١٠٧

قوله تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّا إِثْماً}

قال المفسرون: لما نزلت الآية الأولى، دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عديا وتميما، فاستحلفهما عند المنبر: أنهما لم يخونا شيئا مما دفع إليهما، فحلفا، وخلى سبيلهما، ثم ظهر الإناء الذي كتماه، فرفعهما أولياء الميت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت {فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّا إِثْماً} ومعنى «عثر»: اطلع أي: إن عثر أهل الميت، أو من يلي أمره، على أن الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا

{ٱسْتَحَقَّا إِثْماً} لميلهما عن الاستقامة في شهادتهما

{فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا} أي: مقام هذين الخائنين

{مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلاْوْلَيَانِ}. قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عامر، والكسائي: «استحق» بضم التاء، «الأوليان» على التثنية. وفي قوله

{مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} قولان.

احدهما: أنهما الذميان.

والثاني: الوليان فعلى الأول في معنى {ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} أربعة أقوال.

احدها: استحق عليهم الإيصاء، قال ابن الأنباري: المعنى: من القوم الذين استحق فيهم الإيصاء، استحقه الأوليان بالميت، وكذلك قال الزجاج: المعنى: من الذين استحقت الوصية أو الإيصاء عليهم.

والثاني: أنه الظلم، والمعنى: من الذين استحق عليهم ظلم الأوليان، فحذف الظلم، وأقام الأوليين مقامه، ذكره ابن القاسم أيضا.

والثالث: أنه الخروج مما قاما به من الشهادة، لظهور خيانتهما.

والرابع: أنه الاثم، والمعنى: استحق منهم الاثم، ونابت «على» عن «من» كقوله: {عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: ٢] أي: منهم. وقال الفراء: «على» بمعنى «في» كقوله: {عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ} [البقرة: ١٠٢] أي: في ملكه، ذكر القولين أبو علي الفارسي. وعلى هذه الأقوال مفعول «استحق» محذوف مقدر.

وعلى القول الثاني في معنى {ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ} قولان.

احدهما: استحق منهم الأوليان، وهو اختيار ابن قتيبة.

والثاني: جني عليهم الاثم، ذكره الزجاج. فأما «الأوليان» فقال الأخفش: الأوليان: اثنان، واحدهما: الأولى، والجمع: الأولون. ثم للمفسرين فيهما قولان.

احدهما: أنهما أولياء الميت، قاله الجمهور. قال الزجاج: «الأوليان» في قول أكثر البصريين يرتفعان على البدل مما في «يقومان» والمعنى: فليقم الأوليان بالميت مقام هذين الخائنين. وقال أبو علي: لا يخلو الأوليان أن يكون ارتفاعهما على الابتداء، أو يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: فآخران يقومان مقامهما، هما الأوليان، أو يكون بدلا من الضمير الذي في «يقومان». والتقدير: فيقوم الأوليان.

والقول الثاني: أن الأوليان: هما الذميان، والمعنى: أنهما الأوليان بالخيانة، فعلى هذا يكون المعنى: يقومان، إلا من الذين استحق عليهم. قال الشاعر:

فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان

أي: بدلا من ماء زمزم.

وروى قرة عن ابن كثير، وحفص وعاصم: «استحق» بفتح التاء والحاء «الأوليان» على التثنية، والمعنى: استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها، فحذف المفعول. وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: «استحق» برفع التاء، وكسر الحاء، «الأولين» بكسر اللام، وفتح النون على الجمع، والتقدير: من الأولين الذين استحق فيهم الإثم، أي: جني عليهم، لأنهم كانوا أولين في الذكر. ألا ترى أنه قد تقدم

{ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} على قوله: {أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}. وروى الحلبي عن عبد الوارث «الأولين» بفتح الواو وتشديدها، وفتح اللام، وسكون الياء، وكسر النون، وهي تثنية: أول. وقرأ الحسن البصري: «استحق» بفتح التاء والحاء، «الأولون» تثنية «أول» على البدل من قوله: «فآخران» وقال ابن قتيبة: أشبه الأقوال بالآية أن اللّه تعالى أراد أن يعرفنا كيف يشهد بالوصية عند حضور الموت، فقال:

{ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} أي: عدلان من المسلمين [تشهدونهما على الوصية]، وعلم أن من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين، وينزل القرية التي لا يسكنها غيرهم، ويحضره الموت، فلا يجد من يشهده من المسلمين، فقال:

{أَوْ ءاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: من غير أهل دينكم، {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلاْرْضِ} أي: سافرتم

{فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ} وتم الكلام.فالعدلان من المسلمين للحضر والسفر خاصة إن أمكن إشهادهما في السفر والذميان في السفر خاصة إذا لم يوجد غيرهما ثم قال

{تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلوٰةِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللّه إِنِ ٱرْتَبْتُمْ} أراد: تحبسونهما من بعد صلاة العصر إن ارتبتم في شهادتهما، وخشيتم أن يكونا قد خانا، أو بدلا، فاذا حلفا، مضت شهادتهما. فان عثر بعد هذه اليمين أي: ظهر على أنهما استحقا إثما، أي: حنثا في اليمين بكذب في قول أو خيانة في وديعة، فآخران، أي: قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت الذين استحق منهم الأوليان، وهما الوليان، يقال: هذا الأولى بفلان، ثم يحذف من الكلام «بفلان»، فيقال: هذا الأولى، وهذان الأوليان، «وعليهم» بمعنى: «منهم». فيحلفان باللّه: لقد ظهرنا على خيانة الذميين، وكذبهما، وما اعتدينا عليهما، ولشهادتنا أصح، لكفرهما وإيماننا، فيرجع على الذميين بما اختانا، وينقض ما مضى من الحكم بشهادتهما تلك.

وقال غيره: لشهادتنا، أي: ليميننا أحق، وسميت اليمين شهادة، لأنها كالشهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك.

قال المفسرون: فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص، والمطلب بن أبي وداعة السهميان، فحلفا باللّه، ودفع الإناء إليهما وإلى أولياء الميت.

﴿ ١٠٧