ÓõæÑóÉõ Âáö ÚöãúÑóÇäó ãóÏóäöíøóÉñ æóåöíó ãöÇÆóÊóÇäö ÂíóÉð سورة آل عِمْرَانَ ذكر أهل التفسير أنها مدنية، و أن صدرا من اولها نزل في وفد نجران، قدموا النبي صلى اللّه عليه وسلم في ستين راكبا، فيهم العاقب، والسيد، فخاصموه في عيسى، فقالوا: إن لم يكن ولد اللّه، فمن أبوه؟ فنزلت فيهم صدر {ءالَ عِمْرَانَ} إلى بضع وثمانين آية منها. آل _________________________________ ١ {الم} ٢ {اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} ٣ قوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ} يعني: القرآن {بِٱلْحَقّ} يعني: العدل. {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب. وقيل: إنما قال في القرآن: «نزل» بالتشديد، وفي التوراة والانجيل: أنزل، لأن كل واحد منهما أنزل في مرة واحدة، و أنزل القرآن في مرات كثيرة. فأما التوراة، فذكر ابن قتيبة عن الفراء أنه يجلعها من: وري الزند يرى: إذا خرجت ناره، وأوريته، يريد أنها ضياء. قال ابن قتيبة: وفيه لغة اخرى: ورى يري، ويقال: وريت بك زنادي. والانجيل، من نجلت الشيء: إذا أخرجته، وولد الرجل: نجله، كأنه هو استخرجه، يقال: قبح اللّه ناجليه، أي: والديه، وقيل للماء يقطر من البئر: نجل، يقال: قد استنجل الوادي: [إذا ظهر نزوزه]. وإنجيل: إفعيل من ذلك، كأن اللّه أظهر به عافيا من الحق دارسا. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: والانجيل: أعجمي معرب، قال: وقال بعضهم: إن كان عربيا، فاشتقاقه من النجل، وهو ظهور الماء على وجه الارض، واتساعه، ونجلت الشيء: إذا استخرجته وأظهرته، فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم وقيل: هو إفعيل من النجل وهو الأصل: فالإنجيل أصل لعلوم وحكم وفي الفرقان هاهنا قولان. احدهما: أنه القرآن، قاله قتادة، والجمهور. قال أبو عبيدة: سمي القرآن فرقانا، لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر، والثاني: أنه الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى حين اختلفوا فيه، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقال السدي: في الآية تقديم وتأخير، تقديره: وأنزل التوراة، والانجيل، والفرقان. فيه هدى للناس. ٤ قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَـٰتِ ٱللّه} قال ابن عباس: يريد وفد نجران النصارى، كفروا بالقرآن، وبمحمد. والانتقام: المبالغة في العقوبة. ٥ قوله تعالى: {إِنَّ ٱللّه لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَىْء فِي ٱلاْرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء} قال أبو سليمان الدمشقي: هذا تعريض بنصارى أهل نجران فيما كانوا ينطوون عليه من كيد النبي صلى اللّه عليه وسلم وذكر التصوير في الأرحام تنبيه على أمر عيسى. ٦ قوله تعالى: {مِنْهُ آيَـٰتٌ مُّحْكَمَـٰتٌ} المحكم: المتقن المبين، وفي المراد به هاهنا ثمانية أقوال. احدها: أنه الناسخ، قاله ابن مسعود، و ابن عباس، وقتادة، والسدي في آخرين. والثاني: أنه الحلال والحرم، روي عن ابن عباس، و مجاهد. والثالث: أنه ما علم العلماء تأويله. روي عن جابر بن عبد اللّه. والرابع: أنه الذي لم ينسخ، قاله الضحاك. والخامس: أنه مالم تتكرر ألفاظه، قاله ابن زيد. والسادس: أنه ما استقل بنفسه، ولم يحتج إلى بيان، ذكره القاضي أبو يعلى عن الإمام احمد. وقال الشافعي، و ابن الأنباري: هو ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا. والسابع: أنه جميع القرآن غير الحروف المقطعة. والثامن: أنه الامر والنهي، والوعد والوعيد، والحلال والحرام، ذكر هذا والذي قبله القاضي أبو يعلى. و أم الكتاب أصله. قاله ابن عباس، وابن جبير، فكأنه قال: هن أصل الكتاب اللواتي يعمل عليهن في الاحكام، ومجمع الحلال والحرام. ٧ وفي المتشابه سبعة أقوال. احدها: أنه المنسوخ، قاله ابن مسعود، و ابن عباس، وقتادة، والسدي في آخرين. والثاني: أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل، كقيام الساعة، روي عن جابر بن عبد اللّه. والثالث: أنه الحروف المقطعة كقوله: «ألم» ونحو ذلك، قاله ابن عباس. والرابع: أنه ما اشتبهت معانيه، قاله مجاهد. والخامس: أنه ما تكررت ألفاظه، قاله ابن زيد. والسادس: أنه ما احتمل من التأويل وجوها. وقال ابن الأنباري: المحكم ما لا يحتمل التأويلات، ولا يخفى على مميز، والمتشابه: الذي تعتوره تأويلات. والسابع: أنه القصص، والأمثال، ذكره القاضي أبو يعلى. فان قيل: فما فائدة إنزال المتشابه، والمراد بالقرآن البيان والهدى؟ فعنه أربعة أجوبه. احدها: أنه لما كان كلام العرب على ضربين. احدهما: الموجز الذي لا يخفى على سامعه، ولا يحتمل غير ظاهره. والثاني: المجاز، والكنايات، ولإشارات، والتلويحات، وهذا الضرب الثاني هو المستحلى عند العرب، والبديع في كلامهم، أنزل اللّه تعالى القرآن على هذين الضربين، ليتحقق عجزهم عن الاتيان بمثله، فكأنه قال: عارضوه بأي الضربين شئتم، ولو نزل كله محكما واضحا، لقالوا: هلا نزل بالضرب المستحسن عندنا. ومتى وقع في الكلام إشارة أو كناية، أو تعريض أو تشبيه، كان أفصح وأغرب. قال امرؤ القيس: وما ذرفت عيناك إلا لنضر بي بسهميك في أعشار قلب مقتل فجعل النظر بمنزلة السهم على جهة التشبيه، فحلا هذا عند كل سامع ومنشد، وزاد في بلاغته. وقال امرؤ القيس أيضا: رمتني بسهم أصاب الفؤاد غداة الرحيل فلم أننصر وقال أيضا: فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازا ونا ء بكلكل فجعل لليل صلبا وصدرا على جهة التشبيه، نحسن بذلك شعره. وقال غيره: من كميت أجادها طابخاها لم تمت كل موتها في القدور أراد بالطابخين: الليل والنهار على جهة التشبيه. وقال آخر: تبكي هاشما في كل فجر كما تبكي على الفنن الحمام قاله آخر: عجبت لها أنى يكون غناؤها فصيحا ولم تفتح بمنطقها فمافجعل لها غناء وفما على جهة الاستعارة. والجواب الثاني: أن اللّه تعالى انزله مختبرا به عباده، ليقف المؤمن عنده، ويرده إلى عالمه، فيعظم بذلك ثوابه، ويرتاب به المنافق، فيداخله الزيغ، فيستحق بذلك العقوبة، كما ابتلاهم بنهر طالوت. والثالث: أن اللّه تعالى أراد أن يشغل أهل العلم بردهم المتشابه إلى المحكم، فيطول بذلك فكرهم، ويتصل بالبحث عنه اهتمامهم، فيثابون على تعبهم، كما يثابون على سائر عباداتهم، ولو جعل القرآن كله محكما لاستوى فيه العالم والجاهل، ولم يفضل العالم على غيره، ولماتت الخواطر، و إنما تقع الفكرة والحيلة مع الحاجة إلى الفهم. وقد قال الحكماء: عيب الغنى:أنه يورث البلادة، وفضل الفقر: أنه يبعث على الحيلة، لأنه إذا احتاج احتال. والرابع: أن أهل كل صناعة يجعلون في علومهم معاني غامضة، ومسائل دقيقة ليحرجوا بها من يعلمون، ويمرنوهم على انتزاع الجواب، لأنهم إذا قدروا على الغامض، كانوا على الواضح أقدر، فلما كان ذلك حسنا عند العلماء، جاز أن يكون ما أنزل اللّه تعالى من المتشابه على هذا النحو، وهذه الأجوبة معنى ما ذكره ابن قتيبة، و ابن الأنباري. قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} في الزيغ قولان. احدهما: أنه الشك، قاله مجاهد، والسدي. والثاني: أنه الميل، قاله أبو مالك وعن ابن عباس كالقولين. وقيل: هو الميل عن الهدى. وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال. احدها: انهم الخوارج، قاله الحسن. والثاني: المنافقون، قاله ابن جريج. والثالث: وفد نجران من النصارى، قاله الربيع. والرابع: اليهود، طلبوا معرفة بقاء هذه الأمة من حساب الجمل، قاله ابن السائب. قوله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ} قال ابن عباس: يحيلون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويلبسون. وقال السدي: يقولون: مابال هذه الآية عمل بها كذا وكذا، ثم نسخت؟ٰ وفي المراد بالفتنة ها هنا، ثلاثة أقوال. احدها: أنها الكفر، قاله السدي، والربيع، و مقاتل، و ابن قتيبة. والثاني: الشبهات، قاله مجاهد. والثالث: إفساد ذات البين، قاله الزجاج: وفي التأويل وجهان. احدهما: أنه التفسير. والثاني: العاقبة المنتظرة. والراسخ: الثابت، يقال رسخ يرسخ رسوخا. وهل يعلم الراسخون تأويله أم لا؟ فيه قولان. احدهما: انهم لا يعلمونه، و انهم مستأنفون، وقد روى طاووس عن ابن عباس أنه قرأ {وَيَقُولُ ٱلرَّاسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ آمنا به} و إلى هذا المعنى ذهب ابن مسعود، و أبي بن كعب، و ابن عباس، وعروة، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز، و الفراء، وابو عبيدة، وثعلب، و ابن الأنباري، والجمهور. قال ابن الأنباي: في قراءة عبد اللّه {إن تَأْوِيلَهُ إِلاَّ عَندَ ٱللّه وَٱلرسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ} وفي قراءة أبي، و ابن عباس {وَيَقُولُ ٱلرَّاسِخُونَ} وقد أنزل اللّه تعالى في كتابه أشياء، استأثر بعلمها، كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللّه} [الأعراف: ١٨٧] وقوله تعالى: {وَقُرُوناً بَيْنَ ذٰلِكَ كَثِيراً} [الفرقان: ٣٨] فأنزل اللّه تعالى المجمل، ليؤمن به المؤمن، فيسعد، ويكفر به الكافر، فيشقى. والثاني: انهم يعلمون، فهم داخلون في الاستثناء. وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله، وهذا قول مجاهد، والربيع، و اختاره ابن قتيبة، وابو سليمان الدمشقي. قال ابن الأنباري: الذي روى هذا القول عن مجاهد ابن أبي نجيح، ولا تصح روايته التفسير عن مجاهد. ٨ قوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} أي يقولون: {رَبَّنَا لاَ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وابن يعمر، والجحدري «لا تزغ» بفتح التاء «قلوبنا» برفع الباء. ولدنك: بمعنى عندك. والوهاب: الذي يجود بالعطاء من غير استثابة، والمخلوقون لا يملكون أن يهبوا شفاء لسقيم، ولا ولدا لعقيم، واللّه تعالى قادر على أن يهب جميع الأشياء. ٩ {ربنا إنك جامع الناس…} ١٠ قوله تعالى: {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوٰلُهُمْ} أي: لن تدفع، لأن المال يدفع عن صاحبه في الدنيا، وكذلك الأولاد، فأما في الآخرة، فلا ينفع الكافر ماله، ولا ولده. و قوله تعالى: {مِنَ ٱللّه} أي من عذابه. ١١ قوله تعالى: {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ} في الدأب قولان. احدهما: أنه العادة، فمعناه: كعادة آل فرعون، يريد: كفر اليهود، ككفر من قبلهم، قاله ابن قتيبة، وقال ابن الأنباري: و «الكاف» في «كدأب» متعلقة بفعل مضمر، كأنه قال: كفرت اليهود، ككفر آل فرعون. والثاني: أنه الاجتهاد، فمعناه: أن دأب هؤلاء، وهو اجتاهدهم في كفرهم، وتظاهرهم على النبي صلى اللّه عليه وسلم كتظاهر آل فرعون على موسى عليه السلام، قاله الزجاج. ١٢ قوله تعالى: {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} قرأ ابن كثير، وعاصم، وابو عمرو، وابن عامر {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} بالتاء و{يَرَوْنَهُمْ} بالياء، وقرأ نافع ثلاثتهن بالتاء، وقرأهن حمزة. والكسائي بالياء. وفي سبب نزولها ثلاثة أقوال. احدها: أن يهود المدينة لما رأوا وقعة بدر، هموا بالإسلام، وقالوا: هذا هو النبي الذي نجده في كتابنا، لا ترد له راية، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا له وقعة أخرى، فلما كانت أحد، شكوا، وقالوا: ما هو به، ونقضوا عهدا كان بينهم وبين النبي، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة، فقالوا: تكون كلمتنا واحدة، فنزلت هذا الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في قريش قبل وقعة بدر، فحقق اللّه وعده يوم بدر، روي عن ابن عباس، و الضحاك. والثالث: أن أبا سفيان في جماعة من قومه، جمعوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بعد وقعة بدر، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب. ١٣ قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا} في المخاطبين بهذا ثلاثة أقوال. احدها: انهم المؤمنون، روي عن ابن مسعود، والحسن. والثاني: الكفار، فيكون معطوفا على الذي قبله، وهو يتخرج على قول ابن عباس الذي ذكرناه آنفا. والثالث: انهم اليهود، ذكره الفراء، و ابن الأنباري، وابن جرير. فان قيل: لم قال {قَدْ كَانَ لَكُمْ} ولم يقل: قد كانت لكم؟ فالجواب من وجهين. احدهما: أن ما ليس بمؤنث حقيقي، يجوز تذكيره. والثاني: أنه رد المعنى إلى البيان، فمعناه: قد كان لكم بيان، فذهب إلى المعنى، وترك اللفظ، وأنشدوا: إن امرءا غره فنكن واحدة بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور وقد سبق معنى «الآية» و«الفئة»، وكل مشكل تركت شرحه، فانك تجده فيما سبق، والمراد بالفئتين: النبي صلى اللّه عليه وسلم و أصحابه، ومشركو قريش يوم بدر. قاله قتادة والجماعة. وفي قوله تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ} قولان. احدهما: يرونهم ثلاثة أمثالهم، قاله الفراء، واحتج بأنك إذا قلت: عندي ألف دينار، و أحتاج إلى مثليه، فانك تحتاج إلى ثلاثة آلاف. والثاني: أن معناه يرونهم ومثلهم، قال الزجاج: وهو الصحيح. قوله تعالى: {رَأْىَ ٱلْعَيْنِ} أي: في رأي العين. قال ابن جرير: جاء هذا على مصدر رأيته، يقال: رأيته رأيا، ورؤية. واختلفوا في الفئة الرائية على ثلاثة أقوال. هي التي ذكرناها في قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ} فان قلنا: إن الفئة الرائية المسلمون، فوجهه أن المشركين كانوا يضعفون على عدد المسلمين، فرأوهم على ما هم عليه، ثم نصرهم اللّه، وكذلك إن قلنا: إنهم اليهود. وإن قلنا: إنهم المشركون، فتكثير المسلمين في أعينهم من أسباب النصر. وقد قرأ نافع: «ترونهم» بالتاء. قال ابن الأنباري: ذهب إلى أن الخطاب لليهود. قال الفراء: ويجوز لمن قرأ: «يرونهم» بالياء أن يجعل الفعل لليهود، وإن كان قد خاطبهم في قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ} لأن العرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى الخطاب. وقد شرحنا هذا في «الفاتحة» وغيرها. فان قيل: كيف يقال: إن المشركين استكثروا والمسلمين، وان المسلمين استكثروا المشركين، وقد بين قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: ٤٤] أن الفئتين تساوتا في استقلال إحداهما للأخرى؟ فالجواب: انهم استكثروهم في حال، واستقلوهم في حال، فان قلنا: إن الفئة الرائية المسلمون، فانهم رأوا عدد المشركين عند بداية القتال على ماهم عليه، ثم قلل اللّه المشركين في أعينهم حتى اجترأوا عليهم، فنصرهم اللّه بذلك السبب. قال ابن مسعود: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم، فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا. وقال في رواية اخرى: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مئة، فأسرنا منهم رجلا، فقلت: كم كنتم؟ قال: ألفا. وإن قلنا: إن الفئة الرائية المشركون، فانهم استقلوا المسلمين في حال، فاجترؤوا عليهم، واستكثروهم في حال، فكان ذلك سبب خذلانهم، وقد نقل أن المشركين لما أسروا يومئذ، قالوا للمسلمين: كم كنتم؟ قالوا: كنا ثلاثمائة وثلاثة عشر. قالوا: ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا. قوله تعالى: {وَٱللّه يُؤَيّدُ} أي: يقوي {إِنَّ فِى ذَلِكَ} في الإشارة قولان. احدهما: أنها ترجع إلى النصر. والثاني: إلى رؤية الجيش مثليهم، والعبرة: الدلالة الموصلة إلى اليقين، المؤدية إلى العلم، وهي من العبور، كأنه طريق يعبر به، ويتوصل به إلى المراد. وقيل: العبرة: الآية التي يعبر منها من منزلة الجهل إلى منزلة العلم. والأبصار: العقول والبصائر. ١٤ قوله تعالى: {زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوٰتِ} قرأ أبو رزين العقيلي، وابو رجاء العطاردي، و مجاهد، وابن محيصن «زين» بفتح الزاي «حب» بنصب الباء، وقد سبق في «البقرة» بيان التزيين. والقناطير: جمع قنطار، قال ابن دريد: ليست النون فيه أصليه، وأحسب أنه معرب. واختلف العلماء: هل هو محدود أم لا؟ فيه قولان. احدهما: أنه محدود، ثم فيه أحد عشر قولا. احدها: أنه ألف ومئتا أوقيه، رواه أبي بن كعب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وبه قال معاذ بن جبل، وابن عمر، وعاصم بن أبي النجود، والحسن في رواية. والثاني: أنه اثنا عشر ألف اوقية، رواه أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. وعن أبي هريرة كالقولين، وفي رواية عن أبي هريرة أيضا: اثنا عشر أوقية. والثالث أنه ألف ومئتا دينار، ذكره الحسن ورواه العوفي عن ابن عباس. والرابع: أنه اثنا عشر الف درهم، أو ألف دينار، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وروي عن الحسن، و الضحاك، كهذا القول، والذي قبله. والخامس: أنه سبعون الف دينار، روي عن ابن عمر، و مجاهد. والسادس: ثمانون ألف درهم، أو مئة رطل من الذهب، روي عن سعيد بن المسيب، وقتادة. والسابع: أنه سبعة آلاف دينار، قاله عطاء. والثامن: ثمانية آلاف مثقال، قاله السدي. والتاسع: أنه ألف مثقال ذهب أو فضة، قاله الكلبي. والعاشر: أنه ملء مسك ثور ذهبا، قاله أبو نضرة، وابو عبيدة. والحادي عشر: القنطار: رطل من الذهب، أو الفضة، حكاه ابن الأنباري. والقول الثاني: أن القنطار ليس بمحدود. وقال الربيع بن أنس: القنطار: المال الكثير، بعضه على بعض، وروي عن أبي عبيدة أنه ذكر عن العرب أن القنطار وزن لا يحد، وهذا اختيار ابن جرير الطبري. قاله ابن الأنباري: قال بعض اللغويين: القنطار: العقدة الوثيقة المحكمه من المال. وفي معنى المقنطرة ثلاثة أقوال. احدهما: أنها المضفة، قال ابن عباس: القناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة، وهذا قول الفراء. والثاني: أنها المكملة، كما تقول: بدرة مبدرة. وألف مؤلفة، وهذا قول ابن قتيبة. والثالث: أنها المضروبة حتى صارت دنانير ودراهم قاله السدي. وفي المسومة ثلاثة أقوال. احدها: أنها الراعية، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، و مجاهد في رواية، و الضحاك، والسدي، والربيع، و مقاتل. قال ابن قتيبة: يقال سامت الخيل، وهي سائمة: إذا رعت، و أسمتها وهي مسامة، وسومتها فهي مسومة: إذا رعيتها والمسومة في غير هذا: المعلمة في الحرب بالسومة وبالسيماء، أي: بالعلامة. والثاني: أنها المعلمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة، واختاره الزجاج، وعن الحسن كالقولين. وفي معنى المعلمة ثلاثة أقوال. احدها: أنها معلمة بالشية، وهو اللون الذي يخالف سائر لونها، روي عن قتادة. والثاني: بالكي، روي عن المؤرج. والثالث: أنها البلق، قاله ابن كيسان. والثالث: أنها الحسان، قاله ابن عكرمة، و مجاهد. فأما الأنعام، فقال ابن قتيبة: هي: الإبل، والبقر، والغنم، واحدها. نعم، وهو جمع لا واحد له من لفظه. والمآب: المرجع. وهذه الأشياء المذكورة قد تحسن نية العبد بالتلبس بها، فيثاب عليها، و إنما يتوجه الذم إلى سوء القصد فيها وبها. ١٥ قوله تعالى: {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذٰلِكُمْ} روى عطاء بن السائب عن أبي بكر بن حفص قال: لما نزل قوله تعالى: {زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوٰتِ}. قال عمر: يارب الآن حين زينتهاٰ فنزلت: {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذٰلِكُمْ} ووجه الآية أنه خبر أن ما عنده خير مما في الدنيا، و إن كان محبوبا، ليتركوا ما يحبون لما يرجون. فأما الرضوان، فقرأ عاصم، إلا حفصا و أبان بن يزيد عنه، برفع الراء في جميع القرآن، واستثنى يحيى والعليمي كسر الراء في المائدة في قوله تعالى: {مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ} [المائدة: ١٦]. وقرأ الباقون بكسر الراء، والكسر لغة قريش. قال الزجاج: يقال رضيت الشيء أرضاه رضى ومرضاة ورضوانا ورضوانا. {وَٱللّه بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ}. يعلم من يؤثر ما عنده ممن يؤثر شهوات الدنيا، فهو يجازيهم على أعمالهم. ١٦ انظر تفسير الآية ١٧ ١٧ قوله تعالى: {ٱلصَّـٰبِرِينَ} أي: على طاعة اللّه عز وجل وعن محارمه {والصادقين} في عقائدهم وأقوالهم {وَٱلْقَـٰنِتِينَ} بمعنى: المطيعين للّه {وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ} في طاعته، وقال ابن قتيبة يعني بالنفقة الصدقة وفي معنى: استغفارهم قولان. احدهما: أنه الاستغفار المعروف باللسان قاله ابن مسعود، والحسن في آخرين. والثاني: أنه الصلاة، قاله مجاهد، وقتادة، و الضحاك، و مقاتل في آخرين. فعلى هذا إنما سميت الصلاة: استغفارا لأنهم طلبوا بها المغفرة فأما السحر فقال إبراهيم بن السري: السحر الوقت الذي قبل طلوع الفجر وهو أول إدبار الليل إلى طلوع الفجر، فوصفهم اللّه بهذه الطاعات ثم وصفهم بأنهم لشدة خوفهم يستغفرون. ١٨ قوله تعالى: {شَهِدَ ٱللّه أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ} سبب نزول هذه الآية: أن حبرين من أحبار الشام قدما النبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما أبصرا المدنية، قال احدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النبي صلى اللّه عليه وسلم، عرفاه بالصفة، فقالا: أنت محمد؟ قال: نعم. قالا: وأحمد؟ قال: نعم. قالا: نسألك عن شهادة، فان أخبرتنا بها، آمنا بك، وصدقناك فقال: سلاني. فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب اللّه، فنزلت هذه الآية، فأسلما، قاله ابن السائب، وقال غيره: هذه الآية رد على نصارى نجران فيما ادعوا في عيسى عليه السلام، وقد سبق ذكر خبرهم في أول السورة، وقال سعيد بن جبير، كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، وكان لكل حي من العرب صنم أو صنمان فلما نزلت هذا الآية خرت الأصنام سجدا وفي معنى {شَهِدَ ٱللّه} قولان. احدهما: أنه بمعنى قضى وحكم، قاله مجاهد، و الفراء، و أبو عبيدة، والثاني: بمعنى بين، قاله ثعلب، و الزجاج. قال ابن كيسان: شهد اللّه بتدبيره العجيب و أموره المحكمات عند خلقه أنه لا إله إلا هو، وسئل بعض الأعراب ما الدليل على وجود الصانع؟ فقال إن البعرة تدل على البعير وآثار القدم تدل على المسير فهيكل علوي بهذه اللطافة، ومركز سفلي بهذه الكثافة أما يدلان على الصانع الخبير، وقرأ ابن مسعود، و أبي بن كعب، وابن السميفع، وعاصم الجحدري شهداء اللّه بضم الشين، وفتح الهاء، والدال وبهمزة مرفوعة بعد المد وخفض الهاء من اسم اللّه تعالى {قَائِمَاً بِٱلْقِسْطِ} أي: بالعدل. قال جعفر الصادق و إنما كرر {لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ} لأن الأولى وصف وتوحيد والثاني: رسم وتعليم أي قولوا لا إله إلا هو. ١٩ قوله تعالى: {إِنَّ الدّينَ عِندَ ٱللّه ٱلإِسْلَـٰمُ} الجمهور على كسر إن إلا الكسائي فانه فتح الألف وهي قراءة ابن مسعود، و ابن عباس، وأبي رزين، و أبي العالية، وقتادة قال أبو سليمان الدمشقي: لما ادعت اليهود أنه لا دين أفضل من اليهودية، وادعت النصارى أنه لا دين أفضل من النصرانية. نزلت هذه الآية. قال الزجاج: الدين اسم لجميع ما تعبد اللّه به خلقه وأمرهم بالإقامة عليه و أن يكون عادتهم وبه يجزيهم وقال شيخنا علي بن عبيد اللّه الدين: ما التزمه العبد للّه عز وجل قال ابن قتيبة، و الإسلام الدخول في السلم أي: في الانقياد والمتابعة ومثله الاستسلام يقال: سلم فلان لأمرك واستسلم، وأسلم كما تقول أشتي الرجل أي دخل في الشتاء، وأربع دخل في الربيع وفي الذين أوتوا الكتاب ثلاثة أقوال. احدها: انهم اليهود، قاله الربيع. والثاني: انهم النصارى، قاله محمد بن جعفر بن الزبير. والثالث: انهم اليهود والنصارى، قاله ابن السائب: وقيل: الكتاب هاهنا: اسم جنس بمعنى: الكتب وفي الذين اختلفوا فيه أربعة أقوال. احدها: دينهم. والثاني: أمر عيسى. والثالث: دين الإسلام وقد عرفوا صحته. والرابع: نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وقد عرفوا صفته. قوله تعالى: {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْعِلْمُ} أي: الإيضاح لما اختلفوا فيه {بَغْياً بَيْنَهُمْ} قال الزجاج: معناه: اختلفوا للبغي لا لقصد البرهان، وقد ذكرنا في البقرة معنى: سريع الحساب. ٢٠ قوله تعالى: {فَإنْ حَاجُّوكَ} أي: جادلوك وخاصموك قال مقاتل: يعني اليهود وقال ابن جرير: يعني نصارى نجران في أمر عيسى، وقال غيرهما: اليهود والنصارى {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للّه} قال الفراء معناه أخلصت عملي وقال الزجاج: قصدت بعبادتي إلى اللّه . قوله تعالى: {وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ} أثبت الياء في الوصل دون الوقف أهل المدينة والبصرة، وابن شنبوذ عن قنبل، ووقف ابن شنبوذ ويعقوب بياء. قال الزجاج: والأحب إلى اتباع المصحف. وما حذف من الياءات في مثل قوله تعالى: {وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ} و {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} و {رَبّى أَكْرَمَنِ} و {رَبّى أَهَانَنِ}. فهو على ضربين. احدهما: ما كان مع النون، فان كان رأس آية، فأهل اللغة يجيزون حذف الياء، ويسمون أواخر الآي الفواصل، كما اجازوا ذلك في الشعر. قال الأعشى: ومن شانيء كاسف باله إذا ما انتسبت له أنكرن وهل يمنعني ارتيادي البلا د من حذر الموت أن يأتين فأما إذا لم يكن آخر آية أو قافية فالأكثر إثبات الياء، وحذفها جيد أيضا خاصة مع النونات لأن أصل اتبعني اتبعي، ولكن النون زيدت لتسلم فتحة العين فالكسرة مع النون تنوب عن الياء فاما إذا لم تكن النون نحو غلامي، وصاحبي فالأجود إثباتها وحذفها عند عدم النون جائز. على قلته تقول هذا غلام، قد جاء غلامي وغلامي بفتح الياء وإسكانها فجاز الحذف لأن الكسرة تدل عليها. قوله تعالى: {وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ} يريد اليهود والنصارى {وَٱلاْمّيّينَ} بمعنى مشركي العرب، وقد سبق في البقرة شرح هذا الاسم. قوله تعالى {ءأَسْلَمْتُمْ} قال الفراء: هو استفهام ومناه الأمر كقوله تعالى {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة ٩١]. فصل اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية. فذهبت طائفة إلى أنها محكمة، و أن المراد بها تسكين نفس النبي صلى اللّه عليه وسلم، عند امتناع من لم يجبه، لأنه كان يحرص على إيمانهم، ويتألم من تركهم الإجابة. وذهبت طائفة إلى أن المراد بها الاقتصار على التبليغ، وهذا منسوخ بآيه السيف. ٢١ قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَـٰتِ ٱللّه} قال أبو سليمان الدمشقي: عنى بذلك اليهود والنصارى قال ابن عباس والمراد بآيات اللّه محمد والقرآن، وقد تقدم في البقرة شرح قتلهم الأنبياء، والقسط والعدل وقرأ الجمهور {وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ} وقرأ حمزة ويقاتلون بألف وروى أبو عبيدة بن الجراح، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال: قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار، في ساعة واحدة فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بني اسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا في آخر النهار. فهم الذين ذركهم اللّه في كتابه وأنزل الآية فيهم و إنما وبخ بهذا اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم لأنهم تولوا أولئك، ورضوا بفعلهم {فَبَشّرْهُم} بمعنى أخبرهم وقدتقدم شرحه في «البقرة» ومعنى حبطت: بطلت. ٢٢ {أولئك الذين حبطت...} ٢٣ قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ} في سبب نزولها أربعة أقوال. احدها: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، دخل بيت المدراس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى اللّه فقال رجلان منهم: على أي دين أنت؟ فقال على ملة إبراهيم، قالا: فانه كان يهوديا قال: فهلموا إلى التوراة، فأبيا عليه فنزلت هذه الآية. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أن رجلا من اليهود، وامرأة زنيا فكرهوا رجمهما لشرفهما، فرفعوا أمرهما إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، رجاء أن يكون عنده رخصة، فحكم عليها بالرجم، فقالوا: جرت علينا يا محمد ليس علينا الرجم، فقال: بيني وبينكم التوراة فجاء ابن صوريا فقرأ من التوراة فلما أتى على آية الرجم، وضع كفه عليها وقرأ ما بعدها فقال ابن سلام: قد جاوزها ثم قام فقرأها، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، باليهوديين فرجما فغضب اليهود فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دعا اليهود إلى الإسلام، فقال نعمان بن أبي: أوفى هلم نحاكمك إلى الأحبار فقال: بل إلى كتاب اللّه فقال: بل إلى الأحبار، فنزلت هذه الآية. قاله السدي. والرابع: أنها نزلت في جماعة من اليهود دعاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا نحن أحق بالهدى منك، وما أرسل اللّه نبيا إلا من بني اسرائيل، قال: فأخرجوا التوارة فإني مكتوب فيها أني نبي فأبوا فنزلت هذه الآية قاله مقاتل بن سليمان.فأما التفسير: فالنصيب الذي أوتوه: العلم الذي علموه من التوراة، وفي الكتاب الذي دعوا إليه قولان: احدهما: أنه التوراة، رواه عكرمة، عن ابن عباس، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه القرآن، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وقتادة. وفي الذي أريد أن يحكم الكتاب بينهم فيه أربعة أقوال. احدها: ملة إبراهيم. والثاني: حد الزنى. رويا عن ابن عباس. والثالث: صحة دين الإسلام، قاله السدي. والرابع: صحة نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم، قاله مقاتل. فان قيل: التولي هو الإعراض، فما فائدة تكريره؟ فالجواب من أربعة أوجه: ٢٤ قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ} يعني: الذي حملهم على التولي والإعراض انهم قالوا: {لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُودٰتٍ} وقد ذكرناها في «البقرة» و {يَفْتَرُونَ} يختلقون وفي الذي اختلقوه قولان. احدهما: أنه قولهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات، قاله مجاهد، و الزجاج. والثاني: قولهم نحن أبناء اللّه وأحباؤه، قاله قتادة: و مقاتل. ٢٥ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَـٰهُمْ} معناه: فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم ليوم أي: لجزاء يوم، أو لحساب يوم. وقيل «اللام» بمعنى: «في». ٢٦ قوله تعالى: {قُلِ ٱللّهمَّ مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. احدها: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، لما فتح مكة ووعد أمته ملك فارس والروم، قال المنافقون: واليهود: هيهات فنزلت هذه الآية. قاله ابن عباس، وأنس بن مالك. والثاني: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، فنزلت هذه الآية. حكاه قتادة. والثالث: أن اليهود قالوا: واللّه لا نطيع رجلا جاء ينقل النبوة من بني اسرائيل إلى غيرهم، فنزلت هذه الآية. قاله أبو سليمان الدمشقي: فأما التفسير فقال الزجاج: قال الخليل وسيبويه وجميع النحويين الموثوق بعلمهم: اللّهم بمعنى يا اللّه، والميم المشددة زيدت عوضا من ياء، لأنهم لم يجدوا يا مع هذه الميم في كلمة، ووجدوا اسم اللّه عز وجل مستعملا ب «يا» إذا لم تذكر الميم، فعلموا أن الميم في آخر الكلمة بمنزلة «يا» في أولها والضمة التي في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد، قال ابو سليمان الخطابي: ومعنى: مالك الملك أنه بيده يؤتيه من يشاء، قال: وقد يكون معناه مالك الملوك ويحتمل أن يكون معناه وارث الملك يوم لا يدعيه مدع كقوله تعالى {ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ} الفرقان:٢٦. قوله تعالى: {تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَاء} في هذا الملك قولان. احدهما: أنه النبوة قاله ابن جبير: و مجاهد. والثاني: أنه المال والعبيد والحفدة، ذكره الزجاج. وقال مقاتل: تؤتي الملك من تشاء يعني: محمدا وأمته وتنزع الملك، ممن تشاء يعني: فارس والروم {وَتُعِزُّ مَن تَشَاء} محمدا وأمته {وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} فارس والروم وبماذا يكون هذا العز والذل فيه ثلاثة أقوال. احدها: العز بالنصر والذل بالقهر. والثاني: العز بالغنى والذل بالفقر. والثالث: العز بالطاعة والذل بالمعصية. قوله تعالى: {بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ} قال ابن عباس: يعني النصر والغنيمة وقيل: معناه: بيدك الخير والشر فاكتفى باحدهما، لأنه المرغوب فيه. ٢٧ قوله تعالى: {تُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلْنَّهَارِ} أي: تدخل ما نقصت من هذا في هذا وقال ابن عباس و مجاهد: ما ينقص من احدهما يدخل في الآخر قال الزجاج: يقال: ولج الشيء: يلج ولوجا، وولجا وولجة. قوله تعالى: {وَتُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيّتَ مِنَ ٱلْحَىِّ} قرأ ابن كثير وابو عمرو، وابن عامر، وأبوبكر عن عاصم، {وَتُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيّتَ مِنَ ٱلْحَىِّ} و {لِبَلَدٍ مَّيّتٍ} [الأعراف: ٥٧]. و {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا} [الأنعام: ١٢٢]. و {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} [الأنعام: ١٣٩]. و {ٱلاْرْضُ ٱلْمَيْتَةُ} [يس: ٣٣]. كله بالتخفيف وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي {وَتُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيّتَ مِنَ ٱلْحَىِّ} و {لِبَلَدٍ مَّيّتٍ} و {إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيّتٍ} وخفف حمزة والكسائي غير هذه الحروف وقرأ نافع {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا} و {ٱلاْرْضِ} و {يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} الحجرات: ١٢. وخفف في سائر القرآن ما لم يمت. وقال أبو علي: الأصل التثقيل، والمخفف محذوف منه، وما مات، ومالم يمت في هذا الباب، مستويان في الاستعمال. وأنشدوا: ومنهل فيه الغراب ميت سقيت منه القوم واستقيت فهذا قد مات وقال آخر: ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء فخفف ما مات، وشدد مالم يمت. وكذلك قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} الزمر: ٣٠. ثم في معنى الآية ثلاثة أقوال. احدها: أنه إخراج الإنسان حيا من النطفة، وهي ميتة، وإخراج النطفة من الإنسان، وكذلك إخراج الفرخ من البيضة، وإخراج البيضة من الطائر هذا قول ابن مسعود، و ابن عباس، و مجاهد، وابن جبير، والجمهور. والثاني: أنه إخراج المؤمن الحي بالإيمان، من الكافر الميت بالكفر، وإخراج الكافر الميت بالكفر من المؤمن الحي، بالإيمان روى نحو هذا الضحاك عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعطاء. والثالث: أنه إخراج السنبلة الحية من الحبة الميتة، والنخلة الحية من النواة الميتة، والنواة الميتة من النخلة الحية، قاله السدي، وقال الزجاج: يخرج النبات الغض من الحب اليابس والحب اليابس من النبات الحي النامي. قوله تعالى: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: بغير تقتير. قال الزجاج: يقال للذي ينفق موسعا فلان ينفق بغير حساب، كأنه لا يحسب ما أنفقه إنفاقا. ٢٨ قوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَاء} في سبب نزولها أربعة أقوال. احدها: أن عبادة بن الصامت كان له حلفاء من اليهود. فقال يوم الأحزاب: يا رسول اللّه إن معي خمسمائة من الهود، وقد رأيت أن أستظهر بهم على العدو. فنزلت هذه الآية. رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في عبد اللّه بن أبي و أصحابه من المنافقين، كانوا يتولون اليهود، ويأتونهم بالأخبار يرجون لهم الظفر من النبي صلى اللّه عليه وسلم، فنهى اللّه المؤمنين عن مثل فعلهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أن قوما من اليهود كانوا يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فنهاهم قوم من المسلمين عن ذلك، وقالوا اجتنبوا هؤلاء اليهود فأبوا، فنزلت هذا الآية. روي عن ابن عباس أيضا. والرابع: أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره، كانوا يظهرون المودة لكفار مكة، فنهاهم اللّه عز وجل عن ذلك، هذا قول المقاتلين، ابن سليمان، و ابن حيان. فأما التفسير، فقال الزجاج: معنى قوله تعالى: {مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ} أي: لا يجعل المؤمن ولايته لمن هو غير مؤمن، أي: لا يتناول الولاية، من مكان دون مكان المؤمنين، وهذا كلام جرى على المثل في المكان كما تقول زيد: دونك ولست تريد المكان ولكنك جعلت الشرف بمنزلة الارتفاع في المكان، والخسة كالاستفال في المكان. ومعنى {فَلَيْسَ مِنَ ٱللّه فِي شَىْء} أي: فاللّه بريء منه. قوله تعالى {إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً} قرأ يعقوب، والمفضل عن عاصم، تقية بفتح التاء من غير ألف، قال مجاهد: إلا مصانعة في الدنيا قال أبوالعالية: التقاة باللسان لا بالعمل. فصل والتقية رخصة، وليست بعزيمة قال الإمام احمد: وقد قيل إن عرضت على السيف تجيب قال: لا وقال اذا أجاب العالم تقية، والجاهل بجهل فمتى يتبين الحق؟ وسنشرح هذا المعنى في «النحل» عند قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} النحل: ١٠٦. إن شاء اللّه . ٢٩ قوله تعالى: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} قال ابن عباس: يعني: أتخاذ الكافرين أولياء. ٣٠ قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا} قال الزجاج: نصب اليوم بقوله {وَيُحَذّرُكُمُ ٱللّه نَفْسَهُ} في ذلك اليوم. قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون متعلقا بالمصير، والتقدير: والى اللّه المصير، يوم تجد. ويجوز أن يكون متعلقا بفعل مضمر، والتقدير: اذكر يوم نجد وفي كيفية، وجود العمل وجهان. احدهما: وجوده مكتوبا في الكتاب. والثاني: وجود الجزاء عليه. والأمد: الغاية. قال الطرماح: كل حي مستكمل عدة العم ر ومود إذا انقضى أمده يريد: غاية أجله. ٣١ قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللّه فَٱتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ٱللّه} في سبب نزولها أربعة أقوال. احدها: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقف على قريش وقد نصبوا أصنامهم يسجدون لها فقال: يا معشر قريش «لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم» فقالوا: يا محمد إنما نعبد هذه حبا للّه ليقربونا إلى اللّه زلفى، فنزلت هذه الآية. رواه الضحاك، عن ابن عباس. والثاني: أن اليهود قالوا نحن أبناء اللّه وأحباؤه، فنزلت هذه الآية. فعرضها النبي صلى اللّه عليه وسلم، عليهم فلم يقبلوها، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أن ناسا قالوا إنا لنحب ربنا حبا شديدا فأحب اللّه أن يجعل لحبه علما، فأنزل هذه الآية. قاله الحسن، وابن جريج. والرابع: أن نصارى نجران، قالوا: إنما تقول هذا في عيسى حبا للّه، وتعظيما له، فنزلت هذه الآية، ذكره ابن اسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، واختاره أبو سليمان الدمشقي. ٣٢ قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ ٱللّه وَٱلرَّسُولَ} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. احدها: أن عبد اللّه بن أبي قال لأصحابه: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة اللّه ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم، فنزلت هذا الآية. هذا قول ابن عباس. والثاني: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، دعا اليهود إلى الإسلام، فقالوا نحن أبناء اللّه وأحباؤه ونحن أشد حبا للّه مما تدعونا إليه فنزلت: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللّه} ونزلت هذه الآية. هذا قول مقاتل. والثالث: أنها نزلت في نصارى نجران، قاله أبو سليمان الدمشقي. ٣٣ قوله تعالى: {إِنَّ ٱللّه ٱصْطَفَى آدَمَ} قال ابن عباس: قالت اليهود: نحن أبناء إبراهيم واسحاق، ويعقوب، ونحن على دينهم، فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: ومعنى اصطفاهم في اللغة: اختارهم فجعلهم صفوة خلقة، وهذا تمثيل بما يرى لأن العرب تمثل المعلوم بالشيء المرئي، فاذا سمع السامع ذلك المعلوم كان عنده بمنزلة ما يشاهد عيانا، فنحن نعاين الشيء الصافي أنه النقي من الكدر، فكذلك صفوة اللّه من خلقه. وفيه ثلاث لغات: صفوة، وصفوة، وصفوة، و صفوة، تاما وأما آدم فعربي، وقد ذكرنا اشتقاقه في البقرة و أما نوح فأعجمي معرب قال أبو سليمان الدمشقي: اسم نوح السكن، و إنما سمي نوحا لكثرة نوحه، وفي سبب نوحه خمسة أقوال. احدها: أنه كان ينوح على نفسه قاله يزيد الرقاشي. والثاني: أنه كان ينوح لمعاصي اهله وقومه. والثالث: لمراجعته ربه في ولده. والرابع: لدعائه على قومه بالهلاك. والخامس: أنه مر بكلب مجذوم فقال: اخسأ يا قبيح، فأوحى اللّه إليه أعبتني يا نوح، أم عبت الكلب؟ وفي آل إبراهيم ثلاثة أقوال. احدها: أنه من كان على دينه، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: انهم اسماعيل، واسحاق، ويعقوب، والأسباط، قاله مقاتل. والثالث: أن المراد «آل إبراهيم» هو نفسه، كقوله: {وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءالُ مُوسَىٰ وَءالُ هَـٰرُونَ} البقرة: ٢٤٨، ذكره بعض أهل التفسير. وفي «عمران» قولان. احدهما: أنه والد مريم، قاله الحسن، ووهب. والثاني: أنه والد موسى، وهارون، قاله مقاتل. وفي «آله» ثلاثة أقوال. احدها: أنه عيسى عليه السلام قاله الحسن. والثاني: أن آله موسى، وهارون قاله مقاتل. والثالث: أنه المراد ب آله نفسه ذكره بعض المفسرين، و إنما خص هؤلاء بالذكر لأن الأنبياء كلهم من نسلهم، وفي معنى اصطفاء هؤلاء المذكورين ثلاثة أقوال. احدها: أن المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان، قاله ابن عباس واختاره الفراء والدمشقي. والثاني: اصطفاهم بالنبوة قاله الحسن، و مجاهد، و مقاتل. والثالث: اصطفاهم بتفضيلهم في الأمور التي ميزهم بها على أهل زمانهم، والمراد ب العالمين: عالمو زمانهم، كما ذكرنا في «البقرة». ٣٤ قوله تعالى: {ذُرّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} قال الزجاج: نصبها على البدل والمعنى: اصطفى ذرية بعضها من بعض قال ابن الأنباري: و إنما قال بعضها: لأن لفظ الذرية مؤنث ولو قال بعضهم: ذهب إلى معنى الذرية وفي معنى: هذه البعضية قولان. احدهما: أن بعضهم من بعض في التناصر، والدين لا في التناسل، وهو معنى قول ابن عباس وقتادة. والثاني: أنه في التسلسل لأن جميعهم ذرية آدم ثم ذرية نوح، ثم ذرية إبراهيم ذكره بعض أهل التفسير قال أبو بكر النقاش: ومعنى قوله: {ذُرّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} أن الأبناء ذرية للآباء والآباء ذرية للأبناء كقوله تعالى: {حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ فِى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ} [يس: ٤١]. فجعل الآباء ذرية للأبناء، وإنما جاز ذلك لأن الذرية مأخوذة من ذرأ اللّه الخلق فسمي الولد للوالد ذرية، لأنه ذرىء منه وكذلك يجوز أن يقال للأب ذرية للابن لأن ابنه ذرئ منه فالفعل يتصل به من الوجهين. ومثله {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ ٱللّه} البقرة: ١٦٥. فأضاف الحب إلى اللّه، والمعنى كحب المؤمن للّه ومثله {وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبّهِ} الدهر: ٨. فأضاف الحب للطعام. ٣٥ قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرٰنَ} في إذ قولان. احدهما: أنها زائدة واختاره أبو عبيدة، و ابن قتيبة. والثاني: أنها أصل في الكلام وفيها ثلاثة أقوال. احدها: أن المعنى اذكر إذ قالت امرأة عمران، قاله المبرد والاخفش. والثاني: أن العامل في {إِذْ قَالَتِ} معنى الاصطفاء فيكون المعنى اصطفى آل عمران، إذ قالت امرأة عمران، واصطفاهم إذ قالت الملائكة يا مريم، هذا اختيار الزجاج. والثالث: أنها من صلة سميع تقديره واللّه سميع إذ قالت: وهذا اختيار ابن جرير الطبري قال ابن عباس، واسم امرأة عمران حنة وهي أم مريم، وهذا عمران بن ماتان، وليس عمران أبي موسى، وليست هذه مريم اخت موسى، وبين عيسى، وموسى ألف وثمانمائة سنة والمحرر العتيق قال ابن قتيبة: يقال: أعتقت الغلام، وحررته سواء وأرادت أي نذرت أن أجعل ما في بطني محررا، من التعبيد الدنيا ليعبدك، وقال الزجاج: كان على اولادهم فرضا أن يطيعوهم في نذرهم فكان الرجل ينذر في ولده أن يكون خادما، في متعبدهم، وقال ابن اسحاق: كان السبب في نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنت فرأت طائرا يطعم فرخا له، فدعت اللّه أن يهب لها ولدا وقالت: اللّهم لك علي إن رزقتني ولدا أن اتصدق به على بيت المقدس، فحملت بمريم وهلك عمران، وهي حامل قال القاضي: أبو يعلى: والنذر في مثل ما نذرت صحيح في شريعتنا فانه إذا نذر الإنسان أن ينشيء ولده الصغير على عبادة اللّه، وطاعته، و أن يعلمه القرآن والفقه وعلوم الدين صح النذر. ٣٦ قوله تعالى: {وَٱللّه أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} قرأ ابن عامر، وعاصم إلا حفصا ويعقوب: {بِمَا وَضَعَتْ} باسكان العين وضم التاء، وقرأ الباقون بفتح العين، وجزم التاء قال ابن قتيبة: من قرأ بجزم التاء، وفتح العين فيكون في الكلام تقدير، و تأخير تقديره إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى، واللّه أعلم بما وضعت، ومن قرأ بضم التاء فهو كلام متصل من كلام أم مريم. قوله تعالى: {وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلاْنثَىٰ} من تمام اعتذارها ومعناه: لا تصلح الأنثى لما يصلح له الذكر من خدمته المسجد، والإقامة فيه لما يلحق الأنثى من الحيض، والنفاس قال السدي: ظنت أن ما في بطنها غلام فلما وضعت جارية، اعتذرت ومريم اسم أعجمي، وفي الرجيم قولان. احدهما: الملعون، قاله قتادة. والثاني: أنه المرجوم بالحجارة كما تقول قتيل بمعنى مقتول، قاله أبو عبيدة، فعلى هذا: سمي: رجيما لأنه يرمى بالنجوم. ٣٧ قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} قرأ مجاهد {فَتَقَبَّلَهَا} بسكون اللام {رَبُّهَا} بنصب الباء {وَأَنبَتَهَا} بكسر الباء وسكون التاء على معنى الدعاء، قال الزجاج: الأصل في العربيه فتقبلها بتقبل حسن، ولكن قبول محمول على قبلها قبولا يقال: قبلت الشيء: قبولا ويجوز قبولا: إذا رضيته {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} أي: جعل نشوءها نشوءا حسنا، وجاء نباتا على غير لفظ أنبت على معنى نبتت نباتا حسنا، وقال ابن الأنباري لما كان أنبت يدل على نبت حمل الفعل على المعنى: فكأنه قال وأنبتها: فنبتت هي نباتا حسنا. قال امرؤ القيس: فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ورضت فذلت صعبة أي اذلال أراد: أي رياضه، فلما دل «رضت» على «اذللت» حمله على المعنى. وللمفسرين في معنى النبات الحسن قولان. احدهما: أنه كمال النشوء، قال ابن عباس: كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام. والثاني: أنه ترك الخطايا. قال قتاده: حدثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب، كما يصيب بنو آدم. قوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عامر، وكفلها بفتح الفاء خفيفه «وزكرياء» مرفوع ممدود. وروى أبو بكر عن عاصم: تشديد الفاء، ونصب «زكرياء» وكان يمد «زكرياء» في كل القرآن في رواية أبي بكر. وروى حفص عن عاصم تشديد الفاء «وزكريا» مقصور في كل القرآن. وكان حمزه والكسائي يشددان «وكفلها» ويقصران «زكريا» في كل القرآن. فأما «زكريا» فقال الفراء: فيه ثلاث لغات. أهل الحجاز يقولون: هذا زكريا قد جاء مقصور، وزكرياء، ممدود واهل نجد يقولون: زكري فيجرونه، ويلقون الألف. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، عن ابن دريد قال: زكريا اسم أعجمي، يقال: زكري وزكرياء ممدود وزكريا مقصور. وقال: غيره وزكري بتخفيف الياء، فمن قال: زكرياء بالمد، قال في التثنيه، زكرياوان، وفي الجمع زكرياوون، ومن قال: زكريا بالقصر، قال في التثنيه زكريان، كما تقول: مدنيان: ومن قال: زكري بتخفيف الياء، قال في التثنيه: زكريان الياء خفيفه وفي الجمع زكرون بطرح الياء. الاشارة إلى كفالة زكريا مريم قال السدي: انطلقت بها أمها في خرقها، وكانوا يقترعون على الذين يؤتون بهم، فقال زكريا وهو نبيهم يومئذ: انا أحقكم بها، عندي أختها، فأبوا، وخرجوا إلى نهر الأردن، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها، فجرت الأقلام، وثبت قلم زكريا، فكفلها. قال ابن عباس: كانوا سبعة وعشرين رجلا، فقالوا: نطرح أقلامنا، فمن صعد قلمه مغالبا للجرية فهو أحق بها، فصعد قلم زكريا، فعلى هذا القول كانت غلبة زكريا بمصاعدة قلمه، وعلى قول السدي بوقوفه في جريان الماء وقال مقاتل: كان يغلق عليها الباب، ومعه المفتاح، لا يأمن عليه أحدا، وكانت اذا حاضت، أخرجها إلى منزلة تكون مع أختها أم يحيى، فاذا طهرت ردها إلى بيت المقدس. والأكثرون على أنه كفلها منذ كانت طفلة بالقرعة. وقد ذهب قوم الى أنه كفلها عند طفولتها بغير قرعة، لأجل أن أمها ماتت، وكانت خالتها عنده، فلما بلغت، أدخلوها الكنيسة لنذر أمها، و إنما كان الاقتراع بعد ذلك بمدة لأجل سنة أصابتهم. فقال محمد بن إسحاق. كفلها زكريا إلى أن أصابت الناس سنة، فشكا زكريا إلى بني إسرائيل ضيق يده فقالوا: ونحن أيضا كذلك، فجعلوا يتدافعونها حتى اقترعوا، فخرج السهم على جريج النجار، وكان فقيرا، وكان يأتيها باليسير، فينمي، فدخل زكريا، فقال: ما هذا؟ على قدر نفقة جريج فمن اين هذا؟ قالت هو من عند اللّه. والصحيح ما عليه الأكثرون، و أن القوم تشاحوا على كفالتها، لأنها كانت بنت سيدهم وإمامهم عمران، كذلك قال قتادة في آخرين و أن زكريا ظهر عليهم بالقرعة منذ طفولتها. فأما المحراب فقال أبو عبيدة: المحراب سيد المجالس. ومقدمها، وأشرفها، وكذلك هو من المسجد. وقال الأصمعي: المحراب هاهنا: الغرفة. وقال الزجاج: المحراب في اللغة: الموضع العالي الشريف. قال الشاعر: ربة محراب إذا جئتها لم ألقها أو أرتقي سلما قوله تعالى: {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} قال ابن عباس: ثمار الجنة، فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف وهذا قول الجماعة. قوله تعالى: {أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا} أي: من اين؟ قال الربيع بن أنس:كان زكريا إذا خرج، أغلق عليها سبعة، أبواب فاذا دخل وجد عندها رزقا. وقال الحسن: لم ترتضع ثديا قط، وكان يأتيها رزقها من الجنة، فيقول زكريا: أنى لك هذا؟ فتقول: هو من عند اللّه، فتكلمت وهي صفيرة. وزعم مقاتل أن زكريا استأجر لها ظئرا، وعلى ما ذكرنا عن ابن إسحاق يكون قوله لها: أنى لك هذا لاستكثار ما يرى عندها وماعليه الجمهور أصح. والحساب في اللغة: التقتير والتضييق. ٣٨ قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} قال المفسرون: لما عاين زكريا هذه الآية العجيبة من رزق اللّه تعالى مريم الفاكهة في غير حينها، طمع في الولد على الكبر. و{مِن لَّدُنْكَ} بمعنى: من عندك والذرية تقال للجمع وتقال للواحد والمراد بها هاهنا الواحد قال الفراء: و إنما قال طيبة لتأنيث الذرية والمراد بالطيبة: النقية الصالحة والسميع: بمعنى السامع وقيل: أراد مجيب الدعاء. ٣٩ قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـئِكَةُ} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابو عمرو، وابن عامر فنادته: بالتاء وقرأ حمزة، والكسائي فناداه بألف ممالة قال ابو علي هو كقوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} [يوسف: ٢٠]. وقرأ علي، وابن مسعود، و ابن عباس، فناداه بألف وفي الملائكة قولان. احدهما: جبريل وحده قال السدي، و مقاتل، ووجهه أن العرب تخبر عن الواحد بلفظ الجمع تقول: ركبت في السفن، وسمعت هذا من الناس. والثاني: انهم جماعة من الملائكة وهو مذهب قوم منهم. ابن جرير الطبري، وفي المحراب قولان. احدهما: أنه المسجد والثاني: أنه قبلة المسجد. وفي تسمية محراب الصلاة محرابا ثلاثة أقوال. احدها: لانفراد الإمام فيه وبعده من الناس ومنه قولهم: فلان حرب لفلان: إذا كان بينهما مباغضة وتباعد ذكره ابن الأنباري عن أبيه عن احمد بن عبيد. والثاني: أن المحراب في اللغة أشرف الأماكن، و أشرف المسجد مقام الإمام. والثالث: أنه من الحرب فالمصلي محارب للشيطان. قوله تعالى: {إِنَّ ٱللّه يُبَشّرُكِ بِغُلَـٰمٍ} قرأ الاكثرون بفتح الألف على معنى: فنادته الملائكة بأن اللّه فلما حذف الجار منها وصل الفعل إليها فنصبها، وقرأ ابن عامر، وحمزة بكسر إن فأضمر القول، والتقدير فنادته: فقالت: إن اللّه يبشرك، وقرأ ابن كثير، و ابو عمرو يبشرك بضم الياء، وفتح الباء والتشديد في جميع القرآن إلا في {حـم عسق} {يُبَشّرُ ٱللّه عِبَادَهُ} [الشورى: ٢٣] فأنهما فتحا الياء وضما الشين وخففاها فأما نافع وابن عامر وعاصم فشدد كل القرآن، وقرأ حمزة يبشر خفيفا في كل القرآن إلا قوله تعالى: {فَبِمَ تُبَشّرُونَ} [الحج: ٥٤]. وقرأ الكسائي يبشر مخففة في خمسة مواضع في {ءالَ عِمْرَانَ} في قصة زكريا وقصة مريم وفي بني اسرائيل وفي الكهف وفي حم عسق قال الزجاج: وفي يبشرك ثلاث لغات احدها: يبشرك بفتح الباء وتشديد الشين، والثانية: يبشرك باسكان الباء وضم الشين، والثالثة: يبشرك بضم الياء و إسكان الباء، فمعنى: يبشرك بالتشديد و يبشرك:بضم الياء البشارة ومعنى: يبشرك بفتح الياء يسرك ويفرحك يقال: بشرت الرجل أبشره إذا أفرحته وبشر الرجل يبشر إلا فرح. وأنشد الأخفش والكسائي: و إذا لقيت الباهشين إلى العلى غبرا أكفهم بقاع ممحل فأعنهم وابشر بما بشروا به و إذا هم نزلوا بضنك فانزل فهذا على بشر يبشر إذا فرح وأصل هذا كله أن بشة الإنسان تنبسط عند السرور ومنه قولهم: يلقاني ببشر أي بوجه منبسط، وفي معنى تسميته يحيى خمسة أقوال. احدها: لأن اللّه تعالى أحيا به عقر أمه قاله ابن عباس. والثاني: لأن اللّه تعالى أحيا قلبه بالإيمان قاله قتادة. والثالث: لأنه أحياه بين شيخ وعجوز، قاله مقاتل. والرابع: لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها قاله الزجاج. والخامس: لأن اللّه أحياه بالطاعة فلم يعص، ولم يهم قاله الحسن بن الفضل، وفي الكلمة قولان. احدهما: أنها عيسى، وسمي كلمة: لأنه بالكلمة كان وهي كن وهذا قول ابن عباس، والحسن، و مجاهد، وقتادة والسدي، و مقاتل. وقيل: إن يحيى كان أكبر من عيسى بستة أشهر، وقتل يحيى قبل رفع عيسى، والثاني: أن الكلمة كتاب اللّه وآياته، وهو قول أبي عبيدة في آخرين، ووجهه أن العرب تقول أنشدني: فلان كلمة أي قصيدة، وفي معنى السيد: ثمانية أقوال. احدها: أنه الكريم على ربه، قاله ابن عباس، و مجاهد. والثاني: أنه الحليم التقي، روي عن ابن عباس، أيضا وبه قال الضحاك. والثالث: أنه الحكيم، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء، وابو الشعثاء، والربيع و مقاتل. والرابع: أنه الفقيه العالم قاله سعيد بن المسيب. والخامس: أنه التقي رواه سالم عن ابن جبير. والسادس: أنه الحسن الخلق رواه أبو روق، عن الضحاك. والسابع: أنه الشريف قاله ابن زيد. والثامن: أنه الذي يفوق قومه في الخير، قاله الزجاج، وقال ابن الأنباري السيد ها هنا: الرئيس، والإمام في الخير فأما الحصور فقال ابن قتيبة: هو الذي لا يأتي النساء وهو فعول بمعنى مفعول، كانه محصور عنهن، أي: محبوس عنهن، وأصل الحصر الحبس ومما جاء على فعول بمعنى مفعول ركوب بمعنى مركوب، وحلوب بمعنى محلوب وهيوب بمعنى مهيب واختلف المفسرين لماذا كان لا يأتي النساء على أربعة أقوال. احدها:أنه لم يكن له ما يأتي به النساء فروى عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال كل بني آدم يأتي يوم القيامة، وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكريا قاله ثم دلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، يده إلى الأرض، فأخذ عودا صغيرا، ثم قال: وذلك أنه لم يكن له ماللرجال إلا مثل هذا العود، ولذلك سماه اللّه سيدا وحصورا وقال سعيد بن المسيب: كان له كالنواة. والثاني: أنه كان لا ينزل الماء، قاله ابن عباس، و الضحاك. والثالث: أنه كان لا يشتهي النساء قاله الحسن، وقتادة، والسدي، والرابع: أنه كان يمنع نفسه من شهواتها، ذكره الماوردي. قوله تعالى: {وَنَبِيّا مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} قال ابن الأنباري: معناه: من الصالحي الحال عند اللّه. ٤٠ قوله تعالى: {قَالَ رَبّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَـٰمٌ} أي: كيف يكون. قال الكميت: أنى ومن أين آبك الطرب قال العلماء: منهم الحسن و ابن الأنباري وابن كيسان كأنه قال من أي وجه يكون لي الولد أيكون بازالة العقر عن زوجتي ورد شبابي، أم يأتي ونحن على حالنا فكان ذلك على سبيل الاستعلام، لا على وجه الشك قال الزجاج يقال: غلام بين الغلومية وبين الغلامية، وبين الغلومة قال شيخنا: أبو منصور اللغوي: الغلام فعال من الغلمة، وهي شدة شهوة النكاح ويقال للكهل غلام. قالت ليلى الأخيلية تمدح الحجاج: .........غلام إذا هز القناة سقاها وكأن قولهم للكهل غلام أي: قد كان مرة غلاما، وقولهم للطفل غلام على معنى التفاؤل أي: سيصير غلاما قال: وقيل الغلام الطار الشارب، ويقال للجارية: غلامة قال الشاعر: يهان لها الغلامة والغلام قوله تعالى: {وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ} أي: وقد بلغت الكبر قال الزجاج: كل شيء بلغته فقد بلغك وفي سنة يؤمئذ ستة أقوال. احدها: أنه كن ابن مائة وعشرين سنة وامرأته بنت ثمان وتسعين سنة، قاله ابن عباس. والثاني: أنه كان ابن بضع وسبعين سنة، قاله قتادة. والثالث: ابن خمس وسبعين، قاله مقاتل. والرابع: ابن سبعين. حكاه فضيل ابن غزوان. والخامس ابن خمس وستين. والسادس: ابن ستين حكاهما الزجاج، قال اللغويون: والعاقر من الرجال والنساء الذي لا يأتيه الولد، و إنما قال: عاقر ولم يقل عاقرة لأن الأصل في هذا الوصف للمؤنث، والمذكر فيه كالمستعار فأجري مجرى طالق «حائض» هذا قول الفراء. ٤١ قوله تعالى: { قَالَ رَبّ ٱجْعَل لِّى ءايَةً} أي: علامة على وجود الحمل، وفي علة سؤاله آية قولان. احدهما: أن الشيطان جاءه فقال: هذا الذي سمعت من صوت الشيطان، ولو كان من وحي اللّه لأوحاه إليك كما يوحي إليك غيره، فسأل. الآية. قاله السدي عن أشياخه. والثاني: أنه إنما سأل الآية على وجود الحمل ليبادر بالشكر، وليتعجل السرور لأن شأن الحمل لا يتحقق بأوله فجعل اللّه آية وجود الحمل حبس لسانه ثلاثة أيام، فأما الرمز فقال الفراء: الرمز بالشفتين والحاجبين والعينين وأكثره في الشفتين، قال ابن عباس. جعل يكلم الناس بيده، و إنما منع من مخاطبة الناس، ولم يحبس عن الذكر للّه تعالى: وقال ابن زيد: كان يذكر اللّه ويشير إلى الناس، وقال عطاء بن السائب، اعتقل لسانه من غير مرض، وجمهور العلماء على أنه إنما اعتقل لسانه آية، على وجود الحمل، وقال قتادة والربيع بن أنس: كان ذلك عقوبة له إذ سأل الآية بعد مشافهة الملائكة بالبشارة. قوله تعالى: {وَسَبّحْ} قال مقاتل: صل قال الزجاج يقال: فرغت من سبحتي أي: من صلاتي وسميت الصلاة: تسبيحا لأن التسبيح تعظيم اللّه وتبرئته، من السوء فالصلاة يوصف فيها بكل ما يبرئه من السوء. قوله تعالى: {بِٱلْعَشِىّ} العشي: من حين نزول الشمس إلى آخر النهار: {وَٱلإبْكَـٰرِ} ما بين طلوع الفجر إلى وقت الضحى قال الشاعر: فلا الظل في برد الضحى تستطيعه ولا الفيء من برد العشي يذوق قال: الزجاج يقال أبكر الرجل يبكر إبكارا، وبكر يبكر تبكيرا، وبكر يبكر. في كل شيء تقدم فيه. ٤٢ قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلَـئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللّه ٱصْطَفَـٰكِ} قال جماعة من المفسرين: المراد بالملائكة: جبريل وحده. وقد سبق معنى الاصطفاء. وفي المراد بالتطهير هاهنا أربعة أقوال. احدها: أنه التطهير من الحيض، قاله ابن عباس، وقال السدي: كانت مريم لا تحيض وقال قوم من الحيض والنفاس. والثاني: من مس الرجال روي عن ابن عباس أيضا. والثالث: من الكفر، قاله الحسن، و مجاهد. والرابع: من الفاحشة والإثم، قاله مقاتل وفي هذا الاصفاء الثاني: أربعة أقوال. احدها: أنه تأكيد للأول. والثاني: أن الأول للعبادة، والثاني: لولادة عيسى عليه السلام، والثالث: أن الاصطفاء الأول اختيار مبهم وعموم يدخل فيه صوالح من النساء، فأعاد الاصطفاء لتفضيلها على نساء العالمين. والرابع: أنه لما أطلق الاصطفاء. الاول: أبان بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال، قال ابن عباس والحسن وابن جريج: اصطفاها على عالمي زمانها قال ابن الأنباري: وهذا قول الاكثرين. ٤٣ قوله تعالى: {ٱلْعَـٰلَمِينَ يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِى لِرَبّكِ} قد سبق شرح القنوت في «البقرة» وفي المراد به ها هنا أربعة أقوال. احدها: أنه العبادة، قاله الحسن. والثاني: طول القيام في الصلاة قاله مجاهد. والثالث: الطاعة، قاله قتادة، والسدي، وابن زيد. والرابع: الإخلاص، قاله سعيد بن جبير، وفي تقديم السجود على الركوع أربعة أقوال. احدها: أن الواو لا تقتضي الترتيب، و إنما تؤذن بالجمع فالركوع مقدم، قاله الزجاج في آخرين. والثاني: أن المعنى استعملي السجود في حال والركوع في حال لا أنها يجتمعان في ركعة فكأنه حث لها على فعل الخير. والثالث: أنه مقدم ومؤخر، والمعنى: اركعي: واسجدي كقوله تعالى: {إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} [آل عمران: ٥٥]. ذكرهما ابن الأنباري. والرابع: أنه كذلك كان في شريعتهم تقديم السجود على الركوع ذكره أبو سليمان الدمشقي. قال مقاتل: ومعناه: اركعي مع المصلين قراء بيت المقدس قال مجاهد سجدت حتى قرحت. ٤٤ قوله تعالى: {ذٰلِكَ مِنْ أَنبَاء ٱلْغَيْبِ} «ذلك» إشارة على ما تقدم من قصة زكرياء ويحيى، وعيسى، ومريم، و الأنباء الأخبار، والغيب ما غاب عنك، والوحي كل شيء دللت به من كلام أو كتاب، أو إشارة، أو رسالة قاله ابن قتيبة، والوحي في القرآن على أوجه تراها في كتابنا الموسوم ب «الوجوه والنظائر» مونقة وفي الأقلام ثلاثة أقوال. احدها: أنها التي يكتب بها، قاله ابن عباس، وابن جبير، والسدي. والثاني: أنها العصي قاله الربيع بن أنس. والثالث: أنها القداح وهو اختيار ابن قتيبة، وكذلك قال الزجاج: هي قداح جعلوا عليها علامات يعرفونها على جهة القرعة، و إنما قيل للسهم. القلم لأنه يقلم أي يبرى وكل ما قطعت منه شيئا بعد شيء فقد قلمته، ومنه القلم الذي يكتب به لأنه قلم مرة بعد مرة، ومنه قلمت أظفاري. قال ومعنى {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} لينظروا أيهم تجب له كفالة مريم وهو الضمان للقيام بأمرها. ومعنى {لَدَيْهِمْ} عندهم وقد سبق شرح كفالتهم لها آنفا ٤٥ وفي المراد بالكلمة هاهنا ثلاثة أقوال. احدها: أنه قول اللّه له كن فكان، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: أنها بشارة الملائكة مريم بعيسى، حكاه أبو سليمان. والثالث: أن الكلمة اسم لعيسى وسمي كلمة: لأنه كان عن الكلمة، وقال القاضي أبو يعلى: لأنه يهتدى به كما يهتدى بالكلمة من اللّه تعالى، وفي تسميته بالمسيح ستة أقوال. احدها: أنه لم يكن لقدمه أخمص والأخص ما يتجافى عن الأرض، من باطن القدم، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إلا برأ، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أنه مسح بالبركة، قاله الحسن، وسعيد. والرابع: أن معنى: المسيح: الصديق، قاله مجاهد، وابراهيم النخعي، وذكره اليزيدي.قال أبو سليمان الدمشقي: ومعنى: هذا أن اللّه مسحه فطهره من الذنوب. والخامس: أنه كان يمسح الأرض، أي: يقطعها، ذكره ثعلب، وبيانه أنه كان كثير السياحة. والسادس: أنه خرج من بطن أمه ممسوحا، بالدهن قاله أبو سليمان الدمشقي، وحكاه ابن القاسم. وقال ابو عبيد المسيح: في كلام العرب على معنيين احدهما المسيح الدجال، والأصل فيه الممسوح لأنه ممسوح احد العينين، والمسيح عيسى، وأصله بالعبرانية مشيحا، بالشين فلما عربته العرب، أبدلت من شينه سينا كما قالوا: موسى وأصله بالعبرانية: موشى قاله ابن الأنباري، و إنما بدأ بلقبه فقال: المسيح عيسى بن مريم لأن المسيح أشهر من عيسى، لأنه قل أن يقع على سمي يشتبه به، وعيسى قد يقع على عدد كثير فقدمه لشهرته ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم فأما قوله عيسى بن مريم، فانما نسبه إلى أمه لينفي، ما قال عنه الملحدون من النصارى، إذ أضافوه إلى اللّه تعالى. قوله تعالى: {وَجِيهاً} قال ابن زيد: التوجيه في كلام العرب المحبب المقبول وقال ابن قتيبة الوجيه ذوالجاه، وقال الزجاج: هو ذو المنزلة الرفيعة عند ذوي القدر، والمعرفة يقال قد وجه الرجل يوجه، وجاهة ولفلان جاه عند الناس أي منزلة رفيعة. قوله تعالى: {وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ} قال قتادة: عند اللّه يوم القيامة، ٤٦ و{المهد} مضجع الصبي في رضاعه، وهو مأخوذ من التمهيد، وهو التوطئه، وفي تكليمه للناس في تلك الحال قولان. احدهما: لتبرئه أمه مما قذفت به، والثاني: لتحقيق معجزته الدالة على نبوته، قال ابن عباس: تكلم ساعة في مهده ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق. {وَكَهْلاً} قال: ابن ثلاثين سنة ارسله اللّه تعالى، فمكث في رسالته ثلاثين شهرا، ثم رفعه اللّه، وقال وهب بن منبه: جاءه الوحي على رأس ثلاثين سنة، فمكث في نبوته ثلاث سنين، ثم رفعه اللّه قال ابن الأنباري: كان عليه السلام قد زاد على الثلاثين، ومن اربى عليها فقد دخل في الكهولة، والكهل عند العرب الذي قد جاوز الثلاثين، و إنما سمي الكهل كهلا لاجتماع قوته، وكمال شبابه، وهو من قولهم قداكتهل النبات، وقال ابن فارس الكهل الرجل حين وخطه الشيب، فان قيل: قد علم أن الكهل يتكلم فعنه ثلاثة اجوبة. احدها: أن هذا الكلام خرج مخرج البشارة بطول عمره، أي أنه يبلغ الكهولة، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: {وَكَهْلاً} قال ذلك: بعد نزوله من السماء، والثاني: أنه أخبرهم أن الزمان يؤثر فيه و أن الايام تنقله من حال إلى حال، ولو كان إلها لم يدخل عليه هذا التغير ذكره ابن جرير الطبري. والثالث: أن المراد بالكهل الحليم قاله مجاهد. ٤٧ قوله تعالى: {قَالَتْ رَبّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِى وَلَدٌ} في علة قولها، هذا قولان. احدهما: أنها قالت هذا تعجبا واستفهاما لا شكا وإنكارا على ما أشرنا إليه في قصة زكريا وعلى هذا الجمهور، والثاني: أن الذي خاطبها كان جبريل، وكانت تظنه آدميا يريد بها سوءا ولهذا قالت: {أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} مريم: ١٨. فلما بشرها لم تتيقن صحة قوله لأنها لم تعلم أنه ملك، فلذلك قالت: {أَنَّىٰ يَكُونُ لِى وَلَدٌ} قاله ابن الأنباري. قوله تعالى: {وَلَمْ يَمْسَسْنِى} أي: ولم يقربني زوج، والمس: الجماع، قاله ابن فارس. وسمي البشر: بشرا، لظهورهم، والبشرة: ظاهر جلد الإنسان، وأبشرت الارض: أخرجت نباتها، وبشرت الأديم: إذا قشرت وجهه، وتباشير الصبح: اوائله. قال: يعني جبريل: {كَذٰلِكَ ٱللّه يَخْلُقُ مَا يَشَاء} أي: بسبب، وبغير سبب. وباقي الآية مفسر في البقرة. ٤٨ قوله تعالى: {وَيُعَلّمُهُ ٱلْكِتَـٰبَ} قرأ الأكثرون، ونعلمه بالنون وقرأ نافع، وعاصم بالياء فعطفاه على قوله يبشرك، وفي الكتاب قولان. احدهما: أنه كتب النبيين وعلمهم، قاله ابن عباس. والثاني: الكتابة، قاله ابن جريج، و مقاتل، قال ابن عباس: والحكمة الفقه وقضاء النبيين. ٤٩ قوله تعالى: {وَرَسُولاً} قال الزجاج: ينتصب على وجهين. احدهما: ونجعله رسولا والاختيار عندي، ويكلم الناس رسولا. قوله تعالى: {أَنِى أَخْلُقُ} قرأ الأكثرون أني بالفتح فجعلوها بدلا من آية فكأنه قال: قد جئتكم بأني أخلق لكم، وقرأ نافع بالكسر قال أبو علي: يحتمل وجهين. احدهما: أن يكون مستأنفا. والثاني: أنه فسر الآية بقوله إني أخلق أي أصور وأقدر قال ابن عباس: أخذ طينا، وصنع منه خفاشا، ونفخ فيه فاذا هو يطير، ويقال: لم يصنع غير الخفاش، ويقال إن بني إسرائيل نعتوه بذلك، لأن الخفاش عجيب الخلق. وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال لهم: ماذا تريدون؟ قالوا الخفاش: فسألوه أشد الطير خلقا؛ لأنه يطير بغير ريش. وقال وهب: كان الذي صنعه يطير ما دام الناس ينظرونه، فاذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليميز فعل الخلق من فعل الخالق، والأكثرون قرؤوا {فَيَكُونُ طَيْرًا} وقرأ نافع هاهنا: وفي المائدة طائرا قال أبو علي حجة الجمهور قوله تعالى: {كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ} ولم يقل كهيئة الطائر ووجهة قراءة نافع أنه أراد يكون ما أنفخ فيه، أو ما اخلقه طائرا، وفي الأكمه أربعة أقوال. احدها: أنه الذي يولد أعمى، رواه الضحاك عن ابن عباس، وسعيد عن قتادة، وبه قال اليزيدي: و ابن قتيبة، و الزجاج. والثاني: أنه الأعمى ذكره ابن جريج عن ابن عباس، ومعمر عن قتادة، وبه قال الحسن والسدي، وحكى الزجاج عن الخليل: أن الأكمه هو الذي يولد أعمى، وهو الذي يعمى و إن كان بصيرا. والثالث: أنه الأعمش، قاله عكرمة. والرابع: أنه الذي يبصر بالنهار، ولا يبصر بالليل، قاله مجاهد، و الضحاك، والأبرص، الذي به وضح وكان الغالب على زمان عيسى عليه السلام، علم الطب فأراهم المعجزة من جنس ذلك إلا أنه ليس في الطب، إبراء الأكمه، والأبرص، وكان ذلك دليلا على صدقه.قال وهب: ربما اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفا، و إنما كان يداويهم بالدعاء، وذكر المفسرون أنه أحيا أربعة أنفس من الموت، وعن ابن عباس أن الاربعة كلهم بقي حتى ولد له إلا سام بن نوح. قوله تعالى: {وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ} قال سعيد بن جبير: كان عيسى إذا كان في المكتب يخبرهم بما يأكلون، ويقول للغلام يا غلام إن أهلك قد هيئوا، لك كذا، وكذا من الطعام فتطعمني منه وقال مجاهد: بما أكلتم البارحة، و بما خبأتم منه، وعلى هذا المفسرون إلا أن قتادة كان يقول، وأنبئكم بما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم، وما تدخرون منها وكان اخذ عليهم أن يأكلوا منها، ولا يدخروا فلما خانوا مسخوا خنازير. ٥٠ قوله تعالى: {وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ} قال الزجاج:نصب «صدقا» على الحال أي وجئتكم مصدقا {وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ} قال قتادة: كان قد حرم عليهم موسى الابل والثروب وأشياء من الطير، فأحلها عيسى. قوله تعالى: و{جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ} أي: بآيات تعلمون بها صدقي، و إنما وحد لأن الكل من جنس واحد {مّن رَّبّكُمْ} أي: من عند ربكم. ٥١ {إن اللّه ربي وربكم فاعبدوه هذا...} ٥٢ قوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ} أي: علم قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: أحسست بالشيء، وحسست به. وقول الناس في المعلومات «محسوسات» خطأ، إنما الصواب «المحسات» فأما المحسوسات، فهي المقتولات، يقال حسه: إذا قتله. والأنصار: الأعوان. و «إلى» بمعنى «مع» في قول الجماعة، قال الزجاج: و إنما حسنت في موضع «مع» لأن «إلى» غاية و «مع» تضم الشى بالشى. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون المعنى: من أنصاري إلى أن أبين أمر اللّه. واختلفوا في سبب استنصاره بالحواريين، فقال مجاهد: لما كفر به قومه، وأرادوا قتله، استنصر الحواريين. وقال غيره: لما كفروا به، وأخرجوه من قريتهم، استنصر الحواريين. وقيل: استنصرهم، لإقامة الحق، وإظهار الحجة والجمهور على تشديد «ياء» الحواريين. وقرأ الجوني والجحدري و أبو حيوة: الحواريون بتخفيف الياء وفي معنى: الحواريين ستة أقوال. احدها: انهم الخواص الأصفياء، قال ابن عباس: الحواريون أصفياء عيسى، وقال الفراء: كانوا خاصة عيسى، وقال الزجاج: الحواريون في اللغة الذين أخلصوا ونقوا من كل عيب، وكذلك الدقيق الحواري، إنما سمي بذلك: لأنه ينقى من لباب البر، وخالصه قال حذاق: اللغويين الحواريون صفوة الأنبياء، الذين خلصوا، وأخلصوا في تصديقهم، ونصرتهم ويقال: عين حوراء إذا اشتد بياضها، وخلص واشتد سوادها، ولا يقال: امرأة حوراء إلا أن تكون مع حور عينها بيضاء. والثاني: انهم البيض الثياب روى سعيد بن جبير عن ابن عباس انهم سموا بذلك لبياض ثيابهم. والثالث: انهم القصارون سموا بذلك لأنهم كانوا يحورون الثياب أي يبيضونها، قال الضحاك، و مقاتل، الحواريون هم القصارون قال اليزيدي: ويقال للقصارين الحواريون، لأنهم يبيضون الثياب، ومنه سمي: الدقيق الحوارى والعين الحوراء النقية المحاجر، والرابع: الحواريون المجاهدون. وأنشدوا: ونحن أناس يملأ البيض هامنا ونحن حواريون حين نزاحف جماجنا يوم اللقاء تراسنا إلى الموت نمشي ليس فينا تحانف والخامس: الحواريون الصيادون، والسادس: الحواريون الملوك، حكى هذه الاقوال الثلاثة ابن الأنباري، قال ابن عباس: وعدد الحواريين اثنا عشر رجلا وفي صناعتهم قولان. احدهما: انهم كانوا يصطادون السمك، رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس. والثاني: انهم كانوا يغسلون الثياب، قاله الضحاك، و أبو أرطاة. ٥٣ قوله تعالى: {رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ} هذا قول الحواريين، والذي أنزل الانجيل والرسول عيسى، وفي المراد بالشاهدين خمسة أقوال. احدها: انهم محمد صلى اللّه عليه وسلم، وأمته من المؤمنين، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. والثالث: انهم الأنبياء لأن كل نبي شاهد أمته، قاله عطاء. والرابع: أن الشاهدين الصادقون، قاله مقاتل. والخامس: انهم الذين شهدوا للأنبياء بالتصديق فمعنى الآية: صدقنا: واعترفنا فاكتبنا مع من فعل فعلنا هذا قول الزجاج. ٥٤ قوله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللّه} قال الزجاج: المكر من الخلق خبث، وخداع ومن اللّه عز وجل المجازاة فسمي باسم ذلك لأنه مجازاة عليه كقوله تعالى: {ٱللّه يَسْتَهْزِىء بِهِمُ} البقرة: ١٥. {وَٱللّه خَيْرُ ٱلْمَـٰكِرِينَ} آل عمران: ٥٤. لأن مكره مجازاة ونصر للمؤمنين قال ابن عباس: ومكرهم أن اليهود أرادوا قتل عيسى، فدخل خوخة فدخل رجل منهم، فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى إلى السماء، فلما خرج إليهم ظنوه عيسى فقتلوه. ٥٥ انظر تفسير الآية ٥٦ ٥٦ قوله تعالى: {إِذْ قَالَ ٱللّه يٰعِيسَى إِنّي مُتَوَفّيكَ} قال ابن قتيبة: التوفي من استيفاء العدد، يقال: توفيت، واستوفيت، كما يقال: تيقنت الخبر، واستيقنته، ثم قيل للموت: وفاة وتوف. وأنشد أبو عبيدة: إن بني الأدرد ليسوا من أحد ليسوا إلى قيس وليسوا من أسد ولا توفاهم قريش في العددأي: لا تجعلهم وفاء لعددها، والوفاء التمام وفي هذا التوفي قولان. احدهما: أنه الرفع إلى السماء، والثاني: أنه الموت فعلى القول الاول، يكون نظم الكلام مستقيما من غير تقديم، و لاتأخير، ويكون معنى متوفيك قابضك من الأرض، وافيا تاما من غير أن ينال منك اليهود شيئا، هذا قول الحسن، وابن جريج، و ابن قتيبة، واختاره الفراء. ومما يشهد لهذا الوجه قوله تعالى: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: ١١٧]. أي: رفعتني إلى السماء من غير موت، لأنهم إنما بدلوا بعد رفعه، لا بعد موته وعلى القول الثاني يكون في الآية تقديم وتأخير، تقديره إني رافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد ذلك هذا قول الفراء، و الزجاج في آخرين. فتكون الفائدة في إعلامه بالتوفي تعريفه أن رفعه إلى السماء لا يمنع من موته. قال سعيد بن المسيب: رفع عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وقال مقاتل: رفع من بيت المقدس ليلة القدر، في رمضان، وقيل عاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين، ويقال ماتت قبل رفعه. قوله تعالى: {وَمُطَهّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} فيه قولان. احدهما: أنه رفعه من بين اظهرهم. والثاني: منعهم من قبله، وفي الذين اتبعوه قولان. احدهما: انهم المسلمون من امة محمد صلى اللّه عليه وسلم، لأنهم صدقوا بنبوته، و أنه روح اللّه، وكلمته هذا قول قتادة والربيع، وابن السائب. والثاني: انهم النصارى فهم فوق اليهود، واليهود مستذلون مقهورون قاله ابن زيد. قوله تعالى: {فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ} يعني: الدين. قوله تعالى: {تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} قيل: هم اليهود والنصارى وعذابهم في الدنيا بالسيف والجزية وفي الآخرة بالنار. ٥٧ قوله تعالى: {فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ} قرأ الأكثرون بالنون، وقرأ الحسن، وقتادة، وحفص عن عاصم: فيوفيهم بالياء معطوفا على قوله تعالى: {إِذْ قَالَ ٱللّه يٰعِيسَى...} ٥٨ قوله تعالى: {ذٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ} يعني: ما جرى من القصص {مِنَ ٱلاْيَـٰتِ} يعني الدلالات على صحة رسالتك إذ كانت أخبارا لا يعلمها أمي {وَٱلذّكْرِ ٱلْحَكِيمِ} قال ابن عباس هو القرآن قال الزجاج: معناه ذو الحكمة في تأليفه ونظمه، وإبانة الفوائد منه. ٥٩ قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللّه كَمَثَلِ ءادَمَ} قال أهل التفسير: سبب نزول هذه الآية مخاصمة، وفد نجران من النصارى للنبي صلى اللّه عليه وسلم، في أمر عيسى وقد ذكرناه في أول السورة فأما تشبيه عيسى بآدم، فلأنهما جميعا من غير أب. قوله تعالى: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} يعني: آدم قال ثعلب، وهذا تفسير لأمر آدم وليس بحال. قوله تعالى: {ثُمَّ قَالَ لَهُ} يعني لآدم، وقيل لعيسى {كُنْ فَيَكُونُ} أي: فكان: فأريد بالمستقبل الماضي كقوله تعالى: {وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ} أي: ماتلت الشياطين. ٦٠ قوله تعالى: {ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ} قال الزجاج: الحق مرفوع على خبر ابتداء محذوف، المعنى: الذي أنبأتك به في قصة عيسى الحق من ربك {فَلاَ تَكُنْ مّن ٱلْمُمْتَرِينَ} أي: الشاكين والخطاب للنبي خطاب للخلق، لأنه لم يشك. ٦١ قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} في هاء فيه قولان. احدهما: أنها ترجع إلى عيسى، والثاني: إلى الحق والعلم البيان والإيضاح. قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْاْ} قال ابن قتيبة: تعالى: تفاعل، من علوت، ويقال للاثنين من الرجال والنساء: تعاليا، وللنساء: تعالين. قال الفراء: أصلها من العلو، ثم إن العرب لكثرة استعمالهم إياها، صارت عندهم بمنزلة هلم حتى استجازوا أن يقولوا للرجل، وهو فوق شرف تعالى أي: اهبط و إنما أصلها الصعود قال المفسرون أراد بأبنائنا فاطمة، والحسن والحسين وروى مسلم في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقاص قال: لما نزلت هذه الآية {تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ} دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللّهم هؤلاء أهلي. قوله تعالى: {وَأَنفُسَنَا} فيه خمسة اقوال. احدها: أراد علي بن أبي طالب قاله الشعبي، والعرب تخبر عن ابن العم بانه نفس ابن عمه. والثاني: أراد الاخوان قاله ابن قتيبة. والثالث: أراد أهل دينه قاله أبو سليمان الدمشقي. والرابع: أراد الأزواج. والخامس: أراد القرابة القريبة، ذكرهما علي بن احمد النيسابوري، فأما الابتهال، فقال ابن قتيبة: هو التداعي باللعن يقال: عليه بهلة اللّه وبهلته أي: لعنته وقال الزجاج: معنى الابتهال في اللغة المبالغة في الدعاء، وأصله الالتعان يقال: بهله اللّه، أي: لعنه وأمر بالمباهلة، بعد إقامة الحجة قال جابر بن عبد اللّه: قدم وفد نجران فيهم السيد والعاقب، فذكر الحديث إلى أن قال: فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه أن يفادياه، فغدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل اليهما، فأبيا أن يجيباه فأقرا له بالخراج فقال: والذي يعثني بالحق لو فعلا، لأمطر الوادي عليهم نارا. ٦٢ قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ ٱللّه} قال الزجاج: دخلت من هاهنا: توكيدا ودليلا على نفي جميع ما ادعى المشركون من الآلهة. ٦٣ قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} فيه ثلاثة أقوال. احدها: عن الملاعنة قاله مقاتل. والثاني: أنه عن البيان الذي أتى به النبي، صلى اللّه عليه وسلم، قاله الزجاج. والثالث: عن الإقرار بوحدانية اللّه وتنزيهه عن الصاحبة والولد، قاله أبو سليمان الدمشقي، وفي الفساد هاهنا: قولان. احدهما: أنه العمل بالمعاصي، قاله مقاتل. والثاني: الكفر ذكره الدمشقي. ٦٤ قوله تعالى: { قل يا أهل الكتاب } فيه ثلاثة أقوال. احدها: انهم اليهود قاله قتادة، وابن جريج، والربيع بن أنس. والثاني: وفد نجران الذين حاجوا في عيسى، قاله السدي، و مقاتل. والثالث: أهل الكتابين جميعا، قاله الحسن. وقال ابن عباس: نزلت في القسيسين والرهبان، فبعث بها النبي صلى اللّه عليه وسلم، إلى جعفر، و أصحابه بالحبشة فقرأها جعفر والنجاشي جالس، وأشراف الحبشة فأما الكلمة فقال المفسرون هي: لا إله إلا اللّه فان. قيل: فهذه كلمات فلم قال كلمة فعنه جوابان. احدهما: أن الكلمة تعبر عن ألفاظ. وكلمات قال اللغويون: ومعنى: كلمة: كلام فيه شرح قصة، وإن طال تقول العرب: قال: زهير في كلمته: يراد في قصيدته. قالت الخنساء: وقافيه مثل حد السنا ن تبقى ويذهب من قالها تقد الذؤابة من يذبل أبت أن تزايل أوعالها نطقت ابن عمرو فسهلتها ولم ينطق الناس أمثالها فأوقعت القافية على القصيدة كلها، والغالب على القافية أن تكون في آخر كلمة، من البيت، و إنما سميت قافية، لإن الكلمة تتبع البيت، وتقع آخره، فسميت قافية من قول العرب: قفوت فلانا: إذا اتبعته، و إلى هذا الجواب يذهب الزجاج وغيره. والثاني: أن المراد بالكلمة: كلمات، فاكتفى بالكلمة من كلمات، كما قال علقمة بن عبدة. بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب أراد: وأما جلودها، فاكتفى بالواحد من الجمع، ذكره والذي قبله ابن الأنباري. قوله تعالى: {سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} قال الزجاج: يعني بالسواء العدل، وهو من استواء الشىء،ويقال للعدل سَواء وسِواء وسُواء.قول العبدي بن أبي سلمى: أروني خطة لاضيم فيها يسوي بيننا فيها السواء فان تدعوا السواء فليس بيني وبينكم بني حصن بقاء قال: وموضع «أن» في قوله تعالى {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ ٱللّه} خفض على البدل من «كلمة» المعنى: تعالوا إلى أن لا نعبد إلا اللّه. وجائز أن يكون «أن» في موضع رفع، كأن قائلا قال: ما الكلمة؟ فأجيب، فقيل: هي ألا نعبد إلا اللّه. قوله تعالى: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ٱللّه} فيه ثلاثة أقوال. احدها: أن سجود بعضهم لبعض، قاله عكرمة. والثاني: لا يطيع بعضنا بعضا في معصية اللّه، قاله ابن جريج. والثالث: أن نجعل غير اللّه ربا، كما قالت النصارى في المسيح، قاله مقاتل، و الزجاج. ٦٥ قوله تعالى: {مُسْلِمُونَ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إِبْرٰهِيمَ} قال ابن عباس، والحسن، والسدي: اجتمع عند الني صلى اللّه عليه وسلم نصارى نجران، وأحبار اليهود، فقال هؤلاء: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقال هؤلاء: ما كان إلا نصارنيا. فنزلت هذه الآية. ٦٦ قوله تعالى: {أَنتُمْ} قرأ ابن كثير «هأنتم» مثل: هعنتم، فأبدل من همزة الاستفهام «الهاء» أراد: أأنتم. وقرأ نافع و ابو عمرو «هانتم» ممدودا، استفهام بلا همزة، وقرأ عاصم، وابن عامر، و حمزة، والكسائي، «ها أنتم» ممدودا، مهموزا، ولم يختلفوا في مد «هؤلاء» و «أولاء». قوله تعالى: {فِيمَا ليس لَكُم بِهِ عِلمٌ} فيه قولان. احدهما: أنه ما راوا وعاينوا، قاله قتادة. والثاني: ما أمروا به، ونهوا عنه، قاله السدي. فأما الذي ليس لهم به علم، فهو شأن إبراهيم عليه السلام. وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان بين إبراهيم وموسى، خمسمائة وخمس وسبعون سنة. وبين موسى وعيسى ألف وستمائة واثنتان وثلاثون سنة. وقال ابن إسحاق: كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة وخمس وستون سنة، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة. وقد سبق في {البقرة} معنى الحنيف. ٦٧ {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً...} ٦٨ قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى ٱلنَّاسِ بِإِبْرٰهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ} في سبب نزولها قولان. احدهما: أن رؤساء اليهود قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم: لقد علمت أنا أولى بدين إبراهيم منك، و أنه كان يهوديا، وما بك إلا الحسد، فنزلت هذه الآية ومعناها: أحق الناس بدين إبراهيم، الذين اتبعوه على دينه، وهذا النبي صلى اللّه عليه وسلم على دينه، قاله ابن عباس. والثاني: أن عمرو بن العاص أراد أن يغضب النجاشي على أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال للنجاشي: إنهم ليشتمون عيسى. فقال النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى؟ فقالوا: يقول: إنه عبد اللّه وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم. فأخذ النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين، فقال واللّه ما زاد على ما يقول صاحبكم ما يزن هذا القذى، ثم قال: أبشروا، فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم. قال عمرو بن العاص: ومن حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبهم. فأنزل اللّه يوم خصومتهم على النبي صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية، هذا قول عبد الرحمن بن غنم. ٦٩ قوله تعالى: {وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} سبب نزولها أن اليهود قالوا لمعاذ بن جبل، وعمار بن ياسر: تركتما دينكما، واتبعتما دين محمد، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. والطائفة: اسم لجماعة مجتمعين على ما اجتمعوا عليه من دين، ورأي، ومذهب، وغير ذلك. و في هذه الطائفة قولان. احدهما: انهم اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: اليهود والنصارى، قاله أبو سليمان الدمشقي. والضلال: الحيرة. وفيه هاهنا قولان. احدهما: أنه الاستنزال عن الحق إلى الباطل، وهو قول ابن عباس، و مقاتل. والثاني: الإهلاك ومنه {ضَلَلْنَا فِى ٱلاْرْضِ أَءنَّا} [السجدة: ١٠]. قاله ابن جرير، والدمشقي. وفي قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} قولان. احدهما: وما يشعرون أن اللّه يدل المؤمنين على حالهم، والثاني: وما يشعرون أنهم يضلون أنفسهم. ٧٠ قوله تعالى: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِـئَيَـٰتِ ٱللّه} قال قتادة: يعني محمدا والإسلام {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} أن بعث محمد في كتابكم، ثم تكفرون به. ٧١ قوله تعالى: {لِمَ تَلْبِسُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَـٰطِلِ} قال اليزيدي: معناه: لم تخلطون الحق بالباطل؟ قال ابن فارس: واللبس: اختلاط الأمر، وفي الأمر لبسة، أي: ليس بواضح. وفي الحق والباطل أربعة أقوال. احدها: أن الحق: إقرارهم ببعض أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم، والباطل: كتمانهم بعض أمره. والثاني: الحق: إيمانهم بالنبي صلى اللّه عليه وسلم غدوة، والباطل: كفرهم به عشية، رويا عن ابن عباس. والثالث: الحق: التوراة، والباطل: ما كتبوه فيها بأيديهم، قاله الحسن، وابن زيد. والرابع: الحق: الإسلام، والباطل: اليهودية والنصرانية، قاله قتادة. قوله تعالى: {وَتَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ} قال قتادة: كتموا الإسلام، وكتموا محمدا صلى اللّه عليه وسلم. ٧٢ قوله تعالى: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ} في سبب نزلوها قولان. احدهما: أن طائفة من اليهود قالوا: إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار، فآمنوا، و إذا كان آخره، فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون: هؤلاء أهل الكتاب، وهم اعلم منا، فينقلبون عن دينهم، رواه عطية عن ابن عباس. وقال الحسن والسدي: تواطأ اثنا عشر حبرا من اليهود، فقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد باللسان اول النهار، واكفروا آخره، وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمد ليس بذلك، فيشك أصحابه في دينهم، ويقولون: هم أهل الكتاب، وهم اعلم منا، فيرجعون إلى دينكم، فنزلت هذه الآية. و إلى هذا المعنى ذهب الجمهور. والثاني: أن اللّه تعالى صرف نبيه إلى الكعبة عند صلاة الظهر، فقال قوم من علماء اليهود: {ءامِنُواْ بِٱلَّذِي أُنزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ} يقولون: آمنوا بالقبلة التي صلوا إليها الصبح، واكفروا بالتي صلوا إليها آخر النهار، لعلهم يرجعون إلى قبلتكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال مجاهد، وقتادة، و الزجاج في آخرين: وجه النهار: أوله. وأنشد الزجاج: من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار يجد النساء حواسرا يندبنه قد قمن قبل تبلج الأسحار ٧٣ قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} اختلف العلماء في توجيه هذه الآية على أربعة أقوال. احدها: أن معناه: و لا تصدقوا إلا من تبع دينكم، ولا تصدقواأن يؤتى أحد مما أوتيتم من العلم، وفلق البحر، والمن، والسلوى، وغير ذلك، ولا تصدقوا أن يجادلوكم عند ربكم، لأنكم أصح دينا منهم، فيكون هذا كله من كلام اليهود بينهم، وتكون اللام في «لمن» صلة، ويكون قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللّه} كلاما معترضا بين كلامين، هذا معنى قول مجاهد، والأخفش. والثاني: أن كلام اليهود تام عند قوله: {لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} والباقي من قول اللّه تعالى، لا يعترضه شيء من قولهم، وتقديره: قل يا محمد: إن الهدى هدى اللّه أن يؤتى احد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد، إلا أن تجادلكم اليهود بالباطل، فيقولون: نحن أفضل منكم، هذا معنى قول الحسن، وسعيد بن جبير. قال الفراء: معنى: «أن يؤتى» أن لا يؤتى. والثالث: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، تقديره: ولا تؤمنوا أن يؤتى احد مثل ما أوتيتم، إلا من تبع دينكم، فأخرت «أن» وهي مقدمة في النية على مذهب العرب في التقديم والتأخير، ودخلت اللام على جهة التوكيد، كقوله تعالى: {عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} [النمل: ٧٢] أي ردفكم. وقال الشاعر: ما كنت أخدع للخليل بخلة حتى يكون لي الخليل خدوعا أراد: ما كنت أخدع الخليل. وقال الآخر: يذمون الدنيا وهم يحلبونها أفاويق حتى ما يدر لها ثعل أراد: يذمون الدنيا، ذكره ابن الأنباري. والرابع: أن اللام غير زائدة، والمعنى: لا تجعلوا تصديقكم النبي في شيء مما جاء به إلا لليهود، فانكم إن قلتم ذلك للمشركين، كان عونا لهم على تصديقه، قاله الزجاج. وقال ابن الأنباري: لا تؤمنوا أن محمدا وأصحابه على حق، إلالمن تبع دينكم، مخافة أن يطلع على عنادكم الحق، ويحاجوكم به عند ربكم. فعلى هذا يكون معنى الكلام: لا تقروا بأن يؤتى احد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، وقد ذكر هذا المعنى مكي بن أبي طالب النحوي. وقرأ ابن كثير: أان يؤتى بهمزتين، الأولى مخففة، والثانية: ملينة على الاستفهام، مثل: أانتم أعلم. قال ابو علي: ووجهها «أن» أن في موضع رفع بالابتداء، وخبره: يصدقون به، أو يعترفون به، أو يذكرونه لغيركم، ويجوز أن يكون موضع «أن» نصبا، فيكون المعنى: أتشيعون، أو أتذكرون أن يؤتى احد، ومثله في المعنى: {أَتُحَدّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللّه عَلَيْكُمْ} [البقرة: ٧٦] وقرأ الأعمش، وطلحة بن مصرف: إن يؤتى، بكسر الهمزة، على معنى: ما يؤتى. وفي قوله تعالى: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ} قولان. احدهما: أن معناه: ولا تصدقوا انهم يحاجوكم عند ربكم، لأنهم لا حجة لهم، قاله قتادة. والثاني: أن معناه: حتى يحاجوكم عند ربكم على طريق التعبد، كما يقال: لا يلقاه أو تقوم الساعة، قاله الكسائي. قوله تعالى: {إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللّه} قال ابن عباس: يعني النبوة، والكتاب، والهدى. {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود من أنه لا يؤتى احد مثل ما أوتيتم. ٧٤ قوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء} في الرحمة ثلاثة أقوال. احدها: أنها الإسلام، قاله ابن عباس، و مقاتل. والثاني: النبوة، قاله مجاهد. والثالث: القرآن والإسلام، قاله ابن جريج. ٧٥ قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ} قال ابن عباس: أودع رجل ألفا ومئتي أوقيه من ذهب عبد اللّه بن سلام، فأداهما إليه، فمدحه اللّه بهذا الآية، وأودع رجل فنحاص بن عازوراء دينارا، فخانه. و أهل الكتاب: اليهود. وقد سبق الكلام في القنطار. وقيل إن «الباء» في قوله: «بقنطار» بمعنى «على» فأما الدينار، فقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: الدينار فارسي معرب، وأصله: دنار، وهو وإن كان معربا، فليس تعرف له العرب اسما غير الدينار، فقد صار كالعربي، ولذلك ذكره اللّه تعالى في كتابه، لأنه خاطبهم بما عرفوا، واشتقوا منه فعلا، فقالوا: رجل مدنر: كثير الدنانير. وبرذون مدنر: أشهب مستدير النقش ببياض وسواد. فان قيل: لم خص أهل الكتاب بأن فيهم خائنا وأمينا والخلق على ذلك، فالجواب: انهم يخونون المسليمن استحلالا لذلك، وقد بينه في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِى ٱلامّيِينَ سَبِيلٌ} فحذر منهم. وقال مقاتل: الأمانة ترجع إلى من أسلم منهم، والخيانة إلى من لم يسلم. وقيل: إن الذين يؤدون الأمانة: النصارى، والذين لا يؤدونها: اليهود. قوله تعالى: {إِلا * دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: دمت ودمتم، ومت ومتم. وتميم يقولون: مت و دمت بالكسر، ويجتمعون في «يفعل» يدوم و يموت. وفي هذا القيام قولان. احدهما: أنه التقاضي، قاله مجاهد، وقتادة، و الفراء، و ابن قتيبة، و الزجاج. قال ابن قتيبة: والمعنى: مادمت مواظبا بالاقتضاء له والمطالبة. وأصل هذا أن المطالب بالشيء يقوم فيه، ويتصرف. والتارك له يقعد عنه. [قال الأعشى: يقوم على الرغم في قومه فيعفوا إذا شاء أو ينتقم أي: يطالب بالذخل ولا يقعد عنه. قال تعالى: {لَيْسُواْ سَوَاء}] {مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: ١١٣] أي: علامة غير تاركة، وقال تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: ٣٣] أي: آخذ لها بما كسبت. والثاني: أنه القيام حقيقة، فتقديره: إلا ما دمت قائما على رأسه، فانه يعترف بأمانته، فاذا ذهبت، ثم جئت، جحدك، قاله السدي. قوله تعالى: {ذٰلِكَ} يعني: الخيانة. والسبيل: الإثم والحرج، ونظيره {مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} [التوبة: ٩١] قال قتادة: إنما استحل اليهود أموال المسلمين، لأنهم عندهم ليسوا أهل كتاب. قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللّه ٱلْكَذِبَ} قال السدي: يقولون: قد أحل اللّه لنا أموال العرب. قوله تعالى: {وهم يعلمون}: قولان. احدهما: يعلمون أن اللّه قد أنزل في التوراة الوفاء، وأداء الأمانة. والثاني: يقولون الكذب، وهم يعلمون أنه كذب. ٧٦ قوله تعالى: {بَلَىٰ} رد اللّه عز وجل عليهم قولهم: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِى ٱلامّيِينَ سَبِيلٌ} بقوله: {بَلَىٰ} قال الزجاج: وهو عندي وقف التمام، ثم استأنف، فقال: {مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ} ويجوز أن يكون استأنف جملة الكلام بقوله: {بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ}. والعهد: ما عاهدهم اللّه عز وجل عليه في التوراة. وفي «هاء» {عَهْدَهُ} قولان. احدهما: أنها ترجع إلى اللّه تعالى. والثاني: إلى الموفي. ٧٧ قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ ٱللّه وَأَيْمَـٰنِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. احدها: أن الأشعث بن قيس خاصم بعض اليهود في أرض، فجحده اليهودي، فقدمه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال [له]: «ألك بينة»؟ قال: لا. قال لليهودي: «أتحلف»؟ فقال الأشعث: إذا يحلف فيذهب بمالي. فنزلت هذه الآية. أخرجه البخاري، ومسلم. والثاني: أنها نزلت في اليهود، عهد اللّه إليهم في التوراة تبيين صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم، فجحدوا، وخالفوا لما كانوا ينالون من سفلتهم من الدنيا، هذا قول عكرمة، و مقاتل. والثالث: أن رجلا أقام سلعته في السوق اول النهار، فلما كان آخره، جاء رجل، يساومه، فحلف: لقد منعها اول النهار من كذا، ولولا المساء لما باعها به، فنزلت هذا الآية، هذا قول الشعبي، و مجاهد. فعلى القول الأول، والثالث، العهد: لزوم الطاعة، وترك المعصية، وعلى الثاني: ما عهده إلى اليهود في التوارة. واليمين: الحلف. و إن قلنا: إنها في اليهود، والكفار، فان اللّه لا يكلمهم يوم القيامة أصلا. وإن قلنا: إنها في العصاة، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: لا يكلمهم اللّه كلام خير. ومعنى: {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ}، أي: لا يعطف عليهم بخير مقتا لهم، قال الزجاج: تقول: فلان لا ينظر إلى فلان، ولا يكلمه، معناه: أنه غضبان عليه. قوله تعالى: {وَلاَ يُزَكّيهِمْ} أي: لا يطهرهم من دنس كفرهم وذنوبهم. ٧٨ قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا} اختلفوا فيمن نزلت على قولين. احدهما: أنها نزلت في اليهود، رواه عطية عن ابن عباس. والثاني: في اليهود والنصارى، رواه الضحاك، عن ابن عباس. قوله تعالى: {وَأَنْ} هي كلمة مؤكدة، واللام في قوله: «لفريقا» بتوكيد زائد على توكيد «إن» قال ابن قتيبة: ومعنى {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم}: يقلبونها بالتحريف والزيادة والألسنة: جمع لسان، قال ابو عمرو: واللسان يذكر ويؤنث، فمن ذكره جمعه: ألسنه، ومن أنثه، جمعه: ألسنا. وقال الفراء: اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلا مذكرا. وتقول العرب: سبق من فلان لسان، يعنون به الكلام، فيذكرونه. وأنشد ابن الأعرابي: لسانك معسول ونفسك شحة وعند الثريا من صديقك مالكا وأنشد ثعلب: ندمت على لسان كان مني فليت بأنه في جوف عكم والعكم: العدل. ودل بقوله: كان مني، على أن اللسان الكلام. وأنشد ثعلب: أتتني لسان بني عامر أحاديثها بعد قول نكر فأنث اللسان لأنه عنى الكلمة والرسالة. ٧٩ قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. احدها: أن قوما من رؤساء اليهود والنصارى، قالوا: يا محمد أتريد أن نتخذك ربا؟ فقال: معاذاللّه، ما بذلك بعثني، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. والثاني: أن رجلا قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم: ألا نسجد لك؟ قال: «لا، فانه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون اللّه» فنزلت هذه الآية، قاله الحسن البصري. والثالث: أنها نزلت في نصارى نجران حيث عبدوا عيسى. قاله الضحاك، و مقاتل. وفيمن عنى ب «البشر» قولان. احدهما: محمد صلى اللّه عليه وسلم. والكتاب: القرآن، قاله ابن عباس، وعطاء. والثاني: عيسى، والكتاب: الإنجيل، قاله الضحاك، و مقاتل. والحكم: الفقه والعلم، قاله قتادة في آخرين. قال الزجاج: ومعنى الآية: لا يجتمع لرجل نبوة، والقول للناس: كونوا عبادا لي من دون اللّه،لأن اللّه لا يصطفي الكذبة. قوله تعالى: {وَلَـٰكِن كُونُواْ} أي: ولكن يقول لهم: كونوا، فحذف القول لدلالة الكلام عليه. فأما الربانيون، فروي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه أنه قال: هم الذين يعذون الناس بالحكمة، ويربونهم عليها. وقال ابن عباس، وابن جبير: هم الفقهاء المعلمون. وقال قتادة، وعطاء: هم الفقهاء العلماء الحكماء. قاله ابن قتيبة: واحدهم رباني، وهم العلماء المعلمون. وقال أبو عبيد: أحسب الكلمة ليست بعربية، إنما هي عبرانية، أو سريانية، وذلك أن ابا عبيدة زعم أن العرب لا تعرف الربانيين. قال ابو عبيد: و إنما عرفها الفقهاء، و أهل العلم، قال: وسمعت رجلا عالما بالكتب يقول: هم العلماء بالحلال والحرام، والأمر والنهي. وحكى ابن الأنباري عن بعض اللغويين: الرباني: منسوب إلى الرب، لأن العلم: مما يطاع اللّه به، فدخلت الألف والنون في النسبة للمبالغة، كما قالوا: رجل لحياني: إذا بالغوا في وصفه بكبر اللحية. قوله تعالى: {بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ ٱلْكِتَـٰبَ} قرأ ابن كثير، ونافع و ابو عمرو: تعلمون، باسكان العين، ونصب اللام. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: تعلمون مثقلا، وكلهم قرؤوا: «تدرسون» خفيفة. وقرأ ابن مسعود، و ابن عباس، وابو رزين، وسيعد بن جبير، وطلحة بن مصرف، و أبو حيوه: تدرسون، بضم التاء مع التشديد. والدراسة: القراءة. قال الزجاج: ومعنى الكلام: ليكن هديكم ونيتكم في التعليم هدي العلماء والحكماء، لأن العالم إنما يستحق هذا الاسم إذا عمل بعلمه. ٨٠ قوله تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن} قرأ ابن عامر، وحمزة، وخلف، ويعقوب، وعاصم في بعض الروايات عنه، وعبد الوارث، عن أبي عمرو، واليزيدي في اختياره، بنصب الراء. وقرأ الباقون برفع الراء، فمن نصب كان المعنى: وما كان لبشر أن يأمركم، ومن رفع قطعه مما قبله. قال ابن جريج: ولا يأمركم محمد. ٨١ قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ ٱللّه مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيّيْنَ} قال الزجاج: موضع «إذ» نصب، المعنى: واذكر في أقاصيصك إذ أخذ اللّه. قال ابن عباس: والميثاق: العهد. وفي الذي أخذ ميثاقهم عليه قولان. احدهما: أنه تصديق محمد صلى اللّه عليه وسلم، روي عن علي، و ابن عباس، وقتادة، والسدي. والثاني: أنه أخذ ميثاق الأول من الأنبياء ليؤمنن بما جاء به الآخر منهم، قاله طاووس. قال مجاهد، والربيع بن أنس: هذه الآية خطأ من الكتاب، وهي في قراءة ابن مسعود: {وَإِذْ أَخَذَ ٱللّه مِيثَـٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ} واحتج الربيع بقوله تعالى: {ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ}. وقال بعض أهل العلم: إنما أخذ الميثاق على النبيين، و أممهم، فاكتفى بذكر الأنبياء عن ذكر الأمم، لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على التابع، وهذا معنى قول ابن عباس، و الزجاج. واختلف العلماء في لام «لما» فقرأ الاكثرون«لما» بفتح اللام والتخفيف، وقرأ حمزة مثلها، إلا أنه كسر اللام، وقرأ سعيد بن جبير «لما» مشددة الميم، فقراءة ابن جبير، معناها: حين آتيتكم. وقال الفراء في قراءة حمزة: يريد أخذ الميثاق للذي آتاهم، ثم جعل قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} من الأخذ. قال الفراء: ومن نصب اللام جعلها زائدة. و «ما» هاهنا بمعنى الشرط والجزاء، فالمعنى: لئن آتيتكم ومهما آتيتكم شيئا من كتاب وحكمة. قال ابن الأنباري: اللام في قوله تعالى: {لَمَا ءاتَيْتُكُم} على قراءة من شدد أو كسر: جواب لأخذ الميثاق، قال: لأن أخذ الميثاق يمين، وعلى قراءة من خففها، معناها: القسم، وجواب القسم اللام في قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ}. و إنما خاطب، فقال: آتيتكم. بعد أن ذكر النبيين وهم غيب، لأن في الكلام معنى قول وحكاية، فقال مخاطبا لهم: لما آتيتكم وقرأ نافع «آتيناكم» بالنون والألف. قوله تعالى: {ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ} قال علي رضي اللّه عنه: ما بعث اللّه نبيا إلا أخذ عليه العهد، إن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه. وقال غيره: أخذ ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضا. والإصر هاهنا: العهد في قول الجماعة. قال ابن قتيبة: أصل الإصر: الثقل، فسمي العهد إصرا، لأنه منع من الأمر الذي أخذ له، وثقل وتشديد. وكلهم كسر ألف «إصري». وروى أبو بكر، عن عصام ضمة. قال ابو علي: يشبه أن يكون الضم لغة. قوله تعالى: {قَالَ فَٱشْهَدُواْ} قال ابن فارس: الشهادة: الإخبار بما شوهد. وفيمن خوطب بهذا قولان. احدهما: أنه خطاب للنبيين، ثم فيه قولان. احدهما: أنه معناه: فاشهدوا على أممكم، قاله علي بن أبي طلب. والثاني: فاشهدوا على أنفسكم، قاله مقاتل. والثاني: أنه خطاب للملائكة، قاله سعيد بن المسيب. فعلى هذا يكون كناية عن غير مذكور. ٨٢ {فمن تولى...} ٨٣ قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللّه يَبْغُونَ} قرأ ابوعمرو: «يبغون» بالياء مفتوحة. {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} بالتاء مضمومة، وقرأها الباقون بالياء في الحرفين. وروى حفص عن عاصم: «يبغون» و «يرجعون» بالياء فيهما، وفتح الياء وكسر الجيم يعقوب على أصله. قال ابن عباس: اختصم أهل الكتابين، فزعمت كل فرقة أنها أولى بدين إبراهيم، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: «كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم» فغضبوا، وقالوا: واللّه لا نرضى بقضائك، ولا نأخذ بدينك، فنزلت هذه الآية. والمراد بدين اللّه، دين محمد صلى اللّه عليه وسلم. {وَلَهُ أَسْلَمَ} انقاد، وخضع {طَوْعًا وَكَرْهًا} الطوع: الانقياد بسهولة، والكره: الانقياد بمشقة وإباء من النفس. وفي معنى الطوع والكره ستة أقوال. احدها: أن إسلام الكل كان يوم الميثاق طوعا وكرها، رواه مجاهد عن ابن عباس، والأعمش عن مجاهد، وبه قال السدي. والثاني: أن المؤمن يسجد طائعا، والكافر يسجد ظله وهو كاره، روي عن ابن عباس، ورواه ابن أبي نجيح، وليث عن مجاهد. والثالث: أن الكل أقروا له بأنه الخالق، وإن أشرك بعضهم، فاقراره بذلك حجة عليه في إشراكه، هذا قول أبوالعالية، ورواه منصور عن مجاهد. والرابع: أن المؤمن أسلم طائعا، والكافر أسلم مخافة السيف، هذا قول الحسن. والخامس: أن المؤمن أسلم طائعا، والكافر أسلم حين رأى بأس اللّه، فلم ينفعه في ذلك الوقت، هذا قول قتادة. والسادس: أن إسلام الكل خضوعهم لنفاذ أمره في جبلتهم، لا يقدرأحد أن يمتنع من جبلة جبله عليها، ولا على تغييرها، هذا قول الزجاج، وهو معنى قول الشعبي: انقاد كلهم له. ٨٤ {قل آمنا باللّه وما أنزل علينا...} ٨٥ {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه...} ٨٦ قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِى ٱللّه قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَـٰنِهِمْ} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. احدها: أن رجلا من الانصار ارتد فلحق بالمشركين فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى: {إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ} فكتب بها قومه إليه فرجع تائبا فقبل النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك منه، وخلى عنه رواه عكرمة ابن عباس. وذكر مجاهد، والسدي أن اسم ذلك الرجل: الحارث بن سويد. والثاني: أنها نزلت في عشرة رهط ارتدوا، فيهم الحارث بن سويد، فندم، فرجع. رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثالث: أنها في أهل الكتاب، عرفوا النبي صلى اللّه عليه وسلم، ثم كفروا به. رواه عطية عن ابن عباس. وقال الحسن: هم اليهود والنصارى. وقيل: إن «كيف» هاهنا لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها الجحد، أي: لا يهدي اللّه هؤلاء. ٨٧ {أولئك جزاؤهم...} ٨٨ انظر تفسير الآية: ٨٩ ٨٩ قوله تعالى: {خَـٰلِدِينَ فِيهَا} قال الزجاج أي: في عذاب اللعنة {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي: يؤخرون عن الوقت. قال: ومعنى: {أصلحوا} أي: اظهروا انهم كانوا على ضلال، وأصلحوا ما كانوا أفسدوه، وغروا به من تبعهم ممن لا علم له. فصل وهذه الآية استثنت من تاب ممن لم يتب وقد زعم قوم أنها نسخت ما تضمنته الآيات قبلها من الوعيد وليس بنسخ. ٩٠ قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَـٰنِهِمْ} اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال. احدها: أنها نزلت فيمن لم يتب من أصحاب الحارث بن سويد، فانهم قالوا: نقيم بمكة ونتربص بمحمد ريب المنون، قاله ابن عباس، و مقاتل. والثاني: أنها نزلت في اليهود كفروا بعيسى والانجيل، ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن، قاله الحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني. والثالث: أنها نزلت في اليهود والنصارى، كفروا بمحمد بعد إيمانهم بصفته، ثم ازدادوا كفرا باقامتهم على كفرهم، قاله أبو العالية. قال الحسن: كلما نزلت آية كفروا بها، فازداوا كفرا. وفي علة امتناع قبول توبتهم أربعة أقوال. احدها: انهم ارتدوا، وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم، والكفر في ضمائرهم، قاله ابن عباس. والثاني: انهم قوم تابوا من الذنوب في الشرك، ولم يتوبوا من الشرك، قاله أبو العالية. والثالث: أن: معناه: لن تقبل توبتهم حين يحضرهم الموت، وهو قول الحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسدي. والرابع: لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر قاله مجاهد. ٩١ قوله تعالى: {إِن ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما فتح مكة، دخل من كان من أصحاب الحارث بن سويد. حيا في الإسلام، فنزلت هذه الآية فيمن مات منهم كافرا. قال الزجاج: وملء الشيء: مقدار ما يملؤه. قال سيبويه، والخليل: والملء بفتح الميم: الفعل، تقول: ملأت الشيء أملؤه ملأ، المصدر بالفتح لا غير. والملاءة: التي تلبس ممدودة. والملاوة من الدهر: القطعة الطويلة منه، يقولون: ابل جديدا، وتمل حبيبا، أي: عش معه دهرا طويلا. و {ذَهَبًا} منصوب على التمييز. وقال ابن فارس: ربما أنث الذهب، فقيل: ذهبة، ويجمع على الأذهاب. قوله تعالى: {وَلَوِ ٱفْتَدَىٰ بِهِ} قال الفراء: الواو هاهنا قد يستغنى عنها، ولو حذفت كان صوابا، كقوله تعالى: {وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ} [الأنعام: ٧٥] قال الزجاج: هذا غلط، لأن فائدة الواو بينة، فليست مما يلقى. ٩٢ قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ} في البر أربعة أقوال. احدها: أنه الجنة، قاله ابن عباس، و مجاهد، والسدي في آخرين. قال ابن جرير: فيكون المعنى: لن تنالوا بر اللّه بكم الذي تطلبونه بطاعتكم. والثاني: التقوى، قاله عطاء، و مقاتل. والثالث: الطاعة، قاله عطية. والرابع: الخير الذي يستحق به الأجر، قاله ابو روق. قال القاضي أبو يعلى: لم يرد نفي الأصل، و إنما نفي وجود الكمال، فكأنه قال: لن تنالوا البر الكامل. قوله تعالى: {حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} فيه قولان. احدهما: أنه نفقة العبد من ماله، وهو صحيح شحيح، رواه ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. والثاني: أنه الانفاق من محبوب المال، قاله قتادة، والضحاك. وفي المراد بهذه النفقة ثلاثة أقوال. احدها: أنها الصدقة المفروضة، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك. والثاني: أنها جميع الصدقات، قاله ابن عمر. والثالث: أنها جميع النفقات التي يبتغي بها وجه اللّه تعالى: سواء كانت صدقة، أو لم تكن، نقل عن الحسن، واختاره القاضي أبو يعلى، وروى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت: {لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أبو طلحة، فقال: يا رسول اللّه إن اللّه يقول: {لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي الي بيرحاء، وإنها صدقة للّه، أرجو برها وذخرها عند اللّه تعالى، فضعها حيث أراك اللّه، فقال صلى اللّه عليه وسلم: «بخ بخ ذاك مال رابح أو رائح [شك الرواي] وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وبني عمه. وروي عن عبد اللّه بن عمر أنه قرأ هذه الآية فقال: لا أجد شيئا أحب إلى من جاريتي رميثه، فهي حرة لوجه اللّه، ثم قال: لولا أني أعود في شيء جعلته للّه، لنكحتها، فأنكحها نافعا، فهي أم ولده. وسئل أبو ذر: أي الأعمال أفضل: فقال: الصلاة: عماد الإسلام، والجهاد: سنام العمل، والصدقة: شيء عجب. ثم قال السائل: يا ابا ذر لقد تركت شيئا هو اوثق عمل في نفسي لا أراك ذكرته. قال: ما هو؟ قال الصيام. فقال قربة وليس هناك، وتلا قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} قال الزجاج: ومعنى قوله تعالى {فَإِنَّ ٱللّه بِهِ عَلِيمٌ} أي: يجازي عليه. ٩٣ قوله تعالى: {كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لّبَنِى إِسْرٰءيلَ} سبب نزولها أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «أنا على ملة إبراهيم» فقالت اليهود: كيف و أنت تأكل لحوم الإبل؟ وتشرب ألبانها؟ فقال: «كان ذلك حلا لإبراهيم». فقالوا كل شيء نحرمه نحن، فانه كان محرما على نوح و إبراهيم حتى انتهى إلينا. فنزلت هذه الآية تكذيبا لهم. قاله أبو روق، وابن السائب و«الطعام» اسم للمأكول. قال ابن قتيبة: والحل: الحلال، ومثله الحرم والحرام، واللبس واللباس. وفي الذي حرمه على نفسه، ثلاثة أقوال. احدها: لحوم الإبل وألبانها. روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، ورواه أبو صالح، عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعطاء ابن أبي رباح، و أبي العالية في آخرين. والثاني: أنه العروق، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس وهو قول مجاهد، وقتادة، و الضحاك، والسدي في آخرين. والثالث: أنه زائدتا الكبد، والكليتان، والشحم إلا ما على الظهر، قاله عكرمة. وفي سبب تحريمه لذلك أربعة أقوال. احدها: أنه طال به مرض شديد، فنذر: لئن شفاه اللّه، ليحرمن احب الطعام والشراب إليه، روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. والثاني: أنه اشتكى عرق النسا فحرم العروق، قاله ابن عباس في آخرين. والثالث: أن الأطباء وصفوا له حين أصابه النسا اجتناب ما حرمه، فحرمه، رواه الضحاك عن ابن عباس. والرابع: أنه كان إذا أكل ذلك الطعام، أصابه عرق النسا، فيبيت وقيذا فحرمه، قاله أبو سليمان الدمشقي. واختلفوا: هل حرم ذلك باذن اللّه، أو باجتهاده؟ على قولين. واختلفوا: بماذا ثبت تحريم الطعام الذي حرمه على اليهود، على ثلاثة أقوال. احدها: أنه حرم عليهم بتحريمه، ولم يكن محرما في التوراة، قاله عطية. وقال ابن عباس: قال يعقوب: لئن عافاني اللّه لا يأكله لي ولد. والثاني: انهم وافقوا اباهم يعقوب في تحريمه، لا أنه حرم عليهم بالشرع، ثم أضافوا تحريمه إلى اللّه، فأكذبهم اللّه بقوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ} هذا قول الضحاك. والثالث: أن اللّه حرمه عليهم بعد التوراة لا فيها.وكانوا إذا أصابوا ذنبا عظيما، حرم عليهم به طعام طيب، أو صب عليهم عذاب، هذا قول ابن السائب. قال ابن عباس: {فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا} هل تجدون فيها تحريم لحوم الإبل وألبانهاٰ. ٩٤ قوله تعالى: {فَمَنِ ٱفْتَرَىٰ} يقول: اختلق {عَلَى ٱللّه ٱلْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ} أي: من بعد البيان في كتبهم، وقيل: من بعد مجيئكم بالتوارة وتلاوتكم إياها. ٩٥ قوله تعالى: {قُلْ صَدَقَ ٱللّه} الصدق: الإخبار بالشيء على ما هو به، وضده الكذب. واختلفوا أي خبر عنى بهذه الآية؟ على قولين. احدهما: أنه عنى قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرٰهِيمُ يَهُودِيّا} قاله مقاتل، وابو سليمان الدمشقي. والثاني: أنه عنى قوله تعالى: {كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ} قاله ابن السائب. ٩٦ قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} قال مجاهد: افتخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس افضل من الكعبة. وقال المسلمون: الكعبة أفضل، فنزلت هذه الآية وفي معنى كونه «أول» قولان. احدهما: أنه اول بيت كان في الأرض، واختلف أرباب هذا القول، كيف كان أول بيت على ثلاثة أقوال: احدهما: أنه ظهر على وجه الماء حين خلق اللّه الارض، فخلقه قبلها بألفي عام، ودحاها من تحته، فروى سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: كانت الكعبة حشفة على وجه الماء، عليها ملكان يسبحان الليل والنهار قبل الأرض بألفي سنة. وقال: ابن عباس: وضع البيت في الماء على أربعة اركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي سنة. ثم دحيت الأرض من تحت البيت، وبهذا القول يقول ابن عمر، وابن عمرو، وقتادة، و مجاهد، والسدي في آخرين. والثاني: أن آدم استوحش حين أهبط، فأوحى اللّه إليه، أن: ابن لي بيتا في الأرض، فاصنع حوله نحو ما رايت ملائكتي تصنع حول عرشي، فبناه، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنه أهبط مع آدم، فلما كان الطوفان، رفع فصار معمورا في السماء وبنى إبراهيم على أثره، رواه شيبان عن قتادة. القول الثاني: أنه أول بيت وضع للناس للعبادة، وقد كانت قبله بيوت، هذا قول علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه، والحسن، وعطاء بن السائب في آخرين. فأما بكة، فقال الزجاج: يصلح هذا الاسم أن يكون مشتقا من البك. يقال بك الناس بعضهم بعضا، أي: دفع. واختلفوا في تسميتها ببكة على ثلاثة أقوال. احدها: لازدحام الناس بها، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، و الفراء، و مقاتل. والثاني: لأنها تبك أعناق الجبابرة أي: تدقها، فلم يقصدها جبار إلا قصمه اللّه، روي عن عبد اللّه ابن الزبير، وذكره الزجاج. والثالث: لأنها تضع من نخوة المتجبرين، يقال: بككت الرجل، أي وضعت منه، ورددت نخوته، قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي، وقطرب. واتفقوا على أن مكة اسم لجميع البلدة. واختلفوا في بكة على أربعة أقوال. احدها: أنه اسم للبقعة التي فيها الكعبة، قاله ابن عباس، و مجاهد، وابو مالك، وابراهيم، وعطية. والثاني: أنها ما حول البيت، ومكة ما وراء ذلك، قاله عكرمة. والثالث: أنها المسجد، والبيت. ومكة: اسم للحرم كله، قاله الزهري، وضمرة بن حبيب. والرابع: أن بكة هي مكة، قاله الضحاك، و ابن قتيبة، واحتج ابن قتيبة بأن الباء تبدل من الميم؛ يقال: سمد رأسه، وسبد رأسه: إذا استأصله. وشر لازم، ولازب. قوله تعالى: {مُبَارَكاً} قال الزجاج: هو منصوب على الحال. المعنى: الذي استقر بمكة في حال بركته. قوله تعالى: {وَهَدَىٰ} أي: وذا هدى. ويجوز أن يكون «هدى» في موضع رفع، المعنى: وهو هدى، فأما بركته، ففيه تغفر الذنوب، وتضاعف الحسنات، ويأمن من دخله. وروى ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «من طاف بالبيت، لم يرفع قدما، ولم يضع أخرى، إلا كتب اللّه له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة، ورفع له بها درجة» قوله تعالى: {وَهُدًى لّلْعَـٰلَمِينَ}، في الهدى هاهنا اربعة أقوال. احدها: أنه بمعنى القبلة، فتقديره: وقبلة العالمين. والثاني: أنه بمعنى: الرحمة. والثالث: أنه بمعنى: الصلاح، لأن من قصده، صلحت حاله عند ربه. والرابع: أنه بمعنى: البيان، والدلالة على اللّه تعالى بما فيه من الايات التي لا يقدر عليها غيره. حيث يجتمع الكلب والظبي في الحرم، فلا الكلب يهيج الظبي، ولا الظبي يستوحش منه، قاله القاضي أبو يعلى. ٩٧ قوله تعالى: {فِيهِ ءايَـٰتٌ بَيّـنَـٰتٌ}، الجمهور يقرؤون: آيات. وروى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ: {فِيهِ بَيّنَةً لّقَوْمٍ مَّقَامِ إِبْرٰهِيمَ}، وبها قرأ مجاهد. والاية: مقام إبراهيم. فأما من قرأ: «آيات» فقال علي بن أبي طالب رضي اللّه: عنه الآيات: مقام ابراهيم، و أمن من دخله. فعلى هذا يكون الجمع معبرا عن التثنية، وذلك جائز في اللغة، كقوله تعالى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَـٰهِدِينَ} [الانبياء: ٧٨]. وقال أبو رجاء: كان الحسن يعدهن، و انا أنظر إلى أصابعه: مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا، وللّه على الناس حج البيت. وقال ابن جرير: في الكلام إضمار، تقديره: منهن مقام إبراهيم. قال المفسرون: الآيات فيه كثيرة، منها مقام إبراهيم، ومنها: أمن من دخله، ومنها: امتناع الطير من العلو عليه، واستشفاء المريض منها به، وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته، وإهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا إخرابه، إلى غير ذلك. قال القاضي أبو يعلى: والمراد بالبيت هاهنا: الحرم كله، لأن هذه الآيات موجودة فيه، ومقام إبراهيم ليس في البيت، والآية في مقام إبراهيم أنه قام على حجر، فأثرث قدماه فيه، فكان ذلك دليلا على قدرة اللّه، وصدق إبراهيم. قوله تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً} قال القاضي أبو يعلى: لفظه لفظ الخبر، ومعناه: الأمر، وتقديره: ومن دخله، فأمنوه، وهو عام فيمن جنى جناية قبل دخوله، وفيمن جنى فيه بعد دخوله، إلا أن الإجماع انقعد على أن من جنى فيه لا يؤمن، لأنه هتك حرمة الحرم ورد الأمان، فبقي حكم الآية فيمن جنى خارجا منه، ثم لجأ إلى الحرم. وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال احمد في رواية المروذي: إذا قتل، أو قطع يدا، أو أتى حدا في غير الحرم، ثم دخله، لم يقم عليه الحد، ولم يقتص منه، ولكن لا يبايع، ولا يشارى، ولا يؤاكل حتى يخرج، فان فعل شيئا من ذلك في الحرم، استوفي منه. وقال احمد في رواية حنبل: إذا قتل خارج الحرم، ثم دخله، لم يقتل. وإن كانت الجناية دون النفس، فانه يقام عليه الحد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.وقال مالك والشافعي: يقام عليه جميع ذلك في النفس، وفيما دون النفس. وفي قوله تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً}، دليل على أنه لا يقام عليه شيء من ذلك، وهو مذهب ابن عمر، و ابن عباس، وعطاء، والشعبي، وسعيد بن جبير، وطاووس. قوله تعالى: {وَللّه عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ}، الاكثرون على فتح حاء «الحج»، وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: بكسرها. قال مجاهد: لما أنزل قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإسْلَـٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: ٨٥] قال أهل الملل كلهم: نحن مسلمون، فنزلت هذه الآية، فحجه المسلمون، وتركه المشركون، وقالت اليهود: لا نحجه ابدا. قوله تعالى: {مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} قال النحويون: من استطاع بدل من «الناس» وهذا بدل البعض من الكل، كما تقول: ضربت زيدا رأسه. وقد روي عن ابن مسعود، وابن عمر، وأنس، وعائشة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه سئل: ما السبيل؟ فقال: «من وجد الزاد والراحلة» قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ}، فيه خمسة أقوال. احدها: أن معناه: من كفر بالحج فاعتقده غير واجب، رواه مقسم عن ابن عباس، وابن جريج عن مجاهد، وبه قال الحسن، وعطاء، وعكرمة، و الضحاك، و مقاتل. والثاني: من لم يرج ثواب حجه، ولم يخف عقاب تركه، فقد كفر به، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد. والثالث: أنه الكفر باللّه، لا بالحج، وهذا المعنى مروي عن عكرمة، و مجاهد. والرابع: أنه إذا أمكنه الحج، حتى مات، وسم بين عينيه: كافر، هذا قول ابن عمر. والخامس: أنه أراد الكفر بالآيات التي انزلت في ذكر البيت، لأن قوما من المشركين قالوا: نحن نكفر بهذه الآيات، هذا قول ابن زيد. ٩٨ قوله تعالى: {قُلْ يا أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ}. قال الحسن: هم اليهود والنصارى، فأما آيات اللّه. فقال ابن عباس: هي القرآن ومحمد صلى اللّه عليه وسلم. وأما ال {شهيد}، فقال ابن قتيبة: هو بمعنى الشاهد، وقال الخطابي: هو الذي لا يغيب عنه شيء، كأنه الحاضر الشاهد. ٩٩ قوله تعالى: {قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللّه مَنْ ءامَنَ}. قال مقاتل: دعت اليهود حذيفة، وعمار بن ياسر، إلى دينهم، فنزلت هذه الآية. وفي المراد بأهل الكتاب هاهنا قولان. احدهما: انهم اليهود والنصارى، قاله الحسن. والثاني: اليهود. قاله زيد بن أسلم، و مقاتل. قال ابن عباس: لم تصدون عن سبيل اللّه: الإسلام، والحج. وقال قتادة: لم تصدون عن نبي اللّه، وعن الإسلام. قال السدي: كانوا إذا سئلوا: هل تجدون محمدا في كتبكم؟ قالوا: لا. فصدوا عنه الناس. قوله تعالى: {تَبْغُونَهَا}، قال اللغويون: الهاء كناية عن السبيل، والسبيل يذكر ويؤنث. وأنشدوا: فلا تبعد فكل فتى أناس سيصبح سالكا تلك السبيلا ومعنى «تبغونها» تبغون لها، تقول العرب: ابغني خادما، يريدون: ابتغه لي: فاذا أرادوا: ابتغ، معي واعني على طلبه، قالوا: ابغني، ففتحوا الألف، ويقولون: وهبتك درهما، كما يقولون: وهبت لك. قال الشاعر: فتولى غلامهم ثم نادى أظليما أصيدكم أم حمارا؟. أراد: أصيد لكم: ومعنى الآية: يلتمسون لسبيل اللّه الزيغ والتحريف، ويريدون رد الإيمان والاستقامة إلى الكفر والاعوجاج، ويطلبون العدول عن القصد، هذا قول الفراء، و الزجاج، واللغويين. قال ابن جرير: خرج هذا الكلام على السبيل، والمعنى: لأهله، كأن المعنى: تبغون لأهل دين اللّه، ولمن هو على سبيل الحق عوجا. أي: ضلالا. قال أبو عبيدة: العوج بكسر العين، في الدين، والكلام، والعمل، والعوج بفتحها، في الحائط والجذع. وقال الزجاج: العوج بكسر العين: فيما لا ترى له شخصا، وما كان له شخص قلت: عوج بفتحها، تقول: في أمره ودينه عوج، وفي العصا عوج. وروى ابن الأنباري عن ثعلب قال: العوج عند العرب بكسر العين: في كل ما لا يحاط به، والعوج بفتح العين في كل مالا يحصل، فيقال: في الأرض عوج، وفي الدين عوج، لأن هذين يتسعان، ولا يدركان. وفي العصا عوج، وفي السن عوج، لأنهما يحاط بهما ويبلغ كنههما. وقال ابن فارس: العوج بفتح العين: في كل منتصب، كالحائط. والعوج: ما كان في بساط أو ارض، أو دين، أو معاش. قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاء} فيه قولان. احدهما: أن معناه، وانتم شاهدون بصحة ما صددتم عنه، وبطلان ما أنتم فيه، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وقتادة، والاكثرين. والثاني: أن معنى الشهداء هاهنا: العقلاء، ذكره القاضي أبو يعلى في آخرين. ١٠٠ {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً...} سبب نزولها أن الأوس والخزرج كان بينهما حرب في الجاهلية، فلما جاء النبي صلى اللّه عليه وسلم أطفأ تلك الحرب بالإسلام، فبينما رجلان أوسي وخزرجي يتحدثان، ومعهما يهودي، جعل اليهودي يذكرهما أيامهما، والعداوة التي كانت بينهما حتى اقتتلا، فنادى كل واحد منهما بقومه، فخرجوا بالسلاح، فجاء النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأصلح بينهم: فنزلت هذه الآية. قاله مجاهد، وعكرمة، والجماعة. قال المفسرون: والخطاب بهذه الآية للأوس والخرزج. قال زيد بن أسلم: وعنى بذلك الفريق: شاس بن قيس اليهودي وأصحابه، قال الزجاج: ومعنى طاعتهم: تقليدهم. ١٠١ قوله تعالى: {وَمَن يَعْتَصِم بِٱللّه} قال ابن قتيبة: أي: يمتنع، وأصل العصمة: المنع، قال الزجاج: ويعتصم جزم ب «من» والجواب {فَقَدْ هُدِىَ}. ١٠٢ قال عكرمة: نزلت في الأوس والخزرج حين اقتتلوا، وأصلح النبي صلى اللّه عليه وسلم بينهم. وفي «حق تقاته» ثلاثة أقوال. احدها: أن يطاع اللّه فلا يعصى، و أن يذكر فلا ينسى، و أن يشكر فلا يكفر، رواه ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. وهو قول ابن مسعود، والحسن، وعكرمة، وقتادة، و مقاتل. والثاني: أن يجاهد في اللّه حق الجهاد، و أن لا يأخذ العبد فيه لومة لائم، وأن يقوموا له بالقسط، ولو على أنفسهم، وآبائهم، وأبنائهم، رواه ابن ابي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أن معناه: اتقوه فيما يحق عليكم أن تتقوه فيه، قاله الزجاج. فصل واختلف العلماء: هل هذا الكلام محكم أو منسوخ؟ على قولين. احدهما: أنه منسوخ، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن زيد، والسدي، و مقاتل. قالوا: لما نزلت هذه الآية، شقت على المسلمين، فنسخها قوله تعالى: {فَٱتَّقُواْ ٱللّه مَا ٱسْتَطَعْتُمْ} ، [التغابن: ١٦]. والثاني: أنها محكمة، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وهو قول طاووس. قال شيخنا علي بن عبد اللّه: والاختلاف في نسخها وإحكامها، يرجع إلى اختلاف المعنى المراد بها، فالمعتقد نسخها يرى أن «حق تقاته»الوقوف على جميع ما يجب له ويستحقه، وهذا يعجز الكل عن الوفاء به، فتحصيله من الواحد ممتنع، والمعتقد إحكامها يرى أن «حق تقاته» أداء ما يلزم العبد على قدر طاقته، فكان قوله تعالى: «ما استطعتم» مفسرا ل «حق تقاته» لا ناسخا ولا مخصصا. ١٠٣ قوله تعالى: {وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللّه جَمِيعاً} قال الزجاج: اعتصموا: استمسكوا. فأما الحبل، ففيه ستة أقوال. احدها: أنه كتاب اللّه: القرآن: رواه شقيق عن ابن مسعود وبه قال قتادة، و الضحاك، والسدي. والثاني: أنه الجماعة، رواه الشعبي عن ابن مسعود. والثالث: أنه دين اللّه، قاله ابن عباس، وابن زيد، و مقاتل، و ابن قتيبة. وقال ابن زيد: هو الإسلام. والرابع: عهد اللّه، قاله مجاهد، وعطاء، وقتادة. في رواية، و أبو عبيد، واحتج له الزجاج بقول الأعشى: و إذا تجوزها حبال قبيلة أخذت من الاخرى إليك حبالها وأنشد ابن الأنباري: فلو حبلا تناول من سليمى لمد بحبلها حبلا متينا [شع ] والخامس: أنه الإخلاص، قاله أبوالعالية، والسادس: أنه أمر اللّه وطاعته، قاله مقاتل بن حيان. قال الزجاج: وقوله: «جميعا» منصوب على الحال، أي: كونوا مجتمعين على الاعتصام به. وأصل «تفرقوا» تتفرقوا، إلا أن التاء حذفت لاجتماع حرفين من جنس واحد، والمحذوفة هي الثانية، لأن الاولى دليلة على الاستقبال، فلا يجوز حذف الحرف الذي يدل على الاستقبال، وهو مجزوم بالنهي، والأصل: ولا تتفرقون، فحذفت النون، لتدل على الجزم. قوله تعالى: {وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللّه عَلَيْكُمْ} اختلفوا فيمن أريد بهذا الكلام على قولين. احدهما: انهم مشركو العرب، كان القوي يستبيح الضعيف، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: الأوس والخزرج، كان بينهم حرب شديد، قاله ابن إسحاق. والأعداء: جمع عدو. قال ابن فارس: وهو من عدا: إذا ظلم. قوله تعالى: {فَأَصْبَحْتُم} أي: صرتم، قال الزجاج: وأصل الأخ في اللغة أنه الذي مقصده مقصد أخيه، والعرب تقول: فلان يتوخى مسار فلان، أي: ما يسره. والشفا: الحرف. واعلم أن هذا مثل ضربه اللّه لإشرافهم على الهلاك. وقربهم من العذاب، كأنه قال: كنتم على حرف حفرة من النار، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا الموت على الكفر. قال السدي: فأنقذكم منها محمد صلى اللّه عليه وسلم. ١٠٤ قوله تعالى: {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ} قال الزجاج: معنى الكلام: ولتكونوا كلكم امة تدعون إلى الخير، وتأمرون بالمعروف، ولكن «من» هاهنا تدخل لتحض المخاطبين من سائر الأجناس، وهي مؤكدة أن الامر للمخاطبين، ومثله: {فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلاْوْثَـٰنِ} [الحج: ٢٠] معناه: اجتنبوا الأوثان، فانها رجس. ومثله قول الشاعر: أخو رغائب يعطيها ويسألها يأبى الظلامة منه النوفل الزفر وهو النوفل الزفر. لأنه وصفه باعطاء الرغائب. والنوفل: الكثير الإعطاء للنوافل، والزفر: الذي يحمل الأثقال. ويدل على أن الكل أمروا بالمعروف والنهي عن المنكر. قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ} قال: ويجوز أن يكون أمر منهم فرقة، لأن الدعاة ينبغي أن يكونوا علماء بما يدعون إليه، وليس الخلق كلهم علماء، والعلم ينوب بعض الناس فيه عن بعض، كالجهاد. فأما الخير، ففيه قولان. احدهما: أنه الإسلام، قاله مقاتل. والثاني: العمل بطاعة اللّه، قاله أبو سليمان الدمشقي. و اما المعروف، فهو ما يعرف كل عاقل صوابه، وضده المنكر، وقيل: المعروف هاهنا: طاعة اللّه، والمنكر: معصيته. ١٠٥ قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ} فيهم قولان. احدهما: انهم اليهود والنصارى، قاله ابن عباس، والحسن في آخرين. والثاني: انهم الحرورية قاله أبو أمامة. ١٠٦ قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} قرأ أبو رزين العقيلي، و أبو عمران الجوني، و أبو نهيك: تبيض وتسود بكسر التاء فيهما. وقرأ الحسن، والزهري، وابن محيصن، و أبو الجوزاء: تبياض وتسواد بألف، ومدة فيهما. وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر. فأما الذين اسوادت وابياضت، بألف ومدة. قال الزجاج: أخبر اللّه بوقت ذلك العذاب، فقال: يوم تبيض وجوه. قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة. وفي الذين اسودت وجوههم، خمسة أقوال. احدها: انهم كل من كفر باللّه بعد إيمانه يوم الميثاق، قاله أبي بن كعب. والثاني: انهم الحرورية، قاله أبو أمامة، واسحاق الهمذاني. والثالث: اليهود، قاله ابن عباس. والرابع: انهم المنافقون، قاله الحسن. والخامس: انهم أهل البدع، قاله قتادة. قوله تعالى: {أَكْفَرْتُمْ} قال الزجاج: معناه: فيقال لهم: أكفرتم، فحذف القول لأن في الكلام دليلا عليه، كقوله تعالى: {وَإِسْمَـٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: ١٢٧]، أي: ويقولان: ربنا تقبل منا. ومثله: {مّن كُلّ بَابٍ * سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ} [الرعد: ٢٥، ٢٦] والمعنى: يقولون: سلام عليكم. والألف لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها التقرير والتوبيخ. فان قلنا: إنهم جميع الكفار، فانهم آمنوا يوم الميثاق، ثم كفروا، و إن قلنا: إنهم الحرورية، و أهل البدع، فكفرهم بعد إيمانهم: مفارقة الجماعة في الاعتقاد، و إن قلنا: اليهود، فانهم آمنوا بالنبي قبل مبعثه، ثم كفروا بعد ظهوره، وإن قلنا: المنافقون، فانهم قالوا بألسنتهم وأنكروا بقلوبهم. قوله تعالى: {فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ} أصل الذوق إنما يكون بالفم، وهذا استعارة منه، فكأنهم جعلوا ما يتعرف ويعرف مذوقا على وجه التشبيه بالذي يعرف عند التطعم، تقول العرب: قد ذقت من إكرام فلان ما يرغبني في قصده، يعنون: عرفت، ويقولون: ذق الفرس، فاعرف ما عنده. قال تميم بن مقبل: أو كاهتزاز رديني تذاوقه أيدي التجار فزادوا متنه لينا وقال الآخر: و إن اللّه ذاق حلوم قيس فلما راء خفتها قلاها يعنون بالذوق: العلم. وفي كتاب الخليل: كل ما نزل بإنسان من مكروه، فقد ذاقه. ١٠٧ قوله تعالى: {وَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ} قال ابن عباس: هم المؤمنون. ورحمة اللّه: جنته، قال ابن قتيبة: وسمى الجنة رحمة، لأن دخولهم إياها كان برحمته، وقال الزجاج: معناه: في ثواب رحمته، قال: وأعاد ذكر «فيها» توكيدا. ١٠٨ قوله تعالى: {وَمَا ٱللّه يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَـٰلَمِينَ} قال بعضهم: معناه: لا يعاقبهم بلا جرم. وقال الزجاج: أعلمنا أنه يعذب من عذبه باستحقاق. ١٠٩ {وللّه ما في السماوات وما في الأرض...} ١١٠ قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} سبب نزولها أن مالك بن الضيف ووهب بن يهوذا اليهوديين، قالا لابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة [و أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل]: ديننا خير مما تدعونا إليه، ونحن افضل منكم، فنزلت هذه الآية، هذا قول عكرمة، و مقاتل. وفيمن أريد بهذه الآية، أربعة أقوال. احدها: انهم أهل بدر. والثاني: انهم المهاجرون. والثالث: جميع الصحابة. والرابع: جميع امة محمد صلى اللّه عليه وسلم، نقلت هذه الأقوال كلها عن ابن عباس. وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال: «إنكم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على اللّه تعالى» قال الزجاج: وأصل الخطاب لأصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهو يعم سائر أمته. وفي قوله تعالى: {كُنتُمْ}، قولان. احدهما: أنها على أصلها، والمراد بها الماضي، ثم فيه ثلاثة أقوال. احدها: أن معناه: كنتم في اللوح المحفوظ. والثاني: أن معناه: خلقتم ووجدتم. ذكرهما المفسرون. والثالث: أن المعنى: كنتم مذكنتم، ذكره ابن الأنباري. والثاني: أن معنى كنتم: انتم، كقوله تعالى: {وَكَانَ ٱللّه غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: ٩٦].ذكره الفراء، و الزجاج. قال ابن قتيبة: وقد ياتي الفعل على بنية الماضي، وهو راهن، أو مستقبل، كقوله تعالى: {كُنتُمْ} ومعناه: أنتم، ومثله: {وَإِذْ قَالَ ٱللّه يٰعِيسَى عِيسَى} [المائدة: ١١٦] أي: وإذ يقول. ومثله: {أَتَىٰ أَمْرُ ٱللّه} [النحل: ١]، أي: سيأتي، ومثله: {كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً} [مريم: ٢٩] أي: من هو في المهد، ومثله: {وَكَانَ ٱللّه سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: ١٣٤] أي: واللّه سميع بصير، ومثله: {فَتُثِيرُ سَحَـٰباً فَسُقْنَاهُ} [فاطر: ٩] أي: فنسوقه. وفي قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قولان. احدهما: أن معناه: كنتم خير الناس للناس. قال أبو هريرة: يأتون بهم في السلاسل حتى يدخلوهم في الإسلام. والثاني: أن معناه: كنتم خير الامم التي أخرجت. وفي قوله تعالى: {تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ} قولان. احدهما: أنه شرط في الخيرية، وهذا المعنى مروي عن عمر بن الخطاب، ومجاهد، و الزجاج. والثاني: أنه ثناء من اللّه عليهم، قاله الربيع بن أنس. قال أبوالعالية: والمعروف: التوحيد. والمنكر: الشرك. قال ابن عباس: و أهل الكتاب: اليهود والنصارى. قوله تعالى: {مّنْهُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ}: من أسلم، كعبد اللّه بن سلام وأصحابه. {وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ}، يعني: الكافرين، وهم الذين لم يسلموا. ١١١ قوله تعالى: {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} قال مقاتل: سبب نزولها أن رؤساء اليهود عمدوا إلى عبد اللّه بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم، فنزلت هذه الآية. قال ابن عباس: والأذى قولهم: {عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللّه} [التوبة: ٣٠] و {ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّه} [التوبة: ٣٠] و {ثَـٰلِثُ ثَلَـٰثَةٍ} [المائدة: ٧٣] وقال الحسن: هو الكذب على اللّه، ودعاؤهم المسلمين إلى الضلالة. وقال الزجاج: هو البهت والتحريف. ومقصود الآية: إعلام المسلمين بأنه لن ينالهم منهم إلا الأذى باللسان من دعائهم إياهم إلى الضلال، وإسماعهم الكفر، ثم وعدهم النصر عليهم في قوله: {وَإِن يُقَـٰتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلاْدُبَارَ}. ١١٢ قوله تعالى: {أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ} معناه: أدركوا ووجدوا، وذلك انهم أين نزلوا احتاجوا إلى عهد من أهل المكان، وأداء جزية قال الحسن: أدركتهم هذه الأمة، وإن المجوس لنجبيهم الجزية. وأما الحبل، فقال ابن عباس، وعطاء، و الضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد: الحبل العهد، قال بعضهم: ومعنى الكلام: إلا بعهد يأخذونه من المؤمنين بإذن اللّه. قال الزجاج: وما بعد الاستثناء في قوله تعالى: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ ٱللّه} ليس من الأول، و إنما المعنى: انهم أذلاء، إلا انهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه. وقد سبق في «البقرة» تفسير باقي الآية. ١١٣ قوله تعالى {لَيْسُواْ سَوَاء} في سبب نزولها قولان. احدهما: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، احتبس عن صلاة العشاء ليلة، حتى ذهب ثلث الليل ثم جاء فبشرهم، فقال: «إنه لا يصلي هذه الصلاة احد من أهل الكتاب» فنزلت هذه الآية قاله ابن مسعود. والثاني: أنه لما أسلم ابن سلام في جماعه من اليهود، قال احبارهم: ما آمن بمحمد إلا أشرارنا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، و مقاتل. وفي معنى الآية قولان. احدهما: ليس أمة محمد واليهود سواء، هذا قول ابن مسعود، والسدي. والثاني: ليس اليهود كلهم سواء، بل فيهم من هو قائم بأمر اللّه، هذا قول ابن عباس، وقتادة. وقال الزجاج: الوقف التام {لَيْسُواْ سَوَاء} أي: ليس أهل الكتاب متساوين. وفي معنى «قائمة» ثلاثة أقوال. احدها: أنها الثابتة على أمر اللّه، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: أنها العادلة، قاله الحسن، و مجاهد، وابن جريج. والثالث: أنها المستقيمة، قاله أبو عيبد، و الزجاج. قال الفراء: ذكر أمة واحدة ولم يذكر بعدها أخرى، والكلام مبني على أخرى، لأن «سواء» لا بد لها من اثنين، وقد تستجيز العرب إضمار احد الشيئين إذا كان في الكلام دليل عليه، قال أبو ذؤيب: عصيت إليها القلب إني لأمره سميع فما أدري أرشد طلابها؟ٰ ولم يقل: أم لا، ولا أم غي، لأن الكلام معروف المعنى. وقال آخر: وما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير ايهما يليني أألخير الذي انا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني ومثله قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ٱلَّيْلِ سَـٰجِداً وَقَائِماً} [الزمر: ٩] ولم يذكر ضده، لأن في قوله: {قُلْ هِى يَسْتَوِى ٱلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: ٩]. دليلا على ما أضمر من ذلك، وقد رد هذا القول الزجاج، فقال: قد جرى ذكر أهل الكتاب في قوله تعالى: {كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِـئَايَـٰتِ ٱللّه وَيَقْتُلُونَ ٱلاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ} فأعلم اللّه أن منهم أمة قائمة. فما الحاجة إلى أن يقال: وأمة غير قائمة؟ و إنما بدأ بذكر فعل الأكثر منهم، وهو الكفر والمشاقة، فذكر من كان منهم مباينا لهؤلاء. قال: و «آناء الليل» ساعاته، وواحد الآناء: إنى. قال ابن فارس: يقال: مضى من الليل إني، وإتيان، والجمع: الآناء. واختلف المفسرون: هل هذه الآناء معينة من الليل أم لا؟ على قولين. احدهما: أنها معينة، ثم فيها ثلاثة أقوال. احدها: أنها صلاة العشاء، قاله ابن مسعود، و مجاهد. والثاني: أنها ما بين المغرب والعشاء، رواه سفيان عن منصور. والثالث: جوف الليل، قاله السدي. والثاني: أنها ساعات الليل من غير تعيين، قاله قتادة في آخرين. وفي قوله تعالى: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} قولان. احدهما: أنه كناية عن الصلاة، قاله مقاتل، و الفراء، و الزجاج. والثاني: أنه السجود المعروف، وليس المراد انهم يتلون في حال السجود، ولكنهم جمعوا الأمرين، التلاوة والسجود. ١١٤ {يؤمنون باللّه واليوم الآخر...} ١١٥ قوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: تفعلوا، وتكفروه، بالتاء في الموضعين على الخطاب، لقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ}. قال قتادة: فلن تكفروه: لن يضل عنكم. وقرأ قوم، منهم حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وعبد الوارث عن أبي عمرو: يفعلوا، ويكفروا، بالياء فيهما، إخبارا عن الأمة القائمة. وبقية أصحاب أبي عمرو يخبرون بين الياء والتاء. ١١٦ {إن الذين كفروا لن تغني...} ١١٧ قوله تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هِـٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} اختلفوا فيمن انزلت على أربعة أقوال. احدها: أنها في نفقات الكفار، وصدقاتهم، قاله مجاهد. والثاني: في نفقة سفلة اليهود على علمائهم، قاله مقاتل. والثالث: في نفقة المشركين يوم بدر. والرابع: في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين، ذكر هذين القولين أبو الحسن الماوردي. وقال السدي: إنما ضرب الإنفاق مثلا لأعمالهم في شركهم. وفي الصر ثلاثة أقوال. احدها: أنه البرد، قاله الاكثرون. و الثاني: أنه النار، قاله ابن عباس، وقال ابن الأنباري: و إنما وصفت النار بأنها صر لتصوبتها عند الالتهاب. والثالث: أن الصر: التصويت، والحركة من الحصى والحجارة، ومنه صرير النعل، ذكره ابن الأنباري. والحرث: الزرع. وفي معنى «ظلموا أنفسهم» قولان. احدهما: ظلموها بالكفر، والمعاصي، ومنع حق اللّه تعالى. والثاني: بأن زرعوا في غير وقت الزرع. قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللّه} قال ابن عباس: أي: ما نقصهم ذلك بغير جرم أصابوه، و إنما أنزل بهم ذلك لظلمهم أنفسهم بمنع حق اللّه منه، وهذا مثل ضربه اللّه لإبطال أعمالهم في الآخرة. وحدثنا عن ثعلب، قال: بدأ اللّه تعالى هذه الآية بالريح، والمعنى: على الحرث، كقوله تعالى {كَمَثَلِ ٱلَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ} و إنما المعنى على المنعوق به وقريب منه قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوٰجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ} فخبر عن «الازواج» وترك «الذين» كأنه قال: أزواج الذين يتوفون منكم يتربصن، فبدأ بالذين ومراده: بعد الأزواج. وأنشد: لعلي إن مالت بي الريح ميلة على ابن أبي ديان أن يتندما فخبر عن ابن أبي ديان،وترك نفسه، و إنما أراد: لعل ابن أبي ديان أن يتندما إن مالت بي الريح ميلة. وقد يبدأ بالشيء، والمراد التأخير، كقوله تعالى: {وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ تَرَى ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى ٱللّه وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [الزمر: ٦٠] والمعنى: ترى وجوه الذين كذبوا على اللّه مسودة يوم القيامة. ١١٨ قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ} قال ابن عباس و، مجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين، ويواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من القرابة، والصداقة، والجوار، والرضاع، والحلف، فنهوا عن مباطنتهم. قال الزجاج: البطانة: الدخلاء الذين يستبطنون [أمره] وينبسط إليهم، يقال: فلان بطانة لفلان، أي: مداخل له، مؤانس. ومعنى لا يألونكم: لا يتقون غاية في إلقائكم فيما يضركم. قوله تعالى: {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} أي: ودوا عنتكم، وهو ما نزل بكم من مكروه وضر، يقال: فلان يعنت فلانا، أي: يقصد إدخال المشقة والأذى عليه، وأصل هذا من قولهم: أكمة عنوت، إذا كانت طويلة، شاقة المسلك. قال ابن قتيبة: ومعنى {مّن دُونِكُمْ} أي: من غير المسلمين. والخبال: الشر. قوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَاء مِنْ أَفْوٰهِهِمْ} قال ابن عباس: أي: قد ظهر لكم منهم الكذب، والشتم، ومخالفة دينكم. قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه الآية دلالة على أنه لا يجوز الاستعانة باهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة، ولهذا قال احمد: لا يستعين الإمام بأهل الذمة على قتال أهل الحرب. وروي عن عمر أنه بلغه أن ابا موسى استكتب رجلا من أهل الذمة، فكتب إليه يعنفه، وقال: لا تردوهم إلى العز بعد إذ أذلهم اللّه. ١١٩ قوله تعالى: {أَنتُمْ * أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ} قال ابن عباس: كان عامة الأنصار يواصلون اليهود ويواصلونهم، فلما أسلم الأنصار بغضهم اليهود، فنزلت هذه الآية. والخطاب بهذه الآية للمؤمنين. قال ابن قتيبة: ومعنى الكلام: ها أنتم يا هؤلاء. فأما «تحبونهم». فالهاء والميم عائدة إلى الذين نهوا عن مصافاتهم. وفي معنى محبة المؤمنين لهم أربعة أقوال. احدها: أنها الميل اليهم بالطباع، لموضع القرابة، والرضاع، والحلف، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس. والثاني: أنها بمعنى الرحمة لهم، لما يفعلون من المعاصي التي يقابلها العذاب الشديد، وهذا المعنى منقول عن قتادة. والثالث: أنها لموضع إظهار المنافقين الإيمان، روي عن أبي العالية. والرابع: أنها بمعنى إرادة الإسلام لهم، وهم يريدون المسلمين على الكفر، وهذا قول المفضل، و الزجاج. والكتاب: بمعنى الكتب، قاله الزجاج. قوله تعالى: {كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا} هذه حالة المنافقين، وقال مقاتل: هم اليهود. والأنامل: أطراف الأصابع. قال ابن عباس: والغيظ: الحنق عليكم، وقيل: هذا من مجاز الكلام، ضرب مثلا لما حل بهم، و إن لم يكن هناك عض على أنملة، ومعنى «موتوا بغيظكم»: ابقوا به حتى تموتوا، و إنما كان غيظهم من رؤية شمل المسلمين ملتئما. قال ابن جرير: هذا أمر من اللّه تعالى لنبيه أن يدعو عليهم بأن يهلكهم اللّه كمدا من الغيظ. ١٢٠ قوله تعالى: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} قال قتادة: وهي الألفة والجماعة. والسيئة: الفرقة والاختلاف، وإصابة طرف من المسلمين. وقال ابن قتيبة: الحسنة: النعمة. والسيئة: المصيبة. قوله تعالى: {وَأَن تَصْبِرُواْ} فيه قولان. احدهما: على أذاهم، قاله ابن عباس. والثاني: على أمر اللّه، قاله مقاتل. وفي قوله تعالى: {وَتَتَّقُواْ} قولان. احدهما: الشرك، قاله ابن عباس. والثاني: المعاصي، قاله مقاتل. قوله تعالى: {لاَ يَضُرُّكُمْ} قرأ ابن كثير، ونافع، و ابو عمرو، يضركم بكسر الضاد، وتخفيف الراء. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: لا يضركم بضم الضاد وتشديد الراء. قال الزجاج: الضر والضير بمعنى واحد. فأما الكيد فقال ابن قتيبة: هو المكر. قال أبو سليمان الخطابي: والمحيط: الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وأحاط علمه بالأشياء كلها. ١٢١ قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} قال المفسرون: في هذا الكلام تقديم وتأخير، تقديره: ولقد نصركم اللّه ببدر، وإذ غدوت من أهلك. وقال ابن قتيبة: توىء، من قولك: بوأتك منزلا: إذا أفدتك إياه، أو أسكنتكه. ومعنى مقاعد للقتال: المعسكر والمصاف. واختلفوا في أي يوم كان ذلك على ثلاثة أقوال. احدها: أنه يوم أحد، قاله عبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، و ابن عباس، والزهري، وقتادة، والسدي، والربيع، وابن اسحاق، وذلك أنه خرج يوم أحد من بيت عائشة إلى أحد، فجعل يصف أصحابه للقتال. والثاني: أنه يوم الأحزاب، قاله الحسن، ومجاهد، ومقاتل. والثالث: يوم بدر، نقل عن الحسن أيضا. قال ابن جرير: والأول أصح، لقوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} وقد اتفق العلماء أن ذلك كان يوم أحد. قوله تعالى: {وَٱللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قال أبو سليمان الدمشقي: سميع لمشاورتك إياهم في الخروج، ومرادهم للخروج، عليم بما يخفون من حب الشهادة. ١٢٢ قوله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} قال الزجاج: كنت النبوئة في ذلك الوقت. وتفشلا: تجبنا، وتخوار. {وَٱللّه وَلِيُّهُمَا}، أي: ناصرهما. قال جابر بن عبد اللّه: نحن هم بنو سلمة، وبنو حارثة، وما نحب أن لو لم يكن ذلك لقول اللّه: {وَٱللّه وَلِيُّهُمَا}. وقال الحسن: [هما] طائفتان من الأنصار همتا بذلك، فعصمهمااللّه. وقيل: لما رجع عبد اللّه ابن أبي في أصحابه يوم أحد، همت الطائفتان باتباعه، فعصمهما اللّه. فصل فأماالتوكل، فقال ابن عباس: هو الثقة باللّه. وقال ابن فارس: هو إظهار العجز[في الأمر]، والاعتماد على غيرك، ويقال: فلان وكله تكلة، أي: عاجز، يكل أمره إلى غيره. وقال غيره: هو تفعل من الوكالة، يقال: وكلت أمري إلى فلان فتوكل به، أي: ضمنه، وقام به، وأنا متوكل عليه. وقال بعضهم: هو تفويض الأمر إلى اللّه ثقة بحسن تدبيره. ١٢٣ قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللّه بِبَدْرٍ} في تسمية بدر قولان. احدهما: أنها بئر لرجل اسمه بدر، قاله الشعبي. والثاني: أنه اسم للمكان الذي التقوا عليه، ذكره الواقدي عن أشياخه. قوله تعالى: {وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} أي: لقلة العدد والعدد. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، أي: لتكونوا من الشاكرين. ١٢٤ قوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ} قال الشعبي: قال كرز بن جابر لمشركي مكة: إني أمدكم بقومي، فاشتد ذلك على المسلمين، فنزلت هذه الآية، وفي أي يوم كان ذلك فيه قولان. احدهما: يوم بدر، قاله ابن عباس، وعكرمة، و مجاهد، وقتادة. والثاني: يوم أحد، وعدهم فيه بالمدد إن صبروا، فلما لم يصبروا، لم يمدوا، روي عن عكرمة، و الضحاك، و مقاتل، والأول أصح. والكافية: مقدار سد الخلة. والاكتفاء: الاقتصار على ذلك. والإمداد: إعطاء الشيء بعد الشيء. قوله تعالى: {مُنزَلِينَ} قرأ الأكثرون بتخفيف الزاي، وشددهاابن عامر. ١٢٥ قوله تعالى: {وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا} فيه قولان. احدهما: أن معناه: من وجههم وسفرهم هذا، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، و مقاتل، و الزجاج. والثاني: من غضبهم هذا، قاله عكرمة، و مجاهد، و الضحاك في آخرين. قال ابن جرير: من قال من وجههم، أراد ابتداء مخرجهم يوم بدر، ومن قال: من غضبهم، أراد ابتداء غضبهم لقتلاهم يوم بدر. وأصل الفور: ابتداء الأمر يؤخذ فيه، يقال: فارت القدر: إذا ابتدأ مافيها بالغليان، ثم اتصل. وقال ابن فارس: الفور: الغليان، يقال: فارت القدر تفور، وفار غضبه: إذا جاش، ويقولون: فعله من فوره، أي: قبل أن يسكن. وفي يوم فورهم قولان. احدهما: أنه يوم بدر، قاله قتادة. والثاني: يوم أحد، قال مجاهد، و الضحاك، كانوا غضبوا يوم أحد ليوم بدر مما لقوا. قوله تعالى: {مُسَوّمِينَ} قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وعاصم بكسر الواو، والباقون بفتحها، فمن فتح الواو، أراد أن اللّه سومها، ومن كسرها، أراد أن الملائكة سومت أنفسها. وقال الأخفش: سومت خيلها، وفي الحديث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال يوم بدر: «سوموا فان الملائكة قد سومت» ونسب الفعل اليها، فهذا دليل الكسر. قال ابن قتيبة: ومعنى مسومين: معلمين بعلامة الحرب، وهو من السيماء [مأخوذ] والسومة: العلامة التي يعلم بها الفارس نفسه. قال علي رضي اللّه عنه: وكان سيماء خيل الملائكة يوم بدر، الصوف الأبيض في أذنابها ونواصيها. وقال أبو هريرة: العهن الأحمر. وقال مجاهد: كانت أذناب خيولهم مجزوزة، وفيها العهن. وقال هشام بن عروة: كانت الملائكة على خيل بلق، وعليهم عمائم صفر. وروى ابن عباس عن رجل من بني غفار قال: حضرت انا وابن عم لي بدرا، ونحن على شركنا، فأقبلت سحابة، فلما دنت من الخيل، سمعنا فيها حمحمة الخيل وسمعنا فارسا يقول: أقدم حيزوم، فأما صاحبي فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك، ثم انتعشت. وقال أبو داود المازني: إني لأتبع يوم بدر رجلا من المشركين لأضربه، فوقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أن غيري قد قتله. وفي عدد الملائكة يوم بدر خسمة أقوال. احدها: خمسة آلاف، قاله الحسن. وروى جبير بن مطعم عن علي رضي اللّه عنه، قال: بينا أنا أمتح من قليب بدر، جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها إلا التي كانت قبلها، ثم جاءت ريح شديدة لم أر أشد منها، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في ألفين من الملائكة، وكان مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألفين من الملائكة عن يمين رسول اللّه، وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن يسار رسول اللّه، وكنت عن يساره، وهزم اللّه أعداءه. والثاني: أربعة آلاف: قاله الشعبي. والثالث: ألف، قاله مجاهد. والرابع: تسعة آلاف، ذكره الزجاج. والخامس: ثمانية آلاف، ذكره بعض المفسرين. ١٢٦ قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ ٱللّه} يعني المدد {إِلاَّ بُشْرَىٰ}، أي: إلا بشارة تطيب أنفسكم، {وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ}، فتسكن في الحرب، ولا تجزع، والأكثرون على أن هذا المدد يوم بدر. وقال مجاهد: يوم أحد، وروي عنه ما يدل على أن اللّه أمدهم في اليومين بالملائكة جميعا، غير أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر. قوله تعالى: {وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللّه} أي: ليس بكثرة العدد والعدد. ١٢٧ قوله تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً} معناه: نصركم ببدر ليقطع طرفا. قال الزجاج: أي: ليقتل قطعة منهم. وفي أي يوم كان ذلك فيه قولان. احدهما: في يوم بدر، قاله الحسن، وقتادة، والجمهور. والثاني: يوم أحد، قتل منهم ثمانية وعشرون، قاله السدي. قوله تعالى: {أويكبتهم} فيه سبعة أقوال. احدها: أن معناه يهزمهم، قاله ابن عباس، و الزجاج. والثاني: يخزيهم، قاله قتادة، و مقاتل. والثالث: يصرعهم، قاله أبو عبيد، واليزيدي. وقال الخليل: هو الصرع على الوجه. والرابع: يهلكهم قاله أبو عبيدة. والخامس: يلعنهم، قاله السدي. والسادس: يظفر عليهم، قاله المبرد. والسابع: يغيظهم، قاله النضر بن شميل، واختاره ابن قتيبة. وقال ابن قتيبة: أهل النظر يرون أن التاء فيه منقلبة عن دال، كأن الأصل فيه: يكبدهم، أي: يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ، وشدة العداوة، ومنه يقال: فلان قد أحرق الحزن كبده، وأحرقت العداوة كبده، والعرب تقول: العدو: اسود الكبد. قال الأعشى: فما أجشمت من إتيان قوم هم الأعداء والأكباد سود كأن الأكباد لما احترقت بشدة العداوة، اسودت، ومنه يقال للعدو: كاشح، لأنه يخبأ العداوة في كشحه. والكشح: الخاصرة، و إنما يريدون الكبد، لأن الكبد هناك. قال الشاعر: وأضمر أضغانا علي كشوحها والتاء والدال متقاربتا المخرج، والعرب تدغم إحداهما في الاخرى، وتبدل إحداهما من الاخرى كقولهم: هرت الثوب وهرده: إذا خرقه، وكذلك: كبت العدو، وكبده، ومثله كثير. قوله تعالى: {يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ} قال الزجاج: الخائب: الذي لم ينل ما أمل. وقال غيره: الفرق بين الخيبة واليأس، أن الخيبة لا تكون إلا بعد الامل، واليأس قد يكون من غير أمل. ١٢٨ قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلاْمْرِ شَىْء} في سبب نزولها خمسة أقوال. احدها: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه، فقال: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم عز وجل؟ٰ» فنزلت هذه الآية، أخرجه مسلم في «أفراده» من حديث أنس. وهو قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والربيع. والثاني: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لعن قوما من المنافقين، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عمر. والثالث: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم هم بسب الذين انهزموا يوم أحد، فنزلت هذه الآية، فكف عن ذلك، نقل عن ابن مسعود، و ابن عباس. والرابع: أن سبعين من أهل الصفةٰ خرجوا إلى قبيلتين من بني سليم، عصية وذكوان، فقتلوا جميعا، فدعا النبي صلى اللّه عليه وسلم عليهم أربعين يوما، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل ابن سليمان. والخامس: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما رأى حمزة ممثلا به، قال: «لأمثلن بكذا وكذا منهم» فنزلت هذه الآية، قاله الواقدي. وفي معنى الآية قولان. احدهما: ليس لك من استصلاحهم أو عذابهم شيء. والثاني: ليس لك من النصر والهزيمة شيء. وقيل: إن «لك» بمعنى «إليك». قوله تعالى: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} قال الفراء: في نصبه وجهان، إن شئت جعلته معطوفا على قوله تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً} وإن شئت جعلت نصبه على مذهب «حتى» كما تقول: لا أزال معك حتى تعطيني، ولما نفى الأمر عن، نبيه، أثبت أن جميع الأمور إليه بقوله تعالى: {وَللّه مَا في ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ}. ١٢٩ {وَللّه مَا في ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ...} ١٣٠ قوله تعالى: {يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرّبَا} قال أهل التفسير: هذه الآية نزلت في ربا الجاهلية. قال سعيد بن جبير: كان الرجل يكون له على الرجل المال، فاذا حل الأجل، فيقول: أخر عني، وأزيدك على مالك، فتلك الأضعاف المضاعفة. ١٣١ قوله تعالى: {وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَـٰفِرِينَ} قال ابن عباس: هذا تهديد للمؤمنين، لئلا يستحلوا الربا. قال الزجاج: والمعنى: اتقوا أن تحلوا ما حرم اللّه فتكفروا. ١٣٢ {وأطيعوا اللّه والرسول لعلكم ترحمون} ١٣٣ قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ} كلهم أثبت الواو في «وسارعوا» إلا نافعا، وابن عامر، فانهما لم يذكراها. وقال أبو علي: وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام، فمن قرأ بالواو، عطف «وسارعوا» على «وأطيعوا» ومن حذفها، فلأن الجملة الثانية ملتبسة بالأولى، فاستغنت عن العطف. ومعنى الآية: بادروا إلى ما يوجب المغفرة وفي المراد بموجب المغفرة. هاهنا عشرة أقوال. احدها: أنه الاخلاص، قاله عثمان بن عفان رضي اللّه عنه. والثاني: أداء الفرائض، قاله علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه. والثالث: الإسلام، قاله ابن عباس. والرابع: التكبيرة الاولى من الصلاة، قاله أنس بن مالك. والخامس: الطاعة، قاله سعيد بن جبير. والسادس: التوبة، قاله عكرمة. والسابع: الهجره، قاله أبوالعالية. والثامن: الجهاد، قاله الضحاك. والتاسع: الصلوات الخمس، قاله يمان. والعاشر: الأعمال الصالحة، قاله مقاتل. قوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ} قال ابن قتيبة: أراد بالعرض السعة، ولم يرد العرض الذي يخالف الطول، والعرب تقول: بلاد عريضة، أي: واسعة. وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: للمنهزمين يوم أحد «لقد ذهبتم فيها عريضة». قال الشاعر: كأن بلاد اللّه وهي عريضة على الخائف المطلوب كفة حابل قال: وأصل هذا من العرض الذي هو خلاف الطول، و إذا عرض الشيء اتسع، و إذا لم يعرض ضاق ودق. وقال سعيد بن جبير: لو ألصق بعضهن إلى بعض كانت الجنة في عرضهن. ١٣٤ قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَٱلضَّرَّاء} قال ابن عباس: في العسر واليسر. ومعنى الآية: انهم رغبوا في معاملة اللّه، فلم يبطرهم الرخاء، فينسيهم، ولم تمنعهم الضراء فيبخلوا. قوله تعالى: {وَٱلْكَـٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ} قال الزجاج: يقال: كظمت الغيظ: إذا أمسكت على ما في نفسك منه، وكظم البعير على جرته: إذا رددها في حلقه. وقال ابن الأنباري: الأصل في الكظم: الإمساك على غيظ وغم. وروى ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ما تجرع عبد جرعة أفضل عند اللّه من جرعة غيظ يكظمها ابتغاء وجه اللّه تبارك وتعالى». قوله تعالى: «والعافين عن الناس» فيه قولان. احدهما: أنه العفو عن المماليك، قاله ابن عباس، والربيع. والثاني: أنه على إطلاقه، فهم يعفون عمن ظلمهم، قاله زيد بن أسلم، و مقاتل. ١٣٥ قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـٰحِشَةً} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. احدها: أن امرأة أتت إلى نبهان التمار تشتري منه تمرا فضمها، وقبلها، ثم ندم، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أن أنصاريا وثقفيا آخى النبي صلى اللّه عليه وسلم بينها، فخرج الثقفي مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في بعض مغازيه، فكان الأنصاري يتعهد أهل الثقفي، فجاء ذات يوم فأبصر المرأة قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها، فدخل ولم يستأذن؛ فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها، فقبله ثم ندم، فأدبر راجعا، فقالت: سبحان اللّه خنت أمانتك، وعصيت ربك، ولم تصب حاجتك. قال: فخرج يسيح في الجبال، ويتوب إلى اللّه من ذنبه. فلما قدم الثقفي أخبرته المرأة بفعله، فخرج يطلبه حتى دل عليه، فندم على صنيعه فوافقه ساجدا يقول: ذنبي ذنبي، قد خنت أخي. فقال له: يا فلان انطلق إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاسأله عن ذنبك، لعل اللّه أن يجعل لك مخرجا، فرجع إلى المدينة، فنزلت هذه الآية بتوبته، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. وذكره مقاتل. والثالث: أن المسلمين قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم: بنو إسرائيل أكرم على اللّه مناٰ كان احدهم إذا أذنب، أصبحت كفارة ذنوبه مكتوبة في عتبة بابه، فنزلت هذه الآية، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم «ألا أخبركم بخير من ذلك» فقرأ هذه الآية والتي قبلها، هذا قول عطاء. واختلفوا هل هذه الآية نعت للمنفقين في السراء والضراء؟ أم لقوم آخرين؟ على قولين. احدهما: أنها نعت لهم، قاله الحسن. والثاني: أنها لصنف آخر، قاله ابو سليمان الدمشقي. والفاحشة: القبيحة وكل شيء جاوز قدره، فهو فاحش. وفي المراد بها هاهنا قولان. احدهما: أنها الزنى. قاله جابر بن زيد، والسدي، و مقاتل. والثاني: أنها كل كبيرة، قاله جماعة من المفسرين. واختلفوا في «الظلم» المذكور بعدها، فلم يفرق قوم بينه وبين الفاحشة، وقالوا: الظلم للنفس فاحشة أيضا، وفرق آخرون، فقالوا: هو الصغائر. وفي قوله تعالى: {ذكروااللّه} قولان. احدهما: أنه ذكر اللسان، وهو الاستغفار، قاله ابن مسعود، وعطاء في آخرين. والثاني: أنه ذكر القلب، ثم فيه خمسة أقوال. احدها: أنه ذكر العرض على اللّه، قاله الضحاك. والثاني: أنه ذكر السؤال عنه يوم القيامة، قاله الواقدي. والثالث: ذكر وعيد اللّه لهم على ما أتوا، قاله ابن جرير. والرابع: ذكر نهي اللّه لهم عنه. والخامس: ذكر غفران اللّه: ذكر القولين أبو سليمان الدمشقي. فأما الإصرار، فقال الزجاج: هو الإقامة على الشىء. وقال ابن فارس: هو العزم على الشىء والثبات عليه. وللمفسرين في المراد بالاصرار ثلاثة أقوال. احدها: أنه مواقعة الذنب عند الاهتمام به. وهذا مذهب مجاهد. والثاني: أنه الثبوت عليه من غير استغفار، وهذا مذهب قتادة، وابن اسحاق. والثالث: أنه ترك الاستغفار منه، وهذا مذهب السدي. وفي معنى { على ما فعلوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ثلاثة أقوال. احدها: وهم يعلمون أن الإصرار يضر، وان تركه أولى من التمادي، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: يعلمون أن اللّه يتوب على من تاب، قاله مجاهد، و أبو عمارة. والثالث: يعلمون انهم قد أذنبوا، قاله السدي، و مقاتل. ١٣٦ {أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم...} ١٣٧ قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} السنن؛ جمع سنة، وهي الطريقة. وفي معنى الكلام قولان. احدهما: قد مضى قبلكم أهل سنن وشرائع، فانظروا ماذا صنعنا بالمكذبين منهم، وهذا قول ابن عباس. والثاني: قد مضت قبلكم سنن اللّه في إهلاك من كذب من الأمم، فاعتبروا بهم، وهذا قول مجاهد. وفي معنى {فَسِيرُواْ فِى ٱلاْرْضِ} قولان. احدهما: أنه السير في السفر. قال الزجاج: إذا سرتم في أسفاركم، عرفتم أخبار الهالكين بتكذيبهم. والثاني: أنه التفكر. ومعنى: فانظروا: اعتبروا، والعاقبة: آخر الأمر. ١٣٨ قوله تعالى: {هَـٰذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ} قال سعيد بن جبير: هذه الآية أول ما نزل من آل «عمران» وفي المشار إليه ب «هذا» قولان. احدهما: أنه القرآن، قاله الحسن، وقتادة، و مقاتل. والثاني: أنه شرح أخبار الأمم السالفة، قاله ابن اسحاق. والبيان: الكشف عن الشىء، وبان الشىء: اتضح، وفلان أبين من فلان، اي: أفصح. قال الشعبي: هذا بيان للناس من العمى، وهدى من الضلالة، وموعظة من الجهل. ١٣٩ قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} سبب نزولها أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما أنهزموا يوم أحد، أقبل خالد بن الوليد يخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم «اللّهم لا يعلون علينا، اللّهم لا قوة لنا إلا بك» فنزلت هذه الآيات، قاله ابن عباس. قال ابن عباس، و مجاهد: {وَلاَ تَهِنُواْ} أي: ولا تضعفوا. وفيما نهوا عن الحزن عليه أربعة أقوال. احدها: أنه قتل إخوانهم من المسلمين، قاله ابن عباس. والثاني: أنه هزيمتهم يوم أحد، وقتلهم قاله، مقاتل. والثالث: أنه ما أصاب النبي صلى اللّه عليه وسلم من شجه، وكسر رباعيته، ذكره الماوردي. والرابع: أنه ما فات من الغنيمة، ذكره علي بن احمد النيسابوري. قوله تعالى: {وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ} قال ابن عباس: يقول أنتم الغالبون فآخر الامر لكم. ١٤٠ قوله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} قال ابن عباس: أصابهم يوم أحد قرح، فشكوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ما لقوا، فنزلت هذه الآية. فأما المس، فهو الإصابة، وقرأ ابن كثير، و ابو عمرو، وابن عامر، ونافع «قرح» بفتح القاف. وقرأ حمزة، والكسائي، و أبو بكر، عن عاصم «قرح» بضم القاف. واختلفوا هل معنى القراءتين واحد أم لا؟ فقال أبو عبيد: القرح بالفتح: الجراح، والقتل. والقرح بالضم: ألم الجراح. وقال الزجاج: هما في اللغة بمعنى واحد، ومعناه: الجراح وألمها، قال: ومعنى نداولها، أي: نجعل الدولة في وقت للكفار على المؤمنين، إذا عصى المؤمنون، فأما إذا أطاعوا، فهم منصورون، قال ومعنى {عَبْدُ ٱللّه} أي: ليعلم واقعا منهم، لأنه عالم قبل ذلك، و إنما يجازي على ما وقع. وقال ابن عباس: معنى العلم هاهنا: الرؤية. قوله تعالى: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء} قال أبو الضحى: نزلت في قتلى أحد، قال ابن جريج: كان المسلمون يقولون: ربنا أرنا يوما كيوم بدر، نلتمس فيه الشهادة، فاتخذ منهم شهداء يوم أحد. قال ابن عباس: والظالمون هاهنا: المنافقون: وقال غيره: هم الذين انصرفوا يوم أحد مع ابن أبي المنافق. ١٤١ قوله تعالى: {وَلِيُمَحّصَ ٱللّه ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ} قال الزجاج: معنى الكلام: جعل اللّه الايام مداولة بين الناس، ليمحص المؤمنين، ويمحق الكافرين. وفي التمحيص قولان. احدهما: أنه الابتلاء والاختبار، وأنشدوا: رأيت فضيلا كان شيئا ملففا فكشفه التمحيص حتى بدا ليا وهو قول الحسن، و مجاهد، والسدي، و مقاتل، و ابن قتيبة في آخرين. والثاني: أنه التنقية، والتخليص، وهو قول الزجاج. وحكي عن المبرد، قال: يقال: محص الحبل محصا: إذا ذهب منه الوبر حتى يتخلص ومعنى قولهم: [اللّهم] محص عنا ذنوبنا: أذهبها عنا. وذكر الزجاج عن الخليل أن التمحيص: التخليص، يقال: محصت الشىء أمحصه محصا: إذا أخلصته. فعلى القول الأول التمحيص: ابتلاء المؤمنين بما يجري عليهم، وعلى الثاني: هو تنقيتهم من الذنوب بذلك. قال الفراء: معنى الآية: وليمحص اللّه بالذنوب عن الذين آمنوا. قوله تعالى: {وَيَمْحَقَ ٱلْكَـٰفِرِينَ} فيه أربعة أقوال. احدها: يهلكهم، قاله ابن عباس. والثاني: يذهب دعوتهم، قاله مقاتل. والثالث: ينقصهم ويقللّهم، قاله الفراء. والرابع: يحبط أعمالهم، ذكره الزجاج. ١٤٢ {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة...} ١٤٣ قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ} قال ابن عباس: لما أخبرهم اللّه تعالى على لسان نبيه صلى اللّه عليه وسلم، بما فعل بشهداء يوم بدر من الكرامة، رغبوا في ذلك، فتمنوا قتالا يستشهدون فيه، فيلحقون باخوانهم، فأراهم اللّه يوم أحد، فلم يلبثوا أن انهزموا إلا من شاء اللّه منهم، فنزل فيهم {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ} يعني القتال {مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ} أي: من قبل أن تنظروا إليه يوم أحد {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} يومئذ، قال الفراء، و ابن قتيبة: أي: رأيتم أسبابه، وهي السيف ونحوه من السلاح. وفي معنى {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} ثلاثة أقوال. احدها: تنظرون إلى السيوف، قاله ابن عباس. والثاني: أنه ذكر للتوكيد، قاله الأخفش. وقال الزجاج: معناه: فقد رأيتموه، و انتم بصراء، كما تقول: رأيت كذا وكذا، وليس في عينك علة، أي: رأيته رؤية حقيقة. والثالث: أن معناه: وأنتم تنظرون ما تمنيتم. وفي الآية إضمار [أي: فقد رأيتموه و انتم تنظرون] فلم انهزمتمٰ؟. ١٤٤ قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} قال ابن عباس: صاح الشيطان يوم أحد: قتل محمد. فقال قوم: لئن كان قتل لنعطينهم بأيدينا إنهم لعشائرنا وإخواننا، ولو كان محمد حيا لم نهزم، فترخصوا في الفرار، فنزلت هذه الآية، وقال الضحاك: قال قوم من المنافقين: قتل محمد، فالحقوا بدينكم الأول، فنزلت هذه الآية، وقال قتادة: قال أناس: لو كان نبيا ما قتل، وقال ناس من علية أصحاب رسول اللّه: قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى تلحقوا به، فنزلت هذه الآية. ومعنى الآية: أنه يموت كما ماتت قبله الرسل، أفان مات على فراشه، أو قتل كمن قتل قبله من الأنبياء، أتنقلبون على أعقابكم؟ٰ أي: ترجعون إلى ما كنتم عليه من الكفر؟ٰ وهذا على سبيل المثل، يقال لكل من رجع عما كان عليه: قد انقلب على عقبيه، وأصله: رجعة القهقرى، والعقب: مؤخر القدم. قوله تعالى: {فَلَن يَضُرَّ ٱللّه شَيْئاً} أي: لن ينقص اللّه شيئا برجوعه، و إنما يضر نفسه. {وَسَيَجْزِى} أي: يثيب الشاكرين، وفيهم ثلاثة أقوال. احدها: انهم الثابتون على دينهم، قاله علي رضي اللّه عنه، وقال: كان أبو بكر أمير الشاكرين. والثاني: انهم الشاكرون على التوفيق والهداية. والثالث: على الدين. ١٤٥ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه} في الإذن قولان. احدهما: أنه الأمر، قاله ابن عباس. والثاني: الإذن نفسه، قاله مقاتل. قال الزجاج: ومعنى الآية: وما كانت نفس لتموت إلا باذن اللّه. قوله تعالى: {كِتَـٰباً مُّؤَجَّلاً} توكيد، والمعنى: كتب اللّه ذلك كتابا مؤجلا، أي: كتابا ذا أجل. والأجل: الوقت المعلوم، ومثله في التوكيد {كِتَـٰبَ ٱللّه عَلَيْكُمْ} [النساء: ٢٤] لأنه لما قال: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ} [النساء: ٢٢] دل على أنه مفروض، فأكد بقوله {كِتَـٰبَ ٱللّه عَلَيْكُمْ} [النساء: ٢٤] وكذلك قوله تعالى: {صُنْعَ ٱللّه} [النمل: ٨٨] لأنه لما قال: {وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل: ٨٨] دل على أنه خلق اللّه فأكد بقوله: {صُنْعَ ٱللّه}. قوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي: من قصد بعمله الدنيا، أعطي منها، قليلا كان أو كثيرا، ومن قصد الاخرة بعمله، أعطي منها. وقال مقاتل: عنى بالآية: من ثبت يوم أحد، ومن طلب الغنيمة. فصل وأكثر العلماء على أن هذا الكلام محكم، وذهبت طائفة إلى نسخه بقوله تعالى: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} [الاسراء: ١٨] والصحيح أنه محكم، لأنه لا يؤتى أحد شيئا إلا بقدرة اللّه ومشيئته. ومعنى قوله تعالى: {نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي: ما نشاء، وما قدرنا له، ولم يقل: ما يشاء هو. ١٤٦ قوله تعالى: {وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ} قرأ الجمهور «وكأين» في وزن »كعين». وقرأ ابن كثير و«كائن» في وزن «كاعن» قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: «كأين» مثل: «كعين» ينصبون الهمزة، ويشددون الياء. وتميم يقولون: و«كائن» كأنها فاعل من كئت وأنشدني الكسائي: وكائن ترى يسعى من الناس جاهدا على ابن غدا منه شجاع وعقرب وقال آخر: وكائن أصابت مؤمنا من مصيبة على اللّه عقباها ومنه ثوابها وقال ابن قتيبة: كائن بمعنى «كم» مثل قوله: {وَكَأِيّن مّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا} [الطلاق: ٨] وقد قرىء بهما [جميعا في القرآن] والأكثر والأفصح تخفيفها. قال الشاعر: وكائن أرينا الموت من ذي تحية إذا ما ازدرانا أو أصر لمأثم وقال الآخر: وكائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلم قوله تعالى: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ} قرأ ابن كثير، ونافع، ابو عمرو، وأبان، والمفضل كلاهما عن عاصم: «قتل» بضم القاف، وكسر التاء، من غير ألف، وقرأ الباقون: «قاتل» بألف، وقرأ ابن مسعود، و أبورزين، و أبو رجاء، والحسن، وابن يعمر، وابن جبير، وقتادة، وعكرمة، وأيوب: «ربيون» بضم الراء. وقرأ ابن عباس، وأنس، وابو مجلز، و أبوالعالية، والجحدري، بفتحها. فعلى حذف الألف يحتمل وجهين. احدهما: أن يكون قتل للنبي وحده، ويكون المعنى: وكأين من نبي قتل، ومعه ربيون، فما وهنوا بعد قتله. والثاني: أن يكون قتل للربيين، ويكون: «فما وهنوا» لمن بقي منهم. وعلى إثبات الألف يكون المعنى: أن القوم قاتلوا، فما وهنوا. وفي معنى الربيين خمسة أقوال. احدها: انهم الألوف، قاله ابن مسعود، و ابن عباس، في رواية واختاره الفراء. والثاني:الجماعات الكثيرة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة و الضحاك، وقتادة، والسدي، والربيع، واختاره ابن قتيبة. والثالث: انهم الفقهاء والعلماء، رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وبه قال الحسن واختاره اليزيدي و الزجاج. والرابع: أنهم الاتباع قاله ابن زيد. والخامس: أنهم المتألهون العارفون باللّه تعالى قاله ابن فارس. قوله تعالى: {فَمَا وَهَنُواْ} فيه قولان. احدهما: أنه الضعف، قاله ابن عباس، و ابن قتيبة. والثاني: أنه العجز، قاله قتادة. قال ابن قتيبة: والاستكانه الخشوع والذل، ومنه أخذ المسكين وفي معنى الكلام قولان. احدهما: فما وهنوا بالخوف، وما ضعفوا بنقصان القوة، ولا استكانوا بالخضوع. والثاني: فما وهنوا لقتل نبيهم، ولا ضعفوا عن عدوهم، ولا استكانوا لما أصابهم. ١٤٧ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ} يعني الربيين. {إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا} أي: لم يكن قولهم غير الاستغفار. والإسراف: مجاوزة الحد، وقيل: أريد بالذنوب الصغائر، وبالإسراف: الكبائر. قوله تعالى: {وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا} قال ابن عباس على القتال وقال الزجاج معناه ثبتنا على دينك فإن الثابت على دينه ثابت في حربه. ١٤٨ قوله تعالى: {فَـاتَـٰهُمُ ٱللّه ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا} فيه قولان. احدهما: أنه النصر، قاله قتادة. والثاني: الغنيمة. قاله ابن جريج، وروي عن ابن عباس أنه قال: النصر والغنيمة. وفي حسن ثواب الآخرة قولان. احدهما: أنه الجنة. والثاني: الأجر والمغفرة، وهذا تعليم من اللّه تعالى للمؤمنين، ما يفعلون ويقولون عند لقاء العدو. ١٤٩ قوله تعالى: {يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} قال ابن عباس: نزلت في قول ابن أبي للمسلين، لما رجعوا من أحد: لو كان نبيا ما أصابه الذي أصابه وفي الذين كفروا هاهنا ثلاثة أقوال. احدها: أنهم المنافقون، على قول ابن عباس و مقاتل. والثاني: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن جريج. والثالث: أنهم عبدة الأوثان، قاله السدي. قالوا وكانوا قد أمروا المسلمين بالرجوع عن دينهم. ومعنى {يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِكُمْ} يصرفوكم إلى الشرك {فَتَنقَلِبُواْ خَـٰسِرِينَ} بالعقوبة. ١٥٠ قوله تعالى: {بَلِ ٱللّه مَوْلَـٰكُمْ} أي: وليكم ينصركم عليهم، فاستغنوا عن موالاة الكفار. ١٥١ قوله تعالى: {سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ} قال السدي: لما ارتحل المشركون يوم أحد نحو مكة ندموا في بعض الطريق، وقالوا: قتلتموهم حتى إذا لم يبق الا الشرذمة، تركتموهم؟ ارجعوا فاستأصلوهم، فقذف اللّه في قلوبهم الرعب، ونزلت هذه الآية. والإلقاء: القذف. والرعب: الخوف. قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، و ابو عمرو، وحمزة «الرعب» ساكنة العين، خفيفة، وقرأ ابن عامر، والكسائي، ويعقول، و أبو جعفر، مضمومة العين، مثقله، أين وقعت. والسلطان هاهنا: الحجة في قول الجماعة. والمأوى: المكان الذي يؤوى إليه. والمثوى: المقام. والثوى: الإقامة. قال ابن عباس: والظالمون هاهنا: الكافرون. ١٥٢ قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللّه وَعْدَهُ} قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه من أحد، قال قوم منهم: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا اللّه النصر؟ فنزلت هذه الآية. وقال المفسرون: وعد اللّه تعالى المؤمنين النصر بأحد، فنصرهم فلماخالفوا، وطلبوا الغنيمة، هزموا. وقال ابن عباس: ما نصر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في موطن ما نصر في أحد، فأنكر ذلك عليه، فقال: بيني وبينكم كتاب اللّه، إن اللّه يقول: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللّه وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} فأما الحس، فهو القتل، قاله ابن عباس، والحسن، و مجاهد، والسدي، والجماعة، وقال ابن قتيبة: تحسونهم، أي: تستأصلونهم بالقتل، يقال: سنة حسوس: إذا أتت على كل شيء، وجراد محسوس: إذا قتله البرد. وفي قوله تعالى {بِإِذْنِهِ} ثلاثة أقوال. احدها: بأمره، قاله ابن عباس. والثاني: بعلمه، قاله الزجاج. والثالث: بقضائه، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ} قال الزجاج: أي: جبنتم {وَتَنَـٰزَعْتُمْ} أي اختلفتم {مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} يعني: النصرة وقال الفراء: فيه تقديم وتاخير معناه حتى إذا تناعزعم في الأمر فشلتم وعصيتم وهذه الواو زائدة كقوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَـٰدَيْنَـٰهُ} [الصافات: ١٠٣]. معناه ناديناه. فأما تنازعهم، فان بعض الرماة قال: قد انهزم المشركون فما يمنعنا من الغنيمة، وقال بعضهم: بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فترك المركز بعضهم، وطلب الغنيمة، وتركوا مكانهم فذلك عصيانهم، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم، قد أوصاهم لو رأيتم الطير تخطفنا فلا تبرحوا من مكانكم. قوله تعالى: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} قال المفسرون: هم الذين طلبواالغنيمة وتركوا مكانهم {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلاْخِرَةَ} وهم الذين ثبتوا، وقال ابن مسعود ما كنت أظن أحدا من أصحاب محمد يريد الدنيا. حتى نزلت هذه الآية. قوله تعالى: {صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} أي: ردكم عن المشركين بقتلكم، وهزيمتكم. {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي: ليختبركم، فيبين الصابر من الجازع. قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} فيه قولان: احدهما: عفا عن عقوبتكم، قاله ابن عباس. والثاني: عفا عن استئصالكم، قاله الحسن. وكان يقول: هؤلاء مع رسول اللّه، في سبيل اللّه غضاب للّه، يقاتلون في سبيل اللّه نهوا عن شيء فضيعوه، فما تركوا حتى غموا بهذا الغم، والفاسق اليوم يتجرم كل كبيرة، ويركب كل داهية، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم. قوله تعالى: {وَٱللّه ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ} فيه قولان. احدهما: إذ عفا عنهم، قاله ابن عباس. والثاني: إذ لم يقتلوا جميعا، قاله مقاتل. ١٥٣ قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ} قال المفسرون: إذ متعلقة بقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} وأكثر القراء على ضم التاء، وكسر العين من قوله: {تُصْعِدُونَ} وهو من الإصعاد، وروى أبان عن ثعلب عن عاصم، فتحها، وهي قراءة الحسن، و مجاهد وهو من الصعود. قال الفراء: الإصعاد في ابتداء الأسفار، والمخارج. تقول: أصعدنا من بغداد إلى خراسان، فاذا صعدت على سلم، أو درجة قلت صعدت، ولا تقول أصعدت وقال الزجاج: كل من ابتدأ مسيرا من مكان فقد أصعد، فأما الصعود فهو من أسفل إلى فوق، ومن فتح التاء، ومعين أراد الصعود في الجبل، وللمفسرين في معنى الآية. قولان: احدهما: أنه صعودهم في الجبل، قاله ابن عباس، و مجاهد. والثاني: أنه الإبعاد في الهزيمة قاله قتادة، و ابن قتيبة و {تَلْوُونَ} بمعنى: تعرجون. وقوله تعالى: {عَلَىٰ أَحَدٍ} عام وقد روي عن ابن عباس أنه أريد به النبي صلى اللّه عليه وسلم، قال: والنبي صلى اللّه عليه وسلم، يناديهم من خلفهم: إلى عباد اللّه أنا رسول اللّه وقرأت عائشة، وأبو مجلز، وأبو الجوزاء، وحميد، على أحد بضم الألف والحاء يعنون الجبل. قوله تعالى: {فَأَثَـٰبَكُمْ} أي: جازاكم. قال الفراء: الإثابة هاهنا: بمعنى: عقاب ولكنه كما قال الشاعر: أخاف زيادا أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا المحدرجة: السياط. والسود. فيما يقال: القيود. قوله تعالى {غَمّاً بِغَمّ} في هذه الباء أربعة أقوال. احدها: أنها بمعنى مع. والثاني: بمعنى بعد. والثالث: بمعنى: على فعلى هذه الثلاثة الاقوال يتعلق الغمان بالصحابة، وللمفسرين في المراد بهذين الغمين، خمسة أقوال. احدها: أن الغم الأول ما أصابهم من الهزيمة والقتل، والثاني: إشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين عليهم، قاله ابن عباس، و مقاتل. والثاني: أن الأول فرارهم الأول، والثاني: فرارهم حين سمعوا أن محمد قد قتل، قاله مجاهد. والثالث: أن الأول ما فاتهم من الغنيمة، وأصابهم من القتل، والجراح. والثاني: حين سمعوا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، قد قتل قاله قتادة. والرابع: أن الأول ما فاتهم من الغنيمة، والفتح. والثاني: إشراف أبي سفيان عليهم، قاله السدي. والخامس: أن الأول اشراف خالد بن الوليد عليهم. والثاني: إشراف أبي سفيان عليهم ذكره الثعلبي. والقول الرابع: أن الباء بمعنى: الجزاء، فتقديره غمكم كما غممتم، غيركم فيكون أحد الغمين للصحابة، وهو أحد غمومهم التي ذكرناها عن المفسرين، ويكون الغم الذي جوزوا لأجله لغيرهم، وفي المراد بغيرهم قولان. احدهما: أنهم المشركون غموهم يوم بدر، قاله الحسن. والثاني: أنه النبي صلى اللّه عليه وسلم، غموه حيث خالفوه فجوزوا على ذلك بأن غمو بما أصابهم، قاله الزجاج. قوله تعالى {لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ} في لا قولان: احدهما: أنها باقية على أصلها، ومعناها: النفي فعلى هذا في معنى الكلام قولان. احدهما: فأثابكم غما أنساكم الحزن على ما فاتكم، وما أصابكم، وقد روي أنهم لما سمعوا أن النبي قد قتل نسوا ما أصابهم، وما فاتهم. والثاني: أنه متصل بقوله {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} فمعنى الكلام عفا عنكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم، وأصابكم لأن عفوه يذهب كل غم. والقول الثاني: أنها صلة، ومعنى الكلام: لكي تحزنوا على ما فاتكم، واصابكم عقوبة لكم في خلافكم ومثها قوله تعالى: {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَىْء مّن فَضْلِ ٱللّه} الحديد: ٢٩. أي: ليعلم هذا قول المفضل، قال ابن عباس: والذي فاتهم الغنيمة، والذي أصابهم القتل والهزيمة. ١٥٤ قوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ ٱلْغَمّ أَمَنَةً} قال ابن قتيبة: الأمنة: الأمن. يقال: وقعت الأمنة في الأرض. وقال الزجاج: معنى الآية: أعقبكم بما نالكم من الرعب أن أمنكم أمنا تنامون معه، لأن الشديد الخوف لا يكاد ينام. و «نعاسا» منصوب على البدل من «أمنة» يقال: نعس الرجل ينعس نعاسا، فهو ناعس. وبعضهم يقول نعسان قال الفراء: قد سمعتها، ولكني لا أشتهيها. قال العلماء: النعاس: أخف النوم. وفي وجه الامتنان عليهم بالنعاس قولان. احدهما: أنه أمنهم بعد خوفهم حتى ناموا، فالمنة بزوال الخوف، لأن الخائف لا ينام والثاني: قواهم بالاستراحة على القتال. قوله تعالى: {يَغْشَىٰ طَائِفَةً مّنْكُمْ} قرأ ابن كثير، ونافع، و ابو عمرو، وعاصم، وابن عامر «يغشى» بالياء مع التفخيم، وهو يعود إلى النعاس. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف «تغشى» بالتاء مع الإمالة، وهو يرجع إلى الأمنة. فأما الطائفة التي غشيها النوم، فهم المؤمنون، والطائفة الذين أهمتهم انفسهم: المنافقون، أهمهم خلاص أنفسهم، فذهب النوم عنهم. قال أبو طلحة: كان السيف يسقط من يدي، ثم آخذه، ثم يسقط، وآخذه من النعاس. وجعلت انظر، وما منهم أحد يومئذ إلا يميد تحت حجفته من النعاس. وقال الزبير: ارسل اللّه علينا النوم، فما منا رجل إلا ذقنه في صدره، فواللّه إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلاْمْرِ شَىْء مَّا قُتِلْنَا هَـٰهُنَا}، فحفطتها منه. قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِٱللّه غَيْرَ ٱلْحَقّ} فيه أربعة أقوال. احدها: أنهم ظنوا أن اللّه لا ينصر محمدا وأصحابه، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنهم كذبوا بالقدر، رواه الضحاك، عن ابن عباس. والثالث: أنهم ظنوا أن محمدا قد قتل، قاله مقاتل. والرابع: ظنوا أن أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم مضمحل، قاله الزجاج. قوله تعالى: {ظَنَّ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ} قال ابن عباس: أي: كظن الجاهلية. قوله تعالى: {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلاْمْرِ مِن شَىْء} لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه: الجحد، تقديره: ما لنا من الأمر من شيء. قال الحسن: قالوا: لو كان الأمر إلينا ما خرجنا، و إنما أخرجنا كرها. وقال غيره: المراد بالأمر: النصر والظفر، قالوا: إنما النصر للمشركين {قُلْ إِنَّ ٱلاْمْرَ كُلَّهُ} أي: النصر، والظفر، والقضاء، والقدر {للّه}. والاكثرون قرؤوا {إِنَّ ٱلاْمْرَ كُلَّهُ للّه} بنصب اللام، وقرأ ابو عمرو برفعها، قال أبو علي: حجة من نصب، أن «كله» بمنزلة «أجمعين» في الإحاطة والعموم، فلو قال: إن الأمر أجمع، لم يكن إلا النصب، و«كله» بمنزلة «أجمعين» ومن رفع، فلآنه قد ابتدأ به، كما ابتدأ بقوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ ءاتِيَةٌ}. قوله تعالى {يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم} في الذي أخفوه ثلاثة أقوال. احدها: أنه قولهم: { ما قتلنا ههنا قل لوكنتم في بيوتكم} والثاني: أنه إسرارهم الكفر، والشك في أمر اللّه. والثالث: الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد. قال أبو سليمان الدمشقي. والذي قال: {هَل لَّنَا مِنَ ٱلاْمْرِ مِن شَىْء} عبد اللّه ابن أبي. والذي قال: {لو كان لنا من الأمر من شيء} معتب بن قشير. قوله تعالى {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ} أي: لو تخلفتم، لخرج منكم من كتب عليه القتل، ولم ينجه القعود. والمضاجع: المصارع بالقتل. قال الزجاج: ومعنى {بَرَزُواْ}: صاروا إلى براز، وهو المكان المنكشف، ومعنى {وَلِيَبْتَلِىَ ٱللّه مَا فِى صُدُورِكُمْ}أي: ليختبره بأعمالكم، لأنه قد علمه غيبا، فيعلمه شهادة. قوله تعالى: {وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ} قال قتادة: أراد ليظهرها من الشك والارتياب، بما يريكم من عجائب صنعه من الأمنة، وإظهار سرائر المنافقين. وهذا التمحيص خاص للمؤمنين. وقال غيره أراد بالتمحيص: إبانة ما في القلوب من الاعتقاد للّه، ولرسوله، وللمؤمنين، فهو خطاب للمنافقين. قوله تعالى {وَٱللّه عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} أي: بما فيها. وقال ابن الأنباري: معناه: عليم بحقيقة ما في الصدور من المضمرات، فتأنيث ذات بمعنى الحقيقة، كما تقول العرب: لقيته ذات يوم. فيؤنثون لأن مقصدهم: لقيته مرة في يوم. ١٥٥ قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ} الخطاب للمؤمنين، وتوليهم: فرارهم من العدو. والجمعان: جمع المؤمنين، وجمع المشركين، وذلك يوم أحد. واستزلهم: طلب زللّهم، قال ابن قتيبة: هو كما تقول: استعجلت فلانا، أي: طلبت عجلته، واستعملته: طلبت عمله. والذي كسبوا: يريد به الذنوب. وفي سبب فرارهم يؤمئذ قولان. احدها: أنهم سمعوا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد قتل، فترخصوا في الفرار، قاله ابن عباس في آخرين. والثاني: أن الشيطان أذكرهم خطاياهم، فكرهوا لقاء اللّه إلا على حال يرضونها قاله الزجاج. ١٥٦ قوله تعالى {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي: كالمنافقين الذين قالوا لإخوانهم في النفاق، وقيل: إخوانهم في النسب. قال الزجاج: و إنما قال: «إذا ضربوا» ولم يقل: إذ ضربوا، لأنه يريد: شأنهم هذا أبدا، تقول: فلان إذا حدث صدق، و إذا ضرب صبر. و «إذا» لما يستقبل، إلا أنه لم يحكم له بهذا المستقبل إلا لما قد خبر منه فيما مضى. قال المفسرون: ومعنى {ضَرَبُواْ فِى ٱلاْرْضِ}: ساروا وسافروا. و «غزى» جمع غازي. وفي الكلام محذوف تقديره: إذا ضربوا في الأرض، فماتوا، أوغزوا، فقتلوا. قوله تعالى {لِيَجْعَلَ ٱللّه ذٰلِكَ} قال ابن عباس: ليجعل اللّه ما ظنوا من أنهم لو كانوا عندهم، سلموا، {حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ} أي: حزنا. قال ابن فارس: الحسرة: التلهف على الشيء الفائت. قوله تعالى: {وَٱللّه يُحْيىِ وَيُمِيتُ} أي: ليس تحرز الانسان يمنعه من أجله. قوله تعالى: {وَٱللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: يعملون بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. قال أبو علي: حجة من قرأ بالياء أن قبلها غيبة، وهو قوله تعالى: {وَقَالُواْ لإِخْوٰنِهِمْ}، ومن قرأ بالتاء، فحجته {لاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ}. ١٥٧ قوله تعالى: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ} اللام في «لئن» لام القسم، تقديره: واللّه لئن قتلتم في الجهاد {أَوْ مُتُّمْ} في إقامتكم. قرأ ابن كثير، و ابو عمرو، وابن عامر، و أبو بكر عن عاصم: «مت» و «متم» و«متنا» برفع الميم في جميع القرآن، وروى حفص عن عاصم: {أَوْ مُتُّمْ} {وَلَئِنْ مُّتُّمْ} برفع الميم في هذين دون باقي القرآن. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي كل ما في القرآن بالكسر. قوله تعالى: {لَمَغْفِرَةٌ مّنَ ٱللّه وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} أي: من أعراض الدنيا التي تتركون الجهاد لجمعها. وقرأ حفص عن عاصم: يجمعون بالياء، ومعناه: خير مما يجمع غيركم مما تركوا الجهاد لجمعه. قال ابن عباس: خير مما يجمع المنافقون في الدنيا. ١٥٨ قوله تعالى: {وَلَئِنْ مُّتُّمْ} أي: في إقامتكم. {أَوْ قُتِلْتُمْ} في جهادكم. {لإِلَى ٱللّه تُحْشَرُونَ} وهذا تخويف من القيامة. والحشر: الجمع مع سوق. ١٥٩ قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ٱللّه لِنتَ لَهُمْ} قال الفراء و ابن قتيبة، و الزجاج «ما» هاهنا صلة، ومثله: {فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـٰقَهُمْ} قال ابن الأنباري: دخول «ما» هاهنا يحدث توكيدا. قال النابغة: المرء يهوى أن يعيـ ش وطول عيش ما يضره فأكد بذكر «ما» وفيمن تتعلق به هذه الرحمة قولان. احدهما: أنها تتعلق بالنبي صلى اللّه عليه وسلم. والثاني: بالمؤمنين. قال قتادة: ومعنى {لِنتَ لَهُمْ} لأن جانبك، وحسن خلقك، وكثر احتمالك. قال الزجاج: والفظ: الغليظ الجانب، السىء الخلق، يقال: فظظت تفظ فظاظة وفظظا، والفظ: ماء الكرش والفرث، و إنما سمي فظا لغلظ مشربه. فأما الغليظ القلب، فقيل: هو القاسي القلب، فيكون ذكر الفظاظة والغلظ وإن كانا بمعنى واحدـ توكيدا. وقال ابن عباس: الفظ: في القول، والغليظ القلب: في الفعل. قوله تعالى: {لاَنْفَضُّواْ} أي: تفرقوا. وتقول: فضضت عن الكتاب ختمه: إذا فرقته عنه. {فَٱعْفُ عَنْهُمْ} أي: تجاوز عن هفواتهم، وسل اللّه المغفرة لذنوبهم {وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلاْمْرِ} معناه: استخرج آراءهم، واعلم ما عندهم. ويقال: إنه من: شرت العسل. وأنشدوا: وقاسمها باللّه حقا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها قال الزجاج: يقال: شاورت الرجل مشاورة وشورا، وما يكون عن ذلك اسمه المشورة. وبعضهم يقول: المشورة. ويقال: فلان حسن الصورة والشورة، أي: حسن الهيئة واللباس. ومعنى قولهم: شاورت فلانا، أظهرت ما عنده وما عندي. وشرت الدابة: إذا امتحنتها، فعرفت هيئتها في سيرها. وشرت العسل: إذا أخذته من مواضع النحل. وعسل مشار. قال الأعشى: كأن القرنفل والزنجبيل باتا بفيها وأريا مشارا والأرى: العسل. واختلف العلماء لأي معنى أمر اللّه نبيه بمشاورة أصحابه مع كونه كامل الرأي، تام التدبير، على ثلاثة أقوال. احدها: ليستن به من بعده، وهذا قول الحسن، وسفيان بن عيينة. والثاني: لتطيب قلوبهم، وهو قول قتادة، والربيع، وابن إسحاق. و مقاتل. قال الشافعي رضي اللّه عنه: نظير هذا قوله صلى اللّه عليه وسلم «البكر تستأمر في نفسها»، إنما أراد استطابة نفسها، فانها لو كرهت، كان للأب أن يزوجها، وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أمر بذبحه. والثالث: للاعلام ببركة المشاورة، وهو قول الضحاك. ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح أمره. علم أن امتناع النجاح محض قدر، فلم يلم نفسه، ومنها أنه قد يعزم على أمر، فيبين له الصواب في قول غيره، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح. قال علي رضي اللّه عنه: الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم. وقال بعض الحكماء: ما استنبط الصواب بمثل المشاورة، ولا حصنت النعم بمثل المواساة، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر. واعلم أنه إنما أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي، وعمهم بالذكر، والمقصود أرباب الفضل والتجارب منهم. وفي الذي أمر بمشاورتهم فيه قولان: حكاهما القاضي أبو يعلى: احدهما: أنه أمر الدنيا خاصة. والثاني: أمر الدين والدنيا، وهو أصح.وقد قرأ ابن مسعود، و ابن عباس «وشاورهم في بعض الأمر». قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ} قال ابن فارس: العزم: عقد القلب على الشىء ويريد أن يفعله. وقد قرأ أبو رزين، و أبو مجلز، و أبوالعالية، وعكرمة، والجحدري: {فَإِذَا عَزَمْتَ} بضم التاء. فأما التوكل، فقد سبق شرحه. ومعنى الكلام: فاذا عزمت على فعل شيء، فتوكل على اللّه، لا على المشاورة. ١٦٠ قوله تعالى: {إِن يَنصُرْكُمُ ٱللّه} قال ابن فارس: النصر: العون، والخذلان: ترك العون. وقيل: الكناية في قوله {مِن بَعْدِهِ} تعود إلى خذلانه. ١٦١ قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ} في سبب نزولها سبعة أقوال. احدها: أن قطيفة من المغنم فقدت يوم بدر، فقال ناس: لعل النبي صلى اللّه عليه وسلم أخذها، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أن رجلا غل من غنائم هوازن يوم حنين، فنزلت هذه الآية، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أن قوما من أشراف الناس طلبوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يخصهم بشىء من الغنائم، فنزلت هذه الآية، نقل عن ابن عباس أيضا. والرابع: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث طلائعا، فغنم النبي صلى اللّه عليه وسلم غنيمة، ولم يقسم للطلائع، فقالوا: قسم الفيء ولم يقسم لنا، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك. والخامس: أن قوما غلوا يوم بدر، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. والسادس: أنها نزلت في الذين تركوا مركزهم يوم أحد طلبا للغنيمة، وقالوا: نخاف أن يقول النبي صلى اللّه عليه وسلم: «من أخذ شيئا، فهو له» فقال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم: «ألم أعهد إليكم ألا تبرحوا؟ٰ أظننتم أنا نغل؟ٰ» فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب، و مقاتل. والسابع: أنها نزلت في غلول الوحي، قاله القرظي، وابن اسحاق.وذكر بعض المفسرين أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وآلهتم، فسألوه أن يطوي ذلك، فنزلت هذه الآية. واختلف القراء في «يغل» فقرا ابن كثير، وعاصم، و ابو عمرو: بفتح الياء وضم الغين، ومعناها: يخون. وفي هذه الخيانة قولان. احدهما: خيانة المال على قول الأكثرين. والثاني: خيانة الوحي الوحب على قول القرظي، وابن اسحاق. وقرأ الباقون: بضم الياء وفتح الغين، ولها وجهان. احدهما: أن يكون المعنى يخان، ويجوز أن يكون: يلفى خائنا، يقال: أغللت فلانا، أي: وجدته غالا، كما يقال: أحمقته: وجدته أحمق، وأحمدته: وجدته محمودا قاله الحسن، و ابن قتيبة. والثاني: يخون، قاله الفراء، وأجازه الزجاج، ورده ابن قتيبة، فقال: لو أراد: يخون، لقال: يغلل، كما يقال: يفسق، ويخون، ويفجر. وقيل «اللام» في قوله «لنبي» منقولة، ومعنى الآية: وما كان النبي ليغل، ومثله: {مَا كَانَ للّه أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: ٣٦] أي: ما كان اللّه ليتخذ ولدا. وهذه الآية من الطف التعريض، إذ قد ثبتت براءة ساحة النبي صلى اللّه عليه وسلم، من الغلول فدل على أن الغلول في غيره. ومثله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: ٢٥] وقد ذكر عن السدي نحو هذا. قوله تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ} الغلول: أخذ شيء من المغنم خفية، ومنه الغلالة، وهي ثوب يلبس تحت الثياب، والغلل: وهو الماء الذي يجري بين الشجر، والغل: وهو الحقد الكامن في الصدر، وأصل الباب الاختفاء. وفي إتيانه بما غل ثلاثة أقوال. احدها: أنه يأتي بما غله، يحمله، ويدل عليه ما روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة قال: قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما فذكر الغلول، فعظمه، وعظم أمره، ثم قال «لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول اللّه أغثني، فاقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، فيقول: يا رسول اللّه أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول اللّه أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح، فيقول: يا رسول اللّه أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق، فيقول: يا رسول اللّه أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول: يا رسول اللّه أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك». الرغاء: صوت البعير، والثغاء: صوت الشاة، والنفس: ما يغل من السبي، والرقاع: الثياب. والصامت: المال. والقول الثاني: أنه يأتي حاملا إثم ما غل. والثالث: أنه يرد عوض ما غل من حسناته، والقول الأول أصح لمكان الأثر الصحيح. قوله تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي: تعطى جزاء ما كسبت. ١٦٢ قوله تعالى: {أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوٰنَ ٱللّه} اختلفوا في معنى هذه الآية على قولين. احدهما: أن معناها: أفمن اتبع رضوان اللّه، فلم يغل، {كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ ٱللّه} حين غل؟ٰ هذا قول سعيد بن جبير، والضحاك، والجمهور. والثاني: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما أمر المسلمين باتباعه يوم أحد، اتبعه المؤمنون، وتخلف جماعة من المنافقين، فأخبر اللّه بحال من تبعه، ومن تخلف عنه، هذا قول الزجاج. ١٦٣ قوله تعالى: {هُمْ دَرَجَـٰتٌ} قال الزجاج: معناه: هم ذوو درجات. وفي معنى درجات قولان. احدهما: أنها درجات الجنة، قاله الحسن. والثاني: أنها فضائلهم، فبعضهم أفضل من بعض، قاله الفراء، و ابن قتيبة. وفيمن عنى بهذا الكلام قولان. احدهما: أنهم الذين اتبعوا رضوان اللّه، والذين باؤوا بسخط من اللّه، فلمن اتبع رضوان اللّه الثواب، ولمن باء بسخطه العذاب، هذا قول ابن عباس. والثاني: أنهم الذين اتبعوا رضوان اللّه فقط، فانهم يتفاوتون في المنازل، هذا قول سعيد بن جبير، و أبي صالح، و مقاتل. ١٦٤ قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ ٱللّه عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ} أي: أنعم عليهم. و «أنفسهم» جماعتهم، وقيل: نسبهم. وقرأ الضحاك، وأبو الجوزاء: {مّنْ أَنفُسِهِمْ} بفتح الفاء. وفي وجه الامتنان عليهم بكونه من أنفسهم أربعة أقوال. احدها: لكونه معروف النسب فيهم، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: لكونهم قد خبروا أمره، وعلموا صدقه، قاله الزجاج. والثالث: ليسهل عليهم التعلم منه، لموافقة لسانه للسانهم، قاله أبو سليمان الدمشقي. والرابع: لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم، قاله الماوردي. وهل هذه الآية خاصة أم عامة؟ فيه قولان. احدهما: أنها خاصة للعرب، روي عن عائشة والجمهور. والثاني: أنها عامة لسائر المؤمنين، فيكون المعنى أنه ليس بملك، ولا من غير بني آدم، وهذا اختيار الزجاج. وقد سبق في {البقرة} بيان باقي الآية. ١٦٥ قوله تعالى: {أَوَ لَمَّا أَصَـٰبَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ} قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: لما كان يوم أحد عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء، فقتل منهم سبعون، وفر أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، فنزلت هذه الآية إلى قوله تعالى {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} قال بأخذكم الفداء. قوله تعالى: {أَوَ لَمَّا} قال الزجاج: هذه واو النسق، دخلت عليها ألف الاستفهام، فبقيت مفتوحة على هيئتها قبل دخولها، ومثل ذلك قول القائل: تكلم فلان بكذا وكذا فيقول المجيب: له أو هو ممن يقول ذلك؟ فأما «المصيبة» فما أصابهم يوم أحد، وكانوا قد أصابوا مثليها من المشركين يوم بدر، لانهم قتل منهم سبعون، فقتلوا يوم بدر سبعين، وأسروا سبعين، وهذا قول ابن عباس، و الضحاك، وقتادة، والجماعة، إلا أن الزجاج قال: قد أصبتم يوم أحد مثلها ويوم بدر مثلها، فجعل المثلين في اليومين. قوله تعالى: {أَنَّىٰ هَـٰذَا} قال ابن عباس: من أين أصابنا هذا ونحن مسلمون. قوله تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} فيه ثلاثة أقوال. احدها: أن معناه: بأخذكم الفداء يوم بدر، قاله عمر بن الخطاب. وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: جاء جبريل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: إن اللّه قد كره ما صنع قومك من أخذهم الفداء، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يضربوا أعناق الأسارى، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم، فذكر ذلك للناس فقالوا: عشائرنا وإخواننا، بل نأخذ منهم الفداء، ويستشهد منا عدتهم، فقتل منهم يوم أحد سبعون عدد أسارى بدر فعلى هذا يكون المعنى: قل هو بأخذكم الفداء واختياركم القتل لأنفسكم. والثاني: أنه جرى ذلك بمعصية الرماة يوم أحد، وتركهم أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاله ابن عباس، و مقاتل في آخرين. والثالث: أنه بمخالفتهم الرسول في الخروج من المدينة يوم أحد، فانه أمرهم بالتحصن فيها، فقالوا: بل نخرج قاله قتادة، والربيع. قال مقاتل: إن اللّه على كل شيء من النصر والهزيمة قدير. ١٦٦ قوله تعالى: {وَمَا أَصَـٰبَكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ} الجمعان: النبي وأصحابه، و أبو سفيان وأصحابه، وذلك في يوم أحد، وقد سبق ذكر ما أصابهم. قوله تعالى: {فَبِإِذْنِ ٱللّه} فيه ثلاثة أقوال. احدها: {أَمَرَهُ}. والثاني: قضاؤه رويا عن ابن عباس. والثالث: علمه قاله الزجاج. ١٦٧ قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} أي: ليظهر إيمان المؤمنين بثبوتهم على ما نالهم، ويظهر نفاق المنافقين بفشلهم، وقلة صبرهم قال ابن قتيبة، والنفاق مأخوذ من نافقاء اليربوع، وهو جحر من جحرته يخرج منه إذا أخذ عليه الجحر الذي دخل فيه. قال الزيادي عن الأصمعي: ولليربوع أربعة أجحرة، النافقاء: وهو الذي يخرج منه كثيرا، ويدخل منه كثيرا. والقاصعاء، سمي بذلك لأنه يخرج تراب الجحر، ثم يقصع ببعضه كأنه يسد به فم الجحر، ومنه يقال: جرح فلان قد قصع بالدم: إذا امتلأ ولم يسل، والداماء سمي بذلك، لأنه يخرج التراب من فم الجحر، ثم يدم به فم الجحر، كأنه يطليه به ومنه يقال ادمم قدرك بشحم، أي اطلها به. والراهطاء ولم يذكر اشتقاقه، و إنما يتخذ هذه الجحر عددا فاذا أخذ عليه بعضها خرج من بعض. قال أبو زيد: فشبه المنافق به لأنه يدخل في الإسلام، بلفظه ويخرج منه بعقدة، كما يدخل اليربوع من باب، ويخرج من باب. قال ابن قتيبة: والنفاق لفظ إسلامي، لم تكن العرب تعرفه قبل الإسلام قال ابن عباس: والمراد بالذين نافقوا عبد اللّه بن أبي وأصحابه، قال موسى بن عقبة: خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم، يوم أحد ومعه المسلمون، وهم ألف رجل والمشركون ثلاثة آلاف، فرجع عنه ابن أبي في ثلاثمئة فأما القتال، فمباشرة الحرب، وفي المراد بالدفع ثلاثة أقوال. احدها: أنه التكثير بالعدد، رواه مجاهد عن ابن عباس، وهو قول الحسن، وعكرمة، و الضحاك، والسدي، وابن جريج في آخرين. والثاني: أن معناه: ادفعوا عن أنفسكم، وحريمكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس وهو قول مقاتل. والثالث: أنه بمعنى، القتال أيضا قاله ابن زيد. قوله تعالى: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً} فيه ثلاثة أقوال. احدها: أن معناه لو نعلم أن اليوم يجري قتال ما أسلمناكم، ذكره ابن اسحاق. والثاني: لو كنا نحسن القتال لاتبعناكم. والثالث: إنما معناه أن هناك قتلا، وليس بقتال، ذكرهما الماوردي. قوله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ} أي: إلى الكفر {أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَـٰنِ} أي: إلى الايمان و إنما قال: يومئذ لأنهم فيما قبل لم يظهروا مثل ما أظهروا، فكانوا بظاهر حالهم فيما قبل أقرب إلى الايمان. قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوٰهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ} فيه وجهان. ذكرهما المارودي. احدهما: ينطقون بالإيمان، وليس في قلوبهم إلا الكفر. والثاني: يقولون نحن أنصار، وهم أعداء، وذكر في الذي يكتمون وجهين. احدهما: أنه النفاق والثاني العداوة. ١٦٨ قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوٰنِهِمْ} قال ابن عباس: نزلت في عبد اللّه بن أبي وفي إخوانهم قولان. احدهما: أنهم إخوانهم في النفاق، قاله ابن عباس. والثاني: إخوانهم في النسب، قاله مقاتل. فعلى الأول يكون المعنى: قالوا لإخوانهم المنافقين: لو أطاعنا الذين قتلوا مع محمد ما قتلوا، وعلى الثاني يكون المعنى: قالوا عن إخوانهم الذين استشهدوا بأحد: لو أطاعونا ما قتلوا. قوله تعالى: {وَقَعَدُواْ} يعني القائلين قعدوا عن الجهاد. قوله تعالى: {فادرؤوا} أي فادفعوا {فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ} أن الحذر لا ينفع مع القدر. ١٦٩ قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللّه أَمْوٰتاً} قرأ ابن عامر: قتلوا بالتشديد واختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال. احدها: أنها نزلت في شهداء أحد، روى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، وحسن مقيلهم، قالوا: ليت إخواننا يعلمون بما صنع اللّه لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد؛ ولا ينكلوا عن الحرب قال اللّه تعالى: أنا أبلغهم عنكم؛ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية. وهذا قول سعيد بن جبير، وابي الضحى. والثاني: أنها نزلت في شهداء بدر لما أفضوا إلى كرامة اللّه تعالى وقالوا: ربنا أعلم إخواننا فنزلت هذه الآية والتي بعدها، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو قول مقاتل. والثالث: أنها نزلت في شهداء بئر معونة. روى محمد بن إسحاق عن أشياخ له، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث المنذر بن عمرو في سبعين رجلا من خيار المسلمين إلى أهل نجد، فلما نزلوا بئر معونة، خرج حرام بن ملحان إلى عامر بن الطفيل بكتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلم ينظر فيه عامر، وخرج رجل من كسر البيت برمح، فضرب به في جنب حرام حتى خرج من الشق الآخر، فقال: اللّه أكبر، فزت ورب الكعبة، وقتل سائر أصحابه غير واحد منهم، قال أنس بن مالك: فأنزل اللّه تعالى فيهم: «بلغوا قومنا عنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه» ثم رفعت فنزلت هذه الآية: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ٱللّه أَمْوٰتاً}. فهذا اختلاف الناس فيمن نزلت واختلفوا في سبب نزولها على ثلاثة أقوال. احدها: أن الشهداء بعد استشهادهم سألوا اللّه أن يخبر إخوانهم بمصيرهم، وقد ذكرناه عن ابن عباس. والثاني: أن رجلا قال: يا ليتنا نعلم ما لقي إخواننا الذين استشهدوا، فنزلت قاله مقاتل. والثالث: أن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة، أو سرور تحسروا، وقالوا نحن في النعمة والسرور، وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا. في القبور، فنزلت هذه الآية.ذكره علي بن احمد النيسابوري. فأما التفسير، فمعنى الآية: لا تحسبنهم أمواتا كالأموات الذين لم يقتلوا في سبيل اللّه، وقد بينا هذا المعنى في {البقرة} وذكرنا أن معنى حياتهم: أن ارواحهم في حواصل طير تأكل من ثمار الجنة، وتشرب من أنهارها. قال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة. ١٧٠ قوله تعالى: {فَرِحِينَ} قال ابن قتيبة: الفرح: المسرة، فأما الذي آتاهم اللّه، فما نالوا من كرامة اللّه ورزقه والاستبشار: السرور بالبشارة {بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ} إخوانهم من المسلمين، وفي سبب استبشارهم بهم ثلاثة أقوال. احدها: أن اللّه تعالى ما أخبر بكرامة الشهداء، أخبر الشهداء بأني قد أنزلت على نبيكم، واخبرته بأمركم، فاستبشروا، وعلموا أن إخوانهم سيحرصون على الشهادة، قاله سعيد بن جبير. والثاني: يستبشرون باخوانهم الذين يرجون لهم الشهادة، يقولون: إن قتلوا نالوا ما نلنا من الفضل قاله قتادة. والثالث: أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من تقدم عليه من إخوانه و وأهله، وفيه يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا فيستبشر بقدومه، كما يستبشر أهل الغائب به، هذا قول السدي و «الهاء» والميم في قوله تعالى: {أَن لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} تعود إلى الذين لم يلحقوا بهم. قال الفراء معناه يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم، ولا حزن. وفي ماذا يرتفع الخوف والحزن عنهم فيه قولان. احدهما: لا خوف عليهم فيمن خلفوه من ذريتهم، ولا يحزنون على ما خلفوا من اموالهم. والثاني: لا خوف عليهم فيما يقدمون عليه، ولا يحزنون على مفارقة الدنيا فرحا بالآخرة. ١٧١ قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ ٱللّه وَفَضْلٍ فَضَّلَ} قال مقاتل: برحمة ورزق. قوله تعالى: {وَأَنَّ ٱللّه} قرأ الجمهور بالفتح على معنى: ويستبشرون بأن اللّه، وقرأ الكسائي بالكسر على الاستئناف. ١٧٢ قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للّه وَٱلرَّسُولِ} في سبب نزولها قولان. احدهما: أن المشركين لما انصرفوا يوم أحد ندب النبي صلى اللّه عليه وسلم، أصحابه لاتباعهم ثم خرج بمن انتدب معه، فلقي أبو سفيان قوما فقال: إن لقيتم محمدا فأخبروه اني في جمع كثير، فلقيهم النبي صلى اللّه عليه وسلم، فسألهم عنه فقالوا: لقيناه في جمع كثير، ونراك في قلة، فأبى إلا أن يطلبه، فسبقه أبو سفيان فدخل مكة فنزلت هذه الآية. هذا قول ابن عباس والجمهور. والثاني: أن أبا سفيان لما أراد الانصراف عن أحد، قال: يا محمد موعد بيننا وبينك موسم بدر، فلما كان العام المقبل، خرج أبو سفيان، ثم ألقى اللّه في قلبه الرعب، فبدا له الرجوع، فلفي نعيم بن مسعود فقال: إني قد واعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى. وهذا عام جدب لا يصلح لنا، فثبطهم عنا، وأعلمهم أنا في جمع كثير فلقيهم، فخوفهم فقالوا: حسبنا اللّه ونعم الوكيل، وخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم، بأصحابه حتى أقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان فنزل قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ للّه وَٱلرَّسُولِ} الآيات وهذه المعنى: مروي عن مجاهد، وعكرمة، والاستجابة، الإجابة وأنشدوا: فلم يستجبه عند ذاك مجيب. أي: فلم يجبه. وفي المراد النبي صلى اللّه عليه وسلم، وخروجه، وندب الناس للخروج ثلاثة أقوال. احدها: ليرهب العدو باتباعهم. والثاني: لموعد أبي سفيان. والثالث: لأنه بلغه عن القوم أنهم قالوا: أصبتم شوكتهم ثم تركتموهم، وقد سبق الكلام في القرح. قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ} أي: أحسنوا بطاعة الرسول واتقوا مخالفته. ١٧٣ قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ} في المراد بالناس ثلاثة أقوال. احدها: أنهم ركب لقيهم أبو سفيان، فضمن لهم ضمانا لتخويف النبي صلى اللّه عليه وسلم، وأصحابه، قاله ابن عباس وابن اسحاق. والثاني: أنه نعيم بن مسعود الأشجعي، قاله مجاهد، وعكرمة، و مقاتل في آخرين. والثالث: أنهم المنافقون لما رأوا النبي صلى اللّه عليه وسلم، يتجهمز نهوا المسلمين عن الخروج، وقالوا: إن أتيتموهم في ديارهم لم يرجع منكم أحد هذا، قول السدي. قوله تعالى: {إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} يعني: أبا سفيان وأصحابه. قوله تعالى: {فَزَادَهُمْ إِيمَـٰناً} قال الزجاج: زادهم ذلك التخويف ثبوتا في دينهم وإقامة على نصرة نبيهم وقالوا: {حَسْبُنَا ٱللّه} أي: هو الذي يكفينا أمرهم فأما{ٱلْوَكِيلُ} فقال الفراء: الوكيل الكافي، واختاره ابن القاسم، وقال ابن قتيبة، هو الكفيل. قال ووكيل الرجل. في ماله: هو الذي كفله له، وقام به وقال الخطابي: الوكيل الكفيل بأرزاق العباد ومصالحهم، وحقيقته أنه الذي يستقل بالأمر الموكول إليه، وحكى ابن الأنباري أن قوما قالوا: الوكيل الرب. ١٧٤ قوله تعالى: {فَٱنْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ٱللّه} الانقلاب الرجوع، وفي النعمة ثلاثة أقوال. احدها: أنها الأجر، قاله مجاهد. والثاني: العافية قاله السدي. والثالث: الإيمان والنصر، قاله الزجاج، وفي الفضل ثلاثة أقوال. احدها: ربح التجارة، قاله مجاهد، والسدي، وهذا قول من يرى أنهم خرجوا لموعد أبي سفيان. قال الزهري: لما استنفر النبي صلى اللّه عليه وسلم المسلمين لموعد أبي سفيان ببدر. خرجوا ببضائع لهم، وقالوا: إن لقينا أبا سفيان، فهو الذي خرجنا إليه، وإن لم نلقه ابتعنا ببضائعنا، وكانت بدر متجرا يوافى كل عام، فانطلقوا فقضوا حوائجهم، واخلف أبو سفيان الموعد. والثاني: أنهم أصابوا سرية بالصفراء فرزقوا، منها قاله مقاتل. والثالث: أنه الثواب ذكره الماوردي. قوله تعالى: {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء} قال ابن عباس لم يؤذهم أحد {وَٱتَّبَعُواْ رِضْوٰنَ ٱللّه} في طلب القوم {وَٱللّه ذُو فَضْلٍ} أي: ذو من بدفع المشركين عن المؤمنين. ١٧٥ قوله تعالى: {إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ} قال الزجاج: معناه: ذلك التخويف كان فعل الشيطان، سوله للمخوفين. وفي قوله تعالى {يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ} قولان. احدهما: أن معناه يخوفكم بأوليائه قاله الفراء واستدل بقوله تعالى {لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} الكهف: ٤ أي ببأس وبقوله تعالى {لِيُنذِرَ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ} [غافر: ١٥] أي: بيوم التلاق وقال الزجاج: معناه: يخوفكم من أوليائه، بدليل: قوله تعالى: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، و إبراهيم، و ابن قتيبة. وأنشد ابن الأنباري في ذلك: وايقنت التفرق يوم قالوا تقسم مال أربد بالسهام أراد: أيقنت بالتفرق. قال: فلما أسقط الباء أعمل الفعل فيما بعدها ونصبه. قال: والذي نختاره في الآية: أن المعنى: يخوفكم أولياءه. تقول العرب: قد أعطيت الأموال. يريدون: أعطيت القوم الأموال، فيحذفون القوم، ويقتصرون على ذكر المفعول الثاني. فهذا أشبه من ادعاء «باء» ما عليها دليل، ولا تدعوا اليها ضرورة. والثاني: أن معناه يخوف أولياءه المنافقين المنافقين، ليقعدوا عن قتال المشركين، قاله الحسن والسدي وذكره الزجاج. قوله تعالى {فَلاَ تَخَافُوهُمْ} يعني: اولياء الشيطان {وَخَافُونِ} في ترك أمري، وفي «إن» قولان. احدهما: أنها بمعنى «إذ» قاله ابن عباس، و مقاتل. والثاني: أنها للشرط، وهو قول الزجاج في آخرين. ١٧٦ قوله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَـٰرِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ} قرأ نافع «يحزنك» «ليحزنني» «وليحزن» بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن، إلا في الأنبياء {لاَ يَحْزُنُهُمُ ٱلْفَزَعُ} الأنبياء: ١٠٣ فانه فتح الياء، وضم الزاي، وقرأ الباقون كل ما في القرآن بفتح الياء، وضم الزاي قال أبو علي: يشبه أن يكون نافع تبع في سورة {ٱلاْنْبِيَاء} أثرا، أو أحب أن يأخذ بالوجهين. وفي الذين يسارعون في الكفر أربعة أقوال. احدها: أنهم المنافقون ورؤساء اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: المنافقون، قاله مجاهد. والثالث: كفار قريش قاله الضحاك. والرابع: قوم ارتدوا عن الإسلام ذكره الماوردي. وقيل معنى: مسارعتهم في الكفر مظاهرتهم للكفار، ونصرهم إياهم فان قيل كيف لا يحزنه المسارعة في الكفر، فالجواب لا يحزنك فعلهم فانك منصور عليهم. قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ ٱللّه شَيْئاً} فيه قولان. احدهما: لن ينقصوا اللّه شيئا بكفرهم، قاله ابن عباس، و مقاتل. والثاني: لن يضروا أولياء اللّه شيئا، قاله عطاء، قال ابن عباس: والحظ النصيب والآخرة الجنة {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} في النار. ١٧٧ قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ بِٱلإيمَـٰنِ} قال مجاهد: المنافقون آمنوا ثم كفروا، وقد سبق في البقرة معنى الاشتراء.. ١٧٨ قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ} اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال. احدها: في اليهود والنصارى، والمنافقين، قاله ابن عباس. والثاني: في قريظة والنضير، قاله عطاء. والثالث: في مشركي مكة قاله مقاتل. والرابع: في كل كافر، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقرأ ابن كثير و ابو عمرو ونافع {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} [آل عمران: ١٧٨] {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ} آل عمران: ١٨٠ {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ * يَفْرَحُونَ} [آل عمران: ١٨٨] بالياء وكسر السين، ووافقهم ابن عامر غير أنه فتح السين، وقرأهن حمزة بالتاء وقرأ عاصم، والكسائي، كل ما في هذه السورة بالتاء غير حرفين {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ} فانهما بالياء إلا أن عاصما فتح السين، وكسرها الكسائي ولم يختلفوا في {وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ} أنها بالتاء و{نُمْلِى لَهُمْ} أي: نطيل لهم في العمر ومثله {وَٱهْجُرْنِى مَلِيّاً} قال ابن الأنباري: واشتقاق «نملي لهم» من الملوة وهي المدة من الزمان يقال: ملوة من الدهر، وملوة، وملوة، وملاوة، وملاوة، وملاوة، بمعنى واحد، ومنه قولهم: البس جديدا وتمل حبيبا، أي: لتطل أيامك معه. قال متمم بن نويرة: بودي لو أني تمليت عمره بمالي من مال طريف وتالد ١٧٩ قوله تعالى: {مَّا كَانَ ٱللّه لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} في سبب نزولها خمسة أقوال. احدها: أن قريشا قالت: تزعم يا محمد أن من اتبعك فهو في الجنة، ومن خالفك فهو في النار، فأخبرنا بمن يؤمن بك، ومن لا يؤمن. فنزلت هذه الآية. هذا قول ابن عباس. والثاني: أن المؤمنين سألوا أن يعطوا علامة، يفرقون بها بين المؤمن والمنافق. فنزلت هذه الآية، هذا قول أبيالعالية. والثالث: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، قال: عرضت علي أمتي، وأعلمت من يؤمن بي، ومن يكفر، فبلغ ذلك المنافقين، فاستهزؤوا، وقالوا فنحن معه ولا يعرفنا، فنزلت هذه الآية، هذا قول السدي. والرابع: أن اليهود قالت: يا محمد قد كنتم راضين بديننا، فكيف بكم لو مات بعضكم قبل نزول كتابكم؟ فنزلت هذه الآية. هذا قول عمر مولى غفرة. والخامس: أن قوما من المنافقين، ادعوا أنهم في إيمانهم مثل المؤمنين، فأظهر اللّه نفاقهم يوم أحد وأنزل هذه الآية. هذا قول أبي سليمان الدمشقي. وفي المخاطب بهذه الآية قولان. احدهما: أنهم الكفار والمنافقون، وهو قول ابن عباس و الضحاك. والثاني: أنهم المؤمنون، فيكون المعنى: ما كان اللّه ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق قال: الثعلبي وهذا قول أكثر أهل المعاني. قوله تعالى: {حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ} قرأ ابن كثير، ونافع، و ابو عمرو، وابن عامر {حَتَّىٰ يَمِيزَ} و{لِيَمِيزَ ٱللّه ٱلْخَبِيثَ} بفتح الياء والتخفيف وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب يميز بالتشديد وكذلك في [الأنفال: ٣٧]، {لِيَمِيزَ ٱللّه ٱلْخَبِيثَ}. قال أبو علي: مزت وميزت لغتان، قال ابن قتيبة: ومعنى: يميز يخلص فأما الطيب فهو المؤمن. وفي الخبيث قولان. احدهما: أنه المنافق، قاله مجاهد، وابن جريج. والثاني: الكافر، قاله قتادة، والسدي، وفي الذي وقع به التمييز بينهم ثلاثة أقوال. احدها: أنه الهجرة والقتال، قاله قتادة، وهو قول من قال الخبيث الكافر. والثاني: أنه الجهاد، وهو قول من قال: هو المنافق قال: مجاهد فيميز اللّه يوم أحد بين المؤمنين والمنافقين، حيث أظهروا النفاق وتخلفوا. والثالث: أنه جميع الفرائض، والتكاليف فإن المؤمن مستور الحال بالإقرار، فاذا جاءت التكاليف بان أمره هذا قول الكسائي ابن كيسان. وفي المخاطب بقوله: {وَمَا كَانَ ٱللّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ} قولان. احدهما: أنهم كفار قريش، فمعناه: ما كان اللّه ليبين لكم المؤمن من الكافر، لأنهم طلبوا ذلك فقالوا أخبرنا بمن يؤمن، ومن لا يؤمن هذا قول ابن عباس. والثاني: أنه النبي صلى اللّه عليه وسلم فمعناه وما كان اللّه ليطلع محمدا على الغيب قاله السدي و{يَجْتَبِى} بمعنى: يختار قاله الزجاج، وغيره فمعنى الكلام على القول الأول: أن اللّه لا يطلع على الغيب أحدا إلا الأنبياء، الذين اجتباهم، وعلى القول الثاني أن اللّه لا يطلع على الغيب أحدا، إلا أنه يجتبي من يشاء فيطلعه على ما يشاء. ١٨٠ قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـٰهُمُ ٱللّه} اختلفوا فيمن نزلت على قولين. احدهما: أنها نزلت في الذين يبخلون أن يؤدوا زكاة أموالهم، وهو قول ابن مسعود و أبي هريرة، و ابن عباس في رواية أبي صالح، والشعبي، و مجاهد، وفي رواية السدي في آخرين. والثاني: أنها في الأحبار الذين كتموا صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم، ونبوته، رواه عطية عن ابن عباس، وابن جريج، عن مجاهد، واختاره الزجاج. قال الفراء: ومعنى الكلام: لا يحسبن الباخلون البخل هو خيرا لهم، فاكتفى بذكر «يبخلون» من البخل كما تقول قدم فلان فسررت به، أي: سررت بقدومه. قال الشاعر: إذا نهي السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف يريد: جرى إلى السفه. والذي آتاهم اللّه على قول من قال: البخل بالزكاة: هو المال وعلى قول من قال: البخل بذكر صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم هو العلم. قوله تعالى {هُوَ} إشارة إلى البخل وليس مذكورا، ولكنه مدلول عليه ب «يبخلون» وفي معنى تطويقهم به أربعة أقوال. احدها: أنه يجعل كالحية يطوق بها الإنسان، روى ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شجاع أقرع يفر منه، وهو يتبعه حتى يطوق في عنقه» ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ} وهذا مذهب ابن مسعود، ومقاتل. والثاني: أنه يجعل طوقا من نار رواه منصور عن مجاهد، و إبراهيم. والثالث: أن معنى تطويقهم به تكليفهم أن يأتوا به، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والرابع: أن معناه يلزم أعناقهم إثمه، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى {وَللّه مِيرَاثُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ} قال ابن عباس: يموت أهل السموات، وأهل الأرض ويبقى رب العالمين قال الزجاج: خوطب القوم بما يعقلون لأنهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثا إذا كان ملكا له، وقال ابن الأنباري: معنى: الميراث انفراد الرجل بما كان لا ينفرد به فلما مات الخلق، وانفرد عز وجل صار ذلك له وراثة. قوله تعالى: {وَٱللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} قرأ ابن كثير و ابو عمرو يعملون بالياء إتباعا لقوله تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ} وقرأ الباقون بالتاء لأن قبله{وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ}. ١٨١ قوله تعالى: {لَّقَدْ سَمِعَ ٱللّه قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللّه فَقِيرٌ} في سبب نزولها قولان. احدهما: أن أبا بكر الصديق رضي اللّه عنه دخل بيت مدراس اليهود، فوجدهم قد اجتمعوا على رجل منهم، اسمه فنحاص، فقال أبو بكر: اتق اللّه وأسلم، فواللّه إنك لتعلم أن محمدا رسول اللّه. فقال: واللّه يا أبا بكر ما بنا إلى اللّه من فقر، وإنه إلينا لفقير، ولو كان غنيا عنا ما. استقرض منا فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: واللّه لولا العهد الذي بيننا لضربت عنقك. فذهب فنحاص يشكو إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، وأخبره أبو بكر بما قال فجحد فنحاص، فنزلت هذه الآية، ونزل فيما بلغ من أبي بكر من الغضب {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً} آل عمران: ١٨٦. هذا قول ابن عباس و إلى نحوه ذهب مجاهد، وعكرمة، والسدي، و مقاتل. والثاني: أنه لما نزل قوله {مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللّه قَرْضًا} البقرة ٢٤٥ قالت: اليهود إنما يستقرض الفقير من الغني، فنزلت هذه الآية، هذا قول الحسن، وقتادة. وفي الذين قالوا: إن اللّه فقير أربعة أقوال. احدها: أنه فنحاص بن عازوراء اليهودي قاله ابن عباس، و مقاتل. والثاني: حيي بن أخطب قاله الحسن، و قتادة.والثالث: أن جماعة من اليهود، قالوه قال: مجاهد: صك أبو بكر رجلا من الذين قالوا: {إِنَّ ٱللّه فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} لم يستقرضنا وهو غني؟ٰ والرابع: أنه النباش بن عمرو اليهودي، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} قرأ حمزة وحده سيكتب بياء مضمومة، وقتلهم بالرفع و يقول بالياء وقرأ الباقون {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} بالنون، وقتلهم بالنصب، ونقول بالنون، وقرأ ابن مسعود، ويقال وقرأ الأعمش وطلحة و يقول. وفي معنى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ} قولان. احدهما: سنحفظ عليهم ما قالوا، قاله ابن عباس. والثاني: سنأمر الحفظة بكتابته، قاله مقاتل. قوله تعالى: {وَقَتْلِهِمُ ٱلاْنْبِيَاء} أي ونكتب ذلك فان قيل هذا القائل لم يقتل نبيا قط فالجواب: أنه رضي بفعل متقدميه لذلك كما بينا في قوله تعالى {وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ} قال الزجاج: ومعنى: {عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ} عذاب محرق، أي: عذاب بالنار لأن العذاب قد يكون بغير النار. ١٨٢ قوله تعالى: {ذٰلِكَ} إشارة إلى العذاب، والذي قدمت أيديهم: الكفر والخطايا. ١٨٣ قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللّه عَهِدَ إِلَيْنَا} قال ابن عباس: نزلت في كعب ابن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحيي بن أخطب، وجماعة من اليهود، أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: إن اللّه عهد إلينا أي أمرنا في التوراة أن لا نؤمن لرسول أي لا نصدق رسولا يزعم أنه رسول، حتى يأتينا بقربان تأكله النار. قال ابن قتيبة: والقربان: ما تقرب به إلى اللّه تعالى من ذبح، وغيره و إنما طلبواالقربان لأنه كان من سنن الأنبياء المتقدمين، وكان نزول النار علامة القبول قال ابن عباس: كان الرجل يتصدق، فاذا قبلت منه، نزلت نار من السماء، فأكلته، وكانت نارا لها دوي وحفيف. وقال عطاء: كان بنو اسرائيل يذبحون للّه فيأخذون اطايب اللحم، فيضعونها في وسط البيت تحت السماء، فيقوم النبي في البيت، ويناجي ربه، فتنزل نار فتأخذ ذلك القربان، فيخر النبي ساجدا فيوحي اللّه إليه ما يشاء قال ابن عباس: قل يا محمد لليهود {قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِٱلْبَيّنَـٰتِ} أي بالآيات {وَبِٱلَّذِى} سألتم من القربان. ١٨٤ قوله تعالى: {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} معناه: لست بأول رسول كذب قال أبو علي، وقرأ ابن عامر وحده بالبينات، والزبر بزيادة باء، وكذلك في مصاحف أهل الشام ووجهه أن إعادة الباء ضرب من التأكيد، ووجه قراءة الجمهور أن الواو قد أغنت عن تكرير العامل تقول: مررت بزيد وعمرو فتستغني عن تكرير الباء، وقال الزجاج، والزبر جمع زبور، والزبور كل كتاب ذي حكمة. قوله تعالى: {وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُنِيرِ} قال: أبو سليمان يعني به الكتب النيرة بالبراهين والحجج. ١٨٥ قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ٱلْمَوْتِ} قال ابن عباس: لما نزل قوله {قُلْ يَتَوَفَّـٰكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِى وُكّلَ بِكُمْ} [السجدة:١١]. قالوا: يا رسول اللّه إنما نزل في بني آدم فأين ذكر الموت في الجن، والطير، والأنعام فنزلت هذه الآية. وفي ذكر الموت تهديد للمكذبين بالمصير، وتزهيد في الدنيا، وتنبيه على اغتنام الأجل. وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ} بشارة للمحسنين، وتهديد للمسيئين. قوله تعالى: {فَمَن زُحْزِحَ} قال ابن قتيبة نجي وأبعد {فَقَدْ فَازَ} قال الزجاج: تأويل فاز تباعد عن المكروه، ولقي ما يحب يقال لمن نجا من هلكة، ولمن لقي ما يغتبط به قد فاز. قوله تعالى: {وَما ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـٰعُ ٱلْغُرُورِ} يريد: أن العيش فيها يغر الإنسان بما يمنيه من طول البقاء، وسينقطع عن قريب قال: سعيد بن جبير هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، فأما من يشتغل بطلب الآخرة، فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها. ١٨٦ قوله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} في سبب نزولها خمسة أقوال. احدها: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، مر بمجلس فيه عبد اللّه بن أبي، وعبد اللّه بن رواحة، فغشي المجلس عجاجة الدابة فخمر ابن أبي أنفه بردائه، وقال: لا تغبروا علينا فنزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم دعاهم إلى اللّه، وقرأ عليهم القرآن، فقال ابن أبي: إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا، فلا تؤذنا في مجالسنا، وقال ابن رواحة: اغشنا به في مجالسنا يا رسول اللّه فانا نحب ذلك، فاستب المسلمون والمشركون، واليهود. فنزلت هذه الآية رواه عروة عن أسامة بن زيد. والثاني: أن المشركين، واليهود كانوا يؤذون النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه أشد الأذى، فنزلت هذه الآية. قاله كعب بن مالك الأنصاري. والثالث: أنها نزلت فيما جرى بين أبي بكر الصديق، وبين فنحاص اليهودي، وقد سبق ذكره عن ابن عباس. والرابع: أنها نزلت في النبي صلى اللّه عليه وسلم و أبي بكر الصديق، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره مقاتل، وقال عكرمة: نزلت في النبي صلى اللّه عليه وسلم وأبي بكر الصديق، وفنحاص اليهودي. والخامس: أنها نزلت في كعب بن الأشرف، كان يحرض المشركين على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه في شعره، وهذا مذهب الزهري.قال الزجاج: ومعنى لتبلون لتختبرن أي توقع عليكم المحن فيعلم المؤمن حقا من غيره، و النون دخلت مؤكدة مع لام القسم، وضمت الواو لسكونها، وسكون النون وفي البلوى في الأموال قولان. احدهما: ذهابها ونقصانها. والثاني: ما فرض فيها من الحقوق. وفي البلوى في الأنفس أربعة أقوال. احدها: المصائب والقتل، والثاني: ما فرض من العبادات. والثالث: الأمراض والرابع المصيببة بالأقارب والعشائر. وقال عطاء: هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم، وباعوا رباعهم، وعذبوهم. قوله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ} قال ابن عباس هم اليهود، والنصارى والذين أشركوا مشركو العرب {وَأَن تَصْبِرُواْ} على الأذى {وَتَتَّقُواْ} اللّه بمجانبة معاصيه. قوله تعالى: {فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلاْمُورِ} أي: ما يعزم عليه لظهور رشدة. فصل والجمهور على إحكام هذه الآية، وقد ذهب قوم إلى أن الصبر المذكور منسوخ بآية السيف. ١٨٧ قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ ٱللّه مِيثَـٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ} فيهم ثلاثة أقوال. احدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن جبير، والسدي، و مقاتل، فعلى هذا الكتاب التوراة. والثاني: أنهم اليهود والنصارى، والكتاب التوراة والانجيل. والثالث: أنهم جميع العلماء فيكون الكتاب اسم جنس. قوله تعالى: {لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ}. قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وابو بكر، والمفضل عن عاصم، وزيد عن يعقوب {ليبيننه للناس ولا يكتمونه} بالياء فيهما، وقرأ الباقون، وحفص عن عاصم بالتاء، فيهما وفي هاء الكناية في لتبيننه، وتكتمونه قولان. احدهما: أنها ترجع إلى النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم، وهذا قول من قال: هم اليهود. والثاني: أنها ترجع إلى الكتاب، قاله الحسن، وقتادة، وهو أصح، لأن الكتاب أقرب المذكروين، و لأن من ضرورة تبيينهم ما فيه إظهار صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم، وهذا قول من ذهب إلى أنه عام في كل كتاب. وقال علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه: ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا. قوله تعالى: {لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ} قال الزجاج أي رموا به، يقال للذي يطرح الشيء ولا يعبأ به: قد جعلت هذا الأمر بظهر قال الفرزدق: تميم بن قيس لا تكونن حاجتي بظهر ولا يعيا على جوابهامعناه: لا تكونن حاجتي مهملة عندك مطرحة، وفي هاء «فنبذوه» قولان. احدهما: أنها تعود إلى الميثاق. والثاني إلى الكتاب. قوله تعالى: {وَٱشْتَرَوْاْ بِهِ} يعني: استبدلوا بما أخذ اللّه عليهم القيام به، ووعدهم عليه الجنة {ثَمَناً قَلِيلاً} أي: عرضا يسيرا من الدنيا. ١٨٨ قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ * يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ} وقرأ أهل الكوفة لا تحسبن بالتاء، وفي سبب نزولها ثمانية أقوال. احدها: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سأل اليهود عن شيء، فكتموه، وأخبروه بغيره وأروه أنهم قد أخبروه به، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه، فنزلت هذه الآية. والثاني: أنها نزلت في قوم من اليهودفرحوا بما يصيبون من الدنيا، وأحبوا أن يقول الناس إنهم علماء، وهذا القول والذي قبله عن ابن عباس. والثالث: أن اليهود قالوا نحن على دين إبراهيم، وكتموا ذكر محمد صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية قاله سعيد بن جبير. والرابع: أن يهود المدينة كتبت إلى يهود العراق، واليمن، ومن بلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلها أن محمدا ليس بنبي فاثبتوا على دينكم، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به، ففرحوا بذلك، وقالوا: نحن أهل الصوم والصلاة وأولياء اللّه. فنزلت هذه الآية هذا قول الضحاك، والسدي. والخامس: أن يهود خيبر أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: نحن على رأيكم ونحن لكم ردء، وهم مستمسكون بضلالتهم، فأرادوا أن يحمدهم نبي للّه بما لم يفعلوا. فنزلت هذه الآية قاله قتادة. والسادس: أن ناسا من اليهود جهزوا جيشا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، واتفقوا عليهم. فنزلت هذه الآية. قاله إبراهيم النخعي. والسابع: أن قوما من أهل الكتاب دخلوا على النبي صلى اللّه عليه وسلم، ثم خرجوا من عنده فذكروا للمسلمين أنهم قد أخبروا بأشياء قد عرفوها، فحمدوهم، وأبطنوا خلاف ما أظهروا فنزلت هذه الآية ذكره الزجاج. والثامن: أن رجالا من المنافقين كانوا يتخلفون عن الغزو مع النبي صلى اللّه عليه وسلم، فاذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. فنزلت هذه الآية. قاله أبو سعيد الخدري، وهذا القول يدل على أنها نزلت في المنافقين، وما قبله من الأقوال يدل على انها في اليهود. وفي الذي أتوا ثمانية أقوال. احدها: أنه كتمانهم ما عرفوا من الحق. والثاني:تبديلهم التوراة. والثالث: إيثارهم الفاني من الدنيا على الثواب. والرابع: إضلالهم الناس. والخامس: اجتماعهم على تكذيب النبي. والسادس: نفاقهم باظهار ما في قلوبهم ضده. والسابع: اتفاقهم على محاربة النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهذه أقوال من قال: هم اليهود. والثامن: تخلفهم في الغزوات وهذا قول من قال: هم المنافقون. وفي قوله تعالى: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} ستة أقوال. احدها: أحبوا أن يحمدوا على إجابة النبي صلى اللّه عليه وسلم، عن شيء سألهم عنه، وما أجابوه. والثاني: أحبوا أن يقول الناس هم علماء وليسوا كذلك. والثالث: أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة والصيام، وهذه الاقوال الثلاثة عن ابن عباس. والرابع: أحبوا أن يحمدوا على قولهم نحن على دين إبراهيم، وليسوا عليه. قاله سعيد بن جبير. والخامس: أحبوا أن يحمدوا على قولهم إنا راضون بما جاء به النبي، وليسوا كذلك قاله قتادة، وهذه أقوال من قال: هم اليهود. والسادس: أنهم كانوا يحلفون للمسلمين إذا نصروا إنا قد سررنا بنصركم، وليسوا كذلك قاله أبو سعيد الخدري، وهو قول من قال: هم المنافقون. قوله تعالى: {فَلا} قرأ ابن كثير، و ابو عمرو، فلا يحسبنهم بالياء، وضم الباء، وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، بالتاء وفتح الباء، قال الزجاج: إنما كررت تحسبنهم لطول القصة، والعرب تعيد إذا طالت القصة حسبت، وما أشبهها إعلاما أن الذي يجرى متصل بالأول، وتوكيدا له فتقول: لا تظنن زيدا إذا جاء وكلمك بكذا وكذا فلا تظننه صادقا. قوله تعالى: {تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ} قال ابن زيد، و ابن قتيبة، بمنجاة. ١٨٩ قوله تعالى: {وَللّه مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ} فيه تكذيب القائلين بأنه فقير. وفي قوله تعالى: {وَٱللّه عَلَىٰ كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} تهديد لهم أي: لو شئت لعجلت عذابهم. ١٩٠ قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. احدها: أن قريشا قالوا لليهود: ما الذي جاءكم به موسى، قالوا: عصاه ويده البيضاء وقالوا للنصارى: ما الذي جاءكم به عيسى، قالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيى الموتى، فأتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقالوا: ادع ربك يجعل لنا الصفا ذهبا. فنزلت هذه الآية، رواه ابن جبير، عن ابن عباس. والثاني: أن أهل مكة سألوه أن يأتيهم بآية. فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنه لما نزل قوله تعالى: {وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ} البقرة: ١٦٣. قالت قريش: قد سوى بين آلهتنا إئتنا بآية. فنزلت هذه الآية. قاله أبو الضحى، واسمه مسلم بن صبيح فأما تفسير الآية فقد سبق. ١٩١ قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللّه قِيَـٰماً وَقُعُوداً} في هذا الذكر ثلاثة أقوال. احدها: أنه الذكر في الصلاة يصلي قائما، فإن لم يستطع، فقاعدا فان لم يستطع فعلى جنب، هذا قول علي، وابن مسعود، و ابن عباس، وقتادة. والثاني: أنه الذكر في الصلاة، وغيرها وهو قول طائفة من المفسرين. والثالث: أنه الخوف فالمعنى يخافون اللّه قياما في تصرفهم، وقعودا في دعتهم وعلى جنوبهم في منامهم. قوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ} قال ابن فارس: التفكر تردد القلب في الشيء، قال ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه. قوله تعالى: {رَبَّنَا} قال الزجاج: معناه يقولون ربنا {مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً} أي خلقته دليلا عليك، وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك ومعنى {سُبْحَـٰنَكَ} براءة لك من السوء، وتنزيها لك أن تكون خلقتهما باطلا {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فقد: صدقنا أن لك جنة ونار. ١٩٢ قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} قال الزجاج: المخزى في اللغة المذل المحقور بأمر قد لزمه وبحجة. يقال: أخزيته، أي: ألزمته حجة أذللته معها. وفيمن يتعلق به هذا الخزي قولان: احدهما: أنه يتعلق بمن يدخلها مخلدا، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وقتادة، وابن جريج، و مقاتل. والثاني: أنه يتعلق بكل داخل إليها، وهذا المعنى مروي عن جابر بن عبد اللّه، واختاره ابن جرير الطبري، و أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: {وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} قال ابن عباس: وما للمشركين من مانع يمنعهم عذاب اللّه تعالى. ١٩٣ قوله تعالى: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً} في المنادي قولان. احدهما: أنه النبي صلى اللّه عليه وسلم، قاله ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد ومقاتل. والثاني: أنه القرآن قاله محمد بن كعب القرظي، واختاره ابن جرير الطبري. قوله تعالى: {يُنَادِى لِلإِيمَـٰنِ} فيه قولان. احدها: أن معناه ينادي إلى الإيمان ومثله {ٱلَّذِى هَدَانَا لِهَـٰذَا} الأعراف: ٤٣. {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا} الزلزلة: ٥. يريد هدانا إلى هذا، واوحى إليها. قاله الفراء. والثاني: بأنه مقدم ومؤخر والمعنى سمعنا مناديا للايمان ينادي، قاله أبو عبيدة. قوله تعالى: {وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَـٰتِنَا} قال مقاتل امح عنا خطايانا، وقال غيره غطها عنا وقيل: إنما جمع بين غفران الذنوب، وتكفير السيئات لأن الغفران بمجرد الفضل والتكفير بفعل الخير {وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلاْبْرَارِ} قرأ نافع، وابو عمرو، وابن عامر، وحمزة والكسائي، الأبرار، والأشرار وذات قرار وما كان مثله بين الفتح والكسر، وقرأ ابن كثير وعاصم بالفتح ومعنى: مع الأبرار فيهم قال ابن عباس: وهم الأنبياء والصالحون. ١٩٤ قوله تعالى: {رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا} قال ابن عباس: يعنون الجنة {عَلَىٰ رُسُلِكَ} أي: على ألسنتهم فان قيل ما وجه هذه المسألة واللّه لا يخلف الميعاد؟ فعنه ثلاثة أجوبة. احدها: أنه خرج مخرج المسألة، ومعناه: الخبر، تقديره: فآمنا، فاغفر لنا لتؤتينا ما وعدتنا. والثاني: أنه سؤال له، أن يجعلهم ممن آتاه ما وعده، لا أنهم استحقوا ذلك، إذ لو كانوا قد قطعوا أنهم من الأبرار، لكانت تزكية لأنفسهم. والثالث: أنه سؤال لتعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء، لأنه وعدهم نصرا غير مؤقت فرغبوا في تعجيله، ذكر هذه الأجوبة ابن جرير، وقال: أولى الاقوال بالصواب أن هذه صفة المهاجرين، رغبوا في تعجيل النصر على أعدائهم. فكانهم قالوا: لا صبر لنا على حلمك عن الأعداء فعجل خزيهم وظفرنا بهم. ١٩٥ قوله تعالى: {فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول اللّه لا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء. فنزلت هذه الآية. واستجاب: بمعنى: أجاب والمعنى: أجابهم بأن قال لهم: إني لا أضيع عمل عامل منكم ذكرا كان أم أنثى. وفي معنى قوله تعالى: {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} ثلاثة أقوال. احدها: بعضكم من بعض في الدين والنصرة والموالاة. والثاني: حكم جميعكم في الثواب واحد لأن الذكور من الإناث، والإناث من الذكور. والثالث: كلكم من آدم وحواء. قوله تعالى: {فَٱلَّذِينَ هَـٰجَرُواْ} أي: تركوا الأوطان والأهل والعشائر {وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ} يعني: المؤمنين الذين أخرجوا من مكة بأذى المشركين فهاجروا {وَقَـٰتِلُواْ} المشركين {وَقُتّلُواْ} قرأ ابن كثير، وابن عامر «وقاتلوا وقتلوا» مشددة التاء وقرأ نافع، وابو عمرو، وعاصم «وقاتلوا وقتلوا» خفيفة وقرأ حمزة والكسائي و «قتلوا وقاتلوا» قال أبو علي تقديم قتلوا جائز لأن المعطوف بالواو، يجوز أن يكون أولا في المعنى: مؤخرا في اللفظ. قوله تعالى: {ثَوَاباً مّن عِندِ ٱللّه} قال الزجاج: هو مصدر مؤكد لما قبله لأن معنى {لَهُمْ جَنَّـٰتٍ} لأثيبنهم. ١٩٦ قوله تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ} اختلفوا فيمن نزلت على قولين. احدهما: أنها نزلت في اليهود ثم في ذلك قولان. احدهما: أن اليهود كانوا يضربون في الأرض فيصيبون الأموال. فنزلت هذه الآية قاله ابن عباس. والثاني: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم، أراد أن يستسلف من بعضهم شعيرا فأبى إلا على رهن فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: لو أعطاني لأوفيته إني لأمين في السماء أمين في الأرض. فنزلت ذكره أبو سليمان الدمشقي. والقول الثاني: أنها نزلت في مشركي العرب، كانوا في رخاء فقال: بعض المؤمنين قد أهلكنا الجهد وأعداء اللّه فيما ترون. فنزلت هذه الآية. هذا قول: مقاتل. قال قتادة: والخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم، والمراد غيره. وقال غيره: إنما خاطبه تأديبا وتحذيرا وإن كان لا يغتر وفي معنى {تَقَلُّبِهِمْ} ثلاثة أقوال. احدها: تصرفهم في التجارات، قاله ابن عباس، و الفراء، وابن قتيبة، و الزجاج. والثاني: تقلب ليلهم ونهارهم وما يجري عليهم من النعم، قاله عكرمة، و مقاتل. والثالث: تقلبهم غير مأخوذين بذنوبهم، ذكره بعض المفسرين، قال الزجاج: ذلك الكسب والربح متاع قليل، وقال ابن عباس: منفعة يسيرة في الدنيا والمهاد الفراش. ١٩٧ {متاع قليل...} ١٩٨ قوله تعالى: {لَكِنِ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ} قرأ أبو جعفر: لكن بالتشديد هاهنا، وفي الزمر قال مقاتل: وحدوا. قال ابن عباس: النزل الثواب. قال ابن فارس: النزل: ما يهيأ للنزيل، والنزيل: الضيف. ١٩٩ قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللّه} اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال. احدها أنها نزلت في النجاشي، لأنه لما مات صلى عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال قائل: يصلي على هذا العلج النصراني، وهو في أرضه؟ فنزلت هذه الآية، هذا قول جابر ابن عبد اللّه و ابن عباس، وأنس. وقال الحسن. وقتادة فيه وفي أصحابه. والثاني: أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثالث: في عبد اللّه بن سلام، وأصحابه، قاله ابن جريج، وابن زيد، و مقاتل. والرابع: في أربعين من أهل نجران، وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى، فآمنوا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم، قاله عطاء. قوله تعالى: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ} يعني: القرآن {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} يعني: كتابهم. والخاشع: الذليل. {لاَ يَشْتَرُونَ بِـئَايَـٰتِ ٱللّه ثَمَناً قَلِيلاً} أي: عرضا من الدنيا كما فعل رؤساء اليهود، وقد سلف بيان سرعة الحساب. ٢٠٠ قوله تعالى: {ءامَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ} قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: نزلت في انتظار الصلاة بعد الصلاة وليس يؤمئذ غزو يرابط. وفي الذي أمروا بالصبر عليه خمسة أقوال. احدها: البلاء والجهاد، قاله ابن عباس. الثاني: الدين، قاله الحسن، والقرظي، و الزجاج. والثالث: المصائب، روي عن الحسن أيضا. والرابع: الفرائض، قاله سعيد بن جبير. والخامس: طاعة اللّه، قاله قتادة. وفي الذي امروا بمصابرته قولان. احدهما: العدو، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: الوعد الذي وعدهم اللّه: قاله عطاء، والقرظي. وفيما أمروا بالمرابطة عليه قولان. احدهما: الجهاد للأعداء، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة في آخرين. قال ابن قتيبة: وأصل المرابطة والرباط: أن يربط هؤلاء خيولهم، وهؤلاء خيولهم في الثغر، كل يعد لصاحبه. والثاني: أنه الصلاة أمروا بالمرابطة عليها. قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن: وقد ذكرنا في البقرة معنى لعل ومعنى الفلاح. |
﴿ ٠ ﴾