ÓõæÑóÉõ ÇáúãóÇÆöÏóÉö ãóÏóäöíøóÉñ æóåöíó ãöÇÆóÉñ æóÚöÔúÑõæäó ÂíóÉð سورة المائدة قال ابن عباس، والضحاك: هي مدنية. وقال مقاتل: نزلت نهارا وكلها مدنية. وقال أبو سليمان الدمشقي: فيها من المكي {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قال: وقيل: فيها من المكي {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ ٱللّه} والصحيح أن قوله: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} نزلت بعرفه يوم عرفة، فلهذا نسبت إلى مكة. _________________________________ ١ قوله تعالى: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ} اختلفوا في المخاطبين بهذا على قولين. احدهما: أنهم المؤمنون من أمتنا، وهذا قول الجمهور. والثاني: أنهم أهل الكتاب، قاله ابن جريج. «والعقود»: العهود، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، والضحاك، والسدي، والجماعة. وقال الزجاج: «العقود»: أوكد العهود. واختلفوا في المراد بالعهود هاهنا على خمسة أقوال. احدها: أنها عهود اللّه التي أخذها على عباده فيما أحل وحرم، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أنها عهود الدين كلها، قاله الحسن. والثالث: أنها عهود الجاهلية، وهي الحلف الذي كان بينهم، قاله قتادة. والرابع: أنها العهود التي أخذها اللّه على أهل الكتاب من الإيمان بالنبي محمد صلى اللّه عليه وسلم، قاله ابن جريج، وقد ذكرنا عنه أن الخطاب للكتابيين. والخامس: أنها عقود الناس بينهم، من بيع، ونكاح، أو عقد الإنسان على نفسه من نذر، أو يمين، وهذا قول ابن زيد. قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلاْنْعَامِ} في بهيمة الأنعام ثلاثة أقاويل. احدها: أنها أجنة الأنعام التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت الأمهات، قاله ابن عمر، وابن عباس. والثاني: أنها الإبل، والبقر، والغنم، قاله الحسن، وقتادة، والسدي. وقال الربيع: هي الأنعام كلها. وقال ابن قتيبة: هي الإبل، والبقر، الغنم، والوحوش كلها. والثالث: أنها وحش الأنعام كالظباء، وبقر الوحش، روي عن ابن عباس، وأبي صالح. وقال الفراء: بهيمة الأنعام بقر الوحش، والظباء، والحمر الوحشية.قال الزجاج: وإنما قيل لها بهيمة، لأنها أبهمت عن أن تميز، وكل حي لا يميز فهو بهيمة. قوله تعالى: {إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ} روي عن ابن عباس أنه قال: هي الميتة وسائر ما في القرآن تحريمه. وقال ابن الأنباري: المتلو علينا من المحظور الآية التي بعدها، وهي قوله: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ}. قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلّى ٱلصَّيْدِ} قال أبو الحسن الأخفش: أوفوا بالعقود غير محلي الصيد، فانتصب على الحال. وقال غيره: المعنى: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير مستحلي اصطيادها، وأنتم حرم، قال الزجاج: الحرم: المحرومون، وواحد الحرم: حرام، يقال: رجل حرام، وقوم حرم. قال الشاعر: فقلت لها فيئي إليك فانني حرام وإني بعد ذاك لبيب أي: ملب. وقوله: {إِنَّ ٱللّه يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} أي: الخلق له يحل ما يشاء لمن يشاء، ويحرم ما يريد على من يريد. ٢ قوله تعالى: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ ٱللّه} في سبب نزولها قولان. احدهما: أن شريح بن ضبيعة أتى المدينة، فدخل على النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال: إلام تدعو؟ فقال: «إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه» فقال: إن لي أمراء خلفي أرجع إليهم أشاورهم، ثم خرج، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر، وما الرجل بمسلم» فمر شريح بسرح لأهل المدينة، فاستاقه، فلما كان عام الحديبية، خرج شريح إلى مكة معتمرا، ومعه تجارة، فأراد أهل السرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم، فاستأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال السدي: اسمه الحطم ابن هند البكري. قال: ولما ساق السرح جعل يرتجز: قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر وضم باتوا نياما وابن هند لم ينم بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين ممسوح القدم والثاني: أن ناسا من المشركين جاؤوا يؤمون البيت يوم الفتح مهلين بعمرة، فقال المسلمون: لا ندع هؤلاء بل نغير عليهم فنزل قوله {وَلا ءامّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ} قال ابن قتيبة: وشعائر اللّه: ما جعله اللّه علما لطاعته. وفي المراد بها هاهنا سبعة أقوال. احدها: أنها مناسك الحج، رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال الفراء: كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من الشعائر، ولا يطوفون بينهما، فقال اللّه تعالى: لا تستحلوا ترك ذلك. والثاني: أنها ما حرم اللّه تعالى في حال الاحرام، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: دين اللّه كله، قاله الحسن. والرابع: حدود اللّه، قاله عكرمة، وعطاء. والخامس: حرم اللّه، قاله السدي. والسادس: الهدايا المشعرة لبيت اللّه الحرام، قاله أبو عبيدة، والزجاج. والسابع: أنها أعلام الحرم، نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة، ذكره الماوردي، والقاضي أبو يعلى. قوله تعالى: {وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ} قال ابن عباس: لا تحلوا القتال فيه. وفي المراد بالشهر الحرام ثلاثة أقوال. احدها: أنه ذو القعدة، قاله عكرمة، وقتادة. والثاني: أن المراد به الأشهر الحرم. قال مقاتل: كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كل سنة فيقول: ألا إني قد أحللت كذا، وحرمت كذا. والثالث: أنه رجب، ذكره ابن جرير الطبري. والهدي: كل ما أهدي إلى بيت اللّه تعالى من شيء. وفي القلائد قولان. احدهما: أنها المقلدات من الهدي، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنها ما كان المشركون يقلدون به إبلهم وأنفسهم في الجاهلية، ليأمنوا به عدوهم، لأن الحرب كانت قائمة بين العرب إلا في الأشهر الحرم، فمن لقوة مقلدا نفسه، أو بعيره، أو مشعرا بدنه أو سائقا هديا لم يتعرض له. قال ابن عباس: كان من أراد أن يسافر في غير الأشهر الحرم، قلد بعيره من الشعر والوبر، فيأمن حيث ذهب. وروى مالك بن مغول عن عطاء قال: كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم، فيأمنون به إذا خرجوا من الحرم، فنزلت هذه الآية. وقال قتادة: كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من السمر فلم يعرض له أحد، وإذا رجع تقلد قلادة شعر، فلم يعرض له أحد. وقال الفراء: كان أهل مكة يقلدون بلحاء الشجر، وسائر العرب يقلدون بالوبر والشعر. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال. احدها: لا تستحلوا المقلدات من الهدي. والثاني: لا تستحلوا أصحاب القلائد. والثالث: أن هذا نهي للمؤمنين أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم، فيتقلدوه كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم، رواه عبد الملك عن عطاء، وبه قال مطرف، والربيع بن أنس. قوله تعالى: {وَلا ءامّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ} «الآم»: القاصد، «والبيت الحرام»: الكعبة، والفضل: الربح في التجارة، والرضوان من اللّه يطلبونه في حجهم على زعمهم. ومثله قوله: {وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِى} [طه:٩٧] وقيل: ابتغاء الفضل عام، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة. قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَـٰدُواْ} لفظه لفظ الأمر، ومعناه الإباحة نظيره {فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِى ٱلاْرْضِ} [الجمعة: ١٠] وهو يدل على إحرام متقدم. قوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} وروى الوليد عن يعقوب «يجرمنكم» بسكون النون، وتخفيفها. قال ابن عباس: لا يحملنكم، وقال غيره: لا يدخلنكم في الجرم، كما تقول: آثمته، أي: أدخلته في الإثم. وقال ابن قتيبة: لا يكسبنكم يقال: فلان جارم أهله، أي: كاسبهم، وكذلك جريمتهم. وقال الهذلي: ووصف عقابا: جريمة ناهض في رأس نيق ترى لعظام ما جمعت صليبا والناهض: فرخها، يقول: هي تكسب له، وتأتيه بقوته. «والشنآن»: البغض، يقال شنئته أشنؤه: إذا أبغضته. وقال ابن الأنباري: «الشنآن»: البغض، «والشنآن» بتسكين النون: البغيض. واختلف القراء في نون الشنآن، فقرأ ابن كثير، وابو عمرو، وحمزة، والكسائي: بتحريكها، وأسكنها ابن عامر، وروى حفص عن عاصم تحريكها، وأبو بكر عنه تسكينها، وكذلك اختلف عن نافع. قال أبو علي: «الشنان»، قد جاء وصفا، وقد جاء اسما، فمن حرك، فلأنه مصدر، والمصدر يكثر على فعلان، نحو النزوان، ومن سكن، قال: هو مصدر، وقد جاء المصدر على فعلان، تقول: لويته دينه ليانا، فالمعنى في القراءتين واحد، وإن اختلف اللفظان. واختلفوا في قوله: {أَن صَدُّوكُمْ} فقرأ ابن كثير، وابو عمرو بالكسر، وقرأ الباقون بالفتح، فمن فتح جعل الصد ماضيا، فيكون المعنى من أجل أن صدوكم، ومن كسرها، جعلها للشرط، فيكون الصد مترقبا. قال أبو الحسن الأخفش: وقد يكون الفعل ماضيا مع الكسر، كقوله: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: ٧٧] وقد كانت السرقة عندهم قد وقعت، وأنشد أبو علي الفارسي: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقري بها بدا فانتفاء الولادة أمر ماض وقد جعله جزاء، والجزاء إنما يكون بالمستقبل، فيكون المعنى: إن ننتسب لا تجدني مولود لئيمة. قال ابن جرير: وقراءة من فتح الألف أبين، لأن هذه السورة نزلت بعد الحديبية، وقد كان الصد تقدم. فعلى هذا في معنى الكلام قولان. احدهما: ولا يحملنكم بغض أهل مكة أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا فيه، فتقاتلوهم، وتأخذوا أموالهم إذا دخلتموه، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لا يحملنكم بغض أهل مكة، وصدهم إياكم أن تعتدوا باتيان ما لا يحل لكم من الغارة على المعتمرين من المشركين، على ما سبق في نزول الآية. قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ} قال الفراء: ليعن بعضكم بعضا. قال ابن عباس: البر ما أمرت به، «والتقوى»: ترك ما نهيت عنه. فأما «الإثم»: فالمعاصي. والعدوان: التعدي في حدود اللّه، قاله عطاء. فصل اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين. احدهما: أنها محكمة، روي عن الحسن أنه قال: ما نسخ من المائدة شيء، وكذلك قال أبو ميسرة في آخرين قالوا: ولا يجوز استحلال الشعائر، ولا الهدي قبل أوان ذبحه. واختلفوا في «القلائد» فقال قوم: يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر، وقال آخرون: كانت الجاهلية تقلد من شجر الحرم، فقيل لهم: لا تستحلوا أخذ القلائد من الحرم، ولا تصدوا القاصدين إلى البيت. والثاني: أنها منسوخة، وفي المنسوخ منها أربعة أقوال. احدها: أن جميعها منسوخ، وهو قول الشعبي. والثاني: أنها وردت في حق المشركين كانوا يقلدون هداياهم، ويظهرون شعائر الحج من الاحرام والتلبية، فنهي المسلمون بهذه الآية عن التعرض لهم، ثم نسخ ذلك بقوله: {فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: ٥] وهذا قول الأكثرين. والثالث: أن الذي نسخ قوله: {وَلا ءامّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ} نسخه قوله: {فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا} [التوبة: ٣٨] روي عن ابن عباس، وقتادة. والرابع: أن المنسوخ منها: تحريم الشهر الحرام، وآمون البيت الحرام: إذا كانوا مشركين. وهدي المشركين: إذا لم يكن لهم من المسلمين أمان، قاله أبو سليمان الدمشقي. ٣ قوله تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ} مفسر في {البقرة} فأما {المنخنقة} فقال ابن عباس: هي التي تختنق فتموت، وقال الحسن، وقتادة: هي التي تختنق بحبل الصائد وغيره. قلت: والمنخنقة حرام كيف وقع ذلك. قال ابن قتيبة: و«الموقوذة»: التي تضرب حتى توقذ، أي: تشرف على الموت، ثم تترك حتى تموت، وتؤكل بغير ذكاة، ومنه يقال: فلان وقيذ، وقد وقذته العبادة. و«المتردية»: الواقعة من جبل أو حائط، أو في بئر، يقال: تردى: إذا سقط. و«النطيحة»: التي تنطحها شاة أخرى، أو بقرة، «فعيلة» في معنى «مفعولة» {وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ ٱلسَّبُعُ} وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو مجلز، وابن أبي ليلى: السبع: بسكون الباء. والمراد: ما افترسه فأكل بعضه {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} أي: إلا ما لحقتم من هذا كله، وبه حياة، فذبحتموه. فأما الاستثناء، ففيه قولان. احدهما: أنه يرجع إلى المذكور من عند قوله: {وَٱلْمُنْخَنِقَةُ}. والثاني: أنه يرجع إلى ما أكل السبع خاصة، والعلماء على الأول. فصل في الذكاة قال الزجاج: أصل الذكاة في اللغة: تمام الشيء، فمنه الذكاء في السن. وهو تمام السن. قال الخليل: الذكاء: أن تأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استكمال القوة، ومنه الذكاء في الفهم، وهو أن يكون فهما تاما، سريع القبول. وذكيت النار، أي: أتممت إشعالها. وقد روي عن علي، وابن عباس، والحسن، وقتادة أنهم قالوا: ما أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف، أو ذنب يتحرك، فأكله حلال. قال القاضي أبو يعلى: ومذهب أصحابنا أنه إن كان يعيش مع ما به،حل بالذبح، فان كان لا يعيش مع ما به، نظرت، فان لم تكن حياته مستقرة، وإنما حركته حركة المذبوح، مثل أن شق جوفه، وأبينت حشوته، فانفصلت عنه، لم يحل أكله، وإن كانت حياته مستقرة يعيش اليوم واليومين، مثل أن يشق جوفه، ولم تقطع الأمعاء، حل أكله. ومن الناس من يقول: إذا كانت فيه حياة في الجملة أبيح بالذكاة، والصحيح ما ذكرنا، لأنه إذا لم تكن فيه حياة مستقرة، فهو في حكم الميت. ألا ترى أن رجلا لو قطع حشوة آدمي، ثم ضرب عنقه آخر، فالأول هو القاتل، لأن الحياة لا تبقى مع الفعل الأول. وفي ما يجب قطعه في الذكاة روايتان. إحداهما: أنه الحلقوم والمريء، والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء، فان نقص من ذلك شيئا، لم يؤكل، هذا ظاهر كلام احمد في رواية عبد اللّه. والثانية: يجزى قطع الحلقوم والمريء، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يجزى قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين. وقال مالك: يجزى قطع الأوداج، وإن لم يقطع الحلقوم. وقال الزجاج: الحلقوم بعد الفم، وهو موضع النفس، وفيه شعب تتشعب منه في الرئة. والمريء: مجرى الطعام، والودجان: عرقان يقطعهما الذابح. فأما الآلة التي تجوز بها الذكاة، فهي كل ما أنهر الدم، وفرى الأوداج سوى السن والظفر سواء كانا منزوعين، أو غير منزوعين. وأجاز أبو حنيفة الذكاة بالمنزوعين. فأما البعير إذا توحش، أو تردى في بئر، فهو بمنزلة الصيد ذكاته عقره. وقال مالك: ذكاته ذكاة المقدور عليه. فان رمى صيدا، فأبان بعضه، وفيه حياة مستقرة، فذكاه، أو تركه حتى مات جاز أكله، وفي أكل ما بان منه روايتان. قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ} في النصب قولان. احدهما: أنها أصنام تنصب، فتعبد من دون اللّه، قاله ابن عباس، والفراء، والزجاج، فعلى هذا القول يكون المعنى، وما ذبح على اسم النصب، وقيل لأجلها، فتكون «على» بمعنى «اللام» وهما يتعاقبان في الكلام، كقوله: {فَسَلَـٰمٌ لَّكَ} [الواقعة: ٩١] أي: عليك، وقوله: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الاسراء:٧]. والثاني: أنها حجارة كانوا يذبحون عليها، ويشرحون اللحم عليها، ويعظمونها، وهو قول ابن جريج. وقرأ الحسن، وخارجة عن أبي عمرو: على النصب، بفتح النون، وسكون الصاد، قال ابن قتيبة، يقال: نصب ونصب ونصب، وجمعه أنصاب. قوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلاْزْلاَمِ} قال ابن جرير: أي: وأن تطلبوا علم ما قسم لكم، أو لم يقسم بالأزلام، وهو استفعلت من القسم [قسم الرزق والحاجات]. قال ابن قتيبة: الأزلام: القداح، واحدها: زلم وزلم. والاستقسام بها: أن يضرب [بها] فيعمل بما يخرج فيها من أمر أو نهي، فكانوا إذا أرادوا أن يقتسموا شيئا بينهم، فأحبوا أن يعرفوا قسم كل امرى تعرفوا ذلك منها، فأخذ الاستقسام من القسم وهو النصيب. قال سعيد بن جبير: الأزلام: حصى بيض، كانوا إذا أرادوا غدوا، أو رواحا، كتبوا في قدحين، في احدهما: أمرني ربي، وفي الآخر: نهاني ربي، ثم يضربون بهما، فأيهما خرج، عملوا به. وقال مجاهد: الأزلام سهام العرب، وكعاب فارس التي يتقامرون بها. وقال السدي: كانت الأزلام تكون عند الكهنة. وقال مقاتل: في بيت الأصنام. وقال قوم: كانت عند سدنة الكعبة. قال الزجاج: ولا فرق بين ذلك، وبين قول المنجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا، أو اخرج من أجل نجم كذا. قوله تعالى: {ذٰلِكُمْ فِسْقٌ} في المشار إليه بذلكم قولان. احدهما: أنه جميع ما ذكر في الآية، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال سعيد بن جبير. والثاني: أنه الاستقسام بالأزلام، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والفسق: الخروج عن طاعة اللّه إلى معصيته. قوله تعالى: {ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} في هذا اليوم ثلاثة أقوال. احدها: أنه اليوم الذي دخل فيه رسول اللّه مكة في حجة الوداع، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال ابن السائب: نزلت ذلك اليوم. والثاني: أنه يوم عرفة، قاله مجاهد، وابن زيد. والثالث: أنه لم يرد يوما بعينه، وإنما المعنى: الآن يئسوا كما تقول: أنا اليوم قد كبرت، قاله الزجاج: قال ابن الأنباري: العرب توقع اليوم على الزمان الذي يشتمل على الساعات والليالي، فيقولون: قد كنت في غفلة، فاليوم استيقظت، يريدون: فالآن، ويقولون: كان فلان يزورنا، وهو اليوم يجفونا، ولا يقصدون باليوم قصد يوم واحد. قال الشاعر: فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر أراد: فزمان لنا، وزمان علينا، ولم يقصد ليوم واحد لا ينضم إليه غيره. وفي معنى يأسهم قولان. احدهما: أنهم يئسوا أن يرجع المؤمنون إلى دين المشركين، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: يئسوا من بطلان الإسلام، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: وإنما يئسوا من إبطال دينهم لما نقل اللّه خوف المسلمين إليهم، وأمنهم إلى المسلمين، فعلموا أنهم لا يقدرون على إبطال دينهم، ولا على استئصالهم، وإنما قاتلوهم بعد ذلك ظنا منهم أن كفرهم يبقى. قوله تعالى: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} قال ابن جريج: لا تخشوهم أن يظهروا عليكم، وقال ابن السائب: لا تخشوهم أن يظهروا على دينكم، واخشوني في مخالفة أمري. قوله تعالى: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} روى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين إنكم تقرؤون آية من كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال: وأي آية هي؟ قال: قوله {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول اللّه، والساعة التي نزلت فيها، والمكان الذي نزلت فيه على رسول اللّه وهو قائم بعرفة في يوم جمعة. وفي لفظ «نزلت عشية عرفة» قال سعيد بن جبير: عاش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد ذلك أحدا وثمانين يوما. فأما قوله: {ٱلْيَوْمَ} ففيه قولان. احدهما: أنه يوم عرفة، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه ليس بيوم معين، رواه عطية عن ابن عباس، وقد ذكرنا هذا آنفا. وفي معنى إكمال الدين خمسة أقوال. احدها: أنه إكمال فرائضه وحدوده، ولم ينزل بعد هذه الآية تحليل ولا تحريم، قاله ابن عباس، والسدي، فعلى هذا يكون المعنى: اليوم أكملت لكم شرائع دينكم. والثاني: أنه بنفي المشركين عن البيت، فلم يحج معهم مشرك عامئذ، قاله سعيد بن جبير، وقتادة. وقال الشعبي: كمال الدين هاهنا: عزه وظهوره، وذل الشرك ودروسه، لا تكامل الفرائض والسنن، لأنها لن تزل تنزل إلى أن قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فعلى هذا يكون المعنى: اليوم أكملت لكم نصر دينكم. والثالث: أنه رفع النسخ عنه. وأما الفرائض فلم تزل تنزل عليه حتى قبض، روي عن ابن جبير أيضا. والرابع: أنه زوال الخوف من العدو، والظهور عليهم، قاله الزجاج. والخامس: أنه أمن هذه الشريعة من أن تنسخ بأخرى بعدها، كما نسخ بها ما تقدمها. وفي إتمام النعمة ثلاثة أقوال. احدها: منع المشركين من الحج معهم، قاله ابن عباس، وابن جبير، وقتادة. والثاني: الهداية إلى الإيمان، قاله ابن زيد. والثالث: الإظهار على العدو، قاله السدي. قوله تعالى: {فَمَنِ ٱضْطُرَّ} أي دعته الضرورة إلى أكل ما حرم عليه. {فِى مَخْمَصَةٍ} أي: مجاعة، والخمص: الجوع. قال الشاعر يذم رجلا: يرى الخمص تعذيبا وإن يلق شبعة يبت قلبه من قلة الهم مبهما وهذا الكلام يرجع إلى المحرمات المتقدمة من الميتة والدم، وما ذكر معهما. قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} قال ابن قتيبة: غير مائل إلى ذلك، و«الجنف» الميل. وقال ابن عباس، والحسن، ومجاهد: غير متعمد لإثم. وفي معنى «تجانف لإثم» قولان. احدهما: أن يتناول منه بعد زوال الضرورة، روي عن ابن عباس في آخرين. والثاني: أن يتعرض لمعصية في مقصده، قاله قتادة. وقال مجاهد: من بغى وخرج في معصية، حرم عليه أكله. قال القاضي أبو يعلى: وهذا أصح من القول الأول، لأن الآية تقتضي اجتماع تجانف الاثم مع الاضطرار، وذلك إنما يصح في سفرالعاصي، ولا يصح حمله على تناول الزيادة على سد الرمق، لأن الاضطرار قد زال. قال أبو سليمان: ومعنى الآية: فمن اضطر فأكله غير متجانف لإثم، فان اللّه غفور، أي: متجاوز عنه، رحيم إذ أحل ذلك للمضطر. ٤ قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} في سبب نزولها قولان. احدهما: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب، قال الناس: يا رسول اللّه ماذا أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية، أخرجه أبو عبد اللّه الحاكم في «صحيحه» من حديث أبي رافع عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وكان السبب في أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بقتلها أن جبريل عليه السلام استأذن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأذن له، فلم يدخل وقال: «إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة» فنظروا فاذا في بعض بيوتهم جرو. والثاني: أن عدي بن حاتم، وزيد الخيل الذي سماه رسول اللّه: زيد الخير، قالا: يا رسول اللّه إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه مالا ندرك ذكاته، وقد حرم اللّه الميتة، فماذا يحل لنا منها، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير. قال الزجاج: ومعنى الكلام: يسألونك أي شيء أحل لهم؟ قل أحل لكم الطيبات، وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح، والتأويل أنهم سألوا عنه ولكن حذف ذكر صيد ما علمتم، لأن في الكلام دليلا عليه. وفي الطيبات قولان: احدهما: أنها المباح من الذبائح. والثاني: أنها ما استطابه العرب مما لم يحرم. فأما «الجوارح» فهي ما صيد به من سباع البهائم والطير، كالكلب، والفهد، والصقر، والبازي، ونحو ذلك مما يقبل التعليم. قال ابن عباس: كل شيء صاد فهو جارح. وفي تسميتها بالجوارح قولان. احدهما: لكسب أهلها بها. قال ابن قتيبة: أصل الاجتراح: الاكتساب، يقال: امرأة لا جارح لها، أي: لا كاسب. والثاني: لأنها تجرح ما تصيد في الغالب، ذكره الماوردي. قال أبو سليمان الدمشقي: وعلامة التعليم أنك إذا دعوته أجاب، وإذا أسدته استأسد، ومضى في طلبه، وإذا أمسك أمسك عليك لا على نفسه، وعلامة إمساكه عليك: أن لا يأكل منه شيئا، هذا في السباع والكلاب، فأما تعليم جوارح الطير فبخلاف السباع، لأن الطائر إنما يعلم الصيد بالأكل، والفهد، والكلب، وما أشبههما يعلمون بترك الأكل، فهذا فرق ما بينهما. وفي قوله: {مُكَلّبِينَ} ثلاثة أقوال. احدها: أنهم أصحاب الكلاب، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول ابن عمر، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك، والسدي، والفراء، والزجاج، وابن قتيبة. قال الزجاج: يقال رجل مكلب وكلابي، أي: صاحب صيد بالكلاب. والثاني: أن معنى «مكلبين»: مصرين على الصيد، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد. والثالث: ان «مكلبين» بمعنى: معلمين. قال أبو سليمان الدمشقي: وإنما قيل لهم: مكلبين، لأن الغالب من صيدهم إنما يكون بالكلاب. قال ثعلب: وقرأ الحسن، وأبو رزين: مكلبين، بسكون الكاف، يقال: أكلب الرجل: إذا كثرت كلابه، وأمشى: إذا كثرت ماشيته، والعرب تدعو الصائد مكلبا. قوله تعالى: {تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللّه} قال سعيد بن جبير: تؤدبونهن لطلب الصيد. وقال الفراء: تؤدبونهن أن لا يأكلن صيدهن. واختلفوا هل إمساك الصائد عن الأكل شرط في صحة التعليم أم لا؟ على ثلاثة أقوال. احدها: أنه شرط في كل الجوارح، فان أكلت، لم يؤكل، روي عن ابن عباس، وعطاء. والثاني: أنه ليس بشرط في الكل، ويؤكل وإن أكلت، روي عن سعد ابن أبي وقاص، وابن عمر، وأبي هريرة، وسلمان الفارسي. والثالث: أنه شرط في جوارح البهائم، وليس بشرط في جوارح الطير، وبه قال الشعبي، والنخعي، والسدي، وهو أصح لما بينا أن جارح الطير يعلم على الأكل، فأبيح ما أكل منه، وسباع البهائم تعلم على ترك الأكل، فأبيح ما أكلت منه. فعلى هذا إذا أكل الكلب والفهد من الصيد، لم يبح أكله. فأما ما أكل منه الصقر والبازي، فمباح، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، وقال مالك: يباح أكل ما أكل منه الكلب، والفهد، والصقر، فان قتل الكلب، ولم يأكل، أبيح. وقال أبو حنيفة: لا يباح، فان أدرك الصيد، وفيه حياة، فمات قبل أن يذكيه، فان كان ذلك قبل القدرة على ذكاته أبيح، وإن أمكنه فلم يذكه، لم يبح، وبه قال مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يباح في الموضعين. فأما الصيد بكلب المجوسي، فروي عن احمد أنه لا يكره، وهو قول الأكثرين، وروي عنه الكراهة، وهو قول الثوري لقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ ٱلْجَوَارِحِ} وهذا خطاب للمؤمنين. قال القاضي أبو يعلى: ومنع أصحابنا الصيد بالكلب الأسود، وإن كان معلما، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر بقتله، والأمر بالقتل: يمنع ثبوت اليد، ويبطل حكم الفعل، فيصير وجوده كالعدم، فلا يباح صيده. قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} قال الأخفش: «من» زائدة، كقوله: {فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور:٤٣]. قوله تعالى: {وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللّه عَلَيْهِ} في هاء الكناية قولان. احدهما: أنها ترجع إلى الإرسال، قاله ابن عباس، والسدي، وعندنا أن التسمية شرط في إباحة الصيد. والثاني: ترجع إلى الأكل فتكون التسمية مستحبة. قوله تعالى: {وَٱتَّقُواْ ٱللّه} قال سعيد بن جبير: لا تستحلوا ما لم يذكر اسم اللّه عليه. ٥ قوله تعالى: {ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ} قال القاضي أبو يعلى: يجوز أن يريد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه الآية، ويجوز أن يريد اليوم الذي تقدم ذكره في قوله: {ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ}، وفي قوله: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، وقيل: ليس بيوم معين. وقد سبق الكلام في «الطيبات» وإنما كرر إحلالها تأكيدا. فأما أهل الكتاب، فهم اليهود والنصارى. وطعامهم: ذبائحهم، هذا قول ابن عباس، والجماعة. وإنما أريد بها الذبائح خاصة، لأن سائر طعامهم لا يختلف بمن تولاه من مجوسي وكتابي، وإنما الذكاة تختلف، فلما خص أهل الكتاب بذلك، دل على أن المراد الذبائح، فأما ذبائح المجوس، فأجمعوا على تحريمها. واختلفوا في ذبائح من دان باليهودية والنصرانية من عبدة الأوثان، فروي عن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب، فقال: لا بأس بها، وتلا قوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: ٥١] وهذا قول الحسن، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وعكرمة، وقتادة، والزهري، والحكم، وحماد. وقد روي عن علي، وابن مسعود في آخرين أن ذبائحهم لا تحل. ونقل الخرقي عن احمد في نصارى بني تغلب روايتين. إحداهما: تباح ذبائحهم، وهو قول أبي حنيفة، ومالك. والثانية: لا تباح. وقال الشافعي: من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن، لم يبح أكل ذبيحته. قوله تعالى: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} أي: وذبائحكم لهم حلال، فاذا اشتروا منا شيئا كان الثمن لنا حلالا، واللحم لهم حلالا. قال الزجاج: والمعنى: أحل لكم أن تطعموهم. فصل وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا وإن ذكروا غير اسم اللّه عليها، فكان هذا ناسخا لقوله تعالى:{وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللّه عَلَيْهِ} [الأنعام: ١٢١] والصحيح أنها أطلقت إباحة ذبائحهم، لأن الأصل أنهم يذكرون اللّه، فيحمل أمرهم على هذا. فان تيقنا أنهم ذكروا غيره، فلا نأكل، ولا وجه للنسخ، وإلى هذا الذي قلته ذهب علي، وابن عمر، وعبادة، وأبو الدرداء، والحسن في جماعة. قوله تعالى: {وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ} فيهن قولان. احدهما: العفائف، قاله ابن عباس. والثاني: الحرائر، قاله مجاهد. وفي قوله: {وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ} قولان. احدهما: الحرائر أيضا، قاله ابن عباس. والثاني: العفائف، قاله الحسن، والشعبي، والنخعي، والضحاك، والسدي فعلى هذا القول يجوز تزويج الحرة منهن والأمة. فصل وهذه الآية أباحت نكاح الكتابية. وقد روي عن عثمان أنه تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية. وعن طلحة بن عبيد اللّه: أنه تزوج يهودية. وقد روي عن عمر، وابن عمر كراهة ذلك. واختلفوا في نكاح الكتابية الحربية، فقال ابن عباس: لا تحل، والجمهور على خلافه، وإنما كرهوا ذلك، لقوله تعالى: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللّه وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ٱللّه وَرَسُولَهُ} [المجادلة: ٢٢] والنكاح يوجب الود. واختلفوا في نكاح نساء تغلب، فروي عن علي رضي اللّه عنه الحظر، وبه قال جابر بن زيد، والنخعي، وروي عن ابن عباس الاباحة. وعن احمد روايتان. واختلفوا في إماء أهل الكتاب، فروي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد: أنه لا يجوز نكاحهن، وبه قال الأوزاعي، ومالك، والليث بن سعد، والشافعي، وأصحابنا، وروي عن الشعبي، وأبي ميسرة جواز ذلك، وبه قال أبو حنيفة. فأما المجوس، فالجمهور على أنهم ليسوا بأهل كتاب، وقد شذ من قال: إنهم أهل كتاب، ويبطل قولهم قوله عليه السلام: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» فأما «الأجور» و«الإحصان» و«السفاح» و«الأخدان» فقد سبق في سورة {ٱلنّسَاء}. قوله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإيمَـٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} سبب نزول هذا الكلام: أن اللّه تعالى لما رخص في نكاح الكتابيات قلن بينهن: لولا أن اللّه تعالى قد رضي علينا، لم يبح للمؤمنين تزويجنا، وقال المسلمون: كيف يتزوج الرجل منا الكتابية، وليست على ديننا، فنزلت: {وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإيمَـٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} رواه أبو صالح عن ابن عباس.وقال مقاتل بن حيان: نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب، يقول: ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر. وروى ليث عن مجاهد: ومن يكفر بالإيمان، قال: الإيمان باللّه تعالى. قال الزجاج: معنى الآية: من أحل ما حرم اللّه، أو حرم ما أحله اللّه، فهو كافر. وقال أبو سليمان: من جحد ما أنزله اللّه من شرائع الإيمان، وعرفه من الحلال والحرام، فقد حبط عمله المتقدم. وسمعت الحسن بن أبي بكر النيسابوري الفقيه يقول: إنما أباح اللّه عز وجل الكتابيات، لأن بعض المسلمين قد يعجبهن حسنهن، فحذر ناكحهن من الميل إلى دينهن بقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإيمَـٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ}. ٦ قوله تعالى: {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا} قال الزجاج: المعنى: إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللّه} [النحل: ٩٨] قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: إذا آخيت فآخ أهل الحسب، وإذا اتجرت فاتجر في البز. قال: ويجوز أن يكون الكلام مقدما ومؤخرا، تقديره: إذا غسلتم وجوهكم، واستوفيتم الطهور، فقوموا إلى الصلاة. وللعلماء في المراد بالآية قولان. احدهما: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، فاغسلوا، فصار الحدث مضمرا في وجوب الوضوء، وهذا قول سعد بن أبي وقاص، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، والفقهاء. والثاني: أن الكلام على إطلاقه من غير إضمار، فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة، محدثا كان، أو غير محدث، وهذا مروي عن علي رضي اللّه عنه، وعكرمة، وابن سيرين. ونقل عنهم أن هذا الحكم غير منسوخ، ونقل عن جماعة من العلماء أن ذلك كان واجبا، ثم نسخ بالسنة، وهو ما روى بريدة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: لقد صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال «عمدا فعلته يا عمر» وقال قوم: في الآية تقديم وتأخير، ومعناها: إذا قمتم إلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء، فاغسلوا وجوهكم. قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ} «إلى» حرف موضوع للغاية، وقد تدخل الغاية فيها تارة، وقد لا تدخل، فلما كان الحدث يقينا، لم يرتفع إلا بيقين مثله، وهو غسل المرفقين. فأما الرأس فنقل عن احمد وجوب مسح جميعه، وهو قول مالك، وروي عنه:يجب مسح أكثره، وروي عن أبي حنيفة روايتان. إحداهما: أنه يتقدر بربع الرأس. والثانية: بمقدار ثلاث أصابع. قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ} قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: بكسر اللام عطفا على مسح الرأس، وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم، ويعقوب: بفتح اللام عطفا على الغسل، فيكون من المقدم والمؤخر. قال الزجاج: الرجل من أصل الفخذ إلى القدم، فلما حد الكعبين، علم أن الغسل ينتهي إليهما، ويدل على وجوب الغسل التحديد بالكعبين، كما جاء في تحديد اليد «إلى المرافق» ولم يجى في شيء من المسح تحديد. ويجوز أن يراد الغسل على قراءة الخفض، لأن التحديد بالكعبين يدل على الغسل، فينسق بالغسل على المسح. قال الشاعر: يا ليت بعلك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا والمعنى: وحاملا رمحا. وقال الآخر: علفتها تبنا وماء باردا والمعنى: وسقيتها ماء باردا. وقال أبو الحسن الأخفش: يجوز الجر على الإتباع، والمعنى: الغسل، نحو قولهم: جحر ضب خرب، وقال ابن الأنباري: لما تأخرت الأرجل بعد الرؤوس، نسقت عليها للقرب والجوار، وهي في المعنى نسق على الوجوه، كقولهم: جحر ضب خرب، ويجوز أن تكون منسوقة عليها، لأن العرب تسمي الغسل مسحا، لأن الغسل لا يكون إلا بمسح. وقال أبو علي: من جر فحجته أنه وجد في الكلام عاملين: احدهما: الغسل، والآخر: الباء الجارة، ووجه العاملين إذا اجتمعا: أن يحمل الكلام على الأقرب منهما دون الأبعد، وهو «الباء» هاهنا، وقد قامت الدلالة على أن المراد بالمسح: الغسل من وجهين. احدهما: أن أبا زيد قال: المسح الخفيف الغسل، قالوا: تمسحت للصلاة، وقال أبو عبيدة: فطفق مسحا بالسوق، أي: ضربا، فكأن المسح بالآية غسل خفيف. فان قيل: فالمستحب التكرار ثلاثا؟ قيل: إنما جاءت الآية بالمفروض دون المسنون. والوجه الثاني: أن التحديد والتوقيت إنما جاء في المغسول دون الممسوح فلما وقع التحديد مع المسح، علم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد، وحجة من نصب أنه حمل ذلك على الغسل لاجتماع فقهاء الأمصار على الغسل. قوله تعالى: {إِلَى ٱلْكَعْبَينِ} «إلى» بمعنى «مع» والكعبان: العظمان الناتئان من جانبي القدم. قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ} أي:فتطهروا، فأدغمت التاء في الطاء، لأنهما من مكان واحد، واجتلبت الهمزة توصلا إلى النطق بالساكن، وقد بين اللّه عز وجل طهارة الجنب في سورة {مّنَ ٱلنّسَاء} بقوله: {حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ} [النساء: ٤٣] وقد ذكرنا هناك الكلام في تمام الآية إلى قوله: {مَا يُرِيدُ ٱللّه لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ} «والحرج»: الضيق، فجعل اللّه الدين واسعا حين رخص في التيمم. قوله تعالى: {وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ} أي: يريد أن يطهركم. قال مقاتل: من الأحداث والجنابة، وقال غيره: من الذنوب والخطايا لأن الوضوء يكفر الذنوب. قوله تعالى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} في الذي يتم به النعمة أربعة أقوال. احدها: بغفران الذنوب. قال محمد بن كعب القرظي: حدثني عبد اللّه بن دارة، عن حمران قال: مررت على عثمان بفخارة من ماء، فدعا بها فتوضأ، فأحسن الوضوء ثم قال: لو لم أسمعه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غير مرة أو مرتين أو ثلاثا ما حدثتكم سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: «ما توضأ عبد فأحسن الوضوء، ثم قام إلى الصلاة، إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى» قال محمد بن كعب: وكنت إذا سمعت الحديث التمسته في القرآن، فالتمست هذا فوجدته. في قوله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك} [الفتح:١، ٢] فعلمت أن اللّه لم يتم النعمة عليه حتى غفر له ذنوبه، ثم قرأت الآية التي في «المائدة»: {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا} إلى قوله {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} فعلمت أنه لم يتم النعمة عليهم حتى غفر لهم. والثاني: بالهداية إلى الإيمان، وإكمال الدين، وهذا قول ابن زيد. والثالث: بالرخصة في التيمم، قاله مقاتل، وأبو سليمان. والرابع: ببيان الشرائع، ذكره بعض المفسرين. ٧ قوله تعالى: {وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللّه عَلَيْكُمْ} يعني النعم كلها. وفي هذا حث على الشكر. وفي الميثاق أربعة أقوال. احدها: أنه إقرار كل مؤمن بما آمن به. قال ابن عباس: لما أنزل اللّه الكتاب، وبعث الرسول، فقالوا: آمنا ذكرهم ميثاقه الذي أقروا به على أنفسهم، وأمرهم بالوفاء. والثاني: أنه الميثاق الذي أخذه من بني آدم حين أخرجهم من ظهره، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وابن زيد. والثالث: أنه ما وثق على المؤمنين على لسان نبيه عليه السلام من الأمر بالوفاء بما أقروا به من الإيمان. روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع: أنه الميثاق الذي أخذ من الصحابة على السمع والطاعة في بيعة العقبة، وبيعة الرضوان، ذكره بعض المفسرين. قوله تعالى: {وَٱتَّقُواْ ٱللّه} قال مقاتل: اتقوه في نقض الميثاق {إِنَّ ٱللّه عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} أي: بما فيها من إيمان وشك. ٨ قوله تعالى: {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للّه} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. احدها: أنها نزلت من أجل كفار قريش أيضا، وقد تقدم ذكرهم في قوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} روى نحو هذا أبو صالح، عن ابن عباس وبه قال مقاتل. والثاني: أن قريشا بعثت رجلا ليقتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأطلع اللّه نبيه على ذلك، ونزلت هذه الآية، والتي بعدها، هذا قول الحسن. والثالث: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ذهب إلى يهود بني النضير يستعينهم في دية، فهموا بقتله، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وقتادة. ومعنى الآية: كونوا قوامين للّه بالحق ولا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل {ٱعْدِلُواْ} في الولي والعدو {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}، أي إلى التقوى. والمعنى: أقرب إلى أن تكونوا متقين وقيل: هو أقرب إلى اتقاء النار. ٩ قوله تعالى: {وَعَدَ ٱللّه ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ} في معناها قولان. احدهما: أن المعنى: وعدهم اللّه أن يغفر لهم ويأجرهم، فاكتفى بما ذكر عن هذا المعنى. والثاني: أن المعنى: وعدهم فقال: لهم مغفرة. وقد بينا في {البقرة} معنى «الجحيم». ١٠ {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} ١١ قوله تعالى: {يَـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللّه عَلَيْكُمْ...} في سبب نزولها أربعة أقوال. احدها: أن رجلا من محارب قال لقومه: الا أقتل لكم محمدا؟ فقالوا: وكيف تقتله؟ فقال: أفتك به، فأقبل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسيفه في حجره، فأخذه، وجعل يهزه، ويهم به، فيكبته اللّه، ثم قال: يا محمد ما تخافني؟ قال: لا، قال: لا تخافني وفي يدي السيف؟ٰ قال: يمنعني اللّه منك، فأغمد السيف، فنزلت هذه الآية، رواه الحسن البصري عن جابر بن عبد اللّه. وفي بعض الألفاظ: فسقط السيف من يده. وفي لفظ آخر: فما قال له النبي صلى اللّه عليه وسلم شيئا، ولا عاقبه. واسم هذا الرجل: غورث بن الحارث من محارب خصفة. والثاني: أن اليهود عزموا على الفتك برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فكفاه اللّه شرهم. قال ابن عباس: صنعوا له طعاما، فأوحي أليه بشأنهم، فلم يأت. وقال مجاهد، وعكرمة: خرج إليهم يستعينهم في دية، فقالوا: اجلس حتى نعطيك، فجلس هو وأصحابه، فخلا بعضهم ببعض، وقالوا: لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن، فمن يظهر على هذا البيت، فيطرح عليه صخرة؟ فقال عمرو بن جحاش: أنا، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه، فأمسك اللّه يده، وجاء جبريل، فأخبره، وخرج، ونزلت هذه الآية. والثالث: أن بني ثعلبة، وبني محارب أرادوا أن يفتكوا بالنبي وأصحابه، وهم ببطن نخلة في غزاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم السابعة، فقالوا: إن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم، فاذا سجدوا وقعنا بهم، فأطلع اللّه نبيه على ذلك، وأنزل صلاة الخوف، ونزلت هذه الآية، هذا قول قتادة. والرابع: أنها نزلت في حق اليهود حين ظاهروا المشركين على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، هذا قول ابن زيد. ١٢ قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللّه مِيثَـٰقَ بَنِى إِسْرٰءيلَ} قال أبو العالية: أخذ اللّه ميثاقهم أن يخلصوا له العبادة، ولا يعبدوا غيره. وقال مقاتل: أن يعملوا بما في التوراة. وفي معنى النقيب ثلاثة أقوال. احدها: أنه الضمين، قاله الحسن، ومعناه: أنه ضمين ليعرف أحوال من تحت يده، ولا يجوز أن يكون ضمينا عنهم بالوفاء، لأن ذلك لا يصح ضمانه، وقال ابن قتيبة: هو الكفيل على القوم. والنقابة شبيهة بالعرافة. والثاني: أنه الشاهد، قاله قتادة. وقال ابن فارس: النقيب: شاهد القوم، وضمينهم. والثالث: الأمين، قاله الربيع بن أنس، واليزيدي، وهذه الأقوال تتقارب. قال الزجاج: النقيب في اللغة، كالأمين والكفيل، يقال: نقب الرجل على القوم ينقب: إذا صار نقيبا عليهم، وصناعته النقابة، وكذلك عرف عليهم: إذا صار عريفا، ويقال لأول ما يبدو من الجرب: النقبة، ويجمع النقب والنقب. قال الشاعر: متبذلا تبدو محاسنه يضع الهناء مواضع النقب ويقال: في فلان مناقب جميلة، وكل الباب معناه: التأثير الذي له عمق ودخول، ومن ذلك نقبت الحائط، أي: بلغت في النقب آخره، والنقبة من الجرب: داء شديد الدخول. وإنما قيل: نقيب، لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف مناقبهم، وهو الطريق إلى معرفة أمورهم. ونقل أن اللّه تعالى أمر موسى وقومه بالسيرإلى الأرض المقدسة، وكان يسكنها الجبارون، فقال تعالى: يا موسى اخرج إليها وجاهد من فيها من العدو، وخذ من قومك اثني عشر نقيبا، من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به، فاختاروا النقباء. وفيما بعثوا له قولان. احدهما: أن موسى بعثهم إلى بيت المقدس، ليأتوه بخبر الجبارين، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي. والثاني: أنهم بعثوا ضمناء على قومهم بالوفاء بميثاقهم، قاله الحسن، وابن إسحاق. وفي نبوتهم قولان. أصحهما: أنهم ليسوا بأنبياء. قوله تعالى: {وَقَالَ ٱللّه} في الكلام محذوف. تقديره: وقال اللّه لهم. وفي المقول لهم قولان. احدهما: أنهم بنو إسرائيل، قاله الجمهور. والثاني: أنهم النقباء، قاله الربيع، ومقاتل. ومعنى {إِنّى مَعَكُمْ} أي: بالعون والنصرة. وفي معنى: {وعززتموهم} قولان. احدهما: أنه الإعانة والنصر، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والسدي. والثاني: أنه التعظيم والتوقير، قاله عطاء، واليزيدي، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. قوله تعالى: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللّه قَرْضاً حَسَناً} في هذا الاقراض قولان. احدهما: أنه الزكاة الواجبة. والثاني: صدقة التطوع. وقد شرحنا في {البقرة} معنى القرض الحسن. قوله تعالى: {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ} يشير إلى الميثاق {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء ٱلسَّبِيلِ} أي: أخطأ قصد الطريق. ١٣ قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم} في الكلام محذوف، تقديره: فنقضوا، فبنقضهم لعناهم، وفي المراد بهذه اللعنة ثلاثة أقوال. احدها: أنها التعذيب بالجزية، قاله ابن عباس. والثاني: التعذيب بالمسخ، قاله الحسن، ومقاتل. والثالث: الإبعاد من الرحمة، قاله عطاء، والزجاج. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابو عمرو وابن عامر: «قاسية» بالألف، يقال: قست، فيه قاسية، وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل، عن عاصم: «قسية» بغير ألف مع تشديد الياء، لأنه قد يجيء فاعل وفعيل، مثل شاهد وشهيد، وعالم وعليم. و«القسوة»: خلاف اللين والرقة. وقد ذكرنا هذا في {البقرة}. وفي تحريفهم الكلم ثلاثة أقوال. احدها: تغيير حدود التوراة، قاله ابن عباس. والثاني: تغيير صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم، قاله مقاتل. والثالث: تفسيره على غير ما أنزل، قاله الزجاج. قوله تعالى: {عَن مَّوٰضِعِهِ} مبين في سورة [النساء]. قوله تعالى: {وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} النسيان هاهنا. الترك عن عمد. والحظ: النصيب. قال مجاهد: نسوا كتاب اللّه الذي أنزل عليهم. وقال غيره: تركوا نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم. وفي معنى {ذُكّرُواْ بِهِ} قولان. احدهما: أمروا. والثاني: أوصوا. قوله تعالى: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مّنْهُمْ} وقرأ الأعمش «على خيانة منهم» قال ابن قتيبة: الخائنة: الخيانة. ويجوز أن تكون صفة للخائن، كما يقال: رجل طاغية، وراوية للحديث. قال ابن عباس: وذلك مثل نقض قريظة عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وخروج كعب بن الأشرف إلى أهل مكة للتحريض على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم {إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ} لم ينقضوا العهد، وهم عبد اللّه بن سلام وأصحابه. وقيل: بل القليل ممن لم يؤمن. قوله تعالى: {فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ} واختلفوا في نسخها على قولين. احدهما: أنها منسوخة، قاله الجمهور. واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال. احدها: أنها آية السيف. والثاني: قوله: {قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللّه} [التوبة: ٢٩]. والثالث: قوله {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: ٥٨]. والثاني: أنها نزلت في قوم كان بينهم وبين النبي صلى اللّه عليه وسلم عهد، فغدروا، وأرادوا قتل النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأظهره اللّه عليهم، ثم أنزل اللّه هذه الآية، ولم تنسخ. قال ابن جرير: يجوز أن يعفى عنهم في غدرة فعلوها، ما لم ينصبوا حربا، ولم يمتنعوا من أداء الجزية والإقرار بالصغار، فلا يتوجه النسخ. ١٤ قوله تعالى: {وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَـٰرَىٰ أَخَذْنَا مِيثَـٰقَهُمْ} قال الحسن: إنما قال: قالوا: إنا نصارى، ولم يقل: من النصارى، ليدل على أنهم ليسوا على منهاج النصارى حقيقة، وهم الذين اتبعوا المسيح. وقال قتادة: كانوا بقرية، يقال لها: ناصرة: فسموا بهذا الاسم. قال مقاتل: أخذ عليهم الميثاق، كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد، فتركوا ما أمروا به. قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ} قال النضر: هيجنا، وقال المؤرج: حرشنا بعضهم على بعض. وقال الزجاج: ألصقنا بهم ذلك، يقال: غريت بالرجل غرى مقصورا: إذا لصقت به، هذا قول الأصمعي. وقال غير الأصمعي: غريت به غراء ممدود، وهذا الغراء الذي يغرى به إنما يلصق به الأشياء، ومعنى أغرينا بينهم العداوة والبغضاء: أنهم صاروا فرقا يكفر بعضهم بعضا. وفي الهاء والميم من قوله «بينهم» قولان. احدهما: أنها ترجع إلى اليهود والنصارى، قاله مجاهد، وقتادة، والسدي. والثاني: أنها ترجع إلى النصارى خاصة، قاله الربيع. وقال الزجاج: هم النصارى، منهم النسطورية، واليعقوبية، والملكية، وكل فرقة منهم تعادي الأخرى. وفي تمام الآية وعيد شديد لهم. ١٥ قوله تعالى: {مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ} فيهم قولان. احدهما: أنهم اليهود. والثاني: اليهود والنصارى والرسول: محمد صلى اللّه عليه وسلم. قوله تعالى: {يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ} قال ابن عباس: أخفوا آية الرجم وأمر محمد صلى اللّه عليه وسلم وصفته {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} يتجاوز، فلا يخبرهم بكتمانه. فان قيل: كيف كان له أن يمسك عن حق كتموه فلا يبينه؟ فعنه جوابان. احدهما: أنه كان متلقيا ما يؤمر به، فاذا أمر باظهار شيء من أمرهم، أظهره، وأخذهم به، وإلا سكت. والثاني: أن عقد الذمة إنما كان على أن يقروا على دينهم، فلما كتموا كثيرا مما أمروا به، واتخذوا غيره دينا، أظهر عليهم ما كتموه من صفته وعلامة نبوته، لتتحقق معجزته عندهم، واحتكموا إليه في الرجم، فأظهر ما كتموا مما يوافق شريعته، وسكت عن أشياء ليتحقق إقرارهم على دينهم. قوله تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ٱللّه نُورٌ} قال قتادة: يعني بالنور: النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقال غيره: هو الإسلام، فأما الكتاب المبين، فهو القرآن. ١٦ قوله تعالى: {يَهْدِى بِهِ ٱللّه} يعني: بالكتاب. ورضوانه: ما رضيه اللّه تعالى. و«السبل»، جمع سبيل، قال ابن عباس: سبل السلام: دين الاسلام. وقال السدي: «السلام»: هو اللّه، و«سبله»: دينه الذي شرعه. قال الزجاج: وجائز أن يكون «سبل السلام» طريق السلامة التي من سلكها سلم في دينه، وجائز أن يكون «السلام» اسم اللّه عز وجل، فيكون المعنى: طرق اللّه عز وجل. قوله تعالى: {وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ ٱلظُّلُمَـٰتِ} قال ابن عباس: يعني الكفر {إِلَى ٱلنُّورِ} يعني: الإيمان {بِإِذْنِهِ} أي: بأمره {وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو الاسلام. وقال الحسن: طريق الحق. ١٧ قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللّه هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ} قال ابن عباس: هؤلاء نصارى أهل نجران، وذلك أنهم اتخذوه إلها {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللّه شَيْئاً} أي: فمن يقدر أن يدفع من عذابه شيئا {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ} أي: فلو كان إلها كما تزعمون لقدر أن يرد أمر اللّه إذا جاءه باهلاكه أو إهلاك أمه، ولما نزل أمر اللّه بأمه، لم يقدر أن يدفع عنها. وفي قوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} رد عليهم حيث قالوا للنبي: فهات مثله من غير أب. فان قيل: فلم قال {وَللّه مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} ولم يقل: وما بينهن؟ فالجواب أن المعنى: وما بين هذين النوعين من الأشياء، قاله ابن جرير. ١٨ قوله تعالى: {وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ} قال مقاتل: هم يهود المدينة، ونصارى نجران. وقال السدي: قالوا: إن اللّه تعالى أوحى إلى إسرائيل: إن ولدك بكري من الولد، فأدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوما حتى تطهرهم، وتأكل خطاياهم، ثم ينادي مناد: أخرجوا كل مختون من بني إسرائيل. وقيل: إنهم لما قالوا: المسيح ابن اللّه، كان معنى قولهم {نَحْنُ أَبْنَاء ٱللّه} أي: منا ابن اللّه. وفي قوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم} إبطال لدعواهم، لأن الأب لا يعذب ولده، والحبيب لا يعذب حبيبه وهم يقولون: إن اللّه يعذبنا أربعين يوما بالنار. وقيل: معنى الكلام: فلم عذب منكم من مسخه قردة وخنازير؟ وهم أصحاب السبت والمائدة. قوله تعالى: {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} أي: أنتم كسائر بني آدم تجازون بالإحسان والإساءة. قال عطاء: يغفر لمن يشاء، وهم الموحدون، ويعذب من يشاء، وهم المشركون. ١٩ قوله تعالى: {يَصْنَعُونَ يَـأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا} سبب نزولها: أن معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب، قالوا: يا معشر اليهود اتقوا اللّه، واللّه إنكم لتعلمون أنه رسول اللّه، كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه بصفته. فقال وهب بن يهوذا، ورافع: ما قلنا هذا لكم، وما أنزل اللّه بعد موسى من كتاب، ولا أرسل رسولا بشيرا ولا نذيرا [بعده] فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. فأما «الفترة» فأصلها السكون، يقال: فتر الشيء يفتر فتورا: إذا سكنت حدته، وانقطع عما كان عليه، والطرف الفاتر: الذي ليس بحديد. والفتور: الضعف. وفي مدة الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعة أقوال. احدها: أنه كان بين عيسى ومحمد عليهم السلام ستمائة سنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سلمان الفارسي، ومقاتل. والثاني: خمسمائة سنة وستون سنة، قاله قتادة. والثالث: أربع مائة وبضع وثلاثون سنة، قاله الضحاك. والرابع: خمسمائة سنة وأربعون سنة، قاله ابن السائب. وقال أبو صالح عن ابن عباس {عَلَىٰ فَتْرَةٍ مَّنَ ٱلرُّسُلِ} أي: انقطاع منهم، قال: وكان بين ميلاد عيسى، وميلاد محمد صلى اللّه عليه وسلم خمسمائة سنة وتسعة وتسعون سنة، وهي فترة. وكان بعد عيسى أربعة من الرسل، فذلك قوله {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: ١٤]. قال: والرابع لا أدري من هو. وكان بين تلك السنين مائة سنة، وأربع وثلاثون نبوة وسائرها فترة. قال أبو سليمان الدمشقي: والرابع واللّه أعلم خالد بن سنان الذي قال فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «نبي ضيعه قومه». قوله تعالى: {أَن تَقُولُواْ} قال الفراء: كي لا تقولوا: ما جاءنا من بشير مثل قوله: {يُبَيّنُ ٱللّه لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: ١٧٦]. وقال غيره: لئلا تقولوا، وقيل: كراهة أن تقولوا. ٢٠ قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء} فيهم قولان. احدهما: أنهم السبعون الذين اختارهم موسى، وانطلقوا معه إلى الجبل، جعلهم اللّه أنبياء بعد موسى، وهارون، وهذا قول ابن السائب، ومقاتل. والثاني: أنهم الأنبياء الذين أرسلوا من بني إسرائيل بعد موسى، ذكره الماوردي. وبماذا جعلهم ملوكا؟ فيه ثمانية أقوال. احدها: بالمن والسلوى والحجر. والثاني: بأن جعل للرجل منهم زوجة وخادما. والثالث: بالزوجة والخادم والبيت، رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس، وهذا الثالث اختيار الحسن، ومجاهد. والرابع: بالخادم والبيت، قاله عكرمة. والخامس: بتمليكهم الخدم، وكانوا أول من تملك الخدم، ومن اتخذ خادما فهو ملك، قاله قتادة. والسادس: بكونهم أحرارا يملك الإنسان منهم نفسه وأهله وماله، قاله السدي. والسابع: بالمنازل الواسعة، فيها المياه الجارية، قاله الضحاك. والثامن: بأن جعل لهم الملك والسلطان، ذكره الماوردي. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَـٰقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ} اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين. احدهما: أنهم قوم موسى، وهذا مذهب ابن عباس، ومجاهد. قال ابن عباس: ويعني بالعالمين: الذين هم بين ظهرانيهم. وفي الذي آتاهم ثلاثة أقوال. احدها: المن والسلوى والحجر والغمام، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به. والثاني: أنه الدار والخادم والزوجة، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن جرير: ما أوتي أحد من النعم في زمان قوم موسى ما أوتوا. والثالث: كثرة الأنبياء فيهم، ذكره الماوردي. والثاني: أن الخطاب لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، وهذا مذهب سعيد بن جبير، وأبي مالك. ٢١ قوله تعالى: {تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ} وقرأ ابن محيصن: يا قوم، بضم الميم، وكذلك {ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ} {يَابَنِى إِسْرٰءيلَ ٱعْبُدُواْ} [الأعراف: ٥٩]. وفي معنى «المقدسة» قولان. احدهما: المطهرة، قاله ابن عباس، والزجاج. قال: وقيل للسطل: القدس، لأنه يتطهر منه، وسمي بيت المقدس، لأنه يتطهر فيه من الذنوب. وقيل: سماها مقدسة، لأنها طهرت من الشرك، وجعلت مسكنا للأنبياء والمؤمنين. والثاني: أن المقدسة: المباركة، قاله مجاهد. وفي المراد بتلك الأرض أربعة أقوال. احدها: أنها أريحا، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال السدي، وابن زيد. قال السدي: أريحا: هي أرض بيت المقدس. وروي عن الضحاك أنه قال: المراد بهذه الأرض إيلياء وبيت المقدس. قال ابن قتيبة: وقرأت في مناجاة موسى أنه قال: اللّهم إنك اخترت من الأنعام الضائنة، ومن الطير الحمامة، ومن البيوت بكة وإيلياء، ومن إيلياء بيت المقدس. فهذا يدل على أن إيلياء الأرض التي فيها بيت المقدس. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي أن إيلياء بيت المقدس، وهو معرب. قال الفرزدق: وبيتان بيت اللّه نحن ولاته وبيت بأعلى إيلياء مشرف والقول الثاني: أنها الطور وما حوله، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به. والثالث: أنها دمشق وفلسطين وبعض الأردن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أنها الشام كلها، قاله قتادة. وفي قوله تعالى: {الَّتِى كَتَبَ اللّه لَكُمْ} ثلاثة أقوال. احدها: أنه بمعنى أمركم وفرض عليكم دخولها، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: أنه بمعنى: وهبها اللّه لكم، قاله محمد بن إسحاق. وقال ابن قتيبة: جعلها لكم. والثالث: كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكنكم. فان قيل: كيف؟ قال: فانها محرمة عليهم، وقد كتبها لهم؟ فعنه جوابان. احدهما: أنه إنما جعلها لهم بشرط الطاعة، فلما عصوا حرمها عليهم. والثاني: أنه كتبها لبني إسرائيل، وإليهم صارت، ولم يعن موسى أن اللّه كتبها للذين أمروا بدخولها بأعيانهم.قال ابن جرير: ويجوز أن يكون الكلام خرج مخرج العموم، وأريد به الخصوص، فتكون مكتوبة لبعضهم، وقد دخلها يوشع، وكالب. قوله تعالى: {وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَـٰرِكُمْ} فيه قولان. احدهما: لا ترجعوا عن أمر اللّه إلى معصيته. والثاني: لا ترجعوا إلى الشرك به. ٢٢ قوله تعالى: {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} قال الزجاج: الجبار من الآدميين: الذي يجبر الناس على ما يريد، يقال: جبار: بين الجبرية، والجبرية بكسر الجيم والباء، والجبروة والجبورة والتجبار والجبروت. وفي معنى وصفه هؤلاء بالجبارين ثلاثة أقوال. احدها: أنهم كانوا ذوي قوة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم كانوا عظام الخلق والأجسام، قاله قتادة. والثالث: أنهم كانوا قتالين، قاله مقاتل. الإشارة إلى القصةقال ابن عباس: لم نزل موسى وقومه بمدينة الجبارين، بعث اثني عشر رجلا، ليأتوه بخبرهم، فلقيهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائه، فأتى بهم المدينة، ونادى في قومه، فاجتمعوا، فقالوا لهم: من أين أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى بعثنا لنأتيه بخبركم، فأعطوهم حبة من عنب توقر الرجل، وقالوا لهم: قولوا لموسى وقومه: اقدروا قدر فاكههم، فلما رجعوا، قالوا: يا موسى إن فيها قوما جبارين. وقال السدي: كان الذي لقيهم، يقال له: عاج، يعني: عوج بن عناق، فأخذ الاثني عشر، فجعلهم في حجرته وعلى رأسه حزمة حطب، وانطلق بهم إلى امرأته، فقال: انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا، فطرحهم بين يديها، وقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا، بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا. فلما خرجوا قالوا: يا قوم إن أخبرتم بني إسرائيل بخبر القوم، ارتدوا عن نبي اللّه، فأخذوا الميثاق بينهم على كتمان ذلك، فنكث عشرة، وكتم رجلان. وقال مجاهد: لما رأى النقباء الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم، ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أو أربعة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أو أربعة، فرجع النقباء كلهم ينهى سبطه عن قتالهم، إلا يوشع، وابن يوقنا. ٢٣ قوله تعالى: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ} في الرجلين ثلاثة أقوال. احدها: أنهما يوشع بن نون، وكالب بن يوقنة، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: ابن يوقنا، وهما من النقباء. والثاني: أنهما كانا من الجبارين فأسلما، روي عن ابن عباس. والثالث: أنهما كانا في مدينة الجبارين، وهما على دين موسى، قاله الضحاك. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء، وأيوب: «يخافون» بضم الياء، على معنى أنهما كانا من العدو، فخرجا مؤمنين. وفي معنى «خوفهم» خوفهم ثلاثة أقوال. احدها: أنهم خافوا اللّه وحده. والثاني: خافوا الجبارين، ولم يمنعهم خوفهم قول الحق. والثالث: يخاف منهم، على قراءة ابن جبير. وفيما أنعم به عليهما أربعة أقوال. احدها: الإسلام، قاله ابن عباس. والثاني: الصلاح والفضل واليقين، قاله عطاء. والثالث: الهدى، قاله الضحاك. والرابع: الخوف، ذكره ابن جرير عن بعض السلف. قوله تعالى: {ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ} قال ابن عباس: قال الرجلان: ادخلوا عليهم باب القرية، فانهم قد ملئوا منا رعبا وفرقا. ٢٤ قوله تعالى: {فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} قال ابن زيد: قالوا له: انظر كما صنع ربك بفرعون وقومه، فليصنع بهؤلاء. وقال مقاتل: فاذهب أنت وسل ربك النصر. وقال غيرهما: إذهب أنت وليعنك ربك. قال ابن مسعود: لقد شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به، أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول لك، كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك ومن خلفك. فرأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أشرق لذلك وجهه وسر به. وقال أنس: استشار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس يوم خرج إلى بدر، فأشار عليه أبو بكر، ثم استشارهم، فأشار عليه عمر فسكت، فقال رجل من الأنصار: إنما يريدكم، فقالوا: يا رسول اللّهٰ لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن واللّه لو ضربت أكبادها حتى تبلغ برك الغماد لكنا معك. ٢٥ قوله تعالى: {لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى} فيه قولان. احدهما: لا أملك إلا نفسي، وأخي لا يملك إلا نفسه. والثاني: لا أملك إلا نفسي وإلا أخي، أي: وأملك طاعة أخي، لأن أخاه إذا أطاعه فهو كالملك له، وهذا على وجه المجاز، كما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر» فبكى أبو بكر، وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول اللّه يعني: أني متصرف حيث صرفتني، وأمرك جائز في مالي. قوله تعالى: {فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَـٰسِقِينَ} قال ابن عباس: اقض بيننا وبينهم. وقال أبو عبيدة: باعد، وافصل، وميز. وفي المراد بالفاسقين ثلاثة أقوال. احدها: العاصون، قاله ابن عباس. والثاني: الكاذبون، قاله ابن زيد. والثالث: الكافرون، قاله أبو عبيدة. قال السدي: غضب موسى حين قالوا له: اذهب أنت وربك فدعا عليهم، وكانت عجلة من موسى عجلها. ٢٦ قوله تعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} الإشارة إلى الأرض المقدسة. ومعنى تحريمها عليهم: منعهم منها. فأما نصب «الأربعين»، فقال الفراء: هو منصوب بالتحريم، وجائز أن يكون منصوبا ب «يتيهون». وقال الزجاج: لا يجوز أن ينتصب بالتحريم، لأن التفسير جاء أنها محرمة عليهم أبدا. قلت: وقد اختلف المفسرون في ذلك، فذهب الأكثرون، منهم عكرمة، وقتادة، إلى ما قال الزجاج، وأنها حرمت عليهم أبدا. قال عكرمة: فانها محرمة عليهم أبدا يتيهون في الأرض أربعين سنة، وذهب قوم، منهم البيع بن أنس، إلى أنها حرمت عليهم أربعين سنة، ثم أمروا بالسير إليها، وهذا اختيار ابن جرير. قال: إنما نصبت بالتحريم، والتحريم كان عاما في حق الكل، ولم يدخلها في هذه المدة منهم أحد، فلما انقضت، أذن لمن بقي منهم بالدخول مع ذراريهم. قال أبو عبيدة: ومعنى: يتيهون: يحورون ويضلون. الإشارة إلى قصتهم قال ابن عباس: حرم اللّه على الذين عصوا دخول بيت المقدس، فلبثوا في تيههم أربعين سنة، وماتوا في التيه، ومات موسى وهارون، ولم يدخل بيت المقدس إلا يوشع وكالب بأبناء القوم، وناهض يوشع بمن بقي معه مدينة الجبارين فافتتحها. وقال مجاهد: تاهوا أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا. وقال السدي: لما ضرب اللّه عليهم التيه، ندم موسى على دعائه عليهم، وقالوا له: ما صنعت بنا، أين الطعام؟ فأنزل اللّه المن. قالوا: فأين الشراب؟ فأمر موسى أن يضرب بعصاه الحجر. قالوا: فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام. قالوا: فأين اللباس؟ وكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، وقبض موسى ولم يبق أحد ممن أبى دخول قرية الجبارين إلا مات، ولم يشهد الفتح. وفيه قول آخر أنه لما مضت الأربعون خرج موسى ببني إسرائيل من التيه، وقال لهم: ادخلوا هذه القرية، فكلوا منها حيث شئتم رغدا، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا حطة... إلى آخر القصة. وهذا قول الربيع بن أنس، وعبد الرحمن ابن زيد. قال ابن ابن جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي: وهذا الصحيح، وأن موسى هو الذي فتح مدينة الجبارين مع الصالحين من بني إسرائيل، لأن أهل السيرة أجمعوا على أن موسى هو قاتل عوج، وكان عوج ملكهم، وكان بلعم ابن باعوراء فيمن سباه موسى وقتله، ولم يدخل مع موسى من قدمائهم غير يوشع وكالب، وإنما حرمت على الذين لم يطيعوا. وفي مسافة أرض التيه قولان. احدهما: تسعة فراسخ، قاله ابن عباس. قال مقاتل: هذا عرضها، وطولها ثلاثون فرسخا. والثاني: ستة فراسخ في طول اثني عشر فرسخا، حكاه مقاتل أيضا. قوله تعالى: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَـٰسِقِينَ} قال الزجاج: لا تحزن على قوم شأنهم المعاصي، ومخالفة الرسل. وقال ابن قتيبة: يقال: أسيت على كذا، أي: حزنت، فأنا آسي أسى. ٢٧ قوله تعالى: {وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَىْ ءادَمَ بِٱلْحَقّ} النبأ: الخبر. وفي ابني آدم قولان. احدهما: أنهما ابناه لصلبه، وهما قابيل وهابيل، قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنها أخوان من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، هذا قول الحسن، والعلماء على الأول، وهو أصح، لقوله {لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى * مِنْ أَخِيهِ} [المائدة: ٣١]. ولو كان من بني إسرائيل، لكان قد عرف الدفن، ولأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال عنه: «إنه أول من سن القتل» وقوله تعالى: {بِٱلْحَقّ} أي: كما كان. والقربان: فعلان من القرب، وقد ذكرناه في {ءالَ عِمْرَانَ}. وفي السبب الذي قربا لأجله قولان. احدهما: أن آدم عليه السلام كان قد نهي أن ينكح المرأة التي أخاها الذي هو توأمها، وأجيز له أن ينكحها غيره من إخوتها، وكان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، فولدت له ابنة وسيمة، وأخرى دميمة، فقال أخو الدميمة لأخي الوسيمة: أنكحني أختك، وأنكحك أختى، فقال أخو الوسيمة: أنا أحق بأختي، وكان أخو الوسيمة صاحب حرث، وأخو الدميمة صاحب غنم، فقال: هلم فلنقرب قربانا، فأينا تقبل قربانه فهو أحق بها، فجاء صاحب الغنم بكبش أبيض أعين أقرن، وجاء صاحب الحرث بصبرة من طعام، فتقبل الكبش، فخزنه اللّه في الجنة أربعين خريفا، فهو الذي ذبحه إبراهيم، فقتله صاحب الحرث، فولد آدم كلهم من ذلك الكافر، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنهما قرباه من غير سبب. روى العوفي عن ابن عباس أن ابني آدم كانا قاعدين يوما، فقالا: لو قربنا قربانا، فجاء صاحب الغنم بخير غنمه وأسمنها، وجاء الآخر ببعض زرعه، فنزلت النار، فأكلت الشاة، وتركت الزرع، فقال لأخيه: أتمشي في الناس وقد علموا أن قربانك تقبل، وأنك خير مني لأقتلنك. واختلفوا هل قابيل وأخته ولدا قبل هابيل وأخته، أم بعدهما؟ على قولين، وهل كان قابيل كافرا أو فاسقا غير كافر؟ فيه قولان. وفي سبب قبول قربان هابيل قولان. احدهما:أنه كان أتقى للّه من قابيل. والثاني: أنه تقرب بخيار ماله، وتقرب قابيل بشر ماله، وهل كان قربانهما بأمر آدم، أم من قبل أنفسهما؟ فيه قولان. احدهما: أنه كان وآدم قد ذهب إلى زيارة البيت. والثاني: أن آدم أمرهما بذلك. وهل قتل هابيل بعد تزويج أخت قابيل، أم لا؟ فيه قولان. احدهما: أنه قتله قبل ذلك لئلا يصل إليها. والثاني: أنه قتله بعد نكاحها. قوله تعالى: {قَالَ لاَقْتُلَنَّكَ} وروى زيد عن يعقوب: «لأقتلنك» بسكون النون وتخفيفها. والقائل: هو الذي لم يتقبل منه. قال الفراء: إنما حذف ذكره لأن المعنى يدل عليه، ومثل ذلك في الكلام أن تقول: إذا رأيت الظالم والمظلوم أعنت، وإذا اجتمع السفيه والحليم حمد، وإنما كان ذلك، لأن المعنى لا يشكل، فلو قلت: مر بي رجل وامرأة، فأعنت، وأنت تريد احدهما، لم يجز، لأنه ليس هناك علامة تدل على مرادك. وفي المراد بالمتقين قولان. احدهما: أنهم الذين يتقون المعاصي، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الذين يتقون الشرك، قاله الضحاك. ٢٨ قوله تعالى: {مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ} فيه قولان. احدهما: ما أنا بمنتصر لنفسي، قاله ابن عباس. والثاني: ما كنت لأبتدئك، قاله عكرمة. وفي سبب امتناعه من دفعه عنه قولان. احدهما: أنه منعه التحرج مع قدرته على الدفع وجوازه له، قاله ابن عمر وابن عباس. والثاني: أن دفع الانسان عن نفسه لم يكن في ذلك الوقت جائزا، قاله الحسن، ومجاهد. وقال ابن جرير: ليس في الآية دليل على أن المقتول علم عزم القاتل على قتله، ثم ترك الدفع عن نفسه، وقد ذكر أنه قتله غيلة، فلا يدعى ما ليس في الآية إلا بدليل. ٢٩ قوله تعالى: {إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ} فيه قولان. احدهما: إني أريد أن ترجع باثم قتلي وإثمك الذي في عنقك، هذا قول ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك. والثاني: أن تبوء باثمي في خطاياي، وإثمك في قتلك لي، وهو مروي عن مجاهد أيضا. قال ابن جرير: والصحيح عن مجاهد القول الأول. وقد روى البخاري، ومسلم في «صحيحهما» من حديث ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال «لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل» فان قيل: كيف أراد هابيل وهو من المؤمنين أن يبوء قابيل بالإثم وهو معصية، والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟ فعنه ثلاثة أجوبة. احدها: أنه ما أراد لأخيه الخطيئة، وإنما أراد: إن قتلتني أردت أن تبوء بالإثم، وإلى هذا المعنى ذهب الزجاج. والثاني: أن في الكلام محذوفا، تقديره: إني أريد أن لا تبوء باثمي وإثمك، فحذف «لا» كقوله: {وَأَلْقَىٰ فِى ٱلاْرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان: ١٠] أي: أن لا تميد بكم، ومنه قول امرئ القيس: فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي أراد: لا أبرح. وهذا مذهب ثعلب. والثالث: أن المعنى: أريد زوال أن تبوء باثمي وإثمك، وبطلان أن تبوء باثمي وإثمك، فحذف ذلك، وقامت «أن» مقامه، كقوله: {وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ} [البقرة: ٩٣] أي: حب العجل، ذكره والذي قبله ابن الأنباري. قوله تعالى: {وَذَلِكَ جَزَاء ٱلظَّـٰلِمِينَ} الإشارة إلى مصاحبة النار. ٣٠ قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} فيه خمسة أقوال. احدها: تابعته على قتل أخيه، قاله ابن عباس. والثاني: شجعته، قاله مجاهد. والثالث: زينت له، قاله قتادة. والرابع: رخصت له، قاله أبو الحسن الأخفش. والخامس: أن «طوعت» فعلت من «الطوع» والعرب تقول: طاع لهذه الظبية أصول هذا الشجر، وطاع له كذا، أي: أتاه طوعا، حكاه الزجاج عن المبرد. وقال ابن قتيبة: شايعته وانقادت له، يقال: لساني لا يطوع بكذا، أي: لا ينقاد. وهذه المعاني تتقارب. وفي كيفية قتله ثلاثة أقوال. احدها: أنه رماه بالحجارة حتى قتله، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: ضرب رأسه بصخرة وهو نائم، رواه مجاهد عن ابن عباس، والسدي عن أشياخه. والثالث: رضخ رأسه بين حجرين. قال ابن جريج: لم يدر كيف يقتله، فتمثل له إبليس، وأخذ طائرا فوضع رأسه على حجر، ثم شدخه بحجر آخر، ففعل به هكذا، وكان ل«هابيل» يومئذ عشرون سنة. وفي موضع مصرعه ثلاثة أقوال. احدها: على جبل ثور، قاله ابن عباس. والثاني: بالبصرة، قاله جعفر الصادق. والثالث: عند عقبة حراء، حكاه ابن جرير الطبري. و في قوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ} ثلاثة أقوال. احدها: من الخاسرين الدنيا والآخرة، فخسرانه الدنيا: أنه أسخط والديه، وبقي بلا أخ، وخسرانه الآخرة: أنه أسخط ربه، وصار إلى النار، قاله ابن عباس. والثاني: أنه أصبح من الخاسرين الحسنات، قال الزجاج. والثالث: من الخاسرين أنفسهم باهلاكهم إياها، قاله القاضي أبو يعلى. ٣١ قوله تعالى: {فَبَعَثَ ٱللّه غُرَاباً يَبْحَثُ} قال ابن عباس: حمله على عاتقه، فكان إذا مشى تخط يداه ورجلاه في الأرض، وإذا قعد وضعه إلى جنبه حتى رأى غرابين اقتتلا، فقتل أحدهم الآخر، ثم بحث له الأرض حتى واراه بعد أن حمله سنين. وقال مجاهد: حمله على عاتقه مائة سنة. وقال عطية: حمله حتى أروح. وقال مقاتل: حمله ثلاثة أيام. وفي المراد بسوأة أخيه قولان. احدهما: عورة أخيه. والثاني: جيفة أخيه. قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّـٰدِمِينَ} فان قيل: أليس الندم توبة، فلم لم يقبل منه؟ فعنه أربعة أجوبة. احدها: أنه يجوز أن لا يكون الندم توبة لمن تقدمنا، ويكون توبة لهذه الأمة، لأنها خصت بخصائص لم تشارك فيها، قاله الحسن بن الفضل. والثاني: أنه ندم على حمله لا على قتله. والثالث: أنه ندم إذ لم يواره حين قتله. والرابع: أنه ندم على فوات أخيه، لا على ركوب الذنب. وفي هذه القصة تحذير من الحسد، لأنه الذي أهلك قابيل. ٣٢ قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ} قال الضحاك: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلما. وقال أبو عبيدة: من جناية ذلك، ومن جري ذلك. قال الشاعر: وأهل خباء صالح ذات بينهم قد احتربوا في عاجل أنا آجله أي: جانيه وجار ذلك عليهم. وقال قوم: الكلام متعلق بما قبله، والمعنى: فأصبح من النادمين من أجل ذلك. فعلى هذا يحسن الوقف هاهنا، وعلى الأول لا يحسن الوقف. والأول أصح. و«كتبنا» بمعنى: فرضنا. ومعنى {قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} أي: قتلها ظلما ولم تقتل نفسا. {أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلاْرْضِ} «فساد» منسوق على «نفس» المعنى: أو بغير فساد تستحق به القتل. وقيل: أراد بالفساد هاهنا: الشرك. وفي معنى قوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً} خمسة أقوال. احدها: أن عليه إثم من قتل الناس جميعا، قاله الحسن، والزجاج. والثاني: أنه يصلى النار بقتل المسلم، كما لو قتل الناس جميعا، قاله مجاهد، وعطاء وقال ابن قتيبة: يعذب كما يعذب قاتل الناس جميعا. والثالث: أنه يجب عليه من القصاص مثل ما لو قتل الناس جميعا، قاله ابن زيد. والرابع: أن معنى الكلام ينبغي لجميع الناس أن يعينوا ولي المقتول حتى يقيدوه منه، كما لو قتل أولياءهم جميعا، ذكره القاضي أبو يعلى. والخامس: أن المعنى: من قتل نبيا أو إماما عادلا، فكأنما قتل الناس جميعا، رواه عكرمة عن ابن عباس. والقول بالعموم أصح. فان قيل: إذا كان إثم قاتل الواحد كاثم من قتل الناس جميعا، دل هذا على أنه لا إثم عليه في قتل من يقتله بعد قتل الواحد إلى أن يفنى الناس؟ فالجواب: أن المقدار الذي يستحقه قاتل الناس جميعا، معلوم عند اللّه محدود، فالذي يقتل الواحد يلزمه ذلك الإثم المعلوم، والذي يقتل الاثنين يلزمه مثلاه، وكلما زاد قتلا زاده اللّه إثما، ومثل هذا قوله: {من جاء بالحسنة فله عشرة أمثالها} [الأنعام: ١٦٠] فالحسنة معلوم عند اللّه مقدار ثوابها، فعاملها يعطى بمثل ذلك عشر مرات. وهذا الجواب عن سؤال سائل إن قال: إذا كان من أحيا نفسا فله ثواب من أحيا الناس، فما ثواب من أحيا الناس كلهم؟ هذا كله منقول عن المفسرين. والذي أراه أن التشبيه بالشيء تقريب منه، لأنه لا يجوز أن يكون إثم قاتل شخصين كاثم قاتل شخص، وإنما وقع التشبيه ب «كأنما»، لأن جميع الخلائق من شخص واحد، فالمقتول يتصور منه نشر عدد الخلق كلهم. وفي قوله: {وَمَنْ أَحْيَـٰهَا} خمسة أقوال. احدها: استنقذها من هلكة، روي عن ابن مسعود، ومجاهد. قال الحسن: من أحياها من غرق أو حرق أو هلاك. وفي رواية عكرمة عن ابن عباس: من شد عضد نبي أو إمام عادل فكأنما أحيا الناس جميعا. والثاني: ترك قتل النفس المحرمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية. والثالث: أن يعفو أولياء المقتول عن القصاص، قاله الحسن، وابن زيد، وابن قتيبة. والرابع: أن يزجر عن قتلها، وينهى. والخامس: أن يعين الولي على استيفاء القصاص، لأن في القصاص حياة، ذكرهما القاضي أبو يعلى، وفي قوله: {فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} قولان. احدهما: فله أجر من أحيا الناس جميعا، قاله الحسن، وابن قتيبة. والثاني: فعلى جميع الناس شكره، كما لو أحياهم، ذكره الماوردي. قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيّنَـٰتِ} يعني: بني إسرائيل الذين جرى ذكرهم. ٣٣ قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللّه وَرَسُولَهُ} في سبب نزولها أربعة أقوال. احدها: أنها نزلت في ناس من عرينة قدموا المدينة، فاجتووها، فبعثهم رسول اللّه في إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا، فصحوا، وارتدوا عن الاسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإبل، فأرسل رسول اللّه في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمر أعينهم، وألقاهم بالحرة حتى ماتوا، ونزلت هذه الآية رواه قتادة عن أنس، وبه قال سعيد بن جبير، والسدي. والثاني: أن قوما من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبي صلى اللّه عليه وسلم عهد وميثاق، فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فخير اللّه رسوله بهذه الآية: إن شاء أن يقتلهم، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثالث: أن أصحاب أبي بردة الأسلمي قطعوا الطريق على قوم جاؤوا يريدون الاسلام، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال ابن السائب: كان أبو بردة، واسمه هلال بن عويمر، وادع النبي صلى اللّه عليه وسلم على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن أتاه من المسلمين لم يهج، ومن مر بهلال إلى سول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يهج، فمر قوم من بني كنانة يريدون الاسلام بناس من قوم هلال فنهدوا إليهم، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، ولم يكن هلال حاضرا، فنزلت هذه الآية. والرابع: أنها نزلت في المشركين، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن. واعلم أن ذكر «المحاربة» للّه عز وجل في الآية مجاز. وفي معناها للعلماء قولان. احدهما: أنه سماهم محاربين له تشبيها بالمحاربين حقيقة، لأن المخالف محارب، وإن لم يحارب، فيكون المعنى: يخالفون اللّه ورسوله بالمعاصي. والثاني: أن المراد: يحاربون أولياء اللّه، وأولياء رسوله. وقال سعيد بن جبير: أراد بالمحاربة للّه ورسوله، الكفر بعد الاسلام. وقال مقاتل:أراد بها الشرك. فأما«الفساد» فهو القتل والجراح وأخذ الأموال، وإخافة السبيل. قوله تعالى: {أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ} اختلف العلماء هل هذه العقوبة على الترتيب، أم على التخيير؟ فمذهب احمد رضي اللّه عنه أنها على الترتيب، وإنهم إذا قتلوا، وأخذوا المال، أو قتلوا ولم يأخذوا، قتلوا وصلبوا، وإن أخذوا المال، ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن لم يأخذوا المال، نفوا. قال ابن الأنباري: فعلى هذا تكون «أو» مبعضة، فالمعنى: بعضهم يفعل به كذا، وبعضهم كذا، ومثله قوله: {كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ} [البقرة: ١٣٥]. المعنى: قال بعضهم هذا، وقال بعضهم هذا. وهذا القول اختيار أكثر اللغويين. وقال الشافعي: إذا قتلوا وأخذوا المال، قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال، قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وقال مالك: الإمام مخير في إقامة أي الحدود شاء، سواء قتلوا أو لم يقتلوا، أخذوا المال أو لم يأخذوا، والصلب بعد القتل. وقال أبو حنيفة ومالك: يصلب ويبعج برمح حتى يموت. واختلفوا في مقدار زمان الصلب، فعندنا أنه يصلب بمقدار ما يشتهر صلبه. واختلف أصحاب الشافعي، فقال بعضهم: ثلاثة أيام، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال بعضهم: يترك حتى يسيل صديده. قال أبو عبيدة: ومعنى «من خلاف» أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، يخالف بين قطعهما. فأما «النفي» فأصله الطرد والإبعاد. وفي صفة نفيهم أربعة أقوال. احدها: إبعادهم من بلاد الاسلام إلى دار الحرب، قاله أنس بن مالك، والحسن، وقتادة، وهذا إنما يكون في حق المحارب المشرك، فأما المسلم فلا ينبغي أن يضطر إلى ذلك. والثاني: أن يطلبوا لتقام عليهم الحدود، فيبعدوا، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثالث: إخراجهم من مدينتهم إلى مدينة أخرى، قاله سعيد بن جبير. وقال مالك: ينفى إلى بلد غير بلده، فيحبس هناك. والرابع: أنه الحبس، قاله أبو حنيفة وأصحابه. وقال أصحابنا: صفة النفي: أن يشرد ولا يترك يأوي في بلد، فكلما حصل في بلد نفي إلى بلد غيره. وفي «الخزي» قولان. احدهما: أنه العقاب. والثاني: الفضيحة. وهل يثبت لهم حكم المحاربين في المصر، أم لا؟ ظاهر كلام أصحابنا أنه لا يثبت لهم ذلك في المصر وهو قول أبي حنيفة. وقال الشافعي، وأبو يوسف: المصر والصحارى سواء، ويعتبر في المال المأخوذ قدر نصاب، كما يعتبر في حق السارق، خلافا لمالك. ٣٤ قوله تعالى: {إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ} قال أكثر المفسرين: هذا الاستثناء في المحاربين المشركين إذا تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم، وآمنوا قبل القدرة عليهم، فلا سبيل عليهم فيما أصابوا من مال أو دم، وهذا لا خلاف فيه. فأما المحاربون المسلمون، فاختلفوا فيهم، ومذهب أصحابنا: أن حدود اللّه تسقط عنهم من انحتام القتل والصلب والقطع والنفي. فأما حقوق الآدميين من الجراح والأموال، فلا تسقطها التوبة، وهذا قول الشافعي. ٣٥ انظر تفسير الآية: ٣٧ ٣٦ انظر تفسير الآية: ٣٧ ٣٧ قوله تعالى: {وَٱبْتَغُواْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ} في «الوسيلة» قولان. احدهما: أنها القرية، قاله ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، والفراء. وقال قتادة: تقربوا إليه بما يرضيه. قال أبو عبيدة: يقال توسلت إليه، أي: تقربت إليه. وأنشد: إذا غفل الواشون عدنا لو صلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل والثاني: المحبة يقول: تحببوا إلى اللّه، هذا قول ابن زيد. ٣٨ قوله تعالى: {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} قال ابن السائب: نزلت في طعمة بن أبيرق، وقد مضت قصته في سورة {ٱلنّسَاء}. و«السارق»: إنما سمي سارقا، لأنه يأخذ الشيء في خفاء واسترق السمع: إذا تسمع مستخفيا. قال المبرد: والسارق هاهنا مرفوع بالابتداء، لأنه ليس القصد منه واحدا بعينه، وإنما هو، كقولك: من سرق فاقطع يده. وقال ابن الأنباري: وإنما دخلت الفاء، لأن في الكلام معنى الشرط، تقديره: من سرق فاقطعوا يده. قال الفراء: وإنما قال: {فَٱقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} لأن كل شيء موحد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافا إلى اثنين فصاعدا، جمع، تقول: قد هشمت رؤوسهما، وملأت [ظهورهما] وبطونهما[ضربا] ومثله {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: ٤] وإنما اختير الجمع على التثنية، لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين اثنين في الانسان: اليدين، والرجلين، والعينين، فلما جرى أكثره على هذا، ذهب بالواحد منه إذا أضيف إلى اثنين مذهب التثنية، وقد يجوز تثنيتهما. قال أبو ذؤيب. فتخالسا نفسيهما بنوافذ كنوافذ العبط التي لا ترقع فصل وهذه الآية اقتضت وجوب القطع على كل سارق، وبينت السنة أن المراد به السارق لنصاب من حرز مثله، كما قال تعالى: {فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: ٥] ونهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قتل النساء، والصبيان، وأهل الصوامع. واختلف في مقدار النصاب، فمذهب أصحابنا: أن للسرقة نصابين: احدهما: من الذهب ربع دينار، ومن الورق ثلاثة دراهم أو قيمة ثلاثة دراهم، من العروض وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة: لا يقطع حتى تبلغ السرقة عشرة دراهم. وقال الشافعي: الاعتبار في ذلك بربع دينار، وغيره مقوم به، فلو سرق درهمين قيمتهما ربع دينار، قطع، فان سرق نصابا من التبر، فعليه القطع. وقال أبو حنيفة: لا يقطع حتى يبلغ ذلك نصابا مضروبا، فان سرق منديلا لا يساوي نصابا، في طرفه دينار، وهو لا يعلم، لا يقطع. وقال الشافعي: يقطع فان سرق ستارة الكعبة، قطع، خلافا لأبي حنيفة.فان سرق صبيا صغيرا حرا، لم يقطع، وإن كان على الصغير حلي. وقال مالك: يقطع بكل حال. وإذا اشترك جماعة في سرقة نصاب، قطعوا، وبه قال مالك، إلا أنه اشترط أن يكون المسروق ثقيلا يحتاج إلى معاونة بعضهم لبعض في إخراجه. وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا قطع عليه بحال ويجب القطع على جاحد العارية عندنا. وبه قال سعيد بن المسيب، والليث بن سعد، خلافا لأكثر الفقهاء. فصل فأما الحرز، فهو ما جعل للسكنى، وحفظ الأموال، كالدور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس، ويحفظون أمتعتهم بها، فكل ذلك حرز، وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده، وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب، أو لا باب له إلا أنه محجر بالبناء. فأما ما كان في غير بناء ولا خيمة، فانه ليس في حرز إلا أن يكون عنده من يحفظه. ونقل الميموني عن احمد: إذا كان المكان مشتركا في الدخول إليه، كالحمام والخيمة لم يقطع السارق منه، ولم يعتبر الحافظ: ونقل عنه ابن منصور: لا يقطع سارق الحمام إلا أن يكون على المتاع أجير حافظ. فأما النباش، فقال احمد في رواية أبي طالب: يقطع، وبه قال مالك، والشافعي، وابن أبي ليلى. وقال الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة: لا يقطع. فصل فأما موضع قطع السارق، فمن مفصل الكف، ومن مفصل الرجل. فأما اليد اليسرى والرجل اليمنى فروي عن احمد: لا تقطع، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي حنيفة، وروي عنه: أنها تقطع، وبه قال مالك، والشافعي. ولا يثبت القطع إلا باقراره مرتين، وبه قال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: يثبت بمرة. ويجتمع القطع والغرم موسرا كان أو معسرا. وقال أبو حنيفة: لا يجتمعان، فان كانت العين باقية أخذها ربها، وإن كانت مستهلكة، فلا ضمان. وقال مالك: يضمنها إن كان موسرا، ولا شيء عليه إن كان معسرا. قوله تعالى: {نَكَـٰلاً مّنَ ٱللّه} قد ذكرنا «النكال» في {البقرة}. قوله تعالى: {وَٱللّه عَزِيزٌ حَكُيمٌ} قال سعيد بن جبير: شديد في انتقامه، حكيم إذ حكم بالقطع، قال الأصمعي: قرأت هذه الآية، وإلى جنبي أعرابي، فقلت: واللّه غفور رحيم، سهوا، فقال الأعرابي: كلام من هذا؟ قلت: كلام اللّه. قال: أعد فأعدت: واللّه غفور رحيم، فقال: ليس هذا كلام اللّه، فتنبهت، فقلت: واللّه عزيز حكيم. فقال: أصبت، هذا كلام اللّه. فقلت: له أتقرأ القرآن؟ قال: لا قلت: فمن أين علمت أني أخطأت؟ فقال: يا هذا عز فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع. ٣٩ قوله تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} سبب نزولها: أن امرأة كانت قد سرقت، فقالت: يا رسول اللّه هل لي من توبة؟ فنزلت هذه الآية. قاله عبد اللّه ابن عمرو. وقال سعيد بن جبير: فمن تاب من بعد ظلمه، أي: سرقته، وأصلح العمل، فان اللّه يتجاوز عنه، إن اللّه غفور لما كان منه قبل التوبة، رحيم لمن تاب. ٤٠ {ألم تعلم أن اللّه له ملك السماوات...} ٤١ قوله تعالى: {يأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى ٱلْكُفْرِ} اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال. احدها: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مر بيهودي وقد حمموه وجلدوه، فقال: أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم فدعا رجلا من علمائهم، فقال: أنشدك اللّه الذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا نترك الشريف، ونقيمه على الوضيع، فقلنا: تعالوا نجمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «اللّهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه» فأمر به فرجم، ونزلت هذه الآية، رواه البراء بن عازب. والثاني: أنها نزلت في ابن صوريا آمن ثم كفر، وهذا المعنى مروي عن أبي هريرة. والثالث: أنها نزلت في يهودي قتل يهوديا، ثم قال: سلوا محمدا فان كان بعث بالدية، اختصمنا إليه، وإن كان بعث بالقتل، لم نأته، قال الشعبي. والرابع: أنها نزلت في المنافقين، قاله ابن عباس، ومجاهد. والخامس: أن رجلا من الأنصار أشارت إليه قريظة يوم حصارهم على ماذا؟ ننزل فأشار إليهم: أنه الذبح، قاله السدي. قال مقاتل: هو أبو لبابة بن عبد المنذر، قالت له قريظة: اننزل على حكم سعد، فأشار بيده: انه الذبح، وكان حليفا لهم. قال أبو لبابة فعلمت أني قد خنت اللّه ورسوله، فنزلت هذه الآية. ومعنى الكلام: لا يحزنك مسارعة الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم وهم المنافقون، ومن الذين هادوا وهم اليهود. {سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ} قال سيبويه: هو مرفوع بالابتداء. قال أبو الحسن الأخفش: ويجوز أن يكون رفعه على معنى: ومن الذين هادوا سماعون للكذب. وفي معناه أربعة أقوال. احدها: سماعون منك ليكذبوا عليك. والثاني: سماعون للكذب، أي: قائلون له. والثالث: سماعون للكذب الذي بدلوه في توراتهم. والرابع: سماعون للكذب، أي: قابلون له. ومنه: «سمع اللّه لمن حمده» أي: قبل. وفي قوله: {سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّـٰعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ} قولان. احدهما: يسمعون لأولئك، فهم عيون لهم. والثاني: سماعون من قوم آخرين، وهم رؤساؤهم المبدلون التوراة. وفي السماعين للكذب، وللقوم الآخرين قولان. احدهما: أن «السماعين للكذب» يهود المدينة، والقوم الآخرون [الذين لم يأتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم] يهود فدك. والثاني: بالعكس من هذا. وفي تحريفهم الكلم خمسة أقوال. احدها: أنه تغيير حدود اللّه في التوراة، وذلك أنهم غيروا الرجم، قال ابن عباس، والجمهور. والثاني: تغيير ما يسمعونه من النبي صلى اللّه عليه وسلم بالكذب عليه، قاله الحسن. والثالث: إخفاء صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم. والرابع: إسقاط القود بعد استحقاقه. والخامس: سوء التأويل. وقال ابن جرير: المعنى يحرفون حكم الكلم، فحذف ذكر الحكم لمعرفة السامعين بذلك. قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مَوٰضِعِهِ} قال الزجاج: أي: من بعد أن وضعه اللّه مواضعه، فأحل حلاله وحرم حرامه. قوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ} في القائلين لهذا قولان. احدهما: أنهم اليهود، وذلك أن رجلا وامرأة من أشرافهم زنيا، فكان حدهما الرجم، فكرهت اليهود رجمهما، فبعثوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم يسألونه عن قضائه في الزانيين إذا أحصنا، وقالوا: إن أفتاكم بالجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فلا تعملوا به، هذا قول الجمهور. والثاني: أنهم المنافقون. قال قتادة: وذلك أن بني النضير كانوا لا يعطون قريظة القود إذا قتلوا منهم، وإنما يعطونهم الدية، فاذا قتلت قريظة من النضير لم يرضوا إلا بالقود تعززا عليهم، فقتل بنو النضير رجلا من قريظة عمدا، فأرادوا رفع ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال رجل من المنافقين: إن قتيلكم قتيل عمد، ومتى ترفعوا ذلك إلى محمد خشيت عليكم القود، فان قبلت منكم الدية فأعطوا، وإلا فكونوا منه على حذر. وفي معنى «فاحذروا» ثلاثة أقوال. احدها: فاحذروا أن تعملوا بقوله الشديد. والثاني: فاحذروا أن تطلعوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به. والثالث: فاحذروا أن تسألوه بعدها. قوله تعالى: {وَمَن يُرِدِ ٱللّه فِتْنَتَهُ} في «الفتنة» ثلاثة أقوال. احدها: أنها بمعنى الضلالة، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: العذاب، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: الفضيحة، ذكره الزجاج. قوله تعالى: {فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللّه شَيْئاً} أي: لا تغني عنه، ولا تقدر على استنقاذه. وفي هذا تسلية للنبي صلى اللّه عليه وسلم من حزنه على مسارعتهم في الكفر. قوله تعالى: {لَمْ يُرِدِ ٱللّه أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ} قال السدي: يعني المنافقين واليهود، لم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الكفر، ووسخ الشرك بطهارة الإيمان والإسلام. قوله تعالى: {لَهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا خِزْىٌ} أما خزي المنافقين، فبهتك سترهم وإطلاع النبي على كفرهم، وخزي اليهود بفضيحتهم في إظهار كذبهم إذ كتموا الرجم، وبأخذ الجزية منهم: قال مقاتل: وخزي قريظة بقتلهم وسبيهم، وخزي النضير باجلائهمٰ. ٤٢ قوله تعالى: {سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ} قال الحسن: يعني حكام اليهود يسمعون الكذب ممن يكذب عندهم في دعواه، ويأتيهم برشوة فيأخذونها. وقال أبو سليمان: هم اليهود يسمعون الكذب، وهو قول بعضهم لبعض: محمد كاذب، وليس بنبي، وليس في التوراة رجم، وهم يعلمون كذبهم. قوله تعالى: {أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحْتِ} قرأ ابن كثير، وابو عمرو، والكسائي، وأبو جعفر «السحت» مضمومة الحاء مثقلة. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة «السحت» ساكنة الحاء خفيفة. وروى خارجة بن مصعب عن نافع «أكالون للسحت» بفتح السين وجزم الحاء. قال أبو علي: السحت والسحت لغتان، وهما اسمان للشيء المسحوت، وليسا بالمصدر، فأما من فتح السين، فهو مصدر سحت، فأوقع اسم المصدر على المسحوت، كما أوقع الضرب على المضروب في قولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير. وفي المراد بالسحت ثلاثة أقوال. احدها: الرشوة في الحكم. والثاني: الرشوة في الدين والقولان عن ابن مسعود. والثالث: أنه كل كسب لا يحل، قاله الأخفش. قوله تعالى: {فَاِنْ جَاءوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فيمن أريد بهذا الكلام قولان. احدهما: اليهوديان اللذان زنيا، قاله الحسن، ومجاهد، والسدي. والثاني: رجلان من قريظة والنضير قتل احدهما الآخر، قاله قتادة. وقال ابن زيد: كان حيي بن أخطب قد جعل للنضيري ديتين، والقرظي دية، لأنه كان من النضير، فقالت قريظة: لا نرضى بحكم حيي، ونتحاكم إلى محمد، فقال اللّه تعالى لنبيه: فان جاؤوك فاحكم بينهم الآية. فصل اختلف علماء التفسير في هذه الآية على قولين. احدهما: أنها منسوخة وذلك أن أهل الكتاب كانوا إذا ترافعوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم كان مخيرا، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم، ثم نسخ ذلك بقوله: {وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ٱللّه} فلزمه الحكم، وزال التخيير، وهذا مروي عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة،والسدي. والثاني: أنها محكمة، وأن الإمام ونوابه في الحكم مخيرون إذا ترافعوا إليهم، إن شاؤوا حكموا بينهم، وإن شاؤوا أعرضوا عنهم، وهذا مروي عن الحسن، والشعبي، والنخعي، والزهري، وبه قال احمد بن حنبل، وهو الصحيح، لأنه لا تنافي بين الآيتين، لأن إحداهما: خيرت بين الحكم وتركه. والثانية: بينت كيفية الحكم إذا كان. ٤٣ قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِندَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ} قال المفسرون: هذا تعجيب من اللّه عز وجل لنبيه من تحكيم اليهود إياه بعد علمهم بما في التوراة من حكم ما تحاكموا إليه فيه، وتقريع لليهود إذ يتحاكمون إلى من يجحدون نبوته، ويتركون حكم التوراة التي يعتقدون صحتها. قوله تعالى: {فِيهَا حُكْمُ ٱللّه} فيه قولان. احدهما: حكم اللّه بالرجم، وفيه تحاكموا، قاله الحسن. والثاني: حكمه بالقود، وفيه تحاكموا، قاله قتادة. قوله تعالى: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ} فيه قولان. احدهما: من بعد حكم اللّه في التوراة. والثاني: من بعد تحكيمك. قوله تعالى: {وَمَا أُوْلَـئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ} قولان. احدهما: ليسوا بمؤمنين لتحريفهم التوراة. والثاني: ليسوا بمؤمنين أن حكمك من عند اللّه لجحدهم نبوتك. ٤٤ قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} قال المفسرون: سبب نزول هذه الآية: استفتاء اليهود رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في أمر الزانيين، وقد سبق. «والهدى» البيان. فالتوراة مبينة صحة نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم، ومبينة ما تحاكموا فيه إليه. و«النور»: الضياء الكاشف للشبهات، والموضح للمشكلات. وفي النبيين الذين أسلموا ثلاثة أقوال. احدها: أنهم الأنبياء من لدن موسى إلى عيسى، قاله الأكثرون. فعلى هذا القول في معنى «أسلموا» أربعة أقوال. احدها: سلموا لحكم اللّه، ورضوا بقضائه. والثاني: انقادوا لحكم اللّه، فلم يكتموه كما كتم هؤلاء. والثالث: أسلموا أنفسهم إلى اللّه عز وجل. والرابع: أسلموا لما في التوراة ودانوا بها، لأنه قد كان فيهم من لم يعمل بكل ما فيها كعيسى عليه السلام. قال ابن الأنباري: وفي «المسلم» قولان. احدهما: أنه سمي بذلك لاستسلامه وانقياده لربه. والثاني: لإخلاصه لربه، من قوله: {وَرَجُلاً ٱللّه لِرَجُلٍ} [الزمر: ٢٩] أي: خالصا له. والثاني: أن المراد بالنبيين نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم، قاله الحسن، والسدي. وذلك حين حكم على اليهود بالرجم، وذكره بلفظ الجمع كقوله: {مَا ءاتَـٰهُمُ ٱللّه مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إِبْرٰهِيمَ} [النساء: ٥٤]. وفي الذي حكم به منها قولان. احدهما: الرجم والقود. والثاني: الحكم بسائرها ما لم يرد في شرعه ما يخالف. والثالث: النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم، ومن قبله من الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين، قاله عكرمة. قوله تعالى: {لِلَّذِينَ هَادُواْ} قال ابن عباس: تابوا من الكفر. قال الحسن: هم اليهود. قال الزجاج: ويجوز أن يكون في الآية تقديم وتأخير على معنى: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا.فأما «الربانيون» فقد سبق ذكرهم في {ءالَ عِمْرَانَ}. وأما «الأحبار» فهم العلماء واحدهم حبر و حبر، والجمع أحبار وحبور. وقال الفراء: أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار: حبر بكسر الحاء. وفي اشتقاق هذا الاسم ثلاثة أقوال. احدها: أنه من الحبار وهو الأثر الحسن، قاله الخليل. والثاني: أنه من الحبر الذي يكتب به، قاله الكسائي. والثالث: أنه من الحبر الذي هو الجمال والبهاء. وفي الحديث «يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره» أي جماله وبهاؤه. فالعالم بهي بجمال العلم. وهذا قول قطرب. وهل بين الربانيين والأحبار فرق أم لا؟ فيه قولان. احدهما: لا فرق، والكل علماء، هذا قول الأكثرين، منهم ابن قتيبة، والزجاج. وقد روي عن مجاهد أنه قال: الربانيون: الفقهاء العلماء، وهم فوق الأحبار. وقال السدي: الربانيون العلماء، والأحبار القراء. وقال ابن زيد: الربانيون: الولاة، والأحبار: العلماء، وقيل: الربانيون: علماء النصارى، والأحبار: علماء اليهود. قوله تعالى: {بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَـٰبِ ٱللّه} قال ابن عباس: بما استودعوا من كتاب اللّه وهو التوراة. وفي معنى الكلام قولان. احدهما: يحكمون بحكم ما استحفظوا. والثاني: العلماء بما استحفظوا. قال ابن جرير: «الباء» في قوله: «بما استحفظوا» من صلة الأحبار. وفي قوله: {وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} قولان. احدهما: وكانوا على ما في التوراة من الرجم شهداء، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: وكانوا شهداء لمحمد عليه السلام بما قاله انه حق. رواه العوفي عن ابن عباس. قوله تعالى: {فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِى} قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، وابن عامر، والكسائي «واخشون» بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ أبوعمرو بياء في الوصل، وبغير ياء في الوقف، وكلاهما حسن. وقد أشرنا إلى هذا في {ءالَ عِمْرَانَ}. ثم في المخاطبين بهذا قولان. احدهما: أنهم رؤساء اليهود، قيل لهم: فلا تخشوا الناس في إظهار صفة محمد، والعمل بالرجم، واخشوني في كتمان ذلك، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. قال مقاتل: الخطاب ليهود المدينة، قيل لهم: لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم، ونعت محمد، واخشوني في كتمانه. والثاني: أنهم المسلمون، قيل لهم: لا تخشوا الناس، كما خشيت اليهود الناس، فلم يقولوا الحق، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَـٰتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} في المراد بالآيات قولان. احدهما: أنها صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم والقرآن. والثاني: الأحكام والفرائض. والثمن القليل مذكور في {البقرة}. فأما قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ ٱللّه فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ}. وقوله تعالى بعدها: {فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} {فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْفَـٰسِقُونَ}. فاختلف العلماء فيمن نزلت على خمسة أقوال. احدها: أنها نزلت في اليهود خاصة، رواه عبيد بن عبد اللّه عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثاني: أنها نزلت في المسلمين، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس نحو هذا المعنى. والثالث: أنها عامة في اليهود، وفي هذه الأمة، قاله ابن مسعود، والحسن، والنخعي، والسدي. والرابع: أنها نزلت في اليهود والنصارى، قاله أبو مجلز. والخامس: أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، قاله الشعبي. وفي المراد بالكفر المذكور في الآية الأولى قولان. احدهما: أنه الكفر باللّه تعالى. والثاني: أنه الكفر بذلك الحكم، وليس بكفر ينقل عن الملة. وفصل الخطاب: أن من لم يحكم بما أنزل اللّه جاحدا له، وهو يعلم أن اللّه أنزله، كما فعلت اليهود، فهو كافر، ومن لم يحكم به ميلا إلى الهوى من غير جحود، فهو ظالم وفاسق. وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: من جحد ما أنزل اللّه فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم به فهو فاسق وظالم. ٤٥ قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا} أي: فرضنا {عَلَيْهِمْ} أي: على اليهود {فِيهَا} أي: في التوراة. قال ابن عباس: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، فما بالهم يخالفون، فيقتلون النفسين بالنفس، ويفقؤون العينين بالعين؟ وكان على بني إسرائيل القصاص أو العفو، وليس بينهم دية في نفس ولا جرح، فخفف اللّه عن أمة محمد بالدية. قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وابن عامر: النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، ينصبون ذلك كله ويرفعون و«الجروح» وكان نافع، وعاصم، وحمزة ينصبون ذلك كله، وكان الكسائي يقرأ: «أن النفس بالنفس» نصبا، ويرفع ما بعد ذلك. قال أبو علي: وحجته أن الواو لعطف الجمل، لا للاشتراك في العامل، ويجوز أن يكون حمل الكلام على المعنى، لأن معنى: وكتبنا عليهم: قلنا لهم: النفس بالنفس، فحمل العين على هذا، وهذه حجة من رفع الجروح. ويجوز أن يكون مستأنفا، لا أنه مما كتب على القوم، وإنما هو ابتداء ايجاب. قال القاضي أبو يعلى: وقوله: العين بالعين، ليس المراد قلع العين بالعين، لتعذر استيفاء المماثلة، لأنا لا نقف على الحد الذي يجب قلعه، وإنما يجب فيما ذهب ضوؤها وهي قائمة، وصفة ذلك أن تشد عين القالع، وتحمى مرآة، فتقدم من العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوؤها. وأما الأنف فاذا قطع المارن، وهو مالان منه، وتركت قصبته، ففيه القصاص، وأما إذا قطع من أصله، فلا قصاص فيه، لأنه لا يمكن استيفاء القصاص، كما لو قطع يده من نصف الساعد. وقال أبو يوسف، ومحمد: فيه القصاص إذا استوعب. وأما الأذن، فيجب القصاص إذا استوعبت، وعرف المقدار. وليس في عظم قصاص إلا في السن، فان قلعت قلع مثلها، وإن كسر بعضها، برد بمقدار ذلك. وقوله: {وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ} يقتضي إيجاب القصاص في سائر الجراحات التي يمكن استيفاء المثل فيها. قوله تعالى: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ} يشير إلى القصاص. {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} في هاء «له» قولان. احدهما: أنها إشارة إلى المجروح، فاذا تصدق بالقصاص كفر من ذنوبه، وهو قول ابن مسعود، وعبد اللّه بن عمرو بن العاص، والحسن، والشعبي. والثاني: إشارة إلى الجارح إذا عفا عنه المجروح، كفر عنه ما جنى، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وهو محمول على أن الجاني تاب من جنايته، لأنه إذا كان مصرا فعقوبة الإصرار باقية. ٤٦ قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِم} أي: وأتبعنا على آثار النبيين الذين أسلموا {بِعَيسَى} فجعلناه يقفو آثارهم {مُصَدّقاً} أي: بعثناه مصدقا {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} {وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِم بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ} ليس هذا تكرارا للأول، لأن الأول لعيسى، والثاني: للإنجيل، لأن عيسى كان يدعو إلى التصديق بالتوراة، والإنجيل أنزل وفيه ذكر التصديق بالتوراة. ٤٧ قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإنجِيلِ} قرأ الأكثرون بجزم اللام على معنى الأمر، تقديره: وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل اللّه فيه. وقرأ الأعمش، وحمزة بكسر اللام، وفتح الميم على معنى «كي» فكأنه قال: وآتيناه الإنجيل لكي يحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه. ٤٨ قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ} يعني القرآن {بِٱلْحَقّ} أي: بالصدق {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ} قال ابن عباس: يريد كل كتاب أنزله اللّه تعالى. وفي «المهيمن» أربعة أقوال. احدها: أنه المؤيمن رواه التميمي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء، والضحاك. وقال المبرد: «مهيمن» في معنى: «مؤيمن» إلا أن الهاء بدل من الهمزة، كما قالوا: أرقت الماء، وهرقت، وإياك وهياك. وأرباب هذا القول يقولون: المعنى: أن القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب إلا أن ابن أبي نجيح روى عن مجاهد: ومهيمنا عليه. قال: محمد مؤتمن على القرآن. فعلى قوله، في الكلام محذوف، كأنه قال: وجعلناك يا محمد مهيمنا عليه، فتكون هاء «عليه» راجعة إلى القرآن. وعلى غير قول مجاهد ترجع إلى الكتب المتقدمة. والثاني: أنه الشاهد، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل. والثالث: أنه المصدق على ما أخبر عن الكتب، وهذا قول ابن زيد، وهو قريب من القول الأول. والرابع: أنه الرقيب الحافظ، قاله الخليل. قوله تعالى: {فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ} يشير إلى اليهود ب{مَا أَنزَلَ ٱللّه إِلَيْكَ} في القرآن {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ ٱلْحَقّ}. قال أبو سليمان: المعنى: فترجع عما جاءك. قال ابن عباس: لا تأخذ بأهوائهم في جلد المحصن. قوله تعالى: {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً} قال مجاهد: الشرعة: السنة، والمنهاج: الطريق. وقال ابن قتيبة: الشرعة. والشريعة واحد، والمنهاج: الطريق الواضح. فان قيل: كيف نسق «المنهاج» على «الشرعة» وكلاهما بمعنى واحد؟ فعنه جوابان. احدهما: أن بينهما فرقا من وجهين: احدهما: أن «الشرعة» ابتداء الطريق، والمنهاج: الطريق المستمر، قاله المبرد. والثاني: أن «الشرعة» الطريق الذي ربما كان واضحا، وربما كان غير واضح، والمنهاج: الطريق الذي لا يكون إلا واضحا، ذكره ابن الأنباري: فلما وقع الاختلاف بين الشرعة والمنهاج، حسن نسق احدهما على الآخر. والثاني: أن الشرعة والمنهاج بمعنى واحد، وإنما نسق احدهما على الآخر لاختلاف اللفظين. قال الحطيئة: ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد فنسق البعد على النأي لماخالفه في اللفظ، وإن كان موافقا له في المعنى، ذكره ابن الأنباري. وأجاب عنه أرباب القول الأول، فقالوا «النأي» كل ما قل بعده أو كثر كأنه المفارقة، والبعد إنما يستعمل فيما كثرت مسافة مفارقته. وللمفسرين في معنى الكلام قولان. احدهما: لكل ملة جعلنا... شرعة ومنهاجا، فلأهل التوراة شريعة، ولأهل الإنجيل شريعة، ولأهل القرآن شريعة، هذا قول الأكثرين. قال قتادة: الخطاب للأمم الثلاث: أمة موسى، وعيسى، وأمة محمد، فللتوراة شريعة، وللانجيل شريعة، وللفرقان شريعة يحل اللّه فيها ما يشاء، ويحرم [ما يشاء] بلاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، و[لكن] الدين الواحد الذي لا يقبل غيره، التوحيد والإخلاص للّه الذي جاءت به الرسل. والثاني: أن المعنى: لكل من دخل في دين محمد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا، هذا قوم مجاهد. قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء ٱللّه لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً} فيه قولان. احدهما: لجمعكم على الحق. والثاني: لجعلكم على ملة واحدة {وَلَـٰكِن لّيَبْلُوَكُمْ} أي: ليختبركم {فِى} من الكتب وبين لكم من الملل. فان قيل: إذا كان المعنى بقوله{ٱلْحَقّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً}: نبينا محمد مع سائر الأنبياء قبله، فمن المخطاب بقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ}؟ فالجواب: أنه خطاب لنبينا، والمراد به سائر الأنبياء والأمم. قال ابن جرير: والعرب من شأنها إذا خاطبت غائبا، فأرادت الخبر عنه أن تغلب المخاطب، فتخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب. قوله تعالى: {فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرٰتِ} قال ابن عباس، والضحاك: هو خطاب لأمة محمد عليه السلام. قال مقاتل: و«الخيرات»: الأعمال الصالحة. {إِلَىٰ اللّه مَرْجِعُكُمْ} في الآخرة {فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من الدين.قال ابن جرير: قد بين ذلك في الدنيا بالأدلة والحجج، وغدا يبينه بالمجازاة. ٤٩ قوله تعالى: {وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ ٱللّه} سبب نزولها: أن جماعة من اليهود منهم كعب بن أسيد، وعبد اللّه بن صوريا، وشأس بن قيس، قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه، فقالوا: يا محمد، قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم، وأنا إن تبعناك، اتبعك اليهود، وإن بيننا وبين قوم خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونحن نؤمن بك، فأبى ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ونزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. وذكر مقاتل: أن جماعة من بني النضير قالوا له: هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا أهل قريظة في أمر الدماء كما كنا عليه من قبل، ونبايعك؟ فنزلت هذه الآية. قال القاضي أبو يعلى: وليس هذه الآية تكرارا لما تقدم، وإنما نزلتا في شيئين مختلفين، احدهما: في شأن الرجم، والآخر: في التسوية في الديات حتى تحاكموا إليه في الأمرين. قوله تعالى: {وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ} أي: يصرفوك {عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ ٱللّه إِلَيْكَ} وفيه قولان. احدهما: أنه الرجم، قاله ابن عباس. والثاني: شأن القصاص والدماء، قاله مقاتل. قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} فيه قولان. احدهما: عن حكمك. والثاني: عن الإيمان، فاعلم أن إعراضهم من أجل أن اللّه يريد أن يعذبهم ببعض ذنوبهم. وفي ذكر البعض قولان. احدهما: أنه على حقيقته، وإنما يصيبهم ببعض ما يستحقونه. والثاني: أن المراد به الكل، كما يذكر لفظ الواحد، ويراد به الجماعة، كقوله: {يأيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنّسَاء} [الطلاق: ١] والمراد: جميع المسلمين. وقال الحسن: أراد ما عجله من إجلاء بني النضير وقتل بني قريظة. قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مّنَ ٱلنَّاسِ لَفَـٰسِقُونَ} قال المفسرون: أراد اليهود. وفي المراد بالفسق هاهنا ثلاثة أقوال. احدها: الكفر، قاله ابن عباس. والثاني: الكذب، قاله ابن زيد. والثالث: المعاصي، قاله مقاتل. ٥٠ قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ ٱلْجَـٰهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} قرأ الجمهور «يبغون» بالياء، لان قبله غيبة، وهي قوله: {وَأَنْ كَثِيراً مّنَ ٱلنَّاسِ لَفَـٰسِقُونَ}. وقرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء على معنى: قل لهم. وسبب نزولها: ان النبي صلى اللّه عليه وسلم لما حكم بالرجم على اليهوديين تعلق بنو قريظة ببني النضير، وقالوا: يا محمد هؤلاء إخواننا، أبونا واحد، وديننا واحد، إذا قتلوا منا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر، وإن قتلنا منهم واحدا أخذوا منا أربعين ومائة وسق، وإن قتلنا منهم رجلا قتلوا به رجلين، وإن قتلنا امرأة قتلوا بها رجلا، فاقض بيننا بالعدل، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ليس لبني النضير على بني قريظة فضل في عقل ولا دم» فقال بنو النضير: واللّه لا نرضى بقضائك، ولا نطيع أمرك، ولنأخذن بأمرنا الأول، فنزلت هذه الآية: رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال الزجاج: ومعنى الآية: أتطلب اليهود حكما لم يأمر اللّه به، وهم أهل كتاب اللّه، كما تفعل الجاهلية؟ٰ قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللّه حُكْماً} قال ابن عباس: ومن أعدل؟ٰ وفي قوله: «لقوم يوقنون» قولان. احدهما: يوقنون بالقرآن، قاله ابن عباس. والثاني: يوقنون باللّه، قاله مقاتل. وقال الزجاج: من أيقن تبين عدل اللّه في حكمه. ٥١ قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. احدها: أنها نزلت في أبي لبابة حين قال لبني قريظة إذا رضوا بحكم سعد: إنه الذبح، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول عكرمة. والثاني: أن عبادة بن الصامت قال: يا رسول اللّه إن لي موالي من اليهود، وإني أبرأ إلى اللّه من ولاية يهود، فقال عبد اللّه بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر، ولا أبرأ إلى اللّه من ولاية يهود، فنزلت هذه الآية، قاله عطية العوفي. والثالث: أنه لما كانت وقعة أحد خافت طائفة من الناس أن يدال عليهم الكفار، فقال رجل لصاحبه: أما أنا فألحق بفلان اليهودي، فآخذ منه أمانا، أو أتهود معه، فنزلت هذه الآية، قاله السدي، ومقاتل. قال الزجاج: لا تتولوهم في الدين. وقال غيره: لا تستنصروا بهم. ولا تستعينوا، {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} في العون والنصرة. قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} فيه قولان. احدهما: من يتولهم في الدين، فانه منهم في الكفر. والثاني: من يتولهم في العهد فانه منهم في مخالفة الأمر. ٥٢ قوله تعالى: {فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـٰرِعُونَ فِيهِمْ} قال المفسرون: نزلت في المنافقين، ثم لهم في ذلك قولان. احدهما: أن اليهود والنصارى كانوا يميرون المنافقين ويقرضونهم فيوادونهم، فلما نزلت: {لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَاء} قال المنافقون: كيف نقطع مودة قوم إن أصابتنا سنة وسعوا علينا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وممن قال: نزلت في المنافقين، ولم يعين: مجاهد، وقتادة. والثاني: أنها نزلت في عبد اللّه بن أبي، قاله عطية العوفي. وفي المراد بالمرض قولان. احدهما: أنه الشك، قاله مقاتل. والثاني: النفاق، قاله الزجاج. وفي قوله: «يسارعون فيهم» ثلاثة أقوال. احدها: يسارعون في موالاتهم ومناصحتهم، قاله مجاهد، وقتادة. والثاني: في رضاهم، قاله ابن قتيبة. والثالث: في معاونتهم على المسلمين، قاله الزجاج. وفي المراد «بالدائرة» قولان. احدهما: الجدب والمجاعة، قاله ابن عباس. قال ابن قتيبة: نخشى أن يدور علينا الدهر بمكروه، يعنون الجدب، فلا يبايعونا، و[نمتار فيهم] فلا يميرونا. والثاني: انقلاب الدولة لليهود على المسلمين، قاله مقاتل. وفي المراد بالفتح أربعة أقوال. احدها: فتح مكة، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: فتح قرى اليهود، قاله الضحاك. والثالث: نصر النبي صلى اللّه عليه وسلم على من خالفه، قاله قتادة، والزجاج. والرابع: الفرج، قاله ابن قتيبة. وفي الأمر أربعة أقوال. احدها: إجلاء بني النضير وأخذ أموالهم، وقتل قريظة، وسبي ذراريهم، قاله ابن السائب، ومقاتل. والثاني: الجزية، قاله السدي. والثالث: الخصب، قاله ابن قتيبة. والرابع: أن يؤمر النبي صلى اللّه عليه وسلم باظهار أمر المنافقين وقتلهم، قاله الزجاج. وفي ما أسروا قولان. احدهما: موالاتهم. والثاني: قولهم: لعل محمدا لا ينصر. ٥٣ قوله تعالى: {وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ} قرأ ابو عمرو، بنصب اللام على معنى: وعسى أن يقول. ورفعه الباقون، فجعلوا الكلام مستأنفا. وقرأ ابن كثير، ونافع وابن عامر: يقول، بغير واو، مع رفع اللام، وكذلك في مصاحف أهل مكة والمدينة. قال المفسرون: لما أجلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بني النضير، اشتد ذلك على المنافقين، وجعلوا يتأسفون على فراقهم، وجعل المنافق يقول لقريبه المؤمن إذا رآه جادا في معاداة اليهود: أهذا جزاؤهم منك، طال واللّه ما أشبعوا بطنك؟ فلما قتلت قريظة، لم يطق أحد من المنافقين ستر ما في نفسه، فجعلوا يقولون: أربعمئة حصدوا في ليلة، فلما رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين، قالوا: {أَهَـٰؤُلاء} يعنون المنافقين {ٱلَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِٱللّه جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ} قال ابن عباس: أغلظوا في الأيمان. وقال مقاتل: جهد أيمانهم: القسم باللّه. وقال الزجاج: اجتهدوا في المبالغة في اليمين {إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ} على عدوكم {حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ} بنفاقهم. ٥٤ قوله تعالى: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: يرتد، بادغام الدال الأولى في الأخرى، وقرأ نافع، وابن عامر: يرتدد، بدالين. قال الزجاج: «يرتدد» هو الأصل، لأن الثاني إذا سكن من المضاعف، ظهر التضعيف. فأما «يرتد» فأدغمت الدال الأولى في الثانية، وحركت الثانية بالفتح، لالتقاء الساكنين. قال الحسن: علم اللّه أن قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم عليه السلام، فأخبرهم أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه وفي المراد بهؤلاء القوم ستة أقوال. احدها: أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة، قاله علي بن أبي طالب، والحسن عليهما السلام، وقتادة، والضحاك، وابن جريج. قال أنس ابن مالك: كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة، وقالوا: أهل القبلة، فتقلد ابو بكر سيفه، وخرج وحده، فلم يجدوا بدا من الخروج على أثره. والثاني: أبو بكر، وعمر، روي عن الحسن، أيضا. والثالث: أنهم قوم أبي موسى الأشعري، روى عياض الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «هم قوم هذا» يعني: أبا موسى. والرابع: أنهم أهل اليمن، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والخامس: أنهم الأنصار، قاله السدي. والسادس: المهاجرون والأنصار، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قال ابن جرير: وقد أنجز اللّه ما وعد فأتى بقوم في زمن عمر كانوا أحسن موقعا في الإسلام ممن ارتد. قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ} قال علي بن أبي طالب عليه السلام: أهل رقة على أهل دينهم، أهل غلظة على من خالفهم في دينهم. وقال الزجاج: معنى «أذلة»: جانبهم لين على المؤمنين، لا أنهم أذلاء. {يُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللّه وَلاَ يَخَـٰفُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} لأن المنافقين يراقبون الكفار، ويظاهرونهم، ويخافون لومهم، فأعلم اللّه عز وجل أن الصحيح الإيمان لا يخاف في اللّه لومة لائم، ثم أعلم أن ذلك لا يكون إلا بتوفيقه، فقال {ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللّه يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} يعني: محبتهم للّه، ولين جانبهم للمسلمين، وشدتهم على الكافرين. ٥٥ {إنما وليكم اللّه ورسوله...} ٥٦ قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللّه وَرَسُولُهُ} اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال. احدها: أن عبد اللّه بن سلام وأصحابه جاؤوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالوا: إن قوما قد أظهروا لنا العداوة، ولا نستطيع أن نجالس أصحابك لبعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقالوا: رضينا باللّه وبرسوله وبالمؤمنين، وأذن بلال بالصلاة، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاذا مسكين يسأل الناس، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «هل أعطاك أحد شيئا» قال: نعم قال «ماذا»؟ قال: خاتم فضة. قال: «من أعطاكه» قال: ذاك القائم، فاذا هو علي بن أبي طالب، أعطانيه وهو راكع، فقرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. وقال مجاهد: نزلت في علي بن أبي طالب، تصدق وهو راكع. والثاني: أن عبادة بن الصامت لما تبرأ من حلفائه اليهود نزلت هذه الآية في حقه، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنها نزلت في أبي بكر الصديق، قاله عكرمة. والرابع: أنها نزلت فيمن مضى من المسلمين ومن بقي منهم، قاله الحسن. قوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـوٰةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} فيه قولان. احدهما: أنهم فعلوا ذلك في ركوعهم، وهو تصدق علي عليه السلام بخاتمه في ركوعه. والثاني: أن من شأنهم إيتاء الزكاة وفعل الركوع. وفي المراد بالركوع ثلاثة أقوال. احدها: أنه نفس الركوع على ما روى أبو صالح عن ابن عباس. وقيل: إن الآية نزلت وهم في الركوع. والثاني: أنه صلاة التطوع بالليل والنهار، وإنما أفرد الركوع بالذكر تشريفا له، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. والثالث: أنه الخضوع والخشوع، وأنشدوا: لا تذل الفقير علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه ذكره الماوردي. فأما «حزب اللّه» فقال الحسن: هم جند اللّه. وقال أبو عبيدة: أنصار اللّه. ثم فيه قولان. احدهما: أنهم المهاجرون والأنصار، قاله ابن عباس. والثاني: الأنصار، ذكره أبو سليمان. ٥٧ قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} سبب نزولها: أن رفاعة بن زيد بن التابوت، وسويد بن الحارث كانا قد أظهرا الاسلام، ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. فأما اتخاذهم الدين هزوا ولعبا، فهو إظهارهم الإسلام، وإخفاؤهم الكفر، وتلاعبهم بالدين. والذين أوتوا الكتاب: اليهود والنصارى، والكفار: عبدة الأوثان. قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة: «والكفار» بالنصب على معنى: لا تتخذوا الكفار أولياء. وقرأ ابو عمرو، والكسائي: «والكفار» خفضا، لقرب الكلام من العامل الجار، وأمال ابو عمرو الألف. {وَٱتَّقُواْ ٱللّه} أن تولوهم. ٥٨ قوله تعالى: {وَإِذَا نَـٰدَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ} في سبب نزولها قولان. احدهما: أن منادي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا نادى إلى الصلاة، وقام المسلمون إليها، قالت: اليهود قاموا لا قاموا، صلوا لا صلوا، على سبيل الاستهزاء والضحك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب. والثاني: أن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين على ذلك، وقالوا: يا محمد لقد أبدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية، فان كنت تدعي النبوة، فقد خالفت في هذا الأذان الأنبياء قبلك، فما أقبح هذا الصوت، وأسمج هذا الأمر، فنزلت هذه الآية، ذكره بعض المفسرين. وقال السدي: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمدا رسول اللّه، قال: حرق الكاذب، فدخلت خادمه ذات ليلة بنار وهو نائم، وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله. والمناداة: هي الأذان، واتخاذهم إياها هزوا: تضاحكهم وتغامزهم {ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} ما لهم في إجابة الصلاة، وما عليهم في استهزائهم بها. ٥٩ قوله تعالى: {قُلْ يا أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا} سبب نزولها: أن نفرا من اليهود أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فذكر جميع الأنبياء، فلما ذكر عيسى، جحدوا نبوته، وقالوا: واللّه ما نعلم دينا شرا من دينكم، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، قاله ابن عباس. وقرأ الحسن، والأعمش: «تنقمون» بفتح القاف. قال الزجاج: يقال: نقمت على الرجل أنقم، ونقمت عليه أنقم والأول أجود. ومعنى «نقمت»: بالغت في كراهة الشيء، والمعنى: هل تكرهون منا إلا إيماننا، وفسقكم، لأنكم علمتم أننا على حق، وأنكم فسقتم. ٦٠ قوله تعالى: {هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذٰلِكَ} قال المفسرون: سبب نزولها قول اليهود للمؤمنين: واللّه ما علمنا أهل دين أقل حظا منكم في الدنيا والآخرة، ولا دينا شرا من دينكم. وفي قوله: {بِشَرّ مّن ذٰلِكَ} قولان. احدهما: بشر من المؤمنين، قاله ابن عباس. والثاني: بشر مما نقمتم من إيماننا، قاله الزجاج. فأما «المثوبة» فهي الثواب. قال الزجاج: وموضع «من» في قوله: «من لعنه اللّه» إن شئت كان رفعا، وإن شئت كان خفضا، فمن خفض جعله بدلا من «شر» فيكون المعنى: أنبئكم بمن لعنه اللّه؟ ومن رفع فباضمار «هو» كأن قائلا قال: من ذلك؟ فقيل: هو من لعنه اللّه. قال أبو صالح عن ابن عباس: من لعنه اللّه بالجزية، وغضب عليه بعبادة العجل، فهم شر مثوبة عند اللّه. وروي عن ابن عباس أن المسخين من أصحاب السبت: مسخ شبابهم قردة، ومشايخهم خنازير. وقال غيره: القردة: أصحاب السبت، والخنازير: كفار مائدة عيسى. وكان ابن قتيبة يقول: أنا أظن أن هذه القردة، والخنازير هي المسوخ بأعيانها توالدت. قال: واستدللت بقوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ} فدخول الألف واللام يدل على المعرفة، وعلى أنها القردة التي تعاين، ولو كان أراد شيئا انقرض ومضى، لقال: وجعل منهم قردة وخنازير، إلا أن يصح حديث أم حبيبة في «المسوخ» فيكون كما قال عليه السلام. قلت أنا: وحديث أم حبيبة في «الصحيح» انفرد باخراجه مسلم، وهو أن رجلا سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال: يا رسول اللّه، القردة، والخنازير هي مما مسخ؟ فقال النبي عليه السلام: «[إن اللّه] لم يمسخ قوما أو يهلك قوما، فيجعل لهم نسلا ولا عاقبة، وإن القردة والخنازير قد كانت قبل ذلك» وقد ذكرنا في سورة [البقرة] عن ابن عباس زيادة بيان ذلك، فلا يلتفت إلى ظن ابن قتيبة. قوله تعالى: {وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَ} فيها عشرون قراءة. قرأ ابن كثير، وعاصم، وابو عمرو، وابن عامر، ونافع، والكسائي: «وعبد» بفتح العين والباء والدال، ونصب تاء «الطاغوت». وفيها وجهان. احدهما: أن المعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت. والثاني: أن المعنى: من لعنه اللّه وعبد الطاغوت. وقرأ حمزة: «وعبد الطاغوت» بفتح العين والدال، وضم الباء، وخفض تاء الطاغوت. قال ثعلب: ليس لها وجه إلا أن يجمع فعل على فعل. وقال الزجاج: وجهها أن الاسم بني على «فعل» كما تقول: علم زيد، ورجل حذر، أي: مبالغ في الحذر. فالمعنى: جعل منهم خدمة الطاغوت ومن بلغ في طاعة الطاغوت الغاية. وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب، «وعبدوا»، بفتح العين والباء، ورفع الدال على الجمع «الطاغوت» بالنصب. وقرأ ابن عباس، وابن أبي عبلة: «وعبد» بفتح العين والباء والدال، إلا أنهما كسرا تاء «الطاغوت» قال الفراء: أرادا «عبدة» فحذفا الهاء. وقرأ أنس ابن مالك: «وعبيد» بفتح العين والدال وبياء بعد الباء وخفض تاء «الطاغوت» وقرأ أيوب، والأعمش: «وعبد»، برفع العين ونصب الباء والدال، مع تشديد الباء وكسر تاء الطاغوت. وقرأ أبو هريرة، وأبو رجاء، وابن السميفع، «وعابد» بألف، مكسورة الباء مفتوحة الدال، مع كسر تاء «الطاغوت». وقرأ أبو العالية، ويحيى ابن وثاب: «وعبد» برفع العين والباء وفتح الدال، مع كسر تاء الطاغوت. قال الزجاج: هو جمع عبيد، وعبد مثل رغيف، و رغف، وسرير، وسرر، والمعنى: وجعل منهم عبيد الطاغوت. وقرأ أبو عمران الجوني، ومورق العجلي، والنخعي: «وعبد» برفع العين وكسر الباء مخففة، وفتح الدال مع ضم «تاء الطاغوت» وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعكرمة: «وعبد» بفتح العين والدال، وتشديد الباء مع نصب تاء الطاغوت. وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو نهيك: «وعبد» بفتح العين والدال، وسكون الباء خفيفة مع كسر تاء الطاغوت. وقرأ قتادة، وهذيل ابن شرحبيل: «وعبدة» بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ منصوبة بعد الدال «الطواغيت» بالف وواو وياء بعد الغين على الجمع. وقرأ الضحاك، وعمرو بن دينار: «وعبد» برفع العين وفتح الباء، والدال مع تخفيف الباء، وكسر تاء «الطاغوت». وقرأ سعيد بن جبير، والشعبي: «وعبدة» مثل حمزة، إلا أنهما رفعا تاء «الطاغوت». وقرأ يحيى بن يعمر، والجحدري: «وعبد» بفتح العين ورفع الباء والدال مع كسر تاء «الطاغوت». وقرأ أبو الأشهب العطاردي: «وعبد» برفع العين وتسكين الباء، ونصب الدال، مع كسر تاء «الطاغوت» وقرأ أبو السماك: «وعبدة» بفتح العين والباء والدال، وتاء في اللفظ بعد الدال، مرفوعة مع كسر تاء «الطاغوت».وقرأ معاذ القارىء: «وعابد» مثل قراءة أبي هريرة إلا أنه ضم الدال. وقرأ أبو حيوة: «وعباد» بتشديد الباء وبألف بعدها مع رفع العين، وفتح الدال. وقرأ ابن حذلم، وعمرو بن فائد: «وعباد» مثل أبي حيوة إلا أن العين مفتوحة والدال مضمومة. وقد سبق ذكر «الطاغوت» في سورة {البقرة}. وفي المراد به هاهنا قولان. احدهما: الأصنام. والثاني: الشيطان. قوله تعالى: {أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً} أي: هؤلاء الذين وصفناهم شر مكانا من المؤمنين، و لا في مكان المؤمنين، ولكن الكلام مبني على كلام الخصم، حين قالوا للمؤمنين: لا نعرف شرا منكم، فقيل: من كان بهذه الصفة، فهو شر منهم. ٦١ قوله تعالى: {وَإِذَا * ٱلَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا} قال قتادة: هؤلاء ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فيخبرونه أنهم مؤمنون بما جاء به، وهم متمسكون بضلالتهم. قوله تعالى: {وَقَدْ دَّخَلُواْ بِٱلْكُفْرِ} أي: دخلوا كافرين، وخرجوا كافرين، فالكفر معهم في حالتيهم، {وَٱللّه أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} من الكفر والنفاق. ٦٢ قوله تعالى: {وَتَرَىٰ كَثِيراً مّنْهُمْ} يعني: اليهود {يُسَـٰرِعُونَ} أي: يبادرون {فِى ٱلإِثْمِ} وفيه قولان. احدهما: أنه المعاصي، قاله ابن عباس. والثاني: الكفر، قاله السدي. فأما العدوان فهو الظلم. وفي «السحت» ثلاثة أقوال. احدها: الرشوة في الحكم. والثاني: الرشوة في الدين. والثالث: الربا. ٦٣ قوله تعالى: {لَوْلاَ يَنْهَـٰهُمُ ٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلاْحْبَارُ} «لولا» بمعنى: «هلا» و «الربانيون» مذكورون في {ءالَ عِمْرَانَ}، «والأحبار» قد تقدم ذكرهم في هذه السورة. وهذه الآية من أشد الآيات على تاركي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لأن اللّه تعالى جمع بين فاعل المنكر وتارك الإنكار في الذم. قال ابن عباس: ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية. ٦٤ قوله تعالى: {وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللّه مَغْلُولَةٌ} قال أبو صالح عن ابن عباس: نزلت في فنحاص اليهودي وأصحابه، قالوا: يد اللّه مغلولة. وقال مقاتل: فنحاص وابن صلوبا، وعازر بن أبي عازر. وفي سبب قولهم هذا ثلاثة أقوال. احدها: أن اللّه تعالى كان قد بسط لهم الرزق، فلما عصوا اللّه تعالى في أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم وكفروا به كف عنهم بعض ما كان بسط لهم، فقالوا: يد اللّه مغلولة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. والثاني: أنه اللّه تعالى استقرض منهم كما استقرض من هذه الأمة، فقالوا: إن اللّه بخيل، ويده مغلولة فهو يستقرضنا، قاله قتادة. والثالث: أن النصارى لما أعانوا بختنصر المجوسي على تخريب بيت المقدس، قالت اليهود: لو كان اللّه صحيحا، لمنعنا منه، فيده مغلولة، ذكره قتادة أيضا. والمغلولة: الممسكة المنقبضة. وعن ماذا عنوا أنها ممسكة، فيه قولان. احدهما: عن العطاء، قاله ابن عباس، وقتادة، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: ممسكة عن عذابنا، فلا يعذبنا إلا تحلة القسم بقدر عبادتنا العجل، قاله الحسن وفي قوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} ثلاثة أقوال. احدها: غلت في جهنم، قاله الحسن. والثالث: جعلوا بخلاء، فهم أبخل قوم، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: وهذا خبر أخبر اللّه تعالى به الخلق أن هذا قد نزل بهم، وموضعه نصب على معنى الحال. تقديره: قالت اليهود هذا في حال حكم اللّه بغل أيديهم، ولعنته إياهم، ويجوز أن يكون المعنى: فغلت أيديهم، ويجوز أن يكون دعاء، معناه: تعليم اللّه لنا كيف ندعو عليهم، كقوله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ} [اللّهب: ١] وقوله: {لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَاء ٱللّه ءامِنِينَ} [الفتح:٢٧]. وفي قوله: {وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} ثلاثة أقوال. احدها: أبعدوا من رحمة اللّه. والثاني: عذبوا في الدنيا بالجزية، وفي الآخرة بالنار. والثالث: مسخوا قردة وخنازير. وروى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «من لعن شيئا لم يكن للعنه أهلا رجعت اللعنة على اليهود بلعنة اللّه إياهم» قال الزجاج: وقد ذهب قوم إلى أن معنى «يد اللّه»: نعمته، وهذا خطأ ينقضه {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} فيكون المعنى على قولهم: نعمتاه، ونعم اللّه أكثر من أن تحصى. والمراد بقوله: بل {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أنه جواد ينفق كيف يشاء وإلى نحو هذا ذهب ابن الأنباري. قال ابن عباس: إن شاء وسع في الرزق. وإن شاء قتر. قوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَـٰناً وَكُفْراً}. قال الزجاج: كلما أنزل عليك شيء كفروا به، فيزيد كفرهم. «والطغيان» هاهنا: الغلو في الكفر. وقال مقاتل: وليزيدن بني النضير ما أنزل إليك من ربك من أمر الرجم والدماء طغيانا وكفرا. قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاء} فيمن عني بهذا قولان. احدهما: اليهود والنصارى، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل. فان قيل: فأين ذكر النصارى؟ فالجواب: أنه قد تقدم في قوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَاء}. والثاني: أنهم اليهود، قاله قتادة. قوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللّه} ذكر إيقاد النار مثل ضرب لاجتهادهم في المحاربة، وقيل: إن الأصل في استعارة اسم النار للحرب أن القبيلة من العرب كانت إذا أرادت حرب أخرى أوقدت النار على رؤوس الجبال، والمواضع المرتفعة، ليعلم استعدادهم للحرب، فيتأهب من يريد إعانتهم. وقيل: كانوا إذا تحالفوا على الجد في حربهم، أوقدوا نارا، وتحالفوا. وفي معنى الآية قولان. احدهما: كلما جمعوا لحرب النبي صلى اللّه عليه وسلم فرقهم اللّه. والثاني: كلما مكروا مكرا رده اللّه. قوله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلاْرْضِ فَسَاداً} فيه أربعة أقوال. احدها: بالمعاصي، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: بمحو ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم من كتبهم ودفع الإسلام، قاله الزجاج. والثالث: بالكفر. والرابع: بالظلم، ذكرهما الماوردي. ٦٥ قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ} يعني: اليهود والنصارى {ءامَنُواْ} باللّه وبرسله {وَٱتَّقَوْاْ} الشرك {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَـٰتِهِمْ} التي سلفت. ٦٦ قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإنجِيلَ} قال ابن عباس: عملوا بما فيهما. وفيما أنزل إليهم من ربهم قولان. احدهما: كتب أنبياء بني إسرائيل. والثاني: القرآن، لأنهم لما خوطبوا به، كان نازلا إليهم. قوله تعالى: {لاَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} فيه قولان. احدهما: لأكلوا بقطر السماء، ونبات الأرض، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أن المعنى: لوسع عليهم، كما يقال: فلان في خير من قرنه إلى قدمه، ذكره الفراء، والزجاج. وقد أعلم اللّه تعالى بهذا أن التقوى سبب في توسعة الرزق كما قال: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضِ} [الأعراف: ٩٦] وقال: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق:٣]. قوله تعالى: {مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ} يعني: من أهل الكتاب، وهم الذين أسلموا منهم، قاله ابن عباس، ومجاهد. وقال القرظي: هم الذين قالوا: المسيح عبد اللّه ورسوله. «والاقتصاد» الاعتدال في القول والعمل من غير غلو ولا تقصير. ٦٧ قوله تعالى: {يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت على أسباب، روى الحسن أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: لما «بعثني اللّه برسالته، ضقت بها ذرعا، وعرفت أن من الناس من يكذبني» وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، يهاب قريشا واليهود والنصارى، فأنزل اللّه هذه الآية. وقال مجاهد: لما نزلت {يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} قال: «يا رب كيف أصنع؟ إنما أنا وحدي يجتمع علي الناس» فأنزل اللّه {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللّه يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ} وقال مقاتل: لما دعا اليهود، وأكثر عليهم، جعلوا يستهزؤون به، فسكت عنهم، فحرض بهذه الآية. وقال ابن عباس: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحرس فيرسل معه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية، فقال: «يا عماه إن اللّه قد عصمني من الجن والإنس» وقال أبو هريرة: نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجل فأخذه، فقال: يا محمد من يمنعني منك فقال: «اللّه» فنزل قوله: {وَٱللّه يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ}. قالت عائشة: سهر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات ليلة، فقلت ما شأنك؟ قال: ألا رجل صالح يحرسني الليلة، فبينما نحن في ذلك إذ سمعت صوت السلاح، فقال: «من هذا» فقال: سعد وحذيفة جئنا نحرسك، فنام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى سمعت غطيطه، فنزلت {وَٱللّه يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ} فأخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأسه من قبة أدم وقال: «انصرفوا أيها الناس فقد عصمني اللّه تعالى» قال الزجاج: قوله: {بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} معناه: بلغ جميع ما أنزل إليك، ولا تراقبن أحدا، ولا تتركن شيئا منه مخافة أن ينالك مكروه، فان تركت منه شيئا، فما بلغت. قال ابن قتيبة: يدل على هذا المحذوف قوله: {وَٱللّه يَعْصِمُكَ} وقال ابن عباس: إن كتمت آية فما بلغت رسالتي. وقال غيره: المعنى: بلغ جميع ما أنزل إليك جهرا، فان أخفيت شيئا منه لخوف أذى يلحقك، فكأنك ما بلغت شيئا. وقرأ ابو عمرو، وحمزة، والكسائي: «رسالته» على التوحيد. وقرأ نافع «رسالاته» على الجمع. قوله تعالى: {وَٱللّه يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ} قال ابن قتيبة: أي: يمنعك منهم. وعصمة اللّه: منعه للعبد من المعاصي، ويقال: طعام لا يعصم، أي: لا يمنع من الجوع. فان قيل: فأين ضمان العصمة وقد شج جبينه، وكسرت رباعيته، وبولغ في أذاه؟ فعنه جوابان. احدهما: أنه عصمه من القتل والأسر وتلف الجملة، فأما عوارض الأذى، فلا تمنع عصمة الجملة. والثاني: أن هذه الآية نزلت بعدما جرى عليه ذلك، لأن «المائدة» من أواخر ما نزل. قوله تعالى: {إِنَّ ٱللّه لاَ يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلْكَـٰفِرِينَ} فيه قولان. احدهما: لا يهديهم إلى الجنة. والثاني: لا يعينهم على بلوغ غرضهم. ٦٨ قوله تعالى: {قُلْ يٰأَ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَىْء} سبب نزولها: أن اليهود قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم: ألست تؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها حق؟ قال: بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها، فأنا بريء من إحداثكم. فقالوا: نحن على الهدى، ونأخذ بما في أيدينا، ولا نؤمن بك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. فأما أهل الكتاب، فالمراد بهم اليهود والنصارى. وقوله: {لَسْتُمْ عَلَىٰ شَىْء} أي: لستم على شيء من الدين الحق حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وإقامتهما: العمل بما فيهما، ومن ذلك الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم. وفي الذي أنزل إليهم من ربهم قولان قد سبقا، وكذلك باقي الآية. ٦٩ قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّـٰبِئُونَ} قد ذكرنا تفسيرها في {البقرة} وكذلك اختلفوا في إحكامها ونسخها كما بينا هناك. فأما رفع «الصائبين» فذكر الزجاج عن البصريين، منهم الخليل، وسيبويه أن قوله: «والصائبون» محمول على التأخير، ومرفوع بالابتداء. والمعنى: إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن باللّه واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والصائبون والنصارى كذلك أيضا، وأنشدوا: وإلا فاعلموا أنا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق المعنى: فاعلموا أنا بغاة ما بقينا في شقاق، وأنتم أيضا كذلك. ٧٠ قوله تعالى: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْرٰءيلَ} قال مقاتل: أخذ ميثاقهم في التوراة بأن يعملوا بما فيها، قال ابن عباس: كان فيمن كذبوا، محمد، وعيسى، و فيمن قتلوا، زكريا، ويحيى. قال الزجاج: فأما التكذيب، فاليهود، والنصارى يشتركون فيه. وأما القتل فيختص اليهود. ٧١ قوله تعالى: {وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر: «تكون» بالنصب، وقرأ ابو عمرو، وحمزة، والكسائي: «تكون» بالرفع، ولم يختلفوا في رفع «فتنة». قال مكي بن أبي طالب: من رفع جعل «أن» مخففة من الثقيلة، وأضمر معها «الهاء» وجعل «حسبوا» بمعنى: أيقنوا، لأن «أن» للتأكيد، والتأكيد لا يجوز إلا مع اليقين. والتقدير: أنه لا تكون فتنة. ومن نصب جعل «أن» هي الناصبة للفعل، وجعل «حسبوا» بمعنى: ظنوا. ولو كان قبل «أن» فعل لا يصلح للشك، لم يجز أن تكون إلا مخففة من الثقيلة، ولم يجز نصب الفعل بها، كقوله: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ} [طه: ٨٩] و {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ} [المزمل: ٢٠] وقال أبو علي: الأفعال ثلاثة: فعل يدل على ثبات الشيء واستقراره، نحو العلم والتيقن، وفعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار، وفعل يجذب إلى هذا مرة، وإلى هذا أخرى، فما كان معناه العلم، وقعت بعده «أن» الثقيلة، لأن معناها ثبوت الشيء واستقراره، كقوله: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللّه هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ} [النور: ٢٥] {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ ٱللّه يَرَىٰ} [العلق: ١٤] وما كان على غير وجه الثبات والاستقرار نحو: أطمع وأخاف وأرجو، وقعت بعده «أن» الخفيفة، كقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللّه} [البقرة: ٢٢٩] {تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ} [الأنفال: ٢٦] {فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا} [الكهف: ٨٠] {أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى} [الشعراء: ٨٢] وما كان مترددا بين الحالين مثل حسبت وظننت، فانه يجعل تارة بمنزلة العلم، وتارة بمنزلة أرجو وأطمع وكلتا القراءتين في {وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} قد جاء بها التنزيل. فمثل مذهب من نصب {أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيّئَـٰتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ} [الجاثية: ٢١] {أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا} [العنكبوت: ٤] {أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ} [العنكبوت: ٢] ومثل مذهب من رفع {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ} [المؤمنون: ٥٥] {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ} [الزخرف: ٨٠]. قال ابن عباس: ظنوا أن اللّه لا يعذبهم، ولا يبتليهم بقتلهم الأنبياء، وتكذبيهم الرسل. قوله تعالى: {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ} قال الزجاج: هذا مثل تأويله: أنهم لم يعملوا بما سمعوا، ورأوا من الآيات، فصاروا كالعمي الصم. قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ ٱللّه عَلَيْهِمْ} فيه قولان. احدهما: رفع عنهم البلاء، قاله مقاتل. وقال غيره: هو ظفرهم بالأعداء، وذلك مذكور في قوله{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} [الاسراء: ٦]. والثاني: أن معنى «تاب عليهم»: أرسل إليهم محمدا يعلمهم أن اللّه قد تاب عليهم إن آمنوا وصدقوا، قاله الزجاج. وفي قوله: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} قولان. احدهما: لم يتوبوا بعد رفع البلاء، قاله مقاتل. والثاني: لم يؤمنوا بعد بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم، قاله الزجاج. قوله تعالى: {كَثِيرٌ مّنْهُمْ} أي: عمي وصم كثير منهم، كما تقول: جاءني قومك أكثرهم. قال ابن الأنباري: هذه الآية نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل أن يبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلما بعث كذبوه بغيا وحسدا، وقدروا أن هذا الفعل لا يكون موبقا لهم، وجانيا عليهم، فقال اللّه تعالى: {وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: ظنوا ألا تقع بهم فتنة في الإصرار على الكفر، فعموا وصموا بمجانبة الحق. {ثُمَّ تَابَ ٱللّه عَلَيْهِمْ} أي: عرضهم للتوبة بأن أرسل محمد صلى اللّه عليه وسلم وإن لم يتوبوا، ثم عموا وصموا بعد بيان الحق بمحمد، كثير منهم، فخص بعضهم بالفعل الأخير، لأنهم لم يجتمعوا كلهم على خلاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ٧٢ قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللّه هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ} قال مقاتل: نزلت في نصارى نجران، قالوا ذلك: قوله تعالى: {وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ} أي: وقد كان المسيح قال لهم وهو بين أظهرهم: إنه من يشرك باللّه فقد حرم اللّه عليه الجنة. ٧٣ قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللّه ثَـٰلِثُ ثَلَـٰثَةٍ} قال مجاهد: هم النصارى. قال وهب بن منبه: لما ولد عيسى لم يبق صنم إلا خر لوجهه، فاجتمعت الشياطين إلى إبليس، فأخبروه، فذهب فطاف أقطار الأرض، ثم رجع، فقال: هذا المولود الذي ولد من غير ذكر، أردت أن أنظر إليه، فوجدت الملائكة قد حفت بأمه، فليتخلف عندي اثنان من مردتكم، فلما أصبح، خرج بهما في صورة الرجال، فأتوا مسجد بني إسرائيل وهم يتحدثون بأمر عيسى، ويقولون: مولود من غير أب. فقال إبليس: ما هذا ببشر، ولكن اللّه أحب أن يتمثل في امرأة ليختبر العباد، فقال أحد صاحبيه: ما أعظم ما قلت، ولكن اللّه أحب أن يتخذ. ولدا وقال الثالث: ما أعظم ما قلت، ولكن اللّه أراد أن يجعل إلها في الأرض، فألقوا هذا الكلام على ألسنة الناس، ثم تفرقوا، فتكلم به الناس.وقال محمد بن كعب: لما رفع عيسى اجتمع مئة من علماء بني إسرائيل، وانتخبوا منهم أربعة، فقال احدهما: عيسى هو اللّه كان في الأرض ما بدا له، ثم صعد إلى السماء، لأنه لا يحيي الموتى ولا يبرئ الأكمه والأبرص إلا اللّه. وقال الثاني: ليس كذلك، لأنا قد عرفنا عيسى، وعرفنا أمه، ولكنه ابن اللّه. وقال الثالث: لا أقول كما قلتما، ولكن جاءت به أمه من عمل غير صالح. فقال الرابع: لقد قلتم قبيحا، ولكنه عبد اللّه ورسوله، وكلمته، فخرجوا، فاتبع كل رجل منهم عنق من الناس. قال المفسرون: ومعنى الآية: أن النصارى قالت: الإلهية مشتركة بين اللّه وعيسى ومريم، وكل واحد منهم إله. وفي الآية إضمار، فالمعنى: ثالث ثلاثة آلهة، فحذف ذكر الآلهة، لأن المعنى مفهوم، لأنه لا يكفر من قال: هو ثالث ثلاثة، ولم يرد الآلهة، لأنه ما من اثنين إلا وهو ثالثهما، وقد دل على المحذوف قوله: {وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ}. قال الزجاج: ومعنى ثالث ثلاثة: أنه أحد ثلاثة. ودخلت «من» في قوله: {وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ} للتوكيد. والذين كفروا منهم، هم المقيمون على هذا القول. وقال ابن جرير: المعنى: ليمسن الذين يقولون:المسيح هو اللّه، والذين يقولون: إن اللّه ثالث ثلاثة، وكل كافر يسلك سبيلهم، عذاب أليم. ٧٤ قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللّه} قال الفراء: لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الأمر، كقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: ٩١]. ٧٥ قوله تعالى: {مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ} فيه رد على اليهود في تكذيبهم رسالته، وعلى النصارى في ادعائهم إلهيته. والمعنى: أنه ليس باله، وإنما حكمه حكم من سبقه من الرسل. وفي قوله: {وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ} رد على من نسبها من اليهود إلى الفاحشة. قال الزجاج: والصديقة: المبالغة في الصدق، وصديق «فعيل» من أبنية المبالغة، كما تقول: فلان سكيت، أي: مبالغ في السكوت. وفي قوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ} قولان. احدهما: أنه بين أنهما يعيشان بالغذاء، ومن لا يقيمه إلا أكل الطعام فليس باله، قاله الزجاج. والثاني: أنه نبه بأكل الطعام على عاقبته، وهو الحدث، إذ لا بد لآكل الطعام من الحدث، قاله ابن قتيبة. قال: وقوله: {ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ ٱلاْيَـٰتِ} من ألطف ما يكون من الكناية. «ويؤفكون» يصرفون عن الحق ويعدلون، يقال: أفك الرجل عن كذا: إذا عدل عنه، وأرض مأفوكة: محرومة المطر والنبات، كأن ذلك صرف عنها وعدل. ٧٦ قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللّه} قال مقاتل: قل لنصارى نجران: أتعبدون من دون اللّه، يعني عيسى بن مريم ما لا يملك لكم ضرا في الدنيا، ولا نفعا في الآخرة. واللّه هو السميع لقولهم: المسيح ابن اللّه، وثالث ثلاثة، العليم. بمقالتهم. ٧٧ قوله تعالى: {قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ} قال مقاتل: هم نصارى نجران. والمعنى: لا تغلوا في دينكم، فتقولوا غير الحق في عيسى. وقد بينا معنى «الغلو» في آخر سورة {ٱلنّسَاء}. قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} قال أبو سليمان: من قبل أن تضلوا. وفيهم قولان. احدهما: أنهم رؤساء الضلالة من اليهود. والثاني: رؤساء اليهود والنصارى، والآية خطاب للذين كانوا في عصر نبينا صلى اللّه عليه وسلم نهوا أن يتبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم. ٧٨ قوله تعالى: {لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرٰءيلَ} في لعنهم قولان. احدهما: أنه نفس اللعن، ومعناه: المباعدة من الرحمة. قال ابن عباس: لعنوا على لسان داود، فصاروا قردة، ولعنوا على لسان عيسى في الإنجيل. قال الزجاج: وجائز أن يكون داود وعيسى أعلما أن محمدا نبي، ولعنا من كفر به. والثاني: أنه المسخ، قاله مجاهد، لعنوا على لسان داود فصاروا قردة، وعلى لسان عيسى، فصاروا خنازير. وقال الحسن، وقتادة: لعن أصحاب السبت على لسان داود، فانهم لما اعتدوا، قال داود: اللّهم العنهم، واجعلهم آية، فمسخوا قردة. ولعن أصحاب المائدة على لسان عيسى، فانهم لما أكلوا منها ولم يؤمنوا؛ قال عيسى: اللّهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت، فجعلوا خنازير. قوله تعالى: {ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ} أي: ذلك اللعن بمعصيتهم للّه تعالى في مخالفتهم أمره ونهيه، وباعتدائهم في مجاوزة ما حده لهم. ٧٩ قوله تعالى: {كَانُواْ لاَ يَتَنَـٰهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} التناهي: تفاعل من النهي، أي: كانوا لا ينهى بعضهم بعضا عن المنكر. وذكر المفسرون في هذا المنكر ثلاثة أقوال. احدها: صيد السمك يوم السبت. والثاني: أخذ الرشوة في الحكم. والثالث: أكل الربا، وأثمان الشحوم، وذكر المنكر منكرا يدل على الإطلاق، ويمنع هذا الحصر، ويدل على ما قلنا، ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرا، فاذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريبه، فلما رأى اللّه تعالى ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم». قوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} قال الزجاج: اللام دخلت للقسم والتوكيد، والمعنى: لبئس شيئا فعلهم. ٨٠ انظر تفسير الآية: ٨١ ٨١ قوله تعالى: {تَرَىٰ كَثِيراً مّنْهُمْ} في المشار إليهم قولان. احدهما: أنهم المنافقون، روي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد. والثاني: أنهم اليهود، قاله مقاتل في آخرين، فعلى هذا القول انتظام الآيات ظاهر، وعلى الأول يرجع الكلام إلى قوله: {فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـٰرِعُونَ فِيهِمْ}. وفي الذين كفروا قولان. احدهما: أنهم اليهود، قاله أرباب القول الأول. والثاني: أنهم مشركو العرب، قاله أرباب هذا القول الثاني. قوله تعالى: {مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} أي: بئسما قدموا لمعادهم {أَن سَخِطَ ٱللّه عَلَيْهِمْ} قال الزجاج: يجوز أن تكون «أن» في موضع رفع على إضمار هو، كأنه قيل: هو أن سخط اللّه عليهم. ٨٢ انظر تفسير الآية: ٨٣ ٨٣ قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱلْيَهُودَ} قال المفسرون: نزلت هذه الآية وما بعدها مما يتعلق بها في النجاشي وأصحابه. قال سعيد بن جبير: بعث النجاشي قوما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأسلموا، فنزلت فيهم هذه الآية والتي بعدها، وسنذكر قصتهم فيما بعد. قال الزجاج: واللام في «لتجدن» لام القسم، والنون دخلت تفصل بين الحال والاستقبال، و«عداوة» منصوب على التمييز، واليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين حسدا للنبي صلى اللّه عليه وسلم. قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} يعني: عبدة الأوثان. فأما الذين قالوا: إنا نصارى، فهل هذا عام في كل النصارى، أم خاص؟ فيه قولان. احدهما: أنه خاص، ثم فيه قولان. احدهما: أنه أراد النجاشي وأصحابه لما أسلموا، قاله ابن عباس، وابن جبير. والثاني: أنهم قوم من النصارى كانوا متمسكين بشريعة عيسى، فلما جاء محمد عليه السلام أسلموا، قاله قتادة. والقول الثاني: أنه عام. قال الزجاج: يجوز أن يراد به النصارى، لأنهم كانوا أقل مظاهرة للمشركين من اليهود. قوله تعالى: {ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ} قال الزجاج: «القس» و«القسيس»: من رؤساء النصارى. وقال قطرب: القسيس: العالم بلغة الروم، فأما «الرهبان» فهم العباد أرباب الصوامع. قال ابن فارس: الترهب: التعبد، فان قيل: كيف مدحهم بأن منهم قسيسين ورهبانا، وليس ذلك من أمر شريعتنا؟ فالجواب: أنه مدحهم بالتمسك بدين عيسى حين استعملوا في أمر محمد ما أخذ عليهم في كتابهم، وقد كانت الرهبانية مستحسنة في دينهم. والمعنى: بأن فيهم علماء بما أوصى به عيسى من أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم. قال القاضي أبو يعلى: ٨٤ انظر تفسير الآية: ٨٦ ٨٥ انظر تفسير الآية: ٨٦ ٨٦ قوله تعالى: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللّه} قال ابن عباس: لامهم قومهم على الإيمان، فقالوا هذا. وفي القوم الصالحين ثلاثة أقوال. احدها: أصحاب رسول اللّه، قاله ابن عباس. والثاني: رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، قاله ابن زيد. والثالث: المهاجرون الأولون، قاله مقاتل. قوله تعالى: {وَذٰلِكَ جَزَاء ٱلْمُحْسِنِينَ} قال ابن عباس: ثواب المؤمنين. ٨٧ انظر تفسير الآية: ٨٨ ٨٨ قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَـٰتِ مَا أَحَلَّ ٱللّه لَكُمْ} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. احدها: أن رجالا من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، منهم عثمان بن مظعون، حرموا اللحم والنساء على أنفسهم، وأرادوا جب أنفسهم ليتفرغوا للعبادة، فقال رسول اللّه: «لم أومر بذلك» ونزلت هذه الآية، رواه العوفي عن ابن عباس. وروى أبو صالح عن ابن عباس، قال: كانوا عشرة: أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وعثمان، بن مظعون، والمقداد بن الأسود، وسالم مولى أبي حذيفة، وسلمان الفارسي، وأبو ذر، وعمار بن ياسر، أجتمعوا في دار عثمان بن مظعون، فتواثقوا على ذلك، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: «من رغب عن سنتي فليس مني» ونزلت هذه الآية. قال السدي: كان سبب عزمهم على ذلك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جلس يوما، فلم يزدهم على التخويف، فرق الناس، وبكوا، فعزم هؤلاء على ذلك، وحلفوا على ما عزموا عليه. وقال عكرمة: إن علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعثمان ابن مظعون، والمقداد، وسالما مولى أبي حذيفة في أصحابه، تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس، إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت هذه الآية. والثاني: أن رجلا أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: إني إذا أكلت من هذا اللحم، أقبلت على النساء، وإني حرمته علي، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: أن ضيفا نزل بعبد اللّه بن رواحة، ولم يكن حاضرا، فلما جاء، قال لزوجته: هل أكل الضيف؟ فقالت: انتظرتك. فقال: حبست ضيفي من أجلي؟ٰ طعامك علي حرام. فقالت: وهو علي حرام إن لم تأكله، فقال الضيف: وهو علي حرام إن لم تأكلوه، فلما رأى ذلك ابن رواحة قال: قربي طعامك، كلوا بسم اللّه، ثم غدا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فأخبره بذلك فقال: أحسنت، ونزلت هذه الآية وقرأ حتى بلغ {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللّه بِٱلَّلغْوِ فِى أَيْمَـٰنِكُمْ} رواه عبد الرحمن بن زيد عن أبيه.فأما «الطيبات» فهي اللذيذات التي تشتهيها النفوس مما أبيح. وفي قوله: «ولا تعتدوا» خمسة أقوال. احدها: لا تحببوا أنفسكم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وإبراهيم. والثاني: لا تأتوا ما نهى اللّه عنه، قاله الحسن. والثالث: لا تسيروا بغير سيرة المسلمين من ترك النساء، وإدامة الصيام، والقيام، قاله عكرمة. والرابع: لا تحرموا الحلال، قاله مقاتل. والخامس: لا تغصبوا الأموال المحرمة، ذكره الماوردي. ٨٩ قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللّه بِٱلَّلغْوِ فِى أَيْمَـٰنِكُمْ} سبب نزولها: أنه لما نزل قوله: {لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَـٰتِ مَا أَحَلَّ ٱللّه لَكُمْ} قال القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم: يا رسول اللّه كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فنزلت هذه الآية، رواه العوفي عن ابن عباس. وقد سبق ذكر «اللغو» في سورة {البقرة}. قوله تعالى: {بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلاْيْمَـٰنَ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وحفص عن عاصم: «عقدتم» بغير ألف، مشددة القاف. قال ابو عمرو: معناها: وكدتم. وقرأ أبو بكر، والمفضل عن عاصم: «عقدتم» خفيفة بغير ألف، واختارها أبو عبيد. قال ابن جرير: معناها: أوجبتموها على أنفسكم. وقرأ ابن عامر «عاقدتم» بألف، مثل «عاهدتم» قال القاضي أبو يعلى: وهذه القراءة المشددة لا تحتمل إلا عقد قول. فأما المخففة، فتحتمل عقد القلب، وعقد القول. وذكر المفسرون في معنى الكلام قولين. احدهما: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم عليه قلوبكم في التعمد لليمين، قاله مجاهد. والثاني: بما عقدتم عليه قلوبكم أنه كذب، قاله سعيد بن جبير. قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ} قال ابن جرير: الهاء عائدة على «ما» في قوله: بما «عقدتم». فصل فأما إطعام المساكين، فروي عن ابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن عباس، والحسن في آخرين: أن لكل مسكين مدبر، وبه قال مالك، والشافعي. وروي عن عمر، وعلي، وعائشة في آخرين: لكل مسكين نصف صاع من بر، قال عمر، وعائشة: أو صاعا من تمر، وبه قال أبو حنيفة. ومذهب أصحابنا في جميع الكفارات التي فيها إطعام، مثل كفارة اليمين، والظهار، وفدية الأذى، والمفرطة في قضاء رمضان، مدبرٍ، أو نصف صاع تمر أو شعير.ومن شرط صحة الكفارة، تمليك الطعام للفقراء، فان غداهم وعشاهم، لم يجزئه، وبه قال سعيد بن جبير، والحكم، والشافعي. وقال الثوري، والأوزاعي: يجزئه، وبه قال أبو حنيفة، ومالك. ولا يجوز صرف مدين إلى مسكين واحد، ولا إخراج القيمة في الكفارة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز. قال الزجاج: وإنما وقع لفظ الذكير في المساكين، ولو كانوا إناثا لأجزأ، لأن المغلب في كلام العرب التذكير. وفي قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} قولان. احدهما: من أوسطه في القدر، قاله عمر، وعلي، وابن عباس، ومجاهد. والثاني: من أوسط أجناس الطعام، قاله ابن عمر، والأسود، وعبيدة، والحسن، وابن سيرين. وروي عن ابن عباس قال: كان أهل المدينة [يقولون] للحر من القوت أكثر ما للمملوك، وللكبير أكثر ما للصغير، فنزلت {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ليس بأفضله ولا بأخسه. وفي كسوتهم خمسة أقوال. احدها: أنها ثوب واحد، قاله ابن عباس، ومجاهد، وطاووس، وعطاء، والشافعي. والثاني: ثوبان، قاله أبو موسى الأشعري، وابن المسيب، والحسن، وابن سيرين، والضحاك. والثالث: إزار ورداء وقميص، قاله ابن عمر. والرابع: ثوب جامع كالملحفة، قاله إبراهيم النخعي. والخامس: كسوة تجزىء فيها الصلاة، قاله مالك. ومذهب أصحابنا: أنه إن كسا الرجل، كساه ثوبا، والمرأة ثوبين، درعا وخمارا، وهو أدنى ما تجزئ فيه الصلاة. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو الجوزاء، ويحيى بن يعمر: «أو كسوتهم» بضم الكاف. وقد قرأ سعيد بن جبير، وأبو العالية، وأبو نهيك، ومعاذ القارىء: «أو كاسوتهم» بهمزة مكسورة، مفتوحة الكاف، مكسورة التاء والهاء، وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران الجوزي مثله، إلا إنهما فتحا الهمزة. قال المصنف: ولا أرى هذه القراءة جائزة، لأنها تسقط أصلا من أصول الكفارة. قوله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} تحريرها: عتقها، والمراد بالرقبة: جملة الشخص. واتفقوا على إشتراط إيمان الرقبة في كفارة القتل لموضع النص. واختلفوا في إيمان الرقبة المذكورة في هذه الكفارة على قولين. احدهما: أنه شرط، وبه قال الشافعي، لأن اللّه تعالى قيد بذكر الإيمان في كفارة القتل، فوجب حمل المطلق على المقيد. والثاني: ليس بشرط، وبه قال أبو حنيفة، وعن احمد رضي اللّه عنه في إيمان الرقبة المعتقة في كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الجماع، والمنذورة، روايتان. قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} اختلفوا فيما إذا لم يجده، صام، على خمسة أقوال. احدها: أنه إذا لم يجد درهمين صام، قاله الحسن. والثاني: ثلاثة دراهم، قاله سعيد بن جبير. والثالث: إذا لم يجد إلا قدر ما يكفر به صام، قاله قتادة. والرابع: مئتي درهم، قاله أبو حنيفة. والخامس: إذا لم يكن له إلا قدر قوته وقوت عائلته يومه وليلته، قاله احمد، والشافعي. وفي تتابع الثلاثة أيام، قولان. احدهما: أنه شرط، وكان أبي، وابن مسعود يقرآن: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وبه قال ابن عباس، ومجاهد، وطاووس، وعطاء، وقتادة، وأبو حنيفة، وهو قول أصحابنا. والثاني: ليس بشرط، ويجوز التفريق، وبه قال الحسن، ومالك. والشافعي فيه قولان. قوله تعالى: {ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَـٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} فيه إضمار تقديره: إذا حلفتم وحنثتم. وفي قوله: {وَٱحْفَظُواْ أَيْمَـٰنَكُمْ} ثلاثة أقوال. احدها: أقلوا منها، ويشهد له قوله: {وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللّه عُرْضَةً لاِيْمَـٰنِكُمْ} وأنشدوا: قليل الألايا حافظ ليمينه والثاني: احفظوا أنفسكم من الحنث فيها. والثالث: راعوها لكي تؤدوا الكفارة عند الحنث فيها. ٩٠ قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّمَا * ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ} في سبب نزولها أربعة أقوال. احدها: أن سعد بن أبي وقاص أتى نفرا من المهاجرين والأنصار، فأكل عندهم، وشرب الخمر، قبل أن تحرم، فقال: المهاجرون خير من الأنصار، فأخذ رجل لحي جمل فضربه، فجدع أنفه، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره، فنزلت هذه الآية، رواه مصعب بن سعد عن أبيه. وقال سعيد بن جبير: صنع رجل من الأنصار صنيعا، فدعا سعد بن أبي وقاص، فلما أخذت فيهم الخمرة افتخروا واستبوا، فقام الأنصاري إلى لحي بعير، فضرب به رأس سعد، فاذا الدم على وجهه، فذهب سعد يشكو إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فنزل تحريم الخمر في قوله: {إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. والثاني: أن عمر بن الخطاب قال: اللّهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في {البقرة} فقال: اللّهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في النساء {لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ أَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ} [النساء: ٤٣] فقال اللّهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو ميسرة عن عمر. والثالث: أن أناسا من المسلمين شربوها، فقاتل بعضهم بعضا، وتكلموا بما لا يرضاه اللّه من القول، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع: أن قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثملوا عبث بعضهم ببعض، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه وبرأسه وبلحيته، فيقول: صنع بي هذا أخي فلانٰ! واللّه لو كان بي رؤوفا ما صنع بي هذا، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقد ذكرنا الخمر والميسر في {البقرة} وذكرنا في «النصب» في أول هذه السورة قولين، وهما اللذان ذكرهما المفسرون في الأنصاب. وذكرنا هناك «الأزلام» فأما الرجس، فقال الزجاج: هو اسم لكل ما استقذر من عمل، يقال: رجس الرجل يرجس، ورجس يرجس: إذا عمل عملا قبيحا، والرجس بفتح الراء:شدة الصوت، فكأن الرجس، العمل الذي يقبح ذكره، ويرتفع في القبح، ويقال: رعد رجاس: إذا كان شديد الصوت. قوله تعالى: {مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ} قال ابن عباس: من تزيين الشيطان. فان قيل: كيف نسب إليه، وليس من فعله؟ فالجواب: أن نسبته إليه مجاز، وإنما نسب إليه، لأنه هو الداعي إليه، المزين له، ألا ترى أن رجلا لو أغرى رجلا بضرب رجل، لجاز أن يقال له: هذا من عملك. قوله تعالى: {فَٱجْتَنِبُوهُ} قال الزجاج: اتركوه. واشتقاقه في اللغة: كونوا جانبا منه. فان قيل: كيف ذكر في هذه الآية أشياء، ثم قال: فاجتنبوه؟ فالجواب: أن الهاء عائدة على الرجس، والرجس واقع على الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، ورجوع الهاء عليه بمنزلة رجوعها على الجمع الذي هو واقع عليه، ومنبىء عنه، ذكره ابن الأنباري. ٩١ انظر تفسير الآية: ٩٢ ٩٢ قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَـٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاء فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ} أما «الخمر» فوقوع العداوة والبغضاء فيها على نحو ما ذكرنا في سبب نزول الآية من القتال والمماراة. وأما الميسر، فقال قتادة: كان الرجل يقامر على أهله وماله، فيقمر ويبقى حزينا سليبا، فينظر إلى ماله في يد غيره، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء. قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} فيه قولان. احدهما: أنه لفظ استفهام، ومعناه: الأمر. تقديره: انتهوا. قال الفراء: ردد علي أعرابي هل أنت ساكت، هل أنت ساكت؟ وهو يريد: اسكت اسكت. والثاني: أنه استفهام، لا بمعنى: الأمر. ذكر شيخنا علي بن عبيد اللّه أن جماعة كانوا يشربون الخمر بعد هذه الآية، ويقولون: لم يحرمها، إنما قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} فقال بعضنا: انتهينا، وقال بعضنا لم ننته، فلما نزلت {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ} [الأعراف: ٣٣] حرمت لأن «الإثم» اسم للخمر. وهذا القول ليس بشيء، والأول أصح. قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ ٱللّه وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ} فيما أمراكم، واحذروا خلافهما {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أي: أعرضتم، {فَٱعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا} محمد {ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ} وهذا وعيد لهم، كأنه قال: فاعلموا أنكم قد استحققتم العذاب لتوليكم. ٩٣ قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ} سبب نزولها: أن ناسا من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ماتوا وهم يشربون الخمر، إذ كانت مباحة، فلما حرمت، قال ناس: كيف بأصحابنا وقد ماتوا وهم يشربونها؟ فنزلت هذه الآية، قاله البراء بن عازب. «والجناح»: الإثم. وفيما طعموا ثلاثة أقوال. احدها: ما شربوا من الخمر قبل تحريمها، قاله ابن عباس، والجمهور. قال ابن قتيبة: يقال: لم أطعم خبزا وأدما ولا ماء ولا نوما. قال الشاعر: فان شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولابردا النقاخ: الماء [البارد] الذي ينقخ الفؤاد ببرده، والبرد: النوم. والثاني: ما شربوا من الخمر وأكلوا من الميسر. والثالث: ما طعموا من المباحات. وفي قوله: {إِذَا مَا ٱتَّقَواْ} ثلاثة أقوال. احدها: اتقوا بعد التحريم، قاله ابن عباس. والثاني: اتقوا المعاصي والشرك. والثالث: اتقوا مخالفة اللّه في أمره. وفي قوله: {وَءامَنُواْ} قولان. احدهما: آمنوا باللّه ورسوله. والثاني: آمنوا بتحريمها. {وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ} قال مقاتل: أقاموا على الفرائض. قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّقَواْ} في هذه التقوى المعادة أربعة أقوال. احدها: أن المراد خوف اللّه عز وجل. والثاني: أنها تقوى الخمر والميسر بعد التحريم. والثالث: أنها الدوام على التقوى. والرابع: أن التقوى الأولى مخاطبة لمن شربها قبل التحريم، والثانية لمن شربها بعد التحريم. قوله تعالى: {وَءامَنُواْ} في هذا الإيمان المعاد قولان. احدهما: صدقوا بجميع ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم. والثاني: آمنوا بما يجيء من الناسخ والمنسوخ. قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ} في هذه التقوى الثالثة أربعة أقوال. احدها: اجتنبوا العود إلى الخمر بعد تحريمها، قاله ابن عباس. والثاني: اتقوا ظلم العباد. والثالث: توقوا الشبهات. والرابع: اتقوا جميع المحرمات. وفي الإحسان قولان. احدهما: أحسنوا العمل بترك شربها بعد التحريم، قاله ابن عباس. والثاني: أحسنوا العمل بعد تحريمها، قاله مقاتل. ٩٤ قوله تعالى: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللّه بِشَىْء مّنَ ٱلصَّيْدِ} قال المفسرون: لما كان عام الحديبية، وأقام النبي صلى اللّه عليه وسلم بالتنعيم، كانت الوحوش والطير تغشاهم في رحالهم، وهم محرمون، فنزلت هذه الآية، ونهوا عنها ابتلاء. قال الزجاج: اللام في «ليبلونكم» لام القسم، ومعناه: لنختبرن طاعتكم من معصيتكم. وفي «من» قولان. احدهما: أنها للتبعيض، ثم فيه قولان. احدهما: أنه عنى صيد البر دون صيد البحر. والثاني: أنه عنى الصيد ما داموا في الإحرام كأن ذلك بعض الصيد. والثاني: أنها لبيان الجنس، كقوله: {فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرّجْسَ مِنَ ٱلاْوْثَـٰنِ} [الحج: ٣٠]. قوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَـٰحُكُمْ} قال مجاهد: الذي تناله اليد: الفراخ والبيض، وصغار الصيد، والذي تناله الرماح: كبار الصيد. قوله تعالى: {لِيَعْلَمَ ٱللّه} قال مقاتل: ليرى اللّه من يخافه بالغيب ولم يره، فلا يتناول الصيد وهو محرم {فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ} فأخذ الصيد عمدا بعد النهي للمحرم عن قتل الصيد {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال ابن عباس: يوسع بطنه وظهره جلدا وتسلب ثيابه. ٩٥ قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} بين اللّه عز وجل بهذه الآية من أي وجه تقع البلوى، وفي أي زمان، وما على من قتله بعد النهي؟. وفي قوله «وأنتم حرم» ثلاثة أقوال. احدها: وأنتم محرمون بحج أو عمرة، قاله الأكثرون. والثاني: وأنتم في الحرم، يقال: أحرم: إذا دخل في الحرم، وأنجد: إذا أتى نجدا. والثالث: الجمع بين القولين. قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً} فيه قولان. احدهما: أن يتعمد قتله ذاكرا لإحرامه، قاله ابن عباس، وعطاء. والثاني: أن يتعمد قتله ناسيا لإحرامه، قاله مجاهد. فأما قتله خطأ، ففيه قولان. احدهما: أنه كالعمد، قاله عمر، وعثمان، والجمهور. قال الزهري: نزل القرآن بالعمد، وجرت السنة في الخطأ، يعني: ألحقت المخطىء بالمتعمد في وجوب الجزاء وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «الضبع صيد وفيه كبش إذا قتله المحرم» وهذا عام في العامد والمخطىء. قال القاضي أبو يعلى: أفاد تخصيص العمد بالذكر ما ذكر في أثناء الآية من الوعيد، وإنما يختص ذلك بالعامد. والثاني: أنه لا شيء فيه، قاله ابن عباس، وابن جبير، وطاووس، وعطاء، وسالم، والقاسم، وداود. وعن احمد روايتان: أصحهما الوجوب. قوله تعالى: {فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو وابن عامر: {فَجَزَاء مّثْلُ} مضافة وبخفض «مثل». وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «فجزاء» منون «مثل» مرفوع. قال أبو علي: من أضاف، فقوله: {مِنَ ٱلنَّعَمِ} يكون صفة للجزاء، وإنما قال: مثل ما قتل، وإنما عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، لأنهم يقولون: أنا أكرم مثلك، يريدون: أن أكرمك، فالمعنى: جزاء ما قتل. ومن رفع «المثل»، فالمعنى: فعليه جزاء من النعم مماثل للمقتول، والتقدير: فعليه جزاء. قال ابن قتيبة: النعم: الإبل. وقد يكون البقر والغنم، والأغلب عليها الإبل، وقال الزجاج: النعم في اللغة: الإبل والبقر والغنم، فان انفردت الابل، قيل لها: نعم، وإن انفردت البقر والغنم، لم تسم نعما. فصل قال القاضي أبو يعلى: والصيد الذي يجب الجزاء بقتله: ما كان مأكول اللحم، كالغزال، وحمار الوحش، والنعامة، ونحو ذلك، أو كان متولدا من حيوان يؤكل لحمه، كالسمع، فانه متولد من الضبع، والذئب، وما عدا ذلك من السباع كلها، فلا جزاء على قاتلها، سواء ابتدأ قتلها، أو عدت عليه، فقتلها دفعا عن نفسه، لأن السبع لا مثل له صورة ولا قيمة، فلم يدخل تحت الآية، ولأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أجاز للمحرم قتل الحية، والعقرب، والفويسقة، والغراب، والحدأة، والكلب العقور، والسبع العادي. قال: والواجب بقتل الصيد فيما له مثل من الأنعام مثله، وفيما لا مثل له قيمته، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: الواجب فيه القيمة، وحمل المثل على القيمة، وظاهر الآية يرد ما قال، ولأن الصحابة حملوا الآية على المثل من طريق الصورة، فقال ابن عباس: المثل: النظير، ففي الظبية شاة، وفي النعامة بعير. قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} يعني بالجزاء، وإنما ذكر اثنين، لأن الصيد يختلف في نفسه، فافتقر الحكم بالمثل إلى عدلين. قوله تعالى: {مّنكُمْ} يعني: من أهل ملتكم. قوله تعالى: {هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ} قال الزجاج: هو منصوب على الحال، والمعنى: يحكمان به مقدرا أن يهدى. ولفظ قوله «بالغ الكعبة» لفظ معرفة، ومعناه: النكرة. والمعنى: بالغا الكعبة، إلا أن التنوين حذف استخفافا. قال ابن عباس: إذا أتى مكة ذبحه، وتصدق به. قوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ} قرأ ابن كثير، وعاصم، وابو عمرو، وحمزة، والكسائي: {أَوْ كَفَّارَةٌ} منونا {طَعَامُ} رفعا. وقرأ نافع، وابن عامر: {أَوْ كَفَّارَةٌ} رفعا غير منون {طعام المساكين} على الاضافة. قال أبو علي: من رفع ولم يضف، جعله عطفا على الكفارة عطف بيان، لأن الطعام هو الكفارة، ولم يضف الكفارة إلى الطعام، لأن الكفارة لقتل الصيد، لا للطعام، ومن أضاف الكفارة إلى الطعام، فلأنه لما خير المكفر بين الهدي، والطعام، والصيام، جازت الإضافة لذلك، فكأنه قال: كفارة طعام، لا كفارة هدي، ولا صيام. والمعنى: أو عليه بدل الجزاء والكفارة، وهي طعام مساكين. وهل يعتبر في إخراج الطعام قيمة النظير، أو قيمة الصيد؟ فيه قولان. احدهما: قيمة النظير، وبه قال عطاء، والشافعي، وأحمد. والثاني: قيمة الصيد، وبه قال قتادة، وأبو حنيفة، ومالك. وفي قدر الإطعام لكل مسكين قولان. احدهما: مدان من بر، وبه قال ابن عباس، وأبو حنيفة. والثاني: مد بر، وبه قال الشافعي، وعن احمد روايتان، كالقولين. قوله تعالى: {أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً} قرأ أبو رزين، والضحاك، وقتادة، والجحدري، وطلحة: {أَو عَدْلُ ذٰلِكَ}، بكسر العين. وقد شرحنا هذا المعنى في {البقرة} قال أصحابنا: يصوم عن كل مد بر، أو نصف صاع تمر، أو شعير يوما. وقال أبو حنيفة: يصوم يوما عن نصف صاع في الجميع. وقال مالك، والشافعي: يصوم يوما عن كل مد من الجميع. فصل وهل هذا الجزاء على الترتيب، أم على التخيير؟ فيه قولان. احدهما: أنه على التخيير بين إخراج النظير وبين الصيام وبين الإطعام. والثاني: أنه على الترتيب، إن لم يجد الهدي، اشترى طعاما، فان كان معسرا صام، قاله ابن سيرين. والقولان مرويان عن ابن عباس، وبالأول قال جمهور الفقهاء. قوله تعالى: {لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} أي: جزاء ذنبه. قال الزجاج: «الوبال». ثقل الشيء في المكروه، ومنه قولهم: طعام وبيل، وماء وبيل: إذا كانا ثقيلين. قال اللّه عز وجل: {فَأَخَذْنَـٰهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [المزمل: ١٦] أي: ثقيلا شديدا. قوله تعالى: {عَفَا ٱللّه عَمَّا سَلَف} فيه قولان. احدهما: ما سلف في الجاهلية، من قتلهم الصيد، وهم محرمون، قاله عطاء. والثاني: ما سلف من قتل الصيد في أول مرة، حكاه ابن جرير، والأول أصح. فعلى القول الأول يكون معنى قوله: {وَمَنْ عَادَ} في الإسلام، وعلى الثاني: {وَمَنْ عَادَ} ثانية بعد أولى. قال أبو عبيدة: «عاد» في موضع يعود، وأنشد: إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا قوله تعالى: {فَيَنْتَقِمُ ٱللّه مِنْهُ} «الانتقام»: المبالغة في العقوبة، وهذا الوعيد بالانتقام لا يمنع إيجاب جزاء ثان إذا عاد، وهذا قول الجمهور، وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد. وقد روي عن ابن عباس، والنخعي، وداود: أنه لا جزاء عليه في الثاني، إنما وعد بالانتقام. ٩٦ قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ} قال احمد: يؤكل كل ما في البحر إلا الضفدع والتمساح، لأن التمساح يأكل الناس يعني: أنه يفرس. وقال أبو حنيفة، والثوري: لا يباح منه إلا السمك. وقال ابن أبي ليلى، ومالك: يباح كل ما فيه من ضفدع وغيره. فأما طعامه، ففيه ثلاثة أقوال. احدها: ما نبذه البحر ميتا، قاله أبو بكر، وعمر، وابن عمر، وأبو أيوب، وقتادة. والثاني: أنه مليحه، قاله سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والسدي، وعن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة كالقولين. واختلفت الرواية عن النخعي، فروي عنه كالقولين، وروي عنه أنه جمع بينهما، فقال: طعامه المليح وما لفظه. والثالث: أنه ما نبت بمائة من زروع البر، وإنما قيل لهذا: طعام البحر، لأنه ينبت بمائه، حكاه الزجاج. وفي المتاع قولان. احدهما: أنه المنفعة، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة. والثاني: أنه الحل، قاله النخعي. قال مقاتل: متاعا لكم، يعني: المقيمين، وللسيارة، يعني: المسافرين. قوله تعالى: {وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} أما الاصطياد، فمحرم على المحرم، فان صيد لأجله، حرم عليه أكله خلافا لأبي حنيفة، فان أكل فعليه الضمان خلافا لأحد قولي الشافعي. فان ذبح المحرم صيدا، فهو ميتة خلافا لأحد قولي الشافعي أيضا. فان ذبح الحلال. صيدا في الحرم، فهو ميتة أيضا، خلافا لأكثر الحنفية. ٩٧ انظر تفسير الآية: ٩٨ ٩٨ قوله تعالى: {جَعَلَ ٱللّه ٱلْكَعْبَةَ} جعل بمعنى: صير. وفي تسمية الكعبة كعبة قولان. احدهما: لأنها مربعة، قاله عكرمة، ومجاهد. والثاني لعلوها ونتوئها، يقال: كعبت المرأة كعابة، وهي كاعب: إذا نتأ ثديها. ومعنى تسمية البيت بأنه حرام: أنه حرم أن يصاد عنده، وأن يختلى ما عنده من الخلا، وأن يعضد شجره، وعظمت حرمته. والمراد بتحريم البيت سائر الحرم، كما قال: {هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ} وأراد: الحرم. والقيام: بمعنى القوام. وقرأ ابن عامر: قيما بغير ألف. قال أبو علي: وجهه على أحد أمرين، إما أن يكون جعله مصدرا، كالشبع، أو حذف الألف وهو يريدها، كما يقصر الممدود. وفي معنى الكلام ستة أقوال. احدها: قياما للدين، ومعالم للحج، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: قياما لأمر من توجه إليها، رواه العوفي عن ابن عباس. قال قتادة: كان الرجل لو جر كل جريرة، ثم لجأ إليها، لم يتناول، [ولم يقرب. وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام، لم يعرض له ولم يقربه، وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر، فأحمته ومنعته من الناس، وكان إذا نفر تقلد قلادة من الاذخر أو من لحاء السمر فمنعته من الناس حتى يأتي أهله. حواجز ألقاها اللّه بين الناس في الجاهلية]. والثالث: قياما لبقاء الدين، فلا يزال في الأرض دين ما حجت واستقبلت، قاله الحسن. والرابع: قوام دنيا وقوام دين، قاله أبو عبيدة. والخامس: قياما للناس، أي: مما أمروا أن يقوموا بالفرض فيه، ذكره الزجاج. والسادس: قياما لمعايشهم ومكاسبهم بما يحصل لهم من التجارة عندها، ذكره بعض المفسرين. فأما الشهر الحرام، فالمراد به الأشهر الحرم، كانوا يأمن بعضهم بعضا فيها، فكان ذلك قواما لهم، وكذلك إذا أهدى الرجل هديا أو قلد بعيره أمن كيف تصرف، فجعل اللّه تعالى هذه الأشياء عصمة للناس بما جعل في صدورهم من تعظيمها. قوله تعالى: {ذٰلِكَ لِتَعْلَمُواْ} ذكر ابن الأنباري في المشار إليه بذلك أربعة أقوال. احدها: أن اللّه تعالى أخبر في هذه السورة بغيوب كثيرة من أخبار الأنبياء وغيرهم، وأطلع على أشياء من أحوال اليهود والمنافقين، فقال: ذلك لتعلموا، أي: ذلك الغيب الذي أنبأتكم به عن اللّه يدلكم على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض، ولا تخفى عليه خافية. والثاني: أن العرب كانت تسفك الدماء بغير حلها، وتأخذ الأموال بغير حقها، ويقتل أحدهم غير القاتل، فاذا دخلوا البلد الحرام، أو دخل الشهر الحرام، كفوا عن القتل. والمعنى: جعل اللّه الكعبة أمنا، والشهر الحرام أمنا، إذ لو لم يجعل للجاهلية وقتا يزول فيه الخوف لهلكوا، فذلك يدل على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض. والثالث: أن اللّه تعالى صرف قلوب الخلق إلى مكة في الشهور المعلومة، فاذا وصلوا إليها عاش أهلها معهم، ولولا ذلك ماتوا جوعا، لعلمه بما في ذلك من صلاحهم، وليستدلوا بذلك على أنه يعلم ما في السموات وما في الأرض. والرابع: أن اللّه تعالى جعل مكة أمنا، وكذلك الشهر الحرام، فاذا دخل الظبي الوحشي الحرم، أنس بالناس، ولم ينفر من الكلب، ولم يطلبه الكلب، فاذا خرجا عن حدود الحرم، طلبه الكلب، وذعر هو منه، والطائر يأنس بالناس في الحرم، ولا يزال يطير حتى يقرب من البيت، فاذا قرب منه عدل عنه، ولم يطر فوقه إجلالا له، فاذا لحقه وجع طرح نفسه على سقف البيت استشفاء به، فهذه الأعاجيب في ذلك المكان، وفي ذلك الشهر قد دللن على أن اللّه تعالى يعلم ما في السموات وما في الأرض. ٩٩ قوله تعالى: {مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلَـٰغُ} في هذه الآية تهديد شديد. وزعم مقاتل أنها نزلت والتي بعدها، في أمر شريح بن ضبيعة وأصحابه، وهم حجاج اليمامة حين هم المسلمون بالغارة عليهم، وقد سبق ذكر ذلك في أول السورة. وهل هذه الآية محكمة، أم لا؟ فيه قولان. احدهما: أنها محكمة، وأنها تدل على أن الواجب على الرسول التبليغ، وليس عليه الهدى. والثاني: أنها كانت قبل الأمر بالقتال، ثم نسخت بآية السيف. ١٠٠ قوله تعالى: {لاَّ يَسْتَوِى ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيّبُ} روى جابر بن عبد اللّه أن رجلا قال: يا رسول اللّه إن الخمر كانت تجارتي، فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة اللّه؟ فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: «إن اللّه لا يقبل إلا الطيب» فنزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وفي الخبيث والطيب أربعة أقوال. احدها: الحلال والحرام، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: المؤمن والكافر، قاله السدي. والثالث: المطيع والعاصي. والرابع: الرديء والجيد، ذكرهما الماوردي. ومعنى الاعجاب هاهنا: السرور بما يتعجب منه. ١٠١ قوله تعالى: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} في سبب نزولها ستة أقوال. احدها: أن الناس سألوا النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فقام مغضبا خطيبا، فقال: «سلوني فواللّه لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا بينته لكم» فقام رجل من قريش، يقال له: عبد اللّه بن حذافة كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه، فقال: يا نبي اللّه من أبي؟ قال أبوك حذافة، فقام آخر، فقال: أين أبي؟ قال. في النار، فقام عمر فقال: رضينا باللّه ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبالقرآن إماما، إنا حديثو عهد بجاهلية. واللّه أعلم من أباؤنا، فسكن غضبه، ونزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن أبي هريرة، وقتادة عن أنس. والثاني: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطب الناس، فقال: «إن اللّه كتب عليكم الحج فقام عكاشة بن محصن، فقال: أفي كل عام يا رسول اللّه؟ فقال: أما إني لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم، اسكتوا عني ما سكت عنكم، فانما هلك من هلك ممن كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فنزلت هذه الآية» رواه محمد بن زياد عن أبي هريرة. وقيل: إن السائل عن ذلك الأفرع بن حابس. والثالث: أن قوما كانوا يسألون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استهزاء، فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فنزلت هذه الآية، رواه أبو الجورية عن ابن عباس. والرابع: أن قوما سألوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، فنزلت هذه الآية، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير. والخامس: أن قوما كانوا يسألون الآيات والمعجزات، فنزلت هذه الآية، روي هذا المعنى عن عكرمة. والسادس: أنها نزلت في تمنيهم الفرائض، وقولهم: وددنا أن اللّه تعالى أذن لنا في قتال المشركين، وسؤالهم عن أحب الأعمال إلى اللّه، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قال الزجاج: «أشياء» في موضع خفض إلا أنها فتحت، لأنها لا تنصرف. و«تبد لكم»: تظهر لكم. فأعلم اللّه تعالى أن السؤال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع، لأنه يسوء الجواب عنه. وقال ابن عباس: إن تبد لكم، أي: إن نزل القرآن فيها بغليظ، ساءكم ذلك. قوله تعالى: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْءانُ} أي: حين ينزل القرآن فيها بفرض أو إيجاب، أو نهي أو حكم، وليس في ظاهر ما نزل دليل على شرح ما بكم إليه حاجة، فاذا سألتم حينئذ عنها تبد لكم. وفي قوله: {عَفَا ٱللّه عَنْهَا} قولان. احدهما: أنه إشارة إلى الأشياء. والثاني: إلى المسألة. فعلى القول الأول في الآية تقديم وتأخير. والمعنى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، عفا اللّه عنها. ويكون معنى: عفا اللّه عنها: أمسك عن ذكرها، فلم يوجب فيها حكما. وعلى القول الثاني، الآية على نظمها، ومعنى: عفا اللّه عنها: لم يؤاخذ بها. ١٠٢ قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مّن قَبْلِكُمْ} في هؤلاء القوم أربعة أقوال. احدها: أنهم الذين سألوا عيسى نزول المائدة، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: أنهم قوم صالح حين سألوا الناقة، هذا على قول السدي. وهذان القولان يخرجان على أنهما سألوا الآيات. والثالث: أن القوم هم الذين سألوا في شأن البقرة وذبحها، فلو ذبحوا بقرة لأجزأت، ولكنهم شددوا فشدد اللّه عليهم، قاله ابن زيد. وهذا يخرج على سؤال من سأل عن الحج، إذ لو أراد اللّه أن يشدد عليهم بالزيادة في الفرض لشدد. والرابع: أنهم الذين قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه، وهذا عن ابن زيد أيضا، وهو يخرج على من قال: إنما سألوا عن الجهاد والفرائض تمنيا لذلك. قال مقاتل: كان بنو إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء، فاذا أخبروهم بها تركوا قولهم ولم يصدقوهم، فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين. ١٠٣ قوله تعالى: {مَا جَعَلَ ٱللّه مِن بَحِيرَةٍ} أي: ما أوجب ذلك، ولا أمر به. وفي «البحيرة» أربعة أقوال. احدها: أنها الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس، فان كان ذكرا نحروه، فأكله الرجال والنساء، وإن كان أنثى شقوا أذنها، وكانت حراما على النساء لا ينتفعن بها، ولا يذقن من لبنها، ومنافعها للرجال خاصة، فاذا ماتت، إشترك فيها الرجال والنساء، قاله ابن عباس، واختاره ابن قتيبة. والثاني: أنها الناقة تلد خمس إناث ليس فيهن ذكر، فيعمدون إلى الخامسة، فيبتكون أذنها، قاله عطاء. والثالث: أنها ابنة السائبة، قاله إبن إسحاق، والفراء. قال ابن إسحاق: كانت الناقة إذا تابعت بين عشر إناث، ليس فيهن ذكر، سيبت، فاذا نتجت بعد ذلك أنثى، شقت أذنها، وسميت بحيرة، وخليت مع أمها. والرابع: أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن، وكان آخرها ذكرا بحروا أذنها، أي: شقوها، وامتنعوا من ركوبها وذبحها، ولا تطرد عن ماء، ولا تمنع عن مرعى، وإذا لقيها لم يركبها، قاله الزجاج. فأما «السائبة» فهي فاعلة بمعنى: مفعولة، وهي المسيبة، كقوله: {فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ}: أي مرضية. وفي السائبة خمسة أقوال. احدها: أنها التي تسيب من الأنعام للآلهة، لا يركبون لها ظهرا، ولا يحلبون لها لبنا، ولا يجزون منها وبرا، ولا يحملون عليها شيئا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أن الرجل كان يسيب من ماله ما شاء، فيأتي به خزنة الآلهة، فيطعمون ابن السبيل من ألبانه ولحومه إلا النساء، فلا يطعمونهن شيئا منه إلا أن يموت، فيشترك فيه الرجال والنساء، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال الشعبي: كانوا يهدون لآلهتهم الإبل والغنم، ويتركونها عند الآلهة، فلا يشرب منها إلا رجل، فان مات منها شيء أكله الرجال والنساء. والثالث: أنها الناقة إذا ولدت عشرة أبطن، كلهن إناث، سيبت، فلم تركب، ولم يجز لها وبر، ولم يشرب لبنها إلا ضيف أو ولدها حتى تموت، فاذا ماتت أكلها الرجال والنساء، ذكره الفراء. والرابع: أنها البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه اللّه تعالى من مرض، أو بلغه منزله أن يفعل ذلك، قاله ابن قتيبة. قال الزجاج: كان الرجل إذا نذر لشيء من هذا، قال: ناقتي سائبة، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها ولا تمنع من ماء ومرعى. والخامس: أنه البعير يحج عليه الحجة، فيسيب، ولا يستعمل شكرا لنجحها، حكاه الماوردي عن الشافعي. وفي «الوصيلة» خمسة أقوال. احدها: أنها الشاة كانت إذا نتجت سبعة أبطن، نظروا إلى السابع، فان كان أنثى، لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت، فيأكلها الرجال والنساء، وإن كان ذكرا، ذبحوه، فأكلوه جميعا، وإن كان ذكران وأنثى، قالوا: وصلت أخاها، فتترك مع أخيها فلا تذبح، ومنافعها للرجال دون النساء، فاذا ماتت، اشترك فيها الرجال والنساء، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وذهب إلى نحوه ابن قتيبة، فقال: إن كان السابع ذكرا، ذبح فأكل منه الرجال والنساء، وإن كان أنثى، تركت في النعم، وإن كان ذكرا وأنثى، قالوا: وصلت أخاها، فلم تذبح، لمكانها، وكانت لحومها حراما على النساء، ولبن الأنثى حراما على النساء إلا أن يموت منها شيء فيأكله الرجال والنساء. والثاني: أنها الناقة البكر تبتكر في أول نتاج الإبل بالأنثى، ثم تثني بالأنثى، فكانوا يستبقونها لطواغيتهم، ويدعونها الوصيلة، أي: وصلت إحداهما بالأخرى، ليس بينهما ذكر، رواه الزهري عن ابن المسيب. والثالث: أنها الشاة تنتج عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن، فيدعونها الوصيلة، وما ولدت بعد ذلك فللذكور دون الإناث، قاله ابن إسحاق. والرابع: أنها الشاة تنتج سبعة أبطن، عناقين عناقين، فاذا ولدت في سابعها عناقا وجديا، قيل: وصلت أخاها، فجرت مجرى السائبة، قاله الفراء. والخامس: أن الشاة كانت إذا ولدت أنثى، فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم فان ولدت ذكرا وأنثى، قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، قاله الزجاج. وفي «الحام» ستة أقوال. احدها: أنه الفحل، ينتج من صلبه عشرة أبطن، فيقولون: قد حمى ظهره، فيسيبونه لأصنامهم، ولا يحمل عليه، قاله ابن مسعود، وابن عباس، واختاره أبو عبيدة، والزجاج. والثاني: أنه الفحل يولد لولده، فيقولون: قد حمى هذا ظهره، فلا يحملون عليه، ولا يجزون وبره، ولا يمنعونه ماء، ولا مرعى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، واختاره الفراء، وابن قتيبة. والثالث: أنه الفحل يظهر من أولاده عشر إناث من بناته، وبنات بناته، قاله عطاء. والرابع: أنه الذي ينتج له سبع إناث متواليات، قاله ابن زيد. والخامس: أنه الذي لصلبه عشرة كلها تضرب في الإبل، قاله أبو روق. والسادس: أنه الفحل يضرب في إبل الرجل عشر سنين، فيخلى، ويقال: قد حمى ظهره، ذكره الماوردي عن الشافعي. قال الزجاج: والذي ذكرناه في البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام أثبت ما روينا عن أهل اللغة. وقد أعلم اللّه عز وجل في هذه الآية أنه لم يحرم من هذه الأشياء شيئا، وان الذين كفروا افتروا على اللّه عز وجل. قال مقاتل: وافتراؤهم: قولهم: إن اللّه حرمه، وأمرنا به. وفي قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} قولان. احدهما: وأكثرهم، يعني: الأتباع لا يعقلون أن ذلك كذب على اللّه من الرؤساء الذين حرموا، قاله الشعبي. والثاني: لا يعقلون أن هذا التحريم من الشيطان، قاله قتادة. ١٠٤ قوله تعالى: {وَإِذَا قيل لَهُمْ} يعني: إذا قيل لهؤلاء المشركين الذين حرموا على أنفسهم هذه الأنعام: تعالوا إلى ما أنزل اللّه في القرآن من تحليل ما حرمتهم على أنفسكم، قالوا: {حَسْبُنَا} أي: يكفينا{مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} من الدين والمنهاج {أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً} من الدين {وَلاَ يَهْتَدُونَ} له، أيتبعونهم في خطئهم. ١٠٥ قوله تعالى: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} في سبب نزولها قولان. احدهما: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كتب إلى هجر، وعليهم المنذر بن ساوي يدعوهم إلى الاسلام، فان أبوا فليؤدوا الجزية، فلما أتاه الكتاب، عرضه على من عنده من العرب واليهود والنصارى والمجوس، فأقروا بالجزية، وكرهوا الاسلام، فكتب إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «أما العرب فلا تقبل منهم إلا الاسلام أو السيف، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية» فلما قرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أسلمت العرب، وأعطى أهل الكتاب والمجوس الجزية، فقال منافقوا مكة: عجبا لمحمد يزعم أن اللّه بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا، وقد قبل من مجوس هجر، وأهل الكتاب الجزية، فهلا أكرههم على الاسلام، وقد ردها على إخواننا من العرب، فشق ذلك على المسلمين، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب فلما أسلمت العرب طوعا وكرها، قبلها من مجوس هجر، فطعن المنافقون في ذلك، فنزلت هذه الآية. والثاني: أن الرجل كان إذا أسلم، قالوا له سفهت آباءك وضللتهم، وكان ينبغي لك أن تنصرهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد. قال الزجاج: ومعنى الآية: إنما ألزمكم اللّه أمر أنفسكم، ولا يؤاخذكم بذنوب غيركم، وهذه الآية لا توجب ترك الأمر بالمعروف، لأن المؤمن إذا تركه وهو مستطيع له، فهو ضال وليس بمهتد. وقال عثمان بن عفان: لم يأت تأويلها بعد. وقال ابن مسعود: تأويلها في آخر الزمان: قولوا ما قبل منكم، فاذا غلبتم، فعليكم أنفسكم. وفي وقوله: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ} قولان. احدهما: لا يضركم من ضل بترك الأمر بالمعروف إذا اهتديتم أنتم للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قاله حذيفة بن اليمان، وابن المسيب. والثاني: لا يضركم من ضل من أهل الكتاب إذا أدوا الجزية، قاله مجاهد. وفي قوله: {فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تنبيه على الجزاء. فصل فعلى ما ذكرنا عن الزجاج في معنى الآية، هي محكمة، وقد ذهب قوم من المفسرين إلى أنها منسوخة، ولهم في ناسخها قولان. احدهما: أنه آية السيف. والثاني: أن آخرها نسخ أولها. روي عن أبي عبيد أنه قال: ليس في القرآن آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه، وموضع المنسوخ منها إلى قوله: {لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ} والناسخ: قوله: إذا اهتديتم. والهدى هاهنا: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ١٠٦ قوله تعالى: {يِـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ شَهَـٰدَةُ بَيْنِكُمْ} روى سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال: كان تميم الداري، وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة، فصحبهما رجل من قريش من بني سهم، فمات بأرض ليس فيها أحد من المسلمين، فأوصى إليهما بتركته، فلما قدما، دفعاها إلى أهله، وكتما جاما كان معه من فضة، وكان مخوصا بالذهب، فقالا: لم نره، فأتي بهما إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فاستحلفهما باللّه: ما كتما، وخلى سبيلهما. ثم إن الجام وجد عند قوم من أهل مكة، فقالوا: ابتعناه من تميم الداري، وعدي بن بداء، فقام أولياء السهمي، فأخذوا الجام، وحلف رجلان منهم باللّه: إن هذا الجام جام صاحبنا، وشهادتنا أحق من شهادتهما، وما اعتدينا، فنزلت هذه الآية، والتى بعدها. قال مقاتل: واسم الميت: بزيل بن أبي مارية مولى العاص بن وائل السهمي، وكان تميم، وعدي نصرانيين، فأسلم تميم، ومات عدي نصرانيا. فأما التفسير، فقال الفراء: معنى الآية: ليشهدكم اثنان إذا حضر أحدكم الموت. قال الزجاج: المعنى: شهادة هذه الحال شهادة اثنين، فحذف «شهادة» ويقوم «اثنان» مقامهما. وقال ابن الأنباري: معنى الآية: ليشهدكم في سفركم إذا حضركم الموت، وأردتم الوصية اثنان. وفي هذه الشهادة ثلاثة أقوال. احدها: أنها الشهادة على الوصية التي ثبتت عند الحكام، وهو قول ابن مسعود، وأبي موسى، وشريح، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، والثوري، والجمهور. والثاني: أنها أيمان الوصي باللّه تعالى إذا ارتاب الورثة بهما، وهو قول مجاهد. والثالث: أنها شهادة الوصية، أي حضورها، كقوله: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ} [البقرة: ١٣٣] جعل اللّه الوصي هاهنا اثنين تأكيدا، واستدل أرباب هذا القول بقوله: {فَيُقْسِمَانِ بِٱللّه} قالوا: والشاهد لا يلزمه يمين. فأما «حضور الموت» فهو حضور أسبابه ومقدماته. وقوله: {حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ} أي: وقت الوصية. وفي قوله: «منكم» قولان. احدهما: من أهل دينكم وملتكم، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد ابن المسيب، وسعيد بن جبير، وشريح، وابن سيرين، والشعبي، وهو قول أصحابنا. والثاني: من عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضا، قاله الحسن، وعكرمة، والزهري، والسدي. قوله تعالى: {أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} تقديره: أو شهادة آخرين من غيركم. وفي قوله: «من غيركم» قولان. احدهما: من غير ملتكم ودينكم، قاله أرباب القول الأول. والثاني: من غير عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضا، قاله أرباب القول الثاني، وفي «أو» قولان. احدهما: أنها ليست للتخيير، وإنما المعنى: أو آخران من غيركم إن لم تجدوا منكم، وبه قال ابن عباس، وابن جبير، والثاني: أنها للتخيير، ذكره الماوردي. فصل فالقائل بأن المراد بالآية شهادة مسلمين من القبيلة، أو من غير القبيلة لا يشك في إحكام هذه الآية. فأما القائل بأن المراد بقوله: «أو آخران من غيركم» أهل الكتاب إذا شهدوا على الوصية في السفر، فلهم فيها قولان. احدهما: أنها محكمة، والعمل على هذا باق، وهو قول ابن عباس، وابن المسيب، وابن جبير. وابن سيرين، وقتادة، والشعبي، والثوري، وأحمد في آخرين. والثاني: أنها منسوخة بقوله: {وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ} وهو قول زيد بن أسلم، وإليه يميل أبوحنيفة، ومالك، والشافعي، قالوا: وأهل الكفر ليسوا بعدول، والأول أصح، لأن هذا موضع ضرورة كما يجوز في بعض الأماكن شهادة نساء لا رجل معهن بالحيض والنفاس والاستهلال. قوله تعالى: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاْرْضِ} هذا الشرط متعلق بالشهادة، والمعنى: ليشهدكم اثنان إن أنتم ضربتم في الأرض، أي: سافرتم. {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ} فيه محذوف، تقديره: وقد أسندتم الوصية إليهما، ودفعتم إليهما مالكم {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلوٰةِ} خطاب للورثة إذا ارتابوا. وقال ابن عباس: هذا من صلة قوله: «أو آخران من غيركم» أي: من الكفار. فأما إذا كانا مسلمين، فلا يمين عليهما. وفي هذه الصلاة قولان. احدهما: صلاة العصر، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وبه قال شريح، وابن جبير، وإبراهيم، وقتادة، والشعبي. والثاني: من بعد صلاتهما في دينهما، حكاه السدي عن ابن عباس، وقال به. وقال الزجاج: كان الناس بالحجاز يحلفون بعد صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس، وقال ابن قتيبة: لأنه وقت يعظمه أهل الأديان. قوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِٱللّه} أي: فيحلفان {إِنِ ٱرْتَبْتُمْ} أي: شككتم يا أولياء الميت. ومعنى الآية: إذا قدم الموصى إليهما بتركة المتوفي، فاتهمهما الوارث، استحلفا بعد صلاة العصر: أنهما لم يسرقا، ولم يخونا. فالشرط في قوله: «إن ارتبتم» متعلق بتحبسونهما، كأنه قال إن إرتبتم حبستموهما فاستحلفتموهما، فيحلفان باللّه: {لاَ نَشْتَرِى بِهِ} أي: بأيماننا، وقيل: بتحريف شهادتنا، فالهاء عائدة على المعنى. {ثَمَناً} أي: عرضا من الدنيا {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ} أي: ولو كان المشهود له ذا قرابة منا، وخص ذا القرابة، لميل القريب إلى قريبه. والمعنى: لا نحابي في شهادتنا أحدا، ولا نميل مع ذي القربى في قول الزور {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَـٰدَةَ ٱللّه} إنما أضيفت إليه، لأمره باقامتها، ونهيه عن كتمانها. وقرأ سعيد بن جبير: «ولا نكتم شهادة» بالتنوين «اللّه» بقطع الهمزة وقصرها، وكسر الهاء، ساكنة النون في الوصل. وقرأ سعيد بن المسيب، وعكرمة «شهادة» بالتنوين والوصل منصوبة الهاء. وقرأ أبو عمران الجوني «شهادة» بالتنوين وإسكانها في الوصل «اللّه» بقطع الهمزة وقصرها مفتوحة الهاء. وقرأ الشعبي، وابن السميفع «شهادة» بالتنوين وإسكانها في الوصل «اللّه» بقطع الهمزة، ومدها، وكسر الهاء. وقرأ أبوالعالية، وعمرو بن دينار مثله، إلا أنهما نصبا الهاء. واختلف العلماء لأي معنى وجبت اليمين على هذين الشاهدين، على ثلاثة أقوال. احدها: لكونهما من غير أهل الإسلام، روي هذا المعنى عن أبي موسى الأشعري. والثاني: لوصية وقعت بخط الميت وفقد ورثته بعض ما فيها، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: لأن الورثة كانوا يقولون: كان مال ميتنا أكثر، فاستخانوا الشاهدين، قاله الحسن، ومجاهد. ١٠٧ قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّا إِثْماً} قال المفسرون: لما نزلت الآية الأولى، دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عديا وتميما، فاستحلفهما عند المنبر: أنهما لم يخونا شيئا مما دفع إليهما، فحلفا، وخلى سبيلهما، ثم ظهر الإناء الذي كتماه، فرفعهما أولياء الميت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت {فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّا إِثْماً} ومعنى «عثر»: اطلع أي: إن عثر أهل الميت، أو من يلي أمره، على أن الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا {ٱسْتَحَقَّا إِثْماً} لميلهما عن الاستقامة في شهادتهما {فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا} أي: مقام هذين الخائنين {مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلاْوْلَيَانِ}. قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عامر، والكسائي: «استحق» بضم التاء، «الأوليان» على التثنية. وفي قوله {مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} قولان. احدهما: أنهما الذميان. والثاني: الوليان فعلى الأول في معنى {ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} أربعة أقوال. احدها: استحق عليهم الإيصاء، قال ابن الأنباري: المعنى: من القوم الذين استحق فيهم الإيصاء، استحقه الأوليان بالميت، وكذلك قال الزجاج: المعنى: من الذين استحقت الوصية أو الإيصاء عليهم. والثاني: أنه الظلم، والمعنى: من الذين استحق عليهم ظلم الأوليان، فحذف الظلم، وأقام الأوليين مقامه، ذكره ابن القاسم أيضا. والثالث: أنه الخروج مما قاما به من الشهادة، لظهور خيانتهما. والرابع: أنه الاثم، والمعنى: استحق منهم الاثم، ونابت «على» عن «من» كقوله: {عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: ٢] أي: منهم. وقال الفراء: «على» بمعنى «في» كقوله: {عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ} [البقرة: ١٠٢] أي: في ملكه، ذكر القولين أبو علي الفارسي. وعلى هذه الأقوال مفعول «استحق» محذوف مقدر. وعلى القول الثاني في معنى {ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} قولان. احدهما: استحق منهم الأوليان، وهو اختيار ابن قتيبة. والثاني: جني عليهم الاثم، ذكره الزجاج. فأما «الأوليان» فقال الأخفش: الأوليان: اثنان، واحدهما: الأولى، والجمع: الأولون. ثم للمفسرين فيهما قولان. احدهما: أنهما أولياء الميت، قاله الجمهور. قال الزجاج: «الأوليان» في قول أكثر البصريين يرتفعان على البدل مما في «يقومان» والمعنى: فليقم الأوليان بالميت مقام هذين الخائنين. وقال أبو علي: لا يخلو الأوليان أن يكون ارتفاعهما على الابتداء، أو يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: فآخران يقومان مقامهما، هما الأوليان، أو يكون بدلا من الضمير الذي في «يقومان». والتقدير: فيقوم الأوليان. والقول الثاني: أن الأوليان: هما الذميان، والمعنى: أنهما الأوليان بالخيانة، فعلى هذا يكون المعنى: يقومان، إلا من الذين استحق عليهم. قال الشاعر: فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان أي: بدلا من ماء زمزم. وروى قرة عن ابن كثير، وحفص وعاصم: «استحق» بفتح التاء والحاء «الأوليان» على التثنية، والمعنى: استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها، فحذف المفعول. وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: «استحق» برفع التاء، وكسر الحاء، «الأولين» بكسر اللام، وفتح النون على الجمع، والتقدير: من الأولين الذين استحق فيهم الإثم، أي: جني عليهم، لأنهم كانوا أولين في الذكر. ألا ترى أنه قد تقدم {ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} على قوله: {أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}. وروى الحلبي عن عبد الوارث «الأولين» بفتح الواو وتشديدها، وفتح اللام، وسكون الياء، وكسر النون، وهي تثنية: أول. وقرأ الحسن البصري: «استحق» بفتح التاء والحاء، «الأولون» تثنية «أول» على البدل من قوله: «فآخران» وقال ابن قتيبة: أشبه الأقوال بالآية أن اللّه تعالى أراد أن يعرفنا كيف يشهد بالوصية عند حضور الموت، فقال: {ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} أي: عدلان من المسلمين [تشهدونهما على الوصية]، وعلم أن من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين، وينزل القرية التي لا يسكنها غيرهم، ويحضره الموت، فلا يجد من يشهده من المسلمين، فقال: {أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: من غير أهل دينكم، {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاْرْضِ} أي: سافرتم {فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ} وتم الكلام.فالعدلان من المسلمين للحضر والسفر خاصة إن أمكن إشهادهما في السفر والذميان في السفر خاصة إذا لم يوجد غيرهما ثم قال {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلوٰةِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللّه إِنِ ٱرْتَبْتُمْ} أراد: تحبسونهما من بعد صلاة العصر إن ارتبتم في شهادتهما، وخشيتم أن يكونا قد خانا، أو بدلا، فاذا حلفا، مضت شهادتهما. فان عثر بعد هذه اليمين أي: ظهر على أنهما استحقا إثما، أي: حنثا في اليمين بكذب في قول أو خيانة في وديعة، فآخران، أي: قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت الذين استحق منهم الأوليان، وهما الوليان، يقال: هذا الأولى بفلان، ثم يحذف من الكلام «بفلان»، فيقال: هذا الأولى، وهذان الأوليان، «وعليهم» بمعنى: «منهم». فيحلفان باللّه: لقد ظهرنا على خيانة الذميين، وكذبهما، وما اعتدينا عليهما، ولشهادتنا أصح، لكفرهما وإيماننا، فيرجع على الذميين بما اختانا، وينقض ما مضى من الحكم بشهادتهما تلك. وقال غيره: لشهادتنا، أي: ليميننا أحق، وسميت اليمين شهادة، لأنها كالشهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك. قال المفسرون: فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص، والمطلب بن أبي وداعة السهميان، فحلفا باللّه، ودفع الإناء إليهما وإلى أولياء الميت. ١٠٨ قوله تعالى: {ذٰلِكَ أَدْنَىٰ} أي: ذلك الذي حكمنا به من رد اليمين، أقرب إلى إتيان أهل الذمة بالشهادة على وجهها، أي: على ما كانت، وأقرب أن يخافوا أن ترد أيمان أولياء الميت بعد أيمانهم، فيحلفون على خيانتهم، فيفتضحوا، ويغرموا، فلا يحلفون كاذبين إذا خافوا ذلك. {وَٱتَّقُواْ ٱللّه} أن تحلفوا كاذبين، أو تخونوا أمانة، واسمعوا الموعظة. ١٠٩ قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللّه ٱلرُّسُلَ} قال الزجاج: نصب «يوم» محمول على قوله: «واتقوا اللّه»: واتقوا يوم جمعة للرسل. ومعنى مسألته للرسل توبيخ الذين أرسلوا إليهم. فأما قول الرسل: {لاَ عِلْمَ لَنَا} ففيه ستة أقوال. احدها: أنهم طاشت عقولهم حين زفرت جهنم، فقالوا: {لاَ عِلْمَ لَنَا} ثم ترد إليهم عقولهم، فينطلقون بحجتهم، رواه أبو الضحى عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، والسدي. والثاني: أن المعنى: {لاَ عِلْمَ لَنَا} إلا علم أنت أعلم به منا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أن المراد بقوله: {مَاذَا أُجِبْتُمْ}: ماذا عملوا بعدكم، وأحدثوا، فيقولون: {لاَ عِلْمَ لَنَا} قاله ابن جريج، وفيه بعد. والرابع: أن المعنى: {لاَ عِلْمَ لَنَا} مع علمك، لأنك تعلم الغيب، ذكره الزجاج. والخامس: أن المعنى: {لاَ عِلْمَ لَنَا} كعلمك، إذ كنت تعلم ما أظهر القوم وما أضمروا، ونحن نعلم ما أظهروا، ولا نعلم ما أضمروا، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا، هذا اختيار بن الأنباري. والسادس: {لاَ عِلْمَ لَنَا} بجميع أفعالهم إذ كنا نعلم بعضها وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان بعد وفاتنا، وإنما يستحق الجزاء بما تقع به الخاتمة، حكاه ابن الأنباري. قال المفسرون: إذا رد الأنبياء العلم إلى اللّه أبلست الأمم، وعلمت أن ما أتته في الدنيا غير غائب عنه، وأن الكل لا يخرجون عن قبضته. قوله تعالى: {عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ} قال الخطابي: العلام: بمنزلة العليم، وبناء «فعال» بناء التكثير، فأما «الغيوب» فجمع غيب،وهو ما غاب عنك. ١١٠ قوله تعالى: {إذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم} قال ابن عباس: معناه: وإذ يقول. قوله تعالى: {ٱذْكُرْ نِعْمَتِى عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وٰلِدَتِكَ} في تذكيره النعم فائدتان. إحداهما: إسماع الأمم ما خصه به من الكرامة. والثانية: توكيد حجته على جاحده. ومن نعمه على مريم أنه اصطفاها وطهرها، وأتاها برزقها من غير سبب. وقال الحسن: المراد بذكر النعمة: الشكر. فأما النعمة، فلفظها لفظ الواحد، ومعناها الجمع. فان قيل: لم قال هاهنا: {فَتَنفُخُ فِيهَا} وفي {ءالَ عِمْرَانَ} «فيه»؟ فالجواب: أنه جائز أن يكون ذكر الطير على معنى الجميع، وأنث على معنى الجماعة، وجاز أن يكون «فيه» للطير، «وفيها» للّهيأة، ذكره أبو علي الفارسي. قوله تعالى: {إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} قرأ ابن كثير، وعاصم هاهنا، وفي {هُودٍ} و {الصف} {هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ}، وقرأ في {يُونُسَ} {لَسَـٰحِرٌ مُّبِينٌ} بألف. وقرأ نافع، وابو عمرو، وابن عامر، الأربعة {سِحْرٌ مُّبِينٌ} بغير ألف، فمن قرأ «سحر» أشار إلى ما جاء به، ومن قرأ «ساحر»، أشار إلى الشخص. ١١١ وفي الوحي الى الحواريين قولان. احدهما: أنه بمعنى الإلهام، قاله الفراء. وقال السدي: قذف في قلوبهم. والثاني: أنه بمعنى الأمر، فتقديره: أمرت الحواريين «وإلى» صلة، قاله أبو عبيدة. وفي قوله: {وَٱشْهَدْ} قولان. احدهما: أنهم يعنون اللّه تعالى. والثاني: عيسى عليه السلام. وقوله: {بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} أي: مخلصون للعبادة والتوحيد. وقد سبق شرح ما أهمل هاهنا فيما تقدم. ١١٢ قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} قال الزجاج: أي: هل يقدر. وقرأ الكسائي: «هل تستطيع» بالتاء، ونصب الرب. قال الفراء: معناه: هل تقدر أن تسأل ربك. قال ابن الأنباري: ولا يجوز لأحد أن يتوهم أن الحواريين شكوا في قدرة اللّه، وإنما هذا كما يقول الانسان لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي، وهو يعلم أنه مستطيع، ولكنه يريد: هل يسهل عليك. وقال أبو علي: المعنى: هل يفعل ذلك بمسألتك إياه. وزعم بعضهم أنهم قالوا ذلك قبل استحكام إيمانهم ومعرفتهم، فرد عليهم عيسى بقوله: اتقوا اللّه، أن تنسبوه إلى عجز، والأول أصح. فأما «المائدة» فقال اللغويون: المائدة: كل ما كان عليه من الأخونة طعام، فاذا لم يكن عليه طعام، فليس بمائدة، والكأس: كل إناء فيه شراب، فاذا لم يكن فيه شراب، فليس بكأس، ذكره الزجاج. قال الفراء: وسمعت بعض العرب يقول للطبق الذي تهدى عليه الهدية: هو المهدى، مقصور، ما دامت عليه الهدية، فاذا كان فارغا رجع إلى اسمه إن كان طبقا أو خوانا أو غير ذلك. وذكر الزجاج عن أبي عبيدة أن لفظها فاعلة، وهي في المعنى مفعولة، مثل {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: ٢١]. قال أبو عبيدة: وهي من العطاء، والممتاد: المفتعل المطلوب منه العطاء، قال الشاعر: إلى أمير المؤمنين الممتاد وماد زيد عمرا: إذا أعطاه. قال الزجاج: والأصل عندي في «مائدة» أنها فاعلة من: ماد يميد: إذا تحرك، فكأنها تميد بما عليها. وقال ابن قتيبة: المائدة: الطعام، من: مادني يميدني، كأنها تميد الآكلين، أي: تعطيهم، أو تكون فاعلة بمعنى: مفعول بها، أي: ميد بها الآكلون. قوله تعالى: {ٱتَّقُواْ ٱللّه إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} فيه ثلاثة أقوال. احدها: اتقوه أن تسألوه البلاء، لأنها إن نزلت وكذبتم، عذبتم، قاله مقاتل. والثاني: أن تسألوه ما لم تسأله الأمم قبلكم، ذكره أبو عبيد. والثالث: أن تشكوا في قدرته. ١١٣ قوله تعالى: {قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} هذا اعتذار منهم بينوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه. وفي إرادتهم للأكل منها ثلاثة أقوال. احدها: أنهم أرادوا ذلك للحاجة، وشدة الجوع، قاله ابن عباس. والثاني: ليزدادوا إيمانا، ذكره ابن الأنباري. والثالث: للتبرك بها، ذكره الماوردي. وفي قوله: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} ثلاثة أقوال. احدها: تطمئن إلى أن اللّه تعالى قد بعثك إلينا نبيا. والثاني: إلى أن اللّه تعالى قد إختارنا أعوانا لك. والثالث: إلى أن اللّه تعالى قد أجابك. وقال ابن عباس: قال لهم عيسى: هل لكم أن تصوموا للّه ثلاثين يوما، ثم لا تسألونه شيئا إلا أعطاكم؟ فصاموا، ثم سألوا المائدة. فمعنى: {وَنَعْلَمَ أَن صَدَقْتَنَا} في أنا إذا صمنا ثلاثين يوما لم نسأل اللّه شيئا إلا أعطانا. وفي هذا العلم قولان. احدهما: أنه علم يحدث لهما لم يكن، وهو قول من قال: كان سؤالهم قبل استحكام معرفتهم. والثاني: أنه زيادة علم إلى علم، ويقين إلى يقين، وهو قول من قال: كان سؤالهم بعد معرفتهم. وقرأ الأعمش: «وتعلم» بالتاء، والمعنى: وتعلم القلوب أن قد صدقتنا. وفي قوله: {مّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ} أربعة أقوال. احدها: من الشاهدين للّه بالقدرة، ولك بالنبوة. والثاني: عند بني إسرائيل إذا رجعنا إليهم، وذلك أنهم كانوا مع عيسى في البرية عند هذا السؤال. والثالث: من الشاهدين عند من يأتي من قومنا بما شاهدنا من الآيات الدالة على أنك نبي. والرابع: من الشاهدين لك عند اللّه بأداء ما بعثت به. ١١٤ قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لاِوَّلِنَا وَءاخِرِنَا} وقرأ ابن محيصن، وابن السميفع، والجحدري: «لأولانا وأخرانا» برفع الهمزة، وتخفيف الواو، والمعنى: يكون اليوم الذي نزلت فيه عيدا لنا، نعظمه نحن ومن بعدنا، قاله قتادة، والسدي. وقال كعب: أنزلت عليهم يوم الأحد، فاتخذوه عيدا. وقال ابن قتيبة: عيدا، أي: مجمعا. قال الخليل بن احمد: العيد: كل يوم يجمع، كأنهم عادوا إليه. وقال ابن الأنباري: سمي عيدا للعود من الترح إلى الفرح. قوله تعالى: {وَءايَةً مّنْكَ} أي: علامة منك تدل على توحيدك، وصحة نبوة نبيك. وقرأ ابن السميفع، وابن محيصن، والضحاك «وأنه منك» بفتح الهمزة، وبنون مشددة. وفي قوله: {وَٱرْزُقْنَا} قولان. احدهما: ارزقنا ذلك من عندك. والثاني: ارزقنا الشكر على ما أنعمت به من إجابتك لنا. ١١٥ قوله تعالى: {قَالَ ٱللّه إِنّى مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ} قرأ نافع، وعاصم، وابن عامر «منزلها» بالتشديد، وقرأ الباقون خفيفة. وهذا وعد باجابة سؤال عيسى. واختلف العلماء: هل نزلت، أم لا؟ على قولين. احدهما: أنها نزلت، قاله الجمهور، فروى وهب بن منبه عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: لما رأى عيسى أنهم قد جدوا في طلبها لبس جبة من شعر، ثم توضأ، واغتسل، وصف قدميه في محرابه حتى استويا، وألصق الكعب بالكعب، وحاذى الأصابع بالأصابع، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره، وطأطأ رأسه خضوعا، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فما زالت تسيل دموعه على خده، وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض من دموعه حيال وجهه، ثم رفع رأسه إلى السماء، فقال: اللّهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء فبينما عيسى كذلك، هبطت علينا مائدة من السماء، سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة من تحتها، وغمامة من فوقها، وعيسى يبكي ويتضرع، ويقول: إلهي اجعلها سلامة، لا تجعلها عذابا، حتى استقرت بين يديه، والحواريون من حوله، فأقبل هو وأصحابه حتى قعدوا حولها، وإذا عليهم منديل مغطى، فقال عيسى: أيكم أوثق بنفسه وأقل بلاء عند ربه فليأخذ هذا المنديل، وليكشف لنا عن هذه الآية. قالوا: يا روح اللّه أنت أولانا بذلك، فاكشف عنها، فاستأنف وضوءا جديدا، وصلى ركعتين، وسأل ربه أن يأذن له بالكشف عنها، ثم قعد إليها، وتناول المنديل، فاذا عليها سمكة مشوية، ليس فيها شوك، وحولها من كل البقل ما خلا الكراث، وعند رأسها الخل، وعند ذنبها الملح، وحولها خمسة أرغفة، على رغيف تمر، وعلى رغيف زيتون، وعلى رغيف خمس رمانات، فقال شمعون رأس الحواريين: يا روح اللّه أمن طعام الدنيا هذا، أمن طعام الجنة؟ فقال عيسى: سبحان اللّه أما تنتهونٰ ما أخوفني عليكم. قال شمعون: لا وإله بني إسرائيل ما أردت بهذا سوءا. قال عيسى: ليس ما ترون عليها من طعام الدنيا، ولا من طعام الجنة، إنما هو شيء ابتدعه اللّه، فقال له: «كن» فكان أسرع من طرفة عين، فقال الحواريون: يا روح اللّه إنما نريد أن ترينا في هذه الآية آية، فقال: سبحان اللّهٰ ما اكتفيتم بهذه الآية؟ثم أقبل على السمكة فقال: عودي باذن اللّه حية طرية، فعادت تضطرب على المائدة، ثم قال: عودي كما كنت، فعادت مشوية، فقال: يا روح اللّه كن أنت أول من يأكل منها، فقال: معاذ اللّه بل يأكل منها من سألها، فلما رأوا امتناعه، خافوا أن يكون نزولها عقوبة، فلما رأى عيسى ذلك دعا لها الفقراء والزمنى واليتامى، فقال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم، ليكون مهنؤها لكم، وعقوبتها على غيركم، فأكل منها ألف وسبعمائة إنسان، يصدرون عنها شباعا وهي كهيئتها حين نزلت، فصح كل مريض، واستغنى كل فقير أكل منها، ثم نزلت بعد ذلك عليهم، فازدحموا عليها، فجعلها عيسى نوبا بينهم، فكانت تنزل عليهم أربعين يوما، تنزل يوما وتغب يوما، وكانت تنزل عند ارتفاع الضحى، فيأكلون منها حتى إذا قالوا، ارتفعت إلى السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض. وقال قتادة: كانت تنزل عليهم بكرة وعشية، حيث كانوا. وقال غيره: نزلت يوم الأحد مرتين. وقيل: نزلت غدوة وعشية يوم الأحد، فلذلك جعلوه عيدا. وفي الذي كان على المائدة ثمانية أقوال. احدها: أنه خبز ولحم، روي عن عمار بن ياسر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «نزلت المائدة من السماء خبزا ولحما». والثاني: أنها سمكة مشوية، وخمس أرغفة، وتمر، وزيتون، ورمان. وقد ذكرناه عن سلمان. والثالث: ثمر من ثمار الجنة، قاله عمار بن ياسر، وقال قتادة: ثمر من ثمار الجنة، وطعام من طعامها. والرابع: خبز، وسمك، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وأبو عبد الرحمن السلمي. والخامس: قطعة من ثريد، رواه الضحاك عن ابن عباس. والسادس: أنه أنزل عليها كل شيء إلا اللحم، قاله سعيد بن جبير. والسابع: سمكة فيها طعم كل شيء من الطعام، قاله عطية العوفي. والثامن: خبز أرز وبقل، قاله ابن السائب. والقول الثاني: أنها لم تنزل، روى قتادة عن الحسن أن المائدة لم تنزل، لأنه لم قال اللّه تعالى: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّى أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذّبُهُ أَحَداً مّنَ ٱلْعَـٰلَمِينَ} قالوا: لا حاجة لنا فيها. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: أنزلت مائدة عليها ألوان من الطعام، فعرضها عليهم، وأخبرهم أنه العذاب إن كفروا، فأبوها فلم تنزل. وروى ليث عن مجاهد قال: هذا مثل ضربه اللّه تعالى لخلقه، لينهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه، ولم ينزل عليهم شيء، والأول أصح. قوله تعالى: {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ} أي:بعد إنزال المائدة. وفي العذاب المذكور قولان. احدهما: أنه المسخ. والثاني: جنس من العذاب لم يعذب به أحد سواهم. قال الزجاج: ويجوز أن يعجل لهم في الدنيا، ويجوز أن يكون في الآخرة. وفي «العالمين» قولان. احدهما: أنه عام. والثاني: عالمو زمانهم. وقد ذكر المفسرون أن جماعة من أصحاب المائدة مسخوا. وفي سبب مسخهم ثلاثة أقوال. احدها: أنهم أمروا أن لا يخونوا، ولا يدخروا، فخانوا وادخروا، فمسخوا قردة وخنازير، رواه عمار بن ياسر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. والثاني: أن عيسى خص بالمائدة الفقراء، فتكلم الأغنياء بالقبيح من القول، وشككوا الناس فيها، وارتابوا، فلما أمسى المرتابون بها، وأخذوا مضاجعهم، مسخهم اللّه خنازير، قاله سلمان الفارسي. والثالث: أن الذين شاهدوا المائدة، ورجعوا إلى قومهم، فأخبروهم، فضحك بهم من لم يشهد، وقالوا: إنما سحر أعينكم، وأخذ بقلوبكم، فمن أراد اللّه به خيرا، ثبت على بصيرته، ومن أراد به فتنة، رجع إلى كفره. فلعنهم عيسى، فأصبحوا خنازير، فمكثوا ثلاثة أيام، ثم هلكوا، قاله ابن عباس. ١١٦ انظر تفسير الآية: ١١٧ ١١٧ قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ ٱللّه يٰعِيسَى عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ} في زمان هذا القول قولان. احدهما: أنه يقول له يوم القيامة، قاله ابن عباس، وقتادة، وابن جريج. والثاني: أنه قاله له حين رفعه إليه، قاله السدي، والأول أصح. وفي إذ ثلاثة أقوال. احدها: أنها زائدة، والمعنى: وقال اللّه، قاله أبو عبيدة. والثاني: أنها على أصلها، والمعنى: وإذ يقوله اللّه له، قاله ابن قتيبة. والثالث: أنها بمعنى: «إذا»، كقوله: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ} [سبأ: ٥١] والمعنى: إذا. قال أبو النجم: ثم جزاك اللّه عني إذ جزى جنات عدن في السموات العلا ولفظ الآية لفظ الاستفهام، ومعناها التوبيخ لمن ادعى ذلك على عيسى. قال أبو عبيدة: وإنما قال: «آلهين»، لأنهم إذ أشركوا فعل ذكر مع فعل أنثى [غلب فعل الذكر] ذكروهما. فان قيل: فالنصارى لم يتخذوا مريم إلها، فكيف قال اللّه تعالى ذلك فيهم؟ فالجواب: أنهم لما قالوا: لم تلد بشرا، وإنما ولدت إلها، لزمهم أن يقولوا: إنها من حيث البعضية بمثابة من ولدته، فصاروا بمثابة من قاله. قوله تعالى: {قَالَ سُبْحَـٰنَكَ} أي: براءة لك من السوء {مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ} أي: لست أستحق العبادة، فأدعو الناس إليها. وروى عطاء بن السائب عن ميسرة قال: لما قال اللّه تعالى لعيسى: {قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللّه قَالَ} رعد كل مفصل منه حتى وقع مخافة أن يكون قد قاله، وما قال: إني لم أقل، ولكنه قال: {إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} فان قيل: ما الحكمة في سؤال اللّه تعالى له عن ذلك وهو يعلم أنه ما قاله؟ فالجواب: أنه تثبيت للحجة على قومه، وإكذاب لهم في ادعائهم عليه أنه أمرهم بذلك، ولإنه إقرار من عيسى بالعجز في قوله: {وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ} وبالعبودية في قوله: {أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللّه رَبّى وَرَبَّكُمْ}. قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ} قال الزجاج: تعلم ما أضمره، ولا أعلم ما عندك علمه، والتأويل: تعلم ما أعلم وأنا لا أعلم ما تعلم. قوله تعالى: {أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللّه} قال مقاتل: وحدوه. ١١٨ انظر تفسير الآية: ١٢٠ ١١٩ انظر تفسير الآية: ١٢٠ ١٢٠ قوله تعالى: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي: على ما يفعلون ما كنت مقيما فيهم، [وقوله] {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِى} فيه قولان. احدهما: بالرفع إلى السماء. والثاني: بالموت عند انتهاء الأجل. «والرقيب» مشروح في سورة {ٱلنّسَاء}، «والشهيد» في {ءالَ عِمْرَانَ}. |
﴿ ٠ ﴾