ÓõæÑóÉõ ÇáäøöÓóÇÁö ãóÏóäöíøóÉñ

æóåöíó ãöÇÆóÉñ æóÓöÊøñ æóÓóÈúÚõæäó ÂíóÉð

سورة النساء

١

{يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ... }

اختلفوا في نزولها على قولين.

احدهما: أنها مكية، رواه عطية عن ابن عباس، وهو قول الحسن، ومجاهد، وجابر بن زيد، وقتادة.

والثاني: أنها مدنية، رواه عطاء عن ابن عباس، وهو قول مقاتل. وقيل: إنها مدنية، إلا آية نزلت بمكة في عثمان بن طلحة حين أراد النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يأخذ منه مفاتيح الكعبة، فيسلمها إلى العباس، وهي قوله: {إِنَّ ٱللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلامَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا} ذكره الماوردي. قوله تعالى:

{ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ}. فيه قولان.

احدهما: أنه بمعنى الطاعة، قاله ابن عباس.

و الثاني: بمعنى الخشية. قاله مقاتل. والنفس الواحدة: آدم، وزوجها حواء و«من» في قوله: {وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا} للتبعيض في قول الجمهور. و قال ابن بحر: منها، أي: من جنسها.

واختلفوا أي وقت خلقت له، على قولين:

احدهما: أنها خلقت بعد دخوله الجنة، قاله ابن مسعود، و ابن عباس.

والثاني: قبل دخوله الجنة، قاله كعب الأحبار، ووهب، وابن إسحاق. قال ابن عباس: لما خلق اللّه آدم، ألقى عليه النوم، فخلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى، فلم تؤذه بشيء و لو وجد الأذى ما عطف عليها أبدا، فلما استيقظ؛ قيل: يا آدم ما هذه؟ قال: حواء. قوله تعالى:

{هُوَ أَهْدَىٰ مِنْهُمَا} قال الفراء: بث: نشر، ومن العرب من يقول: أبث اللّه الخلق، ويقولون: بثثتك ما في نفسي، و أبثثتك. قوله تعالى:

{ٱلَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ} قرأ ابن كثير، و نافع، و ابن عامر، و البرجمي، عن أبي بكر، عن عاصم. واليزيدي، و شجاع، و الجعفي، و عبد الوارث. عن أبي عمرو: «تساءلون» بالتشديد. و قرأ عاصم، و حمزة، و الكسائي، و كثير من أصحاب أبي عمرو عنه بالتخفيف. قال الزجاج: الأصل: تتساءلون، فمن قرأ بالتشديد. أدغم التاء في السين، لقرب مكان هذه من هذه، و من قرأ بالتخفيف، حذف التاء الثانية لاجتماع التاءين.

و في معنى «تساءلون به» ثلاثة أقوال.

احدها: تتعاطفون به، قاله ابن عباس.

و الثاني: تتعاقدون، و تتعاهدون به. قاله الضحاك، والربيع.

والثالث: تطلبون حقوقكم به، قاله الزجاج. فأما قوله «والأرحام» فالجمهور على نصب الميم على معنى: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، و فسرها على هذا ابن عباس، و مجاهد، وعكرمة، والسدي، و ابن زيد.

وقرأ الحسن، وقتادة، و الأعمش، و حمزة بخفض الميم على معنى: تساءلون به وبالأرحام، و فسرها على هذا الحسن، و عطاء، و النخعي.و قال الزجاج: الخفض في «الأرحام» خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشعر، وخطأ في الدين، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «لا تحلفوا بآبائكم» وذهب إلى نحو هذا الفراء، و قال ابن الأنباري: إنما أراد، حمزة الخبر عن الأمر القديم الذي جرت عادتهم به، فالمعنى: الذي كنتم تساءلون به وبالأرحام في الجاهلية.

قال أبو علي: من جر، عطف على الضمير المجرور بالباء، وهو ضعيف في القياس، قليل في الاستعمال فترك الأخذ به أحسن.

فأما الرقيب: فقال ابن عباس، ومجاهد، الرقيب: الحافظ. وقال الخطابي: هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، وهو في نعوت الآدميين الموكل بحفظ الشيء، المترصد له، المتحرز عن الغفلة فيه، يقال: منه: رقبت الشيء أرقبه رقبة.

٢

قوله تعالى: {وَءاتُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ أَمْوٰلَهُمْ} سبب نزولها: أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ، طلب ماله فمنعه، فخاصمه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت، قاله سعيد بن جبير. و الخطاب بقوله:«وآتوا» للأولياء و الأوصياء. قال الزجاج: و إنما سموا يتامى بعد البلوغ، بالاسم الذي كان لهم، و قد كان يقال للنبي صلى اللّه عليه وسلم: يتيم أبي طالب. قوله:

{وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيّبِ} قرأ ابن محيصن: «تبدلوا» بتاء واحدة.

ثم في معنى الكلام قولان.

احدهما: أنه إبدال حقيقة، ثم فيه قولان.

احدهما: أنه أخذ الجيد، و إعطاء الرديء مكانه، قاله سعيد بن المسيب، والضحاك، والنخعي، والزهري، والسدي. قال السدي: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، و يجعل مكانها المهزولة، ويأخذ الدراهم الجياد، ويطرح مكانها الزيوف.

والثاني: أنه الربح على اليتيم، واليتيم غر لا علم له، قاله عطاء.

والقول الثاني: أنه ليس بإبدال حقيقة، وإنما هو أخذه مستهلكا، ثم فيه قولان.

احدهما: أنهم كانوا لا يورثون النساء والصغار، وإنما يأخذ الميراث الأكابر من الرجال، فنصيب الرجل من الميراث طيب، و ما أخذه من حق اليتيم خبيث، هذا قول ابن زيد.

والثاني: أنه أكل مال اليتيم بدلا من أكل أموالهم، قاله الزجاج. و«إلى» بمعنى «مع» والحوب: الإثم. وقرأ الحسن، وقتادة، و النخعي بفتح الحاء. قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: حوب بالضم، وتميم يقولونه بالفتح. قال ابن الأنباري: وقال الفراء: المضموم الاسم، والمفتوح المصدر. قال ابن قتيبة: وفيه ثلاث لغات: حوب، و حوب، وحاب.

٣

قوله تعالى: {حُوباً كَبِيراً وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ}

اختلفوا في تنزيلها، وتأويلها على ستة أقوال.

احدها: أن القوم كانوا يتزوجون عددا كثيرا من النساء في الجاهلية، ولا يتحرجون من ترك العدل بينهن، وكانوا يتحرجون في شأن اليتامى، فقيل لهم بهذه الآية: احذروا من ترك العدل بين النساء، كما تحذرون من تركه في اليتامى، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير والضحاك، وقتادة، والسدي، ومقاتل.

والثاني: أن أولياء اليتامى كانوا يتزوجون النساء بأموال اليتامى، فلما كثر النساء، مالوا على أموال اليتامى، فقصروا على الأربع حفظا لأموال اليتامى. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس أيضا، و عكرمة.

والثالث: أن معناها: و إن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في صدقات اليتامى إذا نكحتموهن، فانكحوا سواهن من الغرائب اللواتي أحل اللّه لكم، وهذا المعنى مروي عن عائشة.

والرابع: أن معناها: و إن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في نكاحهن، وحذرتم سوء الصحبة لهن، وقلة الرغبة فيهن، فانكحوا غيرهن، وهذا المعنى مروي عن عائشة أيضا، والحسن.

والخامس: أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى، فأمروا بالتحرج من الزنى أيضا، وندبوا إلى النكاح الحلال، وهذا المعنى مروي عن مجاهد.

والسادس: أنهم تحرجوا من نكاح اليتامى، كما تحرجوا من أموالهم، فرخص اللّه لهم بهذه الآية، وقصرهم على عدد يمكن العدل فيه، فكأنه قال: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن، فانكحوهن، ولا تزيدوا على أربع لتعدلوا، فإن خفتم أن لا تعدلوا فيهن، فواحدة، وهذا المعنى مروي عن الحسن. قال ابن قتيبة: ومعنى قوله: وإن خفتم، أي فإن علمتم أنكم لا تعدلون، [بين اليتامى] يقال: أقسط الرجل: إذا عدل ومنه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم )المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة ( و[يقال:] قسط الرجل: إذا جار [ومنه قول اللّه: {وَأَمَّا ٱلْقَـٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً}] وفي معنى العدل في اليتامى قولان.

احدهما: في نكاح اليتامى،

والثاني: في أموالهم. قوله تعالى: {فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ} أي: ما حل لكم. قال ابن جرير: وأراد بقوله: ما طاب لكم، الفعل دون أعيان النساء، ولذلك قال: «ما» ولم يقل: «من»

واختلفوا: هل النكاح من اليتامى، أو من غيرهن؟ على قولين قد سبقا. قوله تعالى:

{مَثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَاعَ}. قال الزجاج: هو بدل من «ما طاب لكم» و معناه: اثنتين اثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، و إنما خاطب اللّه العرب بأفصح اللغات، وليس من شأن البليغ أن يعبر في العدد عن التسعة باثنتين، و ثلاث، وأربع، لأن التسعة قد وضعت لهذا العدد، فيكون عيا في الكلام. وقال ابن الأنباري: هذه الواو معناها التفرق، وليست جامعة، فالمعنى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى، وانكحوا ثلاث في غير الحال الأولى، وانكحوا رباع في غير الحالين.

وقال القاضي أبو يعلى: الواو هاهنا لإباحة أيّ الأعداد شاء، لا للجمع، وهذا العدد إنما هو للأحرار، لا للعبيد، وهو قول أبي حنيفة والشافعي.

وقال مالك: هم كالأحرار. ويدل على قولنا: أنه قال: فانكحوا، فهذا منصرف إلى من يملك النكاح، والعبد لا يملك ذلك بنفسه، وقال في سياقها

{فَوٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ}، والعبد لا ملك له، فلا يباح له الجمع إلا بين اثنتين. قوله تعالى:

{فَإِنْ خِفْتُمْ} فيه قولان.

احدهما: علمتم،

و الثاني: خشيتم. قوله تعالى: {أَن لا تَعْدِلُواْ} قال القاضي أبو يعلى: أراد العدل في القسم بينهن. قوله تعالى:

{فَوٰحِدَةً} أي: فانكحوا واحدة، وقرأ الحسن، والأعمش، و حميد: فواحدة بالرفع، المعنى فواحدة تقنع. قوله تعالى:

{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ} يعني: السراري. قال ابن قتيبة: معنى الآية: فكما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم، فخافوا [أيضا] أن لا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن، فقصرهم على أربع، ليقدروا على العدل، ثم قال: فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هؤلاء الأربع، فانكحوا واحدة، واقتصروا على ملك اليمين. قوله تعالى:

{ذٰلِكَ أَدْنَىٰ} أي: أقرب.

وفي معنى «تعولوا» ثلاثة أقوال.

احدهما: تميلوا، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، و عكرمة، وعطاء، وإبراهيم، وقتادة، والسدي، ومقاتل، والفراء. وقال أبو مالك، وأبو عبيد: تجوروا. قال ابن قتيبة، والزجاج: تجوروا وتميلوا بمعنى واحد.واحتكم رجلان من العرب إلى رجل، فحكم لاحدهما، فقال المحكوم عليه: إنك واللّه تعول علي، أي: تميل وتجور.

و الثاني: تضلوا، قاله مجاهد،

والثالث: تكثر عيالكم، قال ابن زيد، ورواه أبو سليمان الدمشقي في «تفسيره» عن الشافعي، ورده الزجاج، فقال: جميع أهل اللغة يقولون: هذا القول خطأ، لأن الواحدة يعولها، وإباحة ملك اليمين أزيد في العيال من أربع.

٤

قوله تعالى: {وَءاتُواْ ٱلنّسَاء صَدُقَـٰتِهِنَّ نِحْلَةً} اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين.

احدهما: أنهم الأزواج، وهو قول الجمهور، واحتجوا بأن الخطاب للناكحين قد تقدم، وهذا معطوف عليه، وقال مقاتل: كان الرجل يتزوج بلا مهر فيقول: أرثك وترثيني، فتقول المرأة: نعم، فنزلت هذه الآية.

والثاني: أنه متوجه إلى الأولياء ثم فيه قولان.

احدهما: أن الرجل كان إذا زوج أيمة جاز صداقها دونها، فنهوا بهذه الآية، هذا قول أبي صالح، واختاره الفراء، وابن قتيبة.

والثاني: أن الرجل كان يعطي الرجل أخته ويأخذ أخته مكانها من غير مهر، فنهوا عن هذا بهذه الآية، رواه أبو سليمان التيمي عن بعض أشياخه. قال ابن قتيبة: والصدقات: المهور، واحدها: صدقة

وفي قوله «نحلة» أربعة أقوال.

احدها: أنها بمعنى الفريضة، قاله ابن عباس، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد، ومقاتل.

والثاني: أنها الهبة والعطية، قاله الفراء.قال ابن الأنباري: كانت العرب في الجاهلية لا تعطي النساء شيئا من مهورهن، فلما فرض اللّه لهن المهر، كان نحلة من اللّه، أي: هبة للنساء، فرضا على الرجال. وقال الزجاج: هو هبة من اللّه للنساء. قال القاضي أبو يعلى:

وقيل: إنما سمي المهر: نحلة، لأن الزوج لا يملك بدله شيئا، لأن البضع بعد النكاح في ملك المرأة، ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة، كان المهر لها دون الزوج، وإنماالذي يستحقه الزوج الاستباحة، لا الملك.

والثالث: أنها العطية بطيب نفس، فكأنه قال: لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون، قاله أبو عبيدة.

والرابع: أن معنى «النحلة»: الديانة، فتقديره: وآتوهن صدقاتهن ديانة، يقال: فلان ينتحل كذا، أي: يدين به، ذكره الزجاج عن بعض العلماء. قوله تعالى:

{فَإِن طِبْنَ لَكُمْ} يعني: النساء المنكوحات.

وفي «لكم» قولان.

احدهما: أنه يعني الأزواج.

والثاني: الأولياء. و «الهاء» في «منه» كناية عن الصداق، قال الزجاج: و «منه» هاهنا للجنس، كقوله {فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلاْوْثَـٰنِ} معناه: فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن، فكأنه قال: كلوا الشيء الذي هو مهر، فيجوز أن يسأل الرجل المهر كله. و«نفسا»: منصوب على التمييز. فالمعنى: فان طابت أنفسهن لكم بذلك، فكلوه هنيئا مريئا.

وفي الهنيء ثلاثة أقوال.

احدها: أنه ما تؤمن عاقبته.

والثاني: ما أعقب نفعا وشفاء.

والثالث: أنه الذي لا ينغصه شيء. وأما «المريء» فيقال: مرى الطعام: إذا انهضم، وحمدت عاقبته.

٥

قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَاء أَمْوٰلَكُمُ} المراد بالسفهاء خمسة أقوال.

احدها: أنهم النساء، قاله ابن عمر.

والثاني: النساء والصبيان، قاله سعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة، وعن الحسن ومجاهد كالقولين.

والثالث: الأولاد، قاله أبو مالك. وهذه الأقوال الثلاثة مروية عن ابن عباس، وروي عن الحسن، قال: هم الأولاد الصغار.

والرابع: اليتامى، قاله عكرمة، وسعيد بن جبير في رواية.قال الزجاج: ومعنى الآية: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم بدليل قوله {وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا}. وإنما قال: «أموالكم» ذكرا للجنس الذي جعله اللّه أموالا للناس.

وقال غيره: أضافها إلى الولاة، لأنهم قوامها.

والخامس: أن القول على إطلاقه، والمراد به كل سفيه يستحق الحجر عليه، ذكره ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي، وغيرهما، وهو ظاهر الآية.

وفي قوله: {أَمْوٰلَكُمْ} قولان.

احدهما: أنه أموال اليتامى.

والثاني: أموال السفهاء. قوله تعالى:

{ٱلَّتِى جَعَلَ ٱللّه لَكُمْ قِيَـٰماً} قرأ الحسن: «اللاتي جعل اللّه لكم قواما». وقرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وابو عمرو: «قياما» بالياء مع الألف هاهنا، وقرأ نافع، وابن عامر: «قيما» بغير ألف. قال ابن قتيبة: قياما وقواما بمنزلة واحدة، تقول: هذا قوام أمرك وقيامه، أي: ما يقوم به [أمرك]. وذكر أبو علي الفارسي أن «قواما» و«قياما» و«قيما»، بمعنى القوام الذي يقيم الشأن، قال: وليس قول من قال: «القيم» هاهنا: جمع: «قيمة» بشيء. قوله تعالى:

{وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا} أي: منها.

وفي القول « المعروف» ثلاثة أقوال.

احدها: العدة الحسنة، قال ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، ومقاتل.

والثاني: الرد الجميل، قاله الضحاك.

والثالث: الدعاء، كقولك: عافاك اللّه، قاله ابن زيد.

٦

قوله تعالى: {وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ} سبب نزولها أن رجلا، يقال له: رفاعة، مات وترك ولدا صغيرا، يقال له: ثابت، فوليه عمه، فجاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يحل لي من ماله؟ ومتى أدفع إليه ماله؟ فنزلت هذه الآية، ذكر نحوه مقاتل. والابتلاء: الاختبار.

وبماذا يختبرون؟ فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم يختبرون في عقولهم، قاله ابن عباس، والسدي، وسفيان، ومقاتل.

والثاني: يختبرون في عقولهم ودينهم، قاله الحسن، وقتادة. وعن مجاهد كالقولين.

والثالث: في عقولهم ودينهم، وحفظهم أموالهم، ذكره الثعلبي. قال القاضي أبو يعلى: وهذا الابتلاء قبل البلوغ. قوله تعالى:

{حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ} قال ابن قتيبة: أي: بلغوا أن ينكحوا النساء

{فَإِنْ ءانَسْتُمْ} أي: علمتم، وتبينتم. وأصل: أنست: أبصرت. وفي الرشد أربعة أقوال.

احدها: الصلاح في الدين، وحفظ المال، قاله ابن عباس، والحسن.

والثاني: الصلاح في العقل، وحفظ المال، روي عن ابن عباس والسدي.

والثالث: أنه العقل، قاله مجاهد، والنخعي.

والرابع: العقل، والصلاح في الدين، روي عن السدي.

فصل واعلم أن اللّه تعالى علق رفع الحجر عن اليتامى بأمرين؛ بالبلوغ والرشد، وأمر الأولياء باختبارهم، فإذا استبانوا رشدهم، وجب عليهم تسليم أموالهم إليهم. والبلوغ يكون بأحد خمسة أشياء، ثلاثة يشترك، فيها الرجال والنساء؛ الاحتلام، واستكمال خمس عشرة سنة، والإنبات، وشيئان يختصان بالنساء: الحيض والحمل. قوله تعالى:

{وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً} خطاب للأولياء، قال ابن عباس: لا تأكلوها بغير حق: و«بدارا» تبادرون أكل المال قبل بلوغ الصبي {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} بماله عن مال اليتيم.

وفي الأكل بالمعروف أربعة أقوال.

احدها: أنه الأخذ على وجه القرض، وهذا مروي عن عمر، وابن عباس، وابن جبير، وأبي العالية، وعبيدة وأبي وائل، ومجاهد، ومقاتل.

والثاني: الأكل بمقدار الحاجة من غير إسراف، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وعطاء، والنخعي، وقتادة، والسدي.

والثالث: أنه الأخذ بقدر الأجرة إذا عمل لليتيم عملا، روي عن ابن عباس، وعائشة، وهي رواية أبي طالب، وابن منصور، عن احمد رضي اللّه عنه.

والرابع: أنه الأخذ عند الضرورة، فان أيسر قضاه، وإن لم يوسر، فهو في حل، وهذا قول الشعبي.

فصل

واختلف العلماء هل هذه الآية محكمة أو منسوخة؟ على قولين.

احدهما: محكمة، وهو قول عمر، وابن عباس، والحسن، والشعبي، وأبي العالية، ومجاهد، وابن جبير، والنخعي، وقتادة في آخرين. وحكمها عندهم أن الغني ليس له أن يأكل من مال اليتيم شيئا، فأما الفقير الذي لا يجد ما يكفيه، وتشغله رعاية مال اليتيم عن تحصيل الكفاية، فله أن يأخذ قدر كفايته بالمعروف من غير إسراف.

وهل عليه الضمان إذا أيسر؟ فيه قولان لهم.

احدهما: أنه لا ضمان عليه، بل يكون كالأجرة له على عمله، وهو قول الحسن، والشعبي، والنخعي، وقتادة، وأحمد بن حنبل.

والثاني: إذا أيسر وجب عليه القضاء، روي عن عمر وغيره، وعن ابن عباس أيضا كالقولين.

والقول الثاني: أنها منسوخة بقوله {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ} [النساء: ٢٩] وهذا مروي عن ابن عباس، ولا يصح.

قوله تعالى: {فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} قال القاضي أبو يعلى: هذا على طريق الاحتياط لليتيم، والولي، وليس بواجب، فأما اليتيم، فإنه إذا كانت عليه بينة، كان أبعد من أن يدعي عدم القبض، وأما الولي، فإن تظهر أمانته، ويسقط عنه اليمين عند إنكار اليتيم للدفع. وفي «الحسيب» ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الشهيد، قاله ابن عباس، والسدي، ومقاتل.

والثاني: أنه الكافي، من قولك: أحسبني هذا الشيء [أي: كفاني، واللّه حسيبي وحسيبك، أي: كافينا، أي: يكون حكما بيننا كافيا. قال الشاعر:ونقفي وليد الحي إن كان جائعا ونحسبه إن كان ليس بجائع أي: نعطيه ما يكفيه حتى يقول: حسبي] قاله ابن قتيبة والخطابي.

والثالث: أنه المحاسب، فيكون في مذهب جليس، وأكيل، وشريب، حكاه ابن قتيبة والخطابي.

٧

قوله تعالى: {لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ ٱلْوٰلِدٰنِ وَٱلاْقْرَبُونَ} سبب نزولها أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك ثلاث بنات وامرأة، فقام رجلان من بني عمه، يقال لهما: قتادة، وعرفطة فأخذا ماله، ولم يعطيا امرأته، ولا بناته شيئا، فجاءت امرأته إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فذكرت له ذلك، وشكت الفقر، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال قتادة: كانوا لا يورثون النساء، فنزلت هذه الآية. والمراد بالرجال: الذكور، وبالنساء: الإناث، صغارا كانوا أو كبارا. «والنصيب»: الحظ من الشيء، وهو مجمل في هذه الآية، ومقداره معلوم من موضع آخر، وذلك مثل قوله: {وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: ١٤١] وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة ١٠٣] والمفروض: الذي فرضه اللّه، وهو آكد من الواجب.

٨

قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ}. في هذه القسمة قولان.

احدهما: قسمة الميراث بعد موت الموروث، فعلى هذا يكون الخطاب للوارثين، وبهذا قال الأكثرون، منهم ابن عباس، والحسن، والزهري.

والثاني: أنها وصية الميت قبل موته، فيكون مأمورا بأن يعين لمن لا يرثه شيئا، روي عن ابن عباس، وابن زيد.

قال المفسرون: والمراد بأولي القربى: الذين لا يرثون، «فارزقوهم منه» أي: أعطوهم منه، وقيل: أطعموهم، وهذا على الاستحباب عند الأكثرين، وذهب قوم إلى أنه واجب في المال، فان كان الورثة كبارا، تولوا إعطاءهم، وإن كانوا صغارا، تولى ذلك عنهم ولي مالهم، فروي عن عبيدة أنه قسم مال أيتام، فأمر بشاة، فاشتريت من مالهم، وبطعام فصنع، وقال: لولا هذه الآية لأحببت أن يكون من مالي وكذلك فعل محمد ابن سيرين في أيتام وليهم، وكذلك روي عن مجاهد: أن ما تضمنته هذه الآية واجب.

وفي «القول المعروف» أربعة أقوال.

احدها: أن يقول لهم الولي حين يعطيهم: خذ بارك اللّه فيك، رواه سالم الأفطس، عن ابن جبير.

والثاني: أن يقول الولي: إنه مال يتامى، ومالي فيه شيء، رواه أبو بشر عن ابن جبير. وفي رواية أخرى عن ابن جبير قال: إن كان الميت أوصى لهم بشيء أنفذت لهم وصيتهم، وإن كان الورثة كبارا رضخوا لهم، وإن كانوا صغارا، قال وليهم: إني لست أملك هذا المال، إنما هو للصغار، فذلك القول المعروف.

والثالث: أنه العدة الحسنة، وهو أن يقول لهم أولياء الورثة: إن هؤلاء الورثة صغار، فاذا بلغوا، أمرناهم أن يعرفوا حقكم. رواه عطاء بن دينار، عن ابن جبير.

والرابع: أنهم يعطون من المال، ويقال لهم عند قسمة الأرضين والرقيق: بورك فيكم، وهذا القول المعروف. قال الحسن والنخعي: أدركنا الناس يفعلون هذا.

فصل

اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين.

احدهما: أنها محكمة، وهو قول أبي موسى الأشعري، وابن عباس، والحسن، وأبي العالية، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والنخعي، والزهري، وقد ذكرنا أن ما تضمنته من الأمر مستحب عند الأكثرين، وواجب عند بعضهم.

والقول الثاني: أنها منسوخة نسخها قوله: {يُوصِيكُمُ ٱللّه فِى أَوْلَـٰدِكُمْ} رواه مجاهد عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب وعكرمة، والضحاك، وقتادة في آخرين.

٩

قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـٰفاً} اختلفوا في المخاطب بهذه الآية على ثلاثة أقوال.

احدها: أنه خطاب للحاضرين عند الموصي. وفي معنى الآية على هذا القول قولان.

احدهما: وليخش الذين يحضرون موصيا في ماله أن يأمروه بتفريقه فيمن لا يرثه، فيفرقه، ويترك ورثته، كما لو كانوا هم الموصين، لسرهم أن يحثهم من حضرهم على حفظ الأموال للأولاد، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل.

والثاني: على الضد من هذا القول، وهو أنه نهي لحاضري الموصي أي يمنعوه من الوصية لأقاربه، وأن يأمروه بالاقتصار على ولده، وهذا قول مقسم، وسليمان التيمي في آخرين.

والقول الثاني: أنه خطاب لأولياء اليتامى متعلق بقوله

{وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً} فمعنى الكلام: أحسنوا فيمن وليتم من اليتامى، كما تحبون أن يحسن ولاة أولادكم بعدكم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وابن السائب.

والثالث: أنه خطاب للأوصياء أمروا بأداء الوصية على ما رسم الموصي، وأن تكون الوجوه التي عينها مرعية بالمحافظة كرعي الذرية الضعاف من غير تبديل، ثم نسخ ذلك بقوله {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: ١٨٢]. فأمر الوصي بهذه الآية إذا وجد ميلا عن الحق أن يستعمل قضية الشرع، ويصلح بين الورثة، ذكره شيخنا علي بن عبيد اللّه، وغيره، في «الناسخ والمنسوخ» فعلى هذا تكون الآية منسوخة وعلى ما قبله تكون محكمة.و«الضعاف»: جمع ضعيف، وهم الأولاد الصغار.

وقرأ حمزة: ضعافا بامالة العين. قال أبو علي: ووجهها: أن ما كان على «فعال» وكان أوله حرفا مستعليا مكسورا، نحو ضعاف، وقفاف، وخفاف؛ حسنت فيه الإمالة، لأنه قد يصعد بالحرف المستعلي، ثم يحدر بالكسر، فيستحب أن لا يصعد بالتفخيم بعد التصوب بالكسر، فيجعل الصوت على طريقة واحدة، وكذلك قرأ حمزة:

{خَافُواْ عَلَيْهِمْ} بامالة الخاء، والإمالة هاهنا حسنة، وإن كانت «الخاء» حرفا مستعليا، لأنه يطلب الكسرة التي في «خفت» فينحو نحوها بالإمالة. والقول السديد: الصواب.

١٠

قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أن رجلا من غطفان، يقال له: مرثد بن زيد، ولي مال ابن أخيه، فأكله، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل بن حيان.

والثاني: أن حنظلة بن الشمردل ولي يتيما، فأكل ماله، فنزلت هذه الآية، ذكره بعض المفسرين. وإنما خص الأكل بالذكر، لأنه معظم المقصود، وقيل: عبر به عن الأخذ. قال سعيد بن جبير: ومعنى الظلم: أن يأخذه بغير حق. وأما ذكر «البطون» فللتوكيد، كما تقول: نظرت بعيني، وسمعت بأذني،

وفي المراد بأكلهم النار قولان.

احدهما: أنهم سيأكلون يوم القيامة نارا، فسمي الأكل بما يؤول إليه أمرهم، كقوله: {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف ٣٦] قال السدي: يبعث آكل مال اليتيم ظلما، ولهب النار يخرج من فيه، ومن مسامعه، وأذنيه، وأنفه، وعينيه، يعرفه من رآه يأكل مال اليتيم.

والثاني: أنه مثل. معناه: يأكلون ما يصيرون به إلى النار، كقوله: {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ ٱلْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} [آل عمران ١٤٣] أي: رأيتم أسبابه. قوله تعالى:

{وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وحمزة، والكسائي، «وسيصلون» بفتح الياء، وقرأ الحسن، وابن عامر، بضم الياء، ووافقهما ابن مقسم، إلا أنه شدد. والمعنى: سيحرقون بالنار، ويشوون. والسعير: النار المستعرة، واستعار النار: توقدها. فصل وقد توهم قوم لا علم لهم بالتفسير وفقهه، أن هذه الآية منسوخة، لأنهم سمعوا أنها لما نزلت، تحرج القوم عن مخالطة اليتامى، فنزل قوله: {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوٰنُكُمْ} [البقرة ٢٢٠] وهذا غلط، وإنما ارتفع عنهم الحرج بشرط قصد الإصلاح، لا على إباحة. الظلم.

١١

قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ ٱللّه فِى أَوْلَـٰدِكُمْ} في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن جابر بن عبد اللّه مرض، فعاده رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: كيف أصنع في مالي يا رسول اللّه، فنزلت هذه الآية، رواه البخاري ومسلم.

والثاني: أن امرأة جاءت إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بابنتين لها، فقالت: يا رسول قتل أبو هاتين معك يوم أحد، وقد استفاء عمهما مالهما، فنزلت، روي عن جابر بن عبد اللّه أيضا.

والثالث: أن عبد الرحمن أخا حسان بن ثابت مات، وترك امرأة، وخمس بنات، فأخذ ورثته ماله، ولم يعطوا امرأته، ولا بناته شيئا، فجاءت امرأته تشكو إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، هذا قول السدي. قال الزجاج: ومعنى يوصيكم: يفرض عليكم، لأن الوصية منه فرض،

وقال غيره: إنما ذكره بلفظ الوصية لأمرين.

احدهما: أن الوصية تزيد على الأمر، فكانت آكد.

والثاني: أن في الوصية حقا للموصي، فدل على تأكيد الحال بإضافته إلى حقه. وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة: «يوصيكم» بالتشديد. قوله تعالى:

{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ ٱلاْنْثَيَيْنِ} يعني، للإبن من الميراث مثل حظ الأنثيين، ثم ذكر نصيب الإناث من الأول فقال، {فَإِن كُنَّ} يعني: البنات {نِسَاء فَوْقَ ٱثْنَتَيْنِ}

وفي قوله: «فوق» قولان.

احدهما: أنها زائدة، كقوله {فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلاعْنَـٰقِ} [الأنفال: ١٣].

والثاني: أنها بمعنى الزيادة قال القاضي أبو يعلى: إنما نص على ما فوق الاثنتين، والواحدة، ولم ينص على الاثنتين، لأنه لما جعل لكل واحدة مع الذكر الثلث، كان لها مع الأنثى الثلث أولى. قوله تعالى:

{وَإِن كَانَتْ وٰحِدَةً} قرأ الجمهور بالنصب، وقرأ نافع بالرفع، على معنى: وإن وقعت، أو وجدت واحدة.

قوله تعالى: {وَلاِبَوَيْهِ} قال الزجاج: أبواه تثنية أب وأبة، والأصل في الأم أن يقال لها: أبة، ولكن استغنى عنها بأم، والكناية في قوله «لأبويه» عن الميت وإن لم يجر له ذكر.

وقوله تعالى: {فَلاِمّهِ ٱلثُّلُثُ} أي: إذا لم يخلف غير أبوين، فثلث ماله لأمه، والباقي للأب، وإنما خص الأم بالذكر، لأنه لو اقتصر على قوله:

{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} ظن الظان أن المال يكون بينهما نصفين، فلما خصها بالثلث، دل على التفضيل. وقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابو عمرو، وابن عامر «فلأمه» و{فِى بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُـمْ} [الزمر: ٦] و{فِى أُمّهَا} [القصص: ٥٩] و{فِى أُمّ ٱلْكِتَـٰبِ} [الزخرف: ٤] بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي كل ذلك بالكسر إذا وصلا، وحجتهما: أنهما أتبعا الهمزة ما قبلها، من ياء أو كسرة.

قوله تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} أي: مع الأبوين، فإنهم يحجبون الأم عن الثلث، فيردونها إلى السدس، واتفقوا على أنهم إذا كانوا ثلاثة إخوة، حجبوا، فإن كانا أخوين، فهل يحجبانها؟ فيه قولان.

احدهما: يحجبانها عن الثلث، قاله عمر، وعثمان، وعلي، وزيد، والجمهور.

والثاني: لا يحجبها إلا ثلاثة، قاله ابن عباس، واحتج بقوله: إخوة. والأخوة: اسم جمع، واختلفوا في أقل الجمع،

فقال الجمهور: أقله ثلاثة، وقال قوم: اثنان، والأول: أصح. وإنما حجب العلماء الأم بأخوين لدليل اتفقوا عليه، وقد يسمى الاثنان بالجمع، قال الزجاج: جميع أهل اللغة يقولون: إن الأخوين جماعة، وحكى سيبويه أن العرب تقول: وضعا رحالهما، يريدون: رحلي راحلتيهما. قوله تعالى:

{مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ} أي: هذه السهام إنما تقسم بعد الوصية والدين. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر، عن عاصم «يوصى بها» بفتح الصاد في الحرفين. وقرأ نافع، وابو عمرو، وحمزة، والكسائي: «يوصي» فيهما بالكسر، وقرأ حفص، عن عاصم الأولى بالكسر، والثانية بالفتح. واعلم أن الدين مؤخر في اللفظ، مقدم في المعنى، لأن الدين حق عليه، والوصية حق له، وهما جميعا مقدمان على حق الورثة إذا كانت الوصية في ثلث المال، و «أو» لا توجب الترتيب، إنما تدل على أن احدهما إن كان، فالميراث بعده، وكذلك إن كانا.

قوله تعالى: {وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً} فيه قولان.

احدهما: أنه النفع في الآخرة، ثم فيه قولان.

احدهما: أن الوالد إذا كان أرفع درجة من ولده، رفع إليه ولده، وكذلك الولد، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.

والثاني: أنه شفاعة بعضهم في بعض، رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.

والقول الثاني: أنه النفع في الدنيا، قاله مجاهد. ثم في معناه قولان.

احدهما: أن المعنى: لا تدرون هل موت الآباء أقرب، فينتفع الأبناء بأموالهم، أو موت الأبناء، فينتفع الآباء بأموالهم؟ قاله ابن بحر.

والثاني: أن المعنى: أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع، حتى لا يدري أيهم أقرب نفعا، لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء، والآباء ينتفعون في كبرهم بالأبناء، ذكره القاضي أبو يعلى. وقال الزجاج: معنى الكلام: أن اللّه قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة. ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم، فتضعون الأموال على غير حكمة.

{إن اللّه كان عليما} بما يصلح خلقه، {حكيما} فيما فرض.

وفي معنى «كان» ثلاثة أقوال.

احدها: أن معناها: كان عليما بالأشياء قبل خلقها، حكيما فيما يقدر تدبيره منها، قاله الحسن.

والثاني: أن معناها: لم يزل. قال سيبوبه: كأن القوم شاهدوا علما وحكمة فقيل لهم: إن اللّه كان كذلك، أي: لم يزل على ما شاهدتم، ليس ذلك بحادث.

والثالث: أن لفظة «كان» في الخبر عن اللّه عز وجل يتساوى ماضيها ومستقبلها، لأن الأشياء عنده على حال واحدة، ذكر هذه الأقوال الزجاج.

١٢

قوله تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَـٰلَةً} قرأ الحسن: «يورث» بفتح الواو، وكسر الراء مع التشديد.

وفي الكلالة أربعة أقوال.

احدها: أنها ما دون الوالد والولد، قاله أبو بكر الصديق. وقال عمر ابن الخطاب: أتى على حين وأنا لا أعرف ما الكلالة، فإذا هو: من لم يكن له والد ولا ولد، وهذا قول علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء، والزهري، وقتادة، والفراء، وذكر الزجاج عن أهل اللغة، أن «الكلالة»: من قولهم: تكللّه النسب، أي: لم يكن الذي يرثه ابنه، ولا أباه. قال: والكلالة سوى الوالد والولد، وإنما هو كالاكليل على الرأس. وذكر ابن قتيبة عن أبي عبيدة أنه مصدر تكللّه النسب: إذا أحاط به. والابن والأب: طرفان للرجل، فاذا مات، ولم يخلفهما، فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمي ذهاب الطرفين: كلالة [وكأنها اسم للمصيبة في تكلل النسب مأخوذ منه؛ نحو هذا قولهم: وجهت الشيء: أخذت وجهه، وثغرت الرجل: كسرت ثغره].

والثاني: أن الكلالة: من لا ولد له، رواه ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، وهو قول طاووس.

والثالث: أن الكلالة: ما عدا الوالد، قاله الحكم.

والرابع: أن الكلالة: بنو العم الأباعد، ذكره ابن فارس، عن ابن الأعرابي.

واختلفوا على ما يقع اسم الكلالة على ثلاثة أقوال.

احدها: أنه اسم للحي الوارث، وهذا مذهب أبي بكر الصديق، وعامة العلماء الذين قالوا: إن الكلالة من دون الوالد والولد، فانهم قالوا: الكلالة: اسم للورثة إذا لم يكن فيهم ولد ولا والد، قال بعض الأعراب: مالي كثير، ويرثني كلالة متراخ نسبهم.

والثاني: أنه اسم للميت، قاله ابن عباس، والسدي، وأبو عبيدة في جماعة. قال القاضي أبو يعلى: الكلالة: اسم للميت، ولحاله، وصفته، ولذلك انتصب.

والثالث: أنه اسم للميت والحي، قاله ابن زيد.

وفيما أخذت منه الكلالة قولان.

احدهما: أنه اسم مأخوذ من الإحاطة، ومنه الاكليل، لإحاطته بالرأس.

والثاني: أنه مأخوذ من الكلال، وهو التعب، كأنه يصل إلى الميراث من بعد وإعياء. قال الأعشى: فآليت لا أرثي لها من كلالة  ولا من حفى حتى تزور محمداقوله:

{وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} يعني: من الأم باجماعهم. قوله تعالى:

{فَهُمْ شُرَكَاء فِى ٱلثُّلُثِ} قال قتادة: ذكرهم وأنثاهم فيه سواء. قوله تعالى:

{غَيْرَ مُضَارّ} قال الزجاج: «غير» منصوب على الحال، والمعنى: يوصي بها غير مضار، يعني: للورثة.

١٣

قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ ٱللّه} قال ابن عباس: يريد ما حد اللّه من فرائضه في الميراث {وَمَن يُطِعِ ٱللّه وَرَسُولَهُ} في شأن المواريث {يُدْخِلْهُ جَنَّـٰتٍ} قرأ ابن عامر، ونافع: «ندخله» بالنون في الحرفين جميعا، والباقون بالياء فيهما.

١٤

قوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ ٱللّه} فلم يرض بقسمه {يُدْخِلْهُ نَاراً}

فان قيل: كيف قطع للعاصي بالخلود؟

فالجواب: أنه إذا رد حكم اللّه، وكفر، به كان كافرا مخلدا في النار.

١٥

قوله تعالى: {وَٱللَـٰتِى يَأْتِينَ ٱلْفَـٰحِشَةَ} قال الزجاج: «التي» تجمع اللاتي واللواتي.

قال الشاعر:

من اللواتي والتي واللاتي زعمن أني كبرت لداتي

وتجمع اللاتي باثبات التاء وحذفها.

قال الشاعر:

من اللاتي لم يحججن يبغين حسبة ولكن ليقتلن البريء المغفلا

والفاحشة: الزنى في قول الجماعة. وفي قوله:

{فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ} قولان.

احدهما: أنه خطاب للأزواج.

والثاني: خطاب للحكام، فالمعنى: اسمعوا شهادة أربعة منكم، ذكرهما الماوردي. قال عمر بن الخطاب: إنما جعل اللّه عز وجل الشهور أربعة سترا ستركم به دون فواحشكم. ومعنى: «منكم» من المسلمين. قوله تعالى:

{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى ٱلْبُيُوتِ} قال ابن عباس: كانت المرأة إذا زنت، حبست في البيت حتى تموت، فجعل اللّه لهن سبيلا، وهو الجلد، أو الرجم.

١٦

قوله تعالى: {وَٱللَّذَانَ} قرأ ابن كثير: «واللذان» بتشديد النون، «وهذان» في {طه} و {ٱلْحَجُّ} «وهاتين» في {ٱلْقَصَصِ}: «إحدى ابنتي هاتين» «وفذانك» كله بتشديد النون. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، بتخفيف ذلك كله، وشدد ابو عمرو «فذانك» وحدها. وقوله: واللذان: يعني الزانيين.

وهل هو عام، أم لا؟ فيه قولان.

احدهما: أنه عام في الأبكار والثيب من الرجال والنساء، قاله الحسن، وعطاء.

والثاني: أنه خاص في البكرين إذا زنيا، قاله أبو صالح، والسدي، وابن زيد، وسفيان. قال القاضي أبو يعلى: والأول أصح لأن هذا تخصيص بغير دلالة. قوله تعالى:

{يَأْتِيَـٰنِهَا} يعني الفاحشة. قوله: {فَـئَاذُوهُمَا} فيه قولان.

احدهما: أنه الأذى بالكلام، والتعيير، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والسدي، والضحاك، ومقاتل.

والثاني: أنه التعيير، والضرب بالنعال، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس. {فَإِن تَابَا} من الفاحشة {وَأَصْلَحَا} العمل {فَأَعْرِضُواْ} عن أذاهما. وهذا كله كان قبل الحد.

فصل كان حد الزانيين، فيما تقدم، الأذى لهما، والحبس للمرأة خاصة، فنسخ الحكمان جميعا،

واختلفوا بماذا وقع نسخهما، فقال قوم: بحديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:

«خذوا عني خذوا عني، قد جعل اللّه لهن سبيلا، الثيب بالثيب جلد مائة، ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة»

وهذا على قول من يرى نسخ القرآن بالسنة. وقال قوم: نسخ بقوله: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور: ٢] قالوا: وكان قوله:

{وَٱللَّذَانَ يَأْتِيَـٰنِهَا} للبكرين، فنسخ حكمهما بالجلد، ونسخ حكم الثيب من النساء بالرجم. وقال قوم: يحتمل أن يكون النسخ وقع بقرآن، ثم رفع رسمه، وبقي حكمه، لأن في حديث عبادة «قد جعل اللّه لهن سبيلا» والظاهر: أنه جعل بوحي لم تستقر تلاوته. قال القاضي أبو يعلى: وهذا وجه صحيح، يخرج على قول من لم ينسخ القرآن بالسنة. قال: ويمتنع أن يقع النسخ بحديث عبادة، لأنه من أخبار الآحاد، والنسخ لا يجوز بذلك.

١٧

قوله تعالى: {إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللّه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوء بِجَهَـٰلَةٍ} قال الحسن: إنما التوبة التي يقبلها اللّه. فأما «السوء» فهو المعاصي، سمي سوءا لسوء عاقبته. قوله تعالى:

{بِجَهَالَةٍ} قال مجاهد: كل عاص فهو جاهل حين معصيته. وقال الحسن، وعطاء، وقتادة، والسدي في آخرين. إنما سموا جهالا لمعاصيهم لا أنهم غير مميزين. وقال الزجاج: ليس معنى الآية أنهم يجهلون أنه سوء، لأن المسلم لو أتى ما يجهله، كان كمن لم يوقع سوءا، وإنما يحتمل أمرين.

احدهما: أنهم عملوه، وهو يجهلون المكروه فيه.

والثاني: أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل على الآجل، فسموا جهالا، لإيثارهم القليل على الراحة الكثيرة، والعاقبة الدائمة.

وفي «القريب» ثلاثة أقوال.

احدها: أنه التوبة في الصحة، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال السدي، وابن السائب.

والثاني: أنه التوبة قبل معاينة ملك الموت. رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال أبو مجلز.

والثالث: أنه التوبة قبل الموت، وبه قال ابن زيد في آخرين.

١٨

قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَـٰتِ} في السيئات ثلاثة أقوال.

احدها: الشرك، قاله ابن عباس، وعكرمة.

والثاني: أنها النفاق، قاله أبو العالية، وسعيد بن جبير.

والثالث: أنها سيئات المسلمين، قاله سفيان الثوري، واحتج بقوله

{وَلاَ ٱلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}. قوله تعالى:

{حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ} في الحضور قولان.

احدهما: أنه السوق، قاله ابن عمر.

والثاني: أنه معاينة الملائكة لقبض الروح، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقد روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال: أنزل اللّه تعالى بعد هذه الآية {إِنَّ ٱللّه لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ}الآية [النساء: ١١٦]. فحرم المغفرة على من مات مشركا، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته [فلم يؤيسهم من المغفرة]. فعلى هذا تكون منسوخة في حق المؤمنين.

١٩

قوله تعالى: {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ٱلنّسَاء كَرْهاً} سبب نزولها: أن الرجل كان إذا مات، كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، فنزلت هذه الآية. قاله ابن عباس. وقال في رواية أخرى: كانوا في أول الإسلام إذا مات الرجل، قام أقرب الناس منه، فيلقى على امرأته ثوبا، فيرث نكاحها. وقال مجاهد: كان إذا توفي الرجل فابنه الأكبر أحق بامرأته، فينكحها إن شاء، أو ينكحها من شاء. وقال أبو أمامة بن سهل ابن حنيف: لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته من بعده، وكان ذلك لهم في الجاهلية، فنزلت هذه الآية. قال عكرمة: واسم هذه المرأة: كبيشة بنت معن بن عاصم، وكان هذا في العرب. وقال أبو مجلز: كانت الأنصار تفعله. وقال ابن زيد: كان هذا في أهل المدينة. وقال السدي: إنما كان ذلك للأولياء ما لم تسبق المرأة فتذهب إلى أهلها، فإن ذهبت، فهي أحق بنفسها. وفي معنى قوله:

{أَن تَرِثُواْ ٱلنّسَاء كَرْهاً}. قولان.

احدهما: أن ترثوا نكاح النساء، وهذا قول الجمهور.

والثاني: أن ترثوا أموالهن كرها. روى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: كان يلقي حميم الميت على الجارية ثوبا، فان كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت، فيرثها. واختلف القراء في فتح كاف «الكره» وضمّها في أربعة مواضع: هاهنا، وفي {ٱلتَّوْبَةُ} وفي {الأحقاف} في موضعين، فقرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو بفتح الكاف فيهن، وضمهن حمزة. وقرأ عاصم، وابن عامر بالفتح في {مّنَ ٱلنّسَاء} و{ٱلتَّوْبَةُ} وبالضم في {الأحقاف} وهما لغتان، قد ذكرناهما في {البقرة}.

وفيمن خوطب بقوله {كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} ثلاثة أقوال.

احدها: أنه خطاب للأزواج، ثم في العضل الذي نهى عنه ثلاثة أقوال.

احدها: أن الرجل كان يكره صحبة امرأته، ولها عليه مهر، فيحبسها، ويضربها لتفتدي، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي.

والثاني: أن الرجل كان ينكح المرأة الشريفة، فلعلها لا توافقه، فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه، ويشهد على ذلك، فاذا خطبت، فأرضته، أذن لها، وإلا عضلها، قاله ابن زيد.

والثالث: أنهم كانوا بعد الطلاق يعضلون، كما كانت الجاهلية تفعل، فنهوا عن ذلك، روي عن ابن زيد أيضا. وقد ذكرنا في {البقرة} أن الرجل كان يطلق المرأة، ثم يراجعها، ثم يطلقها كذلك أبدا إلى غير غاية يقصد إضرارها، حتى نزلت {ٱلطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: ٢٢٩].

والقول الثاني: أنه خطاب للأولياء، ثم في ما نهوا عنه ثلاثة أقوال.

احدها: أن الرجل كان في الجاهلية إذا كانت له قرابة قريبة، ألقى عليها ثوبه، فلم تتزوج أبدا غيره إلا بإذنه، قاله ابن عباس.

والثاني: أن اليتيمة كانت تكون عند الرجل، فيحبسها حتى تموت، أو تتزوج بابنه، قاله مجاهد.

والثالث: أن الأولياء كانوا يمنعون النساء من التزويج، ليرثوهن، روي عن مجاهد أيضا.

والقول الثالث: انه خطاب لورثة أزواج النساء الذين قيل لهم: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها. كان الرجل يرث امرأة قريبة، فيعضلها حتى تموت، أو ترد عليه صداقها. هذا قول ابن عباس في آخرين. وعلى هذا يكون الكلام متصلا بالأول، وعلى الأقوال التي قبله يكون ذكر العضل منفصلا عن قوله: {أَن تَرِثُواْ ٱلنّسَاء}.

وفي الفاحشة قولان.

احدهما: أنها النشوز على الزوج، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة في جماعة.

والثاني: الزنى، قاله الحسن، وعطاء، وعكرمة في جماعة. وقد روى معمر، عن عطاء الخراساني، قال: كانت المرأة إذا أصابت فاحشة، أخذ زوجها ماساق إليها، وأخرجها، فنسخ ذلك بالحد. قال ابن جرير: وهذا القول ليس بصحيح لأن الحد حق اللّه، والافتداء حق للزوج، وليس احدهما مبطلا للآخر.

والصحيح أنها إذا أتت بأي فاحشة كانت، من زنى الفرج، أو بذاءة اللسان، جاز له أن يعضلها، ويضيق عليها حتى تفتدي. فأما قوله: {مُّبَيّنَةٍ} فقرأ ابن كثير، وأبو بكر، عن عاصم: «مبينة» و {مُّبَيّنَـٰتٍ وَٱللّه} بفتح الياء فيهما جميعا. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص، عن عاصم: بكسر الياء فيهما، وقرأ نافع، ابو عمرو «مبينة» كسرا و «آيات مبينات» فتحا. وقد سبق ذكر «العشرة». قوله تعالى:

{فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً} قال ابن عباس:

ربما رزق اللّه منهما ولدا، فجعل اللّه في ولدها خيرا كثيرا. وقد ندبت الآية إلى إمساك المرأة مع الكراهة لها، ونبهت على معنيين.

احدهما: أن الإنسان لا يعلم وجوه الصلاح، فرب مكروه عاد محمودا، ومحمود عاد مذموما.

والثاني: أن الإنسان لا يكاد يجد محبوبا ليس فيه ما يكره، فليصبر على ما يكره لما يحب.

وأنشدوا في هذا المعنى:

ومن لم يغمض عينه عن صديقه وعن بعض ما فيه يمت وهو عاتب

ومن يتتبع جاهدا كل عثرة يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب

٢٠

قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ ٱسْتِبْدَالَ زَوْجٍ} هذا الخطاب للرجال، والزوج: المرأة. وقد سبق ذكر «القنطار» في {ءالَ عِمْرَانَ}. قوله تعالى:

{فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} إنما ذلك في حق من وطئها، أو خلا بها، وقد بينت ذلك الآية التي بعدها. قال القاضي أبو يعلى: وإنما خص النهي عن أخذ شيء مما أعطى بحال الاستبدال، وإن كان المنع عاما، لئلا يظن ظان أنه لما عاد البضع إلى ملكها، وجب أن يسقط حقها من المهر، أو يظن ظان أن الثانية أولى بالمهر منها، لقيامها مقامها.

وفي البهتان قولان.

احدهما: أنه الظلم، قاله ابن عباس، وابن قتيبة.

والثاني: الباطل، قاله الزجاج. ومعنى الكلام: أتأخذونه مباهتين آثمين.

٢١

قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} أي: كيف تستجيزون أخذه.

وفي «الإفضاء» قولان.

احدهما: أنه الجماع، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة.

والثاني: الخلوة بها، وإن لم يغشها، قاله الفراء.

وفي المراد بالميثاق هاهنا ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الذي أخذه اللّه للنساء على الرجال؛ الإمساك بمعروف، أو التسريح باحسان. هذا قول ابن عباس، والحسن، وابن سيرين، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل.

والثاني: أنه عقد النكاح، قاله مجاهد، وابن زيد.

والثالث: أنه أمانة اللّه، قاله الربيع.

٢٢

قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم اللّه إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، فنزلت هذه الآية: وقال بعض الأنصار: توفي أبو قيس بن الأسلت، فخطب ابنه قيس امرأته، فأتت النبي صلى اللّه عليه وسلم تستأذنه، وقالت: إنما كنت أعده ولدا، فنزلت هذه الآية. قال أبو عمر غلام ثعلب: الذي حصلناه عن ثعلب، عن الكوفيين، والمبرد عن البصريين، أن «النكاح» في أصل اللغة: اسم للجمع بين الشيئين. وقد سموا الوطء نفسه نكاحا من غير عقد.

قال الأعشى:

ومنكوحة غير ممهورة

يعني المسبية الموطوءة بغير مهر ولا عقد. قال القاضي أبو يعلى: قد يطلق النكاح على العقد، قال اللّه تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: ٤٩] وهو حقيقة في الوطء، مجاز في العقد، لأنه اسم للجمع، والجمع: إنما يكون بالوطء، فسمي العقد نكاحا، لأنه سبب إليه. قوله تعالى:

{إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} فيه ستة أقوال.

احدها: أنها بمعنى: بعد ما قد سلف، فان اللّه يغفره، قاله الضحاك، والمفضل. وقال الأخفش: المعنى: لا تنكحوا ما نكح آباؤكم، فانكم تعذبون به، إلا ما قد سلف، فقد وضعه اللّه عنكم.

والثاني: أنها بمعنى: سوى ما قد سلف، قاله الفراء.

والثالث: أنها بمعنى: لكن ما قد سلف فدعوه، قاله قطرب. وقال ابن الأنباري: لكن ما قد سلف، فإنه كان فاحشة.

والرابع: أن المعنى: ولا تنكحوا كنكاح آباؤكم النساء، أي: كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا تجوز في الإسلام إلا ما قد سلف في جاهليتكم، من نكاح لا يجور ابتداء مثله في الإسلام، فإنه معفو لكم عنه، وهذا كقول القائل: لا تفعل ما فعلت، أي: لا تفعل مثل ما فعلت، ذكره ابن جرير.

والخامس: أنها بمعنى «الواو» فتقديرها: ولا ما قد سلف، فيكون المعنى: إقطعوا ما أنتم عليه من نكاح الآباء، ولا تبتدئوا، قاله بعض أهل المعاني.

والسادس: أنها للاستثناء، فتقدير الكلام: لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز [الذي كان عقده بينهم] إلا ما قد سلف منهم بالزنى، والسفاح، فإنهن حلال لكم، قاله ابن زيد. قوله تعالى:

{أَنَّهُ} يعني النكاح، و «الفاحشة»: ما يفحش ويقبح. و«المقت»: أشد البغض.

وفي المراد بهذا «المقت» قولان.

احدهما: أنه اسم لهذا النكاح، وكانوا يسمون نكاح امرأة الأب في الجاهلية: مقتا، ويسمون الولد منه: «المقتي». فأعلموا أن هذا الذي حرم عليهم [من نكاح امرأة الأب] لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم. هذا قول الزجاج.

والثاني: أنه يوجب مقت اللّه لفاعله، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله

{وَسَاء سَبِيلاً} قال ابن قتيبة: أي: قبح هذا الفعل طريقا.

٢٣

قوله تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـٰتُكُمْ} قال الزجاج: الأصل في أمهات: أمات، ولكن الهاء زيدت مؤكدة، كما زادوها في: أهرقت الماء، وإنما أصله: أرقت. قوله تعالى:

{وَأُمَّهَـٰتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ} إنما سمين أمهات، لموضع الحرمة.

واختلفوا هل يعتبر في الرضاع العدد، أم لا؟ فنقل حنبل عن، احمد: أنه يتعلق التحريم بالرضعة الواحدة وهو قول عمر، وعلي، وابن عباس، وابن عمر، والحسن، وطاووس، والشعبي، والنخعي، والزهري، والأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبي حنيفة، وأصحابه. ونقل محمد بن العباس، عن احمد: أنه يتعلق التحريم بثلاث رضعات. ونقل أبو الحارث، عن احمد: لا يتعلق بأقل من خمس رضعات متفرقات وهو قول الشافعي. قوله تعالى:

{وَأُمَّهَـٰتُ نِسَائِكُمْ} أمهات النساء: يحرمن بنفس العقد على البنت، سواء دخل بالبنت، أو لم يدخل، وهذا قول عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وعمران بن حصين، ومسروق، وعطاء، وطاووس، والحسن، والجمهور. وقال علي رضي اللّه عنه في رجل طلق امرأته قبل الدخول: له أن يتزوج أمها وهذا قول مجاهد، وعكرمة. قوله تعالى:

{وَرَبَائِبُكُمُ} الربيبة: بنت امرأة الزوج من غيره. ومعنى الربيبة: مربوبة، لأن الرجل يربيها، وخرج الكلام على الأعم من كون التربية في حجر الرجل، لا على الشرط.

قوله {وَحَلَـٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ} قال الزجاج: الحلائل: الأزواج. وحليلة: بمعنى محلة، وهي مشتقة من الحلال.

وقال غيره: سميت بذلك، لأنها تحل معه أينما كان. و قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: الحليل: الزوج، والحليلة: المرأة، وسميا بذلك، إما لأنهما يحلان في موضع واحد، أو لأن كل واحد منهما يحال صاحبه، أي: ينازله، أو لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه.

قوله {ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَـٰبِكُمْ} قال عطاء: إنما ذكر الأصلاب، لأجل الأدعياء. و الكلام في قوله

{إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} على نحو ما تقدم في الآية التي قبلها.

وقد زادوا في هذا قولين آخرين.

احدهما: إلا ما قد سلف من أمر يعقوب عليه السلام، لأنه جمع بين أم يوسف و أختها، وهذا مروي عن عطاء، و السدي، وفيه ضعف لوجهين.

احدهما: أن هذا التحريم يتعلق بشريعتنا، وليس كل الشرائع تتفق، ولا وجه للعفو عنا فيما فعله غيرنا.

والثاني: أنه لو طولب قائل هذا بتصحيح نقله، لعسر عليه.

والقول الثاني: أن تكون فائدة هذا الاستثناء أن العقود المتقدمة على الأختين لا تنفسخ، ويكون للانسان أن يختار إحداهما، ومنه حديث فيروز الديلمي قال: أسلمت وعندي أختان، فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: «طلق إحداهما» ذكره القاضي أبو يعلى.

٢٤

قوله: {وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنّسَاء} أما سبب نزولها، فروى أبو سعيد الخدري قال: أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن، فسألنا النبي صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، فاستحللناهن. وأما خلاف القراء، فقرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة بفتح الصاد في كل القرآن، وفتح الكسائي الصاد في هذه وحدها، وقرأ سائر القرآن بالكسر، و «المحصنات» و«محصنات». قال ابن قتيبة: والإحصان: أن يحمي الشيء، ويمنع منه، فالمحصنات [من النساء]: ذوات الأزواج، لأن الأزواج أحصنوهن، ومنعوا منهن: [قال اللّه تعالى: {وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلنّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ}] والمحصنات: الحرائر وإن لم يكن متزوجات، لأن الحرة تحصن وتحصن، وليست كالأمة، قال اللّه تعالى:

{وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ} [النساء:٢٥] وقال:

{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَـٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ} [النساء: ٢٥] يعني: الحرائر] والمحصنات: العفائف قال اللّه تعالى:

{وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ} [النور: ٤] يعني العفائف. وقال اللّه تعالى:

{وَمَرْيَمَ ٱبْنَةَ عِمْرَانَ ٱلَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} ا[لتحريم: ١٢] أي: عفت.

وفي المراد بالمحصنات هاهنا ثلاثة أقوال.

احدها: ذوات الأزواج، وهذا قول ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، وابن جبير، والنخعي، وابن زيد، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج.

والثاني: العفائف: فانهن حرام على الرجال إلا بعقد نكاح، أو ملك يمين. وهذا قول عمر بن الخطاب، وأبي العالية، وعطاء، وعبيدة، والسدي.

والثالث: الحرائر، فالمعنى: أنهن حرام بعد الأربع اللواتي ذكرن في أول السورة، روي عن ابن عباس، وعبيدة.

فعلى القول الأول في معنى قوله{إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَـٰنُكُمْ} قولان.

احدهما: أن معناه: إلا ما ملكت أيمانكم من السبايا في الحروب، وعلى هذا تأول الآية علي، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عمر، وابن عباس، و كان هؤلاء لا يرون بيع الأمة طلاقا.

والثاني: إلا ما ملكت أيمانكم من الإماء ذوات الأزواج، بسبي أو غير سبي، وعلى هذا تأول الآية ابن مسعود، وأبي بن كعب، وجابر، وأنس، وكان هؤلاء يرون بيع الأمة طلاقا. وقد ذكر ابن جرير، عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن: أنهم قالوا بيع الأمة طلاقها، والأول أصح. لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم خير بريرة إذ أعتقتها عائشة، بين المقام مع زوجها الذي زوجها منه سادتها في حال رقها، وبين فراقه، ولم يجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم عتق عائشة إياها طلاقا، ولو كان طلاقا لم يكن لتخييره إياها معنى. ويدل على صحة القول الأول ما ذكرناه من سبب نزول الآية. وعلى القول الثاني: العفائف حرام إلا بملك، والملك يكون عقدا، ويكون ملك يمين. وعلى القول الثالث: الحرائر حرام بعد الأربع إلا ما ملكت أيمانكم من الإماء، فانهن لم يحصرن بعدد.

قوله تعالى: {كِتَـٰبَ ٱللّه عَلَيْكُمْ} قال الزجاج: هو منصوب على التوكيد، محمول على المعنى، لأن معنى «حرمت عليكم أمهاتكم»ٰ كتب اللّه عليكم هذا كتابا، قال: ويجوز أن ينتصب على جهة الأمر، ويكون «عليكم» مفسرا له، فيكون المعنى: إلزموا كتاب اللّه.

قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} أي: ما بعد هذه الأشياء، إلا أن السنة، قد حرمت تزويج المرأة، على عمتها وتزويجها على خالتها وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران: «كتب اللّه عليكم» بفتح الكاف، والتاء، والباء، من غير ألف، ورفع الهاء، وقرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عامر: وأحل بفتح الحاء، وقرأ حمزة، والكسائي: بضم الألف.

فصل

قال شيخنا علي بن عبيد اللّه: وعامة العلماء ذهبوا إلى أن قوله:

{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} تحليل ورد بلفظ العموم، وأنه عموم دخله التخصيص، والمخصص له نهي النبي صلى اللّه عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها، أو على خالتها. وليس هذا على سبيل النسخ. وذهب طائفة إلى أن التحليل المذكور في الآية منسوخ بهذا الحديث. قوله تعالى:

{أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوٰلِكُمْ} أي: تطلبوا إما بصداق في نكاح، أو ثمن في ملك

{مُّحْصِنِينَ} قال ابن قتيبة: متزوجين، وقال الزجاج: عاقدين التزويج، وقال غيرهما: متعففين غير زانين.والسفاح: الزنى، قال ابن قتيبة: أصله من سفحت القربة: إذا صببتها، فسمي الزنى سفاحا، لأن [يسافح] يصب النطفة، وتصب المرأة النطفة. وقال ابن فارس: السفاح: صب الماء بلا عقد، ولا نكاح، فهو كالشيء يسفح ضياعا. قوله تعالى:

{فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَـئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فيه قولان.

احدهما: أنه الاستمتاع في النكاح بالمهور، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور.

والثاني: أنه الاستمتاع إلى أجل مسمى من غير عقد نكاح. وقد روي عن ابن عباس: أنه كان يفتي بجواز المتعة، ثم رجع عن ذلك وقد تكلف قوم من مفسري القراء، فقالوا: المراد بهذه الآية نكاح المتعة، ثم نسخت بما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه نهى عن متعة النساء، وهذا تكلف لا يحتاج إليه، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أجاز المتعة، ثم منع منها فكان قوله منسوخا بقوله. وأما الآية، فانها لم تتضمن جواز المتعة. لأنه تعالى قال فيها:

{أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوٰلِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـٰفِحِينَ} فدل ذلك على النكاح الصحيح. قال الزجاج: ومعنى قوله: {فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} فما نكحتموهن على الشريطة التي جرت، وهو قوله {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَـٰفِحِينَ} أي: عاقدين التزويج

{وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ} أي: مهورهن. ومن ذهب في الآية إلى غير هذا، فقد أخطأ وجهل اللغة. قوله تعالى:

{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ} فيه ستة أقوال.

احدها: أن معناه: لا جناح عليكم فيما تركته المرأة من صداقها، ووهبته لزوجها، هذا مروي عن ابن عباس، وابن زيد.

والثاني: ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من مقام، أو فرقة بعد أداء الفريضة، روي عن ابن عباس أيضا.

والثالث: ولا جناح عليكم أيها الأزواج إذا أعسرتم بعد الفرض لنسائكم فيما تراضيتم به من أن ينقصنكم أو يبرئنكم، قاله أبو سليمان التيمي.

والرابع: لا جناح عليكم إذا انقضى أجل المتعة أن يزدنكم في الأجل، وتزيدونهن في الأجر من غير استبراء، قاله السدي: وهو يعود إلى قصة المتعة.

والخامس: لا جناح عليكم أن تهب المرأة للرجل مهرها، أو يهب هو للتي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه. قاله الزجاج.

والسادس: أنه عام في الزيادة، والنقصان، والتأخير، والإبراء، قاله القاضي أبو يعلى.

٢٥

قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} «الطول»: الغنى والسعة في قول الجماعة. «والمحصنات»: الحرائر، قال الزجاج: والمعنى: من لم يقدر على مهر الحرة يقال: قد طال فلان طولا على فلان، أي كان له فضل عليه في القدرة. والمراد بالفتيات هاهنا: المملوكات، يقال للأمة: فتاة، وللعبد: فتى، وقد سمي بهذا الاسم من ليس بمملوك. قرأت على شيخنا الإمام أبي منصور اللغوي قال: المتفتية: الفتاة والمراهقة، ويقال للجارية الحدثة: فتاة، وللغلام: فتى، قال القتيبي: وليس الفتى بمعنى الشاب والحدث، إنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال. فأما ذكر الايمان، فشرط في إباحتهن، ولا يجوز نكاح الأمة الكتابية، هذا قول الجمهور، وقال أبو حنيفة: يجوز. قوله تعالى:

{وَٱللّه أَعْلَمُ بِإِيمَـٰنِكُمْ} قال الزجاج: معناه: إعملوا على ظاهركم في الإيمان، فانكم متعبدون بما ظهر من بعضكم لبعض. قال:

وفي قوله: «بعضكم من بعض» وجهان.

احدهما: أنه أراد النسب، أي: كلكم ولد آدم. ويجوز أن يكون معناه: دينكم واحد، لأنه ذكر هاهنا المؤمنات. وإنما قيل لهم ذلك، لأن العرب كانت تطعن في الأنساب، وتفخر بالأحساب، وتسمي ابن الأمة: الهجين، فأعلم اللّه عز وجل أن أمر العبيد وغيرهم مستو في باب الإيمان، وإنما كره التزويج بالأمة، وحرم إذا وجد إلى الحرة سبيلا، لأن ولد الأمة من الحر يصيرون رقيقا، ولأن الأمة ممتهنة في عشرة الرجال، وذلك يشق على الزوج. قال ابن الأنباري: ومعنى الآية: كلكم بنو آدم، فلا يتداخلكم شموخ وأنفة من تزوج الإماء عند الضرورة. وقال ابن جرير:في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات، فلينكح بعضكم من بعض، أي: لينكح هذا فتاة هذا. قوله تعالى:

{فَٱنكِحُوهُنَّ} يعني: الإماء {بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ}، أي: سادتهن. «والأجور»: المهور.

وفي قوله{بِٱلْمَعْرُوفِ} قولان.

احدهما: انه مقدم في المعنى، فتقديره: انكحوهن باذن أهلهن بالمعروف، أي: بالنكاح الصحيح {وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}.

والثاني: أن المعنى: وآتوهن أجورهن بالمعروف، كمهور أمثالهن. قال ابن عباس: «محصنات»: عفائف غير زوان {وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} يعني: أخلاء كان الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنى، ويستحلون ما خفي. وقال في رواية أخرى: «المسافحات» المعلنات بالزنى. «والمتخذات أخدان»: ذات الخليل الواحد.

وقال غيره: كانت المرأة تتخذ صديقا تزني معه، ولا تزني مع غيره.

قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عام: «أحصن» مضمومة الألف. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم: بفتح الألف، والصاد. قال ابن جرير: من قرأ بالفتح، أراد: أسلمن، فصرن ممنوعات الفروج عن الحرام بالاسلام، ومن قرأ بالضم، أراد: فاذا تزوجن فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالأزواج.فأما«الفاحشة» فهي الزنى، «والمحصنات»: الحرائر، «والعذاب» الحد. قال القاضي أبو يعلى: وليس الإسلام والتزويج شرطا في إيجاب الحد على الأمة، بل يجب وإن عدما، وإنما شرط الإحصان في الحد، لئلا يتوهم متوهم أن عليها نصف ما على الحرة إذا لم تكن محصنة، وعليها مثل ما على الحرة إذا كانت محصنة.

قوله تعالى: {ذٰلِكَ} الإشارة إلى إباحة تزويج الإماء.

وفي «العنت» خمسة أقوال

احدها: أنه الزنى، قاله ابن عباس، والشعبي، وابن جبير، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل، وابن قتيبة.

والثاني: أنه الهلاك، ذكره أبو عبيدة، والزجاج.

والثالث: لقاء المشقة في محبة الأمة، حكاه الزجاج.

والرابع: أن العنت هاهنا: الإثم.

والخامس: أنه العقوبة التي تعنته، وهي الحد، ذكرهما ابن جرير الطبري. قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على إباحة نكاح الإماء المؤمنات بشرطين.

احدهما: عدم طول الحرة.

والثاني: خوف الزنى، وهذا قول ابن عباس، والشعبي، وابن جبير، ومسروق، ومكحول، وأحمد، ومالك، والشافعي.

وقد روي عن علي، والحسن، وابن المسيب، ومجاهد، والزهري، قالوا: ينكح الأمة، وإن كان موسرا، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.

قوله تعالى: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} قال ابن عباس والجماعة: عن نكاح الإماء، وإنما ندب إلى الصبر عنه، لاسترقاق الأولاد.

٢٦

قوله تعالى: {يُرِيدُ ٱللّه لِيُبَيّنَ لَكُمْ} اللام بمعنى «أن» وهذا مذهب جماعة من أهل العربية، واختاره ابن جرير، ومثله{وَأُمِرْتُ لاِعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: ٥١] {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} [الأنعام:١٧] {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ} [الصف: ٨]. والبيان من اللّه تعالى بالنص تارة، وبدلالة النص أخرى. قال الزجاج: «والسنن»: الطرق، فالمعنى يدلكم على طاعته، كما دل الأنبياء وتابعيهم.

وقال غيره: معنى الكلام: يريد اللّه ليبين لكم سنن من قبلكم من أهل الحق والباطل لتجتنبوا الباطل وتجيبوا الحق، ويهديكم إلى الحق.

٢٧

قوله تعالى: {وَٱللّه يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} قال الزجاج: يريد أن يدلكم على ما يكون سببا لتوبتكم. وفي الذين اتبعوا الشهوات أربعة أقوال.

احدها: أنهم الزناة، قاله مجاهد، ومقاتل.

والثاني: اليهود والنصارى، قاله السدي.

والثالث: أنهم اليهود خاصة، ذكره ابن جرير.

والرابع: أهل الباطل، قاله ابن زيد. قوله تعالى:

{أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} أي: عن الحق بالمعصية.

٢٨

قوله تعالى: {يُرِيدُ ٱللّه أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ} التخفيف: تسهيل التكليف، أو إزالة بعضه، قال ابن جرير: والمعنى: يريد أن ييسر لكم باذنه في نكاح الفتيات المؤمنات لمن لم يستطع طولا لحرة. وفي المراد بضعف الانسان ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الضعف في أصل الخلقة. قال الحسن: هو أنه خلق من ماء مهين.

والثاني: أنه قلة الصبر عن النساء، قاله طاووس، ومقاتل.

والثالث: أنه ضعف العزم عن قهر الهوى، وهذا قول الزجاج، وابن كيسان.

٢٩

قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ} الباطل: ما لا يحل في الشرع.

قوله تعالى: {إِلا أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عامر: «تجارة» بالرفع. وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم بالنصب، وقد بينا العلة في آخر {البقرة}. قوله تعالى:

{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} فيه خمسة أقوال.

احدها: أنه على ظاهره، وأن اللّه حرم على العبد قتل نفسه، وهذا الظاهر.

والثاني: أن معناه: لا يقتل بعضكم بعضا، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة.

والثالث: أن المعنى لا تكلفوا أنفسكم عملا ربما أدى إلى قتلها وإن كان فرضا، وعلى هذا تأولها عمرو بن العاص في غزاة ذات السلاسل حيث صلى بأصحابه جنبا في ليلة باردة، فلما ذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم قال له: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال يا رسول اللّه إني احتلمت في ليلة باردة وأشفقت إن إغتسلت أن أهلك، فذكرت

قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

والرابع: أن المعنى: لا تغفلوا عن حظ أنفسكم، فمن غفل عن حظها، فكأنما قتلها، هذا قول الفضيل بن عياض.

والخامس: لا تقتلوها بارتكاب المعاصي.

٣٠

قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰناً وَظُلْماً} في المشار إليه ثلاثة أقوال.

احدها: أنه قتل النفس، قاله ابن عباس، وعطاء.

والثاني: أنه عائد إلى كل ما نهى اللّه عنه من أول السورة إلى هاهنا، روي عن ابن عباس أيضا.

والثالث: قتل النفس، وأكل الأموال بالباطل، قاله مقاتل.

٣١

قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} اجتناب الشيء: تركه جانبا. وفي الكبائر أحد عشر قولا.

احدها: أنها سبع، فروى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث. أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:

«اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول اللّه وما هن؟ قال:

الشرك باللّه، والسحر، وقتل النفس، التي حرم اللّه إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات».

وقد روي هذا الحديث من طريق آخر عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:

«الكبائر سبع، الإشراك باللّه أولهن، وقتل النفس بغير حقها، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا، والفرار من الزحف، ورمي المحصنات، وانقلاب إلى أعرابية بعد هجرة».

وروي عن علي رضي اللّه عنه قال هي سبع، فعد هذه.

وروي عن عطاء أنه قال: هي سبع، وعد هذه، إلا أنه ذكر مكان الإشراك والتعرب شهادة الزور وعقوق الوالدين.

والثاني: أنها تسع، روى عبيد بن عمير، عن أبيه، وكان من الصحابة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه سئل ما الكبائر؟ فقال:

«تسع، أعظمهن الإشراك باللّه، وقتل نفس المؤمن بغير حق، والفرار من الزحف، وأكل مال ليتيم، والسحر، وأكل الربا، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا».

والثالث: أنها أربع: روى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:

«الكبائر: الإشراك باللّه، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس».

وروى أنس بن مالك قال: ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الكبائر، أو سئل عنها فقال:

«الشرك باللّه، وقتل النفس، وعقوق الوالدين». وقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور، أو شهادة الزور».

وروي عن ابن مسعود أنه قال: الكبائر أربع: الإشراك باللّه، والأمن لمكر اللّه، والقنوط من رحمة اللّه، والإياس من روح اللّه. وعن عكرمة نحوه.

والرابع: أنها ثلاث، فروى عمران بن حصين، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:

«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الشرك باللّه، وعقوق الوالدين وكان متكئا فاحتفزـ قال: والزور»

وروى البخاري، ومسلم في الصحيحين، من حديث أبي بكرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول اللّه، فقال:

الإشراك باللّه، وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. وأخرجا في «الصحيحين» من حديث ابن مسعود قال: سألت النبي صلى اللّه عليه وسلم: أي الذنب أكبر؟ قال:

«أن تجعل للّه تعالى نداً وهو خلقك». قلت ثم أي؟ قال:

«ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قلت: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك».

والخامس: أنها مذكورة من أول السورة إلى هذه الآية، قاله ابن مسعود، وابن عباس/

والسادس: أنها إحدى عشرة:

الإشراك باللّه، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وقتل النفس، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات، وشهادة الزور، والسحر، والخيانة

روي عن ابن مسعود أيضا.

والسابع: أنها كل ذنب يختمه اللّه بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس.

والثامن: أنها كل ما أوجب اللّه عليه النار في الآخرة، والحد في الدنيا، روى هذا المعنى أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك.

والتاسع: أنها كل ما عصي اللّه به، روي عن ابن عباس، وعبيدة، وهو قول ضعيف.

والعاشر: أنها كل ذنب أوعد اللّه عليه النار، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، في رواية، والزجاج.

والحادي عشر: أنها ثمان، الإشراك باللّه، وعقوق الوالدين، وقتل المؤمن، وقذف المحصنة، والزنا، وأكل مال اليتيم، وقول الزور، واقتطاع الرجل بيمينه، وعهده ثمنا قليلا. رواه محرز، عن الحسن البصري. قوله تعالى:

{نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ} روى المفضل، عن عاصم: «يكفر» «ويدخلكم» بالياء فيهما، وقرأ الباقون بالنون فيهما، وقرأ نافع، وأبان، عن عاصم، والكسائي، عن أبي بكر، عن عاصم: «مدخلا» بفتح الميم هاهنا، وفي {ٱلْحَجُّ} وضم الباقون «الميم» ولم يختلفوا في ضم «ميم» {مُدْخَلَ صِدْقٍ} و{مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: ٨٠] قال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون «المدخل» مصدرا، ويجوز أن يكون مكانا، سواء فتح، أو ضم. قال السدي: السيئات هاهنا: هي الصغائر. والمدخل الكريم: الجنة. قال ابن قتيبة: والكريم: بمعنى: الشريف.

٣٢

قوله تعالى: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ٱللّه بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ} في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن أم سلمة قالت: يا رسول اللّه: يغزو الرجال، ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.

والثاني: أن النساء قلن: وددن أن اللّه جعل لنا الغزو، فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة.

والثالث: أنه لما نزل {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ ٱلاْنْثَيَيْنِ} قال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا، كما فضلنا عليهن في الميراث، وقال النساء: إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال، كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة، والسدي.

وفي معنى هذا التمني قولان.

احدهما: أن يتمنى الرجل مال غيره، قاله ابن عباس، وعطاء.

والثاني: أن يتمنى النساء أن يكن رجالا. وقد روي عن أم سلمة أنها قالت: يا ليتنا كنا رجالاً، فنزلت هذه الآية. وللتمني وجوه.

احدها: أن يتمنى الإنسان أن يحصل له مال غيره، ويزول عن الغير، فهذا الحسد.

والثاني: أن يتمنى مثل ما لغيره، ولا يحب زواله عن الغير، فهذا هو الغبطة وربما لم يكن نيل ذلك مصلحة في حق المتمني، قال الحسن: لا تمن مال فلان، ولا مال فلان، وما يدريك لعل هلاكه في ذلك المال؟

والثالث: أن تتمنى المرأة أن تكون رجلا، ونحو هذا مما لا يقع، فليعلم العبد أن اللّه أعلم بالمصالح، فليرض بقضاء اللّه، ولتكن أمانيه الزيادة من عمل الآخرة. قوله تعالى:

{لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا ٱكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا ٱكْتَسَبْنَ} فيه قولان.

احدهما: أن المراد بهذا الاكتساب: الميراث، وهو قول ابن عباس، وعكرمة.

والثاني: أنه الثواب والعقاب. فالمعنى: أن المرأة تثاب كثواب الرجل، وتأثم كاثمه، هذا قول قتادة، وابن السائب، ومقاتل. واحتج على صحته أبو سليمان الدمشقي بأن الميراث لا يحصل بالاكتساب، وبأن الآية نزلت لأجل التمني والفضل.

٣٣

قوله تعالى: {وَلِكُلٍ جَعَلْنَا مَوَالِىَ} الموالي: الأولياء، وهم الورثة من العصبة وغيرهم. ومعنى الآية: لكل إنسان موالي يرثون ما ترك. وارتفاع الوالدين والأقربين على معنيين من الإعراب.

احدهما: أن يكون الرفع على خبر الابتداء، والتقدير: وهم الوالدان والأقربون، ويكون تمام الكلام قوله {مّمَّا تَرَكَ}.

والثاني: أن يكون رفعا على أنه الفاعل الترك للمال، فيكون الوالدان، هم المولى. قوله تعالى:

{وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عامر: «عاقدت» بالألف وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «عقدت» بلا ألف. قال أبو علي: من قرأ بالألف، فالتقدير: والذين عاقدتهم أيمانكم، ومن حذف الألف، فالمعنى: عقدت حلفهم أيمانكم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. وفيهم ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم أهل الحلف كان الرجل يحالف الرجل، فأيهما مات ورثه الآخر، فنسخ ذلك بقوله: {وَأُوْلُواْ ٱلارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ} رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس.

وروى عنه عطية قال كان الرجل يلحق الرجل في الجاهلية، فيكون تابعه، فاذا مات الرجل، صار لأهله الميراث، وبقي تابعه بغير شيء، فأنزل اللّه {وَٱلَّذِينَ فِى أَيْمَـٰنِكُمْ} فأعطي من ميراثه، ثم نزل من بعد ذلك

{وَأُوْلُواْ ٱلارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ} وممن قال هم الحلفاء: سعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة.

والثاني: أنهم الذين آخى بينهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهم المهاجرون والأنصار، كان المهاجرون يورثون الأنصار دون ذوي رحمهم للأخوة التي عقدها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينهم، رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وبه قال ابن زيد.

والثالث: أنهم الذين كانوا يتبنون أبناء غيرهم في الجاهلية، هذا قول سعيد ابن المسيب. فأما أرباب القول الأول، فقالوا: نسخ حكم الحلفاء الذين كانوا يتعاقدون على النصرة والميراث بآخر {ٱلانفَالِ}، وإليه ذهب ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والثوري، والأوزاعي، ومالك، وأحمد، والشافعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا الحكم باق غير أنه جعل ذوي الأرحام أولى من موالي المعاقدة.

وذهب قوم إلى أن المراد: فآتوهم نصيبهم من النصر والنصيحة من غير ميراث، وهذا مروي عن ابن عباس، ومجاهد. وذهب قوم آخرون إلى أن المعاقدة: إنما كانت في الجاهلية على النصرة لا غير، والإسلام لم يغير ذلك، وإنما قرره، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم

«أيما حلف كان في الجاهلية، فان الإسلام لم يزده إلا شدة» أراد النصر والعون. وهذا قول سعيد بن جبير، وهو يدل على أن الآية محكمة.

٣٤

قوله تعالى: {ٱلرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنّسَاء} سبب نزولها: أن رجلا لطم زوجته لطمة فاستعدت عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. وذكر المفسرون أنه سعد بن الربيع الأنصاري قال ابن عباس: «قوامون» أي: مسلطون على تأديب النساء في الحق.

وروى هشام ابن محمد، عن أبيه في قوله: {ٱلرّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى ٱلنّسَاء} قال: إذا كانوا رجالا، وأنشد: أكل امرئ تحسبين امرءا ونارا توقد بالليل نارا

قوله تعالى: {بِمَا فَضَّلَ ٱللّه بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ} يعني: الرجال على النساء، وفضل الرجل على المرأة بزيادة العقل، وتوفير الحظ في الميراث، والغنيمة، والجمعة، والجماعات، والخلافة، والإمارة، والجهاد، وجعل الطلاق إليه إلى غير ذلك. قوله تعالى:

{وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ} قال ابن عباس يعني: المهر والنفقة عليهن.

وفي «الصالحات» قولان.

احدهما: المحسنات إلى أزواجهن، قاله ابن عباس.

والثاني: العاملات بالخير، قاله ابن مبارك. قال ابن عباس. و«القانتات» المطيعات للّه في أزواجهن، والحافظات للغيب، أي: لغيب أزواجهن. وقال عطاء، وقتادة: يحفظن ما غاب عنه الأزواج من الأموال، وما يجب عليهن من صيانة أنفسهن لهم.

قوله تعالى: {بِمَا} قرأ الجمهور برفع اسم «اللّه» وفي معنى الكلام على قراءتهم ثلاثة أقوال.

احدها: بحفظ اللّه إياهن، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، ومقاتل.

وروى ابن المبارك، عن سفيان، قال: بحفظ اللّه إياها أن جعلها كذلك.

والثاني: بما حفظ اللّه لهن مهورهن، وإيجاب نفقتهن، قاله الزجاج.

والثالث: أن معناه: حافظات للغيب بالشيء الذي يحفظ به أمر اللّه، حكاه الزجاج. وقرأ أبو جعفر بنصب اسم اللّه. والمعنى: بحفظهن اللّه في طاعته. قوله تعالى:

{ٱللّه وَٱللَّـٰتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} في الخوف قولان.

احدهما: أنه بمعنى العلم، قاله ابن عباس.

والثاني: بمعنى الظن لما يبدو من دلائل النشوز، قاله الفراء

وأنشد:

وما خفت يا سلام أنك عائبي

قال ابن قتيبة: والنشوز: بغض المرأة للزوج، يقال: نشزت المرأة على زوجها، ونشصت: إذا فركته، ولم تطمئن عنده، وأصل النشوز: الانزعاج. قال الزجاج: أصله من النشز، وهو المكان المرتفع من الأرض.

قوله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ} قال الخليل: الوعظ: التذكير بالخير فيما يرق له القلب قال الحسن: يعظها بلسانه، فان أبت وإلا هجرها. واختلفوا في المراد بالهجر في المضجع على أربعة أقوال.

احدها: أنه ترك الجماع، رواه سعيد بن جبير، وابن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير، ومقاتل.

والثاني: أنه ترك الكلام، لا ترك الجماع، رواه أبو الضحى، عن ابن عباس، وخصيف، عن عكرمة، وبه قال السدي، والثوري.

والثالث: أنه قول الهجر من الكلام في المضاجع، روي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة. فيكون المعنى: قولوا لهن في المضاجع هجرا من القول.

والرابع: أنه هجر فراشها، ومضاجعتها. روي عن الحسن، والشعبي، ومجاهد، والنخعي، ومقسم، وقتادة. قال ابن عباس: اهجرها في المضجع، فان أقبلت وإلا فقد أذن اللّه لك أن تضربها ضربا غير مبرح. وقال جماعة من أهل العلم: الآية على الترتيب فالوعظ عند خوف النشوز، والهجر عند ظهور النشوز، والضرب عند تكرره، واللجاج فيه. ولا يجوز الضرب عند ابتداء النشوز، قال القاضي أبو يعلى: وعلى هذا مذهب احمد. وقال الشافعي: يجوز ضربها في ابتداء النشوز. قوله تعالى:

{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} قال ابن عباس: يعني في المضجع

{فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} أي: فلا تتجن عليها العلل. وقال سفيان بن عيينة: لا تكلفها الحب، لأن قلبها ليس في يدها. وقال ابن جرير: المعنى: فلا تلتمسوا سبيلا إلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل، وذلك أن تقول لها وهي مطيعة لك: لست لي محبة، فتضربها، أو تؤذيها. قوله تعالى:

{إِنَّ ٱللّه كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} قال أبو سليمان الدمشقي: لا تبغوا على أزواجكم، فهو ينتصر لهن منكم. وقال الخطابي: الكبير: الموصوف بالجلال، وكبر الشأن، يصغر دون جلاله كل كبير. ويقال: هو الذي كبر عن شبه المخلوقين.

٣٥

قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} في الخوف قولان.

احدهما: أنه الحذر من وجود ما لا يتيقن وجوده، قاله الزجاج.

والثاني: أنه العلم، قاله أبو سليمان الدمشقي. قال الزجاج: والشقاق: العداوة، واشتقاقه من المتشاقين، كل صنف منهم في شق. و«الحكم»: هو القيم بما يسند إليه.

وفي المأمور بانفاذ الحكمين قولان.

احدهما: أنه السلطان إذا ترافعا إليه، قاله سعيد بن جبير، والضحاك.

والثاني: الزوجان، قاله السدي. قوله تعالى:

{إِن يُرِيدَا إِصْلَـٰحاً} قال ابن عباس: يعني الحكمين. وفي قوله:

{يُوَفّقِ ٱللّه بَيْنَهُمَا} قولان.

احدهما: أنه راجع إلى الحكمين، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وعطاء، والسدي، والجمهور.

والثاني: أنه راجع إلى الزوجين، ذكره بعض المفسرين. فصل والحكمان وكيلان للزوجين، ويعتبر رضى الزوجين فيما يحكمان به، هذا قول احمد، وأبي حنيفة، وأصحابه.

وقال مالك، والشافعي: لا يفتقر حكم الحكمين إلى رضى الزوجين.

٣٦

قوله تعالى: {وَٱعْبُدُواْ ٱللّه} قال ابن عباس: وحدوه.

قوله تعالى: {وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً} قال الفراء: أغراهم بالإحسان إلى الوالدين.

قوله تعالى: {وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ} فيه قولان.

احدهما: أنه الجار الذي بينك وبينه قرابة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل في آخرين.

والثاني: أنه الجار المسلم، قاله نوف الشامي. فيكون المعنى: ذي القربى منكم بالإسلام. قوله تعالى:

{وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ} روى المفضل، عن عاصم: والجار الجنب بفتح الجيم، وإسكان النون. قال أبو علي: المعنى: والجار ذي الجنب، فحذف المضاف.

وفي الجار الجنب ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الغريب الذي ليس بينك وبينه قرابة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل في آخرين.

والثاني: أنه جارك عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك، وخلفك، رواه الضحاك، عن ابن عباس.

والثالث: أنه اليهودي والنصراني، قاله نوف الشامي.

وفي الصاحب بالجنب ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الزوجة، قاله علي، وابن مسعود، والحسن، وإبراهيم النخعي، وابن أبي ليلى.

والثاني: أنه الرفيق في السفر، قاله ابن عباس في رواية مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن قتيبة. وعن سعيد بن جبير كالقولين.

والثالث: أنه الرفيق، رواه ابن جريج، عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. قال ابن زيد: هو الذي يلصق بك رجاء خيرك. وقال مقاتل: هو رفيقك حضرا وسفرا. وفي ابن السبيل أقوال قد ذكرناها في {البقرة}. قوله تعالى:

{وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ} يعني: المملوكين.

وقال بعضهم: يدخل فيه الحيوان البهيم. قال ابن عباس: والمحتال: البطر في مشيته، والفخور: المفتخر على الناس بكبره. وقال مجاهد: هو الذي يعد ما أعطى، ولا يشكر اللّه، وقال ابن قتيبة: المختال: ذو الخيلاء والكبر.وقال الزجاج: المختال: الصلف التياه الجهول. وإنما ذكر الاختيال هاهنا، لأن المختال يأنف من ذوي قراباته، ومن جيرانه إذا كانوا فقراء.

٣٧

قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَبْخَلُونَ} ذكر المفسرون أنها نزلت في اليهود.

فأما سبب نزولها، فقال ابن عباس: كان كردم بن زيد، حليف كعب بن الأشرف وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبحري بن عمرو، وحيي ابن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، يأتون رجالا من الأنصار من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وكانوا يخالطونهم، وينتصحون لهم، فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم، فانا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة، فانكم لا تدرون ما يكون، فنزلت هذه الآية.

وفي الذي بخلوا به وأمروا الناس بالبخل به قولان.

احدهما: أنه المال، قاله ابن عباس، وابن زيد.

والثاني: أنه إظهار صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم ونبوته، قاله مجاهد، وقتادة، والسدي. قوله تعالى:

{وَيَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبُخْلِ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وعاصم، وابن عامر: بالبخل خفيفا، وقرأ حمزة، والكسائي: بالبخل محركا، وكذلك في سورة {ٱلْحَدِيدَ} وفي الذين آتاهم اللّه من فضله قولان.

احدهما: أنهم اليهود، أوتوا علم نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم فكتموه، هذا قول الجمهور.

والثاني: أنهم أرباب الأموال بخلوا بها، وكتموا الغنى، ذكره الماوردي في آخرين. قوله تعالى:

{وَأَعْتَدْنَا} قال الزجاج: معناه: جعلنا ذلك عتادا لهم، أي: مثبتا لهم.

٣٨

قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ رِئَـاء ٱلنَّاسِ}

اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل.

والثاني: أنهم المنافقون، قاله السدي، والزجاج، وأبو سليمان الدمشقي.

والثالث: مشركو مكة أنفقوا على عداوة النبي صلى اللّه عليه وسلم، ذكره الثعلبي. والقرين: الصاحب المؤالف، وهو فعيل من الاقتران بين الشيئين. وفي معنى مقارنة الشيطان قولان.

احدها: مصاحبته في الفعل.

والثاني: مصاحبته في النار.

٣٩

قوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} المعنى: وأي شيء على هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون باللّه، لو آمنواٰ. وفي الإنفاق المذكور هاهنا قولان.

احدهما: أنه الصدقة، قاله ابن عباس.

والثاني: الزكاة، قاله أبو سليمان الدمشقي.

وفي قوله: {وَكَانَ ٱللّه بِهِم عَلِيماً} تهديد لهم على سوء مقاصدهم.

٤٠

قوله تعالى: {إِنَّ ٱللّه لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} قد شرحنا الظلم فيما سلف، وهو مستحيل على اللّه عز وجل، لأن قوما قالوا: الظلم: تصرف فيما لا يملك والكل ملكه،

وقال آخرون: هو وضع الشيء في غير موضعه، وحكمته لا تقتضي فعلا لا فائدة تحته، ومثقال الشيء: زنة الشيء. قال ابن قتيبة: يقال هذا على مثقال هذا أي: على وزنه.

قال الزجاج: وهو مفعال من الثقل. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: يظن الناس أن المثقال وزن دينار لا غير، وليس كما يظنون. مثقال كل شيء: وزنه، وكل وزن يسمى مثقالا، وإن كان وزن ألف. قال اللّه تعالى: {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ} [الأنبياء: ٧٤] قال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن صنجة مثقال الميزان، فقال فارسي، ولا أدري كيف أقول، ولكني أقول: مثقال، فاذا قلت للرجل: ناولني مثقالا، فأعطاك صنجة ألف، أو صنجة حبة، كان ممتثلا.

وفي المراد بالذرة خمسة أقوال.

احدها: أنه رأس نملة حمراء، رواه عكرمة عن ابن عباس.

والثاني: ذرة يسيرة من التراب، رواه يزيد بن الأصم، عن ابن عباس.

والثالث: أصغر النمل، قاله ابن قتيبة، وابن فارس.

والرابع: الخردلة.

والخامس: الواحدة من الهباء الظاهر في ضوء الشمس إذا طلعت من ثقب، ذكرهما الثعلبي. واعلم أن ذكر الذرة ضرب مثل بما يعقل، والمقصود أنه لا يظلم قليلا ولا كثيرا. قوله تعالى:

{وَإِن تَكُ حَسَنَةً} قرأ ابن كثير، ونافع: حسنة بالرفع. وقرأ الباقون بالنصب. قال الزجاج: من رفع، فالمعنى: وإن تحدث حسنة، ومن نصب، فالمعنى: وإن تك فعلته حسنة. قول تعالى:

{يُضَـٰعِفْهَا} قرأ ابن عامر، وابن كثير: يضعفها بالتشديد من غير ألف. وقرأ الباقون: يضاعفها بألف مع كسر العين. قال ابن قتيبة: يضاعفها بالألف: يعطي مثلها مرات، ويضعفها بغير ألف: يعطي مثلها مرة.

قوله تعالى: {مِن لَّدُنْهُ} أي: من قبله. والأجر العظيم: الجنة.

٤١

قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} قال الزجاج: معنى الآية: فكيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة، فحذف الحال، لأن في الكلام دليلا عليه. ولفظ «كيف» لفظ الاستفهام ومعناها: التوبيخ. والشهيد: نبي الأمة. وبماذا يشهد فيه أربعة أقوال.

احدها: بأنه قد بلغ أمته. قاله ابن مسعود، وابن جريج، والسدي، ومقاتل.

والثاني: بايمانهم، قاله أبو العالية.

والثالث: بأعمالهم، قاله مجاهد، وقتادة.

والرابع: يشهد لهم وعليهم، قاله الزجاج. قوله تعالى:

{وَجِئْنَا بِكَ} يعني: نبينا صلى اللّه عليه وسلم.

وفي هؤلاء ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم جميع أمته، ثم فيه قولان.

احدهما: أنه يشهد عليهم.

والثاني: يشهد لهم فتكون «على» بمعنى: اللام.

والقول الثاني: أنهم الكفار يشهد عليهم بتبليغ الرسالة، قاله مقاتل.

والثالث: اليهود والنصارى، ذكره الماوردي.

٤٢

قوله تعالى: {لَوْ تُسَوَّىٰ بِهِمُ ٱلاْرْضُ} قرأ ابن كثير، وعاصم، وابو عمرو: لو تسوى، بضم التاء، وتخفيف السين. والمعنى: ودوا لو جعلوا ترابا، فكانوا هم والأرض سواء، هذا قول الفراء في آخرين. قال أبو هريرة: إذا حشر اللّه الخلائق، قال للبهائم، والدواب، والطير: كوني ترابا. فعندها يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا. وقرأ نافع، وابن عامر: لو تسوى، بفتح التاء، وتشديد السين، والمعنى: لو تتسوى، فأدغمت التاء في السين، لقربها منها. قال أبو علي: وفي هذه القراءة اتساع، لأن الفعل مسند إلى الأرض، وليس المراد: ودوا لو صارت الأرض مثلهم، وإنماالمعنى: ودوا لو يتسوون بها. ثم في المعنى للمفسرين قولان.

احدهما: أن معناه: ودوا لو تخرقت بهم الأرض، فساخوا فيها، قاله قتادة، وأبو عبيدة، ومقاتل.

والثاني: أن معناه: ودوا أنهم لم يبعثوا، لأن الأرض كانت مستوية بهم قبل خروجهم منها، قاله ابن كيسان، وذكر نحوه الزجاج. وقرأ حمزة، والكسائي: لو تسوى، بفتح التاء، وتخفيف السين والواو مشددة ممالة، وهي بمعنى: تتسوى، فحذف التاء التي أدغمها نافع، وابن عامر. فأما معنى القراءتين، فواحد. قوله تعالى:

{وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللّه حَدِيثاً} في «الحديث» قولان.

احدهما: أنه قولهم: ما كنا مشركين هذا قول الجمهور.

والثاني: أنه أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم وصفته ونعته، قاله عطاء: فعلى الأول يتعلق الكتمان بالآخرة، وعلى الثاني يتعلق بما كان في الدنيا، فيكون المعنى: ودوا أنهم لم يكتموا ذلك. وفي معنى الآية ستة أقوال.

احدها: ودوا إذا فضحتهم جوارحهم أنهم لم يكتموا اللّه شركهم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس.

والثاني: أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا اللّه حديثا بعد ذلك، روي عن ابن عباس أيضا.

والثالث: أنهم في موطن لا يكتمونه حديثا، وفي موطن يكتمون، ويقولون: ما كنا مشركين، قاله الحسن.

والرابع: أن قوله {وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللّه حَدِيثاً} كلام مستأنف لا يتعلق بقوله: لو تسوى بهم الأرض، هذا قول الفراء، والزجاج. ومعنى: لا يكتمون اللّه حديثا: لا يقدرون على كتمانه،لأنه ظاهر عند اللّه.

والخامس: أن المعنى: ودوا لو سويت بهم الأرض، وأنهم لم يكتموا اللّه حديثا.

والسادس: أنهم لم يعتقدوا قولهم: ما كنا مشركين كذبا، وإنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة، ذكر القولين ابن الأنباري. وقال القاضي أبو يعلى: أخبروا بما توهموا، إذ كانوا يظنون أنهم ليسوا بمشركين، وذلك لا يخرجهم عن أن يكونوا قد كذبوا.

٤٣

قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكارى} روى أبو عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعانا، وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني، فقرأت «قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون» فنزلت هذه الآية. وفي رواية أخرى، عن أبي عبد الرحمن، عن علي رضي اللّه عنه أن الذي قدموه، وخلط في هذه السورة، عبد الرحمن بن عوف.

وفي معنى قوله: {لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ} قولان.

احدهما: لا تتعرضوا بالسكر في أوقات الصلاة.

والثاني: لا تدخلوا في الصلاة في حال السكر، والأول أصح، لأن السكران لا يعقل ما يخاطب به.

وفي معنى: {وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ} قولان.

احدهما: من الخمر، قاله الجمهور.

والثاني: من النوم، قاله الضحاك، وفيه بعد. وهذه الآية اقتضت إباحة السكر في غير أوقات الصلاة، ثم نسخت بتحريم الخمر. قوله تعالى:

{وَلاَ جُنُباً} قال ابن قتيبة: الجنابة: البعد، قال الزجاج: يقال: رجل جنب، ورجلان جنب، ورجال جنب، كما يقال: رجل رضى، وقوم رضى. وفي تسمية الجنب بهذا الاسم قولان.

احدهما: لمجانبة مائه محله.

والثاني: لما يلزمه من اجتناب الصلاة وقراءة القرآن، ومس المصحف، ودخول المسجد. قوله تعالى:

{إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ} فيه قولان.

احدهما: أن المعنى: لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين غير واجدين للماء فتيمموا، وتصلوا. وهذا المعنى مروي عن علي رضي اللّه عنه. ومجاهد، والحكم، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل، والفراء، والزجاج.

والثاني: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد وأنتم جنب إلا مجتازين، ولا تقعدوا. وهذا المعنى مروي عن ابن مسعود، وأنس بن مالك، والحسن، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، وعطاء الخراساني، والزهري، وعمرو بن دينار، وأبي الضحى، وأحمد، والشافعي، وابن قتيبة. وعن ابن عباس، وسعيد ابن جبير، كالقولين، فعلى القول الأول: «عابر السبيل» المسافر، و«قربان الصلاة» فعلها، وعلى الثاني: «عابر السبيل»: المجتاز في المسجد، و«قربان الصلاة» دخول المسجد الذي تفعل فيه الصلاة. قوله تعالى:

{وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ} في سبب نزول هذا الكلام قولان.

احدهما: أن رجلا من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فذكر له ذلك، فنزلت هذه الآية

{وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ} قاله مجاهد.

والثاني: أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصابتهم جراحات، ففشت فيهم، وابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت {وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَىٰ} الآية كلها، قاله إبراهيم النخعي. قال القاضي أبو يعلى: وظاهر الآية يقتضي جواز التيمم مع حصول المرض الذي يستضر معه باستعمال المال، سواء كان يخاف التلف، أو لا يخاف، وكذلك السفر يجوز فيه التيمم عند عدم الماء، سواء كان قصيرا، أو طويلا، وعدم الماء ليس بشرط في جواز التيمم للمريض، وإنما الشرط: حصول الضرر، وأما السفر، فعدم الماء شرط في إباحة التيمم، وليس السفر بشرط، وإنما ذكر السفر، لأن الماء يعدم فيه غالبا. قوله تعالى:

{أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن ٱلْغَائِطِ} «أو» بمعنى الواو، لأنها لو لم تكن كذلك، لكان وجوب الطهارة على المريض والمسافر غير متعلق بالحدث. والغائط: المكان المطمئن من الأرض، فكني عن الحدث بمكانه، قاله ابن قتيبة. وكذلك قالوا للمزادة: راوية، وإنما الراوية للبعير الذي يسقى عليه، وقالوا للنساء: ظعائن، وإنما الظعائن: الهوادج، وكن يكن فيها، وسموا الحدث عذرة، لأنهم كانوا يلقون الحدث بأفنية الدور. قوله تعالى:

{أَوْ لاَ مّنَ ٱلنّسَاء} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وعاصم، وابن عامر: أو لامستم بألف هاهنا، وفي {المائدة} وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، في اختياره، والمفضل عن عاصم، والوليد بن عتبة، عن ابن عامر {أَوْ لَـٰمَسْتُمُ} بغير ألف هاهنا، وفي {المائدة} وفي المراد بالملامسة قولان.

احدهما: أنها الجماع، قاله علي، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة.

والثاني:أنها الملامسة باليد، قاله ابن مسعود، وابن عمر، والشعبي، وعبيدة، وعطاء، وابن سيرين، والنخعي، والنهدي، والحكم، وحماد. قال أبو علي: اللمس يكون باليد، وقد اتسع فيه، فأوقع على غيره، فمن ذلك {وَأَنَّا لَمَسْنَا ٱلسَّمَاء} [الجن:٨] أي: عالجنا غيب السماء، ومنا من يسترقه فيلقيه إلى الكهنة، ويخبرهم به. فلما كان اللمس يقع على غير المباشرة باليد، قال: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: ٧] فخص اليد، لئلا يلتبس بالوجه الآخر، كما قال: {وَحَلَـٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَـٰبِكُمْ} [النساء:٢٣] لأن الابن قد يدعى وليس من الصلب.

قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ} سبب نزولها: أن عائشة رضي اللّه عنها كانت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في بعض أسفاره، فانقطع عقد لها، فأقام النبي صلى اللّه عليه وسلم على التماسه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فنزلت هذه الآية، فقال أسيد ابن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. أخرجه البخاري، ومسلم، وفي رواية أخرى أخرجها البخاري، ومسلم أيضا: أن عائشة استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجالا في طلبها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا بغير وضوء، وشكوا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت آية التيمم. والتيمم في اللغة: القصد،

وقد ذكرناه في قوله {وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ} وأما الصعيد: فهو التراب، قاله علي، وابن مسعود، والفراء، وأبو عبيد، والزجاج، وابن قتيبة.

وقال الشافعي: لا يقع اسم الصعيد إلى على تراب.ذي غبار.

وفي الطيب قولان.

احدهما: أنه الطاهر.

والثاني: الحلال. قوله تعالى: {فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} الوجه الممسوح في التيمم: هو المحدود في الوضوء.

وفيما يجب مسحه من الأيدي ثلاثة أقوال.

احدها: أنه إلى الكوعين حيث يقطع السارق، روى عمار عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال «التيمم ضربة للوجه والكفين» وبهذا قال سعيد بن المسيب، وعطاء ابن أبي رباح، وعكرمة، والأوزاعي، ومكحول، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وداود.

والثاني: أنه إلى المرفقين، روى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: أنه تيمم، فمسح ذراعيه. وبهذا قال ابن عمر، وابنه سالم، والحسن، وأبو حنيفة، والشافعي، وعن الشعبي كالقولين.

والثالث: أنه يجب المسح من رؤوس الأنامل إلى الآباط، روى عمار بن ياسر قال: كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفر، فنزلت الرخصة في المسح، فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا، وضربة لأيدينا. إلى المناكب والآباط. وهذا قول الزهري. قوله تعالى:

{إِنَّ ٱللّه كَانَ عَفُوّاً} قال الخطابي: «العفو»: بناء للمبالغة، «والعفو»: الصفح عن الذنوب، وترك مجازاة المسيء. وقيل: إنه مأخوذ من: عفت الريح الأثر: إذا درسته، وكأن العافي عن الذنوب يمحوه بصفحه عنه.

٤٤

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ}

اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال.

احدها: أنها نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت.

والثاني: أنها نزلت في رجلين كانا إذا تكلم النبي صلى اللّه عليه وسلم لويا ألسنتهما وعاباه، روي القولان عن ابن عباس.

والثالث: أنها نزلت في اليهود، قاله قتادة.

وفي النصيب الذي أوتوه قولان.

احدهما: أنه علم نبوة محمد النبي صلى اللّه عليه وسلم.

والثاني: العلم بما في كتابهم دون العمل. قوله تعالى:

{يَشْتَرُونَ ٱلضَّلـٰلَةَ} قال ابن قتيبة: هذا من الاختصار، والمعنى: يشترون الضلالة بالهدى، ومثله {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى ٱلاْخِرِينَ} [الصافات: ٨٧] أي: تركنا عليه ثناء حسنا، فحذف الثناء لعلم المخاطب. وفي معنى اشترائهم الضلالة أربعة أقوال.

احدها: أنه استبدالهم الضلالة بالايمان، قاله أبو صالح، عن ابن عباس.

والثاني: أنه استبدالهم التكذيب بالنبي صلى اللّه عليه وسلم بعد ظهوره بايمانهم به قبل ظهوره قاله مقاتل.

والثالث: أنه إيثارهم التكذيب بالنبي لأخذ الرشوة، وثبوت الرئاسة لهم، قاله الزجاج.

والرابع: أنه إعطاؤهم أحبارهم أموالهم على ما يصنعونه من التكذيب بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ذكره الماوردي. قوله تعالى:

{وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ ٱلسَّبِيلَ} خطاب للمؤمنين. والمراد بالسبيل: طريق الهدى.

٤٥

قوله تعالى: {وَٱللّه أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ} فهو يعلمكم ما هم عليه، فلا تستنصحوهم، وهم اليهود،

{وَكَفَىٰ بِٱللّه وَلِيّاً} لكم، فمن كان وليه، لم يضره عدوه. قال الخطابي: «الولي»: الناصر، «والولي»: المتولي للأمر، والقائم به، وأصله من الولي، وهو القرب، «والنصير»: فعيل بمعنى فاعل.

٤٦

قوله تعالى: {مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ} قال مقاتل: نزلت في رفاعة بن زيد، ومالك ابن الضيف، وكعب بن أسيد، وكلهم يهود. وفي «من» قولان. ذكرهما الزجاج.

احدهما: أنها من صلة الذين أوتوا الكتاب، فيكون المعنى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا.

والثاني: أنها مستأنفة، فالمعنى: من الذين هادوا قوم يحرفون، فيكون قوله: يحرفون، صفة، ويكون الموصوف محذوفا، وأنشد سيبويه:

وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

والمعنى: فمنهما تارة أموت فيها. قال أبو علي الفارسي: والمعنى: وكفى باللّه نصيرا من الذين هادوا، أي: إن اللّه ينصر عليهم. فأما«التحريف» فهو التغيير. «والكلم»: جمع كلمة. وقيل: إن «الكلام» مأخوذ من «الكلم»، وهو الجرح الذي يشق الجلد واللحم، فسمي الكلام كلاما، لأنه يشق الأسماع بوصوله إليها،

وقيل: بل لتشقيقه المعاني المطلوبة في أنواع الخطاب. وفي معنى تحريفهم الكلم قولان.

احدهما: أنهم كانوا يسألون النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الشيء، فاذا خرجوا، حرفوا كلامه، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه تبديلهم التوراة، قاله مجاهد. قوله تعالى:

{عَن مَّوٰضِعِهِ}، أي: عن أماكنه ووجوهه. قوله تعالى:

{وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} قال مجاهد: سمعنا قولك، وعصينا أمرك. قوله تعالى:

{وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ} فيه قولان.

احدهما: أن معناه: اسمع لا سمعت، قاله ابن عباس، وابن زيد، وابن قتيبة.

والثاني: أن معناه: اسمع غير مقبول ما تقول، قاله الحسن، ومجاهد. وقد تقدم في {البقرة} معنى: وراعنا.  قوله تعالى:

{لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} قال قتادة: «اللي»: تحريك ألسنتهم بذلك. وقال ابن قتيبة معنى «ليا بألسنتهم»:أنهم يحرفون «راعنا» عن طريق المراعاة، والانتظار إلى السب بالرعونة. قال ابن عباس: {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} مما بدلوا، و{أَقْوَمُ} أي: أعدل،

{وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللّه بِكُفْرِهِمْ} بمحمد. قوله تعالى

{فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} فيه قولان:

احدهما: فلا يؤمن منهم إلا قليل، وهم عبد اللّه بن سلام، ومن تبعه، قاله ابن عباس.

والثاني: فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، قاله قتادة، والزجاج. قال مقاتل: وهو اعتقادهم أن اللّه خلقهم ورزقهم.

٤٧

قوله تعالى: {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ ءامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا} سبب نزولها: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دعا قوما من أحبار اليهود، منهم عبد اللّه بن صوريا، وكعب ابن أسد إلى الإسلام، وقال لهم: إنكم لتعلمون أن الذي جئت به حق، فقالوا: ما نعرف ذلك فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. وفي الذين أوتوا الكتاب قولان.

احدهما: أنه اليهود، قاله الجمهور.

والثاني: اليهود والنصارى، ذكره الماوردي. وعلى الأول يكون الكتاب: التوراة، وعلى الثاني: التوراة والإنجيل. والمراد بما نزلنا: القرآن، وقد سبق في {البقرة} بيان تصديقه لما معهم.

قوله تعالى: {مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً} في طمس الوجوه ثلاثة أقوال.

احدها: أنه إعماء العيون، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك.

والثاني: أنه طمس ما فيها من عين، وأنف، وحاجب، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، واختيار ابن قتيبة.

والثالث: أنه ردها عن طريق الهدى، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن، ومجاهد، والضحاك، والسدي. وقال مقاتل: من قبل أن نطمس وجوها، أي: نحول الملة عن الهدى والبصيرة. فعلى هذا القول يكون ذكر الوجه مجازا. والمراد: البصيرة والقلوب. وعلى القولين قبله يكون المراد بالوجه: العضو المعروف. قوله تعالى:

{فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَـٰرِهَا} خمسة أقوال.

احدها: نصيرها في الأقفاء، ونجعل عيونها في الأقفاء، هذا قول ابن عباس، وعطية.

والثاني: نصيرها كالأقفاء، ليس فيها فم، ولا حاجب، ولا عين، وهذا قول قوم، منهم ابن قتيبة.

والثالث: نجعل الوجه منبتا للشعر، كالقرود، هذا قول الفراء.

والرابع: ننفيها مدبرة عن ديارها ومواضعها. وإلى نحوه ذهب ابن زيد. قال ابن جرير: فيكون المعنى: من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها. وناحيتهم التي هم بها نزول، فنردها على أدبارها من حيث جاؤوا بديا من الشام.

والخامس: نردها في الضلالة، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل. قوله تعالى:

{أَوْ نَلْعَنَهُمْ} يعود إلى أصحاب الوجوه.

وفي معنى لعن أصحاب السبت قولان.

احدهما: مسخهم قردة، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل.

والثاني: طردهم في التيه حتى هلك فيه أكثرهم، ذكره الماوردي. قوله تعالى:

{وَكَانَ أَمْرُ ٱللّه مَفْعُولاً} قال ابن جرير: الأمر هاهنا بمعنى المأمور، سمي باسم الأمر لحدوثه عنه.

٤٨

قوله تعالى: {إِنَّ ٱللّه لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} قال ابن عمر: لما نزلت {قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللّه إِنَّ ٱللّه يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:٣٥] قالوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: والشرك؟ فكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك، فنزلت هذه. وقد سبق معنى الإشراك. والمراد من الآية: لا يغفر لمشرك مات على شركه.

وفي قوله {لِمَن يَشَاء} نعمة عظيمة من وجهين.

احدهما: أنها تقتضي أن كل ميت على ذنب دون الشرك لا يقطع عليه بالعذاب، وإن مات مصرا.

والثاني: أن تعليقه بالمشيئة فيه نفع للمسلمين، وهو أن يكونوا على خوف وطمع.

٤٩

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} سبب نزولها: أن مرحب ابن زيد، وبحري بن عون وهما من اليهودـ أتيا النبي صلى اللّه عليه وسلم بأطفالهما، ومعهما طائفة من اليهود فقالوا: يا محمد هل على هؤلاء من ذنب؟ قال لا، قالوا: واللّه ما نحن إلا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار، فنزلت هذه الآية. هذا قول ابن عباس.

وفي قوله: {أَلَمْ تَرَ} قولان.

احدهما: ألم تخبر قاله ابن قتيبة.

والثاني: ألم تعلم، قاله الزجاج.

وفي الذين يزكون أنفسهم قولان.

احدهما: اليهود على ما ذكرنا عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، ومقاتل.

والثاني: أنهم اليهود، والنصارى، وبه قال الحسن، وابن زيد. ومعنى «يزكون أنفسهم»: يزعمون أنهم أزكياء، يقال: زكى الشيء: إذا نما في الصلاح.

وفي الذي زكوا به أنفسهم أربعة أقوال.

احدها: أنهم برؤوا أنفسهم من الذنوب، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.

والثاني: أن اليهود قالوا: إن أبناءنا الذين ماتوا يزكوننا عند اللّه، ويشفعون لنا، رواه عطية، عن ابن عباس.

والثالث: أن اليهود كانوا يقدمون صبيانهم في الصلاة فيؤمونهم، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم هذا قول عكرمة، ومجاهد، وأبي مالك.

والرابع: أن اليهود والنصارى قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاء ٱللّه وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:١٨] وقالوا: {لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ} [البقرة: ١١١] هذا قول الحسن، وقتادة. قوله تعالى:

{بَلِ ٱللّه يُزَكّى مَن يَشَاء} أي: يجعله زاكيا، ولا يظلم اللّه أحدا مقدار فتيل. قال ابن جرير: وأصل «الفتيل»: المفتول، صرف عن مفعول إلى فعيل، كصريع، ودهين.

وفي الفتيل قولان.

احدهما: أنه ما يكون في شق النواة، رواه عكرمة، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء بن أبي رباح، والضحاك، وقتادة، وعطية، وابن زيد، ومقاتل، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج.

والثاني: أنه ما يخرج بين الأصابع من الوسخ إذا دلكن، رواه العوفي، عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو مالك، والسدي، والفراء.

٥٠

قوله تعالى: {انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه الكَذِبَ} وهو قولهم

{نَحْنُ أَبْنَاء ٱللّه وَأَحِبَّاؤُهُ} وقولهم {لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ} وقولهم: لا ذنب لنا ونحو ذلك مما كذبوا فيه

{وَكَفَىٰ بِهِ} أي: وحسبهم بقيلهم الكذب {إِثْماً مُّبِيناً} يتبين كذبهم لسامعيه.

٥١

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ} في سبب نزولها أربعة أقوال.

احدها: أن جماعة من اليهود قدموا على قريش، فسألوهم: أديننا خير، أم دين محمد؟ فقال اليهود: بل دينكم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.

والثاني: أن كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، قدما مكة، فقالت لهما قريش: أنحن خير، أم محمد؟ فقالا: أنتم، فنزلت هذه الآية، هذا قول عكرمة في رواية، وقال قتادة: نزلت في كعب، وحيي، ورجلين آخرين من بني النضير قالوا لقريش: أنتم أهدى من محمد.

والثالث: أن كعب بن الأشرف وهو الذي قال لكفار قريش: أنتم أهدى من محمد، فنزلت هذه الآية. وهذا قول مجاهد، والسدي، وعكرمة في رواية.

والرابع: أن حيي بن أخطب قال للمشركين: نحن وإياكم خير من محمد، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن زيد. والمراد بالمذكورين في هذه الآية اليهود.

وفي «الجبت» سبعة أقوال.

احدها: أنه السحر، قاله عمر بن الخطاب، ومجاهد، والشعبي.

والثاني: الأصنام، رواه عطية، عن ابن عباس. وقال عكرمة: الجبت: صنم.

والثالث: حيي بن أخطب، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والفراء.

والرابع: كعب بن الأشرف، رواه الضحاك، عن ابن عباس، وليث عن مجاهد.

والخامس: الكاهن، روي عن ابن عباس، وبه قال ابن سيرين، ومكحول.

والسادس: الشيطان، قاله سعيد بن جبير في رواية، وقتادة، والسدي.

والسابع: الساحر، قاله أبو العالية، وابن زيد. وروى أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال: الجبت: الساحر بلسان الحبشة.

وفي المراد بالطاغوت ها هنا ستة أقوال.

احدها: الشيطان، قاله عمر بن الخطاب، ومجاهد في رواية، والشعبي، وابن زيد.

والثاني: أنه اسم للذين يكونون بين يدي الأصنام يعبرون عنها ليضلوا الناس، رواه العوفي، عن ابن عباس.

والثالث: كعب بن الأشرف، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والفراء.

والرابع: الكاهن، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو العالية، وقتادة، والسدي.

والخامس: أنه الصنم، قاله عكرمة. وقال: الجبت والطاغوت صنمان.

والسادس: الساحر، روي عن ابن عباس، وابن سيرين، ومكحول، فهذه الأقوال تدل على أنهما اسمان لمسميين. وقال اللغويون منهم ابن قتيبة، والزجاج: كل معبود من دون اللّه، من حجر، أو صورة، أو شيطان، فهو جبت وطاغوت. قوله تعالى:

{وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني لمشركي قريش: أنتم «أهدى» من الذين آمنوا، يعنون النبي وأصحابه «طريقا» في الديانة والاعتقاد.

٥٢

{أولئك الذين لعنهم اللّه...}

٥٣

قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ ٱلْمُلْكِ} هذا استفهام معناه الإنكار، فالتقدير: ليس لهم. وقال الفراء: قوله

{فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ ٱلنَّاسَ نَقِيراً} جواب لجزاء مضمر، تقديره: ولئن كان لهم نصيب لا يؤتون الناس نقيرا.

وفي «النقير» أربعة أقوال.

احدها: أنه النقطة التي في ظهر النواة، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن زيد، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة في آخرين.

والثاني: أنه القشر الذي يكون في وسط النواة، رواه التيمي، عن ابن عباس.

وروي عن مجاهد: أنه الخيط الذي يكون في وسط النواة.

والثالث: أنه نقر الرجل الشيء بطرف إبهامه، رواه أبو العالية، عن ابن عباس.

والرابع: أنه حبة النواة التي في وسطها، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد. قال الأزهري: و«الفتيل» و«النقير» و«القطمير»: تضرب أمثالا للشيء التافه الحقير.

٥٤

قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ} سبب نزولها: أن أهل الكتاب قالوا: يزعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع، وله تسع نسوة، فأي ملك أفضل من هذا، فنزلت، رواه العوفي، عن ابن عباس.

وفي أم قولان.

احدهما: أنها بمعنى ألف الاستفهام، قاله ابن قتيبة.

والثاني: بمعنى «بل» قاله الزجاج، وقد سبق ذكر «الحسد» في {سُورَةٌ} والحاسدون هاهنا: اليهود.

وفي المراد بالناس هاهنا أربعة أقوال.

احدها: النبي صلى اللّه عليه وسلم، رواه عطية، عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل.

والثاني: النبي صلى اللّه عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، روي عن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.

والثالث: العرب، قاله قتادة.

والرابع: النبي والصحابة ذكره الماوردي.

وفي الذي آتاهم اللّه من فضله ثلاثة أقوال.

احدها: إباحة اللّه تعالى نبيه أن ينكح ما شاء من النساء من غير عدد، روي عن ابن عباس، والضحاك، والسدي.

والثاني: أنه النبوة، قاله ابن جريج، والزجاج.

والثالث: بعثة نبي منهم على قول من قال: هم العرب. قوله تعالى:

{فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْرٰهِيمَ ٱلْكِتَـٰبَ} يعني: التوراة، والإنجيل، والزبور. كله كان في آل إبراهيم، وهذا النبي من أولاد إبراهيم،

وفي الحكمة قولان.

احدهما: النبوة، قاله السدي، ومقاتل.

والثاني: الفقه في الدين، قاله أبو سليمان الدمشقي.

وفي الملك العظيم خمسة أقوال.

احدها: ملك سليمان، رواه عطية، عن ابن عباس.

والثاني: ملك داود، وسليمان في النساء، كان لداود مائة امرأة، ولسليمان سبعمائة امرأة، وثلاثمائة سرية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال السدي.

والثالث: النبوة قاله مجاهد.

والرابع: التأييد بالملائكة، قاله ابن زيد في آخرين.

والخامس: الجمع بين سياسة الدنيا، وشرع الدين، ذكره الماوردي.

٥٥

قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ} فيمن تعود عليه الهاء، والميم قولان.

احدهما: اليهود الذين أنذرهم نبيا محمد صلى اللّه عليه وسلم وهذا قول مجاهد، ومقاتل، والفراء في آخرين.

فعلى هذا القول في هاء «به» ثلاثة أقوال.

احدها: تعود على ما أنزل اللّه على نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم قاله مجاهد. قال أبو سليمان: فيكون الكلام مبنيا على قوله

{عَلَىٰ مَا ءاتَـٰهُمُ ٱللّه مِن فَضْلِهِ} وهو النبوة، والقرآن.

والثاني: أنها تعود إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فتكون متعلقة بقوله

{أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ} يعني بالناس: محمدا صلى اللّه عليه وسلم، ويكون المراد بقوله

{فَمِنْهُمْ مَّنْ ءامَنَ بِهِ} عبد اللّه بن سلام، وأصحابه.

والثالث: أنها تعود إلى النبأ عن آل إبراهيم، قاله الفراء.

والقول الثاني: أن الهاء، والميم في قوله «فمنهم» تعود إلى آل إبراهيم، فعلى هذا في هاء «به» قولان.

احدهما: أنها عائدة إلى إبراهيم، قاله السدي.

والثاني: إلى الكتاب، قاله مقاتل.

قوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ} وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن جبير، وعكرمة، وابن يعمر، والجحدري: «من صد عنه» برفع الصاد وقرأ أبي بن كعب، وأبو الجوزاء، وأبو رجاء والجوني، بكسر الصاد.

٥٦

قوله تعالى: ف{سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً} قال الزجاج: أي نشويهم في نار، ويروى أن يهودية أهدت إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم شاة مصلية، أي: مشوية

وفي قوله {بَدَّلْنَـٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} قولان.

احدهما: أنها غيرها حقيقة، ولا يلزم على هذا أن يقال: كيف بدلت جلود التذت بالمعاصي بجلود ما التذت، لأن الجلود آلة في ايصال العذاب إليهم، كما كانت آلة في ايصال اللذة، وهم المعاقبون لا الجلود.

والثاني: أنها هي بعينها تعاد بعد احتراقها، كما تعاد بعد البلى في القبور. فتكون الغيرية عائدة إلى الصفة، لا إلى الذات، فالمعنى: بدلناهم جلودا غير محترقة، كما تقول: صغت من خاتمي خاتما آخر. وقال الحسن البصري: في هذه الآية: تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة، كلما أكلتهم قيل لهم: عودوا، فعادوا.

٥٧

قوله تعالى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً} قال الزجاج: هو الذي يظل من الحر والريح، وليس كل ظل كذلك، فأعلم اللّه تعالى أن ظل الجنة ظليل لا حر معه، ولا برد.

فان قيل: أفي الجنة برد أو حر يحتاجون معه إلى ظل؟

فالجواب: أن لا، وإنما خاطبهم بما يعقلون مثله، كقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم:٦٢] وجواب آخر: وهو أنه إشارة إلى كمال وصفها، وتمكين بنائها، فلو كان البرد أو الحر يتسلط عليها، لكان في أبنيتها وشجرها ظل ظليل.

٥٨

قوله تعالى: {إِنَّ ٱللّه يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلامَاـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا} في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما فتح مكة، طلب مفتاح البيت من عثمان بن أبي طلحة، فذهب ليعطيه إياه، فقال العباس: بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية، فكف عثمان يده مخافة أن يعطيه للعباس، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

«هات المفتاح» فأعاد العباس قوله، وكف عثمان، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم:

«أرني المفتاح إن كنت تؤمن باللّه واليوم الآخر» فقال: هاكه يا رسول اللّه بأمانة اللّه، فأخذ المفتاح، ففتح البيت، فنزل جبريل بهذه الآية، فدعا عثمان، فدفعه إليه. رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والزهري، وابن جريج، ومقاتل.

والثاني: أنها نزلت في الأمراء. رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال زيد بن أسلم، وابنه، ومكحول، واختاره أبو سليمان الدمشقي. وقال: أمر الأمراء أن يؤدوا الأمانة في أموال المسلمين.

والثالث: أنها نزلت عامة، وهو مروي عن أبي بن كعب، وابن عباس، والحسن، وقتادة، واختاره القاضي أبو يعلى. واعلم أن نزولها على سبب لا يمنع عموم حكمها، فانها عامة في الودائع وغيرها من الأمانات. وقال ابن مسعود: الأمانة في الوضوء، وفي الصلاة، وفي الصوم، وفي الحديث، وأشد ذلك في الودائع. قوله تعالى

{نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} يقول: نعم الشيء يعظكم به، وقد ذكرناه في {البقرة}

٥٩

قوله تعالى: {يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللّه وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أنها نزلت في عبد اللّه بن حذافة بن قيس السهمي إذ بعثه النبي صلى اللّه عليه وسلم في سرية، أخرجه البخاري، ومسلم، من حديث ابن عباس.

والثاني: أن عمار بن ياسر كان مع خالد بن الوليد في سرية، فهرب القوم، ودخل رجل منهم على عمار، فقال: إني قد أسلمت، هل ينفعني، أو أذهب كما ذهب قومي؟ قال عمار: أقم فأنت آمن، فرجع الرجل، وأقام فجاء خالد، فأخذ الرجل، فقال عمار: إني قد أمنته، وإنه قد أسلم، قال: أتجير علي وأنا الأمير؟ فتنازعا، وقدما على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قوله تعالى:

{وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ} طاعة الرسول في حياته، امتثال أمره، واجتناب نهيه، وبعد مماته، اتباع سنته.

وفي أولي الأمر أربعة أقوال.

احدها: أنهم الأمراء، قاله أبو هريرة، وابن عباس في رواية، وزيد بن أسلم، والسدي، ومقاتل.

والثاني: أنهم العلماء، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهو قول جابر بن عبد اللّه، والحسن، وأبي العالية، وعطاء، والنخعي، والضحاك، ورواه خصيف، عن مجاهد.

والثالث: أنهم أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وبه قال بكر بن عبد اللّه المزني.

والرابع: أنهم أبو بكر، وعمر، وهذا قول عكرمة. قوله تعالى:

{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء} قال الزجاج: معناه: اختلفتم. وقال كل فريق: القول قولي. واشتقاق المنازعة: أن كل واحد ينتزع الحجة. قوله تعالى:

{فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللّه وَٱلرَّسُولِ} في كيفية هذا الرد قولان.

احدهما: أن رده إلى اللّه رده إلى كتابه، ورده إلى النبي رده إلى سنته، هذا قول مجاهد، وقتادة، والجمهور. قال القاضي أبو يعلى:

وهذا الرد يكون من وجهين.

احدهما: إلى المنصوص عليه باسمه ومعناه.

والثاني: الرد إليهما من جهة الدلالة عليه، واعتباره من طريق القياس، والنظائر.

والقول الثاني: أن رده إلى اللّه ورسوله أن يقول: من لا يعلم الشيء: اللّه ورسوله أعلم، ذكره قوم، منهم الزجاج.

وفي المراد بالتأويل أربعة أقوال.

احدها: أنه الجزاء، والثواب، وهو قول مجاهد، وقتادة.

والثاني: أنه العاقبة، وهو قول السدي، وابن زيد، وابن قتيبة، والزجاج.

والثالث: أنه التصديق مثل قوله{هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَـٰى} [يوسف: ١٠٠] قاله ابن زيد في رواية.

والرابع: أن معناه: ردكم إياه إلى اللّه ورسوله أحسن من تأويلكم، ذكره الزجاج.

٦٠

قوله تعالى: {الم تَرَى إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ} في سبب نزولها، أربعة أقوال.

احدها: أنها نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف، فأبى اليهودي، فأتيا النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقضى لليهودي، فلما خرجا، قال المنافق: ننطلق إلى عمر بن الخطاب، فأقبلا إليه، فقصا عليه القصة، فقال: رويدا حتى أخرج إليكما، فدخل البيت، فاشتمل على السيف، ثم خرج، فضرب به المنافق، حتى برد، وقال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء اللّه ورسوله، فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح. عن ابن عباس.

والثاني: أن أبا بردة الأسلمي كان كاهنا يقضي بين اليهود، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة، عن ابن عباس.

والثالث: أن يهوديا ومنافقا كانت بينهما خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي، لأنه لا يأخذ الرشوة، ودعا المنافق إلى حكامهم، لأنهم يأخذون الرشوة، فلما اختلفا، اجتمعا أن يحكما كاهنا، فنزلت هذه الآية، هذا قول الشعبي.

والرابع: أن رجلا من بني النضير قتل رجلا من بني قريظة، فاختصموا، فقال المنافقون منهم: إنطلقوا إلى أبي بردة الكاهن، فقال المسلمون من الفريقين: بل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأبى المنافقون، فانطلقوا إلى الكاهن. فنزلت هذه الآية. هذا قول السدي.والزعم والزعم لغتان، وأكثر ما يستعمل في قول ما لا تتحقق صحته،

وفي «الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله» قولان.

احدهما: أنه المنافق.

والثاني أن الذي زعم أنه آمن بما أنزل إليه المنافق، والذي زعم أنه آمن بما أنزل من قبله اليهودي. والطاغوت: كعب بن الأشرف، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والربيع، ومقاتل.

قوله تعالى: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} قال مقاتل: أن يتبرؤوا من الكهنة «والضلال البعيد»: الطويل.

٦١

قوله تعالى: {وَإِذَا قيل لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَا أَنزَلَ ٱللّه} قال مجاهد: هذه الآية والتي قبلها نزلتا في خصومة اليهودي، والمنافق، والهاء والميم في «لهم» إشارة إلى الذين يزعمون «والذي أنزل اللّه»: أحكام القرآن. «وإلى الرسول» أي: إلى حكمه.

٦٢

قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَـٰبَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ} أي: كيف يصنعون ويحتالون إذا أصابتهم عقوبة من اللّه؟

وفي المراد بالمصيبة قولان.

احدهما: أنه تهديد ووعيد.

والثاني: أنه قتل المنافق الذي قتله عمر،

وفي الذي قدمت أيديهم ثلاثة أقوال.

احدها: نفاقهم واستهزاؤهم.

والثاني: ردهم حكم النبي صلى اللّه عليه وسلم.

والثالث: معاصيهم المتقدمة. قوله تعالى:

{إِنْ أَرَدْنَا} بمعنى: ما أردنا. قوله تعالى:

{إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أنه لما قتل عمر صاحبهم، جاؤوا يطلبون بدمه، ويحلفون ما أردنا بالمطالبة بدمه إلا إحسانا إلينا، وما يوافق الحق في أمرنا.

والثاني: ما أردنا بالترافع إلى عمر إلا إحسانا وتوفيقا.

والثالث: أنهم جاؤوا يعتذرون إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم من محاكمتهم إلى غيره، ويقولون: ما أردنا في عدولنا عنك إلا إحسانا بالتقريب في الحكم، وتوفيقا بين الخصوم دون الحمل على مر الحق.

٦٣

قوله تعالى: {أُولَـئِكَ ٱلَّذِينَ يَعْلَمُ ٱللّه مَا فِى قُلُوبِهِمْ} أي: من النفاق والزيغ وقال ابن عباس: إضمارهم خلاف ما يقولون

{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} ولا تعاقبهم

{وَعِظْهُمْ} بلسانك {وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} أي: تقدم إليهم: إن فعلتم الثانية، عاقبتكم. وقال الزجاج: يقال: بلغ الرجل يبلغ بلاغة فهو بليغ: إذا كان يبلغ بعبارة لسانه كنه ما في قلبه.

وقد تكلم العلماء في حد«البلاغة»

فقال بعضهم: «البلاغة»: إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ،

وقيل: «البلاغة» حسن العبارة مع صحة المعنى

وقيل: البلاغة: الإيجاز مع الإفهام، والتصرف من غير إضجار. قال خالد بن صفوان: أحسن الكلام ما قلت ألفاظه، وكثرت معانيه، وخير الكلام ما شوق أوله إلى سماع آخره،

وقال غيره: إنما يستحق الكلام اسم البلاغة إذا سابق لفظه معناه، ومعناه لفظه، ولم يكن لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك. فصل وقد ذهب قوم إلى أن «الإعراض» المذكور في هذه الآية منسوخ بآية السيف.

٦٤

قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ} قال الزجاج: «من» دخلت للتوكيد. والمعنى وما أرسلنا رسولا إلا ليطاع. وفي قوله {بِإِذُنِ ٱللّه} قولان.

احدهما: أنه بمعنى: الأمر، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه الاذن نفسه، قاله مجاهد. وقال الزجاج: المعنى: إلا ليطاع بأن اللّه أذن له في ذلك. وقوله تعالى:

{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} يرجع إلى المتحاكمين اللذين سبق ذكرهما. قال ابن عباس: ظلموا أنفسهم بسخطهم قضاء الرسول{جَاءوكَ فَٱسْتَغْفَرُواْ ٱللّه} من صنيعهم.

٦٥

قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أنها نزلت في خصومة كانت بين الزبير وبين رجل من الأنصار في شراج الحرة، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم للزبير: «اسق ثم أرسل إلى جارك» فغضب الأنصاري، قال: يا رسول اللّه: أن كان ابن عمتكٰ فتلون وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم قال للزبير: «اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر» قال الزبير: فواللّه ما أحسب هذه الآية نزلت إلى في ذلك. أخرجه البخاري، ومسلم.

والثاني: أنها نزلت في المنافق، واليهودي اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف، وقد سبقت قصتهما، قاله مجاهد.

قوله تعالى: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ}أي: لا يكونون مؤمنين حتى يحكموك، وقيل: «لا» رد لزعمهم أنهم مؤمنون، والمعنى: فلا، أي: ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا، وهم يخالفون حكمك. ثم استأنف، فقال: وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، أي:

فيما اختلفوا فيه.

وفي «الحرج» قولان.

احدهما: أنه الشك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي في آخرين.

والثاني: الضيق، قاله أبو عبيدة، والزجاج.

وفي قوله{وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً} قولان.

احدهما: يسلموا لما أمرتهم به فلا يعارضونك، هذا قول ابن عباس، والزجاج، والجمهور.

والثاني: يسلموا ما تنازعوا فيه لحكمك، ذكره الماوردي.

٦٦

انظر تفسير الآية: ٦٨

٦٧

انظر تفسير الآية: ٦٨

٦٨

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} سبب نزولها: أن رجلا من اليهود قال: واللّه لقد كتب اللّه علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلناها فقال ثابت بن قيس بن الشماس: واللّه لو كتب اللّه علينا ذلك لفعلنا، فنزلت هذه الآية. هذا قول السدي. قال الزجاج: «لو» يمتنع به الشيء لامتناع غيره، تقول: لو جاءني زيد لجئته. والمعنى: أن مجيئك امتنع لامتناع مجيئه، «وكتبنا» بمعنى: فرضنا. والمعنى: لو أنا فرضنا على المؤمنين بك أن اقتلوا أنفسكم. قرأ ابو عمرو أن اقتلوا أنفسكم، بكسر النون، أو اخرجوا بضم الواو. وقرأ ابن عامر، وابن كثير، ونافع، والكسائي: أن اقتلوا أو اخرجوا بضم النون والواو. وقرأ عاصم، وحمزة بكسرهما. والمعنى: لو فرضنا عليهم كما فرضنا على قوم موسى، لم يفعله إلا قليل منهم، هذه قراءة الجمهور. وقرأ ابن عامر: إلا قليلا بالنصب.

{وَلَوْ أَنَّهُمْ} يعني: المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك

{فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ} أي: ما يذكرون به من طاعة اللّه، والوقوف مع أمره،

{لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} وأثبت لأمورهم. وقال السدي:

{وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} أي: تصديقا.

٦٩

قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ ٱللّه وَٱلرَّسُولَ} في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن ثوبان مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان شديد المحبة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فرآه رسول اللّه يوما فعرف الحزن في وجهه، فقال: يا ثوبان ما غير وجهك؟ قال: ما بي من وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك، فأذكر الآخرة، فأخاف أن لا أراك هناك، فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح، عن ابن عباس.

والثاني: أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا له: ما ينبغي أن نفارقك في الدنيا، فانك إذا فارقتنا رفعت فوقنا، فنزلت هذه الآية. هذا قول مسروق.

والثالث: أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي وهو محزون، فقال: مالي أراك محزونا؟ فقال: يا رسول اللّه غدا ترفع مع الأنبياء، فلا نصل إليك. فنزلت هذه الآية. هذا قول سعيد بن جبير. قال ابن عباس: ومن يطع اللّه في الفرائض، والرسول في السنن. قال ابن قتيبة: والصديق: الكثير الصدق، كما يقال: فسيق، وسكير، وشريب، وخمير، وسكيت، وفجير، وعشيق، وضليل، وظليم: إذا كثر منه ذلك. ولا يقال ذلك لمن فعل الشيء مرة، أو مرتين حتى يكثر منه ذلك، أو يكون عادة. فأما الشهداء، فجمع شهيد وهو القتيل في سبيل اللّه.

وفي تسميته بالشهيد خمسة أقوال.

احدها: لأن اللّه تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة، قاله ثعل.

والثاني: لأن ملائكة الرحمة تشهده.

والثالث: لسقوطه بالأرض، والأرض: هي الشاهدة، ذكر القولين ابن فارس اللغوي.

والرابع: لقيامه بشهادة الحق في أمر اللّه حتى قتل، قاله أبو سليمان الدمشقي.

والخامس: لأنه يشهد ما أعد اللّه له من الكرامة بالقتل، قاله شيخنا على بن عبيد اللّه. فأما الصالحون، فهم اسم لكل من صلحت سريرته وعلانيته.

والجمهور على أن النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، عام في جميع من هذه صفته. وقال عكرمة: المراد بالنبيين هاهنا محمد، والصديقين أبو بكر، وبالشهداء عمر وعثمان وعلي، وبالصالحين سائر الصحابة. قوله تعالى:

{وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً} قال الزجاج: «رفيقا» منصوب على التمييز، وهو ينوب عن رفقاء. قال الشاعر: بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليبوقال آخر: في حلقكم عظم وقد شجينا يريد: في حلوقكم عظام

{ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ} الذي أعطى المذكورين {مِنَ ٱللّه وَكَفَىٰ بِٱللّه عَلِيماً} بالمقاصد والنيات.

٧٠

قوله تعالى: {خُذُواْ حِذْرَكُمْ} فيه قولان.

احدهما: احذروا عدوكم.

والثاني: خذوا سلاحكم. قوله تعالى:

{فَٱنفِرُواْ ثُبَاتٍ} قال ابن قتيبة: أي: جماعات، واحدتها: ثبة، يريد جماعة بعد جماعة. وقال الزجاج: «الثبات»: الجماعات المتفرقة. قول العبدي: وقد أغدوا على ثبة كرام نشاوى واجدين لما نشاءقال ابن عباس: فانفروا ثبات، أي: عصبا، سرايا متفرقين، أو انفروا [جميعا يعنى] كلكم. فصل وقد نقل عن ابن عباس أن هذه الآية وقوله {ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً} [التوبة: ٤١]. وقوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: ٣٩] منسوخات بقوله {وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} [التوبة: ١٢٢] قال أبو سليمان الدمشقي: والأمر في ذلك بحسب ما يراه الإمام، وليس في هذا من المنسوخ شيء.

٧١

انظر تفسير الآية: ٧٢

٧٢

قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ} اختلفوا فيمن نزلت على قولين.

احدهما: أنها في المنافقين، كعبد اللّه بن أبي، وأصحابه كانوا يتثاقلون عن الجهاد، فان لقيت السرية نكبة، قال من أبطأ منهم: لقد أنعم اللّه علي، وإن لقوا غنيمة، قال يا ليتني كنت معهم. هذا قول ابن عباس، وابن جريج.

والثاني: أنها نزلت في المسلمين الذين قلت علومهم بأحكام الدين، فتثبطوا لقلة العلم، لا لضعف الدين، ذكره الماوردي، وغيره. فعلى الأول تكون إضافتهم إلى المؤمنين بقوله «منكم» لموضع نطقهم بالإسلام، وجريان أحكامه عليهم، وعلى الثاني تكون الإضافة حقيقة. قال ابن جرير: اللام في «لمن» لام تأكيد. قال الزجاج: واللام في «ليبطئن» لام القسم، كقولك: إن منكم لمن أحلف باللّه ليبطئن، يقال: «أبطأ الرجل» و «بطؤ». فمعنى: «أبطأ»: تأخر، ومعنى «بطؤ»: ثقل. وقرأ أبو جعفر: {لَّيُبَطّئَنَّ} بتخفيف الهمزة.

وفي معنى «ليبطئن» قولان.

احدهما: ليبطئن هو بنفسه. وهو قول ابن عباس.

والثاني: ليبطئن غيره، قاله ابن جريج. قال ابن عباس: «والمصيبة»: النكبة.

٧٣

«والفضل من اللّه»: الفتح والغنيمة.

قوله تعالى: {كَأَن لَّمْ يَكُنِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} قرأ ابن كثير، وحفص، والمفضل، عن عاصم: كأن لم تكن بالتاء، لأن الفاعل المسند إليه مؤنث في اللفظ وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم: يكن بالياء: لأن التأنيث ليس بحقيقي. قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى: ليقولن يا ليتني كنت معهم، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة، أي: كأنه لم يعاقدكم على أن يجاهد. معكم، ويجوز أن يكون هذا الكلام معترضا به، فيكون المعنى: ولئن أصابكم فضل من اللّه ليقولن يا ليتني كنت معهم فان أصابتكم مصيبة، قال: قد أنعم اللّه علي، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة، فيكون معنى «المودة» أي: كأنه لم يعاقدكم على الإيمان.

٧٤

قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَشْرُونَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا} يشرون هاهنا: بمعنى يبتغون في قول الجماعة. وأنشدوا: وشريت بردا ليتني من بعد برد كنت هامه«وبرد»: غلام له باعه. ومعنى الآية: ليكن قتال المقاتلين على وجه الإخلاص، وطلب الآخرة. قوله تعالى:

{فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ} خرج مخرج الغالب، وقد يثاب من لم يغلب ولم يقتل.

٧٥

قوله تعالى: {وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرّجَالِ} قال الفراء: تقديره: وفي المستضعفين. وكذلك روي عن ابن عباس. وقال الزجاج: المستضعفون في موضع خفض، والمعنى في سبيل اللّه وسبيل المستضعفين، أي: ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء؟ قال ابن عباس: وهم ناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا. «والقرية»: مكة في قول الجماعة. قال الفراء: وإنما خفض «الظالم» لأنه نعت للأهل، فلما عاد الأهل على القرية كان فعل ما أضيف إليها بمنزلة فعلها، تقول: مررت بالرجل الواسعة داره. قوله تعالى:

{وَٱجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} قال أبو سليمان: سألوا اللّه وليا من عنده يلي إخراجهم منها، ونصيرا يمنعهم من المشركين. قال ابن عباس: فلما فتح رسول اللّه مكة، جعل اللّه عز وجل النبي عليه السلام وليهم، واستعمل عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عتاب بن أسيد، فكان نصيرا لهم، ينصف الضعيف من القوي.

٧٦

قوله تعالى: {يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱلطَّـٰغُوتِ} الطاغوت هاهنا: الشيطان. وقال أبو عبيدة: الطاغوت هاهنا في معنى جماعة، كقوله

{وَلَحْمَ ٱلْخِنزِيرِ} معناه: ولحم الخنازير. قوله تعالى:

{إِنَّ كَيْدَ ٱلشَّيْطَـٰنِ} يعني: مكره وصنيعه

{كَانَ ضَعِيفاً} حيث خذل أصحابه يوم بدر.

٧٧

قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قيل لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} اختلفوا فيمن نزلت على قولين.

احدهما: أنها نزلت في نفر من المهاجرين، كانوا يحبون أن يؤذن لهم في قتال المشركين وهم بمكة قبل أن يفرض القتال، فنهوا عن ذلك، فلما أذن لهم فيه، كرهه بعضهم. روى هذا المعنى أبو صالح. عن ابن عباس، وهو قول، قتادة، والسدي، ومقاتل.

والثاني: أنها نزلت واصفة أحوال قوم كانوا في الزمان المتقدم، فحذرت هذه الأمة من مثل حالهم، روى هذا المعنى عطية، عن ابن عباس. قال أبو سليمان الدمشقي: كأنه يومىء إلى قصة الذين قالوا: إبعث لنا ملكا. وقال مجاهد: هي في اليهود. فأما كف اليد، فالمراد به: الامتناع عن القتال، ذلك كان بمكة. «وكتب» بمعنى: فرض، وذلك بالمدينة، هذا على القول الأول. قوله تعالى:

{إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ} في هذا الفريق ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم المنافقون.

والثاني: أنهم كانوا مؤمنين، فلما فرض القتال، نافقوا جبنا وخوفا.

والثالث: أنهم مؤمنون غير أن طبائعهم غلبتهم، فنفرت نفوسهم عن القتال.

قوله{يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ} في المراد بالناس قولان.

احدهما: كفار مكة.

والثاني: جميع الكفار. قوله تعالى:

{أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} قيل: إن «أو» بمعنى الواو «وكتبت» بمعنى: فرضت. و«لولا» بمعنى «هلا» قال الفراء: إذا لم تر بعدها اسما، فهي استفهام، بمعنى هلا، وإذا رأيت بعدها اسما مرفوعا، فهي التي جوابها اللام، تقول: لولا عبد اللّه لضربتك. وقال ابن قتيبة: إذا رأيتها بغير جواب، فهي بمعنى «هلا» تقول: لولا فعلت كذا، ومثلها «لوما» فاذا رأيت ل «لولا» جوابا فليست بمعنى «هلا» إنما هي التي تكون لأمر يقع بوقوع غيره، كقوله {بَطْنِهِ} [الصافات:١٤٣] قلت: فأما «لولا» التي لها جواب فكثيرة في الكلام، وأنشدوا في ذلك: لولا الحياء وأن رأسي قد عثا فيه المشيب لزرت ام القاسم وأما التي بمعنى «هلا» فأنشدوا منها. تعدون عقر النبيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعاأراد فهلا تعدون الكمي والكمي الداخل في السلاح.

وفي الأجل القريب قولان.

احدهما: أنه الموت، فكأنهم قالوا: هلا تركتنا نموت موتا، وعافيتنا من القتل، هذا قول السدي، ومقاتل.

والثاني: أنه إمهال زمان، فكأنهم قالوا: هلا أخرت فرض الجهاد عنا قليلا حتى نكثر ونقوى، قاله أبو سليمان الدمشقي في آخرين. قوله تعالى:

{قُلْ مَتَـٰعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ} أي: مدة الحياة فيها قليلة. قوله تعالى:

{وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ولا يظلمون بالياء. وقرأ نافع، وابو عمرو، وعاصم: بالتاء، وقد سبق ذكر المتاع والفتيل.

٧٨

قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ} سبب نزولها أن المنافقين قالوا في حق شهداء أحد: لو كانوا عندنا ما ماتوا، وما قتلوا، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، ومقاتل. والبروج: الحصون، قاله ابن عباس، وابن قتيبة. وفي «المشيدة» خمسة أقوال.

احدها: أنها الحصينة، قاله ابن عباس، وقتادة.

والثاني: المطولة، قاله أبو مالك، ومقاتل، وابن قتيبة.

والثالث: المجصصة، قاله هلال بن خباب، واليزيدي.

والرابع: أنها المبنية بالشيد، وهو الجص، قاله أبو سليمان الدمشقي.

والخامس: أنها بروج في السماء، قاله الربيع بن أنس، والثوري. وقال السدي: هي قصور بيض في السماء مبنية. قوله تعالى:

{وَإِن تُصِبْهُمْ} اختلفوا فيهم على ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم المنافقون واليهود، قاله ابن عباس.

والثاني: المنافقون، قاله الحسن.

والثالث: اليهود، قاله ابن السري. وفي الحسنة والسيئة قولان.

احدهما: أن الحسنة: الخصب، والمطر. والسيئة: الجدب، والغلاء، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.

والثاني: أن الحسنة: الفتح والغنيمة، والسيئة: الهزيمة والجراح، ونحو ذلك، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس.

وفي قوله تعالى: {مِنْ عِندِكَ} قولان.

احدهما: بشؤمك، قاله ابن عباس.

والثاني: بسوء تدبيرك، قاله ابن زيد. قوله تعالى:

{قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ ٱللّه} قال ابن عباس: الحسنة والسيئة، أما الحسنة، فأنعم بها عليك، وأما السيئة، فابتلاك بها. قوله تعالى:

{فَمَا لِهَـؤُلاء ٱلْقَوْمِ} وقف ابو عمرو، والكسائي على الألف من «فما»

في قوله: {فَمَا لِهَـؤُلاء ٱلْقَوْمِ} و {مَا لِهَـٰذَا ٱلْكِتَـٰبِ}

و {مَا لِهَـٰذَا ٱلرَّسُولِ} و {فَمَا لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} والباقون وقفوا على اللام. فأما «الحديث»، فقيل: هو القرآن، فكأنه قال: لا يفقهون القرآن، فيؤمنون به، ويعلمون أن الكل من عند اللّه.

٧٩

قوله تعالى: {مَّا أَصَـٰبَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللّه} في المخاطب بهذا الكلام ثلاثة أقوال.

احدها: أنه عام، فتقديره: ما أصابك أيها الإنسان، قاله قتادة.

والثاني: أنه خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم، والمراد به غيره، ذكره الماوردي. وقال ابن الأنباري: ما أصابك اللّه من حسنة، وما أصابك اللّه به من سيئة، فالفعلان يرجعان إلى اللّه عز وجل.

وفي «الحسنة» «والسيئة» ثلاثة أقوال.

احدها: أن الحسنة ما فتح عليه يوم بدر، والسيئة: ما أصابه يوم أحد، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس.

والثاني: الحسنة: الطاعة، والسيئة: المعصية، قاله أبو العالية.

والثالث: الحسنة: النعمة، والسيئة: البلية، قاله ابن قتيبة: وعن أبي العالية نحوه، وهو أصح، لأن الآية عامة، وروى كرداب، عن يعقوب:

{مَّا أَصَـٰبَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللّه} بتشديد النون، ورفعها، ونصب الميم، وخفض اسم «اللّه»

{وَمَا أَصَـٰبَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} بنصب الميم، ورفع السين.وقرأ ابن عباس: وما أصابك من سيئة، فمن نفسك، وأنا كتبتها عليك. وقرأ ابن مسعود: وأنا عددتها عليك. قوله تعالى:

{فَمِن نَّفْسِكَ} أي: فبذنبك، قاله الحسن، وقتادة، والجماعة. وذكر فيه ابن الأنباري وجها آخر، فقال: المعنى: أفمن نفسك فأضمرت ألف الاستفهام، كما أضمرت في قوله

{وَتِلْكَ نِعْمَةٌ} أي: أو تلك نعمة. قوله تعالى:

{وَأَرْسَلْنَـٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} قال الزجاج: ذكر الرسول مؤكد لقوله:

{وَأَرْسَلْنَـٰكَ} والباء في «باللّه» مؤكدة. والمعنى: وكفى باللّه شهيدا. «وشهيدا» منصوب على التمييز، لأنك إذا قلت: كفى باللّه، ولم تبين في أي شيء الكفاية كنت مبهما.

وفي المراد بشهادة اللّه هاهنا ثلاثة أقوال.

احدها: شهيدا لك بأنك رسوله، قاله مقاتل.

والثاني: على مقالتهم، قاله ابن السائب.

والثالث: لك بالبلاغ، وعليهم بالتكذيب والنفاق، قاله أبو سليمان الدمشقي.

فان قيل: كيف عاب اللّه هؤلاء حين قالوا: إن الحسنة من عند اللّه، والسيئة من عند النبي عليه السلام، ورد عليهم بقوله:

{قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ ٱللّه} ثم عاد، فقال:

{مَّا أَصَـٰبَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللّه وَمَا أَصَـٰبَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} فهل قال القوم إلا هكذا؟ فعنه جوابان.

احدهما: أنهم أضافوا السيئة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم تشاؤما به، فرد عليهم، فقال: كل بتقدير اللّه. ثم قال: ما أصابك من حسنة، فمن اللّه، أي: من فضله، وما أصابك من سيئة، فبذنبك، وإن كان الكل من اللّه تقديرا.

والثاني: أن جماعة من أرباب المعاني قالوا: في الكلام محذوف مقدر، تقديره: فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، يقولون: ما أصابك من حسنة، فمن اللّه، وما أصابك من سيئة، فمن نفسك. فيكون هذا من قولهم. والمحذوف المقدر في القرآن كثير، ومنه قوله:

{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: ١٢٧] أي: يقولان: ربنا. ومثله

{أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: ١٩٦] أي: فحلق، ففدية. ومثله

{فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ} [آل عمران:١٠٦] أي: فيقال لهم. ومثله

{عَلَيْكُمْ} [الرعد: ٢٣،٢٤] أي: يقولون سلام. ومثله

{أَوْ كُلّمَ بِهِ ٱلْمَوْتَىٰ بَل للّه ٱلاْمْرُ} [الرعد: ٣١] أراد: لكان هذا القرآن. ومثله

{وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللّه عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱللّه تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور: ٢٠] أراد: لعذبكم. ومثله

{رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة: ١٢] أي: يقولون.

وقال النمر بن تولب:

فان المنية من يخشها فسوف تصادفه أينما

أراد: أينما ذهب. وقال غيره: فأقسم لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعاأراد: لرددناه.

٨٠

قوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللّه} سبب نزولها: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «من أطاعني فقد أطاع اللّه، ومن أحبني، فقد أحب اللّه» فقال المنافقون: لقد قارب هذا الرجل الشرك، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى الكلام: من قبل ما أتى به الرسول، فانما قبل ما أمر اللّه به ومن تولى، أي: أعرض عن طاعته.

وفي «الحفيظ» قولان.

احدهما: أنه الرقيب، قاله ابن عباس.

والثاني: المحاسب، قاله السدي، وابن قتيبة.

فصل

قال المفسرون: وهذا كان قبل الأمر بالقتال، ثم نسخ بآية السيف.

٨١

قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} نزلت في المنافقين، كانوا يؤمنون عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليأمنوا، فاذا خرجوا، خالفوا، هذا قول ابن عباس. قال الفراء: والرفع في «طاعة» على معنى: أمرك طاعة. قوله تعالى:

{بَيَّتَ طَائِفَةٌ} قرأ ابو عمرو، وحمزة: بيت بسكون «التاء» وإدغامها في «الطاء» ونصب الباقون «التاء» قال أبو علي: التاء والطاء والدال من حيز واحد، فحسن الإدغام، ومن بين، فلانفصال الحرفين، واختلاف المخرجين. قال ابن قتيبة: والمعنى فاذا برزوا من عندك، أي: خرجوا بيت طائفة منهم غير الذي تقول، أي قالوا: وقدروا ليلا غير ما أعطوك نهارا.

قال الشاعر:

أتوني فلم أرض ما بينوا وكانوا أتوني بشيء نكروالعرب

تقول هذا أمر قد قدر بليل وفرغ منه بليل، ومنه قول الحارث بن حلزة:

أجمعوا أمرهم عشاء فلما أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء

وقال بعضهم: بيت، بمعنى: بدل،

وأنشد:

وبيت قولي عند المليك قاتلك اللّه عبدا كفورا

وفي قوله: {غَيْرَ ٱلَّذِى تَقُولُ} قولان.

احدهما: غير الذي تقول الطائفة عندك، وهو قول ابن عباس، وابن قتيبة.

والثاني: غير الذي تقول أنت يا محمد، وهو قول قتادة، والسدي. قوله تعالى:

{وَٱللّه يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: يكتبه في الأعمال التي تثبتها الملائكة، قاله مقاتل في آخرين.

والثاني: ينزله إليك في كتابه.

والثالث: يحفظه عليهم ليجازوا، به ذكر القولين الزجاج، قال ابن عباس: فأعرض عنهم: فلا تعاقبهم، وثق باللّه عز وجل، وكفى باللّه ثقة لك. قال: ثم نسخ هذا الإعراض، وأمر بقتالهم.

فان قيل: ما الحكمة في أنه ابتدأ بذكرهم جملة، ثم قال:

{بَيَّتَ طَائِفَةٌ} والكل منافقون؟

فالجواب من وجهين، ذكرهما أهل التفسير.

احدهما: أنه أخبر عمن سهر ليله، ودبر أمره منهم دون غيره منهم.

والثاني: أنه ذكر من علم أنه يبقى على نفاقه دون من علم أنه يرجع.

٨٢

قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ} قال الزجاج: «التدبر» النظر في عاقبة الشيء. و«الدبر» النحل، سمي دبرا، لأنه يعقب ما ينتفع به، و«الدبر»: المال الكثير، سمي دبرا لكثرته، لأنه يبقى للأعقاب، والأدبار. وقال ابن عباس: أفلا يتدبرون القرآن. فيتفكرون فيه، فيرون تصديق بعضه لبعض، وأن أحدا من الخلائق لا يقدر عليه. قال ابن قتيبة: والقرآن من قولك: ما قرأت الناقة سلى قط، أي: ماضمت في رحمها ولدا،

وأنشد أبو عبيدة:

هجان اللون لم تقرأ جنينا

وإنما سمي قرآنا، لأنه جمع السور، وضمها. قوله تعالى:

{لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أنه التناقض، قاله ابن عباس، وابن زيد، والجمهور.

والثاني: الكذب، قاله مقاتل، والزجاج.

والثالث: أنه اختلاف تفاوت من جهة بليغ من الكلام، ومرذول، إذ لا بد للكلام إذا طال من مرذول، وليس في القرآن إلا بليغ، ذكره الماوردي في جماعة.

٨٣

قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ٱلاْمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ}

في سبب نزولها قولان.

احدهما: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما اعتزل نساءه، دخل عمر المسجد، فسمع الناس يقولون: طلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساءه، فدخل على النبي عليه السلام فسأله أطلقت نساءك؟ قال «لا» فخرج فنادى: ألا إن رسول اللّه لم يطلق نساءه. فنزلت هذه الآية. فكان هو الذي استنبط الأمر. انفرد باخراجه مسلم، من حديث ابن عباس، عن عمر.

والثاني: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا بعث سرية من السرايا فغلبت أو غلبت، تحدثوا بذلك، وأفشوه، ولم يصبروا حتى يكون النبي هو المتحدث به. فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح، عن ابن عباس.

وفي المشار إليهم بهذه الآية قولان.

احدهما: أنهم المنافقون. قاله ابن عباس، والجمهور.

والثاني: أهل النفاق، وضعفة المسلمين، ذكره الزجاج.

وفي المراد بالأمن أربعة أقوال.

احدها: فوز السرية بالظفر والغنيمة، وهو قول الأكثرين.

والثاني: أنه الخبر يأتي إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه ظاهر على قوم، فيأمن منهم، قاله الزجاج.

والثالث: أنه ما يعزم عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الموادعة والأمان لقوم، ذكره الماوردي.

والرابع: أنه الأمن يأتي من المأمن وهو المدينة، ذكره أبو سليمان الدمشقي مخرجا من حديث عمر.

وفي «الخوف» ثلاثة أقوال.

احدها: أنه النكبة التي تصيب السرية، ذكره جماعة من المفسرين.

والثاني: أنه الخبر يأتي أن قوما يجمعون للنبي صلى اللّه عليه وسلم، فيخاف منهم، قاله الزجاج.

والثالث: ما يعزم عليه النبي من الحرب والقتال، ذكره الماوردي.

قوله تعالى: {أَذَاعُواْ بِهِ} قال ابن قتيبة: أشاعوه. وقال ابن جرير: والهاء عائدة على الأمر. قوله تعالى:

{وَلَوْ رَدُّوهُ} يعني: الأمر {إِلَى ٱلرَّسُولِ} حتى يكون هو المخبر به

{وَإِلَىٰ أُوْلِى ٱلاْمْرِ مِنْهُمْ} وفيهم أربعة أقوال.

احدها: أنهم مثل أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، قاله ابن عباس.

والثاني: أنهم أبو بكر، وعمر، قاله عكرمة.

والثالث: العلماء، قاله الحسن، وقتادة، وابن جريج.

والرابع: أمراء السرايا، قاله ابن زيد، ومقاتل.

وفي «الذين يستنبطونه» قولان.

احدهما: أنهم الذين يتتبعونه من المذيعين له، قاله مجاهد.

والثاني: أنهم أولو الأمر قاله ابن زيد. و«الاستنباط» في اللغة: الاستخراج. قال الزجاج: أصله من النبط، وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر، يقال من ذلك: قد أنبط فلان في غضراء، أي: استنبط الماء من طين حر. والنبط: سموا نبطا، لاستنباطهم ما يخرج من الأرض. قال ابن جرير: ومعنى الآية: وإذا جاءهم خبر عن سرية للمسلمين بخير أو بشر أفشوه، ولو سكتوا حتى يكون الرسول وذو الأمر يتولون الخبر عن ذلك، فيصححوه إن كان صحيحا، أو يبطلوه إن كان باطلا، لعلم حقيقة ذلك من يبحث عنه من أولى الأمر. قوله تعالى:

{وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللّه عَلَيْكُمْ}. في المراد بالفضل أربعة أقوال.

احدها: أنه رسول اللّه.

والثاني: الإسلام.

والثالث: القرآن.

والرابع: أولو الأمر.

وفي الرحمة أربعة أقوال.

احدها: أنها الوحي.

والثاني: اللطف.

والثالث: النعمة.

والرابع: التوفيق. قوله تعالى:

{لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِلاَّ قَلِيلاً} في معنى هذا الاستثناء ثلاثة أقوال.

احدها: أنه راجع إلى الإذاعة، فتقديره: أذاعوا به إلا قليلا. وهذا قول ابن عباس، وابن زيد، واختاره الفراء، وابن جرير.

والثاني: أنه راجع إلى المستنبطين، فتقديره: لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا، وهذا قول الحسن، وقتادة، واختاره ابن قتيبة. فعلى هذين القولين، في الآية تقديم وتأخير.

والثالث: أنه راجع إلى اتباع الشيطان، فتقديره: لاتبعتم الشيطان إلا قليلا منكم، وهذا قول الضحاك، واختاره الزجاج. وقال بعض العلماء: المعنى: لولا فضل اللّه بارسال النبي إليكم، لضللتم إلا قليلا منكم كانوا يستدركون بعقولهم معرفة اللّه، ويعرفون ضلال من يعبد غيره، كقس بن ساعدة.

٨٤

قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللّه} سبب نزولها: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما ندب الناس لموعد أبي سفيان ببدر الصغرى بعد أحد، كره بعضهم ذلك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.

وفي «فاء» «فقاتل» قولان.

احدهما: أنه جواب قوله {وَمَن يُقَـٰتِلْ فِى سَبِيلِ ٱللّه فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ}.

والثاني: أنها متصلة بقوله {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِ ٱللّه} ذكرهما ابن السري. والمراد بسبيل اللّه: الجهاد. قوله تعالى:

{لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} أي: إلا المجاهدة بنفسك. و«حرض» بمعنى حضض. قال الزجاج: ومعنى «عسى» في اللغة: معنى الطمع والإشفاق. والإطماع من اللّه واجب. و«البأس»: الشدة. وقال ابن عباس: واللّه أشد عذابا. قال قتادة: و«التنكيل» العقوبة.

٨٥

قوله تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَـٰعَةً حَسَنَةً}

في المراد بالشفاعة أربعة أقوال.

احدها: أنها شفاعة الإنسان للانسان، ليجتلب له نفعا، أو يخلصه من بلاء، وهذا قول الحسن، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد.

والثاني: أنها الإصلاح بين اثنين، قاله ابن السائب.

والثالث: أنه الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، ذكره الماوردي.

والرابع: أن المعنى: من يصر شفعا لوتر أصحابك يا محمد، فيشفعهم في جهاد عدوهم وقتالهم في سبيل اللّه، قاله ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي.

وفي الشفاعة السيئة ثلاثة أقوال.

احدها: أنها السعي بالنميمة، قاله ابن السائب، ومقاتل.

والثاني: أنها الدعاء على المؤمنين والمؤمنات، وكانت اليهود تفعله، ذكره الماوردي.

والثالث: أن المعنى: من يشفع وتر أهل الكفر، فيقاتل المؤمنين، قاله ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي. قال الزجاج: و«الكفل» في اللغة: النصيب، وأخذ من قولهم: اكتفلت البعير: إذ أدرت على سنامه، أو على موضع من ظهره كساء، وركبت عليه. وإنما قيل له: كفل، لأنه لم يستعمل الظهر كله، وإنما استعمل نصيبا منه.

وفي «المقيت» سبعة أقوال.

احدها: أنه المقتدر، قال أحيحة بن الجلاح: وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتاوإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، وابن جرير، والسدي، وابن زيد، والفراء، وأبو عبيد، وابن قتيبة، والخطابي.

والثاني: أنه الحفيظ، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والزجاج. وقال: هو بالحفيظ أشبه، لأنه مشتق من القوت، يقال: قت الرجل أقوته قوتا: إذا حفظت عليه نفسه بما يقوته والقوت: اسم الشيء الذي يحفظ نفسه [ولا فضل فيه على قدر الحفظ] فمعنى المقيت: الحافظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة من الحفظ.

قال الشاعر:

ألي الفضل أم علي إذا حو سبت إني على الحساب مقيت

والثالث: أنه الشهيد رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد، واختاره أبو سليمان الدمشقي.

والرابع: أنه الحسيب، رواه خصيف عن مجاهد.

والخامس: الرقيب، رواه أبو شيبة عن عطاء.

والسادس: الدائم، رواه ابن جريج عن عبد اللّه بن كثير.

والسابع: أنه معطي القوت، قاله مقاتل بن سليمان. وقال الخطابي: المقيت يكون بمعنى معطي القوت، قال الفراء: يقال: قاته وأقاته.

٨٦

قوله تعالى: {وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ} في التحية قولان.

احدهما: أنها السلام، قاله ابن عباس، والجمهور.

والثاني: الدعاء، ذكره ابن جرير والماوردي. فأما «أحسن منها» فهو الزيادة عليها، وردها: قول مثلها. قال الحسن: إذا قال أخوك المسلم: السلام عليكم، فرد السلام، وزد: ورحمة اللّه. أو رد ما قال ولا تزد. وقال الضحاك: إذا قال: السلام عليك، قلت: وعليكم السلام ورحمة اللّه. وإذا قال السلام عليكم ورحمة اللّه، قلت: وعليكم السلام، ورحمة اللّه وبركاته، وهذا منتهى السلام. وقال قتادة: بأحسن منها للمسلم، أو ردوها على أهل الكتاب.

٨٧

قوله تعالى: {ٱللّه لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ} قال مقاتل: نزلت في الذين شكوا في البعث. قال الزجاج: وللام في «ليجمعنكم» لام القسم، كقولك: واللّه ليجمعنكم، قال: وجائز أن تكون سميت القيامة، لقيام الناس من قبورهم، وجائز أن تكون، لقيامهم للحساب. قوله تعالى:

{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللّه حَدِيثاً} إنما وصف نفسه بهذا لأن جميع الخلق يجوز عليهم الكذب، ويستحيل في حقه.

٨٨

قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِى ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِئَتَيْنِ} في سبب نزولها سبعة أقوال.

احدها: أن قوما أسلموا، فأصابهم وباء بالمدينة وحماها، فخرجوا فاستقبلتهم نفر من المسلمين، فقالوا: ما لكم خرجتم؟ قالوا: أصابنا وباء بالمدينة، واجتويناها، فقالوا: أما لكم في رسول اللّه أسوة؟

فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه.

والثاني: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما خرج إلى أحد، رجع ناس ممن خرج معه، فافترق فيهم أصحاب رسول اللّه ففرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا نقتلهم فنزلت هذه الآية، هذا في الصحيحين من قول زيد بن ثابت.

والثالث: أن قوما كانوا بمكة تكلموا بالإسلام وكانوا يعاونون المشركين، فخرجوا من مكة لحاجة لهم، فقال قوم من المسلمين: اخرجوا إليهم، فاقتلوهم، فانهم يظاهرون عدوكم. وقال قوم: كيف نقتلهم وقد تكلموا بمثل ما تكلمنا به؟ فنزلت هذه الآية، رواه عطية، عن ابن عباس.

والرابع: أن قوما قدموا المدينة فأظهروا الإسلام، ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك، فنزلت هذه الآية، هذا قول الحسن، ومجاهد.

والخامس: أن قوما أعلنوا الإيمان بمكة وامتنعوا من الهجرة، فاختلف المؤمنون فيهم، فنزلت هذه الآية، وهذا قول الضحاك.

والسادس: أن قوما من المنافقين أرادوا الخروج من المدينة فقالوا للمؤمنين: إنه قد أصابتنا أوجاع في المدينة، فلعلنا نخرج فنتماثل، فانا كنا أصحاب بادية، فانطلقوا

واختلف فيهم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية. هذا قول السدي.

والسابع: أنها نزلت في شأن ابن أبي حين تكلم، في عائشة بما تكلم وهذا قول ابن زيد. وقوله تعالى:

{فَمَا لَكُمْ} خطاب للمؤمنين. والمعنى: أي شيء لكم في الاختلاف في أمرهم؟ و«الفئة» الفرقة.

وفي معنى «أركسهم» أربعة أقوال.

احدها: ردهم، رواه عطاء، عن ابن عباس. قال ابن قتيبة: ركست الشيء، وأركسته: لغتان، أي: نكسهم وردهم في كفرهم، وهذا قول الفراء، والزجاج.

والثاني: أوقعهم، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس.

والثالث: أهلكهم، قاله قتادة.

والرابع: أضلهم، قاله السدي. فأما الذي كسبوا، فهو كفرهم، وارتدادهم. قال أبو سليمان: إنما قال: أتريدون أن تهدوا من أضل اللّه، لأن قوما من المؤمنين قالوا: إخواننا، وتكلموا بكلمتنا. قوله تعالى:

{فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} فيه قولان.

احدهما: إلى الحجة، قاله الزجاج.

والثاني: إلى الهدى، قاله أبو سليمان الدمشقي.

٨٩

قوله تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ} أخبر اللّه عز وجل المؤمنين بما في ضمائر تلك الطائفة، لئلا يحسنوا الظن بهم، ولايجادلوا عنهم، وليعتقدوا عداوتهم. قوله تعالى:

{فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء} أي لا توالوهم فانهم أعداء لكم

{حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ} أي: يرجعوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، قال ابن عباس: فان تولوا عن الهجرة والتوحيد،

{فَخُذُوهُمْ} أي: ائسروهم، واقتلوهم حيث وجدتموهم في الحل والحرم.

فصل قال القاضي أبو يعلى: كانت الهجرة فرضا إلى أن فتحت مكة، وقال الحسن: فرض الهجرة باق، واعلم أن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:

احدها: من تجب عليه، وهو الذي لا يقدر على إظهار الإسلام في دار الحرب، خوفا على نفسه، وهو قادر على الهجرة، فتجب عليه لقوله {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللّه وٰسِعَةً فَتُهَـٰجِرُواْ فِيهَا}.

والثاني: من لا تجب عليه بل تستحب له، وهو من كان قادرا على إظهار دينه في دار الحرب.

والثالث: من لا تستحب له وهو الضعيف الذي لا يقدر على إظهار دينه، ولا على الحركة كالشيخ الفاني والزمن فلم تستحب له للحوق المشقة.

٩٠

قوله تعالى: {إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ} هذا الاستثناء راجع إلى القتل، لا إلى الموالاة.

وفي «يصلون» قولان.

احدهما: أنه بمعنى يتصلون ويلجؤون. قال ابن عباس: كان هلال بن عويمر الأسلمي وادع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه. فكان من وصل إلى هلال من قومه وغيرهم فلهم من الجوار مثل ما لهلال.

والثاني: أنه بمعنى ينتسبون قاله ابن قتيبة،

وأنشد.

إذا اتصلت قالت أبكر بن وائل  وبكر سبتها والأنوف رواغم

يريد: إذا انتسبت قالت: أبكرا، أي: يا آل بكر.

وفي القوم المذكورين أربعة أقوال.

احدها: أنهم بنو بكر بن زيد مناة، قاله ابن عباس.

والثاني: أنهم هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف، قاله عكرمة.

والثالث: أنهم بنو مدلج قاله الحسن.

والرابع: خزاعة وبنو مدلج، قاله مقاتل. قال ابن عباس: و«الميثاق»: العهد.

قوله تعالى: {أَوْ} فيه قولان.

احدهما: أن معناه: أو يصلون إلى قوم جاؤوكم، قاله الزجاج في جماعة.

والثاني: أنه يعود إلى المطلوبين للقتل، فتقديره: أو رجعوا فدخلوا فيكم، وهو بمعنى قول السدي. قوله تعالى:

{جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} فيه قولان.

احدهما: أن فيه إضمار «قد».

والثاني: أنه خبر بعد خبر، فقوله {جاؤوكم}: خبر قد تم، وحصرت: خبر مستأنف، حكاهما الزجاج.

وقرأ الحسن، ويعقوب، والمفضل، عن عاصم: {تُخْفِى صُدُورُهُمْ} على الحال. و«حصرت»: ضاقت، ومعنى الكلام: ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم، أو يقاتلوا قومهم، يعني قريشا. قال مجاهد: هلال بن عويمر هو الذي حصر صدره أن يقاتلكم، أو يقاتل قومه. قوله تعالى:

{وَلَوْ شَاء ٱللّه لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} قال الزجاج: أخبر أنه إنما كفهم بالرعب الذي قذف في قلوبهم.

وفي «السلم» قولان.

احدهما: أنه الإسلام، قاله الحسن.

والثاني: الصلح، قاله الربيع، ومقاتل. فصل قال جماعة من المفسرين: معاهدة المشركين وموادعتهم المذكورة في هذه الآية منسوخة بآية السيف. قال القاضي أبو يعلى: لما أعز اللّه الإسلام أمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف.

٩١

قوله تعالى: {سَتَجِدُونَ ءاخَرِينَ} اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال.

احدها: أنها نزلت في أسد وغطفان، كانوا قد تكلموا بالإسلام ليأمنوا المؤمنين بكلمتهم، ويأمنوا قومهم بكفرهم، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.

والثاني: أنها نزلت في بني عبد الدار، رواه الضحاك، عن ابن عباس.

والثالث: أنها نزلت في قوم أرادوا أخذ الأمان من النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقالوا: لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا، قاله قتادة.

والرابع: أنها نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي، كان يأمن في المسلمين والمشركين فينقل الحديث بين النبي عليه السلام وبينهم، ثم أسلم نعيم، هذا قول السدي. ومعنى الآية: ستجدون قوما يظهرون الموافقة لكم ولقومهم، ليأمنوا الفريقين، كلما دعوا إلى الشرك، عادوا فيه، فان لم يعتزلوكم في القتال، ويلقوا إليكم الصلح، و يكفوا أيديهم عن قتالكم، فخذوهم، أي: ائسروهم، واقتلوهم حيث أدركتموهم، وأولائكم جعلنا لكم عليهم حجة بينة في قتلهم.

فصل

قال أهل التفسير: والكف عن هؤلاء المذكورين في هذه الآية منسوخ بآية السيف.

٩٢

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ} في سبب نزولها: قولان.

احدهما: أن عياش بن أبي ربيعة أسلم بمكة قبل هجرة رسول اللّه، ثم خاف أن يظهر إسلامه لقومه، فخرج إلى المدينة فقالت أمه لابنيها أبي جهل، والحارث ابني هشام، وهما أخواه لأمه: واللّه لا يظلني سقف، ولا أذوق طعام ولا شرابا حتى تأتياني به. فخرجا في طلبه، ومعهما الحارث بن زيد، حتى أتوا عياشا وهو متحصن في أطم، فقالوا له: انزل فان أمك لم يؤوها سقف، ولو تذق طعاما، ولا شرابا، ولك علينا أن لا نحول بينك وبين دينك، فنزل، فأوثقوه، وجلده كل واحد منهم مائة جلدة، فقدموا به على أمه، فقالت: واللّه لا أحلك من وثاقك حتى تكفر، فطرح موثقا في الشمس حتى أعطاهم ما أرادوا، فقال له الحارث بن زيد: يا عياش لئن كان ما كنت عليه هدى لقد تركته، وإن كان ضلالا لقد ركبته. فغضب، وقال: واللّه لا ألقاك خاليا إلا قتلتك، ثم أفلت عياش بعد ذلك، وهاجر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة، ثم أسلم الحارث بعده، وهاجر ولم يعلم عياش، فلقيه يوما فقتله، فقيل له: إنه قد أسلم، فجاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره بما كان، وقال: لم أشعر باسلامه، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. وهو قول سعيد بن جبير، والسدي، والجمهور.

والثاني: أن أبا الدرداء قتل رجلا قال لا إله إلا اللّه في بعض السرايا، ثم أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فذكر له ما صنع فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن زيد. قال الزجاج: معنى الآية: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا البتة. والاستثناء ليس من الأول، وإنماالمعنى: إلا أن يخطى المؤمن.

وروى أبو عبيدة، عن يونس: أنه سأل رؤبة عن هذه الآية، فقال: ليس له أن يقتله عمدا ولا خطأ، ولكنه أقام «إلا» مقام «الواو»

قال الشاعر:

وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان

أراد: والفرقدان. وقال بعض أهل المعاني: تقدير الآية: لكن قد يقتله خطأ، وليس ذلك فيما جعل اللّه له، لأن الخطأ لا تصح فيه الإباحة، ولا النهي. وقيل: إنما وقع الاستثناء على ما تضمنته الآية من استحقاق الاثم، وإيجاب القتل. قوله تعالى:

{خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} قال سعيد بن جبير: عتق الرقبة واجب على القاتل في ماله، واختلفوا في عتق الغلام الذي لا يصح منه فعل الصلاة والصيام، فروي عن احمد جوازه، وكذلك روى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهذا قول عطاء، ومجاهد.

وروي عن احمد: لا يجزئ إلا من صام وصلى، وهو قول ابن عباس. في رواية، والحسن، والشعبي، وإبراهيم، وقتادة. قوله تعالى:

{وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ} قال القاضي أبو يعلى: ليس في هذه الآية بيان من تلزمه هذه الدية، واتفق الفقهاء على أنها عاقلة القاتل، تحملها عنه على طريق المواساة، وتلزم العاقلة في ثلاث سنين. كل سنة ثلثها. والعاقلة: العصبات من ذوي الأنساب، ولا يلزم الجاني منها شيء، وقال أبو حنيفة: هو كواحد من العاقلة.وللنفس ستة أبدال: من الذهب ألف دينار، ومن الورق اثنا عشر ألف درهم، ومن الإبل مائة، ومن البقر مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة، وفي الحلل روايتان عن احمد.

إحداهما: أنها أصل، فتكون مائتا حلة، فهذه دية الذكر الحر المسلم، ودية الحرة المسلمة على النصف من ذلك. قوله تعالى:

{إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} قال سعيد بن جبير: إلا أن يتصدق أولياء المقتول بالدية على القاتل. قوله تعالى:

{فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ} فيه قولان.

احدهما: أن معناه: وإن كان المقتول خطأ من قوم كفار، ففيه تحرير رقبة من غير دية، لأن أهل ميراثه كفار.

والثاني: وإن كان مقيما بين قومه، فقتله من لا يعلم بايمانه، فعليه تحرير رقبة ولا دية، لأنه ضيع نفسه باقامته مع الكفار، والقولان مرويان عن ابن عباس، وبالأول قال النخعي، وبالثاني سعيد بن جبير، وعلى الأول تكون «من» للتبعيض، وعلى الثاني تكون بمعنى في. قوله تعالى:

{وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ} فيه قولان.

احدهما: أنه الرجل من أهل الذمة يقتل خطأ، فيجب على قاتله الدية، والكفارة، هذا قول ابن عباس، والشعبي، وقتادة، والزهري، وأبي حنيفة، والشافعي: ولأصحابنا تفصيل في مقدار ما يجب من الدية.

والثاني: أنه المؤمن يقتل، وقومه مشركون، ولهم عقد، فديته لقومه، وميراثه للمسلمين، هذا قول النخعي. قوله تعالى:

{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} اختلفوا هل هذا الصيام بدل من الرقبة وحدها إذا عدمها أو بدل من الرقبة والدية؟ فقال الجمهور: عن الرقبة وحدها وقال مسروق، ومجاهد، وابن سيرين: عنهما. واتفق العلماء على أنه إذا تخلل صوم الشهرين إفطار لغير عذر، فعليه الابتداء، فأما إذا تخللّها المرض، أو الحيض، فعندنا لا ينقطع التتابع، وبه قال مالك.

وقال أبو حنيفة: المرض يقطع، والحيض لا يقطع، وفرق بينهما بأنه يمكن في العادة صوم شهرين بلا مرض، ولا يمكن ذلك في الحيض، وعندنا أنها معذورة في الموضعين. قوله تعالى:

{تَوْبَةً مّنَ ٱللّه} قال الزجاج: معناه فعل اللّه ذلك توبة منه. قوله {وَكَانَ ٱللّه عَلِيماً} أي: لم يزل عليما بما يصلح خلقه من التكليف {حَكِيماً} فيما يقضي بينهم، ويدبره في أمورهم.

٩٣

قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً} سبب نزولها: أن مقيس بن صبابة وجد أخاه هشام بن صبابة قتيلا في بني النجار، وكان مسلما، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك له، فأرسل رسول اللّه رسولا من بني فهر، فقال له: إيت بني النجار، فأقرئهم مني السلام، وقل لهم: إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام، فادفعوه إلى مقيس بن صبابة، وإن لم تعلموا له قاتلا، فادفعوا إليه ديته، فأبلغهم الفهري ذلك، فقالوا: واللّه ما نعلم له قاتلا، ولكنا نعطي ديته، فأعطوه مائة من الإبل، ثم انصرفا راجعين إلى المدينة، فأتى الشيطان مقيس بن صبابة، فقال: تقبل دية أخيك، فيكون عليك سبة ما بقيت. اقتل الذي معك مكان أخيك، وافضل بالدية، فرما الفهري بصخرة فشدخ رأسه، ثم ركب بعيرا منها، وساق بقيتها راجعا إلى مكة، وهو يقول: قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع وأدركت ثأري واضطجعت موسدا وكنت إلى الأصنام أول راجع فنزلت هذه الآية، ثم أهدر النبي صلى اللّه عليه وسلم دمه يوم الفتح، فقتل، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.

وفي قوله {مُّتَعَمّداً} قولان.

احدهما: متعمدا لأجل أنه مؤمن. قاله سعيد بن جبير.

والثاني: متعمدا لقتله، ذكره بعض المفسرين. وفي قوله {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} قولان.

احدهما: أنها جزاؤه قطعا.

والثاني: أنها جزاؤه إن جازاه.

واختلف العلماء هل للمؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا توبة أم لا؟ فذهب الأكثرون إلى أن له توبة وذهب ابن عباس إلى أنه لا توبة له.

فصل

اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة؟ فقال قوم: هي محكمة، واحتجوا بأنها خبر، والأخبار لا تحتمل النسخ، ثم افترق هؤلاء فرقتين،

إحداهما قالت: هي على ظاهرها، وقاتل المؤمن مخلد في النار. والفرقة

الثانية قالت: هي عامة قد دخلها التخصيص بدليل أنه لو قتله كافر، ثم اسلم الكافر، انهدرت عنه العقوبة في الدنيا والآخرة، فاذا ثبت كونها من العام المخصص، فأي دليل صلح للتخصيص، وجب العمل به. ومن أسباب التخصيص ان يكون قتله مستحلا، فيستحق الخلود لاستحلاله. وقال قوم: هي مخصوصة في حق من لم يتب، واستدلوا بقوله تعالى في الفرقان: {إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـٰلِحاً فَأُوْلَـئِكَ يُبَدّلُ ٱللّه سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ وَكَانَ ٱللّه غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: ٧٠].

وقال آخرون: هي منسوخة بقوله: {إِنَّ ٱللّه لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: ٤٨].

٩٤

قوله تعالى: {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللّه فَتَبَيَّنُواْ} في سبب نزولها أربعة أقوال.

احدها: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث سرية فيها المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم، وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللّه، فأهوى إليه المقداد فقتله. فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلا يشهد أن لا إله إلا اللّه لأذكرن ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم، فلما قدموا على النبي صلى اللّه عليه وسلم قالوا: يا رسول اللّه إن رجلا شهد أن لا إله إلا اللّه، فقتله المقداد، فقال: ادعوا لي المقداد فقال: يا مقداد أقتلت رجلا قال: لا إله إلا اللّه، فكيف لك ب «لا إله إلا اللّه غدا». قال: فأنزل اللّه {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللّه ... كَذٰلِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ ٱللّه عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ} فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للمقداد: كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار، فأظهر إيمانه فقتلته؟ وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.

والثاني: أن رجلا من بني سليم مر على نفر من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ومعه غنم، فسلم، فقالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوذ [منا] فعمدوا إليه فقتلوه، وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية رواه عكرمة. عن ابن عباس.

والثالث: أن قوما من أهل مكة سمعوا بسرية لرسول اللّه أنها تريدهم فهربوا، وأقام رجل منهم كان قد أسلم، يقال له: مرداس، وكان على السرية رجل، يقال له: غالب بن فضالة، فلما رأى مرداس الخيل، كبر، ونزل إليهم، فسلم عليهم، فقتله أسامة بن زيد، واستاق غنمه، ورجعوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبروه، فوجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من ذلك وجدا شديدا، ونزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال السدي: كان أسامة أمير السرية.

والرابع: أن رسول اللّه بعث أبا حدرد الأسلمي، وأبا قتادة، ومحلم بن جثامة في سرية إلى إضم، فلقوا عامر بن الأضبط الأشجعي، فحياهم بتحية الإسلام، فحمل عليه محلم بن جثامة، فقتله، وسلبه بعيرا وسقاء. فلما قدموا على النبي صلى اللّه عليه وسلم، أخبروه فقال: أقتلته بعد ما قال آمنت؟ٰ ونزلت هذه الآية. رواه ابن أبي حدرد، عن أبيه.

فأما التفسير، فقوله {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ ٱللّه} أي: سرتم وغزوتم. وقوله

{فَتَبَيَّنُواْ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وعاصم، وابن عامر: فتبينوا بالنون من التبيين للأمر قبل الإقدام عليه. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف {فتثبتوا} بالثاء من الثبات وترك الاستعجال، وكذلك قرؤوا في {وَرَاء ٱلْحُجُرٰتِ}. قوله تعالى:

{لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَـٰمَ} قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وأبو بكر، وحفص، عن عاصم، والكسائي: «السلام» بالألف مع فتح السين. قال الزجاج: يجوز أن يكون بمعنى التسليم، ويجوز أن يكون بمعنى الاستسلام.

وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، وخلف، وجبلة عن المفضل عن عاصم: {ٱلسَّلَـٰمِ} بفتح السين واللام من غير ألف، وهو من الاستسلام.

وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم: بكسر السين وإسكان اللام من غير ألف. و«السلم»: الصلح.

وقرأ الجمهور: لست مؤمنا، بكسر الميم،

وقرأ علي، وابن عباس، وعكرمة، وأبو العالية، ويحيى بن يعمر، وأبو جعفر: بفتح الميم من الأمان. قوله تعالى:

{تَبْتَغُونَ عَرَضَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا} و«عرضها» ما فيها من مال، قل أو كثر.

قال المفسرون: والمراد به: ما غنموه من الرجل الذي قتلوه. قوله تعالى:

{فَعِنْدَ ٱللّه مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} فيه قولان.

احدهما: أنه ثواب الجنة، قاله مقاتل.

والثاني: أنها أبواب الرزق في الدنيا، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى:

{كَذٰلِكَ كُنتُمْ مّن قَبْلُ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أن معناه: كذلك كنتم تأمنون من قومكم المؤمنين بهذه الكلمة، فلا تخيفوا من قالها، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: كذلك كنتم تخفون إيمانكم بمكة كما كان هذا يخفي إيمانه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.

والثالث: كذلك كنتم من قبل مشركين، قاله مسروق، وقتادة، وابن زيد. قوله تعالى:

{فَمَنَّ ٱللّه عَلَيْكُمْ} في الذي من به أربعة أقوال.

احدها: الهجرة، قاله ابن عباس.

والثاني: إعلان الإيمان، قاله سعيد بن جبير.

والثالث: الإسلام، قاله قتادة، ومسروق.

والرابع: التوبة على الذي قتل ذلك الرجل، قاله السدي. قوله تعالى:

{فَتَبَيَّنُواْ} تأكيد للأول.

٩٥

قوله تعالى: {لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} قال أبو سليمان الدمشقي: نزلت هذه الآية من أجل قوم كانوا إذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود. وقال زيد بن ثابت: إني لقاعد إلى جنب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، إذ غشيته السكينة، ثم سري عنه، فقال: «اكتب»

{لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون} الآية. فقام ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول اللّه، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد؟ فواللّه ما قضى كلامه حتى غشيت رسول اللّه السكينة، ثم سري عنه، فقال: اقرأ فقرأت لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: {غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ} فألحقها.

قوله تعالى: {لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ} يعني عن الجهاد، والمعنى: أن المجاهد أفضل. قال ابن عباس: وأريد بهذا الجهاد غزوة بدر. وقال مقاتل: غزاة تبوك. قوله تعالى:

{غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ} قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وحمزة: {غَيْرِ} برفع الراء، وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وخلف، والمفضل: بنصبها. قال أبو علي: من رفع الراء، جعل «غير» صفة للقاعدين، ومن نصبها، جعلها استثناء من القاعدين.

وفي «الضرر» قولان.

احدهما: أنه العجز بالزمانة والمرض، ونحوهما. قال ابن عباس: هم قوم كانت تحبسهم عن الغزاة أمراض وأوجاع. وقال ابن جبير، وابن قتيبة: هم أولو الزمانة. وقال الزجاج: الضرر: أن يكون ضريرا أو أعمى أو زمنا.

والثاني: أنه العذر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. قوله تعالى:

{فَضَّلَ ٱللّه ٱلْمُجَـٰهِدِينَ بِأَمْوٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى ٱلْقَـٰعِدِينَ دَرَجَةً} في هؤلاء القاعدين قولان.

احدهما: أنهم القاعدون بالضرر، قاله ابن عباس، ومقاتل.

والثاني: القاعدون من غير ضرر، قاله أبو سليمان الدمشقي. قال ابن جرير: والدرجة: الفضيلة. فأما الحسنى فهي الجنة في قول الجماعة. قوله تعالى:

{وَفَضَّلَ ٱللّه ٱلْمُجَـٰهِدِينَ عَلَى ٱلْقَـٰعِدِينَ} قال ابن عباس: القاعدون هاهنا: غير أولي الضرر، وقال سعيد بن جبير: هم الذين لا عذر لهم.

٩٦

قوله تعالى: {دَرَجَـٰتٍ مّنْهُ} قال الزجاج: درجات في موضع نصب بدلا من قوله أجرا عظيما، وهو مفسر للأجر.

وفي المراد بالدرجات قولان.

احدهما: أنها درجات الجنة، قال ابن محيريز: الدرجات: سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة، وإلى نحوه ذهب مقاتل.

والثاني: أن معنى الدرجات: الفضائل، قاله سعيد بن جبير. قال قتادة: كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة. وقال ابن زيد:

الدرجات: هي السبع التي ذكرها اللّه تعالى في براءة حين قال: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ..... إلى قوله: ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم...} [التوبة: ١٢٠، ١٢١]

فان قيل ما الحكمة في أن اللّه تعالى ذكر في أول الكلام درجة،

وفي آخره درجات؟ فعنه جوابان.

احدهما: أن الدرجة الأولى تفضيل المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر منزلة. والدرجات: تفضيل المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر منازل كثيرة، وهذا معنى قول ابن عباس.

والثاني: أن الدرجة الأولى درجة المدح والتعظيم، والدرجات: منازل الجنة، ذكره القاضي أبو يعلى.

٩٧

قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ ظَـٰلِمِى أَنفُسِهِمْ}

في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن أناسا كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام، فلما خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى بدر لم تدع قريش أحدا إلا أخرجوه معهم، فقتل أولئك الذين أقروا بالإسلام، فنزلت فيهم هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال قتادة: نزلت في أناس تكلموا بالإسلام فخرجوا مع أبي جهل، فقتلوا يوم بدر، واعتذروا بغير عذر، فأبى اللّه أن يقبل منهم.

والثاني: أن قوما نافقوا يوم بدر، وارتابوا، وقالوا: غر هؤلاء دينهم وأقاموا مع المشركين حتى قتلوا: فنزلت فيهم هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثالث: أنها نزلت في قوم تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولم يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي، ضربت الملائكة وجهه ودبره، رواه العوفي عن ابن عباس.

وفي «التوفي» قولان.

احدهما: أنه قبض الأرواح بالموت، قاله ابن عباس، ومقاتل.

والثاني: الحشر إلى النار، قاله الحسن. قال مقاتل:

والمراد بالملائكة ملك الموت وحده. وقال في موضع آخر: ملك الموت وأعوانه، وهم ستة ثلاثة، يلون أرواح المؤمنين، وثلاثة يلون أرواح الكفار. قال الزجاج:

«ظالمي أنفسهم» نصب على الحال، والمعنى: تتوفاهم في حال ظلمهم أنفسهم، والأصل. ظالمين، لأن النون حذفت استخفافا. فأما ظلمهم لأنفسهم، فيحتمل على ما ذكر في قصتهم أربعة أقوال.

احدها: أنه ترك الهجرة.

والثاني: رجوعهم إلى الكفر.

والثالث: الشك بعد اليقين.

والرابع: إعانة المشركين. قوله تعالى:

{فِيمَ كُنتُمْ} قال الزجاج: هو سؤال توبيخ، والمعنى: كنتم في المشركين أو في المسلمين. قوله تعالى:

{قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلاْرْضِ} قال مقاتل: كنا مقهورين في أرض مكة، لا نستطيع أن نذكر الإيمان، قالت الملائكة:

{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللّه وٰسِعَةً} يعني المدينة

{فَتُهَـٰجِرُواْ فِيهَا} يعني:إليها. وقول الملائكة لهم يدل على أنهم كانوا يستطيعون الهجرة.

٩٨

قوله تعالى: {إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ} سبب نزولها: أن المسلمين قالوا في حق المستضعفين من المسلمين بمكة: هؤلاء بمنزلة الذين قتلوا ببدر، فنزلت هذه الآية. قاله مجاهد.

قال الزجاج: «المستضعفين» نصب على الاستثناء من قوله:

{مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} قال أبو سليمان: «المستضعفون» ذوو الأسنان، والنساء، والصبيان. قوله تعالى:

{لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} أي: لا يقدرون على حيلة في الخروج من مكة ولا على نفقة، ولا قوة. وفي قوله تعالى:

{وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} قولان.

احدهما: أنهم لا يعرفون الطريق إلى المدينة، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد.

والثاني: أنهم لا يعرفون طريقا يتوجهون إليه، فان خرجوا هلكوا، قاله ابن زيد.

٩٩

وفي «عسى» قولان.

احدهما: أنها بمعنى الإيجاب، قاله الحسن.

والثاني: أنها بمعنى الترجي. فالمعنى: أنهم يرجون العفو، قاله الزجاج.

١٠٠

قوله تعالى: {يَجِدْ فِى ٱلاْرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} قال سعيد بن جبير، ومجاهد: متزحزحا عما يكره. وقال ابن قتيبة: المراغم والمهاجر: واحد،يقال: راغمت وهاجرت، وأصله: أن الرجل كان إذا أسلم، خرج عن قومه مراغما، أي: مغاضبا لهم، ومهاجرا، أي: مقاطعا من الهجران، فقيل للمذهب: مراغم، وللمصير إلى النبي عليه السلام هجرة، لأنها كانت بهجرة الرجل قومه. قال الجعدي: عزيز المراغم والمذهب.

وفي السعة قولان

احدهما: أنها السعة في الزرق، قاله ابن عباس، والجمهور.

والثاني: التمكن من إظهار الدين، قاله قتادة. قوله تعالى:

{وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَـٰجِراً إِلَى ٱللّه وَرَسُولِهِ} اتفقوا على أنه نزل في رجل خرج مهاجرا، فمات في الطريق،

واختلفوا فيه على ستة أقوال.

احدها: أنه ضمرة بن العيص، وكان ضريرا موسرا، فقال: احملوني فحمل، وهو مريض، فمات عند التنعيم، فنزل فيه هذا الكلام، رواه سعيد بن جبير.

والثاني: أنه العيص بن ضمرة بن زنباع الخزاعي أمر أهله أن يحملوه على سريره، فلما بلغ التنعيم، مات فنزلت فيه هذه الآية، رواه أبو بشر عن سعيد ابن جبير.

والثالث: أنه ابن ضمرة الجندعي مرض، فقال لبنيه، أخرجوني من مكة، فقد قتلني غمها، فقالوا: أين؟ فأومأ بيده نحو المدينة، يريد الهجرة، فخرجوا به، فمات في الطريق، فنزل فيه هذا، ذكره ابن إسحاق. وقال مقاتل: هو جندب بن ضمرة.

والرابع: أن اسمه سبرة، فلما نزل قوله: {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ ظَـٰلِمِى أَنفُسِهِمْ} إلى قوله {مُرَاغَماً كَثِيراً} قال لأهله وهو مريض: احملوني، فاني موسر، ولي من المال ما يبلغني إلى المدينة، فلما جاوز، الحرم مات. فنزل فيه هذا، قاله قتادة.

والخامس: أنه رجل من بني كنانة هاجر، فمات في الطريق، فسخر منه قومه، فقالوا: لا هو بلغ ما يريد، ولا أقام في أهله حتى يدفن، فنزل فيه هذا، قاله ابن زيد.

والسادس: أنه خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام، خرج مهاجرا، فمات في الطريق، ذكره الزبير بن بكار، وقوله: «وقع» معناه: وجب.

١٠١

قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاْرْضِ ...} روى مجاهد عن أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، قال: فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غرة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر فيما بين الظهر والعصر. والضرب في الأرض: السفر، والجناح: الإثم، والقصر: النقص، والفتنة: القتل.

وفي القصر قولان.

احدهما: أنه القصر من عدد الركعات.

والثاني: أنه القصر من حدودها. وظاهر الآية يدل على أن القصر لا يجوز إلا عند الخوف، وليس الأمر كذلك، وإنما نزلت الآية على غالب أسفار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو. وقيل: إن قوله {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاْرْضِ} كلام تام. وقوله:

{إِنْ خِفْتُمْ} كلام مبتدأ، ومعناه: وإن خفتم.

واختلف العلماء هل صلاة المسافر ركعتين مقصورة أم لا؟ فقال قوم: ليست مقصورة وإنما فرض المسافر ذلك، وهو قول ابن عمر، وجابر بن عبد اللّه، وسعيد بن جبير، والسدي، وأبي حنيفة، فعلى هذا القول قصر الصلاة أن تكون ركعة ولا يجوز ذلك إلا بوجود السفر والخوف، لأن عند هؤلاء أن الركعتين في السفر إذا لم يكن فيه خوف تمام غير قصر، واحتجوا بما روى ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم صلى بذي قرد، فصف الناس خلفه صفين، صفا خلفه، وصفا موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء، إلى مكان هؤلاء وجاء أولئك فصلى بهم ركعة، ولم يقضوا. وعن ابن عباس أنه قال: فرض اللّه الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.

والثاني: أنها مقصورة، وليست بأصل، وهو قول مجاهد، وطاووس، وأحمد، والشافعي. قال يعلى بن أمية: قلت لعمر بن الخطاب: عجبت من قصر الناس اليوم، وقد أمنوا، وإنما قال اللّه تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} فقال عمر: عجبت مما عجبت منه فذكرت ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: صدقة تصدق اللّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته.فصل وإنما يجوز للمسافر القصر إذا كان سفره مباحا، وبهذا قال مالك، والشافعي، وقال أبو حنيفة: يجوز له القصر في سفر المعصية. فأما مدة الإقامة التي إذا نواها أتم الصلاة، وإن نوى أقل منها، قصر، فقال أصحابنا: إقامة اثنين وعشرين صلاة.

وقال أبو حنيفة: خمسة عشر يوما. وقال مالك، والشافعي: اربعة أيام.

١٠٢

قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَوٰةَ} سبب نزولها: أن المشركين لما رأوا النبي صلى اللّه عليه وسلم، وأصحابه قد صلوا الظهر، ندموا إذ لم يكبوا عليهم، فقال بعضهم لبعض: دعوهم فان لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، يعنون العصر، فاذا قاموا فشدوا عليهم، فلما قاموا إلى صلاة العصر، نزل جبريل بهذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. قوله تعالى:

{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم، ولا يدل على أن الحكم مقصور عليه، فهو كقوله {خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: ١٠٣] وقال أبو يوسف: لا تجوز صلاة الخوف بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم، والهاء والميم من «فيهم» تعود على الضاربين في الأرض.

قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} أي: ابتدأتها، {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ} أي: لتقف. ومثله {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} [البقرة: ٢٠]

{وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ} فيهم قولان.

احدهما: أنهم الباقون، قاله ابن عباس.

والثاني: أنهم المصلون معه، ذكره ابن جرير. قال: وهذا السلاح كالسيف، يتقلده الإنسان، والخنجر يشده إلى ذراعه.

قوله تعالى: {فَإِذَا سَجَدُواْ} يعني المصلين معه {فَلْيَكُونُواْ} في المشار إليها قولان.

احدهما: أنهم طائفة التي لم تصل، أمرت أن تحرس الطائفة المصلية، وهذا معنى قول ابن عباس.

والثاني: أنهم المصلون معه أمروا إذا سجدوا أن ينصرفوا إلى الحرس.

واختلف العلماء كيف ينصرفون بعد السجود، فقال قوم: إذا أتموا مع الإمام ركعة أتموا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا وانصرفوا وقد تمت صلاتهم.

وقال آخرون: ينصرفون عن ركعة، واختلف هؤلاء،

فقال بعضهم: إذا صلوا مع الإمام ركعة وسلموا، فهي تجزئهم.

وقال آخرون منهم أبو حنيفة: بل ينصرفون عن تلك الركعة إلى الحرس وهم على صلاتهم، فيكونون في وجه العدو مكان الطائفة الأخرى التي لم تصل، وتأتي تلك الطائفة.

واختلفوا في الطائفة الأخرى، فقال قوم: إذا صلى بهم الإمام أطال التشهد حتى يقضوا الركعة الفائتة، ثم يسلم بها

وقال آخرون: بل يسلم هو عند فراغه من الصلاة بهم، فاذا سلم قضوا ما فاتهم،

وقال آخرون: بل يصلي بالطائفة الثانية ركعة ويسلم هو، ولا تسلم هي، بل ترجع إلى وجه العدو، ثم تجيء الأولى، فتقضي ما بقي من صلاتها وتسلم، وتمضي وتجيء الأخرى، فتتم صلاتها، وهذا مذهب أبي حنيفة. قوله تعالى:

{وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} قال ابن عباس: يريد الذين صلوا أولا. وقال الزجاج: يجوز أن يريد به الذين وجاه العدو، لأن المصلي غير مقاتل، ويجوز أن يكون الجماعة أمروا بحمل السلاح، لأنه أرهب للعدو، وأحرى أن لا يقدموا عليهم. و«الجناح»: الإثم، وهو من: جنحت: إذا عدلت عن المكان، وأخذت جانبا عن القصد. والمعنى: أنكم إذا وضعتم أسلحتكم لم تعدلوا عن الحق. قوله تعالى:

{إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ} قال ابن عباس: رخص لهم في وضع الأسلحة لثقلها على المريض وفي المطر، وقال: خذوا حذركم كي لا يتغفلوكم.

١٠٣

قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ} يعني صلاة الخوف، و«قضيتم» بمعنى: فزعتم. قوله تعالى:

{فَٱذْكُرُواْ ٱللّه} في هذا الذكر قولان.

احدهما: أنه الذكر للّه في غير الصلاة، وهذا قول ابن عباس، والجمهور قالوا: وهو التسبيح، والتكبير، والدعاء، والشكر.

والثاني: أنه الصلاة فيكون المعنى: فصلوا قياما، فان لم تستطيعوا فقعودا، لم تستطيعوا فعلى جنوبكم، هذا قول ابن مسعود.

وفي المراد بالطمأنينة قولان.

احدهما: أنه الرجوع إلى الوطن عن السفر، وهو قول الحسن، ومجاهد، وقتادة.

والثاني: أنه الأمن بعد الخوف، وهو قول السدي، والزجاج، وأبي سليمان الدمشقي. وفي إقامة الصلاة قولان.

احدهما: إتمامها، قاله مجاهد، وقتادة، والزجاج، وابن قتيبة.

والثاني: أنه إقامة ركوعها وسجودها، وما يجب فيها مما قد يترك في حالة الخوف، هذا قول السدي.

قوله تعالى: {كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَـٰباً مَّوْقُوتاً} أي: فرضا.

وفي «الموقوت» قولان.

احدهما: أنه بمعنى المفروض، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي، وابن زيد.

والثاني: أنه الموقت في أوقات معلومة، وهو قول ابن مسعود، وقتادة، وزيد ابن أسلم، وابن قتيبة.

١٠٤

قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِى ٱبْتِغَاء ٱلْقَوْمِ}

قال أهل التفسير: سبب نزولها: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر أصحابه لما انصرفوا من أحد أن يسيروا في أثر أبي سفيان وأصحابه، فشكوا ما بهم من الجراحات، فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: ومعنى«تهنوا» تضعفوا، يقال: وهن يهن: إذا ضعف، وكل ضعف فهو وهن.وابتغى القوم: طلبهم بالحرب. «والقوم» هاهنا: الكفار

{إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ} أي: توجعون، فانهم يجدون من الوجع بما ينالهم من الجراح والتعب، كما تجدون، وأنتم مع ذلك ترجون مالا يرجون،

وفي هذا الرجاء قولان.

احدهما: أنه الأمل، قاله مقاتل. قال الزجاج: وهو إجماع أهل اللغة الموثوق بعلمهم.

والثاني: أنه الخوف، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال الفراء: ولم يوجد الخوف بمعنى الرجاء إلا ومعه جحد، [فاذا كان كذلك كان الخوف على جهة الرجاء والخوف، وكان الرجاء كذلك] كقوله{مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للّه وَقَاراً} [نوح: ١٣] وقوله {لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللّه} [الجاثية:١٤] قال الشاعر: لا ترتجي حين تلاقي الزائدا أسبعة لاقت معا أم واحداوقال الهذلي: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عوامل ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك، ولا خفتك وأنت تريد رجوتك. قال الزجاج: وإنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف، لأنه أمل قد يخاف أن لا يتم، فعلى القول الأول يكون المعنى: ترجون النصر وإظهار دينكم والجنة. وعلى الثاني: تخافون من عذاب اللّه ما لا يخافون.

١٠٥

قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ} في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن طعمة بن أبيرق سرق درعا لقتادة بن النعمان، وكان الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتشر من خرق الجراب، حتى انتهى إلى الدار، ثم خبأها عند رجل من اليهود، فالتمست الدرع عند طعمة، فلم توجد عنده، وحلف: مالي بها علم، فقال أصحابها: بلى واللّه، لقد دخل علينا فأخذها، وطلبنا أثره حتى دخل داره، فرأينا أثر الدقيق، فلما حلف تركوه، واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه، فقال: دفعها إلي طعمة، فقال قوم طعمة: إنطلقوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وليجادل عن صاحبنا فانه بديء، فأتوه فكلموه في ذلك، فهم أن يفعل، وأن يعاقب اليهودي، فنزلت هذه الآيات كلها. رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: أن رجلا من اليهود استودع طعمة بن أبيرق درعا، فخانها، فلما خاف اطلاعهم عليها، ألقاها في دار أبي مليل الأنصاري، فجادل قوم طعمة عنه، وأتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم، فسألوه أن يبرئه، ويكذب اليهودي، فنزلت الآيات، هذا قول السدي، ومقاتل.

والثالث أن مشربة رفاعة بن زيد نقبت، وأخذ طعامه وسلاحه، فاتهم به بنو أبيرق، وكانوا ثلاثة بشير، ومبشر، وبشر، فذهب قتادة بن النعمان إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه إن أهل بيت منا فيهم جفاء نقبوا مشربة لعمي رفاعة بن زيد، وأخذوا سلاحه، وطعامه، فقال: أنظر في ذلك، فذهب قوم من قوم بني أبيرق إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: إن قتادة بن النعمان، وعمه، عمدوا إلى أهل بيت منا يرمونهم بالسرقة وهم أهل بيت إسلام وصلاح، فقال النبي لقتادة: رميتهم بالسرقة على غير بينةٰ فنزلت هذه الآيات. قاله قتادة بن النعمان.

والكتاب: القرآن. والحق: الحكم بالعدل.{لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ}: أي لتقضي بينهم.

وفي قوله{بِمَا أَرَاكَ ٱللّه} قولان.

احدهما: أنه الذي علمه، والذي علمه أن لا يقبل دعوى أحد على أحد إلا ببرهان.

والثاني: أنه ما يؤدي إليه اجتهاده، ذكره الماوردي. قوله تعالى:

{وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيماً} قال الزجاج: لا تكن مخاصما، ولا دافعا عن خائن.

واختلفوا هل خاصم عنه أم لا؟ على قولين.

احدهما: أنه قام خطيبا فعذره. رواه العوفي عن ابن عباس.

والثاني: أنه هم بذلك، ولم يفعله، قاله سعيد بن جبير، وقتادة. قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه، وهو غير عالم بحقيقة أمره، لأن اللّه تعالى عاتب نبيه على مثل ذلك.

١٠٦

قوله تعالى: {وَٱسْتَغْفِرِ ٱللّه} في الذي أمر بالاستغفار منه قولان.

احدهما: أنه القيام بعذره.

والثاني: أنه العزم على ذلك.

١٠٧

انظر تفسير الآية: ١٠٨

١٠٨

قوله تعالى: {وَلاَ تُجَـٰدِلْ عَنِ ٱلَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} أي: يخونون أنفسهم، فيجعلونها خائنة بارتكاب الخيانة، قال عكرمة: والمراد بهم: طعمة بن أبيرق، وقومه الذين جادلوا عنه. وفي حديث العوفي عن ابن عباس قال: انطلق نفر من عشيرة طعمة ليلا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: إن صاحبنا بديء. «والاستخفاء» الاستتار، والمعنى: يستترون من الناس لئلا يطلعوا على خيانتهم وكذبهم، ولا يستترون من اللّه، وهو معهم بالعلم. وكل ما فكر فيه، أو خيض فيه بليل، فقد بيت. وجمهور العلماء على أن المشار إليه بالاستخفاء والتبييت، قوم طعمة. والذي بيتوا: احتيالهم في براءة صاحبهم بالكذب. وقال الزجاج: هو السارق نفسه، والذي بيت أنه قال: أرمي اليهودي بأنه سارق الدرع، وأحلف أني لم أسرقها، فتقبل يميني، ولا تقبل يمين اليهودي.

١٠٩

قوله تعالى: {ها أَنتُمْ هَـٰؤُلاء جَـٰدَلْتُمْ عَنْهُمْ} قال الزجاج: «ها» للتنبيه، وأعيدت في أوله. والمعنى: ها أنتم الذين جادلتم. «والمجادلة، والجدال»: شدة المخاصمة، «والجدل» شدة الفتل. والكلام يعود إلى من احتج عن السارق. فأما قوله: «عنهم» فانه عائد إلى السارق. «وعليهم» بمعنى «لهم». والوكيل: القائم بأمر من وكله، فكأنه قال: من الذي يتوكل لهم منكم في خصومة ربهم؟ٰ

١١٠

قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} اختلفوا في نزولها على ثلاثة أقوال.

احدها: أنها نزلت خطابا للسارق، وعرضا للتوبة عليه. رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد، ومقاتل.

والثاني: أنها للذين جادلوا عنه من قومه، رواه العوفي عن ابن عباس.

والثالث: أنه عنى بها كل مسيء مذنب. ذكره أبو سليمان الدمشقي. وإطلاقها لا يمنع أن تكون نزلت على سبب.

وفي هذا السوء ثلاثة أقوال.

احدها: أنه السرقة.

والثاني: الشرك.

والثالث: أنه كل ما يأثم به.

وفي هذا الظلم قولان.

احدهما: أنه رمي البريء بالتهمة.

والثاني: ما دون الشرك.

١١١

قوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً} أي: ومن يعمل ذنبا

{فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ} يقول: إنما يعود وباله عليه. قاله مقاتل، وهذه في طعمة أيضا.

١١٢

قوله تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} جمهور العلماء على أنها نزلت متعلقة بقصة طعمة بن أبيرق. وقد روى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبد اللّه ابن أبي بن سلول إذ رمى عائشة عليها السلام بالإفك.

وفي قوله: {خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} أربعة أقوال.

احدها: أن «الخطيئة» يمين السارق الكاذبة، «والإثم»: سرقته الدرع، ورميه اليهودي، قاله ابن السائب.

والثاني: أن «الخطيئة» ما يتعلق به من الذنب، «والإثم»: قذفه البريء، قاله مقاتل.

والثالث: أن «الخطيئة» قد تقع عن عمد، وقد تقع عن خطأ، «والإثم»: يختص العمد. قاله ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي. وذكر الزجاج أن الخطيئة نحو قتل الخطأ الذي يرتفع فيه الإثم.

والرابع: أنه لما سمى اللّه عز وجل بعض المعاصي خطيئة، وبعضها إثما، أعلم أن من كسب ما يقع عليه أحد هذين الاسمين، ثم قذف به بريئا، فقد احتمل بهتانا، ذكره الزجاج أيضا فأما قوله:

{ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} أي: يقذف بما جناه بريئا منه.

فان قيل: الخطيئة والإثم اثنان، فكيف قال: به، فعنه أربعة أجوبة.

احدها: أنه أراد: ثم يرم بهما، فاكتفى باعادة الذكر على الاثم من إعادته على الخطيئة، كقوله: {ٱنفَضُّواْ إِلَيْهَا} فخص التجارة، والمعنى للتجارة واللّهو.

والثاني: أن الهاء تعود على الكسب، فلما دل ب «يكسب» على الكسب، كنى عنه.

والثالث: أن الهاء راجعة على معنى الخطيئة والإثم، كأنه قال: ومن يكسب ذنبا، ثم يرم به. ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري.

والرابع: ان الهاء تعود على الإثم خاصة، قاله ابن جرير الطبري.

وفي المراد بالبريء الذي قذفه هذا السارق قولان.

احدهما: أنه كان يهوديا، قاله ابن عباس، وعكرمة، وابن سيرين، وقتادة، وابن زيد، وسماه عكرمة، وقتادة: زيد بن السمير.

والثاني: أنه كان مسلما، روي عن ابن عباس، وقتادة بن النعمان، والسدي، ومقاتل. واختلفوا في ذلك المسلم، فقال الضحاك عن ابن عباس: هو عائشة لما قذفها ابن أبي، وقال قتادة بن النعمان: هو لبيد بن سهل، وقال السدي، ومقاتل: هو أبو مليل الأنصاري. فأما البهتان: فهو الكذب الذي يحير من عظمه، يقال: بهت الرجل: إذا تحير. قال ابن السائب: فقد احتمل بهتانا برميه البريء، وإثما مبينا بيمينه الكاذبة.

١١٣

قوله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللّه عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أنها متعلقة بقصة طعمة وقومه، حيث لبسوا على النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر صاحبهم، هذا قول ابن عباس من طريق ابن السائب.

والثاني: أن وفد ثقيف قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: جئناك نبايعك على أن لا نحشر ولا نعشر، وعلى أن تمتعنا بالعزى سنة، فلم يجبهم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس في رواية الضحاك.

وفي المراد بفضل اللّه ورحمته قولان.

احدهما: النبوة والعصمة.

والثاني: الإسلام والقرآن، رويا عن ابن عباس. قال مقاتل: لولا فضل اللّه عليك حيث بين لك أمر طعمة، وحولك بالقرآن عن تصديق الخائن؛ لهمت طائفة منهم أن يضلوك. قال الفراء: والمعنى: لقد همت.

فان قيل: كيف قال: {وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللّه عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ} وقد همت باضلاله؟

فالجواب: أنه لولا فضل اللّه عليك ورحمته، لظهر تأثير ما هموا به. فأما الطائفة، فعلى رواية ابن السائب عن ابن عباس: قوم طعمة، وعلى رواية الضحاك: وفد ثقيف.

وفي الإضلال قولان.

احدهما: التخطئة في الحكم.

والثاني: الاستزلال عن الحق. قال الزجاج: وما يضلون إلا أنفسهم، لأنهم يعملون عمل الضالين، فيرجع الضلال إليهم.

فأما «الكتاب»، فهو القرآن.

وفي «الحكمة» ثلاثة أقوال.

احدها: القضاء بالوحي، قاله ابن عباس.

والثاني: الحلال والحرام، قاله مقاتل.

والثالث: بيان ما في الكتاب، وإلهام الصواب، وإلقاء صحة الجواب في الروع، قاله أبو سليمان الدمشقي.

وفي قوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الشرع، قاله ابن عباس ومقاتل.

والثاني: أخبار الأولين والآخرين، قاله أبو سليمان.

والثالث: الكتاب والحكمة، ذكره الماوردي.

وفي قوله: {وَكَانَ فَضْلُ ٱللّه عَلَيْكَ عَظِيماً} ثلاثة اقوال.

احدها: أنه المنة بالإيمان.

والثاني: المنة بالنبوة، هذان عن ابن عباس.

والثالث: أن عام في جميع الفضل الذي خصه اللّه به، قاله أبو سليمان.

١١٤

قوله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ} قال ابن عباس: هم قوم طعمة، وقال مقاتل: وكلهم يهود تناجوا في أمر طعمة، وقال مجاهد: هو عام في نجوى جميع الناس. قال الزجاج: ومعنى النجوى: ما تنفرد به الجماعة أو الاثنان، سرا كان أو ظاهرا. ومعنى «نجوت الشيء» في اللغة: خلصته وألقيته، يقال: نجوت الجلد: إذا ألقيته عن البعير وغيره.

قال الشاعر:

فقلت انجوا عنها نجا الجلد إنه سيرضيكما منها سنام وغاربه

وقد نجوت فلانا: إذا استنكهته،

قال الشاعر:

نجوت مجالدا فوجدت منه كريح الكلب مات قديم عهد

وأصله كله من النجوة، وهو ما ارتفع من الأرض،

قال الشاعر يصف سيلا:

فمن بنجوته كمن بعقوته والمستكن كمن يمشي بقرواح

والمراد بنجواهم: ما يدبرونه بينهم من الكلام. فأما قوله:

{إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} فيجوز أن يكون بمعنى: إلا في نجوى من أمر بصدقة، ويجوز أن يكون استثناء ليس من الأول، فيكون بمعنى: لكن من أمر بصدقة، ففي نجواهم خير. وأما قوله: {أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} فالمعنى حث عليها.

وأما المعروف، ففيه قولان.

احدهما: أنه الفرض، روي عن ابن عباس، ومقاتل.

والثاني: أنه عام في جميع أفعال البر، وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وأبي سليمان الدمشقي.

١١٥

قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أنه لما نزل القرآن بتكذيب طعمة، وبيان ظلمه، وخاف على نفسه من القطع والفضيحة، هرب إلى مكة، فلحق بأهل الشرك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، والسدي. وقال مقاتل: لما قدم مكة نزل على الحجاج بن علاط السلمي فأحسن نزله، فبلغه أن في بيته ذهبا، فخرج في الليل فنقب حائط البيت، فعلموا به فأحاطوا البيت، فلما رأوه أرادوا، أن يرجموه، فاستحيا الحجاج، لأنه ضيفه، فتركوه، فخرج، فلحق بحرة بني سليم يعبد صنمهم حتى مات على الشرك، فنزل فيه: {إن اللّه لا يغفر أن يشرك به ويعفر ما دون ذلك لمن يشاء}

وقال غيره: بل خرج مع تجار فسرق منهم شيئا، فرموه بالحجارة حتى قتلوه،

وقيل: ركب سفينة، فسرق فيها مالا، فعلم به، فألقي في البحر.

والقول الثاني: أن قوما قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأسلموا، ثم ارتدوا، فنزلت فيهم هذه الآية، روي عن ابن عباس. ومعنى الآية: ومن يخالف الرسول في التوحيد، والحدود، من بعد ما تبين له التوحيد والحكم، ويتبع غير دين المسلمين، نوله ما تولى، أي: نكله إلى ما اختار لنفسه، ونصله جهنم: ندخله إياها. قال ابن فارس: تقول صليت اللحم أصليه: إذا شويته، فان أردت أنك أحرقته، قلت: أصليته. وساءت مصيرا، أي: مرجعا يصار إليه.

١١٦

قوله تعالى: {إِنَّ ٱللّه لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أنها نزلت في حق طعمة بن أبيرق لما هرب من مكة، ومات على الشرك، وهذا قول الجمهور، منهم سعيد بن جبير.

والثاني: أن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: إني منهمك في الذنوب، إلا أني لم أشرك باللّه منذ عرفته، وإني لنادم مستغفر، فما حالي؟ فنزلت هذه الآية، روي عن ابن عباس. فأما تفسيرها، فقد تقدم.

١١٧

قوله تعالى: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَـٰثاً} «إن» بمعنى: «ما» و«يدعون» بمعنى: يعبدون. والهاء في «دونه» ترجع إلى اللّه عز وجل. والقراءة المشهورة إناثا. وقرأ سعيد بن أبي وقاص، وعبد اللّه بن عمر، وأبو مجلز، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: إلا وثنا، بفتح الواو، والثاء من غير ألف. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين: أنثا، برفع الهمزة والنون من غير ألف. وقرأ أبو العالية، ومعاذ القارى، وأبو نهيك: أناثا، برفع الهمزة وبألف بعد الثاء. وقرأ أبو السوار العدوي، وأبو شيخ الهنائي: أوثانا، بهمزة مفتوحة بعدها واو وبألف بعد الثاء. وقرأ أبو هريرة، والحسن، والجوني: إلا أنثى، على وزن «فعلى». وقرأ أيوب السختياني: إلا وثنا، برفع الواو والثاء من غير ألف. وقرأ مورق العجلي: أثنا، برفع الهمزة والثاء من غير ألف. قال الزجاج: فمن قال: إناثا، فهو جمع أنثى وإناث، ومن قال أنثا، فهو جمع إناث، ومن قال: أثنا، فهو جمع وثن، والأصل وثن، إلا أن الواو إذا انضمت جاز إبدالها همزة، كقوله تعالى: {وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقّتَتْ} [المرسلات: ١١]. الأصل: وقتت. وجائز أن يكون أثن أصلها: أثن، فأتبعت الضمة الضمة، وجائز أن يكون أثن، مثل أسد وأسد.

فأما المفسرون، فلهم في معنى الإناث أربعة أقوال.

احدها: ان الإناث بمعنى الأموات، قاله ابن عباس، والحسن، في رواية، وقتادة. قال الحسن: كل شيء لا روح فيه، كالحجر، والخشبة، فهو إناث. قال الزجاج: والموات كلها يخبر عنها، كما يخبر عن المؤنث، تقول من ذلك: الأحجار تعجبني، والدراهم تنفعني.

والثاني: أن الإناث: الأوثان، وهو قول عائشة، ومجاهد.

والثالث: أن الإناث اللات والعزى ومناة، كلهن مؤنث، وهذا قول أبي مالك، وابن زيد، والسدي.

وروى أبو رجاء عن الحسن قال: لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يسمونه: أنثى بني فلان، فنزلت هذه الآية.

قال الزجاج: والمعنى: ما يدعون إلا ما يسمونه باسم الإناث.

والرابع: أنها الملائكة كانوا يزعمون أنها بنات اللّه، قاله الضحاك.

وفي المراد بالشيطان ثلاثة أقوال.

احدها: شيطان يكون في الصنم. قال ابن عباس: في كل صنم شيطان يتراءى للسدنة فيكلمهم. وقال أبي بن كعب: مع كل صنم جنية.

والثاني: أنه إبليس. وعبادته: طاعته فيما سول لهم، هذا قول مقاتل، والزجاج.

والثالث: أنه أصنامهم التي عبدوا، ذكره الماوردي. فأما «المريد»، فقال الزجاج: «المريد»: المارد، وهو الخارج عن الطاعة، ومعناه: أنه قد مرد في الشر، يقال: مرد الرجل يمرد مرودا: إذا عتا، وخرج عن الطاعة. وتأويل المرود: أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف، وأصله في اللغة: املساس الشيء، ومنه قيل للانسان: أمرد: إذا لم يكن في وجهه شعر، وكذلك يقال: شجرة مرداء: إذا تناثر ورقها، وصخرة مرداء: إذا كانت ملساء.

١١٨

وفي قوله: {لعنه اللّه} قولان.

احدهما: أنه ابتداء دعاء عليه باللعن، وهو قول من قال: هو الأوثان.

والثاني: أنه إخبار عن لعن متقدم، وهو قول من قال: هو إبليس. قال ابن جرير: المعنى: قد لعنه اللّه. قاله ابن عباس: معنى الكلام: دحره اللّه، وأخرجه من الجنة. وقال يعني إبليس ـ: لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا. وقال ابن قتيبة: اي: حظا افترضته لنفسي منهم فأضلهم. وقال مقاتل: النصيب المفروض: أن من كل ألف إنسان واحد في الجنة، وسائرهم في النار قال الزجاج: «الفرض» في اللغة: القطع، و«الفرضة»: الثلمة تكون في النهر. و«الفرض» في القوس: الحز الذي يشد فيه الوتر، والفرض فيما ألزمه اللّه العباد: جعله حتما عليهم قاطعا.

١١٩

قوله تعالى: {وَلاَضِلَّنَّهُمْ} قال ابن عباس: عن سبيل الهدى،

وقال غيره: ليس له من الضلال سوى الدعاء إليه. وفي قوله:

{وَلامَنّيَنَّهُمْ} أربعة أقوال.

احدها: أنه الكذب الذي يخبرهم به، قال ابن عباس: يقول لهم: لا جنة، ولا نار، ولا بعث.

والثاني: أنه التسويف بالتوبة، روي عن ابن عباس.

والثالث: أنه إيهامهم أنهم سينالون من الآخرة حظا، قاله الزجاج.

والرابع: أنه تزيين الأماني لهم، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى:

{فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ ٱلاْنْعَـٰمِ} قال قتادة، وعكرمة، والسدي: هو شق أذن البحيرة. قال الزجاج: ومعنى «يبتكن»: يشققن، يقال: بتكت الشيء أبتكه بتكا: إذا قطعته، وبتكه وبتك، مثل: قطعه وقطع. وهذا في أذن الناقة، وامتنعوا من الانتفاع بها، ولم تطرد عن ماء، ولا مرعى، وإذا لقيها المعيي، لم يركبها. سول لهم إبليس أن هذا قربة إلى اللّه تعالى.

وفي المراد بتغيير خلق اللّه خمسة أقوال.

احدها: أنه تغيير دين اللّه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن في رواية، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، والنخعي، والضحاك، والسدي، وابن زيد، ومقاتل.

وقيل: معنى تغيير الدين: تحليل وتحريم الحلال.

والثاني: أنه تغيير الخلق بالخصاء، رواه عكرمة عن ابن عباس، وهو مروي عن أنس بن مالك. وعن مجاهد، وقتادة، وعكرمة، كالقولين.

والثالث: أنه التغيير بالوشم، وهو قول ابن مسعود، والحسن في رواية.

والرابع: أنه تغيير أمر اللّه، رواه أبو شيبة عن عطاء.

والخامس: أنه عبادة الشمس والقمر والحجارة، وتحريم ما حرموا من الأنعام، وإنما خلق ذلك للانتفاع به، قاله الزجاج. قوله تعالى:

{وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيْطَـٰنَ وَلِيّاً مّن دُونِ ٱللّه} في المراد بالولي قولان.

احدهما: أنه بمعنى الرب، قاله مقاتل.

والثاني: من الموالاة، قاله أبو سليمان الدمشقي.

فإن قال قائل: من أين لإبليس العلم بالعواقب حتى قال: ولأضلنهم. وقال في [الأعراف: ١٧]:{وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ} وقال في {بَنِى إِسْرٰءيلَ} [٦٢]: {لاحْتَنِكَنَّ ذُرّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} فعنه ثلاثة أجوبة.

احدها: أنه ظن ذلك، فتحقق ظنه، وذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: ٢٠] قاله الحسن، وابن زيد.

وفي سبب ذلك الظن قولان.

احدهما: أنه لما قال اللّه تعالى له: {لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: ٨٥] علم أنه ينال ما يريد.

والثاني: أنه لما استزل آدم، قال: ذرية هذا أضعف منه.

والثاني: أن المعنى: لأحرضن ولأجتهدن في ذلك، لا انه كان يعلم الغيب، قاله ابن الأنباري.

والثالث: أن من الجائز أن يكون علم من جهة الملائكة بخبر من اللّه تعالى أن أكثر الخلق لا يشكرون، ذكره الماوردي.

فان قيل: فلم اقتصر على بعضهم فقال: {نَصِيباً مَّفْرُوضاً} وقال {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ} [الأعراف: ١٧] وقال:

{إِلاَّ قَلِيلاً}؛ فعنه ثلاثة أجوبة.

احدها: أنه يجوز أن يكون علم مآل الخلق من جهة الملائكة، كما بينا.

والثاني: أنه لم ينل من آدم كل ما يريد، طمع في بعض أولاده، وأيس من بعض.

والثالث: انه لما عاين الجنة والنار، علم أنهما خلقتا لمن يسكنهما، فأشار بالنصيب المفروض إلى ساكني النار. قوله تعالى:

{يَعِدُهُمْ} يعني: الشيطان يعد أولياءه.

وفيما يعدهم به قولان.

احدهما: أنه لا بعث لهم، قاله مقاتل.

والثاني: النصرة لهم، ذكره أبو سليمان الدمشقي. وفيما يمنيهم قولان.

احدهما: الغرور والأماني، مثل أن يقول: سيطول عمرك، وتنال من الدنيا مرادك.

والثاني: الظفر بأولياء اللّه.

١٢٠

انظر تفسير الآية: ١٢٣

١٢١

انظر تفسير الآية: ١٢٣

١٢٢

انظر تفسير الآية: ١٢٣

١٢٣

قوله تعالى: {وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَـٰنُ إِلاَّ غُرُوراً} أي: باطلا يغرهم به. فأما المحيص، فقال الزجاج: هو المعدل والملجأ، يقال: حصت عن الرجل أحيص، ورووا: جضت أجيض بالجيم والضاد، بمعنى: حصت، ولا يجوز ذلك في القرآن، وإن كان المعنى واحدا، لأن القراءة سنة، والذي في القرآن أفصح مما يجوز، ويقال: حصت أحوص حوصا وحياصة: إذا خطت، قال الأصمعي: يقال: حص عين صقرك، أي: خط عينه، والحوص في العين: ضيق مؤخرها، ويقال: وقع في حيص بيص. وحاص باص: إذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه. قوله تعالى:

{لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيّكُمْ} في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن أهل الأديان اختصموا، فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال المسلمون: كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم الأنبياء، فنزلت هذه الآية، ثم خير بين الأديان بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه} رواه العوفي عن ابن عباس وإلى هذا المعنى ذهب مسروق، وأبو صالح، وقتادة، والسدي.

والثاني: أن العرب قالت: لا نبعث، ولا نعذب، ولا نحاسب، فنزلت هذه الآية، هذا قول مجاهد.

والثالث: أن اليهود والنصارى قالوا: لا يدخل الجنة غيرنا، وقالت قريش: لا نبعث، فنزلت هذه الآية، هذا قول عكرمة. قال الزجاج: اسم «ليس» مضمر، والمعنى: ليس ثواب اللّه عز وجل بأمانيكم، وقد جرى ما يدل على الثواب، وهو قوله: {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلاْنْهَـٰرُ}

وفي المشار إليهم بقوله«أمانيكم» قولان.

احدهما: أنهم المسلمون على قول الأكثرين.

والثاني: المشركون على قول مجاهد. فأما أماني المسلمين، فما نقل من قولهم: كتابنا ناسخ للكتب، ونبينا خاتم الأنبياء، وأماني المشركين قولهم: لا نبعث، وأماني أهل الكتاب قولهم: نحن أبناء اللّه وأحباؤه، وإن النار لا تمسنا إلا أياما معدودة، وإن كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء، فأخبر اللّه عز وجل أن دخول الجنة والجزاء، بالأعمال لا بالأماني.

وفي المراد «بالسوء» قولان.

احدهما: أنه المعاصي، ومنه حديث أبي بكر الصديق أنه قال يا رسول اللّه كيف الصلاح بعد هذه الآية؟

و{مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ} فاذا عملنا سوءا جزينا به فقال: غفر اللّه لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به.

والثاني: أنه الشرك، قاله ابن عباس، ويحيى بن أبي كثير.

وفي هذا الجزاء قولان.

احدهما: أنه عام في كل من عمل سوءا فانه يجازى به، وهو معنى قول أبي بن كعب، وعائشة، واختاره ابن جرير، واستدل عليه بحديث أبي بكر الذي قدمناه.

والثاني: أنه خاص في الكفار يجازون بكل ما فعلوا، فأما المؤمن فلا يجازى بكل ما جنى، قاله الحسن البصري. وقال ابن زيد: وعد اللّه المؤمنين أن يكفر عنهم سيآتهم، ولم يعد المشركين. قوله تعالى:

{وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللّه وَلِيّاً} قال أبو سليمان: لا يجد من أراد اللّه أن يجزيه بشيء من عمله وليا وهو القريب، ولا ناصرا يمنعه من عذاب اللّه وجزائه.

١٢٤

قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} قال مسروق: لما نزلت

{لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيّكُمْ وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ} قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء، فنزلت {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتَ} الآية، وهذه تدل على ارتباط الإيمان بالعمل الصالح، فلا يقبل احدهما إلا بوجود الآخر، وقد سبق ذكر «النقير».

١٢٥

قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه} قال ابن عباس: خير اللّه بين الأديان. بهذه الآية. «وأسلم» بمعنى: أخلص.

وفي الوجه قولان.

احدهما: أنه الدين.

والثاني: العمل وفي الاحسان قولان.

احدهما: أنه التوحيد، قاله ابن عباس.

والثاني: القيام للّه بما فرض اللّه، قاله أبو سليمان الدمشقي.

وفي اتباع ملة إبراهيم قولان.

احدهما: اتباعه على التوحيد والطاعة.

والثاني: اتباع شريعته، اختاره القاضي أبو يعلى. فأما الخليل، فقال ابن عباس: الخليل: الصفي،

وقال غيره: المصافي، وقال الزجاج: هو المحب الذي ليس في محبته خلل. قال:

وقيل: الخليل: الفقير، فجائز أن يكون إبراهيم سمي خليل اللّه بأنه أحبه محبة كاملة، وجائز أن يكون لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلا إليه، «والخلة»: الصداقة، لأن كل واحد يسد خلل صاحبه، «والخلة» بفتح الخاء: الحاجة، سميت خلة للاختلال الذي يلحق الانسان فيما يحتاج إليه، وسمي الخل الذي يؤكل خلا، لأنه اختل منه طعم الحلاوة. وقال ابن الأنباري: الخليل: فعيل من الخلة، والخلة: المودة.

وقال بعض أهل اللغة: الخليل: المحب، والمحب الذي ليس في محبته نقص ولا خلل، والمعنى: أنه كان يحب اللّه، ويحبه اللّه محبة لا نقص فيها، ولا خلل، ويقال: الخليل: الفقير، فالمعنى: اتخذه فقيرا إليه ينزل فقره وفاقته به، لا بغيره.

وفي سبب اتخاذ اللّه له خليلا ثلاثة أقوال.

احدها: أنه اتخذه خليلا لإطعامه الطعام، روى عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:

«يا جبريل لم اتخذ اللّه إبراهيم خليلا قال لإطعامه الطعام».

والثاني: أن الناس أصابتهم سنة فأقبلوا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام، وكانت له ميرة من صديق له بمصر في كل سنة، فبعث غلمانه بالإبل إلى صديقه، فلم يعطهم شيئا، فقالوا: لو احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة، فملؤوا الغرائر رملا، ثم أتوا إبراهيم عليه السلام، فأعلموه، فاهتم إبراهيم لأجل الخلق. فنام وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كان، ففتحت الغرائر، فاذا دقيق حواري، فأمرت الخبازين فخبزوا، وأطعموا الناس، فاستيقظ إبراهيم، فقال: من أين هذا الطعام؟ فقالت: من عند خليلك المصري، فقال: بل من عند خليلي اللّه عز وجل، فيومئذ اتخذه اللّه خليلا، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثالث: أنه اتخذه خليلا لكسره الأصنام، وجداله قومه، قاله مقاتل.

١٢٦

قوله تعالى: {وَكَانَ ٱللّه بِكُلّ شَىْء مُّحِيطاً} أي: أحاط علمه بكل شيء.

١٢٧

قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى ٱلنّسَاء} في سبب نزولها خمسة أقوال.

احدها: أنهم كانوا في الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال، فلما فرض اللّه المواريث في هذه السورة، شق ذلك عليهم، فسألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد.

والثاني: أن ولي اليتيمة كان يتزوجها إذا كانت جميلة وهويها، فيأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال حتى تموت، فاذا ماتت ورثها، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

والثالث: أنهم كانوا لا يؤتون النساء صدقاتهن، ويتملك ذلك أولياؤهن، فلما نزل قوله: {وَءاتُواْ ٱلنّسَاء صَدُقَـٰتِهِنَّ نِحْلَةً} سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول عائشة رضي اللّه عنها.

والرابع: أن رجلا كانت له امرأة كبيرة، وله منها أولاد، فأراد طلاقها، فقالت: لا تفعل، وأقسم لي في كل شهر إن شئت أو أكثر، فقال: لئن كان هذا يصلح، فهو أحب إلي، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فذكر له ذلك، فقال: «قد سمع اللّه ما تقول فان شاء أجابك» فنزلت هذه الآية، والتي بعدها، رواه سالم الأفطس عن سعيد بن جبير.

والخامس: أن ولي اليتيمة كان إذا رغب في مالها وجمالها لم يبسط لها في صداقها، فنزلت هذه الآية، ونهوا أن ينكحوهن أو يبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق، ذكره القاضي أبو يعلى.

وقوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ} أي: يطلبون الفتوى، وهي تبيين المشكل من الأحكام.

وقيل: الاستفتاء: الاستخبار.

قال المفسرون: والذي استفتوه فيه. ميراث النساء، وذلك أنهم قالوا: كيف ترث المرأة والصبي الصغير؟ قوله تعالى:

{وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ} قال الزجاج: موضع «ما» رفع، المعنى: اللّه يفتيكم فيهن، وما يتلى عليكم في الكتاب أيضا يفتيكم فيهن، وهو قوله:

{وَءاتُواْ ٱلْيَتَـٰمَىٰ أَمْوٰلَهُمْ} الآية. والذي تلي عليهم في التزويج قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء} [النساء: ٣].

وفي يتامى النساء قولان.

احدهما: أنهن النساء اليتامى، فأضيفت الصفة إلى الاسم، كما تقول: يوم الجمعة.

والثاني: أنهن أمهات اليتامى، فأضيف إليهن أولادهن اليتامى.

وفي الذي كتب لهن قولان.

احدهما: أنه الميراث، قاله ابن عباس، ومجاهد في آخرين.

والثاني: أنه الصداق.

ثم في المخاطب بهذا قولان.

احدهما: أنهم أولياء المرأة كانوا يحوزون صداقها دونها.

والثاني: ولي اليتيمة، كان إذا تزوجها لم يعدل في صداقها، وفي قوله:

{وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} قولان.

احدهما: وترغبون أن تنكحوهن رغبة في جمالهن، وأموالهن، هذا قول عائشة، وعبيدة.

والثاني: وترغبون عن نكاحهن لقبحهن، فتمسكوهن رغبة في أموالهن، وهذا قول الحسن. قوله تعالى:

{وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلْوِلْدٰنِ} قال الزجاج: موضع المستضعفين خفض على قوله:

{وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ فِى يَتَـٰمَى ٱلنّسَاء} المعنى: وفي الولدان. قال ابن عباس: يريد أنهم لم يكونوا يورثون صغيرا من الغلمان والجواري، فنهاهم اللّه عن ذلك، وبين لكل ذي سهم سهمه. قوله تعالى:

{وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَـٰمَىٰ بِٱلْقِسْطِ} قال الزجاج: موضع «أن» خفض، فالمعنى: في يتامى النساء، وفي أن تقوموا باليتامى بالقسط. قال ابن عباس: يريد العدل في مهورهن ومواريثهن.

١٢٨

قوله تعالى: {وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَـٰفَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً}

في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن سودة خشيت أن يطلقها رسول للّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالت: يا رسول اللّه لا تطلقني، وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.

والثاني: أن بنت محمد بن مسلمة كانت تحت رافع بن خديج، فكره منها أمرا، إما كبرا، وإما غيره، فأراد طلاقها، فقالت: لا تطلقني، واقسم لي ما شئت، فنزلت هذه الآية، رواه الزهري عن سعيد بن المسيب. قال مقاتل: واسمها خويلة.

والثالث: قد ذكرناه عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في نزول الآية التي قبلها. وقالت عائشة نزلت في المرأة تكون عند الرجل، فلا يستكثر منها، ويريد فراقها، ولعلها تكون له محبة أو يكون لها ولد فتكره فراقه، فتقول له: لا تطلقني وأمسكني وأنت في حل من شأني. رواه البخاري ومسلم.

وفي خوف النشوز قولان.

احدهما: أنه العلم به عند ظهوره.

والثاني: الحذر من وجوده لأماراته. قال الزجاج: والنشوز من بعل المرأة: أن يسيء عشرتها، وأن يمنعها نفسه ونفقته. وقال أبو سليمان: نشوزا، أي: نبوا عنها إلى غيرها، وإعراضا عنها، واشتغالا بغيرها.

{فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عامر: «يصالحا بينهما» بفتح الياء، والتشديد. والأصل: «يتصالحا»، فأدغمت التاء في الصاد. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «يصلحا» بضم الياء، والتخفيف.

قال المفسرون: والمعنى: أن يوقعا بينهما أمرا يرضيان به، وتدوم بينهم الصحبة، مثل أن تصبر على تفضيله. وروي عن علي، وابن عباس: أنهما أجازا لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها، أو بعض أيامها، بأن يجعله لغيرها. وفي قوله: {وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ} قولان.

احدهما: خير من الفرقة، قاله مقاتل، والزجاج.

والثاني: خير من النشوز والإعراض، ذكره الماوردي. قال قتادة: متى ما رضيت بدون ما كان لها، واصطلحا عليه، جاز، فان أبت لم يصلح أن يحبسها على الخسف. قوله تعالى:

{وَأُحْضِرَتِ ٱلأنفُسُ ٱلشُّحَّ} «أحضرت»: بمعنى: ألزمت. «والشح»: الإفراط في الحرص على الشيء. وقال ابن فارس: «الشح»: البخل مع الحرص، وتشاح الرجلان على الأمر: لا يريدان أن يفوتهما.

وفيمن يعود إليه هذا الشح من الزوجين قولان.

احدهما: المرأة، فتقديره: وأحضرت نفس المرأة الشح بحقها من زوجها، هذا قاول ابن عباس، وسعيد بن جبير.

والثاني: الزوجان، جميعا فالمرأة تشح على مكانها من زوجها، والرجل يشح عليها بنفسه إذا كان غيرها أحب إليه، هذا قول الزجاج. وقال ابن زيد: لا تطيب نفسه أن يعطيها شيئا فتحللّه، ولا تطيب نفسها أن تعطيه شيئا من مالها، فتعطفه عليها. قوله تعالى:

{وَإِن تُحْسِنُواْ} فيه قولان.

احدهما: بالصبر على التي يكرهها.

والثاني: بالإحسان إليها في عشرتها. قوله تعالى:

{وَتَتَّقُواْ} يعني الجور عليها {فَإِنَّ ٱللّه كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} فيجازيكم عليه.

١٢٩

قوله تعالى: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنّسَاء}

قال أهل التفسير: لن تطيقوا أن تسووا بينهن في المحبة التي هي ميل الطباع، لأن ذلك ليس من كسبكم {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} على ذلك {فَلاَ تَمِيلُواْ} إلى التي تحبون في النفقة والقسم. وقال مجاهد: لا تتعمدوا الإساءة فتذروا الأخرى كالمعلقة قال ابن عباس: المعلقة: التي لا هي أيم، ولا ذات بعل. وقال قتادة: المعلقة: المسجونة. قوله تعالى:

{وَإِن تُصْلِحُواْ} أي: بالعدل في القسمة {وَتَتَّقُواْ} الجور {فَإِنَّ ٱللّه كَانَ غَفُوراً} لميل القلوب.

١٣٠

انظر تفسير الآية: ١٣٢

١٣١

انظر تفسير الآية: ١٣٢

١٣٢

قوله تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا} يقول: وإن أبت المرأة أن تسمح لزوجها بايثار التي يميل إليها، واختارت الفرقة، فان اللّه يغني كل واحد من سعته. قال ابن السائب: يغني المرأة برجل، والرجل بامرأة. ثم ذكر ما يوجب الرغبة إليه في طلب الخير، فقال:

{وَللّه مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ} يعني: أهل التوراة، والإنجيل، وسائر الكتب

{وَإِيَّـٰكُمْ} يا أهل القرآن {أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللّه} قيل: وحدوه

{وَإِن تَكْفُرُواْ} بما أوصاكم به {فَإِنَّ للّه مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ} فلا يضره خلافكم. وقيل: له ما في السموات، وما في الأرض من الملائكة، فهم أطوع له منكم. وقد ذكرنا في سورة {البقرة} معنى «الغني الحميد» وفي {ءالَ عِمْرَانَ} معنى «الوكيل».

١٣٣

قوله تعالى: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ} قال ابن عباس: يريد المشركين والمنافقين {وَيَأْتِ بِـاخَرِينَ} أطوع له منكم. وقال أبو سليمان: هذا تهدد للكفار، يقول: إن يشأ يهلككم كما أهلك من قبلكم إذ كفروا به، وكذبوا رسله.

١٣٤

قوله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا} قيل: إن هذه الآية نزلت من أجل المنافقين كانوا لا يصدقون بالقيامة، وإنما يطلبون عاجل الدنيا، ذكره أبو سليمان وقال الزجاج: كان مشركو العرب يتقربون إلى اللّه ليعطيهم من خير الدنيا، ويصرف عنهم شرها، ولا يؤمنون بالبعث، فأعلم اللّه عز وجل أن خير الدنيا والآخرة عنده.

وذكر الماوردي أن المراد بثواب الدنيا: الغنيمة في الجهاد، وثواب الآخرة: الجنة. قال: والمراد بالآية: حث المجاهد على قصد ثواب اللّه.

١٣٥

قوله تعالى: {يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ}

في سبب نزولها قولان.

احدهما: أن فقيرا وغنيا اختصما إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فكان صغوه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني، فنزلت هذه الآية، هذا قول السدي.

والثاني: أنها متعلقة بقصة ابن أبيرق، فهي خطاب للذين جادلوا عنه، ذكره أبو سليمان الدمشقي. و«القوام» مبالغة من قائم. و«القسط» العدل. قال ابن عباس: كونوا قوالين بالعدل في الشهادة على من كانت، ولو على أنفسكم. وقال الزجاج: معنى الكلام: قوموا بالعدل، واشهدوا للّه بالحق، وإن كان الحق على الشاهد، أو على والديه، أو قريبه،

{إن يكن} المشهود له {غَنِيّاً} فاللّه أولى به، وإن يكن {فَقَيراً} فاللّه أولى به. فأما الشهادة على النفس، فهي إقرار الإنسان بما عليه من حق. وقد أمرت الآية بأن لا ينظر إلى فقر المشهود عليه، ولا إلى غناه، فان اللّه تعالى أولى بالنظر إليهما. قال عطاء: لا تحيفوا على الفقير، ولا تعظموا الغني، فتمسكوا عن القول فيه. وممن قال: إن الآية نزلت في الشهادات، ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، والزهري، و قتادة، والضحاك. قوله تعالى:

{فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ} فيه أربعة أقوال.

احدها: أن معناه: فلا تتبعوا الهوى، واتقوا اللّه أن تعدلوا عن الحق، قاله مقاتل.

والثاني: ولا تتبعوا الهوى لتعدلوا، قاله الزجاج.

والثالث: فلا تتبعوا الهوى كراهية أن تعدلوا عن الحق.

والرابع: فلا تتبعوا الهوى فتعدلوا، ذكرهما الماوردي. قوله تعالى:

{وَإِن تَلْوُواْ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وعاصم، والكسائي: تلووا، بواوين، الأولى مضمومة، واللام ساكنة.

وفي معنى هذه القراءة ثلاثة أقوال.

احدها: أن يلوي الشاهد لسانه بالشهادة إلى غير الحق. قال ابن عباس: يلوي لسانه بغير الحق،ولا يقيم الشهادة على وجهها، أو يعرض عنها ويتركها. وهذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد.

والثاني: أن يلوي الحاكم وجهه إلى بعض الخصوم، أو يعرض عن بعضهم، روي عن ابن عباس أيضا.

والثالث: أن يلوي الإنسان عنقه إعراضا عن أمر اللّه لكبره وعتوه. ويكون: «أو تعرضوا» بمعنى: وتعرضوا، ذكره الماوردي، وقرأ الأعمش، وحمزة، وابن عامر: «تلوا» بواو واحدة، واللام مضمومة. والمعنى: أن تلوا أمور الناس، أو تتركوا فيكون الخطاب للحكام.

١٣٦

قوله تعالى: {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ بِٱللّه وَرَسُولِهِ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أن عبد اللّه بن سلام، وأسدا، وأسيد ابني كعب، وثعلبة بن قيس، وسلاما، وسلمة، ويامين، وهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فقالوا: يا رسولا اللّه نؤمن بك، وبكتابك، وبموسى، والتوراة، وعزير، ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: أن مؤمني أهل الكتاب كان بينهم وبين اليهود كلام لما أسلموا، فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل.

وفي المشار إليهم بقوله: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ} ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم المسلمون، قاله الحسن فيكون المعنى: ياأيها الذين آمنوا بمحمد والقرآن اثبتوا على إيمانكم.

والثاني: اليهود والنصارى، قاله الضحاك، فيكون المعنى: ياأيها الذين آمنوا بموسى، والتوراة، وبعيسى، والإنجيل: آمنوا بمحمد والقرآن.

والثالث: المنافقون، قاله مجاهد، فيكون المعنى: ياأيها الذين آمنوا في الظاهر بألسنتهم، آمنوا بقلوبكم. قوله تعالى:

{وَٱلْكِتَـٰبِ ٱلَّذِى نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ} قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وابن عامر: «نزل» على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبل، مضمومتين.وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: نزل على رسوله، والكتاب الذي أنزل مفتوحتين والمراد بالكتاب الذي نزل على رسوله القرآن،

والكتاب الذي أنزل من قبل: كل كتاب أنزل قبل القرآن، فيكون «الكتاب» هاهنا اسم جنس.

١٣٧

قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ} اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال.

احدها: أنها في اليهود آمنوا بموسى، ثم كفروا بعد موسى، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم، هذا قول ابن عباس.

وروي عن قتادة قال: آمنوا بموسى، ثم كفروا بعبادة العجل، ثم آمنوا به بعد عوده، ثم كفروا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد.

والثاني: أنها في اليهود والنصارى، آمن اليهود بالتوراة، وكفروا بالإنجيل، وآمن النصارى بالإنجيل، ثم تركوه فكفروا به، ثم ازدادوا كفرا بالقرآن وبمحمد، رواه شيبان عن قتادة.

وروي عن الحسن قال: هم قوم من أهل الكتاب، قصدوا تشكيك المؤمنين، فكانوا يظهرون بالإيمان ثم الكفر، ثم ازدادوا كفرا بثبوتهم على دينهم. وقال مقاتل: آمنوا بالتوراة وموسى، ثم كفروا من بعد موسى، ثم آمنوا بعيسى والإنجيل، ثم كفروا من بعده، ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن.

والثالث: أنها في المنافقين آمنوا، ثم ارتدوا، ثم ماتوا على كفرهم، قاله مجاهد. وروى ابن جريج عن مجاهد

{ثُمَّ ٱزْدَادُواْ كُفْراً} قال: ثبتوا عليه حتى ماتوا. قال ابن عباس:

{لَّمْ يَكُنْ ٱللّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ} ما أقاموا على ذلك

{وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} أي: لا يجعلهم بكفرهم مهتدين. قال: وإنما علق امتناع المغفرة بكفر بعد كفر، لأن المؤمن بعد الكفر يغفر له كفره، فاذا ارتد طولب بالكفر الأول.

١٣٨

قوله تعالى: {بَشّرِ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ} زعم مقاتل أنه لما نزلت المغفرة في {سُورَةٌ ٱلْفَتْحُ} للنبي والمؤمنين قال عبد اللّه بن أبي ونفر معه: فما لنا؟ فنزلت هذه الآية.

وقال غيره: كان المنافقون يتولون اليهود، فألحقوا بهم في التبشير بالعذاب. وقال الزجاج: معنى الآية: اجعل موضع بشارتهم العذاب. والعرب تقول: تحيتك الضرب، أي: هذا بدل لك من التحية.

قال الشاعر:

وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع

١٣٩

قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَاء} قال ابن عباس: يتخذون اليهود أولياء في العون والنصرة. قوله تعالى:

{أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ} أي: القوة بالظهور على محمد وأصحابه، والمعنى: أيتقون بهم؟ قال مقاتل: وذلك أن اليهود أعانوا مشركي العرب على قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقال الزجاج: أيبتغي المنافقون عند الكافرين العزة. «والعزة» المنعة، وشدة الغلبة، وهو مأخوذ من قولهم: ارض عزاز. قال الأصمعي: «العزاز»: الأرض التي لا تنبت. فتأويل العزة: الغلبة والشدة التي لا يتعلق بها إذلال.

قالت الخنساء:

كأن لم يكونوا حمى يتقى إذ الناس إذ ذاك من عز بزا

أي: من قوي وغلب سلب. ويقال: قد استعز على المريض، أي: اشتد وجعه. وكذلك قول الناس: يعز علي أن يفعل، أي يشتد، وقولهم: قد عز الشيء: إذا لم يوجد، معناه: صعب أن يوجد، والباب واحد.

١٤٠

قوله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ} وقرأ عاصم، ويعقوب: «نزل» بفتح النون والزاي.

قال المفسرون: الذي نزل عليهم في النهي عن مجالستهم، قوله في [ٱلاْنْعَـٰمِ:٦٨] {وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَـٰتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود، فيسخرون من القرآن ويكذبون به، فنهى اللّه المسلمين عن مجالستهم. وآيات اللّه: هي القرآن. والمعنى: إذا سمعتم الكفر بآيات اللّه، والاستهزاء بها، فلا تقعدوا معهم حتى يأخذوا في حديث غير الكفر، والاستهزاء.

{إِنَّكُمْ} إن جالستموهم على ما هم عليه من ذلك، فأنتم

{مِّثْلُهُمْ} وفي ماذا تقع المماثلة فيه، قولان.

احدهما: في العصيان.

والثاني: في الرضى بحالهم، لأن مجالس الكافر غير كافر. وقد نبهت الآية على التحذير من مجالسة العصاة، قال إبراهيم النخعي: إن الرجل ليجلس في المجلس فيتكلم بالكلمة، فيرضي اللّه بها، فتصيبه الرحمة فتعم من حوله، وإن الرجل ليجلس في المجلس، فيتكلم بالكلمة، فيسخط اللّه بها، فيصيبه السخط، فيعم من حوله.

١٤١

قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} قال أبو سليمان: هذه الآية نزلت في المنافقين خاصة. قال مقاتل: كان المنافقون يتربصون بالمؤمنين الدوائر، فان كان الفتح، قالوا: ألم نكن معكم؟ فاعطونا من الغنيمة. وإن كان للكافرين نصيب، أي: دولة على المؤمنين، قالوا للكفار: ألم نستحوذ عليكم؟ قال المبرد: ومعنى: ألم نستحوذ عليكم: ألم نغلبكم على رأيكم. وقال الزجاج: ألم نغلب عليكم بالموالاة لكم. «ونستحوذ» في اللغة، بمعنى: نستولي، يقال: حذت الإبل، وحزتها: إذا استوليت عليها وجمعتها.

وقال غيره: ألم نستول عليكم بالمعونة والنصرة؟ وقال ابن جريج: ألم نبين لكم أنا على دينكم؟

وفي قوله: {وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} ثلاثة أقوال.

احدها: نمنعكم منهم بتخذيلهم عنكم.

والثاني: بما نعلمكم من أخبارهم.

والثالث: بصرفنا إياكم عن الدخول في الإيمان. ومراد الكلام: إظهار المنة من المنافقين على الكفار، أي: فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم. قوله تعالى:

{فَٱللّه يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ} يعني المؤمنين والمنافقين. قال ابن عباس: يريد أنه أخر عقاب المنافقين. قوله تعالى:

{وَلَن يَجْعَلَ ٱللّه لِلْكَـٰفِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أنه لا سبيل لهم عليهم يوم القيامة، روى يسيع الحضرمي عن علي بن أبي طالب أن رجلا جاءه، فقال: أرأيت قول اللّه عز وجل:

{وَلَن يَجْعَلَ ٱللّه لِلْكَـٰفِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} وهم يقاتلوننا [فيظهرون ويقتلون]، فقال: ولن يجعل اللّه للكافرين يوم القيامة على المؤمنين سبيلا. هذا مروي عن ابن عباس، وقتادة.

والثاني: أن المراذ بالسبيل: الظهور عليهم، يعني: أن المؤمنين هم الظاهرون، والعاقبة لهم، وهذا المعنى في رواية عكرمة، عن ابن عباس.

والثالث: أن السبيل: الحجة. قال السدي:لم يجعل اللّه عليهم حجة، يعني فيما فعلوا بهم من القتل والإخراج من الديار. قال ابن جرير: لما وعد اللّه المؤمنين أنه لا يدخل المنافقين مدخلهم من الجنة، ولا المؤمنين مدخل المنافقين، لم يكن للكافرين على المؤمنين حجة بأن يقولوا لهم: أنتم كنتم أعداءنا، وكان المنافقون أولياءنا، وقد اجتمعتم في النار.

١٤٢

قوله تعالى: {إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ يُخَـٰدِعُونَ ٱللّه} أي: يعملون عمل المخادع. وقيل: يخادعون نبيه، وهو خادعهم، أي: مجازيهم على خداعهم. وقال الزجاج: لما أمر بقبول ما أظهروا، كان خادعا لهم بذلك. وقيل: خداعه إياهم يكون في القيامة باطفاء نورهم، وقد شرحنا طرفا من هذا في {البقرة}. قوله تعالى:

{إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ يُخَـٰدِعُونَ ٱللّه وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أي: متثاقلين. «وكسالى» جمع كسلان، «والكسل»: التثاقل عن الأمر. وقرأ أبو عمران الجوني: «كسلى» بفتح الكاف، وقرأ ابن السميفع: «كسلى» بفتح الكاف من غير ألف. وإنما كانوا هكذا، لأنهم يصلون حذرا على دمائهم لا يرجون بفعلها ثوابا، ولا يخافون بتركها عقابا. قوله تعالى:

{بِرَبّ ٱلنَّاسِ} أي: يصلون ليراهم الناس. قال قتادة: واللّه لولا الناس ما صلى المنافق.

وفي تسمية ذكرهم بالقليل ثلاثة أقوال.

احدها: أنه سمي قليلا، لأنه غير مقبول، قاله علي رضي اللّه عنه، وقتادة.

والثاني: لأنه رياء، ولو كان للّه، لكان كثيرا، قاله ابن عباس، والحسن.

والثالث: أنه قليل في نفسه، لأنهم يقتصرون على ما يظهر، دون ما يخفى من القراءة والتسبيح، ذكره الماوردي.

١٤٣

قوله تعالى: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ} المذبذب: المتردد بين أمرين، وأصل التذبذب: التحرك، والاضطراب، وهذه صفة المنافق، لأنه محير في دينه لا يرجع إلى اعتقاد صحيح. قال قتادة: ليسوا بالمشركين المصرحين بالشرك، ولا بالمؤمنين المخلصين.

قال ابن زيد: ومعنى «بين ذلك»: بين الاسلام والكفر، لم يظهروا الكفر فيكونوا إلى الكفار، ولم يصدقوا الإيمان، فيكونوا إلى المؤمنين. قال ابن عباس: ومن يضلل اللّه فلن تجد له سبيلا إلى الهدى.

وقد روى ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «مثل المنافق: مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، ولا تدري أيها تتبع».

١٤٤

قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَاء} في المراد بالكافرين قولان.

احدهما: اليهود، قاله ابن عباس.

والثاني: المنافقون، قال الزجاج: ومعنى الآية: لا تجعلوهم بطانتكم وخاصتكم. والسلطان: الحجة الظاهرة، وإنما قيل للأمير: سلطان، لأنه حجة اللّه في أرضه، واشتقاق السلطان: من السليط. والسليط: ما يستضاء به، ومن هذا قيل للزيت: السليط. والعرب تؤنث السلطان وتذكره، تقول: قضت عليك السلطان، وأمرتك السلطان، والتذكير أكثر، وبه جاء القرآن، فمن أنث، ذهب إلى معنى الحجة، ومن ذكر، أراد صاحب السلطان. قال ابن الأنباري: تقدير الآية: أتريدون أن تجعلوا للّه عليكم بموالاة الكافرين حجة بينة تلزمكم عذابه، وتكسبكم غضبه؟

١٤٥

قوله تعالى: {إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِى ٱلدَّرْكِ ٱلاْسْفَلِ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عامر: بفتح الراء، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف: بتسكين الراء. قال الفراء: وهي لغتان. قال أبو عبيدة: جهنم أدراك، أي: منازل، وأطباق. فكل منزل منها: درك. وحكى ابن الأنباري عن بعض العلماء أنه قال: الدركات: مراق، بعضها تحت بعض. وقال الضحاك: الدرج: إذا كان بعضها فوق بعضها، والدرك: إذا كان بعضها أسفل من بعض. وقال ابن فارس: الجنة درجات، والنار دركات. وقال ابن مسعود في هذه الآية: هم في توابيت من حديد مبهمة [عليهم] قال ابن الأنباري: المبهمة: التي لا أقفال عليها، يقال: أمر مبهم: إذا كان ملتبسا لا يعرف معناه، ولا بابه. قوله تعالى:

{وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} قال ابن عباس: مانعا من عذاب اللّه.

١٤٦

قوله تعالى: {إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ} قال مقاتل: سبب نزولها: أن قوما قالوا عند ذكر مستقر المنافقين: فقد كان فلان وفلان منافقين. فتابوا، فكيف يفعل بهم؟ فنزلت هذه الآية. ومعنى الآية: إلا الذين تابوا من النفاق

{وَأَصْلَحُواْ} أعمالهم بعد التوبة

{وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللّه} أي: استمسكوا بدينه.

{وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ} فيه قولان.

احدهما: أنه الإسلام، وإخلاصه: رفع الشرك عنه، قاله مقاتل.

والثاني: أنه العمل، وإخلاصه: رفع شوائب النفاق والرياء منه، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى:

{فَأُوْلَـئِكَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} في مع قولان.

احدهما: أنها على أصلها، وهو الاقتران. وفي ماذا اقترنوا بالمؤمنين؟ فيه قولان.

احدهما: في الولاية، قاله مقاتل.

والثاني: في الدين والثواب، قاله أبو سليمان.

والثاني: أنها بمعنى «من» فتقديره فأولئك من المؤمنين، قاله الفراء.

١٤٧

قوله تعالى: {مَّا يَفْعَلُ ٱللّه بِعَذَابِكُمْ} «ما» حرف استفهام، ومعناه: التقرير، أي: إن اللّه لا يعذب الشاكر المؤمن، ومعنى الآية: ما يصنع اللّه بعذابكم إن شكرتم نعمه، وآمنتم به وبرسوله، والإيمان مقدم في المعنى وإن أخر في اللفظ. وروي عن ابن عباس أن المراد بالشكر: التوحيد. قوله تعالى:

{وَكَانَ ٱللّه شَـٰكِراً عَلِيماً} أي: للقليل من أعمالكم، عليما بنياتكم، وقيل: شاكرا، أي: قابلا.

١٤٨

قوله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ للّه ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوء مِنَ ٱلْقَوْلِ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أن ضيفا تضيف قوما فأساؤوا قراه فاشتكاهم، فنزلت هذه الآية رخصة في أن يشكوا، قاله مجاهد.

والثاني: أن رجلا نال من أبي بكر الصديق والنبي صلى اللّه عليه وسلم. حاضر، فسكت عنه أبو بكر مرارا، ثم رد عليه، فقام النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه شتمني فلم تقل له شيئا، حتى إذا رددت عليه قمت؟ٰ فقال: «إن ملكا كان يجيب عنك، فلما رددت عليه، ذهب الملك، وجاء الشيطان» فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل.

واختلف القراء في قراءة {إَلاَّ مَن ظَلَمَ} فقرأ الجمهور بضم الظاء، وكسر اللام. وقرأ عبد اللّه بن عمرو، والحسن، وابن المسيب، وأبو رجاء، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، وزيد بن أسلم، بفتحهما.

فعلى قراءة الجمهور، في معنى الكلام ثلاثة أقوال.

احدها: إلا أن يدعو المظلوم علة من ظلمه، فان اللّه قد أرخص له، قاله ابن عباس.

والثاني: إلا أن ينتصر المظلوم من ظالمه، قاله الحسن، والسدي.

والثالث: إلا أن يخبر المظلوم بظلم من ظلمه، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.

وروى ابن جريج عنه قال: إلا أن يجهر الضيف بذم من لم يضيفه. فأما قراءة من فتح الظاء، فقال ثعلب: هي مردودة على قوله: {مَّا يَفْعَلُ ٱللّه بِعَذَابِكُمْ} إلا من ظلم.

وذكر الزجاج فيها قولين.

احدهما: أن المعنى: إلا أن الظالم يجهر بالسوء ظلما.

والثاني: إلا أن تجهروا بالسوء للظالم. فعلى هذا تكون «إلا» في هذا المكان استثناء منقطعا، ومعناها: لكن المظلوم يجوز له أن يجهر لظالمه بالسوء. ولكن الظالم قد يجهر له بالسوء. واجهروا له بالسوء. وقال ابن زيد: إلا من ظلم، أي: أقام على النفاق، فيجهر له بالسوء حتى ينزع. قوله تعالى:

{وَكَانَ ٱللّه سَمِيعاً} أي: لما تجهرون به من سوء القول

{عَلِيماً} بما تخفون. وقيل: سميعا لقوم المظلوم، عليما بما في قلبه، فليتق اللّه، ولا يقل إلا الحق. وقال الحسن: من ظلم، فقد رخص له أن يدعو على ظالمه من غير أن يعتدي، مثل أن يقول: اللّهم أعني عليه، اللّهم استخرج لي حقي، اللّهم حل بينه وبين ما يريد.

١٤٩

قوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً} قال ابن عباس: يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة.

وقال بعضهم: إن تبدوا خيرا بدلا من السوء. وأكثرهم على أن «الهاء» في «تخفوه» تعود إلى الخير.

وقال بعضهم: تعود إلى السوء. قوله تعالى:

{فَإِنَّ ٱللّه كَانَ عَفُوّاً} قال أبو سليمان: أي: لم يزل ذا عفو مع قدرته، فاعفوا أنتم مع القدرة.

١٥٠

قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِٱللّه وَرُسُلِهِ} فيهم قولان.

احدهما: أنهم اليهود كانوا يؤمنون بموسى، وعزير، والتوراة، ويكفرون بعيسى، والإنجيل، ومحمد، والقرآن، قاله ابن عباس.

والثاني: أنهم اليهود والنصارى، آمن اليهود بالتوراة وموسى، وكفروا بالإنجيل وعيسى، وآمن النصارى بالإنجيل وعيسى، وكفروا بمحمد والقرآن، قاله قتادة.

ومعنى قوله: {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ ٱللّه وَرُسُلِهِ} أي: يريدون أن يفرقوا بين الإيمان باللّه، والإيمان برسله، ولا يصح الإيمان به والتكذيب برسله أو ببعضهم

{وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذٰلِكَ} أي: بين إيمانهم ببعض الرسل، وتكذيبهم ببعض

{سَبِيلاً} أي: مذهبا يذهبون إليه. وقال ابن جريج: دينا يدينون به.

١٥١

انظر تفسير الآية: ١٥٢

١٥٢

قوله تعالى: {أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ حَقّاً} ذكر «الحق» هاهنا توكيدا لكفرهم إزالة لتوهم من يتوهم أن إيمانهم ببعض الرسل يزيل عنهم اسم الكفر.

١٥٣

قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ} في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم سألوه أن ينزل كتابا عليهم خاصة، هذا قول الحسن، وقتادة.

والثاني: أن اليهود والنصارى أتوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: لا نبايعك حتى تأتينا بكتاب من عند اللّه إلى فلان أنك رسول اللّه، وإلى فلان بكتاب أنك رسول اللّه، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن جريج.

والثالث: أن اليهود سألوا النبي صلى اللّه عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا كما نزلت التوراة على موسى، هذا قول القرظي، والسدي.

وفي المراد بأهل الكتاب قولان.

احدهما: اليهود والنصارى.

والثاني: اليهود. وفي المراد بأهل الكتاب المنزل من السماء قولان.

احدهما: كتاب مكتوب غير القرآن.

والثاني: كتاب بتصديقه في رسالته، وقد بينا في {البقرة} معنى سؤالهم روية اللّه جهرة، واتخاذهم العجل. و«البينات»: الآيات التي جاء بها موسى.

فان قيل: كيف قال: ثم اتخذوا العجل، و«ثم» تقتضي التراخي، والتأخر، أفكان اتخاذ العجل بعد قولهم: «أرنا اللّه جهرة»

فعنه أربعة أجوبة، ذكرهن ابن الأنباري.

أحدهن: أن تكون «ثم» مردودة على فعلهم القديم، والمعنى: وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة، فخالفوا أيضا، ثم اتخذوا العجل.

والثاني: أن تكون مقدمة في المعنى، مؤخرة في اللفظ، والتقدير: فقد اتخذوا العجل، ثم سألوا موسى أكبر من ذلك. ومثله {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: ٢٨] المعنى: فألقه إليهم، ثم انظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم.

والثالث: أن المعنى، ثم كانوا اتخذوا العجل، فأضمر الكون.

والرابع: أن «ثم» معناها التأخير في الإخبار، والتقديم في الفعل، كما يقول القائل: شربت الماء، ثم أكلت الخبز، يريد: شربت الماء ثم أخبركم أني أكلت الخبز بعد إخباري بشرب الماء. قوله تعالى:

{فَعَفَوْنَا عَن ذٰلِكَ} أي: لم نستأصل عبدة العجل. و«السلطان المبين»: الحجة البينة. قال ابن عباس: اليد والعصا. وقال غيره: الآيات التسع.

١٥٤

قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَـٰقِهِمْ} أي: بما أعطوا اللّه من العهد والميثاق: ليعملن بما في التوراة. قوله تعالى:

{لاَ تَعْدُواْ فِى ٱلسَّبْتِ} قرأ نافع: لا تعدوا، بتسكين العين، وتشديد الدال، وروى عنه ورش «تعدوا» بفتح العين، وتشديد الدال. وقرأ الباقون «تعدوا» خفيفة، وكلهم ضم الدال. وقد ذكرنا هذا وغيره في {البقرة} و«الميثاق الغليظ» العهد المؤكد.

١٥٥

قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـٰقَهُمْ} «ما» صلة مؤكدة. قال الزجاج: والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم، وهو أن اللّه أخذ عليهم الميثاق أن يبينوا ما أنزل عليهم من ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم وغيره. والجالب للباء العامل فيها، وقوله:

{حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَـٰتٍ} أي: بنقضهم ميثاقهم، والأشياء التي ذكرت بعده حرمنا عليهم. وقوله:

{فَبِظُلْمٍ} بدل من قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم}، وجعل اللّه جزاءهم على كفرهم أن طبع على قلوبهم. وقال ابن فارس: الطبع: الختم و من ذلك طبع اللّه على قلب الكافر كأنه ختم عليه حتى لا يصل إليه هدى ولا نور فلم يوفق لخير، والطابع: الخاتم يختم به. قوله تعالى:

{فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} فيه قولان.

احدهما: فلا يؤمن منهم إلا القليل، وهم عبد اللّه بن سلام، وأصحابه، قاله ابن عباس.

والثاني: المعنى: إيمانهم قليل، وهو قولهم ربنا اللّه، قاله مجاهد.

١٥٦

قوله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ} في إعادة ذكر الكفر فائدة.

وفيها قولان.

احدهما: أنه أراد: وبكفرهم بمحمد والقرآن، قاله ابن عباس.

والثاني: وبكفرهم بالمسيح، وقد بشروا به، قاله أبو سليمان الدمشقي. فأما «البهتان» فهو في قول الجماعة: قذفهم مريم بالزنى.

١٥٧

انظر تفسير الآية: ١٥٨

١٥٨

قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ٱلْمَسِيحَ} قال الزجاج: أي باعترافهم بقتلهم إياه، وما قتلوه، يعذبون عذاب من قتل، لأنهم قتلوا الذي قتلوا على أنه نبي

وفي قوله: «رسول اللّه» قولان.

احدهما: أنه من قول اليهود، فيكون المعنى: أنه رسول اللّه على زعمه.

والثاني: أنه من قول اللّه، لا على وجه الحكاية عنهم. قوله تعالى:

{وَلَـٰكِن شُبّهَ لَهُمْ} أي: ألقي شبهه على غيره. وفيمن ألقي عليه شبهه قولان.

احدهما: أنه بعض من أراد قتله من اليهود. روى أبو صالح عن ابن عباس: أن اليهود لما اجتمعت على قتل عيسى، أدخله جبريل خوخة لها روزنة، ودخل وراءه رجل منهم، فألقى اللّه عليه شبه عيسى، فلما خرج على أصحابه، قتلوه يظنونه عيسى، ثم صلبوه، وبهذا قال مقاتل، وأبو سليمان.

والثاني: أنه رجل من أصحاب عيسى، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن عيسى خرج على أصحابه لما أراد اللّه رفعه، فقال: أيكم يلقى عليه شبهي، فيقتل مكاني، ويكون في درجتي؟ فقام شاب، فقال أنا فقال: اجلس، ثم أعاد القول، فقام الشاب، فقال عيسى: اجلس ثم أعاد، فقال الشاب: أنا، فقال: نعم أنت ذاك، فألقي عليه شبه عيسى، ورفع عيسى، وجاء اليهود، فأخذوا الرجل، فقتلوه، ثم صلبوه. وبهذا القول قال وهب بن منبه، وقتادة، والسدي. قوله تعالى:

{وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ} في المختلفين قولان.

احدهما: أنهم اليهود، فعلى هذا في هاء «فيه» قولان.

احدهما: أنها كناية عن قتله،

فاختلفوا هل قتلوه أم لا؟ وفي سبب اختلافهم في ذلك قولان.

احدهما: أنهم لما قتلوا الشخص المشبه كان الشبه قد ألقي على وجهه دون جسده، فقالوا: الوجه وجه عيسى، والجسد جسد غيره، ذكره ابن السائب.

والثاني: أنهم قالوا: إن كان هذا عيسى، فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا، فأين عيسى؟ يعنون الذي دخل في طلبه، هذا قول السدي.

والثاني: أن «الهاء» كناية عن عيسى، واختلافهم فيه قول بعضهم: هو ولد زنى، وقل بعضهم: هو ساحر.

والثاني: أن المختلفين النصارى، فعلى هذا في «هاء» فيه قولان.

احدهما: أنها ترجع إلى قتله، هل قتل أم لا؟

والثاني: أنها ترجع إليه، هل هو إله أم لا؟ وفي هاء «منه» قولان.

احدهما: أنها ترجع إلى قتله.

والثاني: إلى نفسه هل هو إله، أم لغير رشدة، أم هو ساحر؟

قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنّ} قال الزجاج: «اتباع» منصوب بالاستثناء، وهو استثناء ليس من الأول. والمعنى: ما لهم به من علم إلا أنهم يتبعون الظن، وإن رفع جاز على أن يجعل علمهم اتباع الظن، كما تقول العرب: تحيتك الضرب. قوله تعالى:

{وَمَا قَتَلُوهُ} في «الهاء» ثلاثة أقوال.

احدها: أنها ترجع إلى الظن فيكون المعنى: وما قتلوا ظنهم يقينا، هذا قول ابن عباس.

والثاني: أنها ترجع إلى العلم، أي: ما قتلوا [العلم به] يقينا، تقول: قتلته يقينا، وقتلته علما [للرأي والحديث] هذا قول الفراء، وابن قتيبة. قال ابن قتيبة: وأصل هذا: أن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء وغلبة، يقول: فلم يكن علمهم بقتل المسيح علما أحيط به، إنما كان ظنا.

والثالث: أنها ترجع إلى عيسى، فيكون المعنى: وما قتلوا عيسى حقا، هذا قول الحسن. وقال ابن الأنباري: اليقين مؤخر في المعنى، فالتقدير: وما قتلوه، بل رفعه اللّه إليه يقينا.

١٥٩

قوله تعالى: {وَإِن مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} قال الزجاج: المعنى: وما منهم أحد إلا ليؤمنن به، ومثله {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: ٧١].

وفي أهل الكتاب قولان.

احدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس.

والثاني: اليهود والنصارى، قاله الحسن، وعكرمة. وفي هاء «به» قولان.

احدهما: أنها راجعة إلى عيسى، قاله ابن عباس، والجمهور.

والثاني: أنها راجعة إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم، قاله عكرمة.

وفي هاء «موته» قولان.

احدهما: أنها ترجع إلى المؤمن. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ليس يهودي يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى، فقيل لابن عباس: إن خر من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهوي قال: وهي في قراءة أبي: «قبل موتهم». وهذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير.

وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يؤمن اليهودي قبل أن يموت، ولا تخرج روح النصراني حتى يشهد أن عيسى عبد. وقال عكرمة: لا تخرج روح اليهودي والنصراني حتى يؤمن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم.

والثاني: أنها تعود إلى عيسى. روى عطاء عن ابن عباس قال: إذا نزل إلى الأرض لا يبقى يهودي ولا نصراني، ولا أحد يعبد غير اللّه إلا اتبعه، وصدقه، وشهد أنه روح اللّه، وكلمته، وعبده، ونبيه. وهذا قول قتادة، وابن زيد، وابن قتيبة، واختاره ابن جرير، وعن الحسن كالقولين.

وقال الزجاج: هذا بعيد، لعموم قوله:

{وَإِن مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ}، والذين يبقون حينئذ شرذمة منهم، إلا أن يكون المعنى: أنهم كلهم يقولون: إن عيسى الذي ينزل لقتل الدجال نؤمن به. قوله تعالى:

{وَيَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} قال قتادة: يكون عليهم شهيدا أنه قد بلغ رسالات ربه، وأقر بالعبودية على نفسه.

١٦٠

قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ} قال مقاتل: حرم اللّه على أهل التوراة الربا، وأن يأكلوا أموال الناس ظلما، ففعلوا، وصدوا عن دين اللّه.

وعن الإيمان بمحمد عليه السلام، فحرم اللّه عليهم ما ذكر في قوله: {وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ} [الانعام: ١٤٦] عقوبة لهم. قال أبو سليمان: وظلمهم: نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات اللّه، وما ذكر في الآيات قبلها. وقال مجاهد:

{وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللّه} قال: صدهم أنفسهم وغيرهم عن الحق. قال ابن عباس: صدهم عن سبيل اللّه، يعني الإسلام، وأكلهم أموال الناس بالباطل، أي: بالكذب على دين اللّه، وأخذ الرشى على حكم اللّه، وتبديل الكتب التي أنزلها اللّه ليستديموا المأكل.

١٦١

قوله تعالى: {وَأَعْتَدْنَا} أي: أعددنا للكافرين، يعني اليهود.

وقيل: إنما قال «منهم» لأنه علم أن قوما منهم يؤمنون، فيأمنون العذاب.

١٦٢

قوله تعالى: {لَّـٰكِنِ ٱلرَّاسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ} قال ابن عباس: هذا استثناء لمؤمني أهل الكتاب، فأما الراسخون، فهم الثابتون في العلم. قال أبو سليمان: وهم عبد اللّه بن سلام، ومن آمن معه، والذين آمنوا من أهل الإنجيل ممن قدم مع جعفر من الحبشة، والمؤمنون، يعني أصحاب رسول اللّه. فأما قوله:

{وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَ} فهم القائمون بأدائها كما أمروا.

وفي نصب «المقيمين» أربعة أقوال.

احدها: أنه خطأ من الكاتب، وهذا قول عائشة، وروي عن عثمان بن عفان أنه قال: إن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها. وقد قرأ ابن مسعود، وأبي وسعيد، بن جبير وعكرمة، والجحدري: و«المقيمون الصلاة» بالواو. وقال الزجاج: قول من قال إنه خطأ، بعيد جدا، لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة، والقدوة، فكيف يتركون في كتاب اللّه شيئا يصلحه غيرهم؟ٰ فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم. وقال ابن الأنباري: حديث عثمان لا يصح، لأنه غير متصل، ومحال أن يؤخر عثمان شيئا فاسدا، ليصلحه من بعده.

والثاني: أنه نسق على «ما»

والمعنى: يؤمنون بما أنزل إليك، وبالمقيمين الصلاة، فقيل: هم الملائكة، وقيل: الأنبياء.

والثالث: أنه نسق على الهاء والميم من قوله {مِنْهُمْ}

فالمعنى: لكن الراسخون في العلم منهم، ومن المقيمين الصلاة يؤمنون بما أنزل إليك. قال الزجاج: وهذا رديء عند النحويين، لا ينسق بالظاهر المجرور على المضمر المجرور إلا في الشعر.

والرابع: أنه منصوب على المدح، فالمعنى: اذكر المقيمين الصلاة، وهم المؤتون الزكاة.

وأنشدوا:

لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر

النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر

وهذا على معنى: اذكر النازلين، وهم الطيبون، ومن هذا قولك: مررت بزيد الكريم، إن أردت أن تخلصه من غيره، فالخفض هو الكلام، وإن أردت المدح والثناء، فان شئت نصبت، فقلت: بزيد الكريم، كأنك قلت: اذكر الكريم، وإن شئت رفعت على معنى: هو الكريم. وتقول: جاءني قومك المطعمين في المحل، والمغيثون في الشدائد على معنى: اذكر المطعمين، وهم المغيثون، وهذا القول اختيار الخليل، وسيبويه. فهذه الأقوال حكاها الزجاج، واختار هذا القول.

١٦٣

قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} قال ابن عباس: قال عدي بن زيد، وسكين: يا محمد ما نعلم اللّه أنزل على بشر من شيء بعد موسى، فنزلت هذه الآية. وقد ذكرنا في «آل عمران» معنى الوحي، وذكر هنالك. وإسحاق: أعجمي، وإن وافق لفظ العربي، يقال: أسحقه اللّه يسحقه إسحاقا، ويعقوب: أعجمي. فأما اليعقوب، وهو ذكر الحجل وهي القبج فعربي، كذلك قرأته على شيخنا أبي منصور اللغوي. وأيوب: أعجمي، ويونس: اسم أعجمي. قال أبو عبيدة، يقال: يونس ويونس بضم النون وكسرها، وحكى أبو زيد الأنصاري عن العرب همزة مع الكسرة والضمة والفتحة.

وقال الفراء: يونس بضم النون من غير همز لغة أهل الحجاز، وبعض بني أسد يقول: يؤنس بالهمز، وبعض بني عقيل يقول: يونس بفتح النون من غير همز. والمشهور في القراءة يونس برفع النون من غير همز.

وقد قرأ ابن مسعود، وقتادة، ويحيى بن يعمر، وطلحة: يؤنس بكسر النون مهموزا. قرأ أبو الجوزاء، وأبو عمران، والجحدري: يونس بفتح النون من غير همز. وقرأ أبو المتوكل: يؤنس بفتح النون مهموزا.

وقرأ أبو السماك العدوي: يونس بكسر النون من غير همز. وقرأ عمرو بن دينار برفع النون مهموزا. وهارون: اسم أعجمي، وباقي الأنبياء قد تقدم ذكرهم. فأما الزبور، فأكثر القراء على فتح الزاي، وقرأ أبو رزين، وأبو رجاء، والأعمش، وحمزة بضم الزاي. قال الزجاج: فمن فتح الزاي، أراد: كتابا، ومن ضم، أراد: كتبا.

ومعنى ذكر «داود» أي: لا تنكروا تفضيل محمد بالقرآن، فقد أعطى اللّه داود الزبور. وقال أبو علي: كأن حمزة جعل كتاب داود أنحاء، وجعل كل نحو زبرا، ثم جمع، فقال: زبورا. وقال ابن قتيبة: الزبور فعول بمعنى مفعول، كما تقول: حلوب وركوب بمعنى: محلوب ومركوب، وهو من قولك: زبرت الكتاب أزبره زبرا: إذا كتبته، قال: وفيه لغة أخرى الزبور بضم الزاي، كأنه جمع.

١٦٤

قوله تعالى: {وَكَلَّمَ ٱللّه مُوسَىٰ تَكْلِيماً} تأكيد كلم بالمصدر يدل على أنه سمع كلام اللّه حقيقة. روى أبو سليمان الدمشقي، قال: سمعت إسماعيل بن محمد الصفار يقول: سمعت ثعلبا يقول: لولا أن اللّه تعالى أكد الفعل بالمصدر، لجاز أن يكون كما يقول أحدنا للآخر: قد كلمت لك فلانا بمعنى: كتبت إليه رقعة، أو بعثت إليه رسولا، فلما قال: تكليما لم يكن إلا كلاما مسموعا من اللّه.

١٦٥

قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللّه حُجَّةٌ} أي: لئلا يحتجوا في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل، لأن هذه الأشياء إنما تجب بالرسل.

١٦٦

قوله تعالى: {لَّـٰكِنِ ٱللّه يَشْهَدُ} في سبب نزلها قولان.

احدهما: أن النبي عليه السلام دخل على جماعة من اليهود، فقال: «إني واللّه أعلم أنكم لتعلمون أني رسول اللّه» فقالوا ما نعلم ذلك، فنزلت هذه الآية هذا قول ابن عباس.

والثاني: أن رؤساء أهل مكة أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: سألنا عنك اليهود، فزعموا أنهم لا يعرفونك، فائتنا بمن يشهد لك أن اللّه بعثك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن السائب. قال الزجاج: الشاهد: المبين لم يشهد به، فاللّه عز وجل بين ذلك، ويعلم مع إبانته أنه حق.

وفي معنى {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} ثلاثة أقوال.

احدها: أنزله وفيه علمه، قاله الزجاج.

والثاني: أنزله من علمه، ذكره أبو سليمان الدمشقي.

والثالث: أنزله إليك بعلم منه أنك خيرته من خلقه، قاله ابن جرير. قوله تعالى:

{وَٱلْمَلَـئِكَةُ يَشْهَدُونَ} فيه قولان.

احدهما: يشهدون أن اللّه أنزله.

والثاني: يشهدون بصدقك. قوله تعالى:

{وَكَفَىٰ بِٱللّه شَهِيداً} قال الزجاج: «الباء» دخلت مؤكدة. والمعنى: اكتفوا باللّه في شهادته.

١٦٧

قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللّه} قال مقاتل وغيره: هم اليهود كفروا بمحمد، وصدوا الناس عن الإسلام. قال أبو سليمان: وكان صدهم عن الإسلام قولهم للمشركين ولأتباعهم: ما نجد صفة محمد في كتابنا.

١٦٨

قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ} قال مقاتل وغيره: هم اليهود أيضا كفروا بمحمد والقرآن.

وفي الظلم المذكور هاهنا قولان.

احدهما: أنه الشرك، قاله مقاتل.

والثاني: أنه جحدهم صفة محمد النبي صلى اللّه عليه وسلم في كتابهم. قوله تعالى:

{لَّمْ يَكُنْ ٱللّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ} يريد من مات منهم على الكفر. وقال أبو سليمان: لم يكن اللّه ليستر عليهم قبيح فعالهم، بل يفضحهم في الدنيا، ويعاقبهم بالقتل والجلاء والسبي، وفي الآخرة بالنار {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً} ينجون فيه.

١٦٩

وقال مقاتل: طريقا إلى الهدى {وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللّه يَسِيراً} يعني كان عذابهم على اللّه هينا.

١٧٠

قوله تعالى: {يَـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ} الكلام عام، وروي عن ابن عباس أنه قال: أراد المشركين.

{قَدْ جَاءكُمُ ٱلرَّسُولُ بِٱلْحَقّ} أي: بالهدى، والصدق. قوله تعالى:

{يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ} قال الزجاج عن الخليل وجميع البصريين: إنه منصوب بالحمل على معناه، لأنك إذا قلت: انته خيرا لك، وأنت تدفعه عن أمر فتدخله في غيره، كان المعنى: انته وأت خيرا لك، وادخل في ما هو خير لك،

وأنشد الخليل، وسيبويه قول عمر بن أبي ربيعة:

فواعديه سرحتي مالك أو الربا بينهما سهلاكأنه

قال: إيتي مكانا أسهل. قوله تعالى:

{وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للّه مَا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ} أي: هو غني عنكم، وعن إيمانكم،

{وَكَانَ ٱللّه عَلِيماً} بما يكون من إيمان أو كفر {حَكِيماً} في تكليفكم مع علمه بما يكون منكم.

١٧١

قوله تعالى: {حَكِيماً يأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ} قال مقاتل: نزلت في نصارى نجران، السيد والعاقب، ومن معهما. والجمهور على أن المراد بهذه الآية: النصارى. وقال الحسن: نزلت في اليهود والنصارى. والغلو: الإفراط ومجاوزة الحد، ومنه غلا السعر، وقال الزجاج: الغلو: مجاوزة القدر في الظلم. وغلو النصارى في عيسى: قول بعضهم: هو اللّه، وقول بعضهم: هو ابن اللّه، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة. وعلى قول الحسن غلو اليهود فيه قولهم: إنه لغير رشدة. وقال بعض العلماء: لا تغلوا في دينكم بالزيادة في التشدد فيه. قوله تعالى:

{وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى ٱللّه إِلاَّ ٱلْحَقَّ} أي: لا تقولوا إن اللّه له شريك أو ابن أو زوجة. وقد ذكرنا معنى «المسيح» و«الكلمة» في {ءالَ عِمْرَانَ}.وفي معنى {وَرُوحٌ مّنْهُ} سبعة أقوال.

احدها: أنه روح من أرواح الأبدان. قال أبي بن كعب: لما أخذ اللّه الميثاق على بني آدم كان عيسى روحا من تلك الأرواح، فأرسله إلى مريم، فحملت به.

والثاني: أن الروح النفخ، فسمي روحا، لأنه حدث عن نفخة جبريل في درع مريم. ومنه قول ذي الرمة: وقلت له ارفعها إليك وأحيها بروحك واقتته لها قيتة قدراهذا قول أبي روق.

والثالث: أن معنى {وَرُوحٌ مّنْهُ} إنسان حي باحياء اللّه له.

والرابع: أن الروح: الرحمة، فمعناه: ورحمة منه، ومثله {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مّنْهُ} [المجادلة: ٢٢].

والخامس: أن الروح هاهنا جبريل. فالمعنى: ألقاها اللّه إلى مريم، والذي ألقاها روح منه. ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو سليمان الدمشقي.

والسادس: أنه سماه روحا، لأنه يحيا به الناس كما يحيون بالأرواح، ولهذا المعنى: سمي القرآن روحا، ذكره القاضي أبو يعلى.

والسابع: أن الروح: الوحي أوحى اللّه إلى مريم يبشرها به، وأوحى إلى جبريل بالنفخ في درعها، وأوحى إلى ذات عيسى أن: كن فكان. ومثله: {يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ بِٱلْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} [النحل: ٢] أي: بالوحي، ذكره الثعلبي. فأما قوله: «منه» فانه إضافة تشريف، كما تقول: بيت اللّه، والمعنى من أمره، ومما يقاربها قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ} [الجاثية: ١٣]. قوله تعالى:

{وَلاَ تَقُولُواْ ثَلَـٰثَةٌ} قال الزجاج: رفعه باضمار: لا تقولوا آلهتنا ثلاثة

{إِنَّمَا ٱللّه إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ} أي: ما هو إلا إله واحد

{سُبْحَـٰنَهُ} ومعنى «سبحانه»: تبرئته من أن يكون له ولد. قال أبو سليمان:

{وَكَفَىٰ بِٱللّه وَكِيلاً} أي: قيما على خلقه، مدبرا لهم.

١٧٢

قوله تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للّه} سبب نزولها: أن وفد نجران وفدوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: يا محمد لم تذكر صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا عيسى، قال: وأي شيء أقول له؟ هو عبد اللّه، قالوا: بل هو اللّه، فقال: إنه ليس بعار عليه أن يكون عبدا للّه، قالوا: بلى، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال الزجاج: معنى يستنكف: يأنف، واصله في اللغة من نكفت الدمع: إذا نحيته باصبعك من خدك.

قال الشاعر:

فبانوا فلولا ما تذكر منهم من الحلف لم ينكف لعينيك مدمع

قوله تعالى:

{وَلاَ ٱلْمَلَـئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ} قال ابن عباس: هم حملة العرش.

١٧٣

قوله تعالى: {فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ} أي: ثواب أعمالهم

{وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} مضاعفة الحسنات. وروى ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله:

{فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ} قال: يدخلون الجنة، ويزيدهم من فضله: الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا.

١٧٤

قوله تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ}

في البرهان ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الحجة، قاله مجاهد، والسدي.

والثاني: القرآن، قاله قتادة.

والثالث: أنه النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم، قاله سفيان الثوري. فأما النور المبين، فهو القرآن، قاله قتادة، وإنما سماه نورا، لأن الأحكام تبين به بيان الأشياء بالنور.

١٧٥

قوله تعالى: {وَٱعْتَصَمُواْ بِهِ} أي: استمسكوا.

وفي «هاء» به قولان.

احدهما: أنها تعود إلى النور وهو القرآن، قاله ابن جريج.

والثاني: تعود إلى اللّه تعالى: قاله مقاتل.

وفي «الرحمة» قولان.

احدهما: أنها الجنة، قاله ابن عباس، ومقاتل.

والثاني: أنها نفس الرحمة، والمعنى: سيرحمهم، قاله أبو سليمان. وفي «الفضل» قولان.

احدهما: أنه الرزق في الجنة، قاله مقاتل.

والثاني: أنه الإحسان، قاله أبو سليمان. قوله تعالى:

{وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرٰطاً مُّسْتَقِيماً} أي: يوفقهم لإصابة الطريق المستقيم. وقال ابن الحنفية: الصراط المستقيم: دين اللّه.

١٧٦

قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أنها نزلت في جابر بن عبد اللّه.

روى أبو الزبير عن جابر قال: مرضت فأتاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعودني هو وأبو بكر وهما ماشيان فوجدني قد أغمي علي، فتوضأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ثم صب علي من وضوئه، فأفقت، وقلت: يا رسول اللّه كيف أصنع في مالي وكان لي تسع أخوات، ولم يكن لي ولد؟ فلم يجبني بشيء، ثم خرج وتركني، ثم رجع إلي وقال: يا جابر لا أراك ميتا من وجعك هذا، وإن اللّه عز وجل قد أنزل في أخواتك، وجعل لهن الثلثين، فقرأ علي هذه الآية:

{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللّه يُفْتِيكُمْ فِى ٱلْكَلَـٰلَةِ} فكان جابر يقول: أنزلت هذه الآية في.

والثاني: أن الصحابة أهمهم بيان شأن الكلالة فسألوا عنها نبي اللّه، فنزلت هذه الآية، هذا قول قتادة. وقال سعيد بن المسيب: سأل عمر بن الخطاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كيف نورث الكلالة؟ فقال: «أوليس قد بين اللّه تعالى ذلك، ثم قرأ: {إِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَـٰلَةً}» فأنزل اللّه عز وجل {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللّه يُفْتِيكُمْ فِى ٱلْكَلَـٰلَةِ}. قوله تعالى:

{إِن ٱمْرُؤٌ هَلَكَ} أي: مات {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} يريد: ولا والد: فاكتفى بذكر احدهما، ويدل على المحذوف أن الفتيا في الكلالة، وهي من ليس له ولد ولا والد. قوله تعالى:

{وَلَهُ أُخْتٌ} يريد من أبيه وأمه {فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} عند انفرادها

{وَهُوَ يَرِثُهَا} أي: يستغرق ميراث الأخت إذا لم يكن لها ولد ولا والد، وهذا هو الأخ من الأب والأم، أو من الأب

{فَإِن كَانَتَا ٱثْنَتَيْنِ} يعني: أختين وسئل الأخفش ما فائدة قوله «اثنتين» و«كانتا» لا يفسر إلا باثنتين؟ فقال: أفادت العدد العاري عن الصفة، لأنه يجوز في «كانتا» صغيرتين، أو حرتين، أو صالحتين، أو طالحتين، فلما قال: «اثنتين» فاذا اطلاق العدد على أي وصف كانتا عليه.

{فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ} من تركة أخيهما الميت

{وَإِن كَانُواْ} يعني المخلفين. قوله تعالى:

{يُبَيّنُ ٱللّه لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} قال ابن قتيبة: لئلا تضلوا،

وقال الزجاج: فيه قولان.

احدهما: أن لا تضلوا، فأضمرت لا.

والثاني: كراهية أن تضلوا، وهو قول البصريين. قال ابن جريج: أن تضلوا في شأن المواريث.

﴿ ٠