابن الدحداحة من الأنصار إلى النبي، صلى اللّه عليه وسلم، فقال كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ فنزلت هذه الآية

وفي المحيض قولان.

احدهما: أنه اسم للحيض، قال الزجاج: يقال: قد حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا ومحيضا. وقال ابن قتيبة: المحيض الحيض.

والثاني: أنه اسم لموضع الحيض، كالمقيل، فانه موضع القيلولة، والمبيت موضع البيتوتة، وذكر القاضي أبويعلى أن هذاظاهر كلام احمد. فأما أرباب القول الأول؛ فأكدوه بإن في اللفظ ما يدل على قولهم، وهو أنه وصفه بالأذى، وذلك صفة لتفسير الحيض لا لمكانه، واما أرباب القول الثاني فقالوا: لا يمتنع أن يكون المحيض صفة للموضع، ثم وصفه بما قاربه، وجاوره كالعقيقة فإنها اسم لشعر الصبي، وسميت بها الشاة التي تذبح عند حلق رأسه مجازا، والرواية اسم للجمل، وسميت المزادة راوية مجازا، والأذى يحصل للواطىء بالنجاسة، ونتن الريح، وقيل: يورث جماع الحائض علة بالغة في الألم:

{فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنّسَاء فِي ٱلْمَحِيضِ} المراد به اعتزال الوطء في الفرج لأن المحيض نفس الدم أو نفس الفرج.

{وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} أي: لا تقربوا جماعهن وهو تأكيد لقوله {فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنّسَاء} قوله تعالى:

{حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم {حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ} خفيفة، وقرأ حمزة والكسائي، وخلف، و أبو بكر عن عاصم يطهرن بتشديد الطاء والهاء وفتحهما قال ابن قتيبة يطهرن ينقطع عنهن الدم يقال: طهرت المرأة وطهرت: إذا رأت الطهر، وإن لم تغتسل بالماء. ومن قرأ «يطهرن» بالتشديد أراد يغتسلن بالماء والأصل يتطهرن، فأدغمت التاء في الطاء قال ابن عباس، و مجاهد: حتى يطهرن من الدم، فاذا تطهرن اغتسلن بالماء. قوله تعالى:

{فَـئَاتُوهُنَّ} إباحة من حظر، لا على الوجوب. قوله تعالى:

{مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ ٱللّه} فيه اربعة أقوال.

احدها: أن معناه من قبل الطهر لا من قبل الحيض، قاله ابن عباس، وأبو رزين، وقتادة، والسدي في آخرين.

والثاني: أن معناه: فأتوهن من حيث أمركم اللّه أن: لا تقربوهن فيه، وهو محل الحيض، قاله مجاهد، وقال من نصر هذا القول: إنما قال: {أَمَرَكُمُ ٱللّه} والمعنى نهاكم لأن النهي أمر بترك المنهي عنه، و من بمعنى في كقوله تعالى {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوٰةِ} الجمعة: ٩.

والثالث: فأتوهن من قبل التزويج الحلال لا من قبل الفجور، قاله ابن الحنفية.

والرابع: أن معناه فاتوهن من الجهات التي يحل أن تقرب فيها المرأة، ولا تقربوهن من حيث لا ينبغي مثل أن كن صائمات، أو معتكفات، أو محرمات، وهذا قول الزجاج، وابن كيسان.

وفي قوله تعالى: {إِنَّ ٱللّه يُحِبُّ ٱلتَّوبِينَ} قولان.

احدهما: التوابين من الذنوب، قاله عطاء، و مجاهد، في آخرين

والثاني التوابين من إتيان الحيض ذكره بعض المفسرين.

وفي قوله تعالى: {وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهّرِينَ} ثلاثة أقوال.

احدها: المتطهرين من الذنوب، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، و أبوالعالية،

والثاني: المتطهرين بالماء، قاله عطاء.

والثالث: المتطهرين من إيتيان أدبار النساء، روي عن مجاهد.

فصل

أقل الحيض يوم وليلة في إحدى الروايتين عن احمد. والثانية: يوم. وقال أبو حنيفة: أقله ثلاثة أيام. وقال مالك وداود: ليس لأقله حد.

وفي أكثره روايتان عن احمد:

إحداهما: خمسة عشر يوما، وهو قول مالك والشافعي.

والثانية سبعة عشر يوما. وقال أبو حنيفة: أكثره عشرة أيام. والحيض مانع من عشرة أشياء: فعل الصلاة، ووجوبها، وفعل الصوم دون وجوبه، والجلوس في المسجد، والاعتكاف، والطواف، وقراءة القرآن، وحمل المصحف، والاستمتاع فى الفرج، وحصول نية الطلاق.

٢٢٣

قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} في سبب نزلها ثلاثة اقوال.

احدها: أن اليهود أنكرت جواز إتيان المرأة إلا من بين يديها، وعابت من يأتيها على غير تلك الصفة، فنزلت هذه الآية. روي عن جابر، والحسن وقتادة.

والثاني: أن حيا من قريش كانوا يتزوجون النساء بمكة، ويتلذذون بهن مقبلات، ومدبرات فلما قدموا المدينة تزوجوا من الأنصار، فذهبوا ليفعلوا ذلك فأنكرنه، وانتهى الحديث إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية. رواه مجاهد عن ابن عباس.

والثالث: أن عمر بن الخطاب جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال هلكت حولت رحلي الليلة، فنزلت هذه الآية رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، والحرث المزدرع، وكنى به هاهنا عن الجماع. فسماهن حرثا لأنهن مزدرع الأولاد كالأرض للزرع،

فان قيل: النساء جمع فلم يقل حروث فعنه ثلاثة أجوبة.

ذكرها ابن القاسم الانباري النحوي.

احدها: أن يكون الحرث مصدرا في موضع الجمع فلزمه التوحيد، كما تقول العرب إخوتك صوم وأولادك فطر يريدون: صائمين، ومفطرين فيؤدي المصدر بتوحيده عن اللفظ المجموع.

والثاني: أن يكون أراد حروث لكم، فاكتفى بالواحد من الجمع. كما قال الشاعر:

كلوا في نصف بطونكم تعيشوا

أي: في أنصاف بطونكم.

والثالث: أنه إنما وحد الحرث لأن النساء شبهن به ولسن من جنسه، والمعنى: نساؤكم مثل حروث لكم. قوله تعالى:

{أَنَّىٰ شِئْتُمْ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أنه بمعنى كيف شئتم ثم فيه قولان.

احدهما: أن المعنى كيف شئتم مقبلة أو مدبرة، وعلى كل حال إذا كان الإتيان في الفرج، وهذا قول ابن عباس، و مجاهد، وعطية، والسدي، و ابن قتيبة، في آخرين.

والثاني: أنها نزلت في العزل، قاله سعيد بن المسيب فيكون المعنى إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا.

والقول الثاني: أنه بمعنى إن شئتم، ومتى شئتم، وهو قول ابن الحنفية، و الضحاك وروي عن ابن عباس أيضا.

والثالث: أنه بمعنى حيث شئتم، وهذا محكي عن ابن عمر ومالك بن أنس وهو فاسد من وجوه،

احدها: أن سالم بن عبد اللّه لما بلغه أن نافعا تحدث بذلك عن ابن عمر، قال:كذب العبد، إنما قال عبد اللّه: يؤتون في فروجهن من أدبارهن، و اما أصحاب مالك فانهم ينكرون صحته عن مالك،

والثاني: أن أبا هريرة روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ملعون من أتى النساء في أدبارهن فدل على أن الآية لا يراد بها هذا.

والثالث: أن الآية نبهت على أنه محل الولد بقوله:

{فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} وموضع الزرع: هو مكان الولد قال ابن الأنباري: لما نص اللّه على ذكر الحرث، والحرث به يكون النبات، والولد مشبه بالنبات لم يجز أن يقع الوطء في محل لا يكون منه ولد.

والرابع: أن تحريم إتيان الحائض كان لعلة الأذى والأذى ملازم لهذا المحل لا يفارقه. قوله تعالى:

{وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ} فيه اربعة أقوال.

احدها: أن معناه وقدموا لأنفسكم من العمل الصالح، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.

والثاني: وقدموا التسمية عند الجماع، رواه عطاء عن ابن عباس.

والثالث: وقدموا لأنفسكم في طلب الولد، قاله مقاتل.

والرابع: وقدموا طاعة اللّه واتباع أمره، قاله الزجاج.

٢٢٤

قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللّه عُرْضَةً لاِيْمَـٰنِكُمْ} في سبب نزولها اربعة أقوال.

احدها: أنها نزلت في عبد اللّه بن رواحة، كان بينه وبين ختنة شيء، فحلف عبد اللّه أن لا يدخل عليه، ولا يكلمه وجعل يقول قد حلفت باللّه فلا يحل لي إلا أن تبر يميني. فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.

والثاني: أن الرجل كان يحلف باللّه أن لا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس. فنزلت هذه الآية. قاله الربيع بن أنس.

والثالث: أنها نزلت في أبي بكر حين حلف لا ينفق على مسطح، قاله ابن جريج.

والرابع: نزلت في أبي بكر حلف أن لا يصل ابنه عبد الرحمن، حتى يسلم قاله المقاتلان ابن حيان، وابن سليمان.قال الفراء: والمعنى: ولا تجعلوا اللّه معترضا لأيمانكم، وقال أبو عبيد: نصبا لأيمانكم، كأنه يعني انكم تعترضونه في كل شيء فتحلفون به،

وفي معنى الآية ثلاثة أقوال.

احدها: أن معناها: لا تحلفوا باللّه أن لا تبروا، ولا تتقوا، ولا تصلحوا بين الناس هذا قول ابن عباس، و مجاهد، وعطاء، وابن جبير، و إبراهيم، و الضحاك، وقتادة والسدي و مقاتل، و الفراء، و ابن قتيبة، و الزجاج في آخرين.

والثاني: أن معناها: لا تحلفوا باللّه كاذبين لتتقوا المخلوقين، وتبروهم وتصلحوا بينهم بالكذب. روى هذا المعنى عطية عن ابن عباس.

والثالث: أن معناها لا تكثروا الحلف باللّه، و إن كنتم بارين مصلحين فان كثرة الحلف باللّه ضرب من الجرأة، عليه هذا قول ابن زيد.

٢٢٥

قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللّه بِٱلَّلغْوِ فِى أَيْمَـٰنِكُمْ} قال الزجاج: اللغو في كلام العرب: ما أطرح ولم يعقد عليه أمر، ويسمى ما لا يعتد به لغوا. وقال ابن فارس: اشتقاق ذلك من قولهم لما لا يعتد به من اولاد الإبل في الدية وغيرها لغوا، يقال منه: لغا يلغو، وتقول: لغي بالأمر إذا لهج به، وقيل إن اشتقاق اللغة منه أي يلهج صاحبها بها

وفي المراد باللغو هاهنا خمسة أقوال.

احدها: أن يحلف على الشىء يظن أنه كما حلف ثم يتبين له أنه بخلافه، والى هذا المعنى ذهب أبو هريرة، و ابن عباس، والحسن، وعطاء، والشعبي، وابن جبير، و مجاهد، وقتادة، والسدي عن أشياخه. ومالك، و مقاتل.

والثاني: أنه لا واللّه وبلى واللّه من غير قصد لعقد اليمين، وهو قول عائشة، وطاووس، وعروة، والنخعي، والشافعي واستدل أرباب هذا القول بقوله تعالى:

{وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وكسب القلب عقدة، وقصده وهذان القولان منقولان عن الإمام احمد. روى عنه ابنه عبد اللّه أنه قال: اللغو عندي أن يحلف على اليمين يرى أنها كذلك، ولا كفارة. والرجل يحلف، ولا يعقد قلبه على شيء فلا كفارة.

والثالث: أنه يمين الرجل، وهو غضبان رواه طاووس عن ابن عباس.

والرابع: أنه حلف الرجل على معصية فليحنث، وليكفر، ولا إثم عليه، قاله سعيد بن جبير.

والخامس: أن يحلف الرجل على شيء ثم ينساه، قاله النخعي، وقول عائشة أصح الجميع قال حنبل: سئل احمد عن اللغو فقال الرجل: يحلف فيقول لا واللّه، وبلى، واللّه، لا يريد عقد اليمين، فاذا عقد على اليمين لزمته الكفارة. قوله تعالى:

{وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَٱللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ} قال مجاهد: أي: ما عقدت عليه قلوبكم، والحليم ذو الصفح الذي لا يستفزه غضب فيعجل، و يستخفه جهل جاهل مع قدرته على العقوبة. قال أبو سليمان الخطابي: ولا يستحق اسم الحليم من سامح مع العجز عن المجازاة، إنما الحليم الصفوح مع القدرة المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة، وقد أنعم بعض الشعراء أبياتا في هذا المعنى فقال: لا يدرك المجد أقوام و إن كرموا  حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام ويشتموا فترى الألوان مسفرة  لا صفح ذل ولكن صفح أحلام قال:ويقال: حلم الرجل يحلم حلما يضم اللام في الماضي والمستقبل. وحلم في النوم، بفتح اللام، يحلم حلما اللام في المستقبل. والحاء في المصدر مضمومتان.

فصل

الأيمان على ضربين، ماض ومستقبل، فالماضي على ضربين: يمين محرمة وهي: اليمين الكاذبة، وهي أن يقول: واللّه ما فعلت، وقد فعل أو لقد فعلت، وما فعل ويمين مباحة، وهي أن يكون صادقا في قوله: ما فعلت أو لقد فعلت،

والمستقبلة على خمسة اقسام.

احدها: يمين عقدها طاعة، والمقام عليها طاعة، وحلها معصية مثل أن يحلف لأصلين الخمس، ولأصومن رمضان أو لاشربت الخمر.

والثاني: عقدها معصية، والمقام عليها معصية وحلها طاعة، وهي عكس الاولى.

والثالث: يمين عقدها طاعة، والمقام عليها طاعة، وحلها مكروه مثل أن يحلف ليفعلن النوافل من العبادات.

والرابع: يمين عقدها مكروه، والمقام عليها مكروه، وحلها طاعة، وهي عكس التي قبلها.

والخامس: يمين عقدها مباح، والمقام عليها مباح، وحلها مباح مثل أن يحلف لادخلت بلدا فيه من يظلم الناس، ولا سلكت طريقا مخوفا ونحو ذلك.

٢٢٦

قوله تعالى: {لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ} قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئا، فأبت أن تعطيه، حلف أن لا يقربها السنة، والسنتين، والثلاث فيدعها لا أيما، ولا ذات بعل فلما كان الإسلام جعل اللّه ذلك اربعة أشهر، فأنزل اللّه، هذه الآية وقال سعيد بن المسيب كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية، وكان الرجل لا يريد المراة، ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها أبدا فجعل اللّه تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية. قال ابن قتيبة: يؤلون أي: يحلفون يقال: آليت من امرأتي، اولي إيلاء: إذا حلف لا يجامعها. والاسم: الألية. وقال الزجاج: يقال من الإيلاء: آليت أولى إيلاء، وألية، وألوة، وألوة، وإلوة، وهي بالكسر أقل اللغات، قال كثير: قيل الألايا حافظ ليمينه  وإن بدرت منه الألية برت وحكي ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال: «من» بمعنى «في» أو «على» والتقدير: يحلفون على وطء نسائهم فحذف الوطء، وأقام النساء مقامه كقوله تعالى: {مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ} آل عمران: ١٩٤. أي على ألسنة رسلك، وقيل في الكلام حذف تقيرده يؤلون يعتزلون من نسائهم، والتربص الانتظار، ولا يكون مؤليا إلا إذا حلف باللّه أن لا يصيب زوجته أكثر من اربعة أشهر فان حلف على أربعة أشهر، فما دون ذلك لم يكم مؤليا، وهذا قول مالك، و احمد والشافعي، وفاؤوا رجعوا، ومعناه: رجعوا إلى الجماع. قاله علي، و ابن عباس، وابن جبير، ومسروق والشعبي، و إذا كان للمؤلي عذر لايقدر معه على الجماع. فانه يقول متى قدرت جامعتها. فيكون ذلك من قوله فيئة؛ فمتى قدر فلم يفعل، أمر بالطلاق، فان لم يطلق طلق الحاكم عليه. قوله تعالى:

{فَإِنَّ ٱللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قال علي و ابن عباس غفور لإثم اليمين.

٢٢٧

قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلَـٰقَ} أي حققوه وفي عزم الطلاق قولان.

احدهما: أنه إذا مضت الأربعة الأشهر استحق عليه أن يفيء، أو يطلق، وهو مروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وسهل بن سعد، وعائشة، وطاووس، و مجاهد، والحكم وابي صالح، وحكاه أبو صالح. عن اثني عشر رجلا من الصحابة، وهو قول مالك، و احمد والشافعي.

والثاني: أنه لا يفيء حتى يمضي أربعة أشهر فتطلق بذلك من غير أن يتكلم بطلاق،

واختلف أرباب هذا القول فيما يلحقها من الطلاق على قولين.

احدهما: طلقة بائنة روي عن عثمان، وعلي، و ابن عمر، و زيد بن ثابت، وقبيصة بن ذؤيب،

والثاني: طلقة رجعية، روي عن سعيد بن المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وابن شبرمة. قوله تعالى:

{فَإِنَّ ٱللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فيه قولان.

احدهما: سميع لطلاقه عليم بنيته.

والثاني: سميع ليمينه عليم بها.

٢٢٨

قوله تعالى: {وَٱلْمُطَلَّقَـٰتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَـٰثَةَ} سبب نزولها أن المرأة كانت إذا طلقت وهي راغبة في زوجها قالت انا حبلى، وليست حبلى لكي يراجعها، وإن كانت حبلى، وهي كارهة قالت لست بحبلى لكي لا يقدر على مراجعتها فلما جاء الإسلام ثبتوا على هذا. فنزل قوله تعالى: {ٱلْحَكِيمُ يأيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ ٱلْعِدَّةَ} الطلاق: ١. ثم نزلت. {وَٱلْمُطَلَّقَـٰتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَـٰثَةَ قُرُوء} رواه أبو صالح عن ابن عباس.

فأما التفسير؛ فالطلاق: التخلية. قال ابن الأنباري: هي من قول العرب: أطلقت الناقة فطلقت: إذا كانت مشدودة فأزلت الشد عنها، وخليتها، فشبه ما يقع للمرأة بذلك لأنها كانت متصلة الأسباب بالرجل، وكانت الأسباب كالشد لها، فلما طلقها قطع الأسباب، ويقال طلقت المرأة، وطلقت

وقال غيره: الطلاق: من أطلقت الشى من يدي، إلا انهم لكثرة استعمالهم اللفظتين فرقوا بنهما، ليكون التطليق مقصورا في الزوجات وأما القروء فيراد بها الأطهار، ويراد بها الحيض يقال: أقرأت المرأة إذا حاضت، وأقرأت: إذا طهرت. قال النبي: صلى اللّه عليه وسلم في المستحاضة: تقعد أيام أقرائها يريد أيام حيضها. وقال الأعشى:

وفي كل عام أنت جاشم غزوة  تشد لأقصاها غزيم عزائكا

مورثة مالا وفي الحي رفعة  لما ضاع فيها من قروء نسائكا

أراد بالقروء: الأطهار، لأنه لما خرج عن نسائه أضاع أطهارهن.

واختلف أهل اللغة في أصل القروء على قولين.

احدهما: أن أصله الوقت يقال: رجع فلان لقرئه أي: لوقته الذي كان يرجع فيه، ورجع لقارئه أيضا قال الهذلي: كرهت العقر عقر بني شليل  إذا هبت لقارئها الرياح فالحيض يأتي لوقت، والطهر يأتي لوقت، هذا قول ابن قتيبة.

والثاني: أن أصله الجمع، وقولهم قرأت القرآن أي: لفظت به مجموعا، والقرء اجتماع: الدم في البدن، وذلك إنما يكون في الطهر، وقد يجوز أن يكون اجتماعه في الرحم، وكلاهما حسن. هذا قول الزجاج.

واختلف الفقهاء في الأقراء على قولين.

احدهما: أنها الحيض روي عن عمر، وعلي، وابن مسعود، و أبي موسى، وعبادة بن الصامت، و أبي الدرداء، وعكرمة، و الضحاك والسدي، و سفيان الثوري، والأوزاعي، والحسن بن صالح، و أبي حنيفة، و أصحابه، و احمد بن حنبل رضي اللّه عنه. فانه قال قد كنت أقول: القروء: الأطهار، وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض.

والثاني: أنها الأطهار. روي عن زيد بن ثابت، وابن عمر، وعائشة، والزهري وأبان بن عثمان، ومالك بن أنس، والشافعي، وأومأ إليه احمد.ولفظ قوله تعالى

{وَٱلْمُطَلَّقَـٰتُ يَتَرَبَّصْنَ} لفظ الخبر ومعناه: الأمر كقوله تعالى: {وَٱلْوٰلِدٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وقد يأتي لفظ الأمر في معنى: الخبر كقوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَدّاً} مريم: ٧٥. والمراد بالمطلقات في هذه الآية، البالغات، المدخول بهن غير الحوامل. قوله تعالى:

{وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ ٱللّه فِى أَرْحَامِهِنَّ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الحمل، قاله عمر، و ابن عباس، و مجاهد، وقتادة، و مقاتل، و ابن قتيبة، و الزجاج.

والثاني: أنه الحيض، قاله عكرمة، وعطية، والنخعي، والزهري،

والثالث: الحمل والحيض قاله ابن عمر وابن زيد. قوله تعالى:

{إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِٱللّه وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ} خرج مخرج الوعيد لهن والتوكيد قال الزجاج: وهو كما تقول للرجل إن كنت مؤمنا فلا تظلم.

وفي سبب وعيدهم بذلك قولان.

احدهما: أنه لأجل ما يستحقه الزوج من الرجعة، قاله ابن عباس.

والثاني: لأجل إلحاق الولد بغير أبيه، قاله قتادة. وقيل كانت المرأة إذا رغبت في زوجها قالت: إني حائض، وقد طهرت، و إذا زهدت فيه كتمت حيضها حتى تغتسل فتفوته. والبعولة: الأزواج، و ذلك إشارة إلى العدة، قاله مجاهد، والنخعي، وقتادة في آخرين. وفي الآية دليل على أن خصوص آخر اللفظ لا يمنع عموم اوله، ولا يوجب تخصيصه. لأن قوله تعالى:

{وَٱلْمُطَلَّقَـٰتُ يَتَرَبَّصْنَ}. عام في المبتوتات والرجعيات، وقوله تعالى:

{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ} خاص في الرجعيات. قوله تعالى:

{إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَـٰحاً} قيل: إن الرجل كان إذا أراد الإضرار بامرأته طلقها واحدة، وتكرها فاذا قارب انقضاء عدتها راجعها. ثم تركها مدة ثم طلقها فنهوا عن ذلك، وظاهر الآية يقتضي أنه إنما يملك الرجعة، على غير وجه المضارة بتطويل العدة عليها غير أنه قد دل قوله تعالى:

{وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ} على صحة الرجعة، وإن قصد الضرار لأن الرجعة لو لم تكن صحيحة إذا وقعت على وجه الضرار لما كان ضالما بفعلها. قوله تعالى:

{وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِى عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ} وهو: المعاشرة الحسنة والصحبة الجميلة.

روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه سئل عن حق المرأة على الزوج فقال: أن يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يقبح، ولا يهجر إلا في البيت.

وقال ابن عباس إني احب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي، لهذه الآية. قوله تعالى:

{وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} قال ابن عباس بما ساق إليها من المهر، وأنفق عليها من المال، وقال مجاهد: بالجهاد والميراث. وقال أبو مالك: يطلقها، وليس لها من الأمر شيء. وقال الزجاج: تنال منه من اللذة كما ينال منها. وله الفضل بنفقته.

وروى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:

لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها.

وقالت ابنة سعيد بن المسيب: ما كنا نكلم ازواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم.

فصل

اختلف العلماء في هذه الآية هل تدخل في الآيات المنسوخات أم لا؟ على قولين.

احدهما: أنها تدخل في ذلك. واختلف هؤلاء في المنسوخ منها. فقال قوم: المنسوخ منها قوله تعالى: {وَٱلْمُطَلَّقَـٰتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَـٰثَةَ قُرُوء} وقالوا: فكان يجب على كل مطلقة أن تعتد بثلاثة قروء، فنسخ حكم الحامل بقوله تعالى: {وَأُوْلَـٰتُ ٱلاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} الطلاق: ٤. وحكم المطلقة قبل الدخول بقوله تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، فمالكم عليهن من عدة تعتدونها} الطلاق: ١. وهذا مروي عن ابن عباس، و الضحاك في آخرين. وقال قوم: أولها محكم والمنسوخ قوله تعالى:{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ} قالوا: كان الرجل إذا طلق امرأته كان أحق برجعتها، سواء كان الطلاق ثلاثا أو دون ذلك فنسخ، بقوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}

والقول الثاني: أن الآية كلها محكمة، فأولها عام، والآيات الواردة في العدد، خصت ذلك من العموم، وليس بنسخ. و اما ما قيل في الارتجاع فقد ذكرنا أن معنى قوله تعالى:

{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذٰلِكَ} أي في العدة قبل انقضاءالقروءالثلاثة، وهذا القول هو الصحيح.

٢٢٩

قوله تعالى: {ٱلطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِ} سبب نزولها أن الرجل كان يطلق امرأته، ثم يراجعها ليس لذلك شيء ينتهي إليه، فقال رجل من الأنصار لامرأته: واللّه لا أؤيك الي أبدا ولا أدعك تحلين مني. فقالت: كيف ذلك؟ قال: أطلقك، فاذا دنا أجلك، راجعتك، فذهبت إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم تشكو إليه، ذلك فنزلت هذه الآية، فاستقبلها الناس جديدا من كان طلق، ومن لم يكن طلق. رواه هشام بن عروة عن أبيه. فأما التفسير، ففي قوله تعالى: {ٱلطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِ} قولان.

احدهما: أنه بيان لسنة الطلاق، و أن يوقع في كل قرء طلقة، قاله ابن عباس و مجاهد.

والثاني: أنه بيان للطلاق الذي يملك معه الرجعة، قاله عروة وقتادة، و ابن قتيبة، و الزجاج في آخرين. قوله تعالى:

{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} معناه: فالواجب عليكم إمساك بمعروف، وهو ما يعرف من إقامة الحق في إمساك المرأة. وقال عطاء، و مجاهد، و الضحاك، والسدي المراد بقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} الرجعة بعد الثانية، وفي قوله تعالى:

{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـٰنٍ} قولان.

احدهما: أن المراد به الطلقة الثالثة، قاله عطاء، و مجاهد، و مقاتل.

والثاني: أنه الإمساك عن رجعتها حتى تنقضي عدتها، قاله الضحاك، والسدي، قال: القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء: وهذا هو الصحيح، أنه قال عقيب الآية: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} والمراد بهذه الطلقة: الثالثة بلا شك، فيجب إذن أن يحمل قوله تعالى:

{أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـٰنٍ} على تركها حتى تنقضي عدتها لأنه إن حمل على الثالثة وجب أن يحمل قوله تعالى {فَإِن طَلَّقَهَا} على رابعة وهذا لا يجوز.

فصل

الطلاق على أربعة أضرب: واجب، ومندوب إليه، ومحظور، ومكروه.

فالواجب: طلاق المؤلي بعد التربص، إذا لم يفيء، وطلاق الحكمين في شقاق الزوجين، إذا رأيا الفرقة.

والمندوب: إذا لم يتفقا، واشتد الشقاق بينهما، ليتخلصا من الإثم.

والمحظور: في الحيض، إذا كانت مدخولا بها، وفي طهر جامعها فيه قبل أن تطهر.

والمكروه: إذا كانت حالهما مستقيمة، وكل واحد منهما قيم بحق صاحبه. قوله تعالى:

{وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، أتت زوجته إلى النبي، صلى اللّه عليه وسلم، فقالت: واللّه ما أعيب على ثابت في دين، ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضا. فقال لها النبي صلى اللّه عليه وسلم: «أتردين عليه حديقته». قالت: نعم. فأمره النبي صلى اللّه عليه وسلم، أن يأخذها ولا يزداد.

رواه عكرمة عن ابن عباس واختلفوا في اسم زوجته، فقال ابن عباس: جميلة. ونسبها يحيى ابن أبي كثير، فقال: جميلة بنت عبد اللّه بن أبي بن سلول، وكناها مقاتل، فقال: أم حبيبة بنت عبد اللّه بن أبي. وقال آخرون: إنما هي جميلة أخت عبد اللّه بن أبي. وروى يحيى بن سعيد عن عمرة روايتين.

إحداهما: أنها حبيبة بنت سهل. والثانية: سهلة بنت حبيب.

وهذا الخلع اول خلع كان في الإسلام. والخوف في الآية بمعنى: العلم: قال أبو عبيد: معنى قوله:

{إِلا اَنْ يَخَافَا}: يوقنا. والحدود قد سبق بيان معناها.ومعنى الآية: أن المرأة إذا خافت أن تعصي اللّه في أمر زوجها لبغضها إياه، وخاف الزوج أن يعتدي عليها لا متناعها عن طاعته؛ جاز له أن يأخذ منها الفدية، إذا طلبت ذلك. هذا على قراءة الجمهور في فتح «ياء» {يَخَافَا} وقرأ الحسن، و مجاهد، وابو جعفر، وحمزة والأعمش {يَخَافَا} بضم الياء. قوله تعالى:

{فَإِنْ خِفْتُمْ} قال قتادة: هو خطاب للولاة

{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} على المرأة

{فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ} وعلى الزوج فيما أخذ، لأنه ثمن حقه. وقال الفراء: يجوز أن يراد الزوج وحده، وإن كانا قد ذكرا جميعا كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} الرحمن: ٢٢. و إنما يخرج من احدهما. وقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} الكهف: ٦١ و إنما نسي احدهما.

فصل

وهل يجوز له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها؟ فيه قولان.

احدهما: يجوز وبه، قال عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، و ابن عباس، والحسن، و مجاهد، و النخعي، و الضحاك ومالك، والشافعي،

والثاني: لا يجوز، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء، والشعبي، وطاووس وابن جبير، والزهري، وأحمد بن حنبل. وقد نقل عن علي والحسن أيضا. وهل يجوز الخلع دون السلطان؟ قال عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وطاووس، وشريح، والزهري يجوز وهو قول جمهور العلماء. وقال الحسن، وابن سيرين، وقتادة: لا يجوز إلا عند السلطان.

٢٣٠

قوله تعالى: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت في تميمة بنت وهب بن عتيك النضيري، وقي زوجها رفاعة بن عبد الرحمن القرظي. وقال غير مقاتل: إنها عائشة بن عبد الرحمن بن عتيك، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمها، فطلقها ثلاثا، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، ثم طلقها، فأتت إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني، فأبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه طلقني قبل أن يمسني، أفأرجع إلى ابن عمي؟ فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال أتريدين: أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك. قوله تعالى:

{فَإِن طَلَّقَهَا} يعني: الزوج المطلق مرتين. قال ابن عباس، و مجاهد وقتادة هي الطلقة الثالثة.

واعلم أن اللّه تعالى عاد بهذه الآية بعد الكلام في حكم الخلع إلى تمام الكلام في الطلاق. قوله تعالى:

{فَإِن طَلَّقَهَا} يعني: الثاني {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} يعني: المرأة والزوج الأول

{إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللّه} قال طاووس: ما فرض اللّه على كل واحد منهما من حسن العشرة والصحبة. قوله تعالى:

{وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللّه يُبَيّنُهَا} قراءة الجمهور {يُبَيّنُهَا} بالياء. وقرأ الحسن، و مجاهد، والمفضل عن عاصم بالنون

{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} قال الزجاج: يعلمون أن أمر اللّه حق.

٢٣١

قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} قال ابن عباس: كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها. قبل انقضاء عدتها، ثم يطلقها يفعل ذلك، يضارها ويعضلها بذلك، فنزلت هذه الآية. والأجل هاهنا: زمان العدة ومعنى البلوغ هاهنا: مقاربة الأجل دون حقيقة الانتهاء إليه. يقال بلغت المدينة: إذا قاربتها، وبلغتها: إذا دخلتها. و إنما حمل العلماء هذا البلوغ على المقاربة، لأنه ليس بعد انقضاء العدة رجعة. قوله تعالى:

{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة: المراد به الرجعة قبل انقضاء العدة. قوله تعالى:

و{سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وهو تركها حتى تنقضي عدتها. والمعروف في الإمساك: القيام بما يجب لها من حق والمعروف في التسريح: أن لا يقصد إضرارها، بأن يطيل عدتها بالمراجعة، وهو معنى قوله:

{وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ} قاله الحسن، و مجاهد، وقتادة في آخرين. وقال الضحاك: إنما كنوا يضارون المرأة لتفتدي {وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ} الاعتداء {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} بارتكاب الإثم. قوله تعالى:

{وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَـٰتِ ٱللّه هُزُوًا} فيه قولان.

احدهما: أنه الرجل يطلق أو يراجع أو يعتق ويقول كنت لاعبا، روي عن عمر، و أبي الدرداء والحسن.

والثاني: أنه المضار بزوجته في تطويل عدتها بالمراجعة والطلاق، قاله مسروق، و مقاتل.

{وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللّه عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَٱلْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ} قال ابن عباس: احفظوا منته عليكم بالإسلام، قال: والكتاب القرآن والحكمة الفقه.

{وَٱتَّقُواْ ٱللّه} في الضرار {وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللّه بِكُلّ شَىْء} به وبغيره {عَلِيمٌ}

٢٣٢

قوله تعالى: {عَلِيمٌ وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: ما روى الحسن أن معقل بن يسار زوج اخته من رجل من المسلمين، فكانت عنده ما كانت، فطلقها تطليقة ثم تركها ومضت العدة، فكانت أحق بنفسها فخطبها مع الخطاب، فرضيت أن ترجع إليه، فخطبها إلى معقل فغضب معقل وقال: أكرمتك بها فطلقتها؟ لا واللّهٰ لا ترجع إليك آخر ما عليك. قال الحسن: فعلم اللّه عز وجل حاجة الرجل إلى امرأته وحاجة المرأة إلى بعلها. فنزلت هذه الآية. فسمعها معقل فقال: سمعا لربي وطاعة فدعا زوجها فقال: أزوجك وأكرمك. ذكر عبد الغني الحافظ عن الكلبي أنه سمى هذه المرأة فقال: جميلة بنت يسار.

والثاني: أن جابر بن عبد اللّه الأنصاري كانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة، فانقضت عدتها ثم رجع يريد رجعتها، فأبى جابر وقال: طلقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها الثانية، وكانت المرأة تريد زوجها قد راضته، فنزلت هذه الآية قال السدي. فأما بلوغ الأجل في هذه الآية، فهو انقضاء العدة، بخلاف التي قبلها قال الشافعي رضي اللّه عنه، دل اختلاف الكلامين على افتراق البلوغين. قوله تعالى:

{فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} خطاب للأولياء. قال ابن عباس، وابن جبير، و ابن قتيبة في آخرين. معناه: لا تحبسوهن والعرب تقول تقول للشدائد: معضلات وداء عضال قد أعيا قال أوس بن حجر:

وليس أخوك الدائم العهد بالذي  يذمك إن ولي ويرضيك مقبلا

ولكنه النائي إذا كنت آمنا  وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا

وقالت ليلى الأخيلية:

إذا نزل الحجاج أرضا مريضة  تتبع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الذي بها  غلام إذا هز القناة سقاها

قال الزجاج:وأصل العضل، من قولهم: عضلت الدجاجة، فهي معضل: إذا احتبس بيضها ونشب فلم يخرج، وعضلت الناقة أيضا: إذا احتبس ولدها في بطنها. قوله تعالى:

{إِذَا تَرٰضَوْاْ بَيْنَهُم بِٱلْمَعْرُوفِ} قال السدي، و ابن قتيبة، معناه: إذا تراضى الزوجان بالنكاح الصحيح، قال الشافعي: وهذه الآية أبين آية في أنه ليس للمرأة أن تتزوج إلا بولي. قوله تعالى:

{ذٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ} قال مقاتل: الإشارة إلى نهي الولي عن المنع. قال الزجاج: إنما قال «ذلك» ولم يقال «ذلكم» وهو يخاطب جماعة، لأن لفظ الجماعة لفظ الواحد، والمعنى: ذلك أيها القبيل. قوله تعالى:

{ذٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ} يعني رد النساء إلى أزواجهن، أفضل من التفرقة بينهم و {وَأَطْهَرُ} أي: أنقى لقلوبكم من الريبة لئلا يكون هناك نوع محبة، فيجتمعان على غير وجه صلاح. قوله تعالى:

{وَٱللّه يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فيه قولان.

احدهما: أن معناه يعلم ود كل واحد منهما لصحابه، قاله ابن عباس، و الضحاك.

والثاني: يعلم مصالحكم عاجلا وآجلا، قاله الزجاج في آخرين.

٢٣٣

قوله تعالى: {وَٱلْوٰلِدٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ} لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر، كقوله تعالى: {وَٱلْمُطَلَّقَـٰتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَـٰثَةَ قُرُوء} البقرة: ٢٢٨ وقال القاضي أبو يعلى: و هذا الأمر انصرف إلى الآباء لأن عليهم الاسترضاع، لا إلى الوالدات بدليل قوله تعالى:

{وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} وقوله تعالى: {وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ} النساء: ٢٤ فلو كن متحتما على الوالدة لم تستحق الأجرة، وهل هذا عام في جميع الوالدات، فيه قولان.

احدهما: أنه خاص في المطلقات، قاله سعيد بن جبير، و مجاهد، و الضحاك، والسدي، و مقاتل في آخرين.

والثاني: أنه عام في الزوجات والمطلقات، ولهذا نقول: لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها سواء كانت مع الزوج، أو مطلقة قاله القاضي أبو يعلى، وأبو سليمان الدمشقي في آخرين. والحول: السنة

وفي قوله: {كَامِلَيْنِ} قولان.

احدهما: أنه دخل للتوكيد كقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} البقرة: ١٩٦.

والثاني: أنه لما جاز أن يقول: حولين ويريد أقل منهما كما قال: {فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} البقرة: ٢٠٣. ومعلوم أنه يتعجل في يوم وبعض آخر، وتقول العرب لم أر فلانا منذ يومين، و إنما يريدون يوما وبعض آخر قال: كاملين لتبيين أنه لا يجوز أن ينقص منهما، وهذا قول الزجاج والفراء.

فصل

واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية،

فقال بعضهم: هو محكم، والمقصود منه بيان مدة الرضاع، ويتعلق به أحكام، منها أنه كمال الرضاع، ومنها أنه يلزم الأب نفقة الرضاع مدة الحولين، والجبره الحاكم على ذلك، ومنها أنه يثتب تحريم الرضاع في مدة الحولين، ولا يثبت فيما زاد، ونقل عن قتادة، والربيع بن أنس في آخرين. أنه منسوخ بقوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا} قال شيخنا علي بن عبيد اللّه: وهذا قول بعيد لأن اللّه تعالى قال في اولها: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ} فلما قال في الثاني: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا} خير يين الإرادتين، وذلك لا يعاض المدة المقدرة في التمام. قوله تعالى:

{لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ} أي هذا التقدير بالحولين لمريدي إتمام الرضاعة. وقرأ مجاهد بتاءين «أن تتم الرضاعة» وبالرفع وهي رواية الحلبي عن عبد الوارث، وقد نبه ذكر التمام على نفي حكم الرضاع بعد الحولين، وأكثر القراء على فتح راء «الرضاعة» وقرأ طلحة بن مصرف، وابن أبي عبلة، و أبو رجاء، بكسرها قال الزجاج: يقال: الرضاعة بفتح الراء وكسرها، والفتح اكثر ويقال: ما حمله على ذلك إلا اللؤم والرضاعة بالفتح ها هنا لا غير. قوله تعالى:

{وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ} يعني: الأب {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} يعني: {المرضعات} وفي قوله: {وَٱلاْقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ} دلالة على أن الواجب على قدر حال الرجل في إعساره ويساره، إذ ليس من المعروف إلزام المعسر مالا يطيقه، ولا الموسر النزر الطفيف. وفي الآية دليل على تسويغ اجتهاد الرأي في أحكام الحوادث، إذ لا يتوصل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلا من جهة غالب الظن، إذ هو معتبر بالعادة. قوله تعالى:

{لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} أي: إلا ما تطيقه.

{لاَ تُضَارَّ وٰلِدَةٌ بِوَلَدِهَا} قرأ ابن كثير، و ابو عمرو، و أبان عن عاصم {لاَ تُضَارَّ} برفع الراء، وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي بنصبها، قال أبو علي: من رفع فلأجل المرفوع قبله، وهو لا تكلف فأتبعه بما قبله ليقع تشابه اللفظ، ومن نصب جعله أمرا، وفتح الراء لتكون حركته موافقة لما قبلها وهو الألف قال ابن قتيبة معناه لا تضارر، فأدغمت الراء في الراء. وقال سعيد بن جبير: لا يحملن المطقة مضارة الزوج أن تلقي إليه ولده، وقال مجاهد: لا تأبى أن ترضعه ضرارا بأبيه، ولا يضار الوالد بولده فيمنع امه أن ترضعه ليحزنها بذلك. وقال عطاء، وقتادة، والزهري، وسفيان، والسدي في آخرين. إذا رضيت بما يرضى به غيرها فهي أحق به، وقرأ أبو جعفر لا تضار بتخفيفها وإسكانها. قوله تعالى:

{وَعَلَى ٱلْوَارِثِ} فيه أربعة أقوال.

احدها: أنه وارث المولود، وهو قوال عطاء، و مجاهد، و سعيد بن جبير، وابن أبي ليلى، وقتادة، والسدي، والحسن بن صالح، و مقاتل في آخرين. واختلف أرباب هذا القول.

فقال بعضهم: هو وارث المولود من عصبته كائنا من كان، وهذا مروي عن عمر، وعطاء، والحسن، و مجاهد، و إبراهيم، وسفيان.

وقال بعضهم: هو وارث المولود على الإطلاق من الرجال والنساء،

روي عن ابن أبي ليلى، وقتادة، والحسن بن صالح، واسحاق، و احمد بن حنبل.

وقال آخرون: هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود، روي عن أبي حنيفة، وابي يوسف، ومحمد.

والقول الثاني: أن المراد بالوارث هاهنا: وارث الوالد روي عن الحسن، والسدي،

والثالث: أن المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر، روي عن سفيان.

والرابع: أنه أريد بالوارث الصبي نفسه، والنفقة عليه فان لم يملك شيئا فعلي عصبته، قاله الضحاك، وقبيصة بن ذؤيب، قال شيخنا علي بن عبيد اللّه: وهذا القول لا ينافي قول من قال المراد بالوارث وارث الصبي. لأن النفقة تجب للموروث على الوارث إذا ثبت إعسار المنفق عليه، وفي قوله تعالى:

{مِثْلُ ذٰلِكَ} ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الإشارة إلى أجرة الرضاع والنفقة، روي عن عمر، وزيد بن ثابت، والحسن، وعطاء، و مجاهد، وابراهيم، وقتادة، وقبيصة بن ذؤيب، والسدي، واختاره ابن قتيبة.

والثاني: أن الإشارة بذلك إلى النهي عن الضرار، روي عن ابن عباس، والشعبي، والزهري، واختاره الزجاج.

والثالث: أنه إشارة إلى جميع ذلك، روي عن سعيد بن جبير، و مجاهد، و مقاتل، وابي سليمان الدمشقي، واختاره القاضي أبو يعلى. ويشهد لهذا أنه معطوف على ما قبله. وقد ثبت أن على المولود له النفقة والكسوة و أن لا يضار  فيجب أن يكون قوله:

{مِثْلُ ذٰلِكَ} مشيرا إلى جميع ما على المولود له. قوله تعالى:

{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ} الفصال: الفطام. قال ابن قتيبة: يقال: فصلت الصبي أمه: إذا فطمته. ومنه قيل للحوار إذا قطع عن الرضاع: فصيل، لأنه فصل عن امه، وأصل الفصل: التفريق. قال مجاهد: التشاور فيما دون الحولين إن أرادت أن تفطم وأبى، فليس لها، و إن أراد هو، ولم ترد، فليس له ذلك حتى يقع ذلك عن تراض منهما وتشاور، يقول: غير مسيئين إلى أنفسهما و إلى صبيهما.

قوله تعالى: {عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلَـٰدَكُمْ} قال الزجاج:أي: لأولادكم قال مقاتل: إذا لم ترض الأم بما يرضى به غيرها فلا حرج على الأب أن سترضع لولده. وفي قوله تعالى:

{إِذَا سَلَّمْتُم مَّا ءاتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ} قولان.

احدهما: إذا سلمتم ايها الآباء إلى أمهات الأولاد أجور ما أرضعن قبل امتناعهن، قاله مجاهد، والسدي.

والثاني: إذا سلمتم إلى الظئر أجرها بالمعروف، قاله سعيد بن جبير، و مقاتل، وقرأ ابن كثير {مَّا ءاتَيْتُم} بالقصر قال أبو علي: وجهه أن يقدر فيه ما أتيتم نقده أو سوقه فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فكأن التقدير: ما آتيتموه ثم حذف الضمير من الصلة كما تقول: أتيت جميلا أي فعلته.

٢٣٤

قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} أي: يقبضون بالموت. وقرأ المفضل عن عاصم «يتوفون» بفتح الياء في الموضعين قال ابن قتيبة: هو من استيفاء العدد واستيفاء الشيء أن نستقصيه كله يقال: توفيته واستوفيته، كما يقاله: تيقنت الخير واستنيقنته هذا الأصل ثم قيل للموت وفاة وتوف

و{يَتَرَبَّصْنَ} ينتظرن وقال الفراء و إنما قال:

{وَعَشْرًا} ولم يقل عشرة لأن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي، و الأيام غلبو على الليالي، حتى انهم ليقولون صمنا عشرا من شهر رمضان، لكثرة تفليبهم الليالي على الايام، فاذا أظهروا مع العدد تفسيره كانت الإناث بغير هاء، والذكور بالهاء كقوله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَـٰنِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} الحاقة: ٧.

فان قيل ما وجه الحكمة في زيادة هذه العشرة؟

فالجواب: أنه يبين صحة الحمل بنفخ الروح فيه قاله سعيد بن المسيب، و أبوالعالية، ويشهد له الحديث الصحيح، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم:

إن خلق احدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نظفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضفة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح.

فصل

وهذه الآية ناسخة للتي تشابهها، وهي تأتي بعد آيات، وهي قوله: {وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوٰجًا وَصِيَّةً لاّزْوَاجِهِم مَّتَـٰعًا إِلَى ٱلْحَوْلِ} البقرة: ٢٤٠ لأن تلك كانت تقتضي وجوب العدة سنة، وسنذكر ما يتعلق بها هنالك إن شاء اللّه، فأما التي نحن في  تفسيرها، فقد روي عن ابن عباس أنه قال نسختها: {وَأُوْلَـٰتُ ٱلاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} الطلاف: ٤ والصحيح أنها عامة دخلها التخصيص، لأن ظاهرها يقتضي وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها، أربعة أشهر وعشرا سواء كانت حاملا، أو غير حامل غير أن قوله تعالى: {وَأُوْلَـٰتُ ٱلاْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} خص أولات الحمل وهي خاصة أيضا في الحرائر، فإن الأمة عدتها شهران وخمسة أيام فبان أنها من العام الذي دخله التخصيص. قوله تعالى:

{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} يعني انقضاء العدة.

٢٣٥

قوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فيه قولان.

احدهما: أن معناه فلا جناح على الرجال في تزويجهن بعد ذلك.

والثاني: فلا جناح على الرجال في ترك الإنكار عليهن إذا تزين وتزوجن، قال أبو سليمان الدمشقي، وهو خطاب لأوليائهن. قوله تعالى:

{فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ} فيه قولان.

احدهما: أنه التزين والتشوف للنكاح، قاله الضحاك، و مقاتل،

والثاني: أنه النكاح، قاله الزهري، والسدي، والخبير من أسماء اللّه تعالى: ومعناه: العالم بكنه الشيء المطلع على حقيقته، والخبير: في صفة المخلوقين إنما يتسعمل في نوع من العلم وهو: الذي يتوصل إليه بالاجتهاد دون النوع المعلوم ببدائه العقول. وعلم اللّه تعالى سواء فيما غمض ولطف وفيما تجلى وظهر. قوله تعالى:

{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِسَاء} هذا خطاب لمن أراد تزويج معتدة والتعريض الإيماء، والتلويح من غير كشف فهو إشارة بالكلام إلى ماليس له في الكلام. ذكر والخطبة بكسر الخاء، طلب النكاح، والخطبة بضم الخاء مثل الرسالة التي لها اول وآخر، قال ابن عباس: التعريض أن يقول إني أريد أن أتزوج. وقال مجاهد: ان يقول إنك لجميلة، و إنك لحسنة، وإنك لإلى خير. قوله تعالى:

{أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ} قال الفراء فيه لغتان، كننت الشيء، و أكننته. وقال ثعلب: أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك، وكنتته إذا سترته بشيء: وقال ابن قتيبة: أكننت الشيء: إذا سترته، ومنه هذه الآية وكننته إذا صنته ومنه قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} الصافات: ٤٩. قال بعضهم يجعل كننته وأكننته بمعنى. قوله تعالى:

{عَلِمَ ٱللّه أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} قال مجاهد ذكره إياها في نفسه. قوله تعالى:

{وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا} فيه أربعة أقوال

احدها أن المراد بالسر ها هنا النكاح قاله ابن عباس

وأنشد بيت امرىء القيس:

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني  كبرت وأن لا يشهد السر أمثالي

وفي رواية: يشهد اللّهو قال الفراء: ونرى أنه مما كنى اللّه عنه، كقوله تعالى: {أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن ٱلْغَائِطِ} [النساء: ٤٣]. وذكر الزجاج عن أبي عبيدة أن السر: الإفضاء بالنكاح المحرم

وأنشد:

ويحرم سر جارتهم عليهم  ويأكل جارهم أنف القصاع

قال ابن قتيبة استعير السر للنكاح لأن النكاح يكون سرا فالمعنى: لا تواعدوهن بالتزويج، وهن في العدة تصريحا

{إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} لا تذكرون فيه رفثا ولا نكاحا.

والثاني: أن المواعدة سرا: أن يقول لها: إني لك محب، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري، روي عن ابن عباس أيضا.

والثالث: أن المراد بالسر الزنى، قاله الحسن، وجابر بن زيد، و أبو مجلز، و إبراهيم، و قتادة، و الضحاك.

والرابع: أن المعنى: لا تنكحوهن في عدتهن سرا، فاذا حلت أظهرتم ذلك، قاله ابن زيد.

وفي القول المعروف قولان.

احدهما: أنه التعريض لها، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطا، والقاسم بن محمد، والشعبي، و مجاهد، و إبراهيم، وقتادة، والسدي.

والثاني: أنه إعلام وليها برغبته فيها، وهو قول عبيدة. قوله تعالى:

{وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ ٱلنّكَاحِ} قال الزجاج: معناه: لا تعزموا على عقدة النكاح، وحذفت على استخفافا كما قالوا: ضرب زيد الظهر، والبطن معناه: على الظهر والبطن

{حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَـٰبُ أَجَلَهُ} أي حتى يبلغ فرض الكتاب أجله. قال: ويجوز أن يكون الكتاب بمعنى الفرض كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ} البقرة: ١٨٣. فيكون المعنى حتى يبلغ الفرض أجله، قال ابن عباس، و مجاهد، والشعبي، وقتادة، والسدي بلوغ الكتاب أجله: انقضاء العدة. قوله تعالى:

{وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللّه يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ} قال ابن عباس: من الوفاء فاحذروه أن تخالفوه في أمره، والحليم قد سبق بيانه.

٢٣٦

قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} قرأ ابن كثير ونافع، وعاصم، وابن عامر، و ابو عمرو، «تمسوهن» بغير الف حيث كان وبفتح التاء وقرأ حمزة والكسائي وخلف تماسوهن بألف وضم التاء في الموضعين هنا وفي الأحزاب ثالث قال أبو علي: وقد يراد بكل واحد من «فاعل» و«فعل» ما يراد بالآخر نقول طارقت النعل، وعاقبت اللص قال مقاتل بن سليمان: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار، تزوج امرأة من بني حنيفة، ولم يسم لها مهرا، فطلقها قبل أن يسمها. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

هل متعتها بشيء؟ قال: لا. قال: «متعها ولو بقلنسوتك "ومعنى الآية: ما لم تمسوهن، ولم تفرضوا لهن فريضة.

وقد تكون «أو» بمعنى الواو كقوله تعالى: {فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً} الدهر: ٢٤. والمس: النكاح، والفريضة: الصداق، وقد دلت الآية على جواز عقد النكاح بغير تسمة مهر«ومتعوهن» أي: اعطوهن ما يتمتعن به من اموالكم على قدر أحوالكم في الغنى والفقر. والمتاع: اسم لما ينتفع به فذلك معنى قوله تعالى:

{عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدْرُهُ} وقرأ ابن كثير، ونافع، و ابو عمرو، «قدره» باسكان الدال في الحرفين وقرأ ابن عامر وحمزة الكسائي بتحريك الحرفين وعن عاصم: كالقرائتين، وهما لغتان.

فصل

وهل هذه المتعة واجبة، أم مستحبة؟ فيه قلان.

احدهما: واجبة واختلف أرباب هذا القول، لأي المطلقات تجب على ثلاثة اقوال.

احدها: أنها واجبة لكل مطلقة، روي عن علي، والحسن، و أبوالعالية، والزهري.

والثاني: انها تجب لكل مطلقة إلا المطقلة التي فرض لها صداقا، ولم يمسها فإنه يجب لها نصف ما فرض، روي عن ابن عمر، والقاسم ابن محمد، وشريح، و إبراهيم.

والثالث: أنها تجب للمطلقة قبل الدخول إذا لم يسم لها مهرا. فان دخل بها فلا متعة، ولها مهر المثل، روي عن الأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة و احمد بن حنبل.

والثاني: أن المتعة مستحبة، ولا تجب على احد سواء، سمي للمرأة أو لم يسم، دخل بها، أو لم يدخل، وهو قول مالك، والليث بن سعد، والحكم، وابن أبي ليلى.

واختلف العلماء في مقدار المتعة. فنقل عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، أعلاها: خادم وأدناها: كسوة يجوز لها أن تصلي فيها، وري عن حماد وأبي حنيفة أنه: قدر نصف صداق مثلها وعن الشافعي، و احمد، أنه قدر يساره وإعساره، فيكون مقدرا باجتهاد الحاكم، ونقل عن احمد المتعة بقدر: ما تجزيء فيه الصلاة من الكسوة، وهو درع وخمار وقواه تعالى:

{مَتَـٰعاً بِٱلْمَعْرُوفِ} أي بقدر الإمكان والحق الواجب وذكر المحسنين والمنفقين ضرب من التأكيد.

٢٣٧

قوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} أي: قبل الجماع {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ} أي أوجبتم لهن شيئا التزمتم به وهو المهر

{إَّلا أَن يَعْفُونَ} يعني: النساء وعفو المرأة: ترك حقها من الصداق الوفي:

الذي بيده عقدة النكاح ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الزوج، وهو قول علي، و ابن عباس، وجبير بن مطعم، وابن المسيب، وابن جبير و مجاهد، وشريح، وجابر بن زيد، و الضحاك، ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، وابن شبرمة، والشافعي، و احمد رضي اللّه عنهم في آخرين.

والثاني: أنه الولي، روي عن ابن عباس، والحسن، وعلقمة، و طاووس، والشعبي، وابراهيم في آخرين.

والثالث: أنه أبو البكر روي عن ابن عباس، والزهري، والسدي في آخرين. فعلى القول الأول عفو الزوج أن يكمل لها الصداق، وعلى الثاني عفو الولي: ترك حقها إذا أبت، روي عن ابن عباس، وأبي الشعثاء، وعلى الثالث: يكون قوله:

{إَّلا أَن يَعْفُونَ} يختص بالثيبات وقوله:

{أَوْ يَعْفُوَاْ} يختص أبا البكر قاله الزهري. والأول: أصح لأن عقدة النكاح خرجت من يد الولي فصارت بيد الزوج، والعفو: إنما يطلق على ملك الانسان، وعفو الولي عفو عما لا يملك و لأنه قال:

{وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} والفضل فيه هبة الإنسان مال نفسه، لا مال غيره. قوله تعالى:

{ٱلنّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} فيه قولان.

احدهما: أنه خطاب للزوجين جميعا، روي عن ابن عباس، و مقاتل،

والثاني: أنه خطاب للزوج وحده قاله الشعبي، وكان يقرأ وأن يعفو بالياء. قوله تعالى:

{وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} خطاب للزوجين، قال مجاهد: هو إتمام الرجل الصداق، وترك المرأة شطرها.

٢٣٨

قوله تعالى: {حَـٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوٰتِ} المحافظة: المواظبة والمداومة والصلوات بالألف واللام ينصرف إلى المعهود، والمراد:

الصلوات الخمس. قوله تعالى:

{حَـٰفِظُواْ عَلَى} قال الزجاج: هذه الواو إذا جاءت مخصصة، فهي دالة على فضل الذي تخصصه، كقوله تعالى: {وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـٰلَ} البقرة: ٩٧ قال سعيد بن المسيب: كان أصحاب رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، في الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه. ثم فيها خمسة أقوال.

احدها: أنها العصر روى مسلم في أفراده من حديث علي رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ اللّه قبورهم وبيوتهم نارا

وروى ابن مسعود وسمرة، وعائشة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، أنها صلاة العصر، وروى مسلم في أفراده من حديث البراء بن عازب، قال: نزلت هذه الآية: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر} فقراناها ما شاء اللّه ثم نسخها اللّه فنزلت: {حَـٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوٰتِ وٱلصَّلَوٰةِ ٱلْوُسْطَىٰ} وهذا قول علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، وابن مسعود، وأبي أيوب، وابن عمر، في رواية وسمرة بن جندب، و أبي هريرة، وابن عباس، في رواية عطية و أبي سعيد الخدري، وعائشة في رواية وحفصة، والحسن، وسعيد ابن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء في رواية. وطاووس، و الضحاك، والنخعي، وعبيد ابن عمير، وزر بن حبيش، وقتادة وأبي حنيفة، و مقاتل في آخرين. وهو مذهب أصحابنا.

والثاني: انها الفجر روي عن عمر، وعلي في رواية، و أبي موسى، ومعاذ، وجابر بن عبد اللّه، وابي أمامة، و ابن عمر، في رواية مجاهد، و زيد بن أسلم، و ابن عباس، في رواية أبي رجاء العطاردي، وعكرمة، وجابر بن زيد، و أنس بن مالك، وعطاء، وعكرمة، وطاووس في رواة ابنه، وعبد اللّه بن شداد، و مجاهد، و مالك، والشافعي، وروى أبوالعالية قال: صليت مع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ الغداة فقلت لهم: أيما الصلاة الوسطى؟ فقالوا: التي صليت قبل.

والثالث: أنها الظهر، روي عن ابن عمر، و زيد بن ثابت، و أسامة بن زيد، و أبي سعيد الخدري، وعائشة، في رواية وروى ضميرة عن علي رضي اللّه عنه قال: هي صلاة الجمعة، وهي سائر الايام الظهر.

والرابع: أنها المغرب، روي عن ابن عباس وقبيصة بن ذؤيب.

والخامس: أنها العشاء الأخيرة، ذكره علي بن احمد النيسابوري في تفسيره،

وفي المراد بالوسطى. ثلاثة أقوال.

احدها: أنها اوسط الصلوات محلا.

والثاني: اوسطها مقدارا.

والثالث: أفضلها ووسط الشيء خيره، وأعدله ومنه قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ * جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} البقرة: ١٤٢ فان قلنا: إن الوسطى بمعنى: الفضلى جاز أن يدعي هذا كل ذي مذهب فيها. و إن قلنا إنها أوسطها مقدارا فهي المغرب، لأن أقل المفروضات ركعتان، وأكثرها أربعا. وإن قلنا: إنها أوسطها محلا فللقائلين: إنها العصر أن يقولوا: قبلها صلاتان في النهار، وبعدها صلاتان في الليل، فهي الوسطى. ومن قال: هي الفجر، فقال عكرمة: هي وسط بين الليل والنهار، وكذلك قال ابن الأنباري: هي وسط بين الليل والنهار، وقال وسمعت ابا العباس يعني، ثعلبا يقول: النهار عند العرب اوله: طلوع الشمس. قاله ابن الأنباري: فعلى هذا صلاة الصبح من صلاة الليل، قال: وقال آخرون: بل هي من صلاة النهار، لأن أول وقتها اول وقت الصوم. قال والصواب عندنا أن نقول: الليل المحض خاتمته طلوع الفجر، والنهار المحض أوله: طلوع الشمس، والذي بين طلوع الفجر، وطلوع الشمس يجوز أن يسمى نهارا، ويجوز أن يسمى ليلا لما يوجد فيه من الظلمة والضوء، فهذا قول يصح به المذهبان. قال ابن الأنباري: ومن قال هي الظهر قال هي وسط النهار. فأما من قال: هي المغرب، فاحتج بأن أول صلاة فرضت الظهر، فصارت المغرب وسطى ومن قال: هي العشاء فانه قال: هي بين صلاتين لاتقصران. قوله تعالى:

{وَقُومُواْ للّه قَـٰنِتِينَ} المراد بالقيام هاهنا: القيام في الصلاة فأما القنوت، فقد شرحناه فيما تقدم.

وفي المراد به هاهنا ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الطاعة، قاله ابن عباس، والحسن، و مجاهد،وابن جبير، والشعبي، وطاووس،و الضحاك، وقتادة، في آخرين.

والثاني: أنه طول القيام في الصلاة، روي عن ابن عمر، والربيع، بن أنس، وعن عطاء كالقولين.

والثالث: أنه الإمساك عن الكلام في الصلاة، قال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت الآية: {وَقُومُواْ للّه قَـٰنِتِينَ} فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام.

٢٣٩

قوله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً} أي: خفتم عدوا، فصلوا رجالا، وهو جمع راجل، والركبان جمع راكب، وهذا يدل على تأكيد أمر الصلاة، لأنه أمر بفعلها على كل حال. وقيل: إن هذه الآية انزلت بعد التي في سورة النساء، لإن اللّه تعالى وصف لهم صلاة الخوف في قوله: {مُّبِيناً وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ} [النساء: ١٠٢]. ثم نزلت هذه الآية:

{فَإِنْ خِفْتُمْ} أي: خوفا أشد من ذلك، فصلوا عند المسايفة كيف قدرتم. فان قيل كيف الجمع بين هذه الآية، وبين ما روى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه صلى يوم الخندق الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بعد ما غاب الشفق؟

فالجواب: أن أبا سعيد روى أن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى:

{فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} قال أبو بكر الأثرم: فقد بين اللّه أن ذلك الفعل الذي كان يوم الخندق منسوخ. قوله تعالى:

{فَإِذَا أَمِنتُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللّه} في هذا الذكر قولان.

احدهما: أنه الصلاة فتقديره فصلوا كما كنتم تصلون آمنين.

والثاني: أنه الثناء على اللّه والحمد له.

٢٤٠

قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوٰجًا} روى ابن حيان أن هذه الآية نزلت في رجل من أهل الطائف، يقال له حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة، ومعه أبواه وامرأته، وله أولاد فمات فرفع ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فأعطى النبي صلى اللّه عليه وسلم، أبويه وأولاده من ميراثه، ولم يعط امرأته، شيئا غير أنه أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا. قوله تعالى:

{وَصِيَّةً لاّزْوَاجِهِم} قرأ ابو عمرو، وحمزة، و ابن عامر «وصية» بالنصب وقرأ ابن كثير، ونافع والكسائي، وصية بالرفع، وعن عاصم كالقراءتين. قال أبو علي: من نصب حمله على الفعل أي: ليوصوا وصية، ومن رفع فمن وجهين.

احدهما: أن يجعل الوصية مبتدأ والخبر لأزواجهم.

والثاني: أن يضمر له خبرا تقديره فعليهم وصية، والمراد من قارب الوفاة فليوص، لأن المتوفى لا يؤمر ولا ينهى. قوله تعالى:

{مَّتَـٰعًا إِلَى ٱلْحَوْلِ} أي: متعوهن إلى الحول، ولا تخرجوهن والمراد بذلك نفقة السنة وكسوتها وسكناها

{فَإِنْ خَرَجْنَ} أي: من قبل أنفسهن

{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} يعني: أولياء الميت

{فِي مَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ  مِن مَّعْرُوفٍ} يعني: التشوف إلى النكاح. وفي ماذا رفع الجناح عن الرجال؟ فيه قولان.

احدهما: أنه في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول.

والثاني: في ترك منعهن من الخروج لأنه لم يكن مقامها الحول واجبا، عليها بل كانت مخيرة في ذلك.

فصل

ذكر علماء التفسير أن أهل الجاهلية كانوا إذا مات احدهم، مكثت زوجته في بيته حولا، ينفق عليها من ميراثه فاذا تم الحول، خرجت إلى باب بيتها، ومعها بعرة، فرمت بها كلبا، وخرجت بذلك من عدتها. وكان معنى رميها بالبعرة أنها تقول: مكثي بعد وفاة زوجي أهون عندي من هذه البعرة. ثم جاء الإسلام، فأقرهم على ما كانوا عليه من مكث الحول بهذه الآية، ثم نسخ ذلك بالآية المتقدمة في نظم القرآن على هذه الآية، وهي قوله تعالى:

{وَعَشْرًا} ونسخ الأمر بالوصية لها بما فرض لها من ميراثه.

٢٤١

قوله تعالى: {حَكِيمٌ وَلِلْمُطَلَّقَـٰتِ مَتَـٰعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ} قد سبق الكلام في المتعة بما فيه كفاية.

٢٤٢

قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيّنُ ٱللّه لَكُمْ آيَـٰتِهِ} أي: كما بين الذي تقدم من الأحكام {يُبَيّنُ ٱللّه لَكُمْ آيَـٰتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي يثبت لكم وصف العقلاء باستعمال ما بين لكم، وثمرة العقل استعمال الأشياء المستقيمة. ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللّه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوء بِجَهَـٰلَةٍ} النساء: ١٧. و إنما سموا جهالا لأنهم آثروا أهواءهم على ما علموا أنه الحق.

٢٤٣

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ} معناه: ألم تعلم قال ابن قتيبة: وهذا على جهة التعجب كما تقول ألا ترى إلى ما يصنع فلان؟ قوله تعالى:

{وَهُمْ أُلُوفٌ} فيه قولان.

احدهما: أن معناه: وهم مؤتلفون، قاله ابن زيد.

والثاني: أنه من العدد وعليه العلماء،

واختلفوا في عددهم على سبعة أقوال.

احدها: انهم كانوا أربعة آلاف.

والثاني: أربعين ألف والقولان عن ابن عباس.

والثالث: تسعين ألفا قاله عطاء بن أبي رباح.

والرابع: سبعة آلاف قاله أبو صالح.

والخامس: ثلاثين ألفا قاله أبو مالك.

والسادس: بضعة وثلاثين ألفا، قاله السدي.

والسابع: ثمانية آلاف، قاله مقاتل

وفي معنى: حذرهم من الموت، قولان.

احدهما: انهم فروا من الطاعون وكان قد نزل بهم، قاله الحسن، والسدي.

والثاني: انهم أمروا بالجهاد ففروا منه، قاله عكرمة، و الضحاك، وعن ابن عباس كالقولين. الاشارة إلى قصتهم روى حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف قال: كانت أمة من بني إسرائيل إذا وقع فيهم الوجع، خرج أغنياؤهم، وأقام فقراؤهم، فمات الذين أقاموا، ونجا الذين خرجوا، فقال الأشراف: لو أقمنا كما أقام هؤلاء لهلكنا، وقال الفقراء: لو ظعنا كما ظعن هؤلاء سلمنا، فأجمع رأيهم في بعض السنين على أن يظعنوا جميعا، فظعنوا فماتوا وصاروا عظاما تبرق، فكنسهم أهل البيوت والطرق عن بيوتهم وطرقهم، فمر بهم نبي من الأنبياء، فقال: يا رب لو شئت أحييتهم، فعبدوك، وولدوا أولادا يعبدونك ويعمرون بلادك. قال: أو أحب إليك أن أفعل؟ قال: نعم. فقيل له: تكلم بكذا وكذا، فتكلم به، فنظر إلى العظام تخرج من عند العظام التي ليست منها، إلى التي هي منها ثم قيل له: تكلم بكذا وكذا، فتكلم به، فنظر إلى العظام تكسى لحما وعصبا، ثم قيل له: تكلم بكذا وكذا، فنظر فاذا هم قعود يسبحون اللّه ويقدسونه. وأنزل اللّه فيهم هذه الآيه. وهذا الحديث يدل على بعد المدة التي مكثوا فيها أمواتا. وفي بعض الأحاديث: أنهم بقوا أمواتا سبعة أيام،

وقيل: ثمانية أيام.وفي النبي الذي دعا لهم قولان.

احدهما: أنه حزقيل.

والثاني: أنه شمعون

فان قيل كيف أميت هؤلاء مرتين وقد قال اللّه تعالى: {إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلاْولَىٰ} الدخان: ٥٦.

فالجواب أن موتهم بالعقوبة لم يفن اعمارهم فكان كقوله تعالى: {وَٱلَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِـهَا} الزمر: ٤٢.

وقيل كان إحياؤهم آية من آيات نبيهم وآيات الأنبياء نوادر لا يقاس عليها فيكون تقدير قوله تعالى:

{إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلاْولَىٰ} التي ليست من آيات الأنبياء، ولا لأمر نادر وفي هذه القصة احتجاج على اليهود، إذ أخبرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم، بأمر لم يشاهدوه، وهم يعلمون صحته واحتجاج على المنكرين للبعث. فدلهم عليه باحياء الموتى في الدنيا، ذكر ذلك جميعه ابن الأنباري. قوله تعالى:

{إِنَّ ٱللّه لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ} نبه عز وجل بذكر فضله على هؤلاء على فضله على سائر خلقه مع قلة شكرهم.

٢٤٤

قوله تعالى: {وَقَـٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللّه} في المخاطبين بهذا قولان.

احدهما: انهم الذين أماتهم اللّه ثم أحياهم، قاله الضحاك.

والثاني: خطاب لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، فمعناه: لا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء فما ينفعكم الهرب

{وَٱعْلمواْ إِنَّ ٱللّه سَمِيعٌ} لأقوالكم {عَلِيمٌ} بما تنطوي عليه ضمائركم.

٢٤٥

قوله تعالى: {مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللّه} قال الزجاج: أصل القرض ما يعطيه الرجل أو يفعله ليجازى عليه، وأصله في اللغة القطع، ومنه أخذ المقراض. فمعنى أقرضته: قطعت له قطعة يجازيني عليها.

فان قيل ما وجه تسمية الصدقة قرضا؟

فالجواب من ثلاثة أوجه.

احدهما: لأن هذا القرض يبدل بالجزاء.

والثاني: لأنه يتأخر قضاؤه إلى يوم القيامة.

والثالث: لتأكيد استحقاق الثواب به، إذ لا يكون قرض إلا والعوض مستحق به. فأما اليهود فانهم جهلوا هذا، فقالوا: أيستقرض اللّه منا؟ وأما المسلمون فوثقوا بوعد اللّه، وبادروا إلى معامتله. قال ابن مسعود: لما نزلت هذه الآية، قال أبو الدحداح: و إن اللّه ليريد منا القرض؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم، نعم. قال: أرني يدك. قال: إني أقرضت ربي حائطي، قال: وحائطه فيه ستمائة نخلة، ثم جاء إلى الحائط، فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط، فقد أقرضته ربي. وفي بعض الألفاظ: فعمدت إلى صبيانها تخرج ما في أفواهم، وتنفض ما في أكمامهم، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

كم من عذق رداح في الجنة لأبي الدحداح.

وفي معنى القرض الحسن ستة أقوال.

احدها: أنه الخالص للّه، قاله الضحاك.

والثاني: أن يخرج عن طيب نفس، قاله مقاتل.

والثالث: أن يكون حلالا، قاله ابن المبارك.

والرابع: أن يحتسب عند اللّه ثوابه.

والخامس: أن لا يتبعه منا ولا أذى.

والسادس: أن يكون من خيار المال. قوله تعالى:

{فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} قرأ ابو عمرو فيضاعفه بألف مع رفع الفاء، كذلك في جميع القرآن إلا في سورة الأحزاب {يُضَـٰعِفُ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} وقرأ نافع وحمزة، والكسائي. جميع ذلك بالألف مع رفع الفاء، وقرأ ابن كثير ف{يُضَـٰعِفْهُ} برفع الفاء من غير ألف في جميع القرآن، وقرأ ابن عامر ف{يُضَـٰعِفْهُ} بغير ألف مشددة في جميع القرآن، ووافقه عاصم على نصب الفاء في فيضاعفه. إلا أنه أثبت الألف في جميع القرآن

قال أبو علي: للرفع وجهان.

احدهما: أن يعطفه على ما في الصلة وهو يقرض.

والثاني: أن يستأنفه، ومن نصب حمل الكلام على المعنى، لأن المعنى: أيكون قرض؟ فحمل عليه فيضاعفه.وقال: ومعنى ضاعف وضعف واحد والمضاعفة: الزيادة على الشيء حتى يصير مثلين أو أكثر.

وفي الأضعاف الكثير قولان.

احدهما: أنها لا يحصى عددها، قاله ابن عباس، والسدي، وروى أبو عثمان النهدي، عن أبي هريرة أنه قال: إن اللّه يكتب للمؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة. وقرأ هذه الآية ثم قال سمعت رسول، صلى اللّه عليه وسلم، يقول: إن اللّه يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة.

والثاني: أنها معلومة المقدار فالدرهم بسبعمائة كما ذكر في الآية التي بعدها، قاله ابن زيد. قوله تعالى:

{وَٱللّه يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} قرأ ابن كثير، و ابو عمرو، وحمزة، والكسائي، «يبسط» و «بسطة» بالسين وقرأ هما نافع بالصاد،

وفي معنى الكلام قولان.

احدهما: أن معناه: يقتر على من يشاء في الرزق، ويبسطه على من يشاء، قاله ابن عباس، والحسن، وابن زيد.

والثاني: يقبض يد من يشاء عن الإنفاق في سبيله، ويبسط يد من يشاء بالإنفاق، قاله أبو سليمان الدمشقي في آخرين.

٢٤٦

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِى إِسْرءيلَ} قال الفراء: الملأ: الرجال في كل القرآن لا يكون فيهم امرأة، وكذلك القوم والنفر والرهط وقال الزجاج: الملأ هم الوجوه وذوو الرأي، و إنما سموا ملأ لأنهم مليؤون بما يحتاج إليه منهم، وفي نبيهم ثلاثة أقوال:

احدها: أنه شمويل قاله ابن عباس ووهب.

والثاني: أنه يوشع بن نون قاله قتادة.

والثالث: أنه نبي، يقال له: سمعون بالسين المهملة، سمته امه بذلك، لأنها دعت اللّه أن يرزقها غلاما، فسمع دعاؤها فيه، فسمته هذا قول السدي. وسبب سؤالهم ملكا أن عدوهم غلب عليهم. قوله تعالى:

{نُّقَـٰتِلْ} قراءة الجمهور بالنون والجزم، و قرأ ابن أبي عبلة بالياء والرفع، كناية عن الملك. قوله تعالى:

{هَلْ عَسَيْتُمْ} قراءة الجمهور بفتح السين، وقرأ نافع بكسرها هاهنا: وفي سورة «محمد» وهي لغتان. قوله تعالى:

{إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ} أي: فرض {أَلاَّ تُقَـٰتِلُواْ} أي: لعلكم تجبنون. قوله تعالى:

{وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَـٰرِنَا} يعنون: أخرج بعضنا وهم الذين سبوا منهم وقهروا، فظاهره العموم، ومعناه الخصوص. قوله تعالى:

{تَوَلَّوْاْ} أي: أعرضوا عن الجهاد. {إِلاَّ قَلِيلاً} وهم الذين عبروا النهر. وسيأتي ذكرهم.

٢٤٧

قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ٱللّه قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} ذكر أهل التفسير أن نبي بني إسرائيل سأل اللّه أن يبعث لهم ملكا. فأتى بعصا وقرن فيه دهن

وقيل له: إن صاحبكم الذي يكون ملكا يكون طوله طول هذه العصا، ومتى دخل عليك رجل فنشق الدهن فهو ملك فادهن به رأسه، وملكه على بني إسرائيل فقاس القوم أنفسهم بالعصا فلم يكونوا على مقدارها. قال عكرمة، والسدي: كان طالوت سقاء يسقي على حمار له فضل. حماره فخرج يطلبه، وقال وهب: بل كان دباغا يعمل الأدم، فضلت حمر لأبيه فأرسل مع غلام له في طلبها، فمرا يبيت شمويل النبي صلى اللّه عليه وسلم، فدخلا ليسألاه عن ضالتهما، فنشق الدهن، فقام شمويل فقاس طالوت بالعصا، وكان على مقدارها فدهنه ثم قال: له أنت ملك بني إسرائيل فقال: طالوت أما علمت أو وسطي أدنى أسباط بني إسرائيل وبيتي أدنى بيوتهم قال: بلى قال فبأية آية قال بآية انك ترجع، وقد وجد ابوك حمره فكان كما قال. قال الزجاج: طالوت، وجالوت، وداود لا تصرف، لأنها أسماء أعجمية، وهي معارف فاجتمع فيها التعريف والعجمة. ومعنى قوله تعالى:

{أَنَّىٰ يكون له الملك} من أي جهة يكون له الملك علينا. قال ابن عباس: انما قالوا ذلك، لأنه كان في بني اسرائيل سبطان، في

احدهما النبوة، وفي الآخر الملك، فلم يكن هو من أحد السبطين. قال قتادة. كانت النبوة في سبط لاوي، والملك في سبط يهوذا. قوله تعالى:

{وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مّنَ ٱلْمَالِ} أي: لم يؤت ما يتملك به الملك

{قَالَ إِنَّ ٱللّه ٱصْطَفَـٰهُ عَلَيْكُمْ} أي: اختاره، وهو «افتعل» من الصفوة. والبسطة: السعة، قاله ابن قتيبة: هو من قولك: بسطت الشيء: إذا كان مجموعا، ففتحته، ووسعته. قال ابن عباس: كان طالوت أعلم بني إسرائيل بالحرب، وكان يفوق الناس بمنكبيه، وعنقه ورأسه.

وهل كانت هذه الزيادة قبل الملك، أم أحدثت له بعد الملك فيه قولان:

احدهما: قبل الملك قاله وهب والسدي.

والثاني: بعد الملك قاله ابن زيد والمراد بتعظيم الجسم فضل القوة إذ العادة أن من كان أعظم جسما كان أكثر قوة والواسع: الغني.

٢٤٨

قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ ءايَةَ مُلْكِهِ} الآية العلامة فمعناه: علامة تمليك اللّه إياه

{أَن يَأْتِيَكُمُ ٱلتَّابُوتُ} وهذا من مجاز الكلام لأن التابوت يؤتى به، ولا يأتي ومثله {فَإِذَا عَزَمَ ٱلاْمْرُ} و إنما جاز مثل هذا لزوال اللبس فيه كما بينا في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ} البقرة: ١٦.

وروي عن ابن مسعود و ابن عباس انهم قالوا لنبيهم: إن كنت صادقا فأتنا بآية تدل على أنه ملك، فقال لهم: ذلك وقال وهب خيرهم أي: آية يريدون فقالوا أن يرد علينا التابوت، قال ابن عباس: كان التابوت من عود الشمشار عليه صفائح الذهب، وكان يكون مع الأنبياء إذا حضروا قتالا قدموه بين أيديهم يستنصرون به، وفيه السكينة، وقال وهب بن منبه: كان نحوا من ثلاث أذرع في ذراعين. قال مقاتل: فلما تفرقت بنو إسرائيل، وعصوا الأنبياء سلط اللّه عليهم عدوهم فغلبوهم عليه،

وفي السكينة سبعة أقوال.

احدها: أنها ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان، رواه أبو الأحوص عن علي رضي اللّه عنه.

والثاني: أنها دابة بمقدار الهر لها عينان لها شعاع وكانوا إذا التقى الجمعان، أخرجت يدها ونظرت إليهم فيهزم الجيش من الرعب، رواه الضحاك عن ابن عباس، وقال مجاهد السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان.

والثالث: أنها طست من ذهب من الجنة تغسل فيه قلوب الأنبياء. رواه أبو مالك عن ابن عباس

والرابع: أنها روح من اللّه تتكلم كانوا إذا اختلفوا في شيء كلمتهم، وأخبرتهم ببيان ما يريدون رواه عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه.

والخامس: أن السكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها رواه ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح، وذهب إلى نحوه الزجاج فقال: السكينة من السكون فمعناه: فيه ما تسكنون إليه إذا أتاكم.

والسادس: أن السكنية معناها هاهنا: الوقار رواه معمر عن قتادة

والسابع أن السكينة الرحمة قاله الربيع بن أنس.

وفي البقية تسعة أقوال.

احدها أنها رضاض الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى وعصاه، قاله ابن عباس، وقتادة والسدي.

والثاني: أنها رضاض الألواح قاله عكرمة ولم يذكر العصا وقيل إنما اتخذ موسى التابوت ليجمع رضاض الألواح فيه.

والثالث: أنها عصا موسى والسكينة قاله وهب.

والرابع: عصا موسى وعصا هارون وثيابهما ولوحان من التوراة والمن، قاله أبو صالح.

والخامس: أن البقية العلم والتوراة، قاله مجاهد وعطاء بن أبي رباح.

والسادس: أنها رضاض الألواح وقفيز من من في طست من ذهب وعصا موسى وعمامته، قاله مقاتل

والسابع: أنه قفيز من من ورضاض الألواح، حكاه سفيان الثوري عن بعض العلماء.

والثامن: أنها عصا موسى والنعلان، ذكره الثوري أيضا عن بعض أهل العلم.

والتاسع: أن المراد بالبقية الجهاد في سبيل اللّه وبذلك أمروا، قاله الضحاك.

والمراد بآل موسى، و آل هارون: موسى، وهارون.

وأنشد أبو عبيدة:

ولا تبك ميتا بعد ميت أحبة  علي وعباس وآل بكر

يريد: ابا بكر نفسه. قوله تعالى:

{تَحْمِلُهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ} قرأ الجمهور: «تحمله» بالتاء، وقرأ الحسن، و مجاهد، والأعمش بالياء

وفي المكان الذي حملته منه الملائكة إليهم قولان.

احدهما: أنه كان مرفوعا مع الملائكة بين السماء والأرض منذ خرج عن بني اسرائيل، قاله الحسن

والثاني: أنه كان في الارض.

وفي أي مكان كان؟ فيه قولان.

احدهما: أنه كان في أيدي العمالقة قد دفنوه، قال ابن عباس: أخذ التابوت قوم جالوت، فدفنوه في متبرز لهم، فأخذه الباسور فهلكوا، ثم أخذه أهل مدينة أخرى، فأخذهم بلاء فهلكوا ثم أخذه غيرهم كذلك حتى هلكت خمس مدائن، فأخرجوه على بقرتين ووجهوهما إلى بني إسرائيل، فساقتهما الملائكة.

والثاني: أنه كان في برية التيه، خلفه فيها يوشع، ولم يعلموا بمكانه حتى جاءت به الملائكة، قاله قتادة.

وفي كيفية مجيء الملائكة به قولان.

احدهما: أنها جاءت به بأنفسها، قال وهب: قالوا لنبيهم: اجعل لنا وقتا يأتينا فيه، فقال: الصبح فلم يناموا ليلتهم ووافت به الملائكة مع الفجر، فسمعوا حفيف الملائكة تحمله بين السماء والارض.

والثاني: أن الملائكة جاءت به على عجلة وثورين، ذكر عن وهب أيضا. فعلى القول الأول: يكون معنى تحمله: تقله. وعلى الثاني: يكون معنى حملها إياه: تسببها في حمله. قال الزجاج ويجوز في اللغة أن يقال: حملت الشيء إذا كنت سببا في حمله. قوله تعالى:

{إِنَّ فِي ذٰلِكَ لأَيَةً لَّكُمْ} أي:علامة تدل على تمليك طالوت.

قال المفسرون: فلما جاءهم التابوت وأقروا له بالملك، تأهب للخروج، فأسرعوا في طاعته، وخرجوا معه فذلك قوله تعالى.

٢٤٩

قوله تعالى: {فَلَمَّا فصل طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ} أي: خرج وشخص

وفي عدد من خرج معه ثلاثة أقوال.

احدها: سبعون ألفا، قاله ابن عباس.

والثاني: ثمانون ألفا، قاله عكرمة، والسدي.

والثالث: مائة ألف، قاله مقاتل. قال وساروا في حر شديد فابتلاهم اللّه بالنهر والابتلاء: الاختبار

وفي النهر لغتان:

إحداهما: تحريك الهاء وهي قراءة الجمهور.

والثاني: تسكينها وبها، قرأ الحسن، و مجاهد.

وفي هذا النهر قولان.

احدهما: أنه نهر فلسطين، قاله ابن عباس، والسدي.

والثاني: نهر بين الاردن وفلسطين، قاله عكرمة، وقتادة، والربيع بن أنس، ووجه الحكمة في ابتلائهم به أن يعلم طالوت من له نية في القتال منهم ومن ليس له نية. قوله تعالى:

{فليس مني} أي ليس من أصحابي. قوله تعالى:

{إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو غرفة بفتح الغين وقرأ ابن عامر، وعاصم وحمزة والكسائي بضمها قال الزجاج: من فتح الغين اراد المرة الواحدة باليد، ومن ضمها اراد ملء اليد وزعم مقاتل أن الغرفة كان يشرب منها الرجل ودابته وخدمه، ويملأ قربته وقال بعض المفسرين: لم يرد به غرفة الكف، و إنما اراد المرة الواحدة بقربة أو جرة أو ما أشبه ذلك.

وفي عدد القليل الذين لم يشربوا إلا غرفة قولان.

احدهما: انهم أربعة آلاف، قاله عكرمة، والسدي.

والثاني: ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وهو الصحيح لما روي عن النبي، صلى اللّه عليه وسلم، أنه قاله لأصحابه يوم بدر:

انتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقاء جالوت وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. قوله تعالى:

{لاَ طَاقَةَ لَنَا} أي: لا قوة لنا، قال الزجاج: يقال: أطقت الشيء إطاقة وطاقة،وطوقا مثل قولك: أطعته إطاعة، وطاعة وطوعا،

واختلفوا في القائلين لهذا على ثلاثة أقوال.

احدها: انهم الذين شربوا أكثر من غرفة فانهم انصرفوا ولم يشهدوا وكانوا أهل شك ونفاق، قاله ابن عباس، والسدي.

والثاني: انهم الذين قلت بصائرهم من المؤمنين قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد.

والثالث: أنه قول الذين جاوزوا معه، و إنما قال ذلك بعضهم لبعض، لما رأوا من قلتهم، وهذا اختيار الزجاج. قوله تعالى

{قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ} في هذا الظن قولان.

احدهما: أنه بمعنى: اليقين قاله السدي في آخرين.

والثاني: أنه الظن الذي هو التردد، فان القوم توهموا لقلة عددهم أنهم سيقتلون فيلقون اللّه، قاله الزجاج في آخرين.

وفي الظانين هذا الظن قولان.

احدهما: انهم الثلاثمائة والثلاثة عشر قالوا للراجعين كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة، قاله السدي.

والثاني: انهم أولو العزم والفضل من الثلاثمائة والثلاثة عشر، والفئة: الفرقة، قال الزجاج: وإنما قيل لهم: فئة من قولهم: فأوت رأسه بالعصا، و فأيته: إذا شققته. قوله تعالى:

{بِإِذُنِ ٱللّه} قال الحسن: بنصر اللّه. قوله تعالى:

{وَٱللّه مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} أي: بالنصر والاعانة.

٢٥٠

قوله تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُواْ} أي: صاروا بالبراز من الارض وهو ما ظهر واستوى

و {أَفْرِغْ} بمعنى اصبب {وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} أي: قو قلوبنا لتثبيت أقدامنا، و إنما تثبت الأقدام عند قوة القلوب، قال مقاتل: كان جالوت وجنوده يعبدون الأوثان.

١٥١

قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُم} أي: كسروهم وردوهم، قال الزجاج: أصل الهزم في اللغة: كسر الشيء: وثني بعضه على بعض يقال سقاء منهزم، ومهزم إذا كان بعضه قد ثني على بعض مع جفاف، وقصب منهزم قد كسر، وشقق والعرب تقول هزمت على زيد أي: عطفت عليه.

قال الشاعر:

هزمت عليك اليوم يا ابنة مالك  فجودي علينا بالنوال و أنعمي

ويقال: سمعت هزمة الرعد قال الأصمعي: كأنه صوت فيه تشقق. ودواد: هو نبي اللّه أبو سليمان، وهو اسم أعجمي،

وقيل: إن إخوة داود كانوا مع طالوت فمضى دواد لينظر إليهم فنادته أحجار خذني، فأخذها وجاء إلى طالوت فقال: مالي إن قتلت جالوت فقال: ثلث ملكي وانكحك ابنتي فقتل جالوت. قوله تعالى:

{وَآتَـٰهُ ٱللّه ٱلْمُلْكَ} يعني آتى داود ملك طالوت وفي المراد بالحكمة هاهنا قولان.

احدهما: أنها النبوة، قاله ابن عباس.

والثاني: الزبور، قاله مقاتل قوله تعالى:

{وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أنها صنعة الدروع.

والثاني: الزبور.

والثالث: منطق الطير.

قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللّه ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} قرأ الجمهور {دَفْعُ ٱللّه} بغير ألف هاهنا: وفي «الحج» وقرأ نافع، ويعقوب وأبان {وَلَوْلاَ} بألف فيهما. قال أبو علي المعنيان متقاربان

قال الشاعر:

ولقد حرصت بأن أدافع عنهم  فاذا المنية أقبلت لا تدفع

وفي معنى الكلام قولان.

احدهما: أن معناه: لولا أن اللّه يدفع بمن أطاعه عمن عصاه، كما دفع عن المتخلفين عن طالوت بمن أطاعه، لهلك العصاة بسرعة العقوبة، قاله مجاهد.

والثاني: أن معناه، لولا دفع اللّه المشركين بالمسلمين، لغلب المشركون على الارض، فقتلوا المسلمين، وخربوا المساجد قاله مقاتل: ومعنى: لفسدت الارض: لهلك أهلها.

٢٥٢

قوله تعالى: {ٱلْعَـٰلَمِينَ تِلْكَ آيَـٰتُ ٱللّه نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} أي: نقص عليك من أخبار المتقدمين.

{وَإِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ} حكمك حكمهم، فمن صدقك، فسبيله سبيل من صدقهم، ومن عصاك، فسبيله سبيل من عصاهم. الجزء الثالث

٢٥٣

قوله تعالى: {مّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللّه} يعني: موسى عليه السلام وقرأ أبو المتوكل و أبو نهيك، وابن السميفع منهم من كالم اللّه. بألف خفيفة اللام ونصب اسم اللّه

وفي المراد بقوله {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـٰتٍ} قولان.

احدهما: عنى بالمرفوع درجات محمدا صلى اللّه عليه وسلم، فإنه بعث إلى الناس كافة وغيره بعث الى أمته خاصة، هذا قول مجاهد.

والثاني: أنه عنى تفضيل بعضهم على بعض فيما آتاه اللّه، هذا قول مقاتل. قال ابن جرير الطبري: والدرجات حمع درجة وهي المرتبة، وأصل ذلك مراقي السلم ودرجه ثم يستعمل في ارتفاع المنازل، والمراتب وقد تقدم تفسير البينات و روح القدس. قوله تعالى:

{وَلَوْ شَاء ٱللّه مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم} أي: من بعد الأنبياء، وقال قتادة من بعد موسى وعيسى عليهما السلام. قال مقاتل: وكان بينهما ألف نبي. قوله تعالى:

{وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ} يعني: الأمم.

٢٥٤

قوله تعالى: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـٰكُم} هذه الآية تحث على الصدقات والإنفاق في وجوه الطاعات، وقال الحسن: أراد الزكاة المفروضة. قوله تعالى:

{مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ} يعني: يوم القيامة {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ} قرأ ابن كثير و ابو عمرو {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَـٰعَةٌ} بالنصب من غير تنوين، ومثله في إبراهيم

{لاَّ بَيْعٌ فِيهِ} وفي الطور {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، جميع ذلك بالرفع والتنوين. قال ابن عباس: لا فدية فيه

وقيل إنما ذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة، و أخذ البدل والخلة الصداقة

وقيل: إنما نفى هذه الأشياء لأنه عنى عن الكافرين، وهذه الأشياء لا تنفعهم ولهذا قال: {وَٱلْكَـٰفِرُونَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ}

٢٥٥

قوله تعالى: {ٱللّه لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ} روى مسلم في صحيحه عن أبي بن كعب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال له: «يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب اللّه أعظم» قال: قلت:

{ٱللّه لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ} قال: فضرب صدري وقال «ليهنك العلم يا أبا المنذر»

قال: أبو عبيدة: القيوم: الذي لا يزول، لاستقامة وصفه بالوجود، حتى لا يجوز عليه التغيير بوجه من الوجوه

وقال الزجاج: القيوم: القائم: بتدبير أمر الخلق.

وقال الخطابي: القيوم هو القائم الدائم بلا زوال وزنه فيعول من القيام، وهو نعت للمبالغة للقيام على الشيء، ويقال: هو القائم على كل شيء بالرعاية. يقال: قمت بالشيء إذا وليته بالرعاية والمصلحة وفي القيوم ثلاث لغات. القيوم وبه قرأ الجمهور، والقيام وبه قرأ عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن أبي عبلة، والأعمش، والقيم، وبه قرأ أبو رزين، وعلقمة وذكر ابن الانباري أنه كذلك في مصحف ابن مسعود قال: وأصل القيوم القيووم فلما اجتمعت الياء والواو والسابق ساكن جعلتا ياء مشددة وأصل القيام: القوام قال الفراء و أهل الحجاز: يصرفون الفعال إلى الفيعال، فيقولون للصواغ: صياغ.

فأما السنة فهي: النعاس من غير نوم، ومنه: الوسنان. قال ابن الرقاع: وكأنها بين النساء أعارها عينيه أحور من جآذر جاسم وسنان أقصده النعاس فرنقت في عينه سنة وليس بنائم قوله تعالى:

{لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ} قال بعض العلماء إنما لم يقل، والأرضين لأنه قد سبق ذكر الجمع في السموات فاستغنى بذلك عن إعادته، ومثله {وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ} ولم يقل الأنوار. قوله تعالى:

{مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} فيه رد على من قال: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ٱللّه زُلْفَى} الزمر: ٣. قوله تعالى:

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} ظاهر الكلام يقتضي الإشارة إلى جميع الخلق وقال مقاتل: المراد بهم الملائكة

وفي المراد ب{مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} ثلاثة أقوال.

احدهما: أن الذي بين أيديهم أمر الآخرة والذي خلفهم أمر الدنيا، روي عن ابن عباس، وقتادة.

والثاني: أن الذي بين أيديهم الدنيا والذي خلفهم الآخرة، قاله السدي عن أشياخه، و مجاهد، وابن جريج والحكم بن عتيبة.

والثالث: ما بين ايديهم ما قبل خلقهم وما خلفهم ما بعد خلقهم، قاله مقاتل. قوله تعالى:

{وَلاَ يُحِيطُونَ} قال الليث: يقال: لكل من أحرز شيئا لو بلغ علمه أقصاه قد أحاط به

والمراد بالعلم هاهنا المعلوم

{شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} أي: احتمل وأطاق

وفي المراد بالكرسي ثلاثة أقوال.

احدها: أنه كرسي فوق السماء السابعة دون العرش، قال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في ارض فلاة

وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء.

والثاني: ان المراد بالكرسي علم اللّه تعالى، رواه ابن جبير عن ابن عباس.

والثالث: أن الكرسي هو العرش، قاله الحسن. قوله تعالى:

{وَلاَ يَؤُودُهُ} أي: لا يثقله يقال: آده الشيء يؤوده أودا، وإيادا والأود الثقل وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والجماعة.

والعلي. العالي: القاهر فعيل بمعنى فاعل وقال الخطابي: وقد يكون من العلو الذي هو مصدر علا يعلوا فهو عال. كقوله تعالى: {ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ} طه: ٥. ويكون ذلك من علاء المجد والشرف يقال منه: علي يعلى علاء،

ومعنى العظيم: ذو العظمة، والجلال، والعظم في حقه تعالى منصرف إلى عظم الشأن، وجلال القدر دون العظم الذي هو من نعوت الأجسام.

٢٥٦

قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِى ٱلدّينِ} في سبب نزولها أربعة أقوال.

احدها: أن المرأة من نساء الأنصار كانت في الجاهلية إذا لم يعش لها ولد، تحلف: لئن عاش لها ولد لتهودنه، فلما أجليت يهود بني النضير، كان فيهم ناس من أبناء الأنصار فقال الأنصار: يا رسول اللّه أبناؤنا. فنزلت هذه الآية. هذا قول ابن عباس، وقال الشعبي: قالت الأنصار: واللّه لنكرهن أولادنا على الإسلام، فإنا إنما جعلناهم في دين اليهود إذ لم نعلم دينا أفضل منه، فنزلت هذه الآية.

والثاني: أن رجلا من الأنصار تنصر لهو ولدان قبل أن يبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما، وقال: واللّه لا أدعكما حتى تسلما فأبيا فاختصموا إلى النبي. فنزلت هذه الآية. هذا قول مسروق.

والثالث: أن ناسا كانوا مسترضعين في اليهود فلما أجلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بني النضير قالوا: واللّه ليذهبن معهم ولنذهبن بدينهم فمنعهم أهلوهم، وأرادوا إكراهمم على الإسلام فنزلت هذه الآية.

والرابع: أن رجلا من الانصار كان له غلام اسمه صبيح كان يكرهه على الإسلام، فنزلت هذه الآية. والقولان عن مجاهد.

فصل واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية. فذهب قوم إلى أنه محكم، وانه من العام المخصوص فانه خص منه أهل الكتاب بأنهم لا يكرهون على الإسلام بل يخيرون بينه، وبين أداء الجزية، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس، و مجاهد وقتادة.

وقال ابن الأنباري: معنى الآية: ليس الدين ما تدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه، ولم يشهد به القلب وتنطوي عليه الضمائر إنما الدين هو المنعقد بالقلب، وذهب قوم إلى أنه منسوخ، وقالوا هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال. فعلى قولهم يكون منسوخا بآية السيف وهذا مذهب الضحاك، والسدي، وابن زيد، والدين هاهنا: أريد به الإسلام والرشد الحق، والغي الباطل، وقيل: هو الإيمان والكفر فاما الطاغوت فهو اسم مأخوذ من الطغيان وهو مجاوزة الحد قال ابن قتيبة: الطاغوت واحد وجمع ومذكر ومؤنث قال اللّه تعالى:

{أَوْلِيَاؤُهُمُ ٱلطَّـٰغُوتُ} وقال: {وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا} الزمر: ١٧.

والمراد بالطاغوت هاهنا خمسة أقوال.

احدها: أنه الشيطان، قاله عمر، و ابن عباس، و مجاهد، والشعبي، والسدي، و مقاتل في آخرين.

والثاني: أنه الكاهن قاله سعيد بن جبير، و أبوالعالية.

والثالث: أنه الساحر، قاله محمد بن سيرين.

والرابع: أنه الأصنام، قاله اليزيدي، و الزجاج.

والخامس: أنه مردة أهل الكتاب، ذكره الزجاج أيضا. قوله تعالى:

{فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ} هذا مثل للإيمان شبه التمسك به بالتمسك بالعروة الوثيقة. وقال الزجاج: معنى الكلام: فقد عقد لنفسه عقدا وثيقا والانفصام كسر الشيء من غير إبانه.

٢٥٧

قوله تعالى: {ٱللّه وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ} أي: متولي أمورهم يهديهم وينصرهم ويعينهم والظلمات الضلالة والنور الهدى،

والطاغوت: الشياطين، هنا قول ابن عباس، وعكرمة في آخرين. وقال مقاتل: الذين كفروا: هم اليهود، والطاغوت: كعب بن الأشرف. قال الزجاج: والطاغوت هاهنا: واحد في معنى جماعة، وهذا جائز في اللغة إذا كان في الكلام دليل على الجماعة.

قال الشاعر:

بها جيف الحسرى فأما عظامها  فبيض و أما جلدها فصليب

اراد جلودها

فان قيل متى كان المؤمنون في ظلمة، ومتى كان الكفار في نور فعنه ثلاثة أجوبه.

احدها: أن عصمة اللّه للمؤمنين عن مواقعة الضلال إخراج لهم من ظلام الكفر وتزيين قرناء الكفار لهم الباطل، الذي يحيدون به عن الهدى إخراج لهم من نور الهدى، و الإخراج مستعار هاهنا: وقد يقال: للممتنع من الشيء خرج منه، وإن لم يكن دخل فيه قال تعالى:

{إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللّه} يوسف: ٣٧. وقال:

{وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ} [النحل: ٧٠]. وقد سبقت شواهد هذا في قوله تعالى:

{وَإِلَى ٱللّه تُرْجَعُ ٱلامُورُ} [البقرة: ٢١٠].

والثاني: أن إيمان أهل الكتاب بالنبي قبل أن يظهر نور لهم، وكفرهم به بعد أن ظهر، خروج إلى الظلمات.

والثالث: أنه لما ظهرت معجزات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كان المخالف له خارجا من نور قد علمه والموافق له خارجا من ظلمات الجهل إلى نور العلم.

٢٥٨

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِى حَاجَّ إِبْرٰهِيمَ فِى رِبّهِ} قد سبق معنى: الم تر وحاج بمعنى: خاصم وهو نمروذ في قول الجماعة، قال ابن عباس: ملك الارض شرقها وغربها؛ مؤمنان، وكافران فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين، والكافران: نمروذ وبختنصر، قال ابن قتيبة معنى الآية: حاج إبراهيم لأن اللّه آتاه الملك، فأعجب بنفسه وملكه. قوله تعالى:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِى حَاجَّ إِبْرٰهِيمَ فِى} قال بعضهم: هذا جواب سؤال سابق غير مذكور تقديره أنه قال: له من ربك فقال: ربي الذي يحيي ويميت قال: نمروذ انا أحيي وأميت قال ابن عباس: يقول: أترك من شئت و أقتل من شئت فان قيل لم انتقل إبراهيم إلى حجة اخرى، وعدل عن نصرة الأولى، فالجواب أن إبراهيم رأى من فساد معارضته أمرا على ضعف فهمه، فانه عراض اللفظ بمثله ونسي اختلاف الفعلين فانتقل إلى حجة أخرى قصدا لقطع المحاج لا عجزا عن نصرة الأولى. قوله تعالى:

{فَبُهِتَ ٱلَّذِى كَفَرَ} أي: انقطعت حجته فتحير، وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن السميفع، فبهت بفتح الباء والهاء، وقرأ أبو الجوزاء، ويحيى بن يعمر، و أبو حيوة فبهت بفتح الباء وضم الهاء. قال الكسائي: ومن العرب من يقول: بهت وبهت بكسر الهاء وضمها

{وَٱللّه لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} يعني: الكافرين قال مقاتل: لا يهديهم إلى الحجة وعنى بذكل نمروذ.

٢٥٩

قوله تعالى: {أَوْ كَٱلَّذِى مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ} قال الزجاج: هذا معطوف على معنى الكلام الذي قبله معناه: أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية

وفي المراد بالقرية قولان.

احدهما: أنها بيت المقدس لما خربه بختنصر، قاله وهب، وقتادة والربيع بن أنس.

والثاني: أنها التي خرج منها الألوف حذر الموت، قاله ابن زيد، وفي الذي مر عليها ثلاثة أقوال.

احدها: أنه عزير، قاله علي بن أبي طالب، و أبوالعالية، وعكرمة، وسعيد ابن جبير، وناجية بن كعبد وقتادة، و الضحاك، والسدي، و مقاتل.

والثاني: أنه أرمياء قاله وهب و مجاهد، وعبد اللّه بن عبيد بن عمير.

والثالث: أنه رجل كافر شك في البعث نقل عن مجاهد أيضا والخاوية الخالية، قاله الزجاج، وقال ابن قتيبة. الخاوية الخراب، والعروش السقوف و أصل ذلك أن تسقط السقوف، ثم تسقط الحيطان عليها

{قَالَ أَنَّىٰ يُحْىِ هَـٰذِهِ ٱللّه} أي: كيف يحييها.

فان قلنا: إن هذا الرجل نبي، فهو كلام من يؤثر أن يرى كيفية الإعادة، أو يستهو لها، فيعظم قدرة اللّه،

وإن قلنا: إنه كان رجلا كافرا، فهو كلام شاك، والأول أصح. قوله تعالى:

{فَأَمَاتَهُ ٱللّه مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} الاشارة إلى قصته روى ناجية بن كعب عن علي رضي اللّه عنه قال: خرج عزير نبي اللّه من مدينته، وهو رجل شاب فمر على قرية، وهي خاوية على عروشها فقال: أنى يحيي هذه اللّه بعد موتها؟ فأماته اللّه مائة عام ثم بعثه، وأول ما خلق اللّه منه عيناه، فجعل ينظر إلى عظامه ينظم بعضها إلى بعض، ثم كسيت لحما، ونفخ فيها الروح. قال الحسن: قبضه اللّه اول النهار، وبعثه آخر النهار، بعد مائة سنة.قال مقاتل: ونودي من السماء كم لبثت؟ قال قتادة: فقال: لبثت يوما ثم نظر فرأى بقية من الشمس فقال: او بعض يوم فهذا يدل على أنه عزير. وقال وهب بن منبه: أقام أرميا بأرض مصر فأوحى اللّه إليه أن الحق بأرض إيلياء فركب حماره، وأخذ معه سلة من عنب وتين، ومعه سقاء جديد فيه ماء فلما بدا له شخص بيت المقدس، وما حوله من القرى والمساجد، نظر إلى خراب لا يوصف، فلما رأى هدم بيت المقدس كالجبل العظيم. قال أنى يحيي هذه اللّه بعد موتها؟ ثم نزل منها منزلا وربط حماره، وعلق سقاءه، فألقى اللّه عليه النوم ونزع روحه مئة عام. فلما مر منها سبعون عاما أرسل اللّه ملكا، إلى ملك من ملوك فارس عظيم. فقال: إن اللّه يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس، وإيلياء وأرضها، حتى تعود أعمر ما كانت فقال الملك: أنظرني ثلاثة أيام حتى أتأهب لهذا العمل، ولما يصلحه من أداة العمل فأنظره ثلاثة أيام. فانتدب ثلاثمئة قهرمان، ودفع إلى كل قهرمان ألف عامل، وما يصلحه من أداة العمل فسار إليها قهارمته، ومعهم ثلاثمئة ألف عامل فلما وقعوا في العمل رد اللّه روح الحياة في عيني. أرميا وآخر جسده ميت فنظر اليها تعمر فلما تمت بعد ثلاثين سنة، رد اللّه إليه الروح، فنظر إلى طعامه وشرابه. لم يتسنه ونظر إلى حماره، واقفا كهئيته يوم ربطه لم يطعم، ولم يشرب، ونظر إلى الرمة في عنق الحمار، لم تتغير جديدة، وقد أتى على ذلك ريح مائة عام وبرد مائة عام، وحر مائة عام لم تتغير، ولم تنتقص شيئا وقد نحل جسم أرميا من البلى؛ فأنبت اللّه له لحما جديدا ونشز عظامه، وهو ينظر. فقال له اللّه: انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك، ولنجعلك آية للناسٰ وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال اعلم: أن اللّه على كل شيء قدير وزعم مقاتل أن هذه القصة كانت بعد رفع عيسى عليه السلام. قوله تعالى:

{كَمْ لَبِثْتَ} قرأ ابن كثير ونافع وعاصم «لبثت» و «لبثتم» في كل القرآن باظهار التاء، وقرأ ابو عمرو، وابن عامر، وحمزة والكسائي، بالإدغام لبت قال أبو علي الفارسي: من بين لبثت فلتباين المخرجين وذلك أن الظاء والذال والثاء من حيز، والطاء والتاء والدال من حيز، فلما تباين المخرجان، واختلف الحيزان، لم يدغم. ومن أدغمها أجراها مجرى المثلين، لاتفاق الحرفين في أنهما من طرف اللسان، وأصول الثنايا، واتفاقهما في الهمس ورأى الذي بينهما من الاختلاف يسيرا، فأجراهما مجرى المثلين. فأما طعامه، وشرابه فقال وهب: كان معه مكتل فيه عنب، وتين وقله فيها ماء وقال السدي: كان معه تين وعنب وشرابه من العصير، لم يحمض التين والعنب ولم يختمر العصير. قوله تعالى:

{لَمْ يَتَسَنَّهْ} قرأ ابن كثير ونافع، و ابو عمرو، وعاصم، وابن عامر {يتسنة} و {فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ} و {مَا أَغْنَىٰ عَنّى مَالِيَهْ} و {سُلْطَـٰنِيَهْ} و {وماهيه} باثبات الهاء في الوصل. وكان حمزة يحذفهن في الوصل ووافقه الكسائي في حذف موضعين {لَمْ يَتَسَنَّهْ} و {ٱقْتَدِهْ} وكلهم يقف على الهاء، ولم يختلفوا في {كِتَـٰبيَهْ} و {حِسَابِيَهْ} أنها بالهاء وصلا ووقفا فأما معنى {لَمْ يَتَسَنَّهْ} فقال ابن عباس والحسن، وقتادة في آخرين. لم يتغير وقال ابن قتيبة: لم يتغير بمر السنين عليه واللفظ مأخوذ من السنه يقال: سانهت النخلة إذا حملت عاما وحالت عاما. قوله تعالى:

{وَٱنظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ} قال مقاتل: انظر إليه وقد ابيضت عظامه وتفرقت أوصاله فأعاده اللّه . قوله تعالى:

{وَلِنَجْعَلَكَ ءايَةً لِلنَّاسِ} اللام صلة لفعل مضمر تقديره: فعلنا بك ذلك لنريك قدرتنا ولنجعلك آية للناس. أي: علما على قدرتنا فأضمر الفعل لبيان معناه. قال ابن عباس: مات وهو ابن أربعين سنة، وابنه ابن عشرين سنة، ثم بعث وهو ابن أربعين وابنه ابن عشرين ومائة، ثم أقبل حتى اتى قومه في بيت المقدس، فقال لهم: انا عزير، فقالوا: حدثنا آباؤنا أن عزيرا مات بأرض بابل، فقال لهم: انا هو أرسلني اللّه إليكم أجدد لكم توراتكم وكانت قد ذهبت وليس منهم احد يقرؤها فأملاها عليهم. قوله تعالى:

{وَٱنظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ} قيل: أراد عظام نفسه، وقيل عظام حماره، وقيل هما جميعا. قوله تعالى:

{كَيْفَ نُنشِزُهَا} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو {ننشرها} بضم النون الأولى وكسر الشين وراء مضمومة ومعناه: نحييها يقال: أنشز اللّه الميت فنشرهم وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي ننشزها بضم النون مع الزاي، وهو من النشز الذي هو الارتفاع والمعنى نرفع بعضها إلى بعض للاحياء وقرأ الأعمش: ننشزها بفتح النون ورفع الشين مع الزاي وقرأ الحسن، وأبان عن عاصم ننشرها بفتح النون مع الراء. كأنه من النشر عن الطي فكأن الموت طواها والإحياء نشرها. قوله تعالى:

{إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} أي بان له إحياء الموتى {قَالَ أَعْلَمُ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وعاصم، وابن عامر. أعلم مقطوعة الألف مضمومة الميم والمعنى: قد علمت ما كنت أعلمه غيبا مشاهدة، وقرأ حمزة، والكسائي بوصل الألف وسكون الميم على معنى الأمر، والابتداء على قراءتهما بكسر الهمزة وظاهر الكلام أنه أمر من اللّه له وقال أبو علي: نزل نفسه منزلة غيره فأمرها، وخاطبها وقرأ الجعفي عن أبي بكر قال أعلم بكسر اللام على معنى الأمر باعلام الغير.

٢٦٠

قوله تعالى: {قَدِيرٌ وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ} في سبب سؤاله هذا أربعة أقوال.

احدها: أنه رأى ميتة تمزقها الهوام والسباع فسأل هذا السؤال، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، و الضحاك، وعطاء الخراساني، وابن جريج، و مقاتل.

وما الذي كانت هذه الميتة فيه ثلاثة أقوال.

احدها: كان رجلا ميتا، قاله ابن عباس.

والثاني: كان جيفة حمار، قاله ابن جريج، و مقاتل.

والثالث: كان حوتا ميتا، قاله ابن زيد.

والثاني: أنه لما بشر باتخاذ اللّه له خليلا سأل هذا السؤال ليعلم صحة البشارة، ذكره السدي، عن ابن مسعود و ابن عباس، وروي عن سعيد بن جبير، أنه لما بشر بذلك قال: ما علامة ذلك قال: أن يجيب اللّه دعاءك ويحيي الموتى بسؤالك، فسأل هذا السؤال.

والثالث: أنه سأل ذلك ليزيل عوارض الوسواس، وهو قول عطاء ابن أبي رباح.

والرابع: أنه لما نازعه نمرود في إحياء الموتى سأل ذلك ليرى ما أخبر به عن اللّه، وهذا قول محمد بن اسحاق. قوله تعالى:

{أَوَ لَمْ تُؤْمِنَ} أي: أولست قد آمنت أني أحيي الموتى؟ وقال ابن جبير: ألم توقن بالخلة؟ قوله تعالى:

{بَلَىٰ وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى} اللام متعلقة بفعل مضمر تقديره ولكن سألتك ليطمئن أو أرني ليطمئن قلبي، ثم في المعنى أربعة أقوال.

احدها: لأعلم انك تجيبني إذا دعوتك، قاله ابن عباس.

والثاني: ليزداد قلبي يقينا، قاله سعيد بن جبير. وقال الحسن كان إبراهيم موقنا، ولكن ليس الخبر كالمعاينة.

والثالث: ليطمئن قلبي بالخلة روي عن ابن جبير أيضا.

والرابع: أنه كان قلبه متعلقا برؤية إحياء الموتى فأراد ليطمئن قلبه بالنظر قاله ابن قتيبة، وقال غيره: كنت نفسه تائقة إلى رؤية ذلك وطالب الشيء قلق إلى أن يظفر بطلبته يدل على أنه لم يسأل لشك أنه قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ} وما قال: هل تحيي الموتى. قوله تعالى:

{فَخُذْ أَرْبَعَةً مّنَ ٱلطَّيْرِ} في الذي أخذ سبعة أقوال.

احدها: أنها الحمامة والديك والكركي والطاووس، رواه عبد اللّه بن هبيرة، عن ابن عباس.

والثاني: أنها الطاووس والديك والدجاجة السندية والأوزة، رواه الضحاك عن ابن عباس، وفي لفظ آخر رواه الضحاك، مكان الدجاجه السندية الرأل وهو فرخ النعام.

والثالث: أنها الشعانين وكانت قرباهم يومئذ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والرابع: أنها الطاووس والنسر والغراب والديك نقل عن ابن عباس أيضا.

والخامس: أنها الديك، والطاووس، والغراب والحمام، قاله عكرمة، و مجاهد، وعطاء وابن جريج، وابن زيد.

والسادس: أنها ديك وغراب وبط وطاووس، رواه ليث عن مجاهد.

والسابع: أنها الديك والبطة والغراب والحمامة قاله مقاتل. وقال عطاء الخراساني: اوحى اللّه إليه أن خذ بطة وغرابا أسود وحمامة بيضاء وديكا أحمر. قوله تعالى:

{فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} قرأ الجمهور بضم الصاد، والمعنى: أملهن إليك، يقال: صرت الشيء فانصار، أي: أملته فمال،

وأنشدوا:

اللّه يعلم أنا في تلفتنا  يوم الفراق إلى جيراننا صور

فمعنى الكلام: اجمعهن إليك.

{ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا} فيه إضمار قطعهن قال ابن قتيبة أضمر «قطعهن» واكتفى بقوله: {ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا} عن قوله قطعهن لأنه يدل عليه، وهذا كما تقول: خذ هذا الثوب، واجعل على كل رمح عندك منه علما. يريد قطعه وافعل ذلك وقرأ أبو جعفر وحمزة وخلف، والمفضل عن عاصم {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} بكسر الصاد قال اليزيدي: هما واحد وقال ابن قتيبة: الكسر والضم لغتان: قال الفراء: أكثر العرب على ضم الصاد، وحدثني الكسائي أنه سمع: بعض بني سليم يقول: صرته فأنا أصيره وروي عن ابن عباس، ووهب، وابي مالك وابي الأسود الدؤلي، والسدي أن معنى المكسورة الصاد قطعهن وروي عن أبي عبيدة أنه قال معناه بالضم اجمعهن وبالكسر قطعهن. قوله تعالى:

{ثُمَّ ٱجْعَلْ عَلَىٰ كُلّ جَبَلٍ مّنْهُنَّ جُزْءا} قال الزجاج: معناه: اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا، وروي عوف عن الحسن قال: اذبحهن ونتفهن ثم قطعهن أعضاءا ثم خلط بينهن جميعا، ثم جزئها أربعة أجزاء وضع على كل جبل جزءا، ثم تنحى عنهن فدعاهن فجعل يعدو كل عضو الى صاحبه حتى استوين كما كن، ثم أتينه يسعين، وقال قتادة:أمسك رؤوسها بيده فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبضعة إلى البضعة، وهو يرى ذلك ثم دعاهن قأقبلن على أرجلهن يلقي لكل طائر رأسه،

وفي عدد الجبال التي قسمن عليها قولان.

احدهما: أنه قسمهن على أربعة أجبل، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، وروي عن ابن عباس، قال: جعلهن أربعة أجزاء في أرباع الارض كأنه يعني جهات الإنسان الأربع.

والثاني: أنه قسمهن سبعة أجزاء على سبعة أجبل، قاله ابن جريج والسدي. قوله تعالى:

{ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} قال ابن قتيبة: يقال: عدوا ويقال: مشيا على أرجلهن ولا يقال لطير إذا طار سعى

{وَٱعْلَمْ أَنَّ ٱللّه عَزِيزٌ} أي: منيع لا يغلب

{حَكِيمٌ} فيما يدبر ويزعم مقاتل أن هذه القصة جرت لإبراهيم بالشام قبل أن يكون له ولد وقبل نزول الصحف عليه، وهو ابن خمس وسبعين سنة.

٢٦١

قوله تعالى: {مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللّه} حدثنا عن ثعلب أنه قال: إنما المثل واللّه أعلم للنفقة لا للرجال، ولكن العرب إذا دل المعنى: على ما يريدون حذفوا مثل قوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ} [البقرة: ٩٣] فأضمره الحب لأن المعنى معلوم، فكذلك هاهنا. أراد: مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم ونحو هذا قوله تعالى: {عَظِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـٰهُمُ ٱللّه مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ} [آل عمران: ١٨]. يريد: بخل الباخلين فحذف البخل.

وفي المراد ب «سبيل اللّه» قولان.

احدهما: أنه الجهاد.

والثاني: أنه جميع ابواب البر، قال أبو سليمان الدمشقي. والآية مردودة على قوله تعالى: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـٰكُم} وقد أعلم اللّه عز وجل بضرب هذا المثل، أن الحسنة في النفقة في سبيله تضاعف بسبعمائة ضعف. وقال الشعبي: نفقة الرجل على نفسه وأهل بيته تضاعف سبعمائة ضعف، قال ابن زيد:

{وَٱللّه يُضَـٰعِفُ لِمَن يَشَاء} أي: يزيد على السبعمائة.

٢٦٢

قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللّه} قال ابن السائب، و مقاتل نزلت في عثمان بن عفان في نفقته في غزوة تبوك، وشرائه بئر رومة، ركية بالمدينة، تصدق بها على المسلمين، وفي عبد الرحمن بن عوف حين تصدق بأربعة آلاف درهم، وكانت نصف ماله.

وأما المن ففيه قولان.

احدها: أنه المن على الفقير ومثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك، وهو قول الجمهور

والثاني: أنه المن على اللّه بالصدقة، روي عن ابن عباس

فان قيل كيف مدحهم بترك المن، ووصف نفسه بالمنان

فالجواب أنه يقال: من فلان على فلان إذا أنعم عليه فهذا الممدوح. قال الشاعر:

فمني علينا بالسلام فانما  كلامك ياقوت ودر منظم

أراد بالمن: الإنعام. وأما الوجه المذموم فهو أن يقال: من فلان على فلان إذا استعظم ما أعطاه، وافتخر بذلك قال الشاعر في ذلك:

أنلت قليلا ثم أسرعت منة  فنيلك ممنون كذاك قليل

ذكر ذلك أبو بكر الانباري،

وفي الأذى قولان.

احدهما: أنه مواجهة الفقير بما يؤذيه مثل أن يقول له أنت أبدا فقير، وقد بليت بك وأراحني اللّه منك.

والثاني: أن يخبر باحسانه إلى الفقير من يكره الفقير إطلاعه على ذلك وكلا القولين يؤذي الفقير، وليس من صفة المخلصين في الصدقة، ولقد حدثنا عن حسان بن أبي سنان أنه كان يشتري أهل بيت الرجل، وعياله ثم يعتقهم جميعا، ولا يتعرف اليهم ولا يخبرهم من هو.

٢٦٣

قوله تعالى: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} أي: قول جميل، للفقير مثل أن يقول له: يوسع اللّه عليك

{وَمَغْفِرَةٌ} أي: يستر على المسلم خلته وفاقته،

وقيل: أراد بالمغفرة التجاوز عن السائل إن استطال على المسؤول وقت رده

{خَيْرٌ مّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} وقد سبق بيانه.

٢٦٤

قوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَـٰتِكُم} أي: لا تبطلوا ثوابها كما تبطل ثواب صدقة المرائي الذي لا يؤمن باللّه وهو المنافق

{فَمَثَلُهُ} أي: مثل نفقته كمثل صفوان قال ابن قتيبه: الصفوان: الحجر، والوابل: أشد المطر، والصلد الأملس، وقال الزجاج: الصفوان: الحجر الأملس، وكذلك الصفا، وقال ثعلب: الصلد النقي، وروي عن ابن عباس، وقتادة

{فَتَرَكَهُ صَلْدًا} قالا ليس عليه شيء وهذا مثل ضربه اللّه تعالى للمرائي بنفقته لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء مما أنفق.

٢٦٥

قوله تعالى: {مرضات ٱللّه} أي: طلبا لرضاه

وفي معنى التثبيت قولان.

احدهما: أنه الإنفاق على يقين وتصديق، وهذا قول الشعبي وقتادة، والسدي في آخرين.

والثاني: أنه التثبيت لارتياد محل الإنفاق فهم ينظرون اين يضعونها، وهذا قول الحسن، و مجاهد وابي صالح. قوله تعالى:

{كَمَثَلِ جَنَّةٍ} الجنة: البستان: وقرأ مجاهد، وعاصم الجحدري حبة بالحاء، والربوة: ما ارتفع، وقرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وحمزة، والكسائي، بربوة بضم الراء، وقرأ عاصم، وابن عامر بفتح الراء، وقرأ الحسن، والأعمش بكسر الراء وقرأ ابن عباس وابو رزين برباوة بزيادة ألف وفتح الراء، وقرأ أبي بن كعب وعاصم الجحدري كذلك إلا أنهما ضما الراء، وكذلك خلافهم في المؤمنين قال الزجاج: يقال ربوة وربوة وربوة ورباوة، والموضع: المرتفع من الارض. إذا كان له ما يرويه من الماء. فهو أكثر ريعا من السفل وقال ابن قتيبة الربوة الارتفاع، وكل شيء ارتفع وزاد فقد ربا ومنه الربا في البيع. قوله تعالى:

{فَأَتَتْ أُكُلَهَا} قرأ ابن كثير، ونافع أكلها والأكل، بسكون الكاف حيث وقع ووافقهما ابو عمرو فيما أضيف إلى مؤنث مثل

{أُكُلُهَا دَائِمٌ} فأما ما أضيف إلى مذكر مثل أكله أو كان غير مضاف إلى مكنى مثل {أُكُلٍ خَمْطٍ} فثقله ابو عمرو وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي جيمع ذلك مثقلا، وأكلها أي ثمرها

{ضِعْفَيْنِ} أي مثلين فأما الظل فقال ابن قتيبة هو أضعف المطر، وقال الزجاج هو المطر الدائم الصغار القطر الذي لا تكاد تسيل منه المثاعب قال ثعلب: وهذا لفظ مستقبل وهو لأمر ماض فمعناه فان لم يكن أصابها وابل فطل، ومعنى هذا المثل أن صاحب هذه الجنة لا يخيب فإنها إن أصابها الطل حسنت، وإن أصابها الوابل أضعفت فكذلك نفقة المؤمن المخلص، والبصير من أسماء اللّه تعالى معناه المبصر قال الخطابي وهو فعيل بمعنى مفعل كقولهم أليم بمعنى مؤلم.

٢٦٦

قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} هذه الآية متصلة بقوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَـٰتِكُم} ومعنى أيود أيحب و إنما ذكر النخيل والأعناب لأنهما من أنفس ما يكون في البساتين، وخص ذلك بالكبير لأنه قد يئس من سعي الشباب في اكسابهم. قوله تعالى:

{وَلَهُ ذُرّيَّةٌ ضُعَفَاء} أي ضعاف و إذا ضعفت الذرية كان أحنى عليهم وأكثر إشفاقا

{فَأَصَابَهَا} يعني: الجنة {إِعْصَارٌ} وهي ريح شديدة تهب بشدة فترفع إلى السماء ترابا كانه عمود.

قال الشاعر:

إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا

أي: لاقيت أشد منك.

فان قيل: كيف جاز في الكلام أن يكون له جنة فأصابها، ولم يقل: فيصيبها؟ أفيجوز أن يقال: أتود أن يصيب مالا فضاع والمراد: فيضيع؟

فالجواب أن ذلك جائز في «وددت» لأن العرب تلقاها «مرة» أن ومرة «لو» فيقولون وددت لو ذهبت عنا وددت أن تذهب عنا قاله الفراء، وثعلب.

فصل وهذا الآية مثل ضربه اللّه تعالى في الحسرة بسلب النعمة عند شدة الحاجة وفيمن قصد به ثلاثة أقوال.

احدها: أنه مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عمره قاله ابن عباس.

والثاني: أنه مثل للمفرط في طاعة اللّه تعالى حتى يموت، قاله مجاهد.

والثالث: أنه مثل للمرائي في النفقة ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه، قاله السدي.

٢٦٧

قوله تعالى: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيّبَـٰتِ مَا كَسَبْتُمْ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أن الأنصار كانوا إذا جذوا النخل جاء كل رجل بشيء من ذلك فعلقه في المسجد، فيأكل منه فقراء المهاجرين، وكان أناس ممن لا يرغب في الخير يجيء أحدهم بالقنو فيه الحشف والشيص فيعلقه، فنزلت هذه الآية. هذا قول البراء بن عازب

والثاني: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر بزكاة الفطر، فجاء رجل بتمر رديء فنزلت هذه الآية. هذا قول جابر بن عبد اللّه،

وفي المراد بهذه النفقة قولان.

احدهما: أنها الصدقة المفروضة، قاله عبيدة السلماني في آخرين.

والثاني: أنها التطوع

وفي المراد بالطيب هاهنا: قولان.

احدهما: أنه الجيد الأنفس، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه الحلال، قاله أبو معقل في آخرين. قوله تعالى:

{وَلاَ تَيَمَّمُواْ} أي: لا تقصدوا والتيمم في اللغة: القصد قال ميمون ابن قيس الأعشى: تيممت قيسا وكم دونه  من الارض من مهمه ذي شزن

وفي الخبيث قولان.

احدهما: أنه الرديء، قاله الأكثرون وسبب الآية يدل عليه.

والثاني: أنه الحرام، قاله ابن زيد. قوله تعالى:

{وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} قال ابن عباس لو كان بعضكم يطلب من بعض حقا له ثم قضاه ذلك ولم يأخذه إلى أن يرى أنه قد أغمض عن بعض حقه وقال ابن قتيبة: أصل هذا أن يصرف المرء بصره عن الشيء، ويغمضه، فسمي الترخص إغماضا. ومنه قول الناس للبائع: أغمض، أي: لا تشخص، وكن كأنك لا تبصر.

وقال غيره: لما كان الرجل إذا رأى ما يكره، أغمض عينيه، لئلا يرى جميع ما يكره؛ جعل التجاوز والمساهلة في كل شيء إغماضا. قوله تعالى:

{وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللّه غَنِيٌّ} قال الزجاج: لم يأمركم بالتصدق عن عوز، لكنه بلا أخباركم، فهو حميد على ذلك. يقال: قد غني زيد، يغنى غنى مقصورا: إذا استغنى، وقد غني القوم: إذا نزلوا في مكان يغنيهم، والمكان الذي ينزلون فيه مغنى. والغواني: النساء، قيل: إنما سمين بذلك، لأنهن غنين بجمالهن، وقيل: بأزواجهن. فأما «الحميد» فقال الخطابي: هو بمعنى المحمود، فعيل بمعنى مفعول.

٢٦٨

قوله تعالى: {ٱلشَّيْطَـٰنُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ} قال الزجاج: يقال: وعدته أعده وعدا وعدة وموعدا وموعدة وموعودا، ويقال: الفقر، والفقر. ومعنى الكلام: يحملكم على أن تؤدوا في الصدقات الرديء، يخوفكم الفقر بإعطاء الجيد. ومعنى: يعدكم الفقر، أي: بالفقر، وحذفت الباء.

قال الشاعر:

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به  فقد تركتك ذا مال وذا نشب

وفي الفحشاء قولان.

احدهما: البخل.

والثاني: المعاصي. قال ابن عباس: واللّه يعدكم مفغرة لفحشائكم، وفضلا في الرزق.

٢٦٩

قوله تعالى: {يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء}

في المراد بهذه الحكمة احد عشر قولا.

احدها: أنها القرآن، قاله ابن مسعود، و مجاهد، و الضحاك، و مقاتل في آخرين.

والثاني: معرفة ناسخ القرآن، ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومقدمه، ومؤخره، ونحو ذلك، رواه على بن ابي طلحة عن ابن عباس.

والثالث: النبوة، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والرابع: الفهم في القرآن، قاله أبوالعالية، وقتادة، و إبراهيم.

والخامس: العلم والفقه، رواه ليث عن مجاهد.

والسادس: الإصابه في القول، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.

والسابع: الورع في دين اللّه، قاله الحسن.

والثامن: الخشية للّه، قاله الربيع بن أنس.

والتاسع: العقل في الدين، قاله ابن زيد.

والعاشر: الفهم، قاله شريك.

والحادي عشر: العلم والعمل لا يسمى الرجل حكيما إلا إذا جمعهما، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى:

{وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} قرأ يعقوب بكسر تاء «يؤت» ووقف عليها بهاء. والمعنى: ومن يؤته اللّه الحكمة. وكذلك هي في قراءة ابن مسعود بهاء بعد التاء. قوله تعالى:

{وَمَا يَذَّكَّرُ} قال الزجاج: أي وما يتفكر فكرا يذكره به ما قص من آيات القرآن إلا ذوو العقول. قال ابن قتيبة: «أولو» بمعنى: ذوو، وواحد «اولو» «ذو»، و«أولات»: «ذات».

٢٧٠

قوله تعالى: {أَوْ نَذَرْتُم مّن نَّذْرٍ} النذر: ما اوجبه الإنسان على نفسه، وقد يكون مطلقا، ويكون معلقا بشرط

{فَإِنَّ ٱللّه يَعْلَمُهُ} قال مجاهد: يحصيه، وقال الزجاج: يجازى عليه.

وفي المراد بالظالمين هاهنا، قولان.

احدهما: انهم المشركون، قاله مقاتل.

الثاني: المنفقون بالمن والأذى والرياء، والمنذرون في المعصية، قاله أبو سليمان الدمشقي. والأنصار: المانعون. فمعناه: مالهم مانع يمنعهم من عذاب اللّه.

٢٧١

قوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَـٰتِ فَنِعِمَّا هِىَ} قال ابن السائب: لما نزل قوله تعالى:

{وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ} قالوا: يا رسول اللّه، صدقة السر أفضل، أم العلانية؟ فنزلت هذه الآية قال الزجاج: يقال: بدا الشيء يبدو: إذا ظهر، وأبديته إبداء: إذا أظهرته، وبدا لي بداء: إذا تغير رأيي عما كان عليه. قوله تعالى:

{فَنِعِمَّا هِىَ} في «نعم» اربع لغات «نعم» بفتح النون وكسر العين، مثل: علم. و«نعم» بكسرها، و«نعم» بفتح النون، وتسكين العين، و«نعم» بكسر النون، وتسكين العين. وأما قوله

{فَنِعِمَّا هِىَ} فقرا نافع في غير رواية «ورش»، وابو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر، والمفضل: «فنعما» بكسر النون، والعين ساكنة. وقرأ ابن كثير، وعاصم في رواية حفص، ونافع في رواية «ورش» ويعقوب بكسر النون والعين. وقرأ ابن عامر، وحمزة والكسائي، وخلف: «فنعما» بفتح النون، وكسر العين، وكلهم شددوا الميم. وكذلك خلافهم في سورة النساء. قال الزجاج: «ما» في تأويل الشيء، أي: فنعم الشيء هي. وقال أبو علي: نعم الشيء إبداؤها. وقوله تعالى:

{فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} يعني الإخفاء.

واتفق العلماء على أن إخفاء الصدقة النافلة أفضل من إظهارها،

وفي الفريضة قولان.

احدهما: أن إظهارها أفضل، قاله ابن عباس في آخرين. واختاره القاضي أبو يعلى. وقال الزجاج: كان إخفاء الزكاة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أحسن، فأما اليوم، فالناس يسيؤون الظن، فاظهارها أحسن.

والثاني: إخفاؤها أفضل، قاله الحسن، وقتادة، و يزيد بن أبي حبيب. وقد حمل أرباب القول الأول الصدقات في الآية على الفريضة، وحملوا

{وَإِن تُخْفُوهَا} على النافلة، وهذا قول عجيب.

و إنما فضلت صدقة السر لمعنيين.

احدهما: يرجع إلى المعطي، وهو بعده عن الرياء، وقربه من الإخلاص، والإعراض عما تؤثر النفس من العلانية.

والثاني: يرجع إلى المعطى، وهو دفع الذل عنه باخفاء الحال، لأنه في العلانية ينكسر. قوله تعالى:

{وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ} قرأ ابن كثير، و أبو عمر، وابو بكر، عن عاصم و{نُكَفّرْ عَنْكُمْ} بالنون والرفع، والمعنى: ونحن نكفر عنكم، ويجوز أن: يكون مستأنفا. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: و«نكفر» بالنون وجزم الراء. قال أبو علي: وهذا على حمل الكلام على موضع قوله:

{فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأن قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} في موضع جزم، ألا ترى أنه لو قال: وإن تخفوها يكون أعظم لأجركم لجزم، ومثله {لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} [المنافقون: ١٠] حمل قوله. و «أكن» على موضع«فأصدق». وقرأ ابن عامر: و«يكفر» بالياء والرفع، وكذلك عن حفص عن عاصم على الكناية عن اللّه عز وجل، وقرأ أبان عن عاصم، و«تكفر» بالتاء المرفوعة، وفتح الفاء مع تسكين الراء. قوله تعالى:

{مّن سَيّئَاتِكُمْ} في «من» قولان.

احدهما: أنها زائدة.

والثاني: أنها داخلة للتبعيض. قال أبو سليمان الدمشقي: ووجه الحكمة في ذلك أن يكون العباد على خوف ووجل.

٢٧٢

قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أن المسلمين كرهوا أن يتصدقوا على أقربائهم من المشركين، فنزلت هذه الآية، هذا قول الجمهور.

والثاني: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، قال:

«لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم» فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير. والخير في الآية، اريد به المال، قاله ابن عباس، و مقاتل. ومعنى:

{فَلاِنفُسِكُمْ}، أي: فلكم ثوابه. قوله تعالى:

{وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ٱبْتِغَاء وَجْهِ ٱللّه} قال الزجاج: هذا خاص للمؤمنين، أعلمهم اللّه أنه قد علم أن مرادهم ما عنده، و إذا أعلمهم بصحة قصدهم، فقد أعلمهم بالجزاء عليه. قوله تعالى:

{يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} أي: توفون أجره. ومعنى الآية: ليس عليك أن يهتدوا، فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام، فان تصدقتم عليهم أثبتم. و الآية محمولة على صدقة التطوع، إذ لا تجوز أن يعطى الكافر من الصدقة المفروضة شيئا.

٢٧٣

قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللّه} لما حثهم على الصدقات والنفقات، دلهم على خير تصدق عليه. وقد تقدم تفسير الإحصار عند قوله {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة:١١]

وفي المراد ب {ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ} أربعة أقوال.

احدها: انهم أهل الصفة حبسوا انفسهم على طاعة اللّه، ولم يكن لهم شيء، قاله ابن عباس، و مقاتل.

والثاني: انهم فقراء المهاجرين، قاله مجاهد.

والثالث: انهم قوم حبسوا انفسهم على الغزو، فلا يقدرون على الاكتساب، قاله قتادة.

والرابع: انهم قوم أصابتهم جراحات مع النبي صلى اللّه عليه وسلم، فصاروا زمنى، قاله سعيد بن جبير، واختاره الكسائي، وقال: أحصروا من المرض، ولو أراد الحبس، لقال: حصروا، و إنما الإحصار من الخوف، أو المرض. والحصر: الحبس في غيرهما. وفي سبيل اللّه قولان.

احدهما: أنه الجهاد.

والثاني: الطاعة. وفي الضرب في الارض قولان.

احدهما: أنه الجهاد لم يمكنهم لفقرهم، نقل عن ابن عباس.

والثاني: الكسب، قاله قتادة. وفي الذي منعهم من ذلك ثلاثة أقوال.

احدها: الفقر، قاله ابن عباس.

والثاني: أمراضهم، قاله ابن جبير، و ابن زيد.

والثالث: التزامهم بالجهاد، قاله الزجاج. قوله تعالى:

{يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ} قرأ ابن كثير، ونافع، و ابو عمرو، والكسائي «يحسبهم» و «يحسبن» بكسر السين في جميع القرآن. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، وابو جعفر، بفتح السين في الكل. قال أبو علي: فتح السين أقيس، لأن الماضي إذا كان على «فعل»، نحو: حسب، كان المضارع على «يفعل»، مثل: فرق يفرق، وشرب يشرب، والكسر حسن لموضع السمع. قال ابن قتيبة: لم يرد الجهل الذي هو ضد العقل، إنما أراد الجهل الذي هو ضد الخبر، فكأنه قال: يحسبهم من لا يخبر أمرهم. والتعفف: ترك السؤال، يقال: عف عن الشيء وتعفف. والسيما: العلامة التي يعرف بها الشيء، وأصله من السمة.

وفي المراد بسيماهم ثلاثة أقوال.

احدها: تجملهم، قاله ابن عباس.

والثاني: خشوعهم قاله مجاهد.

والثالث: أثر الفقر عليهم، قاله السدي. والربيع بن أنس، وهذا يدل على أن للسيما حكما يتعلق بها. قال إمامنا احمد في الميت يوجد في دار الحرب، ولا يعرف أمره: ينظر إلى سيماه، فان كان عليه سيما الكفار من عدم الختان، حكم له بحكمهم، فلم يدفن في مقابر المسلمين، ولم يصل عليه، و إن كان عليه سيما المسلمين حكم هل بحكمهم. وأما الإلحاف، فهو: الإلحاح، قال ابن قتيبة: يقال: ألحف في المسألة: إذا ألح، وقال الزجاج: معنى ألحف: شمل بالمسألة، ومنه اشتقاق اللحاف، لأنه يشمل الانسان بالتغطية،

فان قيل: فهل كانوا يسألون غير ملحفين؟

فالجواب: أن لا، و إنما معنى الكلام: أنه لم يكن منهم سؤال، فيكون إلحاف.

قال الأعشى:

لا يغمز الساق من أين ولا وصب  ولا يعض على شرسوفه الصفر

معناه: ليس بساقه أين ولا وصب، فيغمزها لذلك. قال الفراء: ومثله أن تقول: قلما رأيت مثل هذا الرجل، ولعلك لم تر قليلا ولا كثيرا من أشباهه، فهم لا يسألون الناس إلحافا، ولا غير إلحاف. و إلى نحو هذا ذهب الزجاج، و ابن الأنباري في آخرين.

٢٧٤

قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ سِرّا وَعَلاَنِيَةً}

اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال.

احدها: أنها نزلت في الذين يرتبطون الخيل في سبيل اللّه عز وجل، رواه حنش الصنعاني عن ابن عباس وهو قول أبي الدرداء، و ابي أمامه، ومكحول، والأوزاعي في آخرين.

والثاني: نزلت في علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، فانه كان معه أربعة دراهم، فأنفق في الليل درهما وبالنهار درهما، وفي السر درهما، وفي العلانية درهما، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، و ابن السائب، و مقاتل.

والثالث: أنها نزلت في علي، وعبد الرحمن بن عوف، فان عليا بعث بوسق من تمر إلى أهل الصفة ليلا، وبعث عبد الرحمن إليهم بدنانير كثيرة نهارا، رواه الضحاك عن ابن عباس.

٢٧٥

قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرّبَوٰاْ} الربا: أصله في اللغة: الزيادة، ومنه الربوة والرابية، و أربى فلان على فلان: زاد. وهذا الوعيد يشمل الآكل، والعامل به، و إنما خص الآكل بالذكر، لأنه معظم المقصود. وقد صح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، أنه:

«لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه» قوله تعالى:

{لاَ يَقُومُونَ} قال ابن قتيبة أي: يوم البعث من القبور. والمس: الجنون، يقال: رجل ممسوس. فالناس إذا خرجوا من قبورهم اسرعوا كما قال تعالى:

{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلاْجْدَاثِ سِرَاعاً} [المعارج: ٤٣] إلا أكله الربا، فانهم يقومون ويسقطون، لأن اللّه أربى الربا في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم، فلا يقدرون على الإسراع. وقال سعيد بن جبير: تلك علامة آكل الربا إذا استحله يوم القيامة. قوله تعالى:

{ذٰلِكَ} أي هذا الذي ذكر من عقابهم

{بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرّبَوٰاْ} وقيل: إن ثقيفا كانوا اكثر العرب ربا، فلما نهوا عنه؛ قالوا: إنما هو مثل البيع. قوله تعالى:

{فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ} قال الزجاج: كل تأنيث ليس بحقيقي، فتذكيره جائز، ألا ترى أن الوعظ والموعظة معبران عن معنى واحد. قوله تعالى:

{فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي: ما أكل من الربا.

وفي قوله تعالى: {وَأَمْرُهُ إِلَى ٱللّه} قولان.

احدهما: أن «الهاء» ترجع إلى المربي، فتقديره: إن شاء عصمه منه، وإن شاء لم يفعل، قاله سعيد بن جبير، و مقاتل.

والثاني: أنها ترجع إلى الربا، فمعناه: يعفو اللّه عما شاء منه، ويعاقب على ما شاء منه، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى:

{وَمَنْ عَادَ} قال ابن جبير: من عاد إلى الربا مستحلا محتجا بقوله تعالى: {إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرّبَوٰاْ}

٢٧٦

قوله تعالى: {يَمْحَقُ ٱللّه ٱلْرّبَوٰاْ} فيه قولان.

احدهما: أن معنى محقه: تنقيصه واضمحلاله، ومنه محاق الشهر لنقصان الهلال فيه. روي هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير.

والثاني: أنه إبطال ما يكون منه من صدقة ونحوها، رواه الضحاك عن ابن عباس. قوله تعالى:

{وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَـٰتِ} قال ابن جبير: يضاعفها. والكفار: الذي يكثر فعل ما يكفر به، والأثيم: المتمادي في ارتكاب الإثم المصر عليه.

٢٧٧

{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ...}

٢٧٨

قوله تعالى: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللّه وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ٱلرّبَوٰاْ} في نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أنها نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف، وفي بني المغيرة من بني مخزوم، وكان بنو المغيرة يأخذون الربا من ثقيف، فلما وضع اللّه الربا، طالبت ثقيف بني المغيرة بما لهم عليهم، فنزلت هذه الآية، والتي بعدها هذا قول ابن عباس.

والثاني: أنها نزلت في عثمان بن عفان، والعباس، كانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجذاذ، قال صاحب التمر: إن أخذتما مالكما، لم يبق لي ولعيالي ما يكفي، فهل لكما أن تأخذا النصف وأضعف لكما؟ ففعلا، فلما حل الأجل، طلبا الزيادة فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم، فنهاهما، فنزلت هذه الآية، هذا قول عطاء وعكرمة.

والثالث: أنها نزلت في العباس، وخالد بن الوليد، وكانا شريكين في الجاهلية، وكانا يسلفان في الربا، فجاء الإسلام، ولهما أموال عظيمة في الربا، فنزلت هذه الآية، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس» هذا قول السدي. قال ابن عباس، وعكرمة، والضحاك: إنما قال:

{مَا بَقِىَ مِنَ ٱلرّبَوٰاْ} لأن كل ربا كان قد ترك، فلم يبق إلا ربا ثقيف. وقال قوم: الآية محمولة على من أربى قبل إسلامه، وقبض بعضه في كفره، ثم أسلم، فيجب عليه أن يترك ما بقي، ويعفى له عما مضى. فأما المراباة بعد الإسلام، فمردوده فيما قبض، ويسقط ما بقي. قوله تعالى:

{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ} قرأ ابن كثير، ونافع، و ابو عمرو، وابن عامر

{فَأْذَنُواْ} مقصورة، مفتوحة الذال. وقرأ حمزة، و أبو بكر عن عاصم: «فآذنوا» بمد الألف وكسر الذال. قال الزجاج: من قرأ: فأذنوا، بقصر الألف، وفتح الذال، فالمعنى: أيقنوا. ومن قرأ بمد الألف، وكسر الذال، فمعناه: أعلموا كل من لم يترك الربا أنه حرب. قال ابن عباس: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. قوله تعالى:

{وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْوٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} أي: التي أقرضتموها، لا تظلمون، فتأخذون أكثر منها، ولا تظلمون فتنقصون منها، والجمهور على فتح «تاء» تظلمون الأولى، وضم «تاء» تظلمون الثانية. وروى المفضل عن عاصم: ضم الأولى، وفتح الثانية.

٢٨٠

قوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} ذكر ابن السائب، و مقاتل أنه لم نزل قوله تعالى: {وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ٱلرّبَوٰاْ} [البقرة: ٢٧٨] قال بنو عمرو بن عمير لبني المغيرة: هاتوا رؤوس أموالنا، وندع لكم الربا، فشكا بنو المغيرة العسرة، فنزلت هذا الآية فأما العسرة، فهي الفقر، والضيق. والجمهور على تسكين السين، وضمها أبو جعفر هاهنا، و {في سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ}[التوبة ١١٧]

وقرأ الجمهور بفتح سين «الميسرة» وضمها نافع، وتابعه زيد عن يعقوب على ضم السين، إلا أنه زاد، فكسر الراء، وقلب التاء هاء، ووصلها بباء. قال الزجاج: ومعنى و إن كان: وإن وقع. والنظرة: التأخير، فأمرهم بتأخير رأس المال بعد إسقاط الربا إذا كان المطالب معسرا، وأعلمهم أن الصدقة عليه بذلك أفضل بقوله تعالى:

{وَأَن تَصَدَّقُواْ} والأكثرون على تشديد الصاد، وخففها عاصم مع تشديد الدال. وسكنها ابن أبي عبلة مع ضم الدال فجعله من الصدق.

٢٨١

قوله تعالى: {وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللّه} قرأ ابو عمرو بفتح تاء «ترجعون» وضمها الباقون. قاله ابن عباس، و أبو سعيد الخدري، وسعيد بن جبير، وعطية، و مقاتل في آخرين: هذه آخر آية نزلت من القرآن.

قال ابن عباس: وتوفي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعدها بأحد وثمانين يوما، وقال ابن جريج: توفي بعدها بتسع ليال. وقال مقاتل: بسبع ليال. قوله تعالى:

{ثُمَّ ٱللّه كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي: تعطى جزاء ما كسبت.

٢٨٢

قوله تعالى: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} قال الزجاج: يقال: داينت الرجل إذا عاملته، فأخذت منه بدين، وأعطيته.

قال الشاعر:

داينت أروى والديون تقضى  فماطلت بعضا وأدت بعضا

والمعنى: إذا كان لبعضكم على بعض دين إلى أجل مسمى، فاكتبوه، فأمر اللّه تعالى بكتابة الدين، وبالإشهاد، حفظا منه للأموال، وللناس من الظلم، لأن من كانت عليه البينة، قل تحديثه لنفسه بالطمع في إذهابه. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في السلم خاصة.

فان قيل: ما الفائدة في قوله «بدين» و«تداينتم» يكفي عنه؟

فالجواب: أن تداينتم يقع على معنيين.

احدهما: المشاراة والمبايعة والإقراض.

والثاني: المجازاة بالأفعال،

فالأول يقال فيه: الدين بفتح الدال،

والثاني: يقال منه: الدين بكسر الدال. قال تعالى:

{يَسْـئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلدّينِ} [الذاريات:١٢] أي: يوم الجزاء.

وأنشدوا

.... دناهم كما دانوا فدل

قوله: «بدين» على المراد بقوله «تداينتم» ذكره ابن الأنباري. فأما العدل فهو الحق. قال قتادة: لا تدعن حقا، ولا تزيدن باطلا. قوله تعالى:

{وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ} أي: يمتنع أن يكتب كما علمه اللّه، وفيه قولان.

احدهما: كما علمه اللّه الكتابة، قاله سعيد بن جبير. وقال الشعبي: الكتابة فرض على الكفاية كالجهاد.

والثاني: كما أمره اللّه به الحق، قاله الزجاج. قوله تعالى:

{وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ} قال سعيد بن جبير: يعني المطلوب، يقول: ليمل ما عليه من حق الطالب على الكاتب،

{وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} أي: لا ينقص عند الإملاء. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: أمللت أمل، وأمليت أملي لغتان، فأمليت من الإملاء وأمللت من الملل والملال، لأن الممل يطيل قوله على الكاتب ويكرره. قوله تعالى:

{فَإن كَانَ ٱلَّذِى عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهًا}

في المراد بالسفيه هاهنا أربعة أقوال.

احدها: أنه الجاهل بالأموال، والجاهل بالإملاء. قاله مجاهد، وابن جبير.

والثاني: أنه الصبي والمرأة، قاله الحسن.

والثالث: أنه الصغير، قاله الضحاك، والسدي.

والرابع: أنه المبذر، قاله القاضي أبو يعلى.

وفي المراد بالضعيف ثلاثة أقوال.

احدها: أنه العاجز والأخرس، ومن به حمق، قاله ابن عباس، وابن جبير.

والثاني: أنه الأحمق، قاله مجاهد، والسدي.

والثالث: أنه الصغير قاله القاضي أبو يعلى. قوله تعالى:

{أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ} قاله ابن عباس: لا يستطيع لعيه. وقال ابن جبير: لا يحسن أن يمل ما عليه، وقال القاضي أبو يعلى: هو المجنون. قوله تعالى:

{فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ} في هاء الكناية قولان.

احدها: أنها تعود إلى الحق، فتقديره: فليملل ولي الحق، هذا قول ابن عباس، وابن جبير، والربيع بن أنس، و مقاتل، واختاره ابن قتيبة.

والثاني: أنها تعود إلى الذي عليه الحق، وهذا قول الضحاك، وابن زيد، واختاره الزجاج، وعاب قول الأولين، فقال: كيف يقبل قول المدعي؟ٰ وما حاجته إلى الكتاب والإشهاد، والقول قوله؟ٰ وهذا اختيار القاضي أبي يعلى أيضا. والعدل: الإنصاف. وقي قوله تعالى:

{مّن رّجَالِكُمْ} قولان.

احدهما: أنه يعني الأحرار، قاله مجاهد.

والثاني: أهل الإسلام، وهذا اختيار الزجاج، والقاضي أبي يعلى، ويدل عليه أنه خاطب المؤمنين في أول الآية. قوله تعالى:

{فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} أراد: فان لم يكن الشهيدان رجلين

{فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ} ولم يرد به: إن لم يوجد رجلان. قوله تعالى:

{مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَاء} قال ابن عباس: من أهل الفضل والدين. قوله تعالى:

{أَن تَضِلَّ إحداهما فَتُذَكّرَ إحداهما ٱلاْخْرَىٰ} ذكر الزجاج، أن الخليل، وسيبويه، وسائر النحويين الموثوق بعلمهم، قالوا: معناه: استشهدوا امرأتين، لأن تذكر إحداهما الأخرى. ومن أجل أن تذكر إحداهما الأخرى. وقرأ حمزة «إن تضل» بكسر الألف. والضلال هاهنا: النسيان، قاله ابن عباس و الضحاك، والسدي والربيع، و مقاتل، و أبو عبيدة، و ابن قتيبة. وأما قوله: «فتذكر» فقرأ ابن كثير، و ابو عمرو، بالتخفيف مع نصب الراء، وقرأ حمزة بالرفع مع تشديد الكاف، وقرأ الباقون بالنصب، وتشديد الكاف، فمن شدد أراد الإدكار عند النسيان،

وفي قراءة من خفف قولان.

احدهما: أنها بمعنى المشددة أيضا، وهذا قول الجمهور. قال الضحاك، والربيع بن أنس، والسدي: ومعنى القراءتين واحد.

والثاني: أنها بمعنى: تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر، وهذا مذهب سفيان بن عيينة، وحكى الأصمعي عن أبي عمرو نحوه، واختاره القاضي أبو يعلى، وقد رده جماعة، منهم ابن قتيبة. قال أبو علي: ليس مذهب ابن عيينة بالقوي، لأنهن لو بلغن، ما بلغن، لم تجز شاهدتهن إلا أن يكون معهن رجل، ولأن الضلال هاهنا: النسيان، فينبغي أن يقابل بما يعادله، وهو التذكير. قوله تعالى:

{وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ} قال قتادة: كان الرجل يطوف في الحواء العظيم، [فيه القوم، فيدعوهم إلى الشهادة] فلا يتبعه منهم احد، فنزلت هذه الآية.

و إلى ماذا يكون هذا الدعاء؟ فيه ثلاثة أقوال.

احدها: إلى تحمل الشهادة، و إثباتها في الكتاب، قاله ابن عباس، وعطية، وقتادة، والربيع.

والثاني: إلى إقامتها وأدائها عند الحكام بعد أن تقدمت شهادتهم بها، قاله سعيد بن جبير، وطاووس، و مجاهد، وعكرمة، وعطاء، والشعبي، وأبو مجلز، و الضحاك، وابن زيد. ورواه الميموني عن احمد ابن حنبل.

والثالث: إلى تحملها و إلى أدائها، روي عن ابن عباس، والحسن، واختاره الزجاج، قال القاضي أبو يعلى: إنما يلزم الشاهد أن لا يأبى إذا دعي لإقامة الشهادة إذا لم يوجد من يشهد غيره، فأما إن كان قد تحملها جماعة، لم تتعين عليه، وكذلك في حال تحملها، لأنه فرض على الكفاية كالجهاد، فلا يجوز لجميع الناس الامتناع منه. قوله تعالى:

{وَلاَ يَأْبَ} أي: لا تملوا وتضجروا أن تكتبوا القليل والكثير الذي قد جرت العادة بتأجيله إلى أجله، أي: إلى محل أجله

{ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللّه} أي: أعدل، {وَأَقْوَمُ} لأن الكتاب يذكر الشهود جميع ما شهدوا عليه

{لِلشَّهَـٰدَةِ وَأَدْنَى} أي: أقرب {أَلاَّ تَرْتَابُواْ} أي: لا تشكوا

{إِلا أَن تَكُونَ} الأموال {تِجَـٰرَةً} أي: إلا أن تقع تجارة. وقرأ عاصم «تجارة» بالنصب على معنى: إلا أن تكون الأموال تجارة حاضرة، وهي البيوع التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل، فأباح ترك الكتاب فيها توسعة، لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في مأكول أو مشروب. قوله تعالى:

{وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ} الإشهاد مندوب إليه فيما جرت العادة بالإشهاد عليه.

فصل

وهذا الآية تتضمن الأمر باثبات الدين في كتاب، وإثبات شهادة في البيع والدين.

واختلف العلماء، هل هذا أمر وجوب، أم على وجه الاستحباب؟ فذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب فعلى هذا هو محكم، وذهبت طائفة إلى أن الكتاب والإشهاد واجبان،

روي عن ابن عمر، وابي موسى، و مجاهد، وابن سيرين، وعطاء، و الضحاك، و أبي قلابة، والحكم، وابن زيد. ثم اختلف هؤلاء هل هذا الحكم باقٍ، أم منسوخ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه محكم غير منسوخ، وذهبت طائفة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ}. قوله تعالى:

{وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} قرأ أبو جعفر بتخفيف الراء من «يضار» وسكونها.

وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال.

احدها: أن معناه: لا يضار بأن يدعي وهو مشغول، هذا قول ابن عباس، و مجاهد، وعكرمة، والسدي، والربيع بن أنس، والفراء، و مقاتل. وقال الربيع: كان احدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي، فيقول: إني مشغول، فيلزمه، ويقول إنك قد أمرت بالكتابه، فيضاره، ولا يدعه، وهو يجد غيره، وكذلك يفعل الشاهد، فنزلت {وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ}.

والثاني: أن معناه: النهي للكاتب أن يضار من يكتب له، بان يكتب غير ما يمل عليه، وللشاهد أن يشهد بما لم يستشهد عليه، هذا قول الحسن، وطاووس، وقتادة، وابن زيد، واختاره ابن قتيبة، و الزجاج. واحتج الزجاج على صحته بقوله تعالى:

{وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} قال: ولا يسمى من دعا كاتبا ليكتب، وهو مشغول، أو شاهد؛ فاسقا، إنما يسمى من حرف الكتاب، أو كذب في الشهادة، فاسقا.

والثالث: أن معنى المضارة: امتناع الكاتب أن يكتب، والشهادة أن يشهد، وهذا قول عطاء في آخرين. قوله تعالى:

{وَإِن تَفْعَلُواْ} يعني: المضارة.

٢٨٣

قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ} إنما خص السفر، لأن الأغلب عدم الكاتب، والشاهد فيه. ومقصود الكلام: إذا عدمتم التوثق بالكتاب، والاشهاد، فخذوا الرهن. قوله تعالى:

{فَرِهَـٰنٌ} قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وعبد الوارث {فَرِهَـٰنٌ} بضم الراء والهاء من غير ألف، وأسكن الهاء عبد الوارث. ووجهه التخفيف.

وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزه، والكسائي {فَرِهَـٰنٌ} بكسر الراء، وفتح الهاء، وإثبات الألف. قال ابن قتيبة: من قرأ {فَرِهَـٰنٌ} أراد: جمع رهن، ومن قرأ {فَرِهَـٰنٌ} أراد: جمع رهان، فكأنه جمع الجمع. قوله تعالى:

{مَّقْبُوضَةٌ} يدل على أن من شرط لزوم الرهن القبض، وقبض الرهن أخذه من راهنه منقولا، فان كان مما لا ينقل، كالدور والأرضين، فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه. قوله تعالى:

{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا} أي: فان وثق رب الدين بأمانة الغريم، فدفع ماله بغير كتاب، ولا شهود، ولا رهن، {فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ} وهو المدين {أَمَـٰنَتَهُ وَلْيَتَّقِ ٱللّه رَبَّهُ} أن يخون من ائتمنه. قوله تعالى:

{فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ} قال السدي عن أشياخه: فانه فاجر قلبه. قال القاضي أبو يعلى: إنما أضاف الإثم إلى القلب، لأن المآثم تتعلق بعقد القلب، وكتمان الشهادة إنما هو قد النية لترك أدائها.

٢٨٤

قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللّه} اما إبداء ما في النفس، فانه العمل بما أضمره العبد، أو النطق، وهذا مما يحاسب عليه العبد، ويؤاخذ به، وأما ما يخفيفه في نفسه،

فاختلف العلماء في المراد بالمخفي في هذه الآية على قولين.

احدهما: أنه عام في جميع المخفيات، وهو قول الاكثرين.

واختلفوا: هل هذا الحكم ثابت في المؤاخذه، أم منسوخ؟ على قولين.

احدهما: أنه منسوخ بقوله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ ٱللّه نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: ٢٨٦] هذا قول ابن مسعود، و أبي هريرة، وابن عباس في رواية والحسن، والشعبي، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعطاء، الخراساني، والسدي، وابن زيد، و مقاتل.

والثاني: أنه ثابت في المؤاخذه على العموم، فيؤاخذ به من يشاء، ويغفره لمن يشاء، وهذا مروي عن ابن عمر، والحسن، واختاره أبو سليمان الدمشقي، والقاضي أبو يعلى.

وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: هذه الآية لم تنسخ، ولكن اللّه عز وجل إذا جمع الخلائق، يقول لهم: اني مخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم، ويغفرلهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله تعالى: {يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱللّه} [هود: ٣٣] يقول يخبركم به اللّه، و أما أهل الشرك والريب، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، وهو قوله تعالى:

{فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء}والأكثرون على تسكين راء «فيغفر» وباء «يعذب» منهم ابن كثير ونافع، وابو عمرو، وحمزة، والكسائي.

و إنما جزموا لإتباع هذا ما قبله، وهو «يحاسبكم» وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم ويعقوب: برفع الراء، والباء فيهما. فهؤلاء قطعوا الكلام عن الأول، قال ابن الأنباري: وقد ذهب قوم إلى أن المحاسبة هاهنا هي إطلاع اللّه العبد يوم القيامة على ما كان حدث به نفسه في الدنيا، ليعلم أنه لم يعزب عنه شيء. قال: والذي نختاره أن تكون الآية محكمة، لأن النسخ إنما يدخل على الأمر والنهي.

وقد روي عن عائشة أنها قالت: أما ما أعلنت، فاللّه يحاسبك به، وأما ما أخفيت، فما عجلت لك به العقوبة في الدنيا.

والقول الثاني: أنه أمر خاص في نوع من المخفيات، ولأرباب هذا القول فيه قولان.

احدهما: أنه كتمان الشهادة، قاله ابن عباس في روايه وعكرمة، والشعبي.

والثاني: أنه الشك واليقين، قاله مجاهد. فعلى هذا المذكور تكون الآية محكمة.

٢٨٥

قوله تعالى: {آمن ٱلرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ} روى البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من حديث أبي مسعود البدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال:

«الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه» قال أبو بكر النقاش: معناه: كفتاه عن قيام الليل.

وقيل: إنهما نزلتا على سبب، وهو ما روى العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما أنزل اله تعالى: {ٱللّه} اشتد ذلك على أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم [فأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم جثوا على الركب] فقالوا: قد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال:«أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير» فلما قالوها وذلت بها ألسنتهم، أنزل اللّه في أثرها

{ٱلرَّسُولُ بِمَا}. قال الزجاج: لما ذكر ما تشتمل عليه هذه السورة من القصص والأحكام ختمها بتصديق نبيه، والمؤمنين. وقرأ ابن ابن عباس و{كِتَـٰبَهُ} فقيل له في ذلك، فقال: كتاب أكثر من كتب، ذهب به إلى اسم الجنس، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس. وقد وافق ابن عباس وفي قراءته حمزة، والكسائي، وخلف، وكذلك في {التحريم}، وقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر

{وَمَلَـئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ} هاهنا بالجمع، وفي {التحريم} بالتوحيد. وقرأ ابو عمرو بالجمع في الموضعين. قوله تعالى:

{وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} قرأ ابو عمرو ما أضيف إلى مكني على حرفين، مثل «رسلنا» و «رسلكم» باسكان السين، وثقل ما عدا ذلك. وعنه في قوله تعالى:

{عَلَىٰ رُسُلِكَ} روايتان، التخفيف والتثقيل وقرأ الباقون كل ما في القرآن من هذا الجنس بالتثقيل. ومعنى قوله:

{لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} أي: لا نفعل كما فعل أهل الكتاب، آمنوا ببعض، وكفروا ببعض. وقرأ يعقوب «لا يفرق» بالياء، وفتح الراء. قوله تعالى:

{غُفْرَانَكَ} أي: نسألك غفرانك. والمصير: المرجع.

٢٨٦

قوله تعالى: {لاَ يُكَلّفُ ٱللّه نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} الوسع: الطاقة. قاله ابن عباس، وقتادة. ومعناه: لا يكلفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته، كتكليف الزمن السعي، والأعمى النظر، فأما تكليف ما يستحيل من المكلف، لالفقد الآلات فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في العلم القديم أنه لا يؤمن الإيمان، فالآية محمولة على القول الأول. ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى في سياق الآية

{رَبَّنَا ولاَ تُحَمّلْنَا مَالاً طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنعا، كان السؤال عبثا، وقد أمر اللّه تعالى نبيه بدعاء قوم قال فيهم: {وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَىٰ ٱلْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً} [الكهف: ٥٧] وقال ابن الأنباري: المعنى: لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه، وان كنا مطيقين له على تجشم، وتحمل مكروه، فخاطب العرب على حسب ما تعقل، فان الرجل منهم يقول للرجل يبغضه: ما أطيق النظر إليك، وهو مطيق لذلك، لكنه يثقل عليه، ومثله قوله تعالى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ ٱلسَّمْعَ}. قوله تعالى:

{لَهَا مَا كَسَبَتْ} قال ابن عباس: لها ما كسبت من طاعة

{وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ} من معصية. قال أبو بكر النقاش: فقوله: «لها» دليل على الخير، و «عليها» دليل على الشر، وقد ذهب قوم إلى أن «كسبت» لمرة ومرات، و «اكتسبت» لا يكون إلا لشيء بعد شيء، وهما عند آخرين لغتان بمعنى واحد، كقوله عز وجل: {فَمَهّلِ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رويداً} [الطارق: ١٧]. قوله تعالى:

{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا} هذا تعليم من اللّه للخلق أن يقولوا ذلك، قال ابن الأنباري: والمراد بالنسيان هاهنا: الترك مع العمد، لأن النسيان الذي هو بمعنى الغفلة قد أمنت الآثام من جهته. والخطأ أيضا هاهنا من جهة العمد، لا من جهة السهو، يقال: أخطأ الرجل: إذا تعمد، كما يقال: أخطأ إذا غفل.

وفي «الإصر» قولان.

احدهما: أنه العهد، قاله ابن عباس، و مجاهد، و الضحاك، والسدي.

والثاني: الثقل أي: لا تثقل علينا من الفروض ما ثقلته على بني اسرائيل، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى:

{وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} فيه خمسة أقوال.

احدهما: أنه ما يصعب ويشق من الأعمال، قاله الضحاك، والسدي، وابن زيد، والجمهور.

والثاني: أنه المحبة رواه الثوري عن منصور عن إبراهيم.

والثالث: الغلمة قاله مكحول.

والرابع: حديث النفس ووساوسها.

والخامس: عذاب النار. قوله تعالى:

{أَنتَ مَوْلَـٰنَا} أي: أنت ولينا {فَٱنْصُرْنَا} أي: أعنا. وكان معاذ إذا فرغ من هذه السورة قال آمين.

﴿ ٠