ÓõæÑóÉõ ÇáúÃóäúÚóÇãö ãóßøöíøóÉñ

æóåöíó ãöÇÆóÉñ æóÎóãúÓñ æó ÓöÊøõæäó ÂíóÉð

سورة الأنعام

فصل في نزولها

روى مجاهد عن ابن عباس: أن الأنعام مما نزل بمكة، وهذا قول الحسن وقتادة وجابر بن زيد.

وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس، قال: نزلت سورة الأنعام جملة ليلا بمكة، وحولها سبعون ألف ملك.

وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هي مكية، نزلت جملة واحدة، ونزلت ليلا، وكتبوها من ليلتهم، غير ست آيات وهي

{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [٦،١٥١] إلى آخر الثلاث آيات. وقوله:

{وَمَا قَدَرُواْ ٱللّه حَقَّ قَدْرِهِ} [٦،٩١] الآية وقوله:

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللّه كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ} [٦،٩٣] إلى آخر الآيتين وذكر مقاتل نحو هذا. وزاد آيتين: قوله:

{وَٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بِٱلْحَقّ} [٦،١١٤] وقوله:

{ٱلَّذِينَ آتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَعْرِفُونَهُ} [٦/٢١].

وروى عن ابن عباس، وقتادة قالا: هي مكية إلا آيتين نزلتا بالمدينة؛ قوله:

{وَمَا قَدَرُواْ ٱللّه حَقَّ قَدْرِهِ} [٦،٩١] الآية. وقوله:

{وَهُوَ ٱلَّذِى أَنشَأَ جَنَّـٰتٍ مَّعْرُوشَـٰتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَـٰتٍ} [٦،١٤١] وذكر أبو الفتح ابن شيطا: أنها مكية، غير آيتين نزلتا بالمدينة:

{قُلْ تَعَالَوْا} [٦،١٥١] والتي بعدها.

_________________________________

١

فأما التفسير، فقال كعب: فاتحة {ٱلْكَهْفِ} فاتحة {ٱلاْنْعَـٰمِ} وخاتمتها خاتمة {هُودٍ}؛ وإنما ذكر السموات والأرض، لأنهما من أعظم المخلوقات. والمراد بال{جعل}: الخلق.

وقيل: إن «جعل» ههنا: صلة؛ والمعنى: والظلمات. وفي المراد بالظلمات والنور ثلاثة أقوال:

احدها: الكفر والإيمان، قاله الحسن.

والثاني: الليل والنهار، قاله السدي.

والثالث: جميع الظلمات والأنوار. قال قتادة: خلق اللّه السموات قبل الأرض، والظلمات قبل النور، والجنة قبل النار. قوله تعالى:

{ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} يعني: المشركين بعد هذا البيان

{بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ}، أي: يجعلون له عديلا، فيعبدون الحجارة الموات، مع إقرارهم بأنه الخالق لما وصف. يقال: عدلت هذا بهذا: إذا ساويته به. قال أبو عبيدة: هو مقدم ومؤخر، تقديره: يعدلون بربهم. وقال النضر بن شميل: الباء: بمعنى «عن».

٢

قوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن طِينٍ} يعني: آدم. وذلك أنه لما شك المشركون في البعث، وقالوا: من يحيي هذه العظام؟ أعلمهم أنه خلقهم من طين، فهو قادر على إعادة خلقهم. قوله تعالى:

{ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} فيه ستة اقوال.

احدها: أن الأجل الأول: أجل الحياة إلى الموت.

والثاني: أجل الموت إلى البعث، روي عن ابن عباس، والحسن، وابن المسيب، وقتادة، والضحاك، ومقاتل.

والثاني: أن الأجل الأول: النوم الذي تقبض فيه الروح، ثم ترجع في حال اليقظة؛ والأجل المسمى عنده أجل: موت الإنسان. رواه العوفي عن ابن عباس.

والثالث: أن الأجل الأول: أجل الآخرة متى يأتي، والأجل الثاني: أجل الدنيا، قاله مجاهد في رواية.

والرابع: أن الأول: خلق الأشياء في ستة أيام،

والثاني: ما كان بعد ذلك إلى يوم القيامة، قاله عطاء الخراساني.

والخامس: أن الأول: قضاه حين أخذ الميثاق على خلقه،

والثاني: الحياة في الدنيا قاله ابن زيد، كأنه يشير إلى أجل الذرية حين أحياهم وخاطبهم.

والسادس: أن الأول: أجل من قد مات من قبل،

والثاني: أجل من يموت بعد، ذكره الماوردي. قوله تعالى:

{ثُمَّ أَنتُمْ} أي بعد هذا البيان {تَمْتَرُونَ} وفيه قولان.

احدهما: تشكون. قاله قتادة، والسدي، وفيما شكوا فيه قولان

احدهما: الوحدانية،

والثاني: البعث.

والثاني: يختلفون: مأخوذ من المراء، ذكره الماوردي.

٣

قوله تعالى: {وَهُوَ ٱللّه فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَفِى ٱلاْرْضِ} فيه أربعة اقوال:

احدها: هو المعبود في السماوات وفي الأرض، قاله ابن الأنباري.

والثاني: وهو المنفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض، قاله الزجاج.

والثالث: وهو اللّه في السماوات ويعلم سركم وجهركم في الأرض، قاله ابن جرير.

والرابع: أنه مقدم ومؤخر: والمعنى: وهو اللّه يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض، ذكره بعض المفسرين.

٤

انظر تفسير الآية: ٥

٥

قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايَـٰتِ رَبّهِمْ}

نزلت في كفار قريش، وفي الآية قولان:

احدهما: أنها الآية من القرآن.

والثاني: المعجزة: مثل انشقاق القمر. والمراد بالحق: القرآن والأنباء الأخبار، والمعنى سيعلمون عاقبة استهزائهم.

٦

قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ} القرن: اسم أهل كل عصر. وسموا بذلك، لاقترانهم في الوجود، وللمفسرين في المراد بالقرن سبعة اقوال.

احدها: أنه أربعون سنة، ذكره ابن سيرين عن النبي صلى اللّه عليه وسلم.

والثاني: ثمانون سنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثالث: مائة سنة، قاله عبد اللّه بن بشر المازني، وأبو سلمة بن عبد الرحمن.

والرابع: مائة وعشرون سنة، قاله زرارة بن أوفى، وإياس بن معاوية.

والخامس: عشرون سنة، حكاه الحسن البصري.

والسادس: سبعون سنة، ذكره الفراء.

والسابع: أن القرن: أهل كل مدة كان فيها نبي، أو طبقة من العلماء، قلت السنون، أو كثرت، بدليل قوله صلى اللّه عليه وسلم: «خيركم قرني» يعني: أصحابي «ثم الذين يلونهم» يعني: التابعين، «ثم الذين يلونهم» يعني: الذين أخذوا عن التابعين، فالقرن: مقدار التوسط في أعمار أهل الزمان، فهو في كل قوم على مقدار أعمارهم، واشتقاق القرن: من الاقتران.

وفي معنى ذلك الاقتران قولان.

احدهما: أنه سمي قرنا، لأنه المقدار الذي هو أكثر ما يقترن فيه أهل ذلك الزمان في بقائهم، هذا اختيار الزجاج.

والثاني: أنه سمي قرنا، لأنه يقرن زمانا بزمان، وأمة بأمة، قاله ابن الأنباري، وحكى ابن قتيبة عن أبي عبيدة قال: يرون أن أقل ما بين القرنين: ثلاثون سنة. قوله تعالى:

{مكناهم في الأرض} قال ابن عباس أعطيناهم ما لم نعطكم، يقال: مكنته ومكنت له: إذا أقدرته على الشيء باعطاء ما يصح به الفعل من العدة. وفي هذه الآية رجوع من الخبر إلى الخطاب. فأما السماء: فالمراد بها المطر. ومعنى «أرسلنا» أنزلنا. «والمدرار» مفعال، من درّ، يدرّ والمعنى: نرسلها كثيرة الدر. ومفعال: من أسماء المبالغة، كقولهم: امرأة مذكار: إذا كانت كثيرة الولادة للذكور، وكذلك مئناث.

فان قيل: السماء مؤنثة، فلم ذكرا مدرارا.

فالجواب: أن حكم ما انعدل من النعوت عن منهاج الفعل وبنائه، أن يلزم التذكير في كل حال، سواء كان وصفا لمذكر أو مؤنت؛ كقولهم: امرأة مذكار، ومعطار، وامرأة، مذكر ومؤنث؛ وهي: كفور، وشكور ولو بنيت هذه الأوصاف على الفعل، لقيل: كافرة، وشاكرة، ومذكرة، فلما عدل عن بناء الفعل، جرى مجرى ما يستغني بقيام معنى التأنيث فيه عن العلامة؛ كقولهم: النعل لبستها، والفأس كسرتها، وكان إيثارهم التذكير للفرق بين المبني على الفعل، والمعدول عن مثل الأفاعيل، والمراد بالمدرار: المبالغة. في اتصال المطر ودوامه؛ يعني: أنها تدر وقت الحاجة إليها، لا أنها تدوم ليلا ونهارا فتفسد، ذكره ابن الأنباري.

٧

قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَـٰباً فِى قِرْطَاسٍ} سبب نزولها: أن مشركي مكة قالوا: يا محمد، واللّه لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند اللّه، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند اللّه، وأنك رسوله، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب، قال ابن قتيبة: والقرطاس: الصحيفة، يقال للرامي إذا اصاب الصحيفة: قرطس، قال شيخنا أبو منصور اللغوي: القرطاس. قد تكلموا به قديما. ويقال إن أصله غير عربي. والجمهور على كسر قافه، وضمها أبو رزين، وعكرمة، وطلحة، ويحيى بن يعمر. فأما قوله تعالى:

{فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} فهو توكيد لنزوله،

وقيل: إنما علقه باللمس باليد إبعادا له عن السحر، لأن السحر يتخيل في المرئيات، دون الملموسات، ومعنى الآية: إنهم يدفعون الصحيح.

٨

قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} قال مقاتل: نزلت في النضر ابن الحارث، وعبد اللّه بن أبي أمية، ونوفل بن خويلد، و«لولا» بمعنى «هلا» أنزل عليه ملك نصدقه،

{وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً} فعاينوه ولم يؤمنوا،

{لَقُضِىَ ٱلاْمْرُ} وفيه ثلاثة اقوال.

احدها: أن المعنى لماتوا، ولم يؤخروا طرفة عين لتوبة، قاله ابن عباس.

والثاني: لقامت الساعة قاله عكرمة، ومجاهد.

والثالث: لعجل لهم العذاب، قاله قتادة.

٩

قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ} أي: ولو جعلنا الرسول إليهم ملكا، لجعلناه في صورة رجل، لأنهم لا يستطيعون رؤية الملك على صورته،

{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم} أي: لشبهنا عليهم يقال: ألبست الأمر على القوم ألبسه، أي: شبهته عليهم وأشكلته، والمعنى لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم، حتى يشكوا فلا يدرون أملك هو أم آدمي، فأضللناهم بما به ضلوا، قبل أن يبعث الملك. وقال الزجاج: كانوا يلبسون على ضعفتهم في أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم، فيقولون: إنما هذا بشر مثلكم، فقال تعالى: لو رأوا الملك رجلا لكان يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفتهم منه، وقرأ الزهري، ومعاذ القارىء، وأبو رجاء: «وللبسنا» بالتشديد، «عليهم ما يلبسون» مشددة أيضا.

١٠

انظر تفسير الآية: ١١

١١

قوله تعالى: {فَحَاقَ بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ} أي: أحاط، قال الزجاج: الحيق: في اللغة ما اشتمل على الإنسان من مكروه فعله ومنه، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، أي: لا ترجع عاقبة مكروهه إلا عليهم، قال السدي: وقع بهم العذاب الذي استهزؤا به.

١٢

قوله تعالى: {قُل لّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ} المعنى: فان أجابوك، وإلا ف

{قُل للّه كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ} قال ابن عباس: قضى لنفسه أنه أرحم الراحمين. قال الزجاج: ومعنى كتب: أوجب ذلك إيجابا مؤكدا، وجائز أن يكون كتب في اللوح المحفوظ؛ وإنما خوطب الخلق بما يعقلون فهم يعقلون، أن توكيد الشيء المؤخر أن يحفظ بالكتاب.

وقال غيره: رحمته عامة، فمنها تأخير العذاب عن مستحقه، وقبول توبة العاصي. قوله تعالى:

{ليجمعنكم إلى يوم القيامة} اللام: لام القسم، كأنه قال: واللّه ليجمعنكم إلى اليوم الذي أنكرتموه. وذهب قوم إلى أن «إلى» بمعنى: «في» ثم اختلفوا، فقال قوم: في يوم القيامة،

وقال آخرون: في قبوركم إلى يوم القيامة. قوله تعالى:

{ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} أي: بالشرك، {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} لما سبق فيهم من القضاء، وقال ابن قتيبة: قوله:

{ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} مردود إلى قوله:

{كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُكَذّبِينَ} الذين خسروا.

١٣

قوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِى ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ} سبب نزولها: أن كفار مكة قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم: قد علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعونا إليه الحاجة؛ فنحن نجعل لك نصيبا في أموالنا حتى تكون من أغنانا رجلا، وترجع عما أنت عليه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.

وفي معنى «سكن» قولان.

احدهما: أنه من السكنى، قال ابن الأعرابي: سكن بمعنى حل.

والثاني: أنه من السكون الذي يضاد الحركة، قال مقاتل: من المخلوقات ما يستقر بالنهار، وينتشر بالليل، ومنها ما يستقر بالليل، وينتشر بالنهار.

فان قيل: لم خص السكون بالذكر دون الحركة،

فعنه ثلاثة أجوبة.

احدها: أن السكون أعم وجودا من الحركة.

والثاني: أن كل متحرك قد يسكن، وليس كل ساكن يتحرك.

والثالث: أن في الآية إضمارا، والمعنى: وله ما سكن وتحرك كقوله:

{تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ} أراد: {والبرد} فاختصر.

١٤

قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ ٱللّه أَتَّخِذُ وَلِيّاً} ذكر مقاتل أن سبب نزولها: أن كفار قريش قالوا: يا محمد، ألا ترجع إلى دين آبائك؟ فنزلت هذه الآية. وهذا الاستفهام معناه: الإنكار؛ أي: لا أتخذ وليا غير اللّه أتولاه، وأعبده، وأستعينه. قوله تعالى:

{فَاطِرَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضِ} الجمهور على كسر راء «فاطر». وقرأ ابن أبي عبلة برفعها. قال أبو عبيدة: الفاطر، معناه: الخالق. وقال ابن قتيبة: المبتدىء. ومنه «كل مولود يولد على الفطرة» أي: على ابتداء الخلقة، وهو الإقرار باللّه حين أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم. وقال ابن عباس: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال احدهما: أنا فطرتها، أي: أنا ابتدأتها،

قال الزجاج:

إن قيل: كيف يكون الفطر بمعنى: الخلق، والانفطار: الانشقاق في قوله تعالى: {إِذَا ٱلسَّمَاء ٱنفَطَرَتْ}

فالجواب: إنما يرجعان إلى شيء واحد، لأن معنى «فطرهما»: خلقهما خلقا قاطعا. والانفطار، والفطور، تقطع وتشقق. قوله تعالى:

{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} قرأ الجمهور بضم الياء من الثاني؛ ومعناه: وهو يَرزق، ولا يُرزق، لأن بعض العبيد يرزق مولاه. وقرأ عكرمة، والأعمش: «ولا يَطعم» بفتح الياء. قال الزجاج: وهذا الاختيار عند البصراء بالعربية، ومعناه: وهو يرزق ويُطعم ولا يأكل. قوله تعالى:

{إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أي: أول مسلم من هذه الأمة؛

{وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُشْرِكَينَ} قال الأخفش: معناه:

وقيل لي: لا تكونن، فصارت أمرت، بدلا من ذلك، لأنه حين قال: أمرت، قد أخبر أنه قيل له.

١٥

قوله تعالى: {قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} زعم بعض المفسرين أنه كان يجب عليه أن يخاف عاقبة الذنوب، ثم نسخ ذلك بقوله:

{لّيَغْفِرَ لَكَ ٱللّه مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} والصحيح أن الآيتين خبر والخبر لا يدخله النسخ وإنما هو معلق بشرط ومثله {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}.

١٦

قوله تعالى: {مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عامر، وحفص، عن عاصم،: من يُصرَف: بضم الياء وفتح الراء يعنون: العذاب. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم

{يُصْرَفْ} بفتح الياء وكسر الراء الضمير، قوله: {إِنْ عَصَيْتُ رَبّى}؛ ومما يحسن هذه القراءة قوله:

{فَقَدْ رَحِمَهُ} فقد اتفق إسناد الضميرين إلى اسم اللّه تعالى، ويعني بقوله:

{يُصْرَفْ} العذاب {يَوْمَئِذٍ}، يعني يوم القيامة وذلك يعني: صرف العذاب.

١٧

قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللّه بِضُرّ} الضر: اسم جامع لكل ما يتضرر به الإنسان، من فقر، ومرض، وغير ذلك، والخير: اسم جامع لكل ما ينتفع به الإنسان.

وللمفسرين في الضر والخير قولان.

احدهما: أن الضر: السقم، والخير: العافية.

والثاني: أن الضر: الفقر، والخير: الغنى.

١٨

قوله تعالى: {وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} القاهر: الغالب، والقهر: الغلبة، والمعنى: أنه قهر الخلق فصرفهم على ما أراد طوعا وكرها؛ فهو المستعلي عليهم، وهم تحت التسخير والتذليل.

١٩

قوله تعالى: {قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً} سبب نزولها: أن رؤساء مكة أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، ما نرى أحدا يصدقك بما تقول، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرنا من يشهد أنك رسول اللّه؛ فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. ومعنى الآية: قل لقريش: أي شيء أعظم شهادة؟ فان أجابوك، وإلا فقل: اللّه، وهو شهيد بيني وبينكم على ما أقول.وقال الزجاج: أمر اللّه أن يحتج عليهم بأن شهادة، اللّه في نبوته أكبر شهادة وأن القرآن الذي أتى به، يشهد له أنه رسول اللّه، وهو قوله:

{قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً قُلِ} ففي الإنذار به دليل على نبوته، لأنه لم يأت أحد بمثله، ولا يأتي، وفيه خبر ما كان وما يكون، ووعد فيه بأشياء، فكانت كما قال، وقرأ عكرمة، وابن السميفع، والجحدري،

{وَأُوحِىَ إِلَىَّ} بفتح الهمزة والحاء {ٱلْقُرْءانَ} بالنصب؛ فأما {الإنذار} فمعناه: التخويف ومعنى:

{بِهِ وَمَن بَلَغَ} أي: من بلغ إليه هذا القرآن، فإني نذير له. قال القرظي: من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم وكلمه. وقال أنس بن مالك: لما نزلت هذه الآية كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى كسرى، وقيصر، وكل جبار، يدعوهم إلى اللّه عز وجل. قوله تعالى:

{أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ ٱللّه ءالِهَةً أُخْرَىٰ} هذا استفهام معناه الانكار عليهم. قال الفراء: وإنما قال: {أُخْرَىٰ} ولم يقل: {ءاخَرَ} لأن الآلهة جمع، والجمع يقع عليه التأنيث، كما قال {وَللّه ٱلاسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ} وقال: {فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلاْولَىٰ}.

٢٠

قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ} في الكتاب قولان.

احدهما: أنه التوراة والإنجيل، وهذا قول الجمهور.

والثاني: أنه القرآن.

وفي هاء يعرفونه ثلاثة أقوال.

احدها: أنها ترجع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، قاله السدي. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال لعبد اللّه بن سلام: إن اللّه قد أنزل على نبيه بمكة

{ٱلَّذِينَ آتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} فكيف هذه المعرفة؟ فقال: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ولأنا أشد معرفة بمحمد صلى اللّه عليه وسلم مني بابني، فقال عمر: وكيف ذاك؟ فقال: إني أشهد أنه رسول اللّه حقا ولا أدري ما يصنع النساء.

والثاني: أنها ترجع إلى الدين والنبي. فالمعنى: يعرفون الإسلام أنه دين اللّه عز وجل، وأن محمدا رسول اللّه، قاله قتادة.

والثالث: أنها ترجع إلى القرآن. فالمعنى: يعرفون الكتاب الدال على صدقه؛ ذكره الماوردي.

وفي {ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} قولان.

احدهما: أنهم مشركو مكة.

والثاني: كفار أهل الكتابين.

٢١

قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللّه كَذِباً} أي: اختلق على اللّه الكذب في ادعاء شريك معه. وفي آياته قولان.

احدهما: أنها محمد والقرآن، قاله ابن السائب.

والثاني: القرآن، قاله مقاتل.

والمراد بالظلم المذكور في هذه الآية: الشرك.

٢٢

قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} انتصب «اليوم» بمحذوف تقديره: واذكر يوم نحشرهم. قال ابن جرير: والمعنى: لا يفلحون اليوم، ولا يوم نحشرهم. وقرأ يعقوب: {يَحْشُرُهُمْ} ثم {يِقُولُ} بالياء فيهما.

وفي الذين عني، قولان.

احدهما: المسلمون والمشركون.

والثاني: العابدون، والمعبودون. وقوله:

{أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ}؟ سؤال توبيخ،

والمراد بشركاؤكم: الأوثان، وإنما، أضافها إليهم لأنهم زعموا أنها شركاء اللّه.

وفي معنى {يَزْعُمُونَ} قولان.

احدهما: يزعمون: أنهم شركاء مع اللّه،

والثاني: يزعمون: أنها تشفع لهم.

٢٣

قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم ثم لم تكن «بالتاء» «فتنتهم» بالرفع وقرأ نافع، وابو عمرو، وأبو بكر، عن عاصم: «تكن» بالتاء أيضا «فتنتهم» بالنصب؛ وقد رويت عن ابن كثير ايضا. وقرأ حمزة، والكسائي، «يكن» بالياء «فتنتهم» بالنصب.

وفي الفتنة أربعة أقوال.

احدها: أنها بمعنى: الكلام والقول. قال ابن عباس، والضحاك، لم يكن كلامهم.

والثاني: أنها المعذرة، قال قتادة، وابن زيد، لم تكن معذرتهم. قال ابن الأنباري فالمعنى: اعتذروا بما هو مهلك لهم، وسبب لفضيحتهم.

والثالث: أنها بمعنى: البلية. قال عطاء الخراساني: لم تكن بليتهم وقال ابو عبيد: لم تكن بليتهم التي ألزمتهم الحجة، وزادتهم لائمة.

والرابع: أنها بمعنى الافتتان. والمعنى: لم تكن عاقبة فتنتهم. قال الزجاج: لم يكن افتتانهم بشركهم، وإقامتهم عليه، إلا أن تبرؤوا منه. ومثل ذلك في اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا، فاذا وقع في هلكة تبرأ منه؛ فيقول ما كانت محبتك لفلان إلا أن انتفيت منه. قال: وهذا تأويل لطيف لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام، وتصرف العرب في ذلك.وقال ابن الأنباري: المعنى: أنهم افتتنوا بقولهم هذا، إذا كذبوا فيه، ونفوا عن أنفسهم ما كانوا معروفين به في الدنيا. قوله تعالى:

{إِلاَّ أَن قَالُواْ وَٱللّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}. قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وعاصم، وابن عامر: {وَٱللّه رَبّنَا} بكسر الباء، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، بنصب الراء.

وفي هؤلاء القوم الذين هذا وصفهم قولان.

احدهما: أنهم المشركون،

والثاني: المنافقون.

ومتى يحلفون؟ فيه ثلاثة أقوال.

احدها: إذا رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما، قالوا: تعالوا نكابر عن شركنا، فحلفوا، قاله ابن عباس.

والثاني: أنهم إذا دخلوا النار، ورأوا أهل التوحيد يخرجون حلفوا، واعتذروا قاله سعيد بن جبير، ومجاهد.

والثالث: أنهم إذا سئلوا أين شركاؤكم؟ تبرؤوا، وحلفوا: ما كنا مشركين، قاله مقاتل.

٢٤

قوله تعالى: {ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ} أي: باعتذارهم بالباطل.

{وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}. أي: ذهب ما كانوا يدعون ويختلقون من أن الاصنام شركاء للّه، وشفعاؤهم في الآخرة.

٢٥

انظر تفسير الآية: ٢٦

٢٦

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ}

سبب نزولها: أن نفرا من المشركين منهم عتبة، وشيبة، والنضر بن الحارث، وأمية، وأبي، ابنا خلف، جلسوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، واستمعوا إليه، ثم قالوا، للنضر بن الحارث: ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بنية ما أدري ما يقول؟ إلا أني أرى تحرك شفتيه وما يقول، إلا أساطير الأولين، مثلما كنت أحدثكم عن القرون الماضية؛ وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. فأما«الأكنة» فقال الزجاج: هي جمع كنان، وهو الغطاء؛ مثل عنان وأعنة.

وأما{أَن يَفْقَهُوهُ}: فمنصوب على انه مفعول له. المعنى: وجعلنا على قلوبهم أكنة لكراهة أن يفقهوه، فلما حذفت اللام نصبت الكراهة، ولما حذفت الكراهة، انتقل نصبها إلى «أن». الوقر: ثقل السمع، يقال: في أذنه وقر، وقد وقرت الأذن، توقر.

قال الشاعر:

وكلام سيء قد وقرت أذني عنه وما بي من صمم

الوقر: بكسر الواو أن يحمل البعير وغيره مقدار ما يطيق، يقال: عليه وقر، ويقال: نخلة موقر، وموقرة، وإنما فعل ذلك بهم مجازاة لهم باقامتهم على كفرهم، وليس المعنى أنهم لم يفهموه، ولم يسمعوه؛ ولكنهم لما عدلوا عنه، وصرفوا فكرهم عما عليهم في سوء العاقبة، كانوا بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع.

{وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءايَةٍ} أي: كل علامة تدل على رسالتك،

{لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا}. ثم أعلم اللّه عز وجل مقدار احتجاجهم وجدلهم، وأنهم إنما يستعملون في الاحتجاج أن يقولوا:

{إِنَّ هَذَا} أي: ما هذا

{إلا اساطير الأولين} وفيها قولان.

احدهما: أنها ما سطر من أخبارهم وأحاديثهم، روى ابو صالح، عن ابن عباس قال: أساطير الأولين:كذبهم، وأحاديثهم في دهرهم، وقال أبو الحسن الاخفش: يزعم بعضهم: أن واحدة الأساطير أسطورة،

وقال بعضهم: أساطيرة، ولا أراه إلا من الجمع الذي ليس له واحد، نحو: عباديد، ومذاكير، وأبابيل. وقال ابن قتيبة: أساطير الأولين: أخبارهم، وما سطر منها، أي: ما كتب، ومنه قوله {ن وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} أي: يكتبون، واحدها سطر، ثم اسطار، ثم اساطير جمع الجمع، مثل: قول، وأقوال، وأقاويل.

والقول الثاني: أن معنى أساطير الأولين: الترهات، قال أبو عبيدة: واحد الأساطير: أسطورة، وإسطارة، ومجازها مجاز الترهات. قال ابن الأنباري: الترهات عند العرب: طرق غامضة، ومسالك مشكلة، يقول قائلهم: قد أخذنا في ترهات البسابس، يعني: قد عدلنا عن الطريق الواضح إلى المشكل؛ وعما يعرف إلى مالا يعرف. و«البسابس»: الصحاري الواسعة، والترهات: طرق تتشعب من الطريق الأعظم فتكثر وتشكل، فجعلت مثلا لما لا يصح وينكشف.

فان قيل: لم عابوا القرآن بأنه أساطير الأولين، وقد سطر الأولون ما فيه علم وحكمة،وما لا عيب على قائله؟

فعنه جوابان.

احدهما: أنهم نسبوه إلى أنه ليس بوحي من اللّه .

والثاني: أنهم عابوه بالإشكال والغموض، استراحة منهم إلى البهت والباطل. فعلى الجواب الأول تكون «أساطير» من التسطير، وعلى الثاني تكون بمعنى الترهات، وقد شرحنا معنى الترهات. قوله تعالى:

{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} في سبب نزولها قولان.

احدهما: أن أبا طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ويتباعد عما جاء به، فنزلت فيه هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو قول عمرو بن دينار، وعطاء بن دينار، والقاسم بن مخيمرة، وقال مقاتل. كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبي صلى اللّه عليه وسلم سوءا، فسألوا أبا طالب أن يدفعه إليهم فيقتلوه، فقال: مالي عنه صبر، فقالوا: ندفع إليك من شبابنا من شئت مكان ابن أخيك، فقال أبو طالب حين تروح الإبل، فان حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم، وقال:

واللّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر وقر بذاك منك عيونا

وعرضت دينا لا محالة أنه من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذاري سبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا

فنزلت فيه هذه الآية.

والثاني: أن كفار مكة كانوا ينهون الناس عن اتباع النبي صلى اللّه عليه وسلم، ويتباعدون بأنفسهم عنه، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال ابن الحنفية، والضحاك، والسدي، فعلى القول الأول: يكون قوله: «وهم» كناية عن واحد؛ وعلى الثاني: عن جماعة.

وفي هاء عنه قولان.

احدهما: أنها ترجع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، ثم فيه قولان.

احدهما: ينهون عن اذاه،

والثاني: عن اتباعه.

والقول الثاني: أنها ترجع إلى القرآن، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد. وينأون: بمعنى: يبعدون،

وفي هاء عنه قولان.

احدهما: أنها راجعة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم.

والثاني: إلى القرآن.

قوله تعالى: {وَإِن يُهْلِكُونَ} أي: وما يهلكون {إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} بالتباعد عنه،

{وَمَا يَشْعُرُونَ} أنهم يهلكونها.

٢٧

قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى ٱلنَّارِ}

في معنى وقفوا ستة اقوال.

احدها: حبسوا عليها، قاله ابن السائب.

والثاني: عرضوا عليها، قاله مقاتل.

والثالث: عاينوها.

والرابع: وقفوا عليها وهي تحتهم.

والخامس: دخلوا إليها فعرفوا مقدار عذابها، تقول: وقفت على ما عند فلان، أي: فهمته وتبينته، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الزجاج، واختار الأخير. وقال ابن جرير: «على» هاهنا بمعنى «في».

والسادس: جعلوا عليها وقفا، كالوقوف المؤبدة على سبلها، ذكره الماوردي. والخطاب بهذه الآية للنبي صلى اللّه عليه وسلم، والوعيد للكفار، وجواب «لو» محذوف، ومعناه: لو رأيتهم في تلك الحال، لرأيت عجبا. قوله تعالى:

{وَلاَ نُكَذّبَ بِـئَايَـٰتِ رَبّنَا} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم برفع الباء من «نكذب» والنون من نكون.قال الزجاج: والمعنى أنهم تمنوا الرد، وضمنوا أنهم لا يكذبون.

والمعنى: يا ليتنا نرد، ونحن لا نكذب بآيات ربنا، رُدِدْنا أو لم نُردَّ، ونكون من المؤمنين، لأنا قد عاينا مالا نكذب معه أبداً. قال: ويجوز الرفع على وجه آخر، على معنى «يا ليتنا نرد» يا ليتنا لا نكذب، كأنهم تمنوا الرد والتوفيق للتصديق. وقال الأخفش: إذا رفعت جعلته على مثل اليمين، كأنهم قالوا: ولا نكذب واللّه بآيات ربنا، ونكون واللّه من المؤمنين.

وقرأ حمزة إلا العجلي، وحفص عن عاصم، ويعقوب: بنصب الباء من «نكذبَ» والنون من «نكون». قال مكي بن أبي طالب: وهذا النصب على جواب التمني، وذلك بإضمار «أن» حملا على مصدر «نرد» فأضمرت «أن» لتكون مع الفعل مصدراً، فعطف بالواو مصدراً على مصدر. وتقديره: يا ليت لنا ردا، وانتفاءاً من التكذيب، وكونا من المؤمنين.

وقرأ ابن عامر برفع الباء من «نكذبُ» ونصب النون من «نكون»، فالرفع قد بينا علته، والنصب على جواب التمني.

٢٨

{بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل...}

٢٩

قوله تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ} «بل»: هاهنا رد لكلامهم، أي: ليس الأمر على ما قالوا من أنهم لو ردوا لآمنوا. وقال الزجاج: «بل» استدراك وإيجاب بعد نفي، تقول: ما جاء زيد، بل عمرو.

وفي معنى الآية أربعة أقوال.

احدها: بدا ما كان يخفيه بعضهم عن بعض، قاله الحسن.

والثاني: بدا بنطق الجوارح ما كانوا يخفون من قبل بألسنتهم، قاله مقاتل.

والثالث: بدا لهم جزاء ما كانوا يخفونه، قاله المبرد.

والرابع: بدا للأتباع ما كان يخفيه الرؤساء، قاله الزجاج. قوله تعالى:

{وَلَوْ رُدُّواْ لَعَـٰدُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} قال ابن عباس: لعادوا إلى ما نهوا عنه من الشرك، وإنهم لكاذبون في قولهم:

{وَلاَ نُكَذّبَ بِـئَايَـٰتِ رَبّنَا وَنَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ}. قال ابن الانباري: كذبهم اللّه في إخبارهم عن أنفسهم، أنهم إن ردوا، آمنوا ولم يكذبوا، ولم يكذبهم في التمني. قوله تعالى:

{وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا} هذا إخبار عن منكري البعث. قال مقاتل: لما أخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم كفار مكة بالبعث، قالوا: هذا. وكان عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم يقول: هذا حكاية قولهم، لو ردوا لقالوه.

٣٠

قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُواْ عَلَىٰ رَبّهِمْ} قال مقاتل: عرضوا على ربهم

{قَالَ أَلَيْسَ هَـٰذَا} العذاب {بِٱلْحَقّ}.

وقال غيره: أليس هذا البعث حقا؟ فعلى قول مقاتل:

{بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} بالعذاب، وعلى قول غيره: {تَكْفُرُونِ} بالبعث.

٣١

قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء ٱللّه} إنما وصفوا بالخسران، لأنهم باعوا الإيمان بالكفر، فعظم خسرانهم. والمراد بلقاء اللّه: البعث والجزاء؛ والساعة: القيامة والبغتة؛ الفجأة.

قال الزجاج: كل ما أتى فجأة فقد بغت، يقال قد بغته الأمر، يبغته بغتا وبغتة: إذا أتاه فجأة.

قال الشاعر:

ولكنهم بانوا ولم أخش بغتة وأفظع شيء حين يفجؤك البغت

وله تعالى:

{يا حسرتنا} الحسرة: التلهف على الشيء الفائت، وأهل التفسير يقولون: يا ندامتنا.

فان قيل: ما معنى دعاء الحسرة، وهي لا تعقل؟

فالجواب: أن العرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن عظيم ما تقع فيه، جعلته نداء، فتدخل عليه «يا» للتنبيه، والمراد تنبيه الناس، لا تنبيه المنادي، ومثله قولهم لا أرينك هاهنا، لفظه لفظ الناهي لنفسه، والمعنى للمنهي؛ ومن هذا قولهم: يا خيل اللّه اركبي، يراد: يا فرسان خيل اللّه. وقال سيبويه: إذا قلت يا عجباه، فكأنك قلت: احضر وتعال يا عجب، فهذا زمانك. فأما التفريط فهو: التضييع.وقال الزجاج: التفريط في اللغة: تقدمه العجز.

وفي المكني عنه بقوله: فيها ثلاثة أقوال.

احدها: أنها الدنيا، فالمعنى على ما ضيعنا في الدنيا من عمل الآخرة، قاله مقاتل.

والثاني: أنها الصفقة، لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة، وترك ذكرها اكتفاء بذكر الخسران؛ قاله ابن جرير.

والثالث: أنها الطاعة، ذكره بعض المفسرين.

فأما الأوزار، فقال ابن قتيبة: هي الآثام، واصل الوزر: الحمل على الظهر. وقال ابن فارس: الوزر: الثقل.

وهل هذا الحمل حقيقة فيه قولان.

احدهما: أنه على حقيقته. قال عمير بن هانىء: يحشر مع كل كافر عمله في صورة رجل قبيح، كلما كان هول عظمه عليه، وزاده خوفا، فيقول: بئس الجليس أنت، مالي ولك؟ فيقول: أنا عملك طالما ركبتني في الدنيا، فلأركبنك اليوم حتى أُخزيك على رؤوس الناس، فيركبه ويتخطى به الناس حتى يقف بين يدي ربه، فذلك قوله:

{فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ} وهذا قول السدي، وعمرو بن قيس الملائي، ومقاتل.

والثاني: أنه مثل، والمعنى: يحملون ثقل ذنوبهم، قاله الزجاج. قال: فجعل ما ينالهم من العذاب بمنزلة أثقل ما يتحمل، ومعنى

{أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ}: بئس الشيء شيئا يزرونه، أي يحملونه.

٣٢

قوله تعالى: {وَمَا ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} فيه ثلاثة اقوال.

احدها: وما الحياة الدنيا في سرعة انقطاعها، وقصر عمرها، إلا كالشيء يلعب به.

والثاني: وما أمر الدنيا والعمل لها إلا لعب ولهو، فأما فعل الخير، فهو من عمل الآخرة لا من الدنيا.

والثالث: وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو، لاشتغالهم عما أمروا به. واللعب: مالا يجدي نفعا. قوله تعالى:

{وَلَلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ خَيْرٌ} اللام: لام القسم، والدار الآخرة: الجنة،

{أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} فيعملون لها. قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وحمزة، والكسائي، «يعقلون» بالياء في {ٱلاْنْعَـٰمِ}، و{ٱلاْعْرَافِ}، {وَيُوسُفَ}، و{يس}، وقرؤوا في {ٱلْقَصَصِ}، بالتاء. وقرأ نافع كل ذلك بالياء، وروى حفص عن عاصم كل ذلك بالتاء، إلا في {يس}

{فِى ٱلْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ}، بالياء، وقرأ ابن عامر الذي في {يس} بالياء، والباقي بالتاء.

٣٣

قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِى يَقُولُونَ}.

في سبب نزولها أربعة أقوال.

احدها: أن رجلا من قريش يقال له الحارث بن عامر، قال: واللّه يا محمد ما كذبتنا قط فنتهمك اليوم، ولكنا إن نتبعك نتخطف من ارضنا، فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال مقاتل: كان الحارث بن عامر يكذب النبي في العلانية، فاذا خلا مع أهل بيته، قال: ما محمد من أهل الكذب، فنزلت فيه هذه الآية.

والثاني: أن المشركين كانوا إذا رأوا النبي صلى اللّه عليه وسلم، قالوا فيما بينهم: إنه لنبي، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح.

والثالث: أن أبا جهل قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نكذب الذي جئت به، فنزلت هذه الآية، قاله ناجية بن كعب. وقال أبو يزيد المدني: لقي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا جهل فصافحه أبو جهل، فقيل له: أتصافح هذا الصابى، فقال: واللّه إني لأعلم أنه نبي، ولكن متى كنا تبعا لبني عبد مناف؟ فأنزل اللّه هذه الآية.

والرابع: أن الأخنس بن شريق لقي أبا جهل، فقال الأخنس: يا ابا الحكم، أخبرني عن محمد اصادق هو أم كاذب؟ فليس هاهنا من يسمع كلامك غيري. فقال أبو جهل: واللّه إن محمدا لصادق، وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء، والسقاية، والحجابة، والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فنزلت هذه الآية، قاله السدي.

فأما {ٱلَّذِى يَقُولُونَ} فهو: التكذيب للنبي صلى اللّه عليه وسلم، والكفر باللّه. وفي الآية تسلية للنبي صلى اللّه عليه وسلم وتعزية عما يواجهون به. قوله تعالى:

{فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ} قرأ نافع، والكسائي، يكذبونك بالتخفيف وتسكين الكاف.

وفي معناها قولان.

احدهما: لا يلفونك كاذبا، قاله ابن قتيبة.

والثاني: لا يكذبون الشيء الذي جئت به،إنما يجحدون آيات اللّه، ويتعرضون لقعوباته. قال ابن الانباري: وكان الكسائي يحتج لهذه القراءة بأن العرب تقول: كذبت الرجل إذا نسبته إلى الكذب وصنعة الاباطيل من القول؛ وأكذبته: إذا أخبرت أن الذي يحدث به كذب، ليس هو الصانع له. قال: وقال غير الكسائي: يقال: أكذبت الرجل:إذا أدخلته في جملة الكذابين، ونسبته إلى صفتهم، كما يقال: أبخلت الرجل: إذا نسبته إلى البخل، وأجبنته: إذا وجدته جبانا،

قال الشاعر:

فطائفة قد أكفروني بحبكم وطائفة قالوا مسيء ومذنب

قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وعاصم، وحمزة، وابن عامر: «يكذبونك» بالتشديد وفتح الكاف؛

وفي معناها خمسة اقوال.

احدها: لا يكذبونك بحجة، وإنما هو تكذيب عناد وبهت، قاله قتادة، والسدي.

والثاني: لا يقولون لك: إنك كاذب، لعلمهم بصدقك، ولكن يكذبون ما جئت به، قاله ناجية بن كعب.

والثالث: لا يكذبونك في السر، ولكن يكذبونك في العلانية، عداوة لك، قاله ابن السائب، ومقاتل.

والرابع: لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم: كذبت.

والخامس: لا يكذبونك بقلوبهم، لأنهم يعلمون أنك صادق، ذكر القولين الزجاج. وقال أبو علي: يجوز أن يكون معنى القراءتين واحدا وإن اختلفت اللفظتان، إلا أن «فعلتُ»: إذا ارادوا أن ينسبوه إلى أمر أكثر من «أفعلت». ويؤكد أن القراءتين بمعنىً، ما حكاه سيبويه. أنهم قالوا: قللت، وأقللت، وكثرت، وأكثرت، بمعنىً.قال أبو علي: ومعنى لا يكذبونك، لا يقدرون أن ينسبوك إلى الكذب فيما أخبرت به مما جاء في كتبهم، ويجوز أن يكون معنى الحقيقة: لا يصادفونك كاذبا، كما يقال: أحمدت الرجل: إذا اصبته محمودا، لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة،

{وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِـئَايَـٰتِ ٱللّه يَجْحَدُونَ} بألسنتهم ما يعلمونه يقيناً، لعنادهم.

وفي آيات اللّه هاهنا ثلاثة أقوال.

احدها: أنها محمد صلى اللّه عليه وسلم، قاله السدي.

والثاني: محمد والقرآن، قاله ابن السائب.

والثالث: القرآن، قاله مقاتل.

٣٤

قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ} هذه تعزية له على ما يلقى منهم. قال ابن عباس: {فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذّبُواْ} رجاء ثوابي،

{وَأُوذُواْ} حتى نشروا بالمناشير وحرقوا بالنار

{حَتَّىٰ أَتَـٰهُمْ نَصْرُنَا} بتعذيب من كذبهم. قوله تعالى:

{وَلاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَـٰتِ ٱللّه} فيه خمسة أقوال.

احدها: لا خلف لمواعيده، قاله ابن عباس.

والثاني: لا مبدل لما أخبر به وما أمر به، قاله الزجاج.

والثالث: لا مبدل لحكوماته، وأقضيته النافذة في عباده، فعبرت الكلمات عن هذا المعنى، كقوله:

{وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ ٱلْعَذَابِ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ} أي: وجب ما قضي عليهم. فعلى هذا القول، والذي قبله، يكون المعنى: لا مبدل لحكم كلمات اللّه، ولا ناقض لما حكم به، وقد حكم بنصر أنبيائه بقوله: {لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى}.

والرابع: أن معنى الكلام معنى النهي، وإن كان ظاهره الإخبار، فالمعنى: لا يبدلن أحد كلمات اللّه، فهو كقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ}.

والخامس: أن المعنى: لا يقدر أحد على تبديل كلام اللّه، وإن زخرف واجتهد، لأن اللّه تعالى صانه برصين اللفظ، وقويم الحكم، أن يختلط بألفاظ أهل الزيغ، ذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن الأنباري. قوله تعالى:

{وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ} أي: فيما صبروا عليه من الأذى فنصروا.

وقيل: إن «من»: صلة.

٣٥

قوله تعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} سبب نزولها: أن الحارث ابن عامر أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم في نفر من قريش فقال: يا محمد، ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات، فإن فعلت آمنا بك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وكبر بمعنى: «عظم».

وفي إعراضهم قولان.

احدهما: عن استماع القرآن.

والثاني: عن اتباع النبي صلى اللّه عليه وسلم. فأما«النفق»، فقال ابن قتيبة: النفق في الأرض: المدخل، وهو السَّرب. والسلم في السماء: المصعد. وقال الزجاج: النفق: الطريق النافذ في الأرض. والنافقاء، ممدود أحد جحرة اليربوع يخرقه من باطن الأرض إلى جلدة الأرض، فاذا بلغ الجلدة أرقها، حتى إن رابه ريب دفع برأسه ذلك المكان وخرج، ومنه سمي المنافق، لأنه أبطن غير ما أظهر، كالنافقاء الذي ظاهره غير بين، وباطنه حفر في الأرض. و«السلم» مشتق من السلامة، وهو الشيء الذي يسلمك إلى مصعدك. والمعنى: فان استطعت هذا فافعل، وحذف «فافعل»، لأن في الكلام دليلا عليه. وقال أبو عبيدة: السلم: السبب والمرقاة، تقول: اتخذتني سلما لحاجتك، أي: سببا.

وفي قوله: {وَإِن كَانَ} قولان.

احدهما: بآية قد سألوك إياها، وذلك أنهم سألوا نزول ملك، ومثل آيات الأنبياء، كعصا موسى، وناقة صالح.

والثاني: بآية هي أفضل من آيتك. قوله تعالى:

{وَلَوْ شَاء ٱللّه لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ}

فيه ثلاثة أقوال.

احدها: لو شاء أن يطبعهم على الهدى لطبعهم.

والثاني: لو شاء لأنزل ملائكة تضطرهم إلى الإيمان، ذكرهما الزجاج.

والثالث: لو شاء لآمنوا كلهم، فأخبر إنما تركوا الإيمان بمشيئته، ونافذ قضائه. قوله تعالى:

{فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: لا تجهل أنه لو شاء لجمعهم على الهدى.

والثاني: لا تجهل أنه يؤمن بك بعضهم، ويكفر بعضهم.

والثالث: لا تكونن ممن لا صبر له، لأن قلة الصبر من أخلاق الجاهلين.

٣٦

قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ يَسْمَعُونَ} أي: إنما يجيبك من يسمع، والمراد به سماع قبول.

وفي المراد بالموتى قولان.

احدهما: أنهم الكفار، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة، فيكون المعنى إنما: يستجيب المؤمنون؛ فأما الكفار، فلا يستجيبون حتى يبعثهم اللّه، ثم يحشرهم كفارا، فيجيبون اضطرارا.

والثاني: أنهم الموتى حقيقةً، ضربهم اللّه مثلاً، والمعنى: أن الموتى لا يستجيبون حتى يبعثهم اللّه، فكذلك الذين لا يسمعون. قوله تعالى:

{ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يعني: المؤمنين والكافرين، فيجازي الكل.

٣٧

قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} قال ابن عباس: نزلت في رؤساء قريش. و«لولا» بمعنى: «هلا» وقد شرحناها في سورة {ٱلنّسَاء}. وقال مقاتل: أرادوا بالآية مثل آيات الأنبياء. وقال غيره: أرادوا نزول ملك يشهد له بالنبوة. وفي قوله تعالى:

{وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ثلاثة أقوال.

احدها: لا يعلمون بأن اللّه قادر على إنزال الآية.

والثاني: لا يعلمون ما عليهم من البلاء في إنزالها، لأنهم إن لم يؤمنوا بها زاد عذابهم.

والثالث: لا يعلمون المصلحة في نزول الآية.

٣٨

قوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى ٱلاْرْضِ} قال ابن عباس: يريد كل ما دب على الأرض. قال الزجاج: وذكر الجناحين توكيد، وجميع ما خُلق لا يخلو إما أن يدب وإما أن يطير. قوله تعالى:

{إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَـٰلُكُمْ} قال مجاهد: أصناف مصنفة. وقال أبو عبيدة: أجناس يعرفون اللّه ويعبدونه.

وفي معنى أمثالكم أربعة أقوال.

احدها: أمثالكم في كون بعضها يفقه عن بعض، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: في معرفة اللّه، قاله عطاء.

والثالث: أمثالكم في الخلق والموت والبعث، قاله الزجاج.

والرابع: أمثالكم في كونها تطلب الغذاء، وتبتغي الرزق، وتتوقى المهالك، قاله ابن قتيبة. قال ابن الانباري: وموضع الاحتجاج من هذه الآية أن اله تعالى ركب في المشركين عقولاً، وجعل لهم أفهاما ألزمهم بها أن يتدبروا أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم ويتمسكوا بطاعته، كما جعل للطير أفهاما يعرف بها بعضها إشارة بعض، وهدى الذكر منها لإتيان الأنثى، وفي كل ذلك دليل على نفاذ قدرة المركب ذلك فيها. قوله تعالى:

{مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ مِن شَىْء} في الكتاب قولان.

احدهما: أنه اللوح المحفوظ. روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس: ما تركنا شيئا إلا وقد كتبناه في أم الكتاب، وإلى هذا المعنى ذهب قتادة، وابن زيد.

والثاني: أنه القرآن، روى عطاء عن ابن عباس: ما تركنا من شيء إلا وقد بيناه لكم. فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون المعنى: ما فرطنا في شيء بكم إليه حاجة إلا وبيناه في الكتاب، إما نصا، وإما مجملا، وإما دلالة، كقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء} [١٦،٨٩] أي: لكل شيء يحتاج إليه في أمر الدين. قوله تعالى:

{ثُمَّ إِلَىٰ رَبّهِمْ يُحْشَرُونَ} فيه قولان.

احدهما: أنه الجمع يوم القيامة. روى أبو ذر قال: انتطحت شاتان عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا أبا ذر أتدري فيما انتطحتا؟ قلت: لا، قال: لكن اللّه يدري وسيقضي بينهما. وقال أبو هريرة: يحشر اللّه الخلق يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابا، فيقول الكافر: ياليتني كنت ترابا.

والثاني: أن معنى حشرها: موتها، قاله ابن عباس، والضحاك.

٣٩

قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا} يعني: ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم {صُمٌّ} عن القرآن لا يسمعونه، {وَبُكْمٌ} عنه لا ينطقون به،

{فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ} أي: في الشرك والضلالة.

{مَن يَشَإِ ٱللّه يُضْللّه} فيموت على الكفر،

{وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو الإسلام.

٤٠

قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم} قرأ ابن كثير، وعاصم، وابو عمرو، وابن عامر، وحمزة: «أرأيتم» و«أرأيتكم» و«أرأيت» بالألف في كل القرآن مهموزاً، وليّن الهمزة نافع في الكل. وقرأ الكسائي بغير همز ولا ألف. قال الفراء: العرب تقول: أرأيتك وهم يريدون: أخبرني. فأما عذاب اللّه، ففي المراد به هاهنا قولان.

احدهما: أنه الموت، قاله ابن عباس.

والثاني: العذاب الذي كان يأتي الأمم الخالية، قاله مقاتل.فأما الساعة، فهي القيامة. قال الزجاج: وهو اسم للوقت الذي يصعق فيه العباد، وللوقت الذي يبعثون فيه. قوله تعالى:

{أَغَيْرَ ٱللّه تَدْعُونَ} أي: أتدعون صنما أو حجرا لكشف ما بكم؟ٰ فاحتج عليهم بما لا يدفعونه، لأنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا اللّه. وقوله تعالى:

{إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ} جواب لقوله: «أرأيتكم» لأنه بمعنى أخبروا، كأنه قيل لهم: إن كنتم صادقين فأخبروا من تدعون عند نزول البلاء بكم.

٤١

قوله تعالى: {بَلْ إِيَّـٰهُ تَدْعُونَ} قال الزجاج: أعلمهم أنهم لا يدعون في الشدائد إلا إياه، وفي ذلك أعظم الحجج عليهم، لأنهم عبدوا الأصنام.

{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء} المعنى: فيكشف الضر الذي من أجله دعوتم، وهذا على اتساع الكلام مثل قوله:

{وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ} أي اهل القرية. {وَتَنسَوْنَ}: يجوز أن يكون بمعنى «تتركون» ويجوز أن يكون المعنى: إنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم.

٤٢

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ} في الآية محذوف، تقديره: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا فخالفوهم، فأخذناهم بالبأساء، وفيها ثلاثة أقوال.

احدها: أنها الزمانة والخوف، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: أنها البؤس، وهو الفقر، قاله ابن قتيبة.

والثالث: أنها الجوع، ذكره الزجاج. وفي الضراء ثلاثة أقوال.

احدها: البلاء والجوع، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: النقص في الأموال والأنفس، ذكره الزجاج.

والثالث: الاسقام والأمراض، قاله أبو سليمان. قوله تعالى:

{لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} أي لكي يتضرعوا. والتضرع: التذلل والاستكانة. وفي الكلام محذوف تقديره: فلم يتضرعوا.

٤٣

قوله تعالى: {فَلَوْلا} معناه: {فهلا} والبأس: العذاب. ومقصود الآية: أن اللّه تعالى أعلم نبيه صلى اللّه عليه وسلم أنه قد أرسل إلى قوم قبله بلغوا من القسوة أنهم أخذوا بالشدائد، فلم يخضعوا وأقاموا على كفرهم، وزين لهم الشيطان ضلالتهم فأصروا عليها.

٤٤

قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ} قال ابن عباس: تركوا ما وعظوا به.

{فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء} يريد: رخاء الدنيا وسرورها. وقرأ أبو جعفر، وابن عامر: {فَتَحْنَا} بالتشديد هنا وفي {ٱلاْعْرَافِ} وفي {ٱلاْنْبِيَاء} فُتِحَتْ وفي

{ٱلْقَمَرُ} {فَتَحْنَا}، والجمهور على تخفيفهن. قال الزجاج:

{أَبْوَابَ كُلّ شَىْء} كان مغلقا عنهم من الخير، حتى إذا ظنوا أن ما كان نزل بهم، لم يكن انتقاما، وما فتح عليهم، باستحقاقهم،

{أَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً} أي: فاجأهم عذابنا. وقال ابن الانباري: إنما أراد بقوله

{كُلّ شَىْء}: التأكيد، كقول القائل: أكلنا عند فلان كل شيء، وكنا عنده في كل سرور، يريد بهذا العموم تكثير ما يصفه والإطناب فيه، كقوله:

{وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء} وقال الحسن: من وسع عليه فلم ير أنه لم يمكر به، فلا رأي له، ومن قتر عليه، فلم ير أنه ينظر له، فلا رأي له، ثم قرأ هذه الآية، وقال: مكر بالقوم ورب الكعبة أعطوا حاجاتهم، ثم أخذوا. قوله تعالى:

{فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} في المبلس خمسة اقوال.

احدها: أنه الآيس من رحمة اللّه عز وجل، رواه الضحاك عن ابن عباس؛ وقال في رواية أخرى: الآيس من كل خير. وقال الفراء: المبلس: اليائس المنقطع رجاؤه، ولذلك قيل: للذي يسكت عند انقطاع حجته، فلا يكون عنده جواب: قد أبلس.

قال العجاج: يا صاح هل تعرف رسما مكرسا قال نعم أعرفه وأبلساأي: لم يحر جوابا.

وقيل: المكرس: الذي قد بعرت فيه الإبل، وبولت، فيركب بعضه بعضا.

والثاني: أنه المفتضح، قال مجاهد: الإبلاس: الفضيحة.

والثالث: أنه المهلك، قاله السدي.

والرابع: أنه المجهود المكروب الذي قد نزل به من الشر مالا يستطيعه، قاله ابن زيد.

والخامس: أنه الحزين النادم، قاله أبو عبيدة،

وأنشد لرؤبة:

وحضرت يوم الخميس الأخماس وفي الوجوه صفرة وإبلاس

اي: اكتئاب، وكسوف، وحزن. وقال الزجاج: هو الشديد الحسرة، الحزين، اليائس. وقال في موضع آخر: المبلس: الساكت المتحير.

٤٥

قوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ} قال ابن السائب: دابرهم: الذي يتخلف في آخرهم. والمعنى: أنهم استؤصلوا. وقال أبو عبيدة: دابرهم: آخرهم الذي يدبرهم. قال ابن قتيبة: هو كما يقال: اجتث أصلهم.

قال المفسرون: وإنما حمد نفسه على قطع دابرهم، لأن ذلك إنعام على رسلهم الذين كذبوهم، وعلم الحمد على كفايته شر الظالمين.

٤٦

قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللّه سَمْعَكُمْ وَأَبْصَـٰرَكُمْ} أي: أذهبها،

{وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ} حتى لا تعرفون شيئا،

{مَّنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللّه يَأْتِيكُمْ بِهِ}

في هاء به ثلاثة اقوال.

احدها: أنها تعود على الفعل، والمعنى: يأتيكم بما أخذ اللّه منكم، قاله الزجاج. وقال الفراء: إذا كنيت عن الأفاعيل، وإن كثرت، وحدت الكناية، لقولك للرجل: إقبالك وإدبارك يؤذيني.

والثاني: أنها تعود إلى الهدى، ذكره الفراء. فعلى هذا تكون الكناية عن غير مذكور، ولكن المعنى يشتمل عليه، لأن من أخذ سمعه وبصره وختم على قلبه لم يهتد.

والثالث: أنها تعود على السمع، ويكون ما عطف عليه داخلا معه في القصة، لأنه معطوف عليه، ذكره الزجاج. والجمهور يقرؤون:

{مَّنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللّه يَأْتِيكُمْ بِهِ ٱنْظُرْ} بكسر هاء «به».

وروى المسيبي، عن نافع: {بِهِ ٱنْظُرْ} بالضم. قال أبو علي: من كسر، حذف الياء التي تلحق الهاء، في نحو: بهي عيب؛ ومن ضم فعلى قول من قال: فخسفنا بهو وبدارهو الأرض، فحذف الواو. قوله تعالى:

{ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ ٱلاْيَـٰتِ} قال مقاتل: يعني تكون العلامات في أمور شتى، فيخوفهم بأخذ الأسماع والأبصار والقلوب، وبما صنع بالأمم الخالية

{ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} أي: يعرضون فلا يعتبرون.

٤٧

قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـٰكُمْ عَذَابُ ٱللّه بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} قال الزجاج: البغتة: المفاجأة؛ والجهرة: أن يأتيهم وهم يرونه.

{هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} أي: هل يهلك إلا أنتم ومن أشبهكم، لأنكم كفرتم معاندين، فقد علمتم أنكم ظالمون.

٤٨

انظر تفسير الآية: ٤٩

٤٩

قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشّرِينَ} أي: بالثواب؛ ومنذرين بالعقاب، وليس إرسالهم ليأتوا بما يقترحونه من الآيات. ثم ذكر ثواب من صدق، وعقاب من كذب في تمام الآية والتي بعدها. وقال ابن عباس: يفسقون: بمعنى: يكفرون.

٥٠

قوله تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ ٱللّه} سبب نزولها: أن أهل مكة قالوا: يا محمد، لو أنزل اللّه عليك كنزا فتستغني به، فانك فقير محتاج، أو تكون لك جنة تأكل منها، فانك تجوع، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.قال الزجاج: وهذه الآية متصلة بقوله

{لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} فأعلمهم أنه لا يملك خزائن اللّه التي منها يرزق ويعطي، ولا يعلم الغيب فيخبرهم به إلا بوحي، ولا يقول: إنه ملك، لأن الملك يشاهد من أمور اللّه تعالى مالا يشاهده البشر، وقرأ ابن مسعود، وابن جبير، وعكرمة، والجحدري: «إني ملك» بكسر اللام وفي الأعمى والبصير قولان.

احدهما: أن الأعمى: الكافر، والبصير: المؤمن، قاله ابن عباس، وقتادة.

والثاني: الأعمى: الضال، والبصير: المهتدي، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد.

وفي قوله: {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} قولان.

احدهما: فيما بين لكم من الآيات الدالة على وحدانيته، وصدق رسوله.

والثاني: فيما ضرب لكم من مثل الأعمى والبصير، وأنهما لا يستويان.

٥١

قوله تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ} قال الزجاج: يعني بالقرآن، وإنما ذكر الذين يخافون الحشر دون غيرهم، وإن كان منذرا لجميع الخلق، لأن الحجة على الخائفين الحشر أظهر، لاعترافهم بالمعاد، فهم أحد رجلين: إما مسلم، فينذر ليؤدي حق اللّه عليه في إسلامه، وإما كتابي، فأهل الكتاب مجمعون على البعث. وذكر الولي والشفيع، لأن اليهود والنصارى ذكرت أنها أبناء اللّه وأحباؤه، فأعلم عز وجل أن أهل الكفر ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع.

وقال غيره: ليس لهم من دونه ولي، أي: ليس لهم غير اللّه ولي ولا شفيع، لأن شفاعة الشافعين بأمره. وقال أبو سليمان الدمشقي: هذه الآية متعلقة بقوله: {قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً قُلِ}.

٥٢

قوله تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} روى سعد بن أبي وقاص قال: نزلت هذه الآية في ستة: فيَّ، وفي ابن مسعود، وصهيب، وعمار، والمقداد، وبلال. قالت قريش لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهؤلاء، فاطردهم عنك، فدخل على رسول اللّه من ذلك ما شاء اللّه أن يدخل، فنزلت هذه الآية. وقال خباب بن الأرت: نزلت فينا، كنا ضعفاء عند النبي صلى اللّه عليه وسلم، يعلمنا بالغداة والعشي ما ينفعنا، فجاء الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، فقالا: إنا من أشراف قومنا، وإنا نكره أن يرونا معهم، فاطردهم، إذا جالسناك. قال: «نعم». فقالوا: لا نرضى حتى تكتب بيننا كتابا، فأتُي بأديم ودواة، ودعا عليا ليكتب، فلما أراد ذلك، ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بقوله تعالى:

{وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} إلى قوله {فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}، فرمى بالصحيفة ودعانا، فأتيناه وهو يقول:

{سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ}. فدنونا منه يومئذ حتى وضعنا ركبنا على ركبته. وقال ابن مسعود: مر الملأ من قريش على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعنده خباب، وصهيب، وبلال، وعمار، فقالوا: يا محمد، رضيت بهؤلاء، أتريد أن نكون تبعا لهم؟ٰ فنزلت {وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ}. وقال عكرمة: جاء عتبة، وشيبة ابنا ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث بن نوفل، في أشراف بني عبد مناف، إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وعبيدنا كان أعظم في صدورنا، وأدنى لاتباعنا إياه، فأتاه أبو طالب فحدثه بذلك، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون، فنزلت هذه الآيات، فأقبل عمر يعتذر من مقالته. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن هذه الآيات نزلت في الموالي، منهم بلال، وصهيب، وخباب، وعمار، ومهجع، وسلمان، وعامر ابن فهيرة، وسالم مولى أبي حذيفة، وأن قوله:

{وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَىٰ رَبّهِمْ} نزلت فيهم أيضا.وقد روى العوفي عن ابن عباس: أن ناسا من الأشراف قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم: نؤمن لك، وإذا صلينا فأخر هؤلاء الذين معك، فليصلوا خلفنا. فعلى هذا، إنما سألوه تأخيرهم عن الصف، وعلى الأقوال التي قبله، سألوه طردهم عن مجلسه. قوله تعالى:

{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} في هذا الدعاء خمسة أقوال.

احدها: أنه الصلاة المكتوبة، قاله ابن عمر، وابن عباس. وقال مجاهد: هي الصلوات الخمس؛ وفي رواية عن مجاهد، وقتادة قالا: يعني صلاة الصبح والعصر. وزعم مقاتل أن الصلاة يومئذ كانت ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي، ثم فرضت الصلوات الخمس بعد ذلك.

والثاني: أنه ذكر اللّه تعالى، قاله إبراهيم النخعي، وعنه كالقول الأول.

والثالث: أنه عبادة اللّه، قاله الضحاك.

والرابع: أنه تعلم القرآن غدوة وعشية، قاله أبو جعفر.

والخامس: أنه دعاء اللّه بالتوحيد، والإخلاص له، وعبادته، قاله الزجاج. وقرأ الجمهور: {بِٱلْغَدَاةِ} وقرأ ابن عامر هاهنا وفي {ٱلْكَهْفِ} أيضا: {بالغدوة} بضم الغين وإسكان الدال وبعدها واو. قال الفراء: والعرب لا تدخل الألف واللام على {الغدوة} لأنها معرفة بغير ألف ولام، ولا تضيفها العرب؛ يقولون: أتيتك غداة الخميس، ولا يقولون: غدوة الخميس، فهذا دليل على أنها معرفة.وقال أبو علي: الوجه: الغداة، لأنها تستعمل نكرة، وتتعرف باللام؛ وأما غدوة، فمعرفة. وقال الخليل: يجوز أن تقول أتيتك اليوم غدوة وبكرة، فجعلها بمنزلة ضحوة، فهذا وجه قراءة ابن عامر.

فان قيل: دعاء القوم كان متصلا بالليل والنهار، فلماذا خص الغداة والعشي،

فالجواب: أنه نبه بالغداة على جميع النهار، وبالعشي على الليل، لأنه إذا كان عمل النهار خالصا له، كان عمل الليل أصفى. قوله تعالى:

{وَٱلْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} قال الزجاج: أي: يريدون اللّه، فيشهد اللّه لهم بصحة النيات، وأنهم مخلصون في ذلك.

وأما الحساب المذكور في الآية ففيه ثلاثة أقوال.

احدها: أنه حساب الأعمال، قاله الحسن.

والثاني: حساب الأرزاق.

والثالث: أنه بمعنى الكفاية، والمعنى ما عليك من كفايتهم، ولا عليهم كفايتك. قوله تعالى:

{فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} قال ابن الأنباري: عظم هذا الأمر على النبي صلى اللّه عليه وسلم، وخُوِفَ بالدخول في جملة الظالمين، لأنه كان قد هم بتقديم الرؤساء على الضعفاء.

٥٣

قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} المعنى: وكما ابتلينا قبلك الغني بالفقير، ابتلينا أيضا بعضهم ببعض،

و{فَتَنَّا} بمعنى: ابتلينا واختبرنا؛ {لّيَقُولواْ} يعني الكبراء؛

{أَهَـٰؤُلاء} يعنون الفقراء والضعفاء {مَنَّ ٱللّه عَلَيْهِم} بالهدى؟ وهذا استفهام معناه الانكار، كأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة. قال ابن السائب: ابتلى اللّه الرؤساء بالموالي، فاذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله، أنف أن يسلم، ويقول: سبقني هذا. قوله تعالى:

{أَلَيْسَ ٱللّه بِأَعْلَمَ بِٱلشَّـٰكِرِينَ} أي: بالذين يشكرون نعمته إذا من عليهم بالهداية، والمعنى: إنما يهدي اللّه من يعلم أنه يشكر. والاستفهام في «أليس»، معناه التقرير، أي: إنه كذلك.

٥٤

قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِـئَايَـٰتِنَا} اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال.

احدها: أنها نزلت في رجال أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا عظيمة، فسكت عنهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، قاله أنس بن مالك.

والثاني: أنها نزلت في الذين نهى عن طردهم، فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسلام، وقال: الحمد للّه الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام، قاله الحسن، وعكرمة.

والثالث: أنها نزلت في أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة، وجعفر، وعثمان بن مظعون، وأبي عبيدة، ومصعب بن عمير، وسالم، وأبي سلمة، والأرقم ابن أبي الأرقم، وعمار، وبلال، قاله عطاء.

والرابع: أن عمر بن الخطاب كان اشار على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بتأخير الفقراء، استمالة للرؤساء إلى الإسلام. فلما نزلت

{وَلاَ تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} جاء عمر يعتذر من مقالته ويستغفر منها، فنزلت فيه هذه الآية، قاله ابن السائب.

والخامس: أنها نزلت مبشرة باسلام عمر بن الخطاب؛ فلما جاء وأسلم، تلاها عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حكاه أبو سليمان الدمشقي. فأما قوله تعالى:

{يُؤْمِنُونَ بِـئَايَـٰتِنَا} فمعناه: يصدقون بحججنا وبراهيننا. قوله تعالى:

{فَقُلْ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ} فيه قولان.

احدهما: أنه أمر بالسلام عليهم، تشريفا لهم، وقد ذكرناه عن الحسن، وعكرمة.

والثاني: أنه أمر بابلاغ السلام إليهم عن اللّه تعالى، قاله ابن زيد. قال الزجاج: ومعنى السلام: دعاء للانسان بأن يسلم من الآفات. وفي السوء قولان.

احدهما: أنه الشرك،

والثاني: المعاصي. وقد ذكرنا في سورة {ٱلنّسَاء} معنى {الجهالة}. قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وحمزة، والكسائي: {أنه من عمل منكم سوءا}

{فانه غفور} بكسر الألف فيهما. وقرأ عاصم، وابن عامر، بفتح الألف فيهما.

وقرأ نافع: بنصب ألف {إِلَىَّ أَنَّهُ} وكسر ألف {فَأَنَّهُ غَفُورٌ} قال أبو علي: من كسر ألف إنه جعله تفسيرا للرحمة، ومن كسر ألف

{فَأَنَّهُ غَفُورٌ} فلأن ما بعد الفا حكم الابتداء، ومن فتح ألف {أَنَّهُ مَن عَمِلَ} جعل {ءانٍ} بدلا من الرحمة، والمعنى: كتب ربكم أنه من عمل، ومن فتحها بعد الفاء، أضمر خبرا تقديره: فله

{إِنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والمعنى: فله غفرانه، وكذلك قوله تعالى:

{فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} معناه: فله أن له نار جهنم، وأما قراءة نافع، فانه أبدل من الرحمة، واستأنف ما بعد الفاء.

٥٥

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نفَصّلُ ٱلاْيَـٰتِ} أي وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا وأعلامنا على المشركين، كذلك نبين لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل. قال ابن قتيبة: ومعنى تفصيلها: إتيانها متفرقة شيئا بعد شيء. قوله تعالى:

{وَلِتَسْتَبِينَ} وقرأ ابن كثير، وابو عمرو، وابن عامر:

{وَلِتَسْتَبِينَ} بالتاء {سَبِيلٍ} بالرفع. وقرأ نافع، وزيد عن يعقوب: {بالتاء} أيضا، إلا أنهما نصبا السبيل. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {وليستبين} بالياء، {مّن سَبِيلٍ} بالرفع. فمن قرأ {وَلِتَسْتَبِينَ} بالياء أو التاء، فلأن السبيل تذكر وتؤنث على ما بينا في {ءالَ عِمْرَانَ}، ومن نصب اللام، فالمعنى: ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين.

وفي سبيلهم التي بينت له قولان.

احدهما: أنها طريقهم في الشرك، ومصيرهم إلى الخزي، قاله ابن عباس.

والثاني: أنها مقصودهم في طرد الفقراء عنه، وذلك إنما هو الحسد، لا إيثار مجالسته واتباعه، قاله أبو سليمان.

فان قيل: كيف انفردت لام «كي» في قوله: {وَلِتَسْتَبِينَ} وسبيلها أن تكون شرطا لفعل يتقدمها أو يأتي بعدها؟

فقد أجاب عنه ابن الأنباري بجوابين:

احدهما: أنها شرط لفعل مضمر، يراد به: ونفعل ذلك لكي تستبين.

والثاني: انها معطوفة على لام مضمرة، تأويله: نفصل الآيات ليتكشف أمرهم، ولتستبين سبيلهم.

٥٦

قوله تعالى: {قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللّه} يعني الأصنام.

وفي معنى {تَدْعُونَ} قولان.

احدهما: تدعونهم آلهة.

والثاني: تعبدون؛ قاله ابن عباس. وأهواءهم: دينهم. قال الزجاج: أراد إنما عبدتموها على طريق الهوى، لا على طريق البينة والبرهان.

ومعنى {إِذَا} معنى الشرط؛ والمعنى: قد ضللت إن عبدتها. وقرأ طلحة، وابن أبي ليلى: {قَدْ ضَلَلْتُ} بكسر اللام.

٥٧

قوله تعالى: {قُلْ إِنّى عَلَىٰ بَيّنَةٍ مّن رَّبّى} سبب نزولها: أن النضر بن الحارث وسائر قريش قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم: يا محمد ائتنا بالعذاب الذي تعدنا به، استهزاء؛ وقام النضر عند الكعبة وقال: اللّهم إن كان ما يقول حقا، فائتنا بالعذاب؛ فنزلت هذه الآية؛ رواه أبو صالح عن ابن عباس. فأما البينة، فهي الدلالة التي تفصل بين الحق والباطل. قال الزجاج: أنا على أمر بين، لا متبعٌ لهوى. قوله تعالى:

{وَكَذَّبْتُم بِهِ} في هاء الكناية ثلاثة أقوال.

احدها: أنها ترجع إلى الرب.

والثاني: ترجع إلى البيان.

والثالث: ترجع إلى العذاب الذي طلبوه استهزاء. قوله تعالى:

{مَا عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي: ما بيدي.

وفي الذي استعجلوا به قولان.

احدهما: أنه العذاب؛ قاله ابن عباس، والحسن.

والثاني: أنه الآيات التي كانوا يقترحونها؛ ذكره الزجاج. قوله تعالى:

{إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للّه} فيه قولان.

احدهما: أنه الحكم الذي يفصل به بين المختلفين بايجاب الثواب والعقاب.

والثاني: أنه القضاء بانزال العذاب على المخالف. قوله تعالى:

{يَقُصُّ ٱلْحَقَّ} قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع: {يَقُصُّ ٱلْحَقَّ} بالصاد المشددة من القصص؛ والمعنى: أن كل ما أخبر به فهو حق. وقرأ ابو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي:

{يَقْضِى ٱلْحَقّ} من القضاء؛ والمعنى: يقضي القضاء الحق.

٥٨

قوله تعالى: {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِى مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي: من العذاب

{لَقُضِىَ ٱلاْمْرُ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ} قال ابن عباس: يقول: لم أمهلكم ساعة، ولأهلكتكم.

قوله تعالى: {وَٱللّه أَعْلَمُ بِٱلظَّـٰلِمِينَ} فيه قولان.

احدهما: أن المعنى إن شاء عاجلهم، وإن شاء أخر عقوبتهم.

والثاني: اعلم بما يؤول إليه أمرهم، وأنه قد يهتدي منهم قوم، ولا يهتدي آخرون؛ فلذلك يؤخروهم.

٥٩

قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ} قال ابن جرير: المفاتح: جمع مفتح؛ يقال مفتح ومفتاح، فمن قال: مفتح، جمعه: مفاتح. ومن قال: مفتاح، جمعه: مفاتيح،

وفي {مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ} سبعة أقوال.

احدها: أنها خمس لا يعلمها إلا اللّه عز وجل. روى البخاري في أفراده من حديث ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

«مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا اللّه، لا يعلم متى تقوم الساعة إلا اللّه، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا اللّه، ولا يعلم ما في غد إلا اللّه، ولا تعلم نفس بأي أرض تموت إلا اللّه، ولا يعلم متى ينزل الغيث إلا اللّه»

قال ابن مسعود: أوتى نبيكم علم كل شيء إلا مفاتيح الغيب.

والثاني: أنها خزائن غيب السموات من الأقدار والأرزاق، قاله ابن عباس.

والثالث: ما غاب عن الخلق من الثواب والعقاب، وما تصير إليه الأمور، قاله عطاء.

والرابع: خزائن غيب العذاب، متى ينزل، قاله مقاتل.

والخامس: الوصلة إلى علم الغيب إذا استعلم، قاله الزجاج.

والسادس: عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال.

والسابع: ما لم يكن، هل يكون، أم لا يكون؟ وما يكون كيف يكون وما لا يكون، إن كان، كيف يكون؟ فأما البر، فهو القفر. وفي البحر قولان.

احدهما: أنه الماء، قاله الجمهور.

والثاني: أنه القرى، قاله مجاهد.

قوله تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} قال الزجاج: المعنى أنه يعلمها ساقطة وثابتة، كما تقول: ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه، ليس تأويله: اعرفه في حال مجيئه فقط. فأما ظلمات الأرض، فالمراد بها بطن الأرض.

وفي الرطب واليابس، خمسة أقوال.

احدها: أن الرطب: الماء، واليابس: البادية.

والثاني: الرطب: ما ينبت، واليابس: مالا ينبت.

والثالث: الرطب: الحي، واليابس: الميت.

والرابع: الرطب: لسان المؤمن يذكر اللّه، واليابس: لسان الكافر لا يتحرك بذكر اللّه.

والخامس: أنهما الشيء ينتقل من إحدى الحالتين إلى الأخرى، فهو يعلمه رطبا ويعلمه يابسا.وفي الكتاب المبين قولان.

احدهما: أنه اللوح المحفوظ، قاله مقاتل.

والثاني: أنه علم اللّه المتقن، ذكره الزجاج.

فان قيل: ما الفائدة في إحصاء هذه الأشياء في كتاب؟ فعنه ثلاثة أجوبة، ذكرهن ابن الأنباري.

احدها: أنه أحصاها في كتاب، لتقف الملائكة على نفاذ علمه.

والثاني: أنه نبه بذلك عباده على تعظيم الحساب، وأعلمهم أنه لا يفوته ما يصنعون، لأن من يثبت مالا ثواب فيه ولا عقاب، فهو إلى إثبات ما فيه ثواب وعقاب أسرع.

والثالث: أن المراد بالكتاب: العلم؛ فالمعنى: أنها مثبتة في علمه.

٦٠

قوله تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّـٰكُم بِٱلَّيْلِ} يريد به النوم، لأنه يقبض الأرواح عن التصرف بالنوم، كما يقبض بالموت. وقال ابن عباس: يقبض أرواحكم في منامكم.

و{جَرَحْتُم} بمعنى كسبتم.

{ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ} أي: يوقظكم فيه، أي: في النهار.

{لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مّسَمًّى} أي لتبلغوا الأجل المسمى لانقطاع حياتكم، فدل باليقظة بعد النوم على البعث بعد الموت.

٦١

قوله تعالى: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} الحفظة: الملائكة، واحدهم حافظ، والجمع: حفظة، مثل كاتب وكتبة، وفاعل وفعلة،

وفيما يحفظونه قولان.

احدهما: أعمال بني آدم؛ قاله ابن عباس.

والثاني: أعمالهم وأجسادهم، قاله السدي.

قوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} وقرأ حمزة: {جَاءتْ رُسُلُنَا} وحجته أنه فعل مسند إلى مؤنث غير حقيقي، وإنما التأنيث للجمع، فهو مثل:

{وَقَالَ نِسْوَةٌ} وفي المراد بالرسل ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم أعوان ملك الموت، قاله ابن عباس. وقال النخعي: أعوانه يتوفون النفوس، وهو يأخذها منهم.

والثاني: أن المراد بالرسل ملك الموت وحده، قاله مقاتل.

والثالث: أنهم الحفظة، قاله الزجاج. قوله تعالى:

{وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ} قال ابن عباس: لا يضيعون.

فان قيل: كيف الجمع بين قوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} وبين قوله:

{قُلْ يَتَوَفَّـٰكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ} فعنه جوابان.

احدهما: أنه يجوز أن يريد بالرسل ملك الموت وحده، وقد يقع الجمع على الواحد.

والثاني: أن أعوان ملك الموت يفعلون بأمره، فأضيف الكل إلى فعله.

وقيل: توفي أعوان ملك الموت بالنزع، وتوفي ملك الموت بأن يأمر الأرواح فتجيب، ويدعوها فتخرج، وتوفي اللّه تعالى بأن يخلق الموت في الميت.

٦٢

قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّواْ إِلَىٰ ٱللّه} يعني العباد وفي متولي الرد قولان.

احدهما: أنهم الملائكة، ردتهم بالموت إلى اللّه تعالى.

والثاني: أنه اللّه عز وجل، ردهم بالبعث في الآخرة.

وفي معنى ردهم إلى اللّه تعالى قولان.

احدهما: أنهم ردوا إلى المكان الذي لا يملك الحكم فيه إلا اللّه وحده.

والثاني: أنهم ردوا إلى تدبيره وحده؛ لأنه لما أنشأهم كان منفردا بتدبيرهم، فلما مكنهم من التصرف، صاروا في تديبر أنفسهم، ثم كفهم عنه بالموت، فصاروا مردودين إلى تدبيره. قوله تعالى:

{أَلاَ لَهُ ٱلْحُكْمُ} يعني القضاء. وبيان سرعة الحساب، في {البقرة}.

٦٣

انظر تفسير الآية: ٦٤

٦٤

قوله تعالى: {قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ} قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر:

{قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ}، {قُلِ ٱللّه يُنَجّيكُمْ} مشددين. وقرأ يعقوب، والقزاز، عن عبد الوارث: بسكون النون وتخفيف الجيم. قال الزجاج: والمشددة أجود للكثرة. وظلمات البر والبحر: شدائدها؛ والعرب تقول: لليوم الذي تلقى فيه شدة: يوم مظلم، حتى إنهم يقولون: يوم ذو كواكب، أي: قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل.

قال الشاعر:

فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوما ذا كواكب أشعنا

وله تعالى: {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً} أي: مظهرين الضراعة، وهي شدة الفقر إلى الشيء، والحاجة. قوله تعالى: {وَخُفْيَةً} قرأ عاصم إلا حفصا: {وَخُفْيَةً} بكسر الخاء؛ وكذلك في {ٱلاْعْرَافِ}. وقرأ الباقون بضم الخاء، وهما لغتان. قال الفراء وفيها لغة أخرى بالواو، ولا تصلح في القراءة، خِفْوة، وخَفْوة. ومعنى الكلام: أنكم تدعونه في أنفسكم كما تدعونه ظاهرا:

{لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا}، كذلك قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وابو عمرو: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا} وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: {لَّئِنْ أَنجَـٰنَا} بألف لمكان الغيبة في قوله:

{تَدْعُونَهُ}. وكان حمزة، والكسائي، وخلف، يميلون الجيم. قوله تعالى:

{مِنْ هَـٰذِهِ} يعني: في أي شدة وقعتم، قلتم: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ} قال ابن عباس: و{الشاكرون} هاهنا: المؤمنون. وكانت قريش تسافر في البر والبحر، فاذا ضلوا الطريق، وخافوا الهلاك، دعوا اللّه مخلصين، فأنجاهم. فأما {ٱلْكَرْبِ} فهو الغم الذي يأخذ بالنفس، ومنه اشتقت الكربة.

٦٥

قوله تعالى: {قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} فيه قولان.

احدهما: أن الذي. فوقهم: العذاب النازل من السماء، كما حصب قوم لوط، وأصحاب الفيل. والذي من تحت أرجلهم: كما خسف بقارون، قاله ابن عباس، والسدي، ومقاتل.

وقال غيرهم: ومنه الطوفات، والريح، والصيحة، والرجفة.

والقول الثاني: أن الذي من فوقهم: من قبل أمرائهم. والذي من تحتهم: من سفلتهم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال في رواية أخرى: الذي من فوقهم: أئمة السوء؛ والذي من تحت أرجلهم: عبيد السوء. قوله تعالى:

{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} قال ابن عباس: يبث فيكم الأهواء المختلفة، فتصيرون فرقا، قال ابن قتيبة: يلبسكم: من الالتباس عليهم. والمعنى: حتى تكونوا شيعا، أي: فرقا مختلفين. ثم يذيق بعضكم باس بعض بالقتال والحرب. وقال الزجاج: يلبسكم أي يخلط أمركم خلط اضطراب، لا خلط اتفاق. يقال: لبست عليهم الأمر، ألبسه: إذا لم أبينه. ومعنى شيعا، أي يجعلكم فرقا، فاذا كنتم مختلفين، قاتل بعضكم بعضا. قوله تعالى:

{وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} أي: يقتل بعضكم بيد بعض،

وفيمن عني بهذه الآية ثلاثة أقوال.

احدها: أنها في المسلمين أهل الصلاة، هذا مذهب ابن عباس، وابي العالية، وقتادة. وقال أبي بن كعب: في هذه الآية: هن أربع خلال، وكلهن عذاب، وكلهن واقع قبل يوم القيامة، فمضت اثنتان بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، ألبسوا شيعا، وأذيق بعضهم بأس بعض. وثنتان واقعتان لا محالة: الخسف: والرجم.

والثاني: أن العذاب للمشركين، وباقي الآية للمسلمين، قاله الحسن.

وقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:«سألت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألته أن لا يصيبكم بعذاب أصاب به من كان قبلكم، فأعطانيها، وسألته إن لا يسلط عليكم عدوا يستبيح بيضتكم، فأعطانيها، وسألته أن لا يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض، فمنعنيها».

والثالث: أنها تهدد للمشركين، قاله ابن جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي.

٦٦

قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} في هاء به ثلاثة أقوال.

احدها: أنها كناية عن القرآن.

والثاني: عن تصريف الآيات.

والثالث: عن العذاب. قوله تعالى:

{قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} فيه قولان.

احدهما: لست حفيظا على أعمالكم لأجازيكم بها، إنما أنا منذر، قاله الحسن.

والثاني: لست حفيظا عليكم أخذكم بالإيمان، إنما أدعوكم إلى اللّه قاله، الزجاج.

فصل

وفي هذا القدر من الآية قولان.

احدهما: أنه اقتضى الاقتصار في حقهم على الإنذار من غير زيادة، ثم نسخ ذلك بآية السيف.

والثاني: أن معناه لست حفيظا عليكم، إنما أطالبكم بالظواهر من الإقرار والعمل، لا بالإسرار، فعلى هذا هو محكم.

٦٧

قوله تعالى: {لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} أي: لكل خبر يخبر اللّه به وقت يقع فيه من غير خلف ولا تأخير. قال السدي: فاستقر نبأ القرآن بما كان يعدهم من العذاب يوم بدر وقال مقاتل منه في الدنيا يوم بدر، وفي الآخرة جهنم.

٦٨

قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَـٰتِنَا}

فيمن أريد بهذه الآية ثلاثة أقوال.

احدها: المشركون.

والثاني: اليهود.

والثالث: أصحاب الأهواء. والآيات: القرآن وخوض المشركين فيه: تكذيبهم به، واستهزاؤهم. ويقاربه خوض اليهود، وخوض أهل الأهواء بالمراء والخصومات. قوله تعالى:

{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: فاترك مجالستهم، حتى يكون خوضهم في غير القرآن.

{وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ} وقرأ ابن عامر: {يُنسِيَنَّكَ} بفتح النون، وتشديد السين، والنون الثانية. ومثل هذا: غرّمته وأغرمته.

وفي التنزيل. {فَمَهّلِ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ}. والمعنى: إذا أنساك الشيطان، فقعدت معهم ناسيا نهينا لك، فلا تقعد بعد الذكرى. والذكر والذكرى: واحد. قال ابن عباس: قم إذا ذكرته؛ والظالمون: المشركون.

٦٩

قوله تعالى: {وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء}

في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن المسلمين قالوا: لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن، وخاضوا فيه، فمنعناهم، لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام، ولا أن نطوف بالبيت، فنزلت هذه الآية.

والثاني: أن المسلمين قالوا: إنا نخاف الإثم إن لم ننههم عن الخوض، فنزلت هذه الآية.

والثالث: أن المسلمين قالوا: لو قمنا عنهم إذا خاضوا فانا نخشى الإثم في مجالستهم، فنزلت هذه الآية. هذا عن مقاتل، والأولان عن ابن عباس. قوله تعالى:

{وَمَا عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَّقُونَ} فيه قولان.

احدهما: يتقون الشرك.

والثاني: يتقون الخوض. قوله تعالى: {مِنْ حِسَابِهِم} يعني: حساب الخائضين. وفي {حِسَابَهُمْ} قولان.

احدهما: أنه كفرهم وآثامهم.

والثاني: عقوبة خوضهم.

قوله تعالى: {وَلَـٰكِن ذِكْرَىٰ} أي: ولكن عليكم أن تذكروهم. وفيما تذكرونهم به قولان.

احدهما: المواعظ.

والثاني: قيامكم عنهم. قال مقاتل: إذا قمتم عنهم، منعهم من الخوض الحياء منكم، والرغبة في مجالستكم. قوله تعالى:

{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فيه قولان.

احدهما: يتقون الاستهزاء.

والثاني: يتقون الوعيد. فصل وقد ذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة، لأنها اقتضت جواز مجالسة الخائضين والاقتصار على تذكيرهم، ثم نسخت بقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلْكِتَـٰبِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَـٰتِ ٱللّه يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ}

والصحيح أنها محكمة، لأنها خبر، وإنما دلت على أن كل عبد يختص بحساب نفسه، ولا يلزمه حساب غيره.

٧٠

قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} فيهم قولان.

احدهما: أنها الكفار.

والثاني: اليهود والنصارى. وفي اتخاذهم دينهم لعبا ولهوا ثلاثة اقوال.

احدها: أنه استهزاؤهم بآيات اللّه إذا سمعوها.

والثاني: أنهم دانوا بما اشتهوا، كما يلهون بما يشتهون.

والثالث: أنهم يحافظون على دينهم إذا اشتهوا، كما يلهون إذا اشتهوا. قال الفراء: ويقال: إنه ليس من قوم إلا ولهم عيد، فهم يلهون في أعيادهم، إلا أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، فان أعيادهم صلاة وتكبير وبر وخير.

فصل

ولعلماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية، قولان.

احدهما: أنه خرج مخرج التهديد، كقوله: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} فعلى هذا، هو محكم. وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد.

والثاني: أنه اقتضى المسامحة لهم والإعراض عنهم، ثم نسخ بآية السيف؛ وإلى هذا ذهب قتادة، والسدي. قوله تعالى:

{وَذَكّرْ بِهِ} أي: عظ بالقرآن. وفي قوله: {أَن تُبْسَلَ} قولان.

احدهما: لئلا تبسل نفس كقوله: {أَن تَضِلُّواْ}.

والثاني: ذكرهم إبسال المبسلين بجناياتهم، لعلهم يخافون.

وفي معنى {تُبْسَلَ} سبعة اقوال.

احدها: تُسْلَم. رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، والسدي. وقال ابن قتيبة: تُسْلَم إلى الهلكة.

قال الشاعر:

وإبسالي بني بغير جرم بعوناه ولا بدم مراق

أي: بغير جرم أجرمناه؛ والبعو: الجناية. وقال الزجاج: تسلم بعملها غير قادرة على التخلص. والمستبسل: المستسلم الذي لا يعلم أنه يقدر على التخلص.

والثاني: تفضح، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

والثالث: تدفع، رواه الضحاك عن ابن عباس.

والرابع: هلك، روي عن ابن عباس أيضا.

والخامس: تحبس وتؤخذ، قاله قتادة، وابن زيد.

والسادس: تجزي، قاله ابن السائب، والكسائي.

والسابع: ترتهن، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: ترتهن وتسلم؛

وأنشد

هنالك لا أرجو حياة تسرني سمير الليالي مبسلا بالجرائر

سمير الليالي: أبد الليالي. فأما الولي: فهو الناصر الذي يمنعها من عذاب اللّه. والعدل: الفداء. قال ابن زيد: وإن تفتد كل فداء لا يقبل منها. فأما الحميم: فهو الماء الحار. قال ابن قتيبة: ومنه سمي الحمام.

٧١

انظر تفسير الآية: ٧٢

٧٢

قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللّه} أي: أنعبد مالا يضرنا إن لم نعبده، ولا ينفعنا إن عبدناه، وهي الأصنام. {وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِنَا} أي: نرجع إلى الكفر

{بَعْدَ إِذْ هَدَانَا ٱللّه} إلى الإسلام، فنكون {كَٱلَّذِى ٱسْتَهْوَتْهُ ٱلشَّيَـٰطِينُ}.

وقرأ حمزة: {هَمَزَاتِ ٱلشَّيـٰطِينِ} على قياس قراءته:

{جَاءتْ رُسُلُنَا} وفي معنى {استهوائها} قولان.

احدهما: أنها هوت به وذهبت، قاله ابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: تشبه له الشياطين فيتبعها، حتى تهوي به في الأرض، فتضله.

والثاني: زينت له هواه، قاله الزجاج. قال و{ٱلاْرْضِ حَيْرَانَ}: منصوب على الحال، أي: استهوته في حال حيرته. قال السدي: قال المشركون للمسلمين: اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد، فقال تعالى:

{قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ ٱللّه ما لا يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا ٱللّه} فنكون كرجل كان مع قوم على طريق، فضل، فخيرته الشياطين، وأصحابه على الطريق يدعونه: يا فلان هلم إلينا، فانا على الطريق، فيأبى. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق، دعاه أبوه وأمه إلى الإسلام فأبى. قال مقاتل: والمراد بأصحابه: أبواه. قوله تعالى:

{قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللّه هُوَ ٱلْهُدَىٰ} هذا رد على من دعا إلى عبادة الأصنام، وزجر عن إجابته كأنه قيل له: لا تفعل ذلك، لأن هدى اللّه هو الهدى، لا هدى غيره. قوله تعالى:

{وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} قال الزجاج: العرب تقول: أمرتك أن تفعل، وأمرتك لتفعل، وأمرتك بأن تفعل. فمن قال: {بِأَنَّ} فالباء للالصاق. والمعنى: وقع الأمر بهذا الفعل، ومن قال:

{أَن تَفْعَلُواْ} فعلى خذف الباء؛ ومن قال:{لتفعل} فقد أخبر بالعلة التي لها وقع الامر. قال وفي قوله: {ٱلْعَـٰلَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُواْ ٱلصَّلوٰةَ} وجهان.

احدهما: أمرنا لأن نسلم، ولأن نقيم الصلاة.

والثاني: أن يكون محمولا على المعنى، لأن المعنى: أمرنا بالإسلام، وباقامة الصلاة.

٧٣

قوله تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ بِٱلْحَقّ} فيه أربعة أقوال.

احدها: خلقهما للحق.

والثاني: خلقهما حقا.

والثالث: خلقهما بكلامه، وهو الحق.

والرابع: خلقهما بالحكمة. قوله تعالى:

{وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ} قال الزجاج: الأجود أن يكون منصوبا على معنى

{وَٱذْكُرْ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ}، لأن بعده {وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ} فالمعنى: واذكر هذا وهذا. وفي الذي يقول له كن فيكون، ثلاثة أقوال.

احدها: أنه يوم القيامة، قاله مقاتل.

والثاني: ما يكون في القيامة.

والثالث: أنه الصور، وما ذكر من أمر الصور يدل عليه، قالهما الزجاج. قال: وخُص ذلك اليوم بسرعة إيجاد الشيء، ليدل على سرعة أمر البعث. قوله تعالى:

{قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ} أي: الصدق الكائن لا محالة. {وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى ٱلصُّوَرِ}.

وروى إسحاق بن يوسف الأزرق عن أبي عمرو: {ننفخ} بنونين ومعنى الكلام: أن الملوك يومئذ لا ملك لهم، فهو المنفرد بالملك وحده، كما قال:

{شَيْئاً وَٱلاْمْرُ يَوْمَئِذٍ للّه} وفي الصور قولان.

احدهما: أنه قرن ينفخ فيه؛

روى عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الصور، فقال: «هو قرن ينفخ فيه» وقال مجاهد: الصور كهيأة البوق. وحكى ابن قتيبة: أن الصور: القرن، في لغة قوم من أهل اليمن،

وأنشد:

نحن نطحناهم غداة الجمعين  بالضابحات في غبار النقعين

نطحا شديدا لا كنطح الصورين

وأنشد الفراء:

لولا ابن جعدة لم يفتح قهندزكم  ولا خراسان حتى ينفخ الصور

وهذا اختيار الجمهور.

والثاني: أن الصور جمع صورة؛ يقال: صورة وصور، بمنزلة سورة وسور، كسورة البناء؛ والمراد نفخ الأرواح في صور الناس، قاله قتادة: وأبو عبيدة.وكذلك قرأ الحسن، ومعاذ القارىء، وأبو مجلز، وأبو المتوكل {فِى ٱلصُّورِ} بفتح الواو. قال ثعلب: الأجود أن يكون الصور: القرن، لأنه قال عز وجل

{وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَن فِى ٱلاْرْضِ} ثم قال:

{ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ}؛ ولو كان الصور، كان: ثم نفخ فيها أو فيهن؛ وهذا يدل على أنه واحد؛ وظاهر القرآن يشهد أنه ينفخ في الصور مرتين.

وقد روى أهل التفسير عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال:

الصور قرن يُنفخ فيه ثلاث نفخات؛ الأولى: نفخة الفزع، والثانية: نفخة الصعق، والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين

قال ابن عباس: وهذه النفخة المذكورة في هذه الآية هي الأولى، يعني: نفخة الصعق. قوله تعالى:

{عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ} وهو ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه،

{وَٱلشَّهَـٰدَةِ} وهو ما شاهدوه ورأوه. وقال الحسن: يعني بذلك السر والعلانية.

٧٤

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ لاِبِيهِ ءازَرَ} في آزر أربعة أقوال.

احدها: أنه أسم أبيه، روي عن ابن عباس، والحسن، والسدي، وابن إسحاق.

والثاني: أنه اسم صنم، فأما اسم أبي إبراهيم: فتارح، قاله مجاهد: فيكون المعنى: أتتخذ آزر اصناما؟ فكأنه جعل أصناما بدلا من آزر، والاستفهام معناه الإنكار.

والثالث: أنه ليس باسم، إنما هو سب بعيب، وفي معناه قولان.

احدهما: أنه المعوج، كأنه عابه نريغه وتعويجه عن الحق، ذكره الفراء.

والثاني: أنه المخطىء، فكأنه قال: يا مخطىء أتتخذ أصناما؟ ذكره الزجاج.

والرابع: أنه لقب لأبيه، وليس باسمه، قاله مقاتل بن حيان. قال ابن الانباري: قد يغلب على اسم الرجل لقبه، حتى يكون به أشهر منه باسمه، والجمهور على قراءة {ءازَرَ} بالنصب. وقرأ الحسن، ويعقوب بالرفع. قال الزجاج: من نصب، فموضع {ءازَرَ} خفض بدلا من أبيه؛ ومن رفع فعلى النداء.

٧٥

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرٰهِيمَ} أي: وكما أريناه البصيرة في دينه، والحق في خلاف قومه، نريه {مَلَكُوتَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ}.

وقيل: {نُرِى} بمعنى أرينا. قال الزجاج: والملكوت بمنزلة الملك، إلا أن الملكوت أبلغ في اللغة، لأن الواو والتاء يزادان للمبالغة؛ ومثل الملكوت: الرغبوت والرهبوت. قال مجاهد: ملكوت السموات والأرض: آياتها؛ تفرجت له السموات السبع، حتى العرش فنظر فيهن، وتفرجت له الأرضون السبع، فنظر فيهن. وقال قتادة: ملكوت السموات: الشمس والقمر والنجوم. وملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار. وقال السدي: أقيم على صخرة، وفتحت له السموات والأرض، فنظر إلى ملك اللّه عز وجل، حتى نظر إلى العرش، وإلى منزله من الجنة، وفتحت له الأرضون السبع، حتى نظر إلى الصخرة التي عليها الأرضون. قوله تعالى:

{وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ} هذا عطف على المعنى، لأن معنى الآية: نريه ملكوت السموات والأرض ليستدل به، وليكون من الموقنين.

وفي ما يوقن به ثلاثة أقوال.

احدها: وحدانية اللّه وقدرته.

والثاني: نبوته ورسالته.

والثالث: ليكون موقنا بعلم كل شيء، حسا لا خبرا.

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّى فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلاٌّفِلِينَ}

٧٦

قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ} قال الزجاج: يقال جن عليه الليل، وأجنه الليل: إذا أظلم، حتى يستر بظلمته؛ ويقال لكل ما ستر: جن، وأجن، والاختيار أن يقال: جن عليه الليل، وأجنه الليل. الإشارة إلى بدء قصة إبراهيم عليه السلام.

روى أبو صالح عن ابن عباس قال: ولد إبراهيم في زمن نمروذ وكان لنمروذ، كهان، فقالوا: له يولد في هذه السنة مولود يفسد آلهة أهل الأرض، ويدعوهم إلى غير دينهم، ويكون هلاك أهل بيتك على يده، فعزل النساء عن الرجال، ودخل آزر إلى بيته فوقع على زوجته، فحملت، فقال الكهان لنمروذ: إن الغلام قد حمل به الليلة. فقال: كل من ولدت غلاما فاقتلوه. فلما أخذ أم إبراهيم المخاض، خرجت هاربة، فوضعته في نهر يابس، ولفته في خرقة، ثم وضعته في حلفاء، وأخبرت به أباه، فأتاه فحفر له سربا، وسد عليه بصخرة، وكانت أمه تختلف إليه فترضعه، حتى شب وتكلم، فقال لأمه: من ربي؟ فقالت: أنا. قال: فمن ربك؟ قالت: أبوك. قال: فمن رب أبي؟ قالت: اسكت. فسكت، فرجعت إلى زوجها، فقالت: إن الغلام الذي كنا نتحدث أنه يغير دين أهل الأرض، ابنك. فأتاه، فقال له مثل ذلك. فلما جن عليه الليل، دنا من باب السرب، فنظر فرأى كوكبا. قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم {رَأَىٰ} بفتح الراء والهمزة، وقرأ ابو عمرو {رَأَىٰ} بفتح الراء وكسر الهمزة، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم {رَأَىٰ}، بكسر الراء والهمزة،

واختلفوا فيها إذا لقيها ساكن،

وهو آت في ستة مواضع: {رَأَى ٱلْقَمَرَ} {فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ}

وفي النحل {وَإِذَا رَأى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ} {وَإِذَا رَءا ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ}

وفي الكهف {وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ}

وفي الأحزاب {وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ}

وقرأ أبو بكر عن عاصم، وحمزة إلا العبسي، وخلف في اختياره: بكسر الراء وفتح الهمزة في الكل،

وروى العبسي كسرة الهمزة أيضا،

وقرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عامر، والكسائي: بفتح الراء والهمزة. فان اتصل ذلك بمكنى، نحو: رآك، ورآه، ورآها؛ فان حمزة، والكسائي، وخلف والوليد عن ابن عامر، والمفضل، وأبان، والقزاز عن عبد الوارث، والكسائي عن أبي بكر: يكسرون الراء، ويميلون الهمزة.

وفي الكوكب الذي رآه قولان.

احدهما: أنه الزهرة، قاله ابن عباس، وقتادة.

والثاني: المشتري، قاله مجاهد، والسدي. قوله تعالى:

{قَالَ هَـٰذَا رَبّى} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أنه على ظاهره، روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: هذا ربي، فعبده حتى غاب، وعبد القمر حتى غاب، وعبد الشمس حتى غابت؛ واحتج أرباب هذا القول بقوله:

{لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى} وهذا يدل على نوع تحيير، قالوا: وإنما قال هذا في حال طفولته على ما سبق إلى وهمه، قبل أن يثبت عنده دليل. وهذا القول لا يرتضى، والمتأهلون للنبوة محفوظون من مثل هذا على كل حال.

فأما قوله: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى} فما زال الأنبياء يسألون الهدى، ويتضرعون في دفع الضلال عنهم، كقوله: {وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلاْصْنَامَ} ولأنه قد آتاه رشده من قبل، وأراه ملكوت السموات والأرض ليكون موقنا، فكيف لا يعصمه عن مثل هذا التحيير؟ٰ

والثاني: أنه قال ذلك استدراجا للحجة، ليعيب آلهتهم ويريهم بغضها عند أفولها، ولا بد أن يضمر في نفسه: إما على زعمكم، أو فيما تظنون، فيكون كقوله: {أَيْنَ شُرَكَائِىَ}، وإما أن يضمر: يقولون، فيكون كقوله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} أي: يقولان ذلك، ذكر نحو هذا أبو بكر بن الانباري، ويكون مراده: استدراج الحجة عليهم، كما نقل عن بعض الحكماء أنه نزل بقوم يعبدون صنما، فأظهر تعظيمه، فأكرموه، وصدروا عن رأيه، فدهمهم عدو، فشاورهم ملكهم، فقال: ندعو إلهنا ليكشف ما بنا، فاجتمعوا يدعونه، فلم ينفع، فقال: هاهنا إله ندعوه، فيستجيب، فدعوا اللّه، فصرف عنهم ما يحذرون، وأسلموا.

والثالث: أنه قال مستفهما، تقديره: أهذا ربي؟ فأضمرت ألف الاستفهام، كقوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن}؟ أي: أفهم الخالدون؟

قال الشاعر:

كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا

أراد: أكذبتك؟ قال ابن الأنباري: وهذا القول شاذ، لأن حرف الاستفهام لا يضمر إذ كان فارقا بين الإخبار والاستخبار؛ وظاهر قوله:

{هَـٰذَا رَبّى} أنه إشارة إلى الصانع. وقال الزجاج: كانوا أصحاب نجوم، فقال: هذا ربي، أي هذا الذي يدبرني، فاحتج عليهم أن هذا الذي تزعمون أنه مدبر، لا نرى فيه إلا أثر مدَّبر.و«أفل»: بمعنى غاب؛ يقال: أفل النجم يأفل ويأفل أفولا.

قوله تعالى: {لا أُحِبُّ ٱلاْفِلِينَ} أي: حبَّ ربٍّ معبود، لأن ما ظهر وأفل كان حادثا مدبرا.

٧٧

انظر تفسير الآية: ٧٨

٧٨

قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى ٱلْقَمَرَ} قال ابن قتيبة: سمي القمر قمرا لبياضه؛ والأقمر: الأبيض؛ وليلة قمراء، أي: مضيئة. فأما البازغ، فهو الطالع.

ومعنى {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى} لئن لم يثبتني على الهدى.

فان قيل: لم قال في الشمس: هذا، ولم يقل: هذه؟ فعنه أربعة أجوبه.

احدها: أنه رأى ضوء الشمس لا عينها، قاله محمد بن مقاتل.

والثاني: أنه أراد هذا الطالع ربي، قاله الأخفش.

والثالث: أن الشمس بمعنى الضياء والنور، فحمل الكلام على المعنى.

والرابع: أن الشمس ليس في لفظها علامة من علامات التأنيث، وإنما يشبه لفظها لفظ المذكر، فجاز تذكيرها. ذكره والذي قبله ابن الانباري.

٧٩

انظر تفسير الآية: ٨٠

٨٠

قوله تعالى: {إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ} قال الزجاج: جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي للّه رب العالمين عز وجل. وباقي الآية قد تقدم. وقوله تعالى:

{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} قال ابن عباس: جادلوه في آلهتهم، وخوفوه بها، فقال: منكرا عليهم: {أَتُحَاجُّونّى} قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وحمزة، والكسائي: {أَتُحَاجُّونّى} و {تَأْمُرُونّى} بتشديد النون. وقرأ نافع، وابن عامر بتخفيفها، فحذفا النون الثانية لالتقاء النونين.

ومعنى {أَتُحَاجُّونّى فِى ٱللّه} أي: في توحيده.

{وَقَدْ هَدَانَا} أي: بين لي ما به اهتديت.

وقرأ الكسائي: {هَدَانِى} بامالة الدال. والإمالة حسنة فيما كان أصله الياء، وهذا من هدي يهدي. قوله تعالى:

{وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} أي: لا أرهب آلهتكم، وذلك أنهم قالوا: نخاف أن تمسك آلهتنا بسوء، فقال: لا أخافها لأنها لا تضر ولا تنفع

{إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً} فله أخاف {وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَىْء عِلْماً} أي علمه علما تاما.

٨١

انظر تفسير الآية:٨٢

٨٢

قوله تعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} أي: من هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تخافون أنتم أنكم أشركتم باللّه الذي خلقكم ورزقكم، وهو قادر على ضركم ونفعكم

{لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَـٰناً} أي: حجة.

{فَأَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلاْمْنِ} أي: بأن يأمن العذاب، الموحد الذي يعبد من بيده الضر والنفع؟ أم المشرك الذي يعبد مالا يضر ولا ينفع؟ ثم بين الأحق من هو بقوله:

{ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ} أي: يخلطوه بشرك. روى البخاري، ومسلم في «صحيحيهما» من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية، شق ذلك على المسلمين، فقالوا يا رسول اللّه، وأينا ذلك؟ فقال: إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه؟ٰ {إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.

وفيمن عني بهذه الآية ثلاثة أقوال.

احدها: أنه إبراهيم وأصحابه، وليست في هذه الأمة، قاله علي بن أبي طالب. وقال في رواية أخرى: هذه الآية لإبراهيم خاصة، ليس لهذه الأمة منها شيء.

والثاني: أنه من هاجر إلى المدينة، قاله عكرمة.

والثالث: أنها عامة، ذكره بعض المفسرين. وهل هي من قول ابراهيم لقومه، أم جواب من اللّه تعالى؟ فيه قولان.

٨٣

قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} يعني: ما جرى بينه وبين قومه من الاستدلال على حدوث الكوكب والقمر والشمس، وعيبهم، إذ سووا بين الصغير والكبير، وعبدوا من لا ينطق، وإلزامه إياهم الحجة. {إِبْرٰهِيمَ عَلَىٰ} أرشدناه إليها بالإلهام. وقال مجاهد: الحجة قول ابراهيم {فَأَىُّ ٱلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِٱلاْمْنِ}؟. قوله تعالى:

{نَرْفَعُ دَرَجَـٰتٍ مَّن نَّشَاء} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عمرو، وابن عامر: {دَرَجَـٰتٍ مَّن نَّشَاء}، مضافا. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، {دَرَجَـٰتٌ}، منونا، وكذلك قرؤوا في {يُوسُفَ} ثم في المعنى قولان.

احدهما: أن الرفع بالعلم والفهم والمعرفة.

والثاني: بالاصطفاء للرسالة. قوله تعالى:

{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} قال ابن جرير: {حَكِيمٌ} في سياسة خلقه، وتلقينه أنبياءه الحج على أممهم المكذبة {عَلِيمٌ} بما يؤول إليه أمر الكل.

٨٤

انظر تفسير الآية:٨٧

٨٥

انظر تفسير الآية:٨٧

٨٦

انظر تفسير الآية:٨٧

٨٧

قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـٰقَ} ولدا لصلبه {وَيَعْقُوبَ} ولدا لإسحاق {كَلاَّ} من هولاء المذكورين {هَدَيْنَا} أي: أرشدنا. قوله تعالى:

{وَمِن ذُرّيَّتِهِ} في هاء الكناية قولان.

احدهما: أنها ترجع إلى نوح، رواه أبو صالح عن ابن عباس. واختاره الفرا، ومقاتل، وابن جرير الطبري.

والثاني: إلى إبراهيم، قاله عطاء. وقال الزجاج: كلا القولين جائز، لأن ذكرهما جميعا قد جرى، واحتج ابن جرير للقول الأول بأن اللّه تعالى، ذكر في سياق الآيات لوطا، وليس من ذرية إبراهيم. وأجاب عنه أبو سليمان الدمشقي بأنه يحتمل أن يكون أراد: ووهبنا له لوطا في المعاضدة والنصرة، ثم قوله:

{وَكَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ} من أبين دليل على انه إبراهيم، لأن افتتاح الكلام إنما هو بذكر ما أثاب به إبراهيم. فأما{يُوسُفَ} فهو اسم أعجمي. قال الفراء: يُوسف بضم السين من غير همز، لغة أهل الحجاز، وبعض بني أسد يقول: {يؤسف} بالهمز، وبعض العرب يقول: {عَلَىٰ يُوسُفَ} بكسر السين، وبعض بني عُقيل يقول: {يُوسُفَ} بفتح السين.

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ} أي: كما جزينا إبراهيم على توحيده وثباته على دينه، بأن رفعنا درجته، ووهبنا له أولادا أنبياء أتقياء، كذلك نجزي المحسنين. فأما عيسى، وإلياس، واليسع، ولوطا، فأسماء أعجمية، وجمهور القراء يقرؤون «اليسع» بلام واحدة مخففا، منهم ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابو عمرو، وابن عامر. وقرأ حمزة، والكسائي، هاهنا وفي صلى اللّه عليه وسلم {إلليسع} بلامين مع التشديد. قال الفراء: وهي أشبه بالصواب، وبأسماء الأنبياء من بني إسرائيل، ولأن العرب لا تدخل على «يفعل» إذا كان في معنى فلان، ألفاً ولاماً، يقولون: هذا يسع قد جاء، وهذا يعمر، وهذا يزيد، فهكذا الفصيح من الكلام.

وأنشدني بعضهم:

جدنا الوليد بن اليزيد مباركا شديدا بأحناء الخلافة كاهله

لما ذكر الوليد بالألف واللام، أتبعه يزيد بالألف واللام، وكل صواب. وقال مكي: من قرأه بلام واحدة. فالأصل عنده: يسع، ومن قرأه بلامين، فالأصل عنده: لَيْسَعُ، فأدخلوا عليه حرف التعريف. وباقي أسماء الأنبياء قد تقدم بيانها، والمراد بالعالمين: عالمو زمانهم. قوله تعالى:

{ٱلْعَـٰلَمِينَ وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرّيَّـٰتِهِمْ} {مِنْ} هاهنا للتبعيض. قال الزجاج: المعنى: هدينا هؤلاء، وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم.

{وَٱجْتَبَيْنَـٰهُمْ} مثل: اخترناهم واصطفيناهم، وهو مأخوذ من جبيت الشيء: إذا أخلصته لنفسك. وجبيت الماء في الحوض: إذا جمعته فيه. فأما الصراط المستقيم: فهو التوحيد.

٨٨

قوله تعالى: {ذٰلِكَ هُدَى ٱللّه} قال ابن عباس: ذلك دين اللّه الذي هم عليه،

{يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ}.

{وَلَوْ أَشْرَكُواْ} يعني: الأنبياء المذكورين {لَحَبِطَ} أي: لبطل وزال عملهم، لأنه لا يقبل عمل مشرك.

٨٩

قوله تعالى: {أُوْلَـٰئكَ ٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ} يعني: الكتب التي أنزلها عليهم. والحكم، الفقه، والعلم {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا} يعني: بآياتنا. وفيمن أشير إليه ب {هَـؤُلاء} ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم أهل مكة، قاله ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وقتادة.

والثاني: أنهم قريش، قاله السدي.

والثالث: أمة النبي صلى اللّه عليه وسلم، قاله الحسن. قوله تعالى:

{فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} قال أبو عبيدة: فقد رزقناها قوما. وقال الزجاج: وكلنا بالإيمان بها قوما، وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال.

احدها: أنهم أهل المدينة من الأنصار، قاله ابن عباس، وابن المسيب، وقتادة، والسدي.

والثاني: الأنبياء والصالحون، قاله الحسن. وقال قتادة: هم النبيون الثمانية عشر، المذكورون في هذا المكان، وهذا اختيار الزجاج، وابن جرير.

والثالث: أنهم الملائكة، قاله أبو رجاء.

والرابع: أنهم المهاجرون والأنصار.

٩٠

قوله تعالى: {أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللّه} يعني: النبيين المذكورين.

وفي قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ} قولان.

احدهما: بشرائعهم وبسننهم فاعمل، قاله ابن السائب.

والثاني: اقتد بهم في صبرهم، قاله الزجاج. وكان ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وعامص، يثبتون الهاء من قوله: {ٱقْتَدِهْ} في الوصل ساكنة. وكان حمزة، وخلف، ويعقوب، والكسائي عن أبي بكر، واليزيدي في اختياره، يحذفون الهاء في الوصل. ولا خلاف في إثباتها في الوقف، وإسكانها فيه. قوله تعالى:

{قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} يعني: على القرآن. والذكرى: العظة. والعالمون: هاهنا الجن والإنس.

٩١

قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ ٱللّه حَقَّ قَدْرِهِ} في سبب نزولها سبعة اقوال.

احدها: أن مالك بن الصيف رأس اليهود، أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أتجد فيها أن اللّه يبغض الحبر السمين؟ قال: نعم. قال: {فَأَنتَ} فغضب ثم قال:

{قَالُواْ مَا أَنزَلَ ٱللّه عَلَىٰ بَشَرٍ مّن شَىْء} فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس؛ وكذلك قال سعيد بن جبير، وعكرمة: نزلت في مالك بن الصيف.

والثاني: أن اليهود قالوا يا محمد، أنزل اللّه عليك كتابا؟ قال: نعم. قالوا واللّه ما أنزل اللّه من السماء كتابا، فنزلت هذه الآية، رواه الوالبي عن ابن عباس.

والثالث: أن اليهود قالوا يا محمد، إن موسى جاء بألواح يحملها من عند اللّه، فائتنا بآية كما جاء موسى، فنزل «يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء» إلى قوله {عَظِيماً}. فلما حدثهم بأعمالهم الخبيثة، قالوا: واللّه ما أنزل اللّه عليك ولا على موسى وعيسى، ولا على بشر من شيء، فنزلت هذه الآية، قاله محمد بن كعب.

والرابع: أنها نزلت في اليهود والنصارى، آتاهم اللّه علما فلم ينتفعوا به، قاله قتادة.

والخامس: أنها نزلت في فنحاص اليهودي، وهو الذي قال: {مَا أَنزَلَ ٱللّه عَلَىٰ بَشَرٍ مّن شَىْء} قاله السدي.

والسادس: أنها نزلت في مشركي قريش، قالوا: واللّه ما أنزل اللّه على بشر من شيء، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.

والسابع: أن أولها إلى قوله {مِن شَىْء} في مشركي قريش، وقوله: {مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ ٱلَّذِى جَاء بِهِ مُوسَىٰ} في اليهود، رواه ابن كثير عن مجاهد.

وفي معنى: {وَمَا قَدَرُواْ ٱللّه حَقَّ قَدْرِهِ} ثلاثة أقوال.

احدها: ما عظموا اللّه حق عظمته، قاله ابن عباس، والحسن، والفراء، وثعلب، والزجاج.

والثاني: ما وصفوه حق وصفته، قاله أبو العالية، واختاره الخليل.

والثالث: ما عرفوه حق معرفته، قاله أبو عبيدة. قوله تعالى:

{تَجْعَلُونَهُ قَرٰطِيسَ} معناه: يكتبونه في قراطيس. وقيل: إنما قال: قراطيس، لأنهم كانوا يكتبونه في قراطيس مقطعة، حتى لا تكون مجموعة، ليخفوا منها ما شاؤوا. قوله تعالى:

{يبدونها} قرأ ابن كثير، وابو عمرو: {يجعلونه قراطيس يبدونها} و{وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَـٰفُونَ} بالياء فيهن. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بالتاء فيهن. فمن قرأ بالياء، فلأن القوم غُيّب، بدليل قوله: {وَمَا قَدَرُواْ ٱللّه حَقَّ قَدْرِهِ} ومن قرأ بالتاء، فعلى الخطاب، والمعنى: تبدون منها ما تحبون، وتخفون كثيرا، مثل صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم، وآية الرجم، ونحو ذلك مما كتموه. قوله تعالى:

{وَعُلّمْتُمْ لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ} في المخاطب بهذا قولان.

احدهما: أنهم اليهود، قاله الجمهور.

والثاني: أنه خطاب للمسلمين، قاله مجاهد. فعلى الأول: عُلّموا ما في التوراة؛ وعلى الثاني: عُلِموا على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم. قوله تعالى:

{قُلِ ٱللّه} هذا جواب لقوله:

{مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ} وتقديره: فإن أجابوك، وإلا فقل: اللّه أنزله. قوله تعالى:

{ثُمَّ ذَرْهُمْ} تهديد. وخوضهم: باطلهم.

وقيل: إن هذا أمر بالإعراض عنهم، ثم نسخ بآية السيف.

قوله تعالى: «وهذا كتاب أنزلناه» يعني: القرآن، قال الزجاج، والمبارك: الذي يأتي من قبله الخير الكثير. والمعنى: أنزلناه للبركة والإنذار.

٩٢

قوله تعالى: {مُّصَدّقُ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتب. قوله تعالى:

{وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ} قرأ عاصم إلا حفصا:

و{لّيُنذِرَ} بالياء؛ فيكون الكتاب هو المنذر. وقرأ الباقون: بالتاء، على الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم. فأما أم القرى، فهي مكة. قال الزجاج: والمعنى: لتنذر أهل أم القرى. وفي تسميتها بأم القرى أربعة أقوال.

احدها: أنها سميت بذلك لأن الأرض دحيت من تحتها، قاله ابن عباس.

والثاني: لأنها أقدمها، قاله ابن قتيبة.

والثالث: لأنها قبلة جميع الناس، يَؤُمُّونها.

والرابع: لأنها كانت أعظم القرى شأنا، ذكرهما الزجاج.

قوله تعالى: {وَمَنْ حَوْلَهَا} قال ابن عباس: يريد الأرض كلها. قوله تعالى:

{وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاْخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} في هاء الكناية قولان.

احدهما: أنها ترجع إلى القرآن.

والثاني: إلى النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم، والمعنى: من آمن بالآخرة آمن به؛ ومن لم يؤمن به فليس إيمانه بالآخرة حقيقة، ولا يعتد به، ألا ترى إلى قوله:

{وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} فدل على أنه أراد المؤمنين الذين يحافظون على الصلوات.

٩٣

قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللّه كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ}

اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال.

احدها: أن أولها إلى قوله: {وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَىْء} نزل في مسيلمة الكذاب. وقوله تعالى:

{وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ ٱللّه} نزل في عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، كان قد تكلم بالإسلام، وكان يكتب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض الأحايين، فاذا أملي عليه:

{عَزِيزٌ حَكِيمٌ} كتب: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيقول لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: هذا وذاك سواء. فلما نزلت {وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ مِن سُلَـٰلَةٍ مّن طِينٍ} أملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله:

{خَلْقاً ءاخَرَ} عجب عبد اللّه بن سعد، فقال:

{تَبَارَكَ ٱللّه أَحْسَنُ ٱلْخَـٰلِقِينَ} فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

{كذا أنزلت علي فاكتبها} فشك حينئذ، وقال: لئن كان محمد صادقا، لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كاذبا، لقد قلت كما قال، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال عكرمة: ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة.

والقول الثاني: أن جميع الآية في عبد اللّه بن سعد، قاله السدي.

والثالث: أنها نزلت في مسيلمة، والأسود العنسي، قاله قتادة.

فان قيل: كيف أفرد قوله: {ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللّه كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ} من قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ} وذاك مفتر أيضا؟ فعنه جوابان.

احدهما: أن الوصفين لرجل واحد، وصف بأمر بعد أمر ليدل على جرأته.

والثاني: أنه خص بقوله: {أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ} بعد أن عم بقوله:

{ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللّه} لأنه ليس كل مفتر على اللّه يدعي أنه يوحي إليه، ذكرهما ابن الأنباري.

قوله تعالى: {سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ ٱللّه} أي: سأقول. قال ابن عباس: يعنون الشعر، وهم المستهزؤون.

وقيل: هو قول عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح. قال الزجاج: وهذا جواب لقولهم: {لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا}.

قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ ٱلظَّـٰلِمُونَ} فيهم ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم قوم كانوا مسلمين بمكة، فأخرجهم الكفار معهم إلى قتال بدر، فلما أبصروا قلة أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجعوا عن الإيمان، فنزل فيهم هذا، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: أنهم الذين قالوا: {ما أَنزَلَ اللّه عَلَىٰ بَشَرٍ مّن شَىْء} قاله أبو سليمان.

والثالث: الموصوفون في هذه الآية، وهم المفترون والمدعون الوحي إليهم، ومماثلة كلام اللّه. قال الزجاج: وجواب {لَوْ} محذوف والمعنى: لو تراهم في غمرات الموت لرأيت عذابا عظيما. ويقال: لكل من كان في شيء كبير: قد غمر فلانا ذلك. قال ابن عباس: غمرات الموت: سكراته. قال ابن الانباري: قال اللغويون: سميت غمرات، لأن أهوالها يغمرن من يقعن به. قوله تعالى:

{وَٱلْمَلَـئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: بالضرب، قاله ابن عباس.

والثاني: بالعذاب، قاله الحسن، والضحاك.

والثالث: باسطوها لقبض الأرواح من الأجساد، قاله الفراء. وفي الوقت الذي يكون هذا فيه ثلاثة أقوال.

احدها: عند الموت، قال ابن عباس هذا عند الموت، الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، وملك الموت يتوفاهم.

والثاني: يوم القيامة، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثالث: في النار، قاله الحسن. قوله تعالى:

{أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ} فيه إضمار {يَقُولُونَ} وفي معناه قولان.

احدهما: استسلموا لإخراج أنفسكم.

والثاني: أخرجوا أنفسكم من العذاب إن قدرتم. قوله تعالى:

{تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ} قال أبو عبيدة: الهون: مضموم، وهو الهوان، وإذا فتحوا أوله، فهو الرفق والدعة. قال الزجاج: والمعنى: تجزون العذاب الذي يقع به الهوان الشديد.

٩٤

قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ} سبب نزولها: أن النضر بن الحارث قال: سوف تشفع لي اللات والعزى، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة. ومعنى فرادى: وحداناً. وهذا إخبار من اللّه تعالى بما يوبخ به المشركين يوم القيامة. قال أبو عبيدة: فرادى: أي فرد فرد. وقال ابن قتيبة: فرادى: جمع فرد. وللمفسرين في معنى فرادى خمسة اقوال متقاربة المعنى.

احدها: فرادى من الأهل والمال والولد، قاله ابن عباس.

والثاني: كل واحد على حدة، قاله الحسن.

والثالث: ليس معكم من الدنيا شيء، قاله مقاتل.

والرابع: كل واحد منفرد عن شريكه في الغي، وشقيقه، قاله الزجاج.

والخامس: فرادى من المعبودين، قاله ابن كيسان. قوله تعالى:

{كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فيه ثلاثة اقوال.

احدها: لا مال ولا أهل ولا ولد.

والثاني: حفاة عراة غرلا. والغرل: القلف.

والثالث: أحياءً. وخولناكم: بمعنى: ملكناكم.

{وَرَاء ظُهُورِكُمْ} أي: في الدنيا. والمعنى: أن ما دأبتم في تحصيله في الدنيا فني، وبقي الندم على سوء الاختيار.

وفي شفعائهم قولان.

احدهما: أنها الأصنام. قال ابن عباس: شفعاؤكم: أي: آلهتكم الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم. و{زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ} أي: عندكم شركاء. وقال ابن قتيبة: زعمتم أنهم لي في خلقكم شركاء.

والثاني: أنها الملائكة كانوا يعتقدون شفاعتها، قاله مقاتل. قوله تعالى:

{لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: بالرفع. و قرأ نافع، والكسائي، وحفص عن عاصم: بنصب النون على الظرف: قال الزجاج: الرفع أجود، ومعناه: لقد تقطع وصلكم، والنصب جائز، ومعناه: لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم. وقال ابن الانباري: التقدير: لقد تقطع ما بينكم، فحذف {مَا} لوضوح معناها. قال أبو علي: الذين رفعوه جعلوه اسما، فأسندوا الفعل الذي هو {تُقَطَّعَ} إليه؛ والمعنى: لقد تقطع وصلكم، والذين نصبوا، أضمروا اسم الفاعل في الفعل، والمضمر هو الوصل؛ فالتقدير: لقد تقطع وصلكم بينكم. وفي الذي {كَانُواْ * يَزْعُمُونَ} قولان.

احدهما: شفاعة آلهتهم.

والثاني: عدم البعث والجزاء.

٩٥

قوله تعالى: {إِنَّ ٱللّه فَالِقُ ٱلْحَبّ وَٱلنَّوَىٰ}

في معنى الفلق قولان.

احدهما: أنه بمعنى الخلق، فالمعنى: خالق الحب والنوى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، ومقاتل.

والثاني: أن الفلق بمعنى الشق، ثم في معنى الكلام قولان.

احدهما: أنه فلق الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والسدي، وابن زيد.

والثاني: أنه الشقان اللذان في الحب والنوى، قاله مجاهد، وأبو مالك. قال ابن السائب: الحب: ما لم يكن له نوى، كالبر والشعير، والنوى: مثل نوى التمر. قوله تعالى:

{يُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ وَمُخْرِجُ ٱلْمَيّتِ مِنَ ٱلْحَىّ} قد سبق تفسيره في ال عمران.

قوله تعالى: {فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ} أي: كيف تصرفون عن الحق بعد هذا البيان.

٩٦

قوله تعالى: {فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ} في معنى الفلق قولان قد سبقا. فأما الإصباح، فقال الأخفش: هو مصدر من أصبح. وقال الزجاج: الإصباح والصبح واحد.

وللمفسرين في الإصباح، ثلاثة أقوال.

احدها: أنه ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

والثاني: أنه إضاءة الفجر، قاله مجاهد. وقال ابن زيد: فلق الإصباح من الليل.

والثالث: أنه نور النهار، قاله الضحاك. وقرأ أنس بن مالك، والحسن، وأبو مجلز، وأيوب، والجحدري: {فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ} بفتح الهمزة. قال أبو عبيد: ومعناه: جمع صبح.

قوله تعالى: {وَجَاعِلُ * فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عامر: {جَاعِلٌ} بألف. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: {وَجَعَلَ} بغير ألف. {ٱلَّيْلَ} نصبا. قال أبو علي: من قرأ: {جَاعِلٌ} فلأجل {فَالِقُ} وهم يراعون المشاكلة.

ومن قرأ: {جَعَلَ} فلأن {فاعلا} هاهنا بمعنى: {كَذٰلِكَ فَعَلَ} بدليل قوله:

{وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً} فأما السكن: فهو ما سكنت إليه. والمعنى: أن الناس يسكنون فيه سكون راحة.

وفي الحسبان قولان.

احدهما: أنه الحساب، قاله الجمهور. قال ابن قتيبة: يقال: خذ من كل شيء بحسبانه، أي: بحسابه. وفي المراد بهذا الحساب، ثلاثة أقوال.

احدها: أنهما يجريان إلى أجل جعل لهما، رواه العوفي عن ابن عباس.

والثاني: يجريان في منازلهما بحساب، ويرجعان إلى زيادة ونقصان، قاله السدي.

والثالث: أن جريانهما سبب لمعرفة حساب الشهور والأعوام، قاله مقاتل.

والقول الثاني: أن معنى الحسبان: الضياء، قاله قتادة. قال الماوردي، كأنه أخذه من قوله تعالى: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ ٱلسَّمَاء} أي: نارا. قال ابن جرير: وليس هذا من ذاك في شيء.

٩٧

قوله تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ} جعل: بمعنى خلق. وإنما امتن عليهم بالنجوم، لأن سالكي القفار وراكبي البحار، إنما يهتدون في الليل لمقاصدهم بها.

٩٨

قوله تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِى أَنشَأَكُم مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ} يعني: آدم {فَمُسْتَقَرٌّ} قرأ ابن كثير، وابو عمرو، ويعقوب، إلا رويسا: بكسر القاف. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: بفتحها. قال الزجاج: من كسر، فالمعنى: {فَمِنكُمْ * مُّسْتَقِرٌّ}. ومن نصب، فالمعنى: {فَلَكُمْ مُّسْتَقِرٌّ} فأما مستودع، فبالفتح، لا غير. ومعناه على فتح القاف: {وَلَكُمْ} وعلى كسر القاف: {مّنكُمْ}.

وللمفسرين في هذا المستقر والمستودع تسعة أقوال.

احدها: فمستقر في الأرحام، ومستودع في الأصلاب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، والضحاك، والنخعي، وقتادة، والسدي، وابن زيد.

والثاني: المستقر في الأرحام، والمستودع في القبر، قاله ابن مسعود.

والثالث: المستقر في الأرض، والمستودع في الأصلاب، رواه ابن جبير عن ابن عباس.

والرابع: المستقر والمستودع في الرحم، رواه قابوس عن أبيه عن ابن عباس.

والخامس: المستقر حيث يأوي، والمستودع حيث يموت، رواه مقسم عن ابن عباس.

والسادس: المستقر في الدنيا، والمستودع في القبر.

والسابع: المستقر في القبر، والمستودع في الدنيا، وهو عكس الذي قبله، رويا عن الحسن.

والثامن: المستقر في الدنيا، والمستودع عند اللّه تعالى، قاله مجاهد.

والتاسع: المستقر في الأصلاب، والمستودع في الأرحام، قاله ابن بحر، وهو عكس الأول.

٩٩

قوله تعالى: {يَفْقَهُونَ وَهُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء} يعني: المطر

{فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي: بالمطر. وفي قوله تعالى:

{نَبَاتَ كُلّ شَىْء} قولان.

احدهما: نبات كل شيء من الثمار، لأن كل ما ينبت فنباته بالماء.

والثاني: رزق كل شيء غذاؤه. وفي قوله تعالى:

{فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ} قولان.

احدهما: من الماء، أي: به.

والثاني: من النبات. قال الزجاج: الخضر: بمعنى الأخضر، يقال: أخضر، فهو أخضر، وخضر، مثل أعوَّر، فهو أعور، وعَوِر.

قوله تعالى: {نُّخْرِجُ مِنْهُ} أي: من الخضر {حَبّاً} كالسنبل والشعير. والمتراكب: الذي بعضه فوق بعض. قوله تعالى:

{مُّتَرَاكِباً وَمِنَ ٱلنَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوٰنٌ دَانِيَةٌ} وروى الخفاف عن أبي عمرو، قُنوان: بضم القاف؛ وروى هارون عنه بفتحها. قال الفراء: معناه: ومن النخل ما قنوانه دانية، وأهل الحجاز يقولون: {قِنْوٰنٌ} بكسر القاف؛ وقيس يضمونها؛ وضبة، وتميم، يقولون: قنيان وأنشدني المفضل عنهم:

فأثت أعاليه وآدت أصوله ومال بقنيان من البسر أحمرا

ويجتمعون جميعا، فيقولون: {قِنو} و{قُنو} ولا يقولون: {قِني} ولا {قُني} وكلب. يقولون: {ومال بقنيان}. قال المصنف: والبيت لامرئ القيس؛ ورواه أبو سعيد السكري: {ومال بقنوان} مكسورة القاف مع الواو، ففيه أربع لغات: قِنوان، وقُنوان، وقِنيان، وقُنيان {وأثت}: كثرت؛ ومنه: شعر أثيت. {وآدت}: اشتدت. وقال ابن قتيبة: القنوان: عذوق النخل، واحدها: قنو، جمع على لفظ تثنية، ومثله: صنو وصنوان في التثنية، وصنوان في الجمع.

وقال الزجاج:قِنوان: جمع قِنو، وإذا ثنيته فهما قِنوان، بكسر النون. ودانية: أي: قريبة المتناول، ولم يقل: {وَمِنْهَا * قِنْوٰنٌ}، لأن في الكلام دليلا أن البعيدة السحيقة؛ قد كانت غير سحيقة، فاجتزىء بذكر القريبة عن ذكر البعيدة؛ كقوله تعالى: {لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ} وقال ابن عباس: القنوان الدانية: قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض.

قوله تعالى: {وَجَنَّـٰتٍ مّنْ أَعْنَـٰبٍ} قال الزجاج: هو نسق على قوله: {خُضْرًا} {وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ} المعنى: وأخرجنا منه شجر الزيتون والرمان؛ وقد روى أبو زيد عن المفضل، و{جَنَّـٰتٍ} بالرفع. قوله تعالى:

{مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَـٰبِهٍ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: مشتبها في المنظر، وغير متشابه في الطعم، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: مشتبها ورقه، مختلفا ثمره، قاله قتادة، وهو في معنى الأول.

والثالث: منه ما يشبه بعضه بعضا، ومنه ما يخالف. قال الزجاج: وإنما قرن الزيتون بالرمان لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره.

قال الشاعر:

بورك الميت الغريب كما بو رك نضح الرمان والزيتون

معناه: أن البركة في ورقه اشتماله على عوده كله. قوله تعالى:

{ٱنْظُرُواْ إِلِىٰ ثَمَرَةٍ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عامر، وعاصم: {ٱنْظُرُواْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ}، و {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} و {لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ} بالفتح في ذلك. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: بالضم فيهن. قال الزجاج: يقال: ثَمرةٌ، وثَمَرَ، وثِمَار، وثُمُر؛ فمن قرأ {إِلِىٰ ثَمَرِهِ} بالضم أراد جمع الجمع.

وقال أبو علي: يحتمل وجهين.

احدهما: هذا، وهو أن يكون الثمر جمع ثمار.

والثاني: أن تكون الثمر جمع ثمرة، وكذلك أكمة، وأكم، وخَشَبة وخُشُب. قال الفراء: يقول: انظروا إليه أول ما يعقد، وانظروا إلى ينعه، وهو نضجه وبلوغه. وأهل الحجاز يقولون: يَنَع، بفتح الياء، وبعض أهل نجد يضمونها. قال ابن قتيبة: يقال: ينعت الثمرة، وأينعت: إذا أدركت وهو، اليُنع واليَنع. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، والأعمش، وابن محيصن: {وَيَنْعِهِ} بضم الياء. قال الزجاج: الينع: النضج.

قال الشاعر:

في قباب حول دسكرة حولها الزيتون قد ينعا

وبين اللّه تعالى لهم بتصريف ما خلق،ونقله من حال إلى حال لا يقدر عليه الخلق، أنه كذلك يبعثهم. قوله تعالى:

{إِنَّ فِى ذٰلِكُمْ لاَيَـٰتٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} قال ابن عباس: يصدقون أن الذي أخرج هذا النبات قادر على أن يحيي الموتى. وقال مقاتل: يصدقون بالتوحيد.

١٠٠

قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للّه شُرَكَاء ٱلْجِنَّ} جعلوا، بمعنى: وصفوا.

قال الزجاج: نصب الجن من وجهين.

احدهما: أن يكون مفعولا، فيكون المعنى: وجعلوا للّه الجن شركاء؛ ويكون الجن مفعولا ثانيا، كقوله: {وَجَعَلُواْ ٱلْمَلَـئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَـٰثاً} {٤٣/١٩}.

والثاني: أن يكون الجن بدلا من شركاء، ومفسرا للشركاء. وقرأ ابو المتوكل، وأبو عمران، وأبو حيوة، والجحدري: {شُرَكَاء ٱلْجِنَّ} برفع النون. وقرأ ابن أبي عبلة، ومعاذ القارىء: {ٱلْجِنَّ} بخفض النون.

وفي معنى جعلهم الجن شركاء ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان، فجعلوهم شركاء للّه، قاله الحسن، والزجاج.

والثاني: قالوا: إن الملائكة بنات اللّه، فهم شركاؤه، كقوله: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً} {٣٧،١٥٨}. فسمى الملائكة جنا لاجتنانهم، قاله قتادة، والسدي، وابن زيد.

والثالث: أن الزنادقة قالوا: اللّه خالق النور والماء والدواب والأنعام، وإبليس: خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب، وفيهم نزلت هذه الآية. قاله ابن السائب. قوله تعالى:

{وَخَلَقَهُمْ} في الكناية قولان.

احدهما: أنها ترجع إلى الجاعلين له الشركاء، فيكون المعنى: وجعلوا للذي خلقهم شركاء لا يخلقون.

والثاني: أنها ترجع إلى الجن، فيكون المعنى: واللّه خلق الجن، فكيف يكون الشريك للّه مُحدِثا؟ ذكرهما الزجاج. قوله تعالى:

{وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ} وقرأ نافع: {وَخَرَقُواْ} بالتشديد، للمبالغة والتكثير، لأن المشركين ادعوا الملائكة بناتِ اللّه، والنصارى المسيحَ، واليهود عزيراً. وقرأ ابن عباس، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء: {وحرّفوا} بحاء غير معجمة وبتشديد الراء وبالفاء. وقرأ ابن السميفع، والجحدري: {خارقوا} بألف وخاء معجمة.

قال السدي: أما {وَلَهُمُ ٱلْبَنُونَ} فقول اليهود: {عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللّه}،

وقول النصارى: {ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّه}، وأما {ٱلْبَنَـٰتِ}، فقول مشركي العرب: الملائكة بناتُ اللّه.قال الفراء: خرّقوا، واخترقوا، وخلقوا، واختلقوا، بمعنى افتروا. وقال أبو عبيدة: خرقوا: جعلوا. قال الزجاج: ومعنى {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: أنهم لم يذكروه من علم، إنما ذكروه تكذبا.

١٠١

انظر تفسير الآية:١٠٢

١٠٢

قوله تعالى: {أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} قال الزجاج: أي: من أين يكون له ولد؟ والولد لا يكون إلا من صاحبة؟ٰ واحتج عليهم في نفي الولد بقوله:

{وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء} فليس مثل خالق الأشياء، فكيف يكون الولد لمن لا مثل له؟ٰ فاذا نسب إليه الولد، فقد جعل له مثل.

١٠٣

قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلاْبْصَـٰرُ} في الإدراك قولان.

احدهما: أنه بمعنى الإحاطة.

والثاني: بمعنى الرؤية. وفي {ٱلاْبْصَـٰرِ} قولان.

احدهما: أنها العيون، قاله الجمهور.

والثاني: أنها العقول، رواه عبد الرحمن ابن مهدي عن أبي حصين القارىء. ففي معنى الآية ثلاثة أقوال.

احدها: لا تحيط به الأبصار، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد ابن المسيب وعطاء. وقال الزجاج: معنى الآية: الإحاطة بحقيقته، وليس فيها دفع للرؤية، لما صح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الرؤية، وهذا مذهب أهل السنة والعلم والحديث.

والثاني: لا تدركه الأبصار إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، رواه عكرمة عن ابن عباس.

والثالث: {لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلاْبْصَـٰرُ} في الدنيا، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومقاتل. ويدل على أن الآية مخصوصة بالدنيا، قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبّهَا نَاظِرَةٌ} {٧٥،٢٢ـ٢٣} فقيد النظر إليه بالقيامة، وأطلق في هذه الآية، والمطلق يحمل على المقيد.وقوله تعالى:

{وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلاْبْصَـٰرَ} فيه القولان. قال الزجاج: وفي هذا الإعلام دليل على أن خلقه لا يدركون الأبصار، أي: لا يعرفون حقيقة البصر، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه، دون أن يبصر من غيرهما من أعضائه؛ فأعلم اللّه أن خلقا من خلقه لا يدرك المخلوقون كنهه، ولا يحيطون بعلمه؛ فكيف به عز وجل؟ٰ فأما {ٱللَّطِيفُ} فقال أبو سليمان الخطابي: هو البر بعباده، الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون. قال ابن الاعرابي: اللطيف الذي يوصل إليك أربك في رفق؛ ومنه قولهم: لطف اللّه بك؛ ويقال: هو الذي لطف عن أن يدرك بالكيفية. وقد يكون اللطف بمعنى الدقة والغموض، ويكون بمعنى الصغر في نعوت الأجسام، وذلك مما لا يليق بصفات الباري سبحانه. وقال الأزهري: اللطيف من أسماء اللّه معناه الرفيق بعباده؛ والخبير: العالم بكنه الشيء، المطلع على حقيقته.

١٠٤

قوله تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ} البصائر: جمع بصيرة، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء والعلم به. قال الزجاج: والمعنى: قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان والبصائر

{فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ} نفع ذلك {وَمَنْ عَمِىَ} فعلى نفسه ضرر ذلك، لأن اللّه عز وجل غني عن خلقه.

{وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي: لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ والوكيل، وهذا قبل الأمر بالقتال.

فصل

وذكر المفسرون أن هذه الآية نسخت بآية السيف.

وقال بعضهم: معناها: لست رقيبا عليكم أحصي أعمالكم، فعلى هذا لا وجه للنسخ.

١٠٥

قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ نُصَرّفُ ٱلاْيَـٰتِ} قال الأخفش: {وَكَذٰلِكَ} معناها: وهكذا. وقال الزجاج: المعنى: ومثل ما بينا فيما تلي عليك، نبين الآيات قال ابن عباس: نصرف الآيات، أي: نبينها في كل وجه، ندعوهم بها مرة، ونخوفهم بها أخرى.

{وَلِيَقُولُواْ} يعني: أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن {دارست}. قال ابن الانباري: معنى الآية: وكذلك نصرف الآيات، لنلزمهم الحجة، وليقولوا: دارست؛ وإنما صرف الآيات ليسعد قوم بقهمها والعمل بها، ويشقى آخرون بالإعراض عنها، فمن عمل بها سعد، ومن قال: دارست، شقي. قال الزجاج: وهذه اللام في {بِبَعْضٍ لّيَقُولواْ} يسميها أهل اللغة لام الصيرورة. والمعنى: أن السبب الذي أداهم إلى أن قالوا. دارست، هو تلاوة الآيات، وهذا كقوله: {فَٱلْتَقَطَهُ ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} {٢٨،٨} وهم لم يطلبوا بأخذه أن يعاديهم، ولكن كان عاقبة الأمر أن صار لهم عدوا وحزنا. ومثله أن تقول: كتب فلان الكتاب لحتفه، فهو لم يقصد أن يهلك نفسه بالكتاب، ولكن العاقبة كانت الهلاك.فأما {دارست} فقرأ ابن كثير، وابو عمرو: {دارسْتَ} بالألف وسكون السين وفتح التاء ومعناها: ذاكرت أهل الكتاب. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: {وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} بسكون وفتح التاء، من غير ألف، على معنى: قرأت كتب أهل الكتاب.

قال المفسرون: معناها: تعلمت من جبر، ويسار. وسنبين هذا في قوله: {إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ} {١٦،١٠٣} إن شاء اللّه. وقرأ ابن عامر، ويعقوب: {دَرَسْتَ} بفتح الراء والسين وسكون التاء من غير ألف. والمعنى: هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة قد درست. أي: قد مضت وامّحت. وجميع من ذكرنا فتح الدال في قراءته.

وقد روي عن نافع أنه قال: {دَرَسْتَ} برفع الدال وكسر الراء وتخفيف التاء، وهي فراءة ابن يعمر؛ ومعناها: قُرئت. وقرأ أبي بن كعب: {دَرَسْتَ} بفتح الدال والسين وضم الراء وتسكين التاء. قال الزجاج: وهي بمعنى: {دَرَسْتَ} أي: امحت؛ إلا أن المضمومة الراء أشد مبالغة. وقرأ معاذ القارىء، وأبو العالية، ومورق: {دَرَسْتَ} برفع الدال، وكسر الراء وتشديدها ساكنة السين.وقرأ ابن مسعود، وطلحة بن مصرف: {دَرَسَ} بفتح الراء والسين بلا ألف ولا تاء. وروى عصمة عن الأعمش: {دارس} بألف. قوله تعالى:

{دَرَسْتَ وَلِنُبَيّنَهُ} يعني التصريف {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ما تبين لهم من الحق فيقبلوه.

١٠٦

انظر تفسير الآية:١٠٧

١٠٧

قوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ}

قال المفسرون: نسخ بآية السيف. قوله تعالى:

{وَلَوْ شَاء ٱللّه مَا أَشْرَكُواْ} فيه ثلاثة اقوال حكاها الزجاج.

احدها: لو شاء لجعلهم مؤمنين.

والثاني: لو شاء لأنزل آية تضطرهم إلى الإيمان.

والثالث: لو شاء لاستأصلهم، فقطع سبب شركهم. قال ابن عباس: وباقي الآية نسخ بآية السيف.

١٠٨

قوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللّه}

في سبب نزولها قولان.

احدهما: أنه لما قال للمشركين: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ} قالوا: لتنتهين. يا محمد عن سب آلهتنا وعيبها، أو لنهجون إلهك الذي تعبده، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: أن المسلمين كانوا يسبون أوثان الكفار، فيردون ذلك عليهم، فنهاهم اللّه تعالى أن يستسبوا لربهم قوما جهلة لا علم لهم باللّه، قاله قتادة. ومعنى يدعون: يعبدون، وهي الأصنام. {فَيَسُبُّواْ ٱللّه} أي: فيسبوا من أمركم بعيبها، فيعود ذلك إلى اللّه تعالى، لا أنهم كانوا يصرحون بسب اللّه تعالى، لأنهم كانوا يقرون أنه خالقهم، وإن أشركوا به. وقوله تعالى:

{عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: ظلما بالجهل. وقرأ يعقوب: {عَدُوّا} بضم العين والدال وتشديد الواو. والعرب تقول في الظلم: عدا فلان عدوا وعدوا وعدوانا. وعدا، أي: ظلم. قوله تعالى:

{كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أي: كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام، وطاعة الشيطان، كذلك زينا لكل جماعة اجتمعت على حق أو باطل عملهم من خير أو شر.

قال المفسرون: وهذه الآية نسخت بتنبيه الخطاب في آية السيف.

١٠٩

قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِٱللّه جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ}

في سبب نزولها قولان.

احدهما: أنه لما نزل في الشعراء: {إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ ٱلسَّمَاء ءايَةً} قال المشركون: أنزلها علينا حتى واللّه نؤمن بها؛ فقال المسلمون: يا رسول اللّه، أنزلها عليهم لكي يؤمنوا؛ فنزلت هذه الآية؛ رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: أن قريشا قالوا: يا محمد، تخبرنا أن موسى كان معه عصى يضرب بها الحجر، فينفجر منها اثنتا عشرة عينا، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة، فائتنا بمثل هذه الآيات حتى نصدقك: فقال: {أَىُّ شَىْء * تُحِبُّونَ} قالوا: أن تجعل لنا الصفا ذهبا. قال: {فَإِن فَعَلْتَ} فقالوا: نعم، واللّه لئن فعلت لنتبعنك أجمعين. فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو، فجاءه جبريل. فقال: إن شئت أصبح الصفا ذهبا، ولكني لم أرسل بآية فلم يصدق بها، إلا أنزلت العذاب، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: اتركهم حتى يتوب تائبهم. فنزلت هذه الآية إلى قوله: {أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}، هذا قول محمد بن كعب القرظي. وقد ذكرنا معنى {جَهْدَ أَيْمَـٰنِهِمْ} في {المائدة}؛ وإنما حلفوا على ما اقترحوا من الآيات، كقولهم: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلاْرْضِ يَنْبُوعًا}. قوله تعالى:

{قُلْ إِنَّمَا ٱلاْيَـٰتُ عِندَ ٱللّه} أي: هو القادر على الإتيان بها دوني ودون أحد من خلقه.

{وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا} أي: يدريكم أنها. قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، وخلف في اختياره: بكسر الألف، فعلى هذه القراءة يكون الخطاب بقوله

{يُشْعِرُكُمْ} للمشركين، ويكون تمام الكلام عند قوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} ويكون المعنى: وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت؟ وتكون {أَنَّهَا} مكسورة على الاستئناف والإخبار عن حالهم. وقال أبو علي: التقدير: وما يشعركم إيمانهم؟ فحذف المفعول.

والمعنى: لو جاءت الآية التي اقترحوها، لم يؤمنوا.فعلى هذا يكون الخطاب للمؤمنين. قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا}؛ فقلت: ما منعها أن تكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذلك في هذا الموضع؛ إنما قال:

{وَمَا يُشْعِرُكُمْ} ثم ابتدأ فأوجب، فقال:

{أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ}؛ ولو قال:

{وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ}؛ كان ذلك عذرا لهم. وقرأ نافع، وحفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي: {أَنَّهَا} بفتح الألف؛ فعلى هذا، المخاطب بقوله:

{وَمَا يُشْعِرُكُمْ} رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه؛

ثم في معنى الكلام قولان.

احدهما: وما يدريكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. وفي قراءة أبي: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. والعرب تجعل {ءانٍ} بمعنى {لَعَلَّ} يقولون: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا، أي: لعلك. قال عدي بن زيد: أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى غد ي: لعل منيتي. وإلى هذا المعنى ذهب الخليل، وسيبويه، والفراء في توجيه هذه القراءة.

والثاني: أن المعنى: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون، وتكون {لا} صلة كقوله: تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُواْ * إِذْ أَمَرْتُكَ}

وقوله تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} ذكره الفراء، ورده الزجاج واختار الأول. والأكثرون على قراءة {يُؤْمِنُونَ} بالياء، منهم ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، والكسائي، وحفص عن عاصم؛ وقرأ ابن عامر، وحمزة: {بالتاء}، على الخطاب للمشركين. قال أبو علي: من قرأ بالياء، فلأن الذين أقسموا غُيَّبٌ، ومن قرأ {بالتاء}، فهو انصراف من الغيبة إلى الخطاب.

١١٠

قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَـٰرَهُمْ} التقليب: تحويل الشيء عن وجهه.

وفي معنى الكلام أربعة أقوال.

احدها: لو أتيناهم بآية كما سألوا، لقلبنا أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان بها، وحلنا بينهم وبين الهدى، فلم يؤمنوا كما لم يؤمنوا بما رأوا قبلها، عقوبة لهم على ذلك. وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد.

والثاني: أنه جواب لسؤالهم في الآخرة الرجوع إلى الدنيا؛ فالمعنى: لو رُدُّوا لحلنا بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا، روى هذا المعنى ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

والثالث: ونقلب أفئدة هؤلاء وأبصارهم عن الإيمان بالآيات كما لم يؤمن أوائلهم من الأمم الخالية بما رأوا من الآيات، قاله مقاتل.

والرابع: أن ذلك التقليب في النار، عقوبة لهم، ذكره الماوردي.

وفي هاء {بِهِ} أربعة أقوال.

احدها: أنها كناية عن القرآن.

والثاني: عن النبي صلى اللّه عليه وسلم.

والثالث: عما ظهر من الآيات.

والرابع: عن التقليب. وفي المراد بأول مرة ثلاثة أقوال.

احدها: أن المرة الأولى: دار الدنيا.

والثاني: أنها معجزات الأنبياء قبل محمد صلى اللّه عليهم وسلم.

والثالث: أنها صرف قلوبهم عن الإيمان قبل نزول الآيات أن لو نزلت؛ والطغيان والعمه مذكوران في سورة {البقرة}.

١١١

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةَ}

سبب نزولها: أن المستهزئين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في رهط من أهل مكة، فقالوا له: ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم: أحق ما تقول أم باطل؟ أو أرنا الملائكة يشهدون لك أنك رسول اللّه، أو ائتنا باللّه والملائكة قبيلا فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس ومعنى الآية ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة كما سألوا، وكلمهم الموتى، فشهدوا لك بالنبوة، {وَحَشَرْنَا}: أي: جمعنا{عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء} في الدنيا

{قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللّه} فأخبر أن وقوع الإيمان بمشيئته، لا كما ظنوا أنهم متى شاؤوا آمنوا، ومتى شاؤوا لم يؤمنوا. فأما قوله قِبَلاً} فقرأ ابن عامر، ونافع: بكسر القاف وفتح الباء. قال ابن قتيبة: معناها: معاينة.

وقرأ ابن كثير، وابو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي {قُبُلاً} بضم القاف والباء.

وفي معناها ثلاثة أقوال.

احدها: أنه جمع قبيل، وهو الصِّنف؛ فالمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء قبيلا قبيلا، قاله مجاهد، واختاره أبو عبيدة، وابن قتيبة.

والثاني: أنه جمع قبيل أيضا، إلا أنه: الكفيل؛ فالمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء، فكفل بصحة ما تقول، اختاره الفراء، وعليه اعتراض، وهو أن يقال: إذا لم يؤمنوا بانزال الملائكة، وتكليم الموتى، فلأن لا يؤمنوا بالكفالة التي هي قول، أولى.

فالجواب: أنه لو كفلت الأشياء المحشورة، فنطق ما لم ينطق، كان ذلك آية بينة.

والثالث: أنه بمعنى: المقابل، فيكون المعنى: وحشرنا عليهم كل شيء، فقابلهم، قاله ابن زيد. قال أبو زيد: يقال: لقيت فلانا قِبَلاً وقَبَلاً وقُبُلاً وقبيلاً وقَبَليَّا ومقابلة، وكله واحد، وهو للمواجهة. قال أبو علي: فالمعنى في القرآن على ما قاله. أبو زيدـ واحد، وإن اختلفت الألفاظ. قوله تعالى:

{وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} فيه قولان.

احدهما: يجهلون أن الاشياء لا تكون إلا بمشيئة اللّه تعالى.

والثاني: أنهم يجهلون أنهم لو أوتوا بكل آية ما آمنوا.

١١٢

قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً} أي: وكما جعلنا لك ولأمتك شياطين الإنس والجن أعداءً، كذلك جعلنا لمن تقدمك من الأنبياء وأممهم؛ والمعنى: كما ابتليناك بالأعداء، ابتلينا من قبلك، ليعظم الثواب عند الصبر على الأذى.

قال الزجاج: {وَعَدُوٌّ}: في معنى أعداء،

و{شَيَـٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنّ}: منصوب على البدل من {عَدُوٌّ} ومفسر له؛ ويجوز أن يكون: {عَدُوّا} منصوب على أنه مفعول ثان، المعنى: وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداء لأممهم.

وفي شياطين الإنس والجن ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم مردة الإنس والجن، قاله الحسن، وقتادة.

والثاني: أن شياطين الإنس: الذين مع الإنس، وشياطين الجن: الذين مع الجن، قاله عكرمة، والسدي.

والثالث: أن شياطين الإنس والجن: كفارهم، قاله مجاهد.

قوله تعالى: {يُوحِى} أصل الوحي: الإعلام والدلالة بستر وإخفاء. وفي المراد به هاهنا ثلاثة أقوال.

احدها: أن معناه: يأمر.

والثاني: يوسوس.

والثالث: يشير.

وأما {زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ}، فهو ما زُيِّن منه، وحُسِّن، ومُوِّه، وأصل الزخرف: الذهب. قال أبو عبيدة: كل شيء حسسته وزينته وهو باطل، فهو زخرف. وقال الزجاج: الزخرف في اللغة: الزينة؛ فالمعنى: أن بعضهم يزين لبعض الأعمال القبيحة؛

و{غُرُوراً} منصوب على المصدر؛ وهذا المصدر محمول على المعنى، لأن معنى إيحاء الزخرف من القول: معنى الغرور، فكأنه قال: يَغرُّون غُرورا.

وقال ابن عباس: {زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً}: الأماني بالباطل. قال مقاتل: وكل إبليس بالإنس شياطين يضلونهم، فاذا التقى شيطان الإنس بشيطان الجن، قال احدهما لصاحبه: إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضلل أنت صاحبك بكذا وكذا، فذلك وحي بعضهم إلى بعض.

وقال غيره: إن المؤمن إذا أعيا شيطانه، ذهب إلى متمرد من الإنس، وهو شيطان الإنس، فأغراه بالمؤمن ليفتنه. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإن من الإنس شياطين. وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن، لأني إذا تعوذت من ذاك ذهب عني، وهذا يجرني إلى المعاصي عيانا. قوله تعالى:

{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} في هاء الكناية ثلاثة أقوال.

احدها: أنها ترجع إلى الوسوسة.

والثاني: ترجع إلى الكفر.

والثالث: إلى الغرور وأذى النبيين. قوله تعالى:

{فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} قال مقاتل: يريد كفار مكة وما يفترون من الكذب.

وقال غيره: فذر المشركين وما يخاصمونك به مما يوحي إليهم أولياؤهم، وما يختلقون من كذب، وهذا القدر من هذه الآية منسوخ بآية السيف.

١١٣

قوله تعالى: {ءاوَىٰ إِلَيْهِ} أي: ولتميل؛ والهاء: كناية عن الزخرف والغرور. والأفئدة: جمع فؤاد، مثل غراب وأغربة. قال ابن الأنباري: فعلنا بهم ذلك لكي تصغي إلى الباطل أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، {وليرضوا} الباطل،

{وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ} أي: ليكتسبوا وليعملوا ما هم عاملون.

١١٤

قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ ٱللّه أَبْتَغِى حَكَماً} سبب نزولها: أن مشركي قريش قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حكما، إن شئت من أحبار اليهود، وإن شئت من أحبار النصارى، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك، فنزلت هذه الآية، ذكره الماوردي. فأما الحكم: فهو بمعنى الحاكم؛ والمعنى: أفغير اللّه أطلب قاضيا بيني وبينكم؟ٰ و{ٱلْكِتَـٰبِ}: القرآن، و{المفصل}: المبين الذي بان فيه الحق من الباطل، والأمر من النهي، والحلال من الحرام.

{مُفَصَّلاً وَٱلَّذِينَ ءاتَيْنَـٰهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ} فيهم قولان.

احدهما: علماء أهل الكتابين، قاله الجمهور.

والثاني: رؤساء أصحاب النبي محمد صلى اللّه عليه وسلم، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأشباههم، قاله عطاء. قوله تعالى:

{يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ} قرأ ابن عامر، وحفص، عن عاصم: {مُنَزَّلٌ} بالتشديد وخففها الباقون.

١١٥

قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ} قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وابن عامر، ونافع: {كَلِمَـٰتُ} على الجمع؛ وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب: {كَلِمَةَ} على التوحيد؛ وقد ذكرت العرب الكلمة، وأرادت الكثرة؛ يقولون: قال قُسّ في كلمته، أي: في خطبته، وزهير في كلمته، أي: في قصيدته.

وفي المراد بهذه الكلمات ثلاثة أقوال.

احدها: أنها القرآن، قاله قتادة.

والثاني: أقضيته وعداته.

والثالث: وعده ووعيده، وثوابه وعقابه.

وفي قوله: {صِدْقاً وَعَدْلاً} قولان.

احدهما: صدقا فيما أخبر، وعدلا فيما قضى وقدر.

والثاني: صدقا فيما وعد وأوعد، وعدلا فيما أمر ونهى.

وفي قوله: {لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَـٰتِهِ} قولان.

احدهما: لا يقدر المفترون على الزيادة فيها والنقصان منها.

والثاني: لا خلف لمواعيده، ولا مغير لحكمه.

١١٦

قوله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلاْرْضِ}

سبب نزولها: أن الكفار قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل ربكم؟ فنزلت هذه الآية، ذكره الفراء.

والمراد ب {أَكْثَرَ مَن فِى ٱلاْرْضِ}: الكفار.

وفي ماذا يطيعهم فيه أربعة أقوال.

احدها: في أكل الميتة.

والثاني: في أكل ما ذبحوا للأصنام.

والثالث: في عبادة الأوثان.

والرابع: في اتباع ملل الآباء؛ و{سَبِيلِ ٱللّه}: دينه. قال ابن قتيبة:

ومعنى {يَخْرُصُونَ}: يحدسون ويوقعون، ومنه قيل للحازر: {خارص}

فان قيل: كيف يجوز تعذيب من هو على ظن من شركه، وليس على يقين من كفره؟ٰ

فالجواب: انهم لما تركوا التماس الحجة، واتبعوا أهواءهم، واقتصروا على الظن والجهل، عذبو،ا ذكره الزجاج.

١١٧

قوله تعالى: {يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} قال الزجاج: موضع {مِنْ} رفع بالابتداء، ولفظها لفظ الاستفهام؛ والمعنى: إن ربك هو أعلم أي الناس يضل عن سبيله. وقرأ الحسن: {مَن يَضِلُّ} بضم الياء وكسر الضاد، وهي رواية ابن أبي شريح. قال أبو سليمان: ومقصود الآية: لا تلتفت إلى قسم من أقسم أنه يؤمن عند مجيء الآيات، فلن يؤمن إلا من سبق له القدر بالإيمان.

١١٨

قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللّه عَلَيْهِ} سبب نزولها: أن اللّه تعالى لما حرم الميتة، قال المشركون للمؤمنين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون اللّه، فما قتل اللّه لكم أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم، يريدون الميتة، فنزلت هذه الآية، رواه ابو صالح عن ابن عباس.

١١٩

قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ} قال الزجاج: المعنى: وأي شيء يقع لكم في أن لا تأكلوا؟ وموضع {ءانٍ} نصب، لأن {فِى} سقطت، فوصل المعنى إلى {ءانٍ} فنصبها. قوله تعالى:

{وَقَدْ فصل لَكُم} قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وابن عامر:

{فصل لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} مرفوعتان؛ وقرأ نافع، وحفص عن عاصم، ويعقوب، والقزاز عن عبد الوارث: {فصل} بفتح الفاء، {مَا حَرَّمَ} بفتح الحاء، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {فصل} بفتح الفاء، {مَا حَرَّمَ} بضم الحاء. قال الزجاج: أي: فصل لكم الحلال من الحرام، وأحل لكم في الاضطرار ما حُرِّم. وقال سعيد بن جبير:

{فصل لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} يعني: ما بين في {المائدة} من الميتة، والدم، إلى آخر الآية.

{وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم} يعني: مشركي العرب يضلون في أمر الذبائح وغيره، قرأ ابن كثير، وابو عمرو: ليضلون، وفي {يُونُسَ}:

{رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ} وفي {إِبْرَاهِيمَ} {أَندَادًا لّيُضِلُّواْ} وفي {ٱلْحَجُّ}

{ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ} وفي {لُقْمَانَ}: {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللّه بِغَيْرِ عِلْمٍ} وفي {الزمر}:

{للّه أَندَاداً لّيُضِلَّ} بفتح الياء في هذه المواضع الستة؛ وضمهن عاصم، وحمزة، والكسائي. وقرأ نافع، وابن عامر، {لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم} وفي {يُونُسَ}: {لِيُضِلُّواْ} بالفتح، وضما الأربعة الباقية. فمن فتح، أراد: أنهم هم الذين ضلوا؛ ومن ضم، أراد: أنهم أضلوا غيرهم، وذلك أبلغ في الضلال، لأن كل مضل ضال، وليس كل ضال مُضِلا.

١٢٠

قوله تعالى: {وَذَرُواْ ظَـٰهِرَ ٱلإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}

في الإثم هاهنا ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الزنا، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

فعلى هذا، في ظاهره وباطنه قولان.

احدهما: أن ظاهره: الإعلان به، وباطنه: الاستسرار، قاله الضحاك، والسدي. قال الضحاك: وكانوا يرون الاستسرار بالزنا حلالا.

والثاني: أن ظاهره: نكاح المحرمات، كالأمهات، والبنات، وما نكح الآباء. وباطنه: الزنا، قاله سعيد بن جبير.

والثاني: أنه عام في كل إثم،

والمعنى: ذروا المعاصي سرها وعلانيتها؛ وهذا مذهب أبي العالية، ومجاهد، وقتادة، والزجاج. وقال ابن الأنباري: المعنى: ذروا الإثم من جميع جهاته.

والثالث: أن الإثم: المعصية، إلا أن المراد به هاهنا أمر خاص. قال ابن زيد: ظاهره هاهنا: نزع أثوابهم، إذ كانوا يطوفون بالبيت عراة، وباطنه: الزنا.

١٢١

قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ٱسْمُ ٱللّه عَلَيْهِ} سبب نزولها: مجادلة المشركين للمؤمنين في قولهم: أتأكلون مما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل اللّهٰ على ما ذكرنا في سبب قوله تعالى:

{فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ ٱسْمُ ٱللّه عَلَيْهِ} هذا قول ابن عباس. وقال عكرمة: كتبت فارس إلى قريش: إن محمدا وأصحابه لا يأكلون ما ذبحه اللّه، ويأكلون ما ذبحوا لأنفسهم؛ فكتب المشركون إلى أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فنزلت هذه الآية.

وفي المراد بما لم يذكر اسم اللّه عليه أربعة أقوال.

احدها: أنه الميتة، رواه ابن جبير عن ابن عباس.

والثاني: أنه الميتة والمنخنقة، إلى قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ} روي عن ابن عباس.

والثالث: أنها ذبائح كانت العرب تذبحها لأوثانها، قاله عطاء.

والرابع: أنه عام فيما لم يسم اللّه عند ذبحه، وإلى هذا المعنى ذهب عبد اللّه ابن يزيد الخطمي، ومحمد بن سيرين. فصل ان تعمد ترك التسمية، فهل يباح؟ فيه عن احمد روايتان. وإن تركها ناسيا أبيحت. وقال

الشافعي: لا يحرم في الحالين جميعا. وقال شيخنا علي بن عبيد اللّه: فاذا قلنا إن ترك التسمية عمدا يمنع الإباحة، فقد نسخ من هذه الآية ذبائح أهل الكتاب بقوله:

{وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ} وعلى قول الشافعي: الآية محكمة. قوله تعالى:

{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} يعني: وإن أكل ما لم يذكر عليه اسم اللّه لفسق، أي: خروج عن الحق والدين.

وفي المراد بالشياطين هاهنا قولان.

احدهما: أنم شياطين الجن، روي عن ابن عباس.

والثاني: قوم من أهل فارس، وقد ذكرناه عن عكرمة؛ فعلى الأول: وحيهم الوسوسة، وعلى الثاني: وحيهم الرسالة. والمراد ب{أَوْلِيَائِهِمْ}: الكفار الذين جادلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ترك أكل الميتة. ثم فيهم قولان.

احدهما: أنهم مشركو قريش.

والثاني: اليهود. {وَأَنْ} في استحلال الميتة، {أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.

١٢٢

قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ}

اختلفوا فيمن نزلت على خمسة اقوال.

احدها: أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وأبي جهل، وذلك أن أبا جهل رمى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بفرث، وحمزة لم يؤمن بعد، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل، فأقبل حتى علا أبا جهل بالقوس، فقال له: أما ترى ما جاء به؟ سفه عقولنا وسبّ آلهتنا فقال حمزة: ومن أسفه منكم؟ تعبدون الحجارة من دون اللّه؟ٰ أشهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدا عبده ورسوله، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.

والثاني: أنها نزلت في عمار بن ياسر، وأبي جهل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة.

والثالث: في عمر بن الخطاب، وأبي جهل، قاله زيد بن أسلم، والضحاك.

والرابع: في النبي صلى اللّه عليه وسلم، وابي جهل، قاله مقاتل.

والخامس: أنها عامة في كل مؤمن وكافر، قاله الحسن في آخرين.

وفي قوله: {كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ} قولان.

احدهما: كان ضالا فهديناه، قاله مجاهد.

والثاني: كان جاهلا فعلمناه، قاله الماوردي.

وقرأ نافع: {مَيْتًا} بالتشديد. قال أبو عبيدة: الميتة، مخففة من: ميّتة، والمعنى واحد.

وفي النور ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الهدى، قاله ابن عباس.

والثاني: القرآن، قاله الحسن.

والثالث: العلم.

وفي قوله: {يَمْشِي بِهِ فِى ٱلنَّاسِ} ثلاثة أقوال.

احدها: يهتدي به في الناس، قاله مقاتل.

والثاني: يمشي به بين الناس إلى الجنة.

والثالث: ينشر به دينه في الناس، فيصير كالماشي، ذكرهما الماوردي. قوله تعالى:

{كَمَن مَّثَلُهُ} المثل: صلة؛

والمعنى: كمن هو في الظلمات. وقيل المعنى: كمن لو شبه بشيء، كان شبيهه من في الظلمات. وقيل المراد بالظلمات هاهنا: الكفر. قوله تعالى:

{وَكَـذٰلِكَ زُيّنَ} أي: كما بقي هذا في ظلماته لا يتخلص منها، كذلك

{زُيّنَ لِلْكَـٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من الشرك والمعاصي.

١٢٣

قوله تعالى:{وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ} أي: وكما زينا للكافرين عملهم، فكذلك {جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَـٰبِرَ مُجْرِمِيهَا}.

وقيل معناه: وكما جعلنا فساق مكة أكابرها، فكذلك جعلنا فساق كل قرية أكابرها. وإنما جعل الأكابر فساق كل قرية، لأنهم أقرب إلى الكفر بما أعطوا من الرياسة والسعة. وقال ابن قتيبة: تقدير الآية: وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر؛ و{أَكَـٰبِرَ} لا ينصرف، وهم العظماء. قوله تعالى:

{لِيَمْكُرُواْ فِيهَا} قال أبو عبيدة المكر والخديعة، والحيلة، والفجور، والغدر، والخلاف. قال ابن عباس: ليقولوا فيها الكذب. قال مجاهد: أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعة، ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم. يقولون: للناس: هذا شاعر، وكاهن. قوله تعالى:

{وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ} أي: ذلك المكر بهم يحيق.

١٢٤

قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ} سبب نزولها: أن أبا جهل قال: زاحمتنا بنو عبد مناف في الشرف، حتى إذا صرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يوحى إليه، واللّه لا نؤمن به ولا نتبعه أو أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. قال الزجاج: الهاء والميم تعود على الأكابر الذين جرى ذكرهم. وقال أبو سليمان: تعود على المجادلين في تحريم الميتة. قال مقاتل: والآية انشقاق القمر، والدخان. قال ابن عباس:

في قوله: {مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ ٱللّه} قال: حتى يوحى إلينا، ويأتينا جبريل، فيخبرنا أن محمدا صادق. قال الضحاك: سأل كل واحد منهم أن يختص بالرسالة والوحي. قوله تعالى:

{ٱللّه أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ} وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: {يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} بنصب التاء على التوحيد؛ والمعنى: أنهم ليسوا لها بأهل، وذلك أن الوليد بن المغيرة قال: واللّه لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سناً، وأكثر منك مالاً، فنزل قوله تعالى: {ٱللّه أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ} وقال أهل المعاني: الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل مبعثهم مطاعين في قومهم، لأن الطعن كان يتوجه عليهم، فيقال: إنما كانوا رؤسا فاتبعوا، فكان اللّه أعلم حيث جعل الرسالة ليتيم أبي طالب، دون أبي جهل، والوليد، وأكابر مكة. قوله تعالى:

{رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ} قال أبو عبيدة: الصغار: أشد الذل. وقال الزجاج: المعنى: هم، وإن كانوا أكابر في الدنيا، فسيصبهم صغار عند اللّه، أي: صغار ثابت لهم عند اللّه. وجائز أن يكون المعنى: سيصيبهم عند اللّه صغار. وقال الفراء: معناه: صغار من عند اللّه، فحذفت {مِنْ}. وقال ابو روق: صغار في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة.

١٢٥

قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ ٱللّه أَن يَهْدِيَهُ} قال مقاتل: نزلت في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وابي جهل. قوله تعالى:

{يَشْرَحْ صَدْرَهُ} قال ابن الاعرابي: الشرح: الفتح. قال ابن قتيبة: ومنه يقال: شرحت لك الأمر، وشرحت اللحم: إذا فتحته. وقال ابن عباس: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ} أي: يوسع قلبه للتوحيد والإيمان. وقد روى ابن مسعود أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قرأ:

{فَمَن يُرِدِ ٱللّه أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ} فقيل له: يا رسول اللّه، وما هذا الشرح؟ قال:

«نور يقذفه اللّه في القلب، فينفتح القلب» قالوا: فهل لذلك من أمارة؟ قال: نعم. قيل: وما هي؟ قال: {الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله}. قوله تعالى:

{ٱللّه أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً} قرأ الأكثرون بالتشديد. وقرأ ابن كثير: {ضَيّقاً} وفي {ٱلْفُرْقَانَ} {مَكَاناً ضَيّقاً} بتسكين الياء خفيفة. قال أبو علي: الضَّيِق والضَّيْق: مثل: الميّت، والميْت. قوله تعالى:

{حَرَجاً} قرأ ابن كثير، وابو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {حَرَجاً} بفتح الراء. وقرأ نافع، وابو بكر عن عاصم: بكسر الراء. قال الفراء: وهما لغتان. وكذلك قال يونس بن حبيب النحوي: هما لغتان، إلا أن الفتح أكثر من ألسنة العرب من الكسر، ومجراهما مجرى الدَّنَف والدَّنِفَ. وقال الزجاج: الحرج في اللغة: أضيق الضيق. قوله تعالى:

{كَأَنَّمَا} قرأ نافع، وابو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ} بتشديد الصاد والعين وفتح الصاد من غير ألف.

وقرأ أبو بكر عن عاصم: {يصّاعد} بتشديد الصاد وبعدها ألف.

وقرأ ابن كثير: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ} بتخفيف الصاد والعين من غير ألف والصاد ساكنة.

وقرأ ابن مسعود، وطلحة: {تصْعَدُ} بتاء من غير ألف.

وقرأ أبي بن كعب: {يتصاعد} بألف وتاء. قال الزجاج: قوله:

{كَأَنَّمَا وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء}. و{يَصَّعَّدُ}، اصله: {يتصاعد}، و{يتصعد}، إلا أن التاء تدغم في الصاد لقربها منها، والمعنى: كأنه. قد كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه. ويجوز أن يكون المعنى: كأن قلبه يصعد في السماء نبوا عن الإسلام والحكمة. وقال الفراء: ضاق عليه المذهب، فلم يجد إلا أن يصعد في السماء، وليس يقدر على ذلك. وقال ابو علي:

{كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ} و{يَصّاعد}: من المشقة، وصعوبة الشيء، ومنه قول عمر: ما تصعدني شيء كما تصعدتني خطبة النكاح، أي: ما شق علي شيء مشقتها. قوله تعالى:

{قَالَ كَذٰلِكَ} أي: مثل ما قصصنا عليك.

{يَجْعَلُ ٱللّه ٱلرّجْسَ} وفيه خمسة أقوال.

احدها: أنه الشيطان، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، يعني: أن اللّه يسلطه عليهم.

والثاني: أنه المأتم، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثالث: أنه مالا خير فيه، قاله مجاهد.

والرابع: أنه العذاب، قاله عطاء وابن زيد، وأبو عبيدة.

والخامس: أنه اللعنة في الدنيا، والعذاب في الآخرة، قاله الزجاج. وهذه الآية تقطع كلام القدرية، إذ قد صرحت بأن الهداية والإضلال متعلقة بارادة اللّه تعالى.

١٢٦

قوله تعالى: {وَهَـٰذَا صِرٰطُ رَبّكَ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أنه القرآن، قاله ابن مسعود.

والثاني: التوحيد، قاله ابن عباس.

والثالث: ما هو عليه من الدين، قاله عطاء: ومعنى استقامته: أنه يؤدي بسالكه إلى الفوز. قال مكي بن أبي طالب: و{مُّسْتَقِيماً} نصب على الحال من {صِرَاطَ}، وهذه الحال يقال لها: الحال المؤكدة، لأن صراط اللّه لا يكون إلا مستقيما، ولم يؤت بها لتفرق بين حالتين، إذ لا يتغير صراط اللّه عن الاستقامة أبدا، وليست هذه الحال كحال من قولك: {هَـٰذَا زَيْدٌ}، لأن زيدا قد يخلو من الركوب.

١٢٧

قوله تعالى: {يَذَّكَّرُونَ لَهُمْ دَارُ ٱلسَّلَـٰمِ} يعني: الجنة. وفي تسميتها بذلك أربعة أقوال.

احدها: أن السلام، هو اللّه، وهي داره، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والسدي.

والثاني: أنها دار السلامة التي لا تنقطع، قاله الزجاج.

والثالث: أن تحية أهلها فيها السلام، ذكره أبو سليمان الدمشقي.

والرابع: أن جميع حالاتها مقرونة بالسلام، ففي ابتداء دخولهم:

{ٱدْخُلُوهَا بِسَلامٍ} وبعد استقرارهم: {عَلَيْكُمْ} وقوله:

{إِلاَّ قِيلاً سَلَـٰماً سَلَـٰماً} وعند لقاء اللّه: {سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ} وقوله

{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَـٰمٌ} ومعنى عند ربهم أي مضمونة لهم عنده وهو وليهم أي متولي إيصال المنافع إليهم ودفع المضار عنهم «بما كانوا يعملون» من الطاعات.

١٢٨

قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} يعني: الجن والإنس. وقرأ حفص عن عاصم: {يَحْشُرُهُمْ} بالياء. قال أبو سليمان: يعني: المشركين وشياطينهم الذين كانوا يوحون إليهم بالمجادلة لكم فيما حرمه اللّه من الميتة. قوله تعالى:

{كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ} فيه إضمار، فيقال لهم: يا معشر؛ والمعشر: الجماعة أمرهم واحد، والجمع: المعاشر.

وقوله: {قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُم مّنَ ٱلإنْسِ} أي: من إغوائهم وإضلالهم.

{وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ ٱلإِنْسِ} يعني: الذين أضلهم الجن.

{رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: أن استمتاع الإنس بالجن: أنهم كانوا إذا سافروا، فنزلوا واديا، وأرادوا مبيتا، قال أحدهم: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهله؛ واستمتاع الجن بالإنس: أنهم كانوا يفخرون على قومهم، ويقولون: قد سدنا الإنس حتى صاروا يعوذون بنا، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل، والفراء.

والثاني: أن استمتاع الجن بالإنس: طاعتهم لهم فيما يغرونهم به من الضلالة والكفر والمعاصي. واستمتاع الإنس بالجن: أن الجن زينت لهم الأمور التي يهوونها، وشَّهوها إليهم حتى سهل عليهم فعلها، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس، وبه قال محمد بن كعب، والزجاج.

والثالث: أن استمتاع الجن بالإنس: إغواؤهم إياهم. واستمتاع الإنس بالجن: ما يتلقون منهم من السحر والكهانة ونحو ذلك. والمراد بالجن في هذه الآية: الشياطين. قوله تعالى:

{وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا ٱلَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا} فيه قولان.

احدهما: الموت، قاله الحسن، والسدي.

والثاني: الحشر، ذكره الماوردي. قوله تعالى:

{قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَاكُمْ} قال الزجاج: المثوى: المقام؛ و{خَـٰلِدِينَ} منصوب على الحال. المعنى: النار مقامكم في حال خلود دائم {إِلاَّ مَا شَاء ٱللّه} هو استثناء من يوم القيامة،

والمعنى:{خَـٰلِدِينَ فِيهَا} مذ يبعثون {إِلاَّ مَا شَاء ٱللّه} من مقدار حشرهم من قبورهم، ومدتهم في محاسبتهم. ويجوز أن تكون: {إِلاَّ مَا شَاء ٱللّه} أن يزيدهم من العذاب.

وقال بعضهم: {إِلاَّ مَا شَاء ٱللّه} من كونهم في الدنيا بغير عذاب؛

وقيل في هذا غير قول، ستجدها مشروحة في {هُودٍ} إن شاء اللّه.

١٢٩

قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ نُوَلّى بَعْضَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بَعْضاً}

في معناه أربعة اقوال.

احدها: نجعل بعضهم أولياء بعض، رواه سعيد عن قتادة.

والثاني: نتبع بعضهم بعضا في النار بأعمالهم من الموالاة، وهي المتابعة، رواه معمر عن قتادة.

والثالث: نسلط بعضهم على بعض، قاله ابن زيد.

والرابع: نكل بعضهم إلى بعض ولا نعينهم، ذكره الماوردي.

قوله تعالى: {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي: من المعاصي.

١٣٠

قوله تعالى: {يَكْسِبُونَ يَـٰمَعْشَرَ ٱلْجِنّ وَٱلإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ} قرأ الحسن، وقتادة: {تأتكم} بالتاء، {يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ}.

واختلفوا في الرسالة إلى الجن على أربعة اقوال.

احدها: أن الرسل كانت تبعث إلى الإنس خاصة، وأن اللّه تعالى بعث محمدا صلى اللّه عليه وسلم إلى الإنس والجن، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: أن رسل الجن هم الذين سمعوا القرآن، فولوا إلى قومهم منذرين، روي عن ابن عباس أيضا. وقال مجاهد: الرسل من الإنس، والنذر من الجن، وهم قوم يسمعون كلام الرسل، فيبلغون الجن ما سمعوا.

والثالث: أن اللّه تعالى بعث إليهم رسلا منهم، كما بعث إلى الإنس رسلا منهم، قاله الضحاك، ومقاتل، وأبو سليمان، وهو ظاهر الكلام.

والرابع: أن اللّه تعالى لم يبعث إليهم رسلا منهم، وإنما جاءتهم رسل الإنس، قاله ابن جريج، والفراء، والزجاج. قالوا: ولا يكون الجمع في قوله

{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ} مانعا أن تكون الرسل من أحد الفريقين، كقوله تعالى:

{يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} وإنما هو خارج من الملح وحده.

وفي دخول الجن الجنة إذا آمنوا قولان.

احدهما: يدخلونها، ويأكلون ويشربون، قاله الضحاك.

والثاني: أن ثوابهم أن يجاروا من النار، ويصيروا ترابا، رواه سفيان عن ليث. قوله تعالى:

{يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءايَـٰتِى} أي: يقرؤون عليكم كتبي. {وَيُنذِرُونَكُمْ} أي: يخوفونكم بيوم القيامة.

وفي قوله: {شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} قولان.

احدهما: أقررنا على أنفسنا بانذار الرسل لنا.

والثاني: شهد بعضنا على بعض بانذار الرسل إياهم. ثم أخبرنا اللّه تعالى بحالهم، فقال:

{وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا} أي: بزينتها، وإمهالهم فيها.

{وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} أي: أقروا أنهم كانوا في الدنيا كافرين. وقال مقاتل: ذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر.

١٣١

قوله تعالى: {ذٰلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ} قال الزجاج: ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل، وأمر عذاب من كذب، لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم، أي: لا يهلككم حتى يبعث إليهم رسولا.

قال ابن عباس: {بِظُلْمٍ} أي: بشرك {وَأَهْلُهَا غَـٰفِلُونَ} لم يأتهم رسول.

١٣٢

قوله تعالى: {وَلِكُلّ دَرَجَـٰتٌ مّمَّا عَمِلُواْ} أي: لكل عامل بطاعة اللّه أو بمعصيته درجات، أي: منازل يبلغها بعمله، إن كان خيرا فخيرا، وإن كان شرا فشرا. وإنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع والانحطاط، كتفاضل الدرج. قوله تعالى:

{عَمَّا يَعْمَلُونَ} قرأ الجمهور بالياء؛ وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب.

١٣٣

انظر تفسير الآية:١٣٤

١٣٤

قوله تعالى: {وَرَبُّكَ ٱلْغَنِىُّ} يريد: الغني عن خلقه {ذُو ٱلرَّحْمَةِ} قال ابن عباس: بأوليائه وأهل طاعته.

وقال غيره: بالكل. ومن رحمته تأخير الانتقام من المخالفين.

{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} بالهلاك؛

وقيل: هذا الوعيد لأهل مكة؛ {وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَا أَنشَأَكُمْ} أي: ابتدأكم

{مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ} يعني: آباءهم الماضين.

{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ} به من مجيء الساعة والحشر

{لأَتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي: بفائتين قال أبو عبيدة: يقال: أعجزني كذا، أي: فاتني وسبقني.

١٣٥

قوله تعالى: {عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ} وقرأ أبو بكر عن عاصم {مكاناتكم} على الجمع.

قال ابن قتيبة: أي: على موضعكم يقال: مكان ومكانة، ومنزل ومنزلة، وقال الزجاج: اعملوا على تمكنكم. قال: ويجوز أن يكون المعنى: اعملوا على ما أنتم عليه. تقول للرجل إذا أمرته أن يثبت على حال: كن على مكانتك. قوله تعالى:

{مَكَانَتِكُمْ إِنّى عَـٰمِلٌ} أي: عامل ما أمرني به ربي

{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَـٰقِبَةُ ٱلدَّارِ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وابن عامر، وعاصم، {تَكُونَ} بالتاء وقرأ حمزة، والكسائي: بالياء. وكذلك خلافهم في {ٱلْقَصَصِ}، ووجه التأنيث: اللفظ، ووجه التذكير: أنه ليس بتأنيث حقيقي. وعاقبة الدار: الجنة، والظالمون هاهنا: المشركون.

فان قيل: ظاهر هذه الآية أمرهم بالاقامة على ما هم عليه، وذلك لا يجوز.

فالجواب: أن معنى هذا الأمر المبالغة في الوعيد؛ فكأنه قال: أقيموا على ما أنتم عليه، إن رضيتم بالعذاب، قاله الزجاج.

فصل وفي هذه الآية قولان.

احدهما: أن المراد بها: التهديد، فعلى هذا: هي محكمة.

والثاني: أن المراد بها: ترك القتال، فعلى هذا: هي منسوخة بآية السيف.

١٣٦

قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للّه مِمَّا ذَرَأَ} قال ابن قتيبة: ذرأ: بمعنى: خلق.

{مِنَ ٱلْحَرْثِ} وهو الزرع. {وَٱلاْنْعَـٰمُ}: الإبل والبقر والغنم. وكانوا إذا زرعوا، خطوا خطا، فقالوا: هذا للّه، وهذا لآلهتنا، فاذا حصدوا ما جعلوه للّه، فوقع منه شيء فيما جعلوه لآلهتهم، تركوه، وقالوا: هي إليه محتاجة؛ وإذا حصدوا ما جعلوه لآلهتهم، فوقع منه شيء في مال اللّه، أعادوه، إلى موضعه. وكانوا يجعلون من الأنعام شيئا للّه، فاذا ولدت إناثها ميتا، أكلوه، وإذا ولدت أنعام آلهتهم ميتا عظموه فلم يأكلوه. وقال الزجاج: معنى الآية: وجعلوا للّه مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا، وجعلوا لشركائهم نصيبا، يدل عليه قوله تعالى:

{فَقَالُواْ هَـٰذَا للّه بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَائِنَا}، فدل بالإشارة إلى النصيبين على نصيب الشركاء، وكانوا إذا زكا ما للّه، ولم يزك ما لشركائهم، ردوا الزاكي على أصنامهم، وقالوا: هذه أحوج، واللّه غني وإذا زكا ما للأصنام، ولم يزك ما للّه، أقروه على ما به.

قال المفسرون: وكانوا يصرفون ما جعلوا للّه إلى الضيفان والمساكين. فمعنى قوله: {فَلاَ يَصِلُ إِلَى ٱللّه} أي: إلى هؤلاء. ويصرفون نصيب آلهتهم في الزرع إلى النفقة على خدامها. فأما نصيبها في الأنعام ففيه ثلاثة أقوال.

احدها: أنه كان للنفقة عليها أيضا.

والثاني: أنهم كانوا يتقربون به، فيذبحونه لها.

والثالث: أنه البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. وقال الحسن: كان إذا هلك ما لأ وثانهم غرموه، وإذا هلك ماللّه لم يغرموه. وقال ابن زيد: كانوا لا يأكلون ما جعلوه للّه حتى يذكروا عليه اسم أوثانهم، ولا يذكرون اللّه على ما جعلوه للأوثان.

فأما قوله {بِزَعْمِهِمْ} فقرأ الجمهور: بفتح الزاي؛ وقرأ الكسائي، والأعمش: بضمها. وفي الزعم ثلاث لغات: ضم الزاي، وفتحها، وكسرها. ومثله: السُّقط والسَّقط والسِّقط؛ والفَتْك، والفُتْك، والفِتْك: والزَّعم والزُّعم والزِّعم. قال الفراء: فتح الزاي في الزَّعم لأهل الحجاز؛ وضمها لأسد؛ وكسرها لبعض قيس فيما يحكي الكسائي.

١٣٧

قوله تعالى: {وَكَـذٰلِكَ زُيّنَ} أي: ومثل ذلك الفعل القبيح فيما قسموا بالجهل زيَّن. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون {وَكَذٰلِكَ} مستأنفا، غير مشار به إلى ما قبله، فيكون المعنى: وهكذا زيَّن.

وقرأه الجمهور: {زُيّنَ} بفتح الزاي والياء، ونصب اللام من {قَتْلَ}، وكسر الدال من {أَوْلَـٰدُهُمْ}، ورفع {الشركاءُ}؛ وجه هذه القراءة ظاهر. وقرأ ابن عامر: بضم زاي {زُيّنَ}، ورفع اللام من {قَتْلَ} ونصب الدال من {أَوْلَـٰدُهُمْ}، وخفض {الشركاء}. قال أبو علي: ومعناها: قتلُ شركِائهم أولادَهمُ؛ ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به، وهذا قبيح، قليل في الاستعمال. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن: {زُيّنَ} بالرفع، {قَتْلَ} بالرفع أيضا. {أَوْلَـٰدُهُمْ} بالجر، {شُرَكَاؤُهُمْ} رفعا. قال الفراء: رَفعَ القتل إذ لم يسم فاعله؛ ورفع الشركاء بفعل نواه، كأنه قال: زيَّنه لهم شركاؤهم. وكذلك قال سيبويه في هذه القراءة؛ قال: كأنه قيل: من زينه؟ فقال: شركاؤهم. قال مكي بن أبي طالب: وقد روي عن ابن عامر أيضا أنه قرأ بضم الزاي، ورفع اللام، وخفض الأولاد والشركاء، فيصير الشركاء اسما للأولاد، لمشاركتهم للآباء في النسب والميراث والدين.

وللمفسرين في المراد بشركائهم أربعة أقوال:

احدها: أنهم الشياطين، قاله الحسن، ومجاهد، والسدي.

والثاني: شركاؤهم في الشرك، قاله قتادة.

والثالث: قوم كانوا يخدمون الاوثان، قاله الفراء: والزجاج.

والرابع: أنهم الغواة من الناس، ذكره الماوردي. وإنما أضيف الشركاء إليهم، لأنهم هم الذين اختلقوا ذلك وزعموه.

وفي الذي زينوه لهم من قتل أولادهم قولان.

احدهما: أنه وأد البنات أحياء خيفة الفقر، قاله مجاهد.

والثاني: أنه كان يحلف أحدهم أنه إن ولد له كذا وكذا غلاما أن ينحر أحدهم، كما حلف عبد المطلب في نحر عبد اللّه، قاله ابن السائب، ومقاتل. قوله تعالى:

{لِيُرْدُوهُمْ} أي: ليهلكوهم. وفي هذه اللام قولان.

احدهما: أنها لام {كَى}.

والثاني: أنها لام العاقبة كقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} أي: آل أمرهم إلى الردى، لا أنهم قصدوا ذلك. قوله تعالى:

{وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} أي: ليخلطوا. قال ابن عباس: ليدخلوا عليهم الشك في دينهم؛ وكانوا على دين إسماعيل، فرجعوا عنه بتزيين الشياطين. قوله تعالى:

{فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا دفنوا بناتهم قالوا: إن اللّه أمرنا بذلك؛ فقال:

{فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}؛ أي: يكذبون؛ وهذا تهديد ووعيد، فهو محكم. وقال قوم: مقصوده ترك قتالهم، فهو منسوخ بآية السيف.

١٣٨

قوله تعالى: {وَقَالُواْ هَـٰذِهِ أَنْعَـٰمٌ وَحَرْثٌ} الحرث: الزرع، والحجر: الحرام. والمعنى: أنهم حرموا أنعاما وحرثا جعلوه لأصنامهم. قال ابن قتيبة: وإنما قيل للحرام: حجر، لأنه حُجر على الناس أن يصيبوه. وقرأ الحسن، وقتادة: {لّذِى حِجْرٍ} بضم الحاء. قال الفراء: يقال: حِجر، وحُجْر، بكسر الحاء وضمها؛ وهي في قراءة ابن مسعود: {حَرَجٌ}، مثل: {جذب} و{جبذ}.

وفي هذ الأنعام التي جعلوها للأصنام قولان.

احدهما: أنها البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام.

والثاني: أنها الذبائح التي للأوثان؛ وقد سبق ذكرهما.

قوله تعالى: {حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء} هو كقولك: لا يذوقها إلا من نريد. وفيمن أطلقوا له تناولها قولان.

احدهما: أنهم منعوا منها النساء، وجعلوها للرجال، قاله ابن السائب.

والثاني: عكسه، قاله ابن زيد. قال الزجاج: أعلم اللّه تعالى أن هذا التحريم زعم منهم، لا حجة فيه ولا برهان. وفي قوله: {وَأَنْعَـٰمٌ حُرّمَتْ ظُهُورُهَا} ثلاثة أقوال.

احدها: أنها الحام، قاله ابن عباس.

والثاني: البحيرة، كانوا لا يحجون عليها، قاله أبو وائل.

والثالث: البحيرة، والسائبة، والحام، قاله السدي. قوله تعالى:

{وَأَنْعَـٰمٌ لاَّ يَذْكُرُونَ ٱسْمَ ٱللّه عَلَيْهَا} هي قربان آلهتهم، يذكرون عليها اسم الأوثان خاصة. وقال أبو وائل: هي التي كانوا لا يحجون عليها، وقد ذكرنا هذا عنه في قوله: {حُرّمَتْ ظُهُورُهَا}، فعلى قوله: الصفتان لموصوف واحد. وقال مجاهد: كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم اللّه عليها في شيء؛ لا إن رُكِبوا، ولا إن حُملوا، ولا إن حُلِبوا، ولا إن نُتِجوا.

وفي قوله: {ٱفْتِرَاء عَلَى ٱللّه} قولان.

احدهما: أن ذكر أسماء أوثانهم، وترك ذكر اللّه هو الافتراء.

والثاني: أن إضافتهم ذلك إلى اللّه تعالى هو الافتراء، لأنهم كانوا يقولون: هو حرم ذلك.

١٣٩

قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلانْعَـٰمِ} يعني بالأنعام: المحرمات عندهم، من البحيرة، والسائبة، والوصيلة.

وللمفسرين في المراد بما في بطونها ثلاثة أقوال.

احدها: أنه اللبن، قاله ابن عباس، وقتادة.

والثاني: الأجنة، قاله مجاهد.

والثالث: الولد واللبن، قاله السدي، ومقاتل. قوله تعالى:

{خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا} قرأ الجمهور {خَالِصَةٌ} على لفظ التأنيث،

وفيها أربعة أوجه.

احدها: أنه إنما أنثت، لأن الأنعام مؤنثة، وما في بطونها مثلها، قاله الفراء.

والثاني: أن معنى «ما» التأنيث، لأنها في معنى الجماعة؛ فكأنه قال: جماعة ما في بطون هذه الأنعام خالصة، قاله الزجاج.

والثالث: أن الهاء دخلت للمبالغة في الوصف، كما قالوا: {علاّمة} و{نسّابة}.

والرابع: أنه أجري مجرى المصادر التي تكون بلفظ التأنيث عن الأسماء المذكره، كقولك: عطاؤك عافية، والرخص نعمة، ذكرهما ابن الأنباري. وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، والضحاك، والأعمش، وابن أبي عبلة: {خالصٌ} بالرفع، من غير هاء. قال الفراء: وإنما ذُكِّر لتذكير {فِى مَا}. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وعكرمة، وابن يعمر {خالصُهُ} برفع الصاد والهاء على ضمير مذكر، قال الزجاج: والمعنى: ما خلص حيا.

وقرأ قتادة: {ٱلانْعَـٰمِ خَالِصَةٌ} بالنصب، فأما الذكور: فهم: الرجال، والأزواج: والنساء. قوله تعالى:

{وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} قرأ الأكثرون {يَكُنِ} بالياء، {مَيْتَةً} بالنصب؛ وذلك مردود على لفظ {مَا} المعنى: وإن يكن ما في بطون هذه الأنعام ميتة. وقرأ ابن كثير: {يَكُنِ} بالياء، {مَيْتَةً} بالرفع. وافقه ابن عامر في رفع الميتة؛ غير أنه قرأ {تَكُنْ} بالتاء. والمعنى: وإن تحدث وتقع، فجعل {كَانَ}: تامة لا تحتاج إلى خبر. وقرأ أبو بكر عن عاصم: {تَكُنْ} بالتاء، {مَيْتَةً} بالنصب. والمعنى: وإن تكن الأنعام التي في البطون ميتة. قوله تعالى:

{فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء} يعني: الرجال والنساء.{سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} قال الزجاج: أراد جزاء وصفهم الذي هو كذب.

١٤٠

قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ ٱلَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَـٰدَهُمْ} وقرأ ابن كثير، وابن عامر {قَـٰتِلُواْ} بالتشديد. قال ابن عباس: نزلت في ربيعة، ومضر، والذين كانوا يدفنون بناتهم أحياء في الجاهلية من العرب. وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم بنته مخافة السبي والفاقة، ويغذو كلبه. وقال الزجاج: وقوله: {سَفَهاً} منصوب على معنى اللام، تقديره: للسفه؛ تقول: فعلت ذلك حذر الشر. وقرأ ابن السميفع، والجحدري، ومعاذ القارىء {سُفَهاء} برفع السين وفتح الفاء والهاء وبالمد وبالنصب والهمز. قوله تعالى:

{بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي: كانوا يفعلوا ذلك للسفه من غير أن أتاهم علم في ذلك، وحرموا ما رزقهم اللّه من الأنعام والحرث، وزعموا أن اللّه أمرهم بذلك.

١٤١

قوله تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِى أَنشَأَ جَنَّـٰتٍ مَّعْرُوشَـٰتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَـٰتٍ} فيه أربعة أقوال.

احدها: أن المعروشات: ما انبسط على وجه الأرض، فانتشر مما يعرش، كالكرم، والقرع، والبطيخ، وغير معروشات: ما قام على ساق كالنخل، والزرع، وسائر الأشجار.

والثاني: أن المعروشات: ما أنبته الناس؛ وغير معروشات: ما خرج في البراري والجبال من الثمار، رويا عن ابن عباس

والثالث: أن المعروشات، وغير المعروشات: الكرم، منه ما عرش، ومنه مالم يعرش، قاله الضحاك.

والرابع: أن المعروشات الكروم التي قد عرش عنبها، وغير المعروشات: سائر الشجر التي لا تُعَّرش، قاله أبو عبيدة. والأُكل: الثمر.

{وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَـٰبِهاً} قد سبق تفسيره. قوله تعالى:

{كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} هذا أمر إباحة؛ وقيل: إنما قدم الأكل لينهي عن فعل الجاهلية في زروعهم من تحريم بعضها. قوله تعالى:

{وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قرأ ابن عامر، وعاصم، وابو عمرو: بفتح الحاء، وهي لغة أهل نجد، وتميم. وقرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائي: بكسرها وهي لغة أهل الحجاز، ذكره الفراء. وفي المراد بهذا الحق قولان.

احدهما: أنه الزكاة، روي عن أنس بن مالك، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، وطاووس، وجابر بن زيد، وابن الحنفية، وقتادة في آخرين؛ فعلى هذا: الآية محكمة.

والثاني: أنه حق غير الزكاة، فرض يوم الحصاد، وهو إطعام من حضر، وترك ما سقط من الزرع والثمر، قاله عطاء، ومجاهد. وهل نسخ ذلك أم لا؟ إن قلنا: إنه أمر وجوب، فهو منسوخ بالزكاة؛ وإن قلنا: إنه أمر استحباب، فهو باقي الحكم.

فان قيل: هل يجب إيتاء الحق يوم الحصاد؟

فالجواب: إن قلنا: إنه إطعام من حضر من الفقراء، فذلك يكون يوم الحصاد؛ وإن قلنا: إنه الزكاة، فقد ذكرت عنه ثلاثة أجوبة.

احدها: أن الأمر بالإيتاء محمول على النخيل، لأن صدقتها تجب يوم الحصاد. فأما الزروع: فالأمر بالإيتاء منها: محمول على وجوب الإخراج؛ إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد، فيؤخر إلى زمان التنقية، ذكره بعض السلف.

والثاني: أن اليوم ظرف للحق، لا للايتاء، فكأنه قال: وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد التنقية.

والثالث: أن فائدة ذكر الحصاد أن الحق لا يجب فيه بنفس خروجه وبلوغه؛ إنما يجب يوم حصوله في يد صاحبه. وقد كان يجوز أن يتوهم أن الحق يلزم بنفس نباته قبل قطعه، فأفادت الآية أن الوجوب فيما يحصل في اليد، دون ما يتلف، ذكر الجوابين القاضي أبو يعلى.

وفي قوله: {وَلاَ تُسْرِفُواْ} ستة اقوال.

احدها: أنه تجاوز المفروض في الزكاة إلى حد يجحف به، قاله أبو العالية، وابن جريج. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة، ثم قسمها في يوم واحد، فأمسى ولم يترك لأهله شيئا، فكره اللّه تعالى له ذلك، فنزلت: {وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ}.

والثاني: أن الإسراف منع الصدقة الواجبة، قاله سعيد بن المسيب.

والثالث: أنه الإنفاق في المعصية، قاله مجاهد، والزهري.

والرابع: أنه إشراك الآلهة في الحرث والأنعام، قاله عطية العوفي، وابن السائب.

والخامس: أنه خطاب للسلطان لئلا يأخذ فوق الواجب من الصدقة، قاله ابن زيد.

والسادس: أنه الإسراف في الأكل قبل أداء الزكاة، قاله ابن بحر.

١٤٢

قوله تعالى: {وَمِنَ ٱلانْعَـٰمِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} هذا نسق على ما قبله، والمعنى: أنشأ جنات، وأنشأ حمولة وفرشا، وفي ذلك خمسة أقوال.

احدها: أن الحمولة: ما حمل من الإبل، والفرش: صغارها، قاله ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وابن قتيبة.

والثاني: أن الحموله، ما انتفعت بظهورها، والفرش: الراعية، رواه الضحاك عن ابن عباس.

والثالث: أن الحمولة: الإبل والخيل، والبغال، والحمير، وكل شيء يحمل عليه. والفرش: الغنم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

والرابع: الحمولة: من الإبل، والفرش: من الغنم، قاله الضحاك.

والخامس: الحمولة: الإبل والبقر. والفرش: الغنم وما لا يحمل عليه من الإبل، قاله قتادة. وقرأ عكرمة، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: {حَمُولَةً} بضم الحاء. قوله تعالى:

{كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللّه} قال الزجاج: المعنى: لا تحرموا ما حرمتم مما جرى ذكره،

{وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ} أي: طرقه. قال: وقوله:

{ثَمَـٰنِيَةَ أَزْوٰجٍ} بدل من قوله: {حَمُولَةً وَفَرْشًا} والزوج، في اللغة: الواحد الذي يكون معه آخر. قال المصنف: وهذا كلام يفتقر إلى تمام، وهو أن يقال الزوج: ما كان معه آخر من جنسه، فحينئذ يقال: لكل واحد منهما: زوج.

١٤٣

انظر تفسير الآية:١٤٤

١٤٤

قوله تعالى: «من الضأن اثنين»: الضأن: ذوات الصوف من الغنم، والمعز: ذوات الشعر منها، وقرأ ابن كثير، وابو عمرو، وابن عامر: {ٱلْمَعْزِ} بفتح العين. وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم، والكسائي: بتسكين العين. والمراد بالأنثيين: الذكر والأنثى. {قُلْ} من الضأن والمعز حرم اللّه عليكم {حَرَّمَ أَمِ ٱلانثَيَيْنِ} منها؟ المعنى: فان كان ما حرم عليكم الذكرين، فكل الذكور حرام، وإن كان حرم الأنثيين، فكل الإناث حرام، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فهي تشتمل على الذكور، وتشتمل على الإناث، وتشتمل على الذكور والإناث، فيكون كل جنين حراما. وقال ابن الأنباري: معنى الآية: ألحقكم التحريم من جهة الذكرين، أم من جهة الأثنين، فان قالوا: من جهة الذكرين، حرم عليهم كل ذكر، وإن قالوا: من جهة الأنثيين، حرمت عليهم كل أنثى؛ وإن قالوا: من جهة الرحم، حرم عليهم الذكر والأنثى.

وقال ابن جرير الطبري: إن قالوا: حرم الذكرين، أوجبوا تحريم كل ذكر من الضأن والمعز، وهم يستمتعون بلحوم بعض الذكران منها وظهوره، وفي ذلك فساد دعواهم. وإن قالوا: حرم الأنثيين، أوجبوا تحريم لحوم كل أنثى من ولد الضأن والمعز، وهم يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره. وإن قالوا: ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها،

قال المفسرون: فاحتج اللّه تعالى عليهم بهذه الآية والتي بعدها، لأنهم كانوا يحرمون أجناسا من النعم، بعضها على الرجال والنساء، وبعضها على النساء دون الرجال.وفي قوله:

{ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلانثَيَيْنِ} إبطال لما حرموه من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. وفي قوله: {أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلانثَيَيْنِ} إبطال قولهم:

{مَا فِى بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلانْعَـٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوٰجِنَا}. قوله تعالى:

{نَبّئُونِي بِعِلْمٍ} قال الزجاج: المعنى: فسروا ما حرمتم بعلم، أي: أنتم لا علم لكم، لأنكم لا تؤمنون بكتاب.

{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء} أي: هل شاهدتم اللّه قد حرم هذا، إذا كنتم لا تؤمنون برسول؟ قوله تعالى:

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللّه كَذِبًا لِيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال ابن عباس: يريد عمرو بن لحي، ومن جاء بعده، والظالمون هاهنا: المشركون.

١٤٥

قوله تعالى: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} نبههم بهذا على أن التحريم والتحليل إنما يثبت بالوحي. وقال طاووس، ومجاهد: معنى الآية: لا أجد محرما مما كنتم تستحلون في الجاهلية إلا هذا. والمراد بالطاعم: الآكل.

{إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً} أي: إلا أن يكون المأكول {مَيْتَةً}. قرأ ابن كثير، وحمزة:

{إِلا أَن يَكُونَ} بالياء، ميتة نصبا وقرأ ابن عامر: إلا أن تكون بالتاء، ميتة بالرفع، على معنى: إلا أن تقع ميتة، أو تحدث ميتة.

{أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} قال قتادة: إنما حرم المسفوح، فأما اللحم إذا خالطه دم، فلا بأس به. قال الزجاج: المسفوح: المصبوب. وكانوا إذا ذكَّوا يأكلون الدم كما يأكلون اللحم. والرجس: اسم لما يستقذر، وللعذاب.

{أَوْ فِسْقًا} المعنى: أو أن يكون المأكول فسقا.

{أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللّه بِهِ} أي: رفع الصوت على ذبحه باسم غير اللّه، فسمى ما ذكر عليه غير اسم اللّه فسقا؛ والفسق: الخروج من الدين.

فصل

اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين.

احدهما: أنها محكمة. ولأرباب هذا القول في سبب إحكامها ثلاثة أقوال.

احدها: أنها خبر، والخبر لا يدخله النسخ.

والثاني: أنها جاءت جوابا عن سؤال سألوه؛ فكان الجواب بقدر السؤال، ثم حرم بعد ذلك ما حُرِّم.

والثالث: أنه ليس في الحيوان محرم إلا ما ذكر فيها.

والقول الثاني: أنها منسوخة بما ذكر في {المائدة} من المنخنقة والموقوذة، وفي السنة من تحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير.

وقيل: إن آية {المائدة} داخلة في هذه الآية، لأن تلك الأشياء كلها ميتة.

١٤٦

قوله تعالى: {وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ}

وقرأ الحسن، والأعمش: {ظُفُرٍ} بسكون الفاء؛

وهذا التحريم تحريم بلوى وعقوبة وفي ذي الظفر ثلاثة أقوال.

احدها: أنه ما ليس بمنفرج الأصابع، كالإبل، والنعام، والإوز، والبط، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدي.

والثاني: الإبل فقط، قاله ابن زيد.

والثالث: كل ذي حافر من الدواب، ومخلب من الطير، قاله ابن قتيبة. قال: وسمى الحافر: ظفرا على الإستعارة؛ والعرب تجعل الحافر والأظلاف موضع القدم، استعارة؛

وأنشدوا:

سأمنعها أو سوف أجعل أمرها إلى ملك أظلافه لم تشقق

راد: قدميه، وإنما الأظلاف: للشاء والبقر. قال ابن الانباري: الظفر هاهنا، يجري مجرى الظفر للانسان. وفيه ثلاث لغات. أعلاهن: ظُفُر؛ ويقال: ظُفْر، وأُظفور.

وقال الشاعر:

ألم تر أن الموت أدرك من مضى فلم يبق منه ذا جناح وذا ظفر

وقال الآخر:

لقد كنت ذا ناب وظفر على العدى فأصبحت ما يخشون نابي ولا ظفري

قال الآخر:

ما بين لقمته الأولى إذا انحدرت  وبين أخرى تليها قيد أظفور

وفي شحوم البقر والغنم ثلاثة أقوال.

احدها: أنه إنما حرم من ذلك شحوم الثروب خاصة، قاله قتادة.

والثاني: شحوم الثروب والكلى، قاله السدي، وابن زيد.

والثالث: كل شحم لم يكن مختلطا بعظم، ولا على عظم، قاله ابن جريج:

وفي قوله: {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} ثلاثة أقوال.

احدها: أنه ما علق بالظهر من الشحوم، قاله ابن عباس.

والثاني: الأُلية، قاله أبو صالح، والسدي.

والثالث:ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما، قاله قتادة. فأما الحوايا فللمفسرين فيها أقوال تتقارب معانيها. قال ابن عباس، والحسن، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة: هي المباعر. وقال ابن زيد: هي بنات اللبن، وهي المرابض التي تكون فيها الأمعاء. وقال الفراء: الحوايا: هي المباعر، وبنات اللبن. وقال الاصمعي: هي بنات اللبن، واحدها: حاوياء، وحاوية، وحوية.

قال الشاعر:

أقتلهم ولا أرى معاوية الجاحظ العين العظيم الحاوية

قال الآخر:

كأن نقيق الحب في حاويائه فحيح الأفاعي أو نقيق العقارب

قال أبو عبيدة: الحوايا: ما تحوي من البطن، أي: ما استدار منها. وقال الزجاج: الحوايا: اسم لجميع ما تحوي من البطن. فاجتمع واستدار، وهي بنات اللبن، وهي المباعر، وتسمى: المرابض، وفيها الأمعاء. قوله تعالى:

{أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} فيه قولان.

احدهما: أنه شحم البطن والاُلية، لأنهما على عظم، قاله السدي.

والثاني: كل شحم في القوائم، والجنب، والرأس، والعينين، والأذنين، فهو مما اختلط بعظم، قاله ابن جريج. واتفقوا على أن ما حملت ظهورها حلال، بالاستثناء من التحريم.

فأما ما حملت الحوايا، أو ما اختلط بعظم، ففيه قولان.

احدهما: أنه داخل في الاستثناء، فهو مباح؛ والمعنى: وأبيح لهم ما حملت الحوايا من الشحم وما اختلط بعظم، هذا قول الأكثرين.

والثاني: أنه نسق على ما حرم، لا على الاستثناء؛ فالمعنى: حرمنا عليهم شحومهما، أو الحوايا، أو ما اختلط بعظم، إلا ما حملت الظهور، فانه غير محرم، قاله الزجاج. فأما {أَوْ} المذكورة هاهنا، فهي بمعنى الواو كقوله: {أَوْ كَفُوراً وَٱذْكُرِ}.

قوله تعالى: {ذٰلِكَ جَزَيْنَـٰهُم} أي: ذلك التحريم عقوبة لهم على بغيهم. وفي بغيهم قولان.

احدهما: أنه قتلهم الأنبياء، وأكلهم الربا.

والثاني: أنه تحريم ما أحل لهم.

١٤٧

قوله تعالى: {فَإِن كَذَّبُوكَ} قال ابن عباس: لما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للمشركين: {هَـٰذَا مَا أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ * عَلَىٰ ٱلْمُسْلِمِينَ * وَعَلَىٰ ٱلْيَهُودُ}، قالوا: فانك لم تصب، فنزلت هذه الآية. وفي المكذبين قولان.

احدهما: المشركون، قاله ابن عباس.

والثاني: اليهود، قاله مجاهد. والمراد بذكر الرحمة الواسعة: أنه لا يعجل بالعقوبة، والبأس: العذاب. وفي المراد بالمجرمين قولان.

احدهما: المشركون.

والثاني: المكذبون.

١٤٨

قوله تعالى: {سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ} أي: إذا لزمتهم الحجة، وتيقنوا باطل ما هم عليه من الشرك، وتحريم مالم يحرمه اللّه: {لَوْ شَاء ٱللّه مَا أَشْرَكْنَا} فجعلوا هذا حجة لهم في إقامتهم على الباطل؛ فكأنهم قالوا: لو لم يرض ما نحن عليه، لحال بيننا وبينه، وإنما قالوا ذلك مستهزئين، ودافعين للاحتجاج عليهم، فيقال لهم: لم تقولون عن مخالفيكم إنهم ضالون، وإنما هم على المشيئة ايضا؟ فلا حجة لهم، لأنهم تعلقوا بالمشيئة، وتركوا الأمر؛ ومشيئة اللّه تعم جميع الكائنات، وأمره لا يعم مراداته، فعلى العبد اتباع الأمر، وليس له أن يتعلل بالمشيئة بعد ورود الأمر. قوله تعالى:

{كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} قال ابن عباس: أي: قالوا لرسلهم مثلما قال هؤلاء لك

{حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا} أي: عذابنا.

{قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ} أي: كتاب نزل من عند اللّه في تحريم ما حرمتم

{إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ} لا اليقين؛ و{ءانٍ} بمعنى {مَا}. وتخرصون: تكذبون.

١٤٩

قوله تعالى: {قُلْ فَللّه ٱلْحُجَّةُ ٱلْبَـٰلِغَةُ} قال الزجاج: حجته البالغة: تبيينه أنه الواحد، وإرساله الأنبياء بالحجج المعجزة، قال السدي:

{فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} يوم أخذ الميثاق.

١٥٠

قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ} قال الزجاج: زعم سيبويه أن {هَلُمَّ} هاء ضمت إليها {لَمْ} وجعلتا كالكلمة الواحدة؛ فأكثر اللغات أن {يُقَالُ}: هلم: للواحد، والاثنين، والجماعة؛ بذلك جاء القرآن. ومن العرب من يثني ويجمع ويؤنث، فيقول للذكر: {هَلُمَّ}. وللمرآة: {هلمي}، وللاثنين: {هلما}، وللثنتين: {هلما}، وللجماعة: {هلموا}، وللنسوة: {هلمُمن}. وقال ابن قتيبة: {قُلْ هَلُمَّ}، بمعنى: {تَعَالَى}. وأهل الحجاز لا يثنونها ولا يجمعونها. وأهل نجد يجعلونها من {هلممت} فيثنون ويجمعون ويؤنثون؛ وتوصل باللام، فيقال: {هَلُمَّ لَكَ}، و{هَلُمَّ لَّكُمَا}. قال: وقال الخليل: أصلها {لَمْ}، وزيدت الهاء في أولها. وخالفه الفراء، فقال: أصلها {هَلُ} ضم إليها {أَمْ}، والرفعة التي في اللام من همزة {أَمْ} لما تركت انتقلت إلى ما قبلها؛

وكذلك {ٱللّهمَّ} يرى أصلها: {أَنْصَارُ ٱللّه ءامَنَّا} بخير فكثرت في الكلام، فاختلطت، وتركت الهمزة. وقال ابن الانباري: معنى هلم: أقبل؛ وأصله:

{أَمْ إِلاَّ رَجُلٌ}، أي: {اقصد}، فضموا {يُرِيدُ هَلُ} إلى {أَمْ} وجعلوهما حرفا واحدا، وأزالوا {أَمْ} عن التصرف، وحولوا ضمة الهمزة {أَمْ} إلى اللام، وأسقطوا الهمزة، فاتصلت الميم باللام. وإذا قال الرجل للرجل: {هَلُمَّ}، فأراد أن يقول: لا أفعل، قال: {لا} و{لا}. قال مجاهد: هذه الآية جواب قولهم: إن اللّه حرم البحيرة، والسائبة. قال مقاتل: الذين يشهدون أن اللّه حرم هذا الحرث والأنعام،

{مّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ} أن اللّه حرمه {فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ} أي: لا تصدق قولهم.

١٥١

قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا}

ما: بمعنى: الذي، وفي لا قولان.

احدهما: أنها زائدة، كقوله: أن لا تسجد.

والثاني: أنها ليست زائدة، وإنما هي نافية؛ فعلى هذا القول، في تقدير الكلام ثلاثة أقوال.

احدها: أن يكون قوله: {أَن لا تُشْرِكُواْ}، محمولا على المعنى؛ فتقديره: أتل عليكم أن لا تشركوا، أي: أتل تحريم الشرك.

والثاني: أن يكون المعنى: أوصيكم أن لا تشركوا، لأن قوله:

{وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً} محمول على معنى: أوصيكم بالوالدين إحسانا، ذكرهما الزجاج.

والثالث: أن الكلام تم عند قوله: {حَرَّمَ رَبُّكُمْ} ثم في قوله {عَلَيْكُمْ} قولان.

احدهما: أنها إغراء كقوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} فالتقدير: عليكم أن لا تشركوا، ذكره ابن الانباري.

والثاني: أن يكون بمعنى: فرض عليكم، ووجب عليكم أن لا تشركوا. وفي هذا الشرك قولان.

احدهما: أنه ادعاء شريك مع اللّه عز وجل.

والثاني: أنه طاعة غيره في معصيته. قوله تعالى:

{وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ} يريد: دفن البنات أحياءً.

{مّنْ إمْلَـٰقٍ} أي: من خوف فقر.

قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوٰحِشَ} ما ظهر منها وما بطن فيه خمسة اقوال.

احدها: أن الفواحش: الزنا، وما ظهر منه: الإعلان به، وما بطن: الاستسرار به، قاله ابن عباس، والحسن، والسدي.

والثاني: أن ما ظهر: الخمر، ونكاح المحرمات، وما بطن: الزنا، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد.

والثالث: أن ما ظهر الخمر، وما بطن: الزنا، قاله الضحاك.

والرابع: أنه عام في الفواحش، وظاهرها: علانيتها، وباطنها: سرها، قاله قتادة.

والخامس: أن ما ظهر: أفعال الجوارح، وما بطن: اعتقاد القلوب، ذكره الماوردي في تفسير هذا الموضع، وفي تفسير قوله:

{وَذَرُواْ ظَـٰهِرَ ٱلإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} والنفس التي حرم اللّه: نفس مسلم أو معاهد، والمراد بالحق: إذن الشرع.

١٥٢

قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} إنما خص مال اليتيم، لأن الطمع فيه لقلة مراعيه وضعف مالكه، أقوى.

وفي قوله: {إِلاَّ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} أربعة أقوال.

احدها: أنه أكل الوصي المصلح للمال بالمعروف وقت حاجته، قاله ابن عباس، وابن زيد.

والثاني: التجارة فيه، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي.

والثالث: أنه حفظه له إلى وقت تسليمه إليه، قاله ابن السائب.

والرابع: أنه حفظه عليه وتثميره له، قاله الزجاج. قال: و{حَتَّىٰ} محمولة على المعنى؛ فالمعنى: احفظوه عليه حتى يبلغ أشده، فاذا بلغ أشده فادفعوه إليه. فأما {الأشد}: فهو استحكام قوة الشباب والسن. قال ابن قتيبة: ومعنى الآية: حتى يتناهى في النبات إلى حد الرجال. يقال: بلغ أشده. إذا انتهى منتهاه قبل أن يأخذ في النقصان. وقال أبو عبيدة: الأشد: لا واحد له منه؛ فان أكرهوا على ذلك، قالوا: شد، بمنزلة: ضبَّ؛ والجمع: أَضُبُ. قال ابن الانباري: وقال جماعة من البصريين: واحد الأشد شد بضم الشين وقال بعض البصريين: واحد الأشد: شدة، كقولهم: نعمة، وأنعم. وقال بعض أهل اللغة: الأشد: اسم لا واحد له.

وللمفسرين في الأشد ثمانية أقوال.

احدها: أنه ثلاث وثلاثون سنة، رواه ابن جبير عن ابن عباس.

والثاني: ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثالث: أربعون سنة، روي عن عائشة عليها السلام.

والرابع: ثماني عشرة سنة، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل.

والخامس: خمس وعشرون سنة، قاله عكرمة.

والسادس: أربع وثلاثون سنة، قاله سفيان الثوري.

والسابع: ثلاثون سنة، قاله السدي. وقال: ثم جاء بعد هذه الآية:

{حَتَّىٰ بَلَغُواْ النّكَاحَ} فكأنه يشير إلى النسخ.

والثامن: بلوغ الحلم، قاله زيد بن أسلم، والشعبي، ويحيى بن يعمر، وربيعة، ومالك بن أنس، وهو الصحيح. ولا أظن بالذين حكينا عنهم الأقوال التي قبله فسروا هذه الآية بما ذكر عنهم، وإنما أظن أن الذين جمعوا التفاسير، نقلوا هذه الأقوال من تفسير قوله تعالى:

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} إلى هذا المكان، وذلك نهاية الأشد، وهذا ابتداء تمامه؛ وليس هذا مثل ذاك. قال ابن جرير: وفي الكلام محذوف ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر عما حذف، لأن المعنى: حتى يبلغ أشده؛ فإذا بلغ اشده، فآنستم منه رشدا، فادفعوا إليه ماله. قال المصنف: إن أراد بما ظهر ما ظهر في هذه الآية، فليس بصحيح؛ وإنما استفيد إيناس الرشد والإسلام من آية أخرى؛ وإنما أطلق في هذه الآية ما قيد في غيرها، فحمل المطلق على المقيد. قوله تعالى:

{وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ} أي: أتموه ولا تنقصوا منه. و {ٱلْمِيزَانَ} أي: وزن الميزان. والقسط: العدل.

{لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} أي: ما يسعها، ولا تضيق عنه. قال القاضي أبو يعلى: لما كان الكيل والوزن يتعذر فيهما التحديد بأقل القليل، كلفنا الاجتهاد في التحري، دون تحقيق الكيل والوزن. قوله تعالى:

{وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ} أي: إذا تكلمتم أو شهدتم فقولوا الحق، ولو كان المشهود له أو عليه ذا قرابة. وعهد اللّه يشتمل على ما عهده إلى الخلق وأوصاهم به، وعلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره.

{ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: لتذَّكروه وتأخذوا به. قرأ ابن كثير، وابو عمرو:

{تَذَكَّرُونَ} و{يَذَّكَّرُونَ} و{يَذْكُرُ إلإِنْسَـٰنُ} و{أَن يَذَّكَّرَ} و{لّيَذْكُرُواْ} مشددا ذلك كله. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم، وابن عامر: كل ذلك بالتشديد إلا قوله:

{أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَـٰنُ} فانهم خففوه.

روى أبان، وحفص عن عاصم: {يَذَّكَّرُونَ} خفيفة الذال في جميع القرآن. قرأ حمزة، والكسائي: {يَذَّكَّرُونَ} مشددا إذا كان بالياء، ومخففا إذا كان بالتاء.

١٥٣

قوله تعالى: {وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابو عمرو: و{ءانٍ} بفتح الألف مع تشديد النون. قال الفراء: إن شئت جعلت {ءانٍ} مفتوحة بوقوع {ٱتْلُ} عليها، وإن شئت جعلتها خفضا على معنى: ذلكم وصاكم به، وبأن هذا صراطي مستقيما. وقرأ ابن عامر بفتح الألف أيضا، إلا أنه خفف النون، فجعلها مخففة من الثقيلة، وحكم إعرابها حكم تلك. وقرأ حمزة، والكسائي: بتشديد النون مع كسر الألف. قال الفراء: وكسر الألف على الاستئناف.

وفي الصراط قولان.

احدهما: أنه القرآن.

والثاني: الإسلام. وقد بينا إعراب قوله: {مُّسْتَقِيماً} أيضا.

فأما {ٱلسُّبُلَ}، فقال ابن عباس: هي الضلالات. وقال مجاهد: البدع والشبهات. وقال مقاتل: أراد ما حرموا على أنفسهم من الأنعام والحرث.

{فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} أي: فتضلكم عن دينه.

١٥٤

قوله تعالى: {ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَـٰبَ} قال الزجاج: {ثُمَّ} هاهنا: للعطف على معنى التلاوة، فالمعنى: أتل ما حرم ربكم، ثم اتل عليكم ما آتاه اللّه موسى. وقال ابن الانباري: الذي بعد

{ثُمَّ} مقدم على الذي قبلها في النية؛ والتقدير: ثم كنا قد آتينا موسى الكتاب قبل إنزالنا القرآن على محمد صلى اللّه عليه وسلم. قوله تعالى:

{تَمَامًا عَلَى ٱلَّذِى أَحْسَنَ} في قوله تماما قولان.

احدهما: أنها كلمة متصلة بما بعدها، تقول: أعطيتك كذا تماما على كذا، وتماما لكذا، وهذا قول الجمهور.

والثاني: أن قوله تماما: كلمة قائمة بنفسها غير متصلة بما بعدها، والتقدير: آتينا موسى الكتاب تماما، أي: في دفعة واحدة لم نفرق إنزاله كما فرق إنزال القرآن، ذكره أبو سليمان الدمشقي.

وفي المشار إليه بقوله أحسن أربعة أقوال.

احدها: أنه اللّه عز وجل. ثم في معنى الكلام قولان

احدهما: تماما على إحسان اللّه إلى أنبيائه، قاله ابن زيد.

والثاني: تماما على إحسان اللّه تعالى إلى موسى، وعلى هذين القولين، يكون {ٱلَّذِى} بمعنى ما.

والقول الثاني: أنه إبراهيم الخليل عليه السلام، فالمعنى: تماما للنعمة على إبراهيم الذي أحسن في طاعة اللّه، وكانت نبوة موسى نعمة على إبراهيم، لأنه من ولده ذكره الماوردي.

والقول الثالث: أنه كل محسن من الانبياء، وغيرهم. وقال مجاهد: تماما على المحسنين، أي: تماما لكل محسن. وعلى هذا القول، يكون {ٱلَّذِى} بمعنى {مِنْ} و{عَلَىٰ} بمعنى لام الجر؛ ومن هذا قول العرب: أتم عليه، وأتم له، قال الراعي: رعته أشهرا وخلا عليها

أي: لها. قال ابن قتيبة: ومثل هذا ان تقول: أوصي بمالي للذي غزا وحج؛ تريد: للغازين والحاجين.

والقول الرابع: أنه موسى، ثم في معنى أحسن قولان.

احدهما: أحسن في الدنيا بطاعة اللّه عز وجل، قال الحسن، وقتادة: تماما لكرامته في الجنة إلى إحسانه في الدنيا. وقال الربيع: هو إحسان موسى بطاعته. وقال ابن جرير: تماما لنعمنا عنده على إحسانه في قيامه بأمرنا ونهينا.

والثاني: أحسن من العلم وكتب اللّه القديمة؛ وكأنه زيد على ما أحسنه من التوراة؛ ويكون {التمام} بمعنى الزيادة، ذكره ابن الانباري. فعلى هذين القولين يكون

{فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى} بمعنى: {مَا}. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو رزين، والحسن، وابن يعمر: {عَلَى ٱلَّذِى أَحْسَنَ}، بالرفع. قال الزجاج: معناه على الذي هو أحسن الأشياء. وقرأ عبد اللّه بن عمرو، وأبو المتوكل، وأبو العالية:

{عَلَى ٱلَّذِى أَحْسَنَ} برفع الهمزة وكسر السين وفتح النون؛ وهي تحتمل الإحسان، وتحتمل العلم. قوله تعالى:

{وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء} أي: تبيانا لكل شيء من أمر شريعتهم مما يحتاجون إلى علمه، لكي يؤمنوا بالبعث والجزاء.

١٥٥

قوله تعالى: {وَهَـٰذَا كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ} يعني: القرآن

{فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ} أن تخالفوه {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} قال الزجاج: لتكونوا راجين للرحمة.

١٥٦

قوله تعالى: {أَن تَقُولُواْ} سبب نزولها: أن كفار مكة قالوا: قاتل اللّه اليهود والنصارى، كيف كذبوا أنبيائهم؛ فواللّه لو جاءنا نذير وكتاب، لكنا أهدى منهم، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. قال الفراء: {ءانٍ} في موضع نصب في مكانين.

احدهما: أنزلناه لئلا تقولوا.

والآخر: من قوله: واتقوا أن تقولوا؛ وذكر الزجاج عن البصريين أن معناه: أنزلناه كراهة أن تقولوا. ولا يجيزون إضمار {لا}. فأما الخطاب بهذه الآية، فهو لأهل مكة؛ والمراد: إثبات الحجة عليهم بانزال القرآن كي لا يقولوا يوم القيامة: إن التوراة والإنجيل أنزلا على اليهود والنصارى، وكنا غافلين عما فيهما.

و{دِرَاسَتِهِمْ}: قراءتهم الكتب.

قال الكسائي: {وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَـٰفِلِينَ} لا نعلم ما هي، لأن كتبهم لم تكن بلغتنا، فأنزل اللّه كتابا بلغتهم لتنقطع حجتهم.

١٥٧

قوله تعالى: {لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ} قال الزجاج: إنما كانوا يقولون هذا، لأنهم مدلون بالأذهان والأفهام، وذلك أنهم يحفظون أشعارهم وأخبارهم، وهم أميون لا يكتبون.

{فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَةٌ} أي: ما فيه البيان وقطع الشبهات. قال ابن عباس:

{فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَةٌ} أي: حجة، وهو النبي، والقرآن، والهدى، والبيان، والرحمة، والنعمة.

{فَمَنْ أَظْلَمُ} أي: أكفر. {مِمَّن كَذَّبَ بِآيَـٰتِ ٱللّه} يعني: محمدا والقرآن.

{وَصَدَفَ عَنْهَا} أعرض فلم يؤمن بها. وسوء العذاب: قبيحه.

١٥٨

قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ} أي: ينتظرون

{إِلا أَن تَأْتِيهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابو عمرو، وابن عامر:

{تَأْتِيهِم} بالتاء. وقرأ حمزة، والكسائي: {يَأْتِيَهُمُ} بالياء. وهذا الإتيان لقبض أرواحهم. وقال مقاتل: المراد بالملائكة: ملك الموت وحده. قوله تعالى:

{أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ} قال الحسن: أو يأتي أمر ربك. وقال الزجاج: أو يأتي إهلاكه وانتقامه إما بعذاب عاجل أو بالقيامة. قوله تعالى:

{هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ} وروى عبد الوارث إلا القزاز: بتسكين ياء {أَوْ يَأْتِىَ}، وفتحها الباقون. وفي هذه الآية أربعة أقوال.

احدها: أنه طلوع الشمس من مغربها، رواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وبه قال ابن مسعود. وفي رواية زرارة بن أوفى عنه، وعبد اللّه ابن عمرو، ومجاهد، وقتادة، والسدي.

وقد روى البخاري، ومسلم، في {الصحيحين} من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: {لا تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ حَتَّىٰ تَطَّلِعُ ٱلشَّمْسَ مِنْ أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءايَـٰتِ رَبّكَ يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَـٰتِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَـٰنِهَا خَيْرًا}

وروى عبد اللّه ابن عمرو بن العاص عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: {لا تَزَالُ ٱلتَّوْبَةُ}.

والثاني: أنه طلوع الشمس والقمر من مغربهما، رواه مسروق عن ابن مسعود.

والثالث: أنه إحدى الآيات الثلاث: طلوع الشمس من مغربها، والدابة، وفتح يأجوج ومأجوج، روى هذا المعنى القاسم عن ابن مسعود.

والرابع: أنه طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض، قاله أبو هريرة. والأول أصح. والمراد بالخير هاهنا: العمل الصالح؛ وإنما لم ينفع الإيمان والعمل الصالح حينئذ، لظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان.وقال الضحاك: من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه، قُبِلَ منه، كما يقبل منه قبل الآية. وقيل: إن الحكمة في طلوع الشمس من مغربها، أن الملحدة والمنجمين، زعموا أن ذلك لا يكون، فيريهم اللّه قدرته، ويطلعها من المغرب كما أطلعها من المشرق، ولتحقق عجز نمرود حين قال له إبراهيم: {إِبْرٰهِيمُ رَبّيَ ٱلَّذِى يُحْىِ وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْىِ وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرٰهِيمُ فَإِنَّ ٱللّه يَأْتِى بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ}.

فصل

وفي قوله: {قُلِ ٱنتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ} قولان.

احدهما: أن المراد به: التهديد، فهو محكم.

والثاني: أنه أمر بالكف عن القتال، فهو منسوخ بآية السيف.

١٥٩

قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو: {فَرَّقُواْ} مشددة. وقرأ حمزة، والكسائي: {فارقوا} بألف. وكذلك قرؤوا في {غُلِبَتِ ٱلرُّومُ} فمن قرأ {فَرَّقُواْ} أراد: آمنوا ببعض، وكفروا ببعض. ومن قرأ: {فارقوا} أراد: باينوا.

وفي المشار إليهم أربعة أقوال.

احدها: أنهم أهل الضلالة من هذه الأمة، قاله أبو هريرة.

والثاني: أنهم اليهود والنصارى، قاله ابن عباس، والضحاك، وقتادة، والسدي.

والثالث: اليهود، قاله مجاهد.

والرابع: جميع المشركين، قاله الحسن. فعلى هذا القول، دينهم: الكفر الذي يعتقدونه دينا، وعلى ما قبله، دينهم: الذي أمرهم اللّه به. والشيع: الفرق والأحزاب. قال الزجاج: ومعنى {شيّعتُ} في اللغة: اتبعت. والعرب تقول: شاعكم السلام، وأشاعكم، أي: تبعكم.

قال الشاعر:

ألا يا نخلة من ذات عرق برود الظل شاعكم السلام

تقول: أتيتك غدا، أو شيعة، أي: أو اليوم الذي يتبعه. فمعنى الشيعة: الذين يتبع بعضهم بعضا، وليس كلهم متفقين.

وفي قوله تعالى: {شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء} قولان.

احدهما: لست من قتالهم في شيء، ثم نسخ بآية السيف، وهذا مذهب السدي.

والثاني: لست منهم، أي: أنت بريء منهم، وهم منك برءاء، إنما أمرهم إلى اللّه في جزائهم، فتكون الآية محكمة.

١٦٠

قوله تعالى: {مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وقرأ يعقوب، والقزاز عن عبد الوارث: {عَشَرَ} بالتنوين، {أَمْثَـٰلُهَا} بالرفع. قال ابن عباس: يريد من عملها، كتبت له عشر حسنات

{وَمَن جَاء بِٱلسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ} جزاء {مِثْلِهَا}

وفي الحسنة والسيئة هاهنا قولان.

احدهما: أن الحسنة قول لا إله إلا اللّه. والسيئة: الشرك، قاله ابن مسعود، ومجاهد، والنخعي.

والثاني: أنه عام في كل حسنة وسيئة. روى مسلم في {صحيحه} من حديث أبي ذر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: يقول اللّه عز وجل: {يَفْعَلُونَ مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِٱلسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}

فان قيل: إذا كانت الحسنة كلمة التوحيد، فأي مثل لها حتى يجعل جزاء قائلها عشر أمثالها؟

فالجواب: أن جزءا الحسنة معلوم القدر عند اللّه، فهو يجازي فاعلها بعشر أمثاله، وكذلك السيئة. وقد أشرنا إلى هذا في {المائدة} عند قوله:

{فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً}

فان قيل: المثل مذكر، فلم قال: {عَشْرُ أَمْثَالِهَا} والهاء إنما تسقط في عدد المؤنث؟

فالجواب: أن الأمثال خلقت حسنات مؤنثة، وتلخيص المعني: فله عشر حسنات أمثالها، فسقطت الهاء من عشر، لأنها عدد مؤنث، كما تسقط عند قولك: عشر نعال، وعشر جباب.

١٦١

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ} قال الزجاج: أي دلني على الدين الذي هو دين الحق. ثم فسر ذلك بقوله: {دِينًا قِيَمًا} قرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو: {قَيِّماً} مفتوحة القاف، مشددة الياء. والقيم: المستقيم. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {قَيِّماً} بكسر القاف، وتخفيف الياء. قال الزجاج: وهو مصدر، كالصغر والكبر. وقال مكي: من خففه بناه على {فَعَلَ} وكان أصله أن يأتي بالواو، فيقول: {قَوْماً} كما قالوا: عِوَض، وحِوَل، ولكنه شذ عن القياس. قال الزجاج: ونصب قوله: {دِينًا قِيَمًا} محمول على المعنى، لأنه لما قال: {هَدَانِى} دل على عرّفني دينا، ويجوز أن يكون على البدل من قوله: {إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فالمعنى: هداني صراطا مستقيما دينا قيما. و{حَنِيفاً} منصوب على الحال من إبراهيم، والمعنى: هداني ملة إبراهيم في حال حنيفيته.

١٦٢

انظر تفسير الآية:١٦٣

١٦٣

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِى} يريد: الصلاة المشروعة. والنسك: جمع نسيكة.

وفي النسك هاهنا أربعة أقوال.

احدها: أنها الذبائح، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وابن قتيبة.

والثاني: الدين، قاله الحسن.

والثالث: العبادة.

قال الزجاج: النسك: كل ما تقرب به إلى اللّه عز وجل، إلا أن الغالب عليه أمر الذبح.

والرابع: أنه الدين، والحج، والذبائح، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قوله تعالى:

{وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى} الجمهور على تحريك ياء {محياي} وتسكين ياء {مماتي} وقرأ نافع: بتسكين ياء {محياي} ونصب ياء {مماتي}، ثم للمفسرين في معناه قولان.

احدهما: أن معناه: لا يملك حياتي ومماتي إلا اللّه.

والثاني: حياتي للّه في طاعته، ومماتي للّه في رجوعي إلى جزائه، ومقصود الآية: أنه أخبرهم: أن أفعالي وأحوالي للّه وحده، لا لغيره كما تشركون أنتم به. قوله تعالى:

{أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ} قال الحسن، وقتادة: أول المسلمين من هذه الأمة.

١٦٤

قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ ٱللّه أَبْغِى رَبّا} سبب نزولها: أن كفار قريش قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر ونحن لك الكفلاء بما أصابك من تبعة، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.

قوله تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} أي: لا يؤخذ سواها بعملها. وقيل: المعنى: إلا عليها عقاب معصيتها، ولها ثواب طاعتها.

{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} قال الزجاج: لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى. والمعنى: لا يؤخذ أحد بذنب غيره. قال أبو سليمان: ولما ادعت كل فرقة من اليهود والنصارى والمشركين أنهم أولى باللّه من غيرهم، عرفهم أنه الحاكم بينهم بقوله:

{فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} ونظيره: {إِنَّ ٱللّه يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ}.

١٦٥

قوله تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَـٰئِفَ ٱلاْرْضِ} قال أبو عبيدة: الخلائف: جمع خليفة. قال الشماخ: تصيبهم وتخطئني المنايا وأخلف في ربوع عن ربوع للمفسرين فيمن خلفوه ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم خلفوا الجن الذين كانوا سكان الأرض، قاله ابن عباس.

والثاني: أن بعضهم يخلف بعضا، قاله ابن قتيبة.

والثالث: أن أمة محمد خلفت سائر الأمم، ذكره الزجاج.

قوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَـٰتٍ} أي: في الرزق، والعلم، والشرف، والقوة، وغير ذلك {لِيَبْلُوَكُمْ} أي: ليختبركم، فيظهر منكم ما يكون عليه الثواب والعقاب.

قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ} فيه قولان.

احدهما: أنه سماه سريعا، لأنه آت، وكل آت قريب.

والثاني: أنه إذا شاء العقوبة أسرع عقابه.

﴿ ٠