ÓõæÑóÉõ ÇáúÃóÚúÑóÇÝö ãóßøöíøóÉñ æóåöíó ãöÇÆóÊóÇäö æóÓöÊøõ ÂíÇóÊò سورة الأعراف فصل في نزولها روى العوفي، وابن أبي طلحة، وأبو صالح عن ابن عباس: أن سورة {ٱلاْعْرَافِ} من المكي، وهذا قول الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، وجابر بن زيد، وقتادة. وروي عن ابن عباس، وقتادة: أنها مكية إلا خمس آيات؛ أولها: قوله تعالى {وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ} وقال مقاتل: كلها مكية، إلا قوله {وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ} إلى قوله {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ} فانهن مدنيات. {الۤمۤصۤ} _________________________________ ١ فأما التفسير: فقوله تعالى {رَّحِيمٌ المص} قد ذكرنا في أول سورة {البقرة} كلاما مجملا في الحروف المقطعة أوائل السور، فهو يعم هذه أيضا. فأما ما يختص بهذه الآية ففيه سبعة أقوال. احدها: أن معناه: أنا اللّه أعلم وأفصل، رواه أبو الضحى عن ابن عباس. والثاني: أنه قسمُ: أقسم اللّه به، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنها اسم من أسماء اللّه تعالى، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أن الألف مفتاح اسمه {ٱللّه} واللام مفتاح اسمه {لَطِيفٌ}، والميم مفتاح اسمه {مَّجِيدٌ}، والصاد مفتاح اسمه {صَـٰدِقَ}، قاله أبو العالية. والخامس: أن المص: اسم للسورة، قاله الحسن. والسادس: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله قتادة. والسابع: أنها بعض كلمة. ثم في تلك الكلمة قولان. احدهما: المصور، قاله السدي. والثاني: المصير إلى كتاب أنزل إليك، ذكره الماوردي. ٢ قوله تعالى: {كِتَـٰبٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} قال الأخفش: رفع الكتاب بالابتداء. ومذهب الفراء: أن اللّه اكتفى في مفتتح السور ببعض حروف المعجم عن جميعها، كما يقول القائل: {ا ب ت ث} ثمانية وعشرون حرفا؛ فالمعنى: حروف المعجم: كتاب أنزلناه إليك. قال ابن الانباري: ويجوز أن يرتفع الكتاب باضمار: هذا الكتاب. وفي الحرج قولان. احدهما: أنه الشك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة. والثاني: أنه الضيق، قاله الحسن، والزجاج. وفي هاء منه قولان. احدهما: أنها ترجع إلى الكتاب؛ فعلى هذا، في معنى الكلام قولان. احدهما: لا يضيقن صدرك بالإبلاغ، ولا تخافن، قاله الزجاج: والثاني: لا تشكن أنه من عند اللّه. والقول الثاني: أنها ترجع إلى مضمر، وقد دل عليه الإنذار، وهو التكذيب، ذكره ابن الانباري. قال الفراء: فمعنى الآية: لا يضيقن صدرك إن كذبوك. قال الزجاج: وقوله تعالى: {فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ} مقدم؛ والمعنى: أنزل إليك لتنذر به، وذكرى للمؤمنين، فلا يكن في صدرك حرج منه. {وَذِكْرَىٰ} يصلح أن يكون في موضع رفع ونصب وخفض؛ فأما النصب، فعلى قوله: {أَنزَلَ إِلَيْكَ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: ولتذكر به ذكرى، لان في الإنذار معنى التذكير. ويجوز الرفع على أن يكون: وهو ذكرى، كقولك: وهو ذكرى للمؤمنين. فأما الخفض فعلى معنى: لتنذر، لأن معنى {لّتُنذِرَ} لأن تنذر؛ المعنى: للانذار والذكرى، وهو في موضع خفض. ٣ قوله تعالى: {ٱتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ} إن قيل: كيف خاطبه بالإفراد في الآية الأولى، ثم جمع بقوله: {ٱتَّبَعُواْ} فعنه ثلاثة أجوبة. احدها: أنه لما علم أن الخطاب له ولأمته، حسن الجمع لذلك المعنى. والثاني: أن الخطاب الأول خاص له؛ والثاني محمول على الإنذار، والإنذار في طريق القول، فكأنه قال: لتقول لهم منذرا: {ٱتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ}، ذكرهما ابن الانباري. والثالث: أن الخطاب الثاني للمشركين، ذكره جماعة من المفسرين؛ قال: والذي أنزل إليهم القرآن. وقال الزجاج: الذي أنزل: القرآن وما أتى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، لأنه مما أنزل عليه، لقوله تعالى: {وَمَا ءاتَـٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـٰكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ} {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} أي: لا تتولوا من عدل عن دين الحق؛ وكل من ارتضى مذهبا فهو ولي أهل المذهب. وقوله تعالى: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} ما: زائدة مؤكِّدة؛ والمعنى: قليلا تتذكرون. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم {تَذَكَّرُونَ} مشددة الذال والكاف. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم {تَذَكَّرُونَ} خفيفة الذال مشددة الكاف. قال أبو علي: من قرأ {تَذَكَّرُونَ} بالتشديد، أراد {تَتَذَكَّرُونَ} فأدغم التاء في الذال، وإدغامها فيها حسن، لأنها التاء مهموسة، والذال مجهورة؛ والمجهور أزيد صوتا من المهموس وأقوى؛ فادغام الأنقص في الأزيد حسن. وأما حمزة ومن وافقه، فانهم حذفوا التاء التي أدغمها هؤلاء، وذلك حسن لاجتماع ثلاثة أحرف متقاربة. وقرأ ابن عامر: {يَتَذَكَّرُونَ} بياء وتاء، على الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم؛ والمعنى: قليلا ما يتذكر هؤلاء الذين ذكروا بهذا الخطاب. ٤ قوله تعالى: {وَكَم مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا} {كَمْ} تدل على الكثرة، و{رَبّ} موضوعة للقلة. قال الزجاج: المعنى: وكم من أهل قرية، فحذف الأهل، لأن في الكلام دليلا عليه. وقوله تعالى: {فَجَاءهَا بَأْسُنَا} محمول على لفظ القرية؛ والمعنى: فجاءهم بأسنا غفلة وهم غير متوقعين له؛ إما ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم قائلون. قال ابن قتيبة: بأسنا: عذابنا. وبياتا: ليلاً. وقائلون: من القائلة نصف النهار. فان قيل: إنما أتاها البأس قبل الإهلاك، فكيف يقدم الهلاك؟ فعنه ثلاثة أجوبة. احدها: أن الهلاك والبأس، يقعان معا، كما تقول: أعطيتني فأحسنت؛ وليس الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله، وإنما وقعا معا، قاله الفراء. والثاني: أن الكون مضمر في الآية، تقديره: أهلكناها، وكان بأسنا قد جاءها، فأُضمر الكون، كما أضمر في قوله: {وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ} أي: ما كانت الشياطين تتلوه. وقوله تعالى: {إِن يَسْرِقْ} أي: إن يكن سرق. والثالث: أن في الآية تقديما وتأخيراً، تقديره: وكم من قرية جاءها بأسنا بياتا، أو هم قائلون، فأهلكناها، كقوله تعالى: {إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ} أي: رافعك ومتوفيك، ذكرهما ابن الانباري. قوله تعالى: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} قال الفراء: فيه واو مضمرة؛ والمعنى: فجاءها بأسنا بياتا، أو وهم قائلون، فاستثقلوا نسقا على نسق. ٥ قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} قال اللغويون: الدعوى هاهنا بمعنى الدعاء والقول. والمعنى: ما كان قولهم وتداعيهم إذ جاءهم العذاب إلا الاعتراف بالظلم. قال ابن الانباري: وللدعوى في الكلام موضعان. احدهما: الإدعاء. والثاني: القول والدعاء. قال الشاعر: إذا مذلت رجلي دعوتك أشتفي بدعواك من مذل بها فيهون ٦ انظر تفسير الآية:٧ ٧ قوله تعالى: {فَلَنَسْـئَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} يعني: الأمم يُسألون: هل بلغكم الرسل، وماذا أجبتم؟ ويسأل الرسل: هل بَلَّغتم، وماذا أجبتم؟. {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم} أي: فلنخبرنهم بما عملوا بعلم منا {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} عن الرسل والأمم. وقال ابن عباس: يوضع الكتاب فيتكلم بما كانوا يعملون. ٨ انظر تفسير الآية:٩ ٩ قوله تعالى: {وَٱلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ} أي: العدل. وإنما قال: {مَوٰزِينُهُ} لأن {مِنْ} في معنى جميع، يدل عليه قوله: {فَأُوْلَـئِكَ}. وفي معنى {يَظْلِمُونَ} قولان. احدهما: يجحدون. والثاني: يكفرون. قال الفراء: والمراد بموازينه: وزنه. والعرب تقول: هل لك في درهم بميزان درهمك، ووزن درهمك، ويقولون: داري بميزان دارك، ووزن دارك؛ ويريدن حذاء دارك. قال الشاعر: قد كنت قبل لقائكم ذا مرة عندي لكم مخاصم ميزانه عني: مثل كلامه ولفظه. فصل القول بالميزان مشهور في الحديث، وظاهر القرآن ينطق به. وأنكرت المعتزلة ذلك، وقالوا: الأعمال أعراض، فكيف توزن؟ فالجواب: أن الوزن يرجع إلى الصحائف، بدليل حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: {أَنَّ ٱللّه عَزِيزٌ}، والترمذي. وروى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: {يُؤْتَىٰ ٱللّه لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً} فعلى هذا يوزن الإنسان. قال ابن عباس: توزن الحسنات والسيئات في ميزان، له لسان وكِفتان. فأما المؤمن، فيؤتى بعمله في أحسن صورة، فيوضع في كفة الميزان، فتثقل حسناته على سيئاته، وأما الكافر، فيؤتى بعمله في أقبح صورة، فيوضع في كفة الميزان، فيخف وزنه. وقال الحسن: للميزان لسان وكفتان. وجاء في الحديث: {ءانٍ دَاوُودُ عَلَيْهِ ٱلسَّلَـٰمِ سَأَلَ رِبّهِ أَنْ}. وقال حذيفة: جبريل صاحب الميزان يوم القيامة، فيقول له ربه: زن بينهم، ورد من بعضهم على بعض، فيرد على المظلوم من الظالم ما وجد له من حسنة. فان لم تكن له حسنة، أخذ من سيئات المظلوم، فرد على سيئات الظالم، فيرجع وعليه مثل الجبال. فان قيل: أليس اللّه يعلم مقادير الأعمال، فما الحكمة في وزنها؟ فالجواب: أن فيه خمسة حكم. احدها: امتحان الخلق بالإيمان بذلك في الدنيا. والثانية: إظهار علامة السعادة والشقاوة في الأخرى. والثالثة: تعريف العباد ما لهم من خير وشر. والرابعة: إقامة الحجة عليهم. والخامسة: الإعلام بأن اللّه عادل لا يظلم. ونظير هذا أنه أثبت الاعمال في كتاب، واستنسخها من غير جواز النسيان عليه. ١٠ قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ... } فيه قولان. احدهما: مكناكم إياها. والثاني: سهلنا عليكم التصرف فيها. وفي المعايش قولان. احدهما: ما تعيشون به من المطاعم والمشارب. والثاني: ما تتوصلون به إلى المعايش، من زراعة، وعمل، وكسب. وأكثر القراء على ترك الهمز في {مَعَـٰيِشَ} وقد رواها خارجة عن نافع مهموزة. قال الزجاج: وجميع النحويين البصريين يزعمون أن همزها خطأ، لأن الهمز إنما يكون في الياء الزائدة، نحو صحيفة وصحائف؛ فصحيفة من الصحف؛ والياء زائدة، فأما معايش، فمن العيش، فالياء أصلية. قوله تعالى: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} أي: شكركم قليل. وقال ابن عباس: يريد: أنكم غير شاكرين. ١١ قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَـٰكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـٰكُمْ} فيه ثمانية أقوال. احدها: ولقد {خَلَقْنَـٰكُمْ} في ظهر آدم، {ثُمَّ صَوَّرْنَـٰكُمْ} في الأرحام، رواه عبد اللّه بن الحارث عن ابن عباس. والثاني: {وَلَقَدْ خَلَقْنَـٰكُمْ} في أصلاب الرجال، و{صَوَّرْنَـٰكُمْ} في أرحام النساء، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. والثالث: ولقد {خَلَقْنَـٰكُمْ} يعني: آدم، ثم {صَوَّرْنَـٰكُمْ}، يعني: ذريته من بعده، رواه العوفي عن ابن عباس. والرابع: ولقد {خَلَقْنَـٰكُمْ}، يعني آدم، ثم {صَوَّرْنَـٰكُمْ} في ظهره، قاله مجاهد. والخامس: {خَلَقْنَـٰكُمْ} نطفا في أصلاب الرجال، وترائب النساء، ثم {صَوَّرْنَـٰكُمْ} عند اجتماع النطف في الأرحام، قاله ابن السائب. والسادس: {خَلَقْنَـٰكُمْ} في بطون أمهاتكم، ثم {صَوَّرْنَـٰكُمْ} فيما بعد الخلق، بشق السمع والبصر، قاله معمر. والسابع: {خَلَقْنَـٰكُمْ} يعني: آدم خلقناه من تراب، ثم {صَوَّرْنَـٰكُمْ} أي: صورناه، قاله الزجاج، وابن قتيبة. قال ابن قتيبة: فجعل الخلق لهم إذ كانوا منه؛ فمن قال: عني بقوله {خَلَقْنَـٰكُمْ} آدم، فمعناه: خلقنا أصلكم؛ ومن قال: صورنا ذريته في ظهره، أراد: إخراجهم يوم الميثاق كهيئة الذر. والثامن: {وَلَقَدْ خَلَقْنَـٰكُمْ} يعني: الأرواح، {ثُمَّ صَوَّرْنَـٰكُمْ} يعني: الأجساد، حكاه القاضي أبو يعلى في {المعتمد}. وفي {تَتَّقُونَ ثُمَّ} المذكورة مرتين قولان. احدهما: أنها بمعنى الواو، قاله الأخفش. والثاني: أنها للترتيب، قاله الزجاج. ١٢ قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} ما استفهام: ومعناها: الإنكار. قال الكسائي: {لا} هاهنا زائدة. والمعنى: ما منعك أن تسجد؟ وقال الزجاج: موصع {مَا} رفع. والمعنى: أي شيء منعك من السجود؟ولا زائدة مؤكدة؛ ومثله: {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَـٰبِ}. قال ابن قتيبة: وقد تزاد{لا} في الكلام. والمعنى: طرحها لإباء في الكلام، أو جحد، كهذه الآية. وإنما زاد {لا} لأنه لم يسجد. ومثله: {أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} على قراءة من فتح {أَنَّهَا}، فزاد{لا} لأنهم لم يؤمنوا؛ ومثله: {وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـٰهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} وقال الفراء: {لا} هاهنا جحد محض، وليست بزائدة، والمنع راجع إلى تأويل القول، والتأويل: من قال لك لا تسجد؛ فأحل المنع محل القول، ودخلت بعده {ءانٍ} ليدل على تأويل القول الذي لم يتصرح لفظه. وقال ابن جرير: في الكلام محذوف، تقديره: ما منعك من السجود، فأحوجك أن لا تسجد؟ قال الزجاج: وسؤال اللّه تعالى لإبليس {مَا مَنَعَكَ} توبيخ له، وليظهر أنه معاند، ولذلك لم يتب، وأتى بشيء في معنى الجواب، ولفظه غير الجواب، لأن قوله: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} إنما هو جواب، أيكما خير؟ ولكن المعنى: منعني من السجود فضلي عليه. ومثله قولك للرجل: كيف كنت؟ فيقول: أنا صالح؛ وإنما الجواب: كنت صالحا، فيجيب بما يحتاج إليه وزيادة. قال العلماء: وقع الخطأ من إبليس حين قاس مع وجود النص، وخفي عليه فضل الطين على النار؛ وفضله من وجوه. احدها: أن من طبع النار الطيش والالتهاب والعجلة، ومن طبع الطين الهدوء والرزانة. والثاني: أن الطين سبب الإنبات والإيجاد، والنار سبب الإعدام والإهلاك. والثالث: أن الطين سبب جمع الأشياء، والنار سبب تفريقها. ١٣ قوله تعالى: {فَٱهْبِطْ مِنْهَا} في هاء الكناية قولان. احدهما: أنها ترجع إلى السماء، لأنه كان فيها، قاله الحسن. والثاني: إلى الجنة، قاله السدي. قوله تعالى: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} إن قيل: فهل لأحد أن يتكبر في غيرها؟ فالجواب: أن المعنى: ما للمتكبر أن يكون فيها، وإنما المتكبر في غيرها. وأما الصاغر، فهو الذليل. والصغار: الذل. قال الزجاج: استكبر إبليس بابائه السجود، فأعلمه اللّه أنه صاغر بذلك. ١٤ انظر تفسير الآية:١٥ ١٥ قوله تعالى: {قَالَ أَنظِرْنِى} أي: أمهلني وأخرني {إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} فأراد أن يعبر فنطرة الموت؛ وسأل الخلود، فلم يجبه إلى ذلك، وأنظره إلى النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم. وقد بين مدة إمهاله في {ٱلْحَجَرَ} بقوله: {إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْوَقْتِ ٱلْمَعْلُومِ} وفي ما سأل الإمهال له قولان. احدهما: الموت. والثاني: العقوبة. فان قيل: كيف قيل له: {إِنَّكَ مِنَ ٱلمُنظَرِينَ} وليس أحد أنظر سواه؟ فالجواب: أن الذين تقوم عليهم الساعة منظرون إلى ذلك الوقت بآجالهم، فهو منهم. ١٦ قوله تعالى: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى} في معنى هذا الإغواء قولان. احدهما: أنه بمعنى: الإضلال، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: أنه بمعنى: الإهلاك، ومنه قوله: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} أي: هلاكا، ذكره ابن الأنباري. وفي معنى {فَبِمَا} قولان. احدهما: أنها بمعنى القسم، أي: فباغوائك لي. والثاني: أنها بمعنى الجزاء، أي: فبأنك أغويتني، ولأجل أنك أغويتني {لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ}. قال الفراء، والزجاج: أي على صراطك. ومثله قولهم: ضرب زيد الظهر والبطن. وفي المراد بالصراط هاهنا ثلاثة أقوال. احدها: أنه طريق مكة، قاله ابن مسعود، والحسن، وسعيد بن جبير؛ كأن المراد صدهم عن الحج. والثاني: أنه الأسلام، قاله جابر بن عبد اللّه، وابن الحنفية، ومقاتل. والثالث: أنه الحق، قاله مجاهد. ١٧ قوله تعالى: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ} فيه سبعة أقوال. احدها: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أشككهم في آخرتهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أرغبهم في دنياهم، {وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ} أي: من قبل حسناتهم، {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} من قبل سيئاتهم، قاله ابن عباس. والثاني: مثله، إلا أنهم جعلوا {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} الدنيا، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} الآخرة، قاله النخعي، والحكم بن عتيبة. والثالث: مثل الثاني، إلا أنهم جعلوا {وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ} من قبل الحق أصدهم عنه، {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} من قبل الباطل أردهم إليه، قاله مجاهد، والسدي. والرابع: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} من سبيل الحق، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من سبيل الباطل {وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ} من قبل آخرتهم، {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} من أمر الدنيا، قاله أبو صالح. والخامس: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} {وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ} من حيث يبصرون. {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} من حيث لا يبصرون، نقل عن مجاهد أيضا. والسادس: أن المعنى لأتصرفن لهم في الإضلال من جميع جهاتهم، قاله الزجاج، وأبو سليمان الدمشقي. فعلى هذا، يكون ذكر هذه الجهات، للمبالغة في التأكيد. والسابع: {مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} فيما بقي من أعمارهم، فلا يقدمون فيه على طاعة، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} فيما مضى من أعمارهم، فلا يتوبون فيه من معصية، {وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ} من قبل الغنى، فلا ينفقونه في مشكور، {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} من قبل الفقر، فلا يمتنعون فيه من محظور، قاله الماوردي. قوله تعالى: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـٰكِرِينَ} فيه قولان. احدهما: موحدين، قاله ابن عباس. والثاني: شاكرين لنعمتك، قاله مقاتل. فان قيل: من أين علم إبليس ذلك؟ فقد أسلفنا الجواب عنه في سورة النساء. ١٨ انظر تفسير الآية:١٩ ١٩ قوله تعالى: {قَالَ فَٱخْرُجْ مِنْهَا} قرأ الأعمش: {مذوما} بضم الذال من غير همز. قال الفراء: {الذأم}: الذم، يقال: ذأمت الرجل، أذأمه ذأما؛ وذممته، أذمه ذما، وذمته، أذيمه ذيما، ويقال: رجل مذؤوم، ومذموم، ومذيم، بمعنى: قال حسان بن ثابت: واقاموا حتى أبيروا جميعا في مقام وكلهم مذؤوم قال ابن قتيبة: المذؤوم: المذموم بأبلغ الذم. والمدحور: المقصى المبعد. وقال الزجاج: معنى المذؤوم: كمعنى المذموم، والمدحور: المبعد من رحمة اللّه. واللام من {رَبّكَ لاَمْلاَنَّ} لام القسم؛ والكلام بمعنى الشرط والجزاء، كأنه قيل له: من تبعك، أعذبه، فدخلت اللام للمبالغة والتوكيد. فلام {لاَمْلاَنَّ} هي لام القسم، ولام {لَّمَن تَبِعَكَ} توطئة لها. فأما قوله: {مِنْهُمْ} فقال ابن الانباري: الهاء والميم عائدتان على ولد آدم، لانه حين قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَـٰكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـٰكُمْ} كان مخاطبا لولد آدم، فرجع إليهم، فقال: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} فجعلهم غائبين، لأن مخاطبتهم في ذا الموضع توقع لبسا، والعرب ترجع من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى الخطاب. ومن قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَـٰكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـٰكُمْ} خطاب لآدم، قال أعاد الهاء والميم على ولده، لأن ذكره يكفي من ذكرهم؛ والعرب تكتفي بذكر الوالد من ذكر الأولاد إذا انكشف المعنى وزال اللبس. قال الشاعر: ارى الخطفى بذ الفرزدق شعره ولكن خيرا من كليب مجاشع راد: ارى ابن الخطفي، فاكتفى بالخطفي من ابنه. قوله تعالى: {لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ} يعني: أولاد آدم المخالفين وقرناءهم من الشياطين. ٢٠ قوله تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَـٰنُ} قيل: إن الوسوسة: إخفاء الصوت، قال ابن فارس: الوسواس: صوت الحلي، ومنه وسواس الشيطان. و{لَّهُمَا} بمعنى {إليهما}، {ٱلشَّيْطَـٰنُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا} أي: ليظهر لهما {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} أي: ستر. وقيل: إن لام {لِيُبْدِيَ} لام العاقبة؛ وذلك أن عاقبة الوسوسة أدت إلى ظهور عورتهما، ولم تكن الوسوسة لظهورها. قوله تعالى: {إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} قال الأخفش، والزجاج: معناه: ما نهاكما إلا كراهة أن تكونا ملكين. وقال ابن الانباري: المعنى: إلا أن لا تكونا، فاكتفى {بِأَنَّ} من {لا} فأسقطها. فان قيل: كيف انقاد آدم لإبليس، مستشرفا إلى أن يكون ملكا، وقد شاهد الملائكة ساجدة له؟ فعنه جوابان. احدهما: أنه عرف قربهم من اللّه، واجتماع أكثرهم حول عرشه، فاستشرف لذلك، قاله ابن الأنباري. والثاني: أن المعنى: إلا أن تكونا طويلي العمر مع الملائكة {أَوْ تَكُونَا مِنَ ٱلْخَـٰلِدِينَ} لا تموتان أبدا، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقد روى يعلى بن حكيم عن ابن كثير: {أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} بكسر اللام، وهي قراءة الزهري. ٢١ انظر تفسير الآية:٢٥ ٢٢ انظر تفسير الآية:٢٥ ٢٣ انظر تفسير الآية:٢٥ ٢٤ انظر تفسير الآية:٢٥ ٢٥ قوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَا} قال الزجاج: حلف لهما فدلاهما في المعصية بأن غرهما. قال ابن عباس: غرهما باليمين، وكان آدم لا يظن أن أحدا يحلف باللّه كاذبا. قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ} أي: فلما ذاقا ثمر الشجرة. قال الزجاج: وهذا يدل على أنهما ذاقاها ذواقا، ولم يبالغا في الأكل. والسوأة: كناية. عن الفرج، لا أصل له في تسميته. ومعنى: {طفقا} أخذا في الفعل؛ والأكثر: طِفق يَطْفَقُ، وقد رويت: طفق يَطْفِقُ، بكسر الفاء ومعنى {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ} يجعلان ورقة على ورقة، ومنه قيل للذي يرقع النعل: خصاف. وفي الآية دليل على أن إظهار السوأة قبيح من لدن آدم؛ ألا ترى إلى قوله: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءتِهِمَا} فانهما بادرا يستتران لقبح التكشف. وقيل: إنما سميت السوأة سوأة لأن كشفها يسوء صاحبها. قال وهب بن منبه: كان لباسهما نورا على فروجهما، لا يرى احدهما عورة الآخر؛ فلما أصابا الخطيئة، بدت لهما سوءاتهما. وقرأ الحسن: سوأتهما على التوحيد وكذلك قرأ سخصفان بكسر الياء والخاء مع تشديد الصاد. وقرأ الزهري: بضم الياء وفتح الخاء مع تشديد الصاد. وفي الورق قولان. احدهما: ورق التين، قاله ابن عباس. والثاني: ورق الموز، ذكره المفسرون. وما بعد هذا قد سبق تفسيره إلى قوله: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ} يعني: الأرض. واختلف القراء في تاء {تُخْرَجُونَ}، فقرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو: بضم التاء وفتح الراء، هاهنا؛ وفي {ٱلرُّومُ} {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}.وفي {الزخرف} {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}. وفي الجاثية {لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا}. وقرأهن حمزة، والكسائي: بفتح التاء وضم الراء. وفتح ابن عامر التاء في {ٱلاْعْرَافِ} فقط. فأما التي في {ٱلرُّومُ} {إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} وفي {سَأَلَ سَائِلٌ} {يَوْمَ يَخْرُجُونَ} فمفتوحتان من غير خلاف. ٢٦ قوله تعالى: {تُخْرَجُونَ يَـٰبَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} سبب نزولها: أن ناسا من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد. وقيل: إنه لما ذكر عري آدم، من علينا باللباس. وفي معنى: {أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ} ثلاثة اقوال. احدها: خلقنا لكم. والثاني: ألهمناكم كيفية صنعه. والثالث: أنزلنا المطر الذي هو سبب نبات ما يتخذ لباسا. وأكثر القراء قرؤوا: {وَرِيشًا}. وقرأ ابن عباس، والحسن وزر بن حبيش، وقتادة، والمفضل، وأبان عن عاصم: {ورياشا} بألف. قال الفراء: يجوز أن تكون الرياش جمع الريش، ويجوز أن تكون بمعنى الريش كما قالوا: لبس، ولباس. قال الشاعر: فلما كشفن اللبس عنه مسحنه بأطراف طفل زان غيلا موشما قال ابن عباس، ومجاهد: الرياش: المال؛ وقال عطاء: المال والنعيم. وقال ابن زيد الريش: الجمال؛ وقال معبد الجهني: الريش: الرزق؛ وقال ابن قتيبة: الريش والرياش: ما ظهر من اللباس. وقال الزجاج: الريش: اللباس وكل ما ستر الإنسان في جسمه ومعيشته. يقال: تريش فلان، أي: صار له ما يعيش به. أنشد سيبويه: رياشي منكم وهواي معكم وإن كانت زيارتكم لماما وعلى قول الأكثرين: الريش والرياش بمعنى. قال قطرب: الريش والرياش واحد. وقال سفيان الثوري: الريش: المال، والرياش: الثياب. قوله تعالى: {وَرِيشًا وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة: {وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ} بالرفع. وقرأ ابن عامر، ونافع، والكسائي: بنصب اللباس. قال الزجاج: من نصب اللباس، عطف به على الريش؛ ومن رفعه، فيجوز أن يكون مبتدأ، ويجوز أن يكون مرفوعا باضمار: هو؛ المعنى: وهو لباس التقوى، أي: وستر العورة لباس المتقين. وللمفسرين في لباس التقوى عشرة أقوال. احدها: أنه السمت الحسن، قاله عثمان بن عفان؛ ورواه الذيال بن عمرو عن ابن عباس. والثاني: العمل الصالح، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: الإيمان، قاله قتادة، وابن جريج، والسدي. فعلى هذا، سمي لباس التقوى، لأنه يقي العذاب. والرابع: خشية اللّه تعالى، قاله عروة بن الزبير. والخامس: الحياء، قاله معبد الجهني، وابن الانباري. والسادس: ستر العورة للصلاة، قاله ابن زيد. والسابع: انه الدرع، وسائر آلات الحرب، قاله زيد بن علي. والثامن: العفاف، قاله ابن السائب. والتاسع: أنه ما يتقى به الحر والبرد، قاله ابن بحر. والعاشر: أن المعنى: ما يلبسه المتقون في الآخرة، خير مما يلبسه أهل الدنيا، رواه عثمان ابن عطاء عن أبيه. قوله تعالى: {ذٰلِكَ خَيْرٌ} قال ابن قتيبة: المعنى ولباس التقوى خير من الثياب، لأن الفاجر، وإن كان حسن الثوب، فهو بادي العورة؛ و{ذٰلِكَ} زائدة. قال الشاعر في هذا المعنى: إني كأني أرى من لا حياء له ولا أمانة وسط القوم عريانا قال ابن الانباري: ويقال لباس التقوى، هو اللباس الأول، وإنما أعاده لما أخبر عنه بأنه خير من التعري، إذ كانوا يتعبدون في الجاهلية بالتعري في الطواف. قوله تعالى: {ذٰلِكَ مِنْ آيَـٰتِ ٱللّه} قال مقاتل: يعني: الثياب والمال من آيات اللّه وصنعه، لكي يذكروا، فيعتبروا في صنعه. ٢٧ قوله تعالى: {يَذَّكَّرُونَ يَـٰبَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ} قال المفسرون: هذا الخطاب للذين كانوا يطوفون عراة، والمعنى: لا يخدعنكم ولا يضلنكم بغروره، فيزين لكم كشف عوراتكم، كما أخرج أبويكم من الجنة بغروره. وأضيف الإخراج ونزع اللباس إليه، لأنه السبب. وفي لباسهما أربعة أقوال. احدها: أنه النور، رواه أبو صالح عن ابن عباس؛ وقد ذكرناه عن ابن منبه. والثاني: أنه كان كالظفر؛ فلما أكلا لم يبق عليهما منه إلا الظفر، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس؛ وبه قال عكرمة، وابن زيد. والثالث: أنه التقوى، قاله مجاهد. والرابع: أنه كان من ثياب الجنة، ذكره القاضي أبو يعلى. قوله تعالى: {لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا} أي: ليري كل واحد منهما سوأة صاحبه. {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} قال مجاهد: قبيله: الجن والشياطين. قال ابن عباس: جعلهم اللّه يجرون من بني آدم مجرى الدم، وصدور بني آدم مساكن لهم، فهم يرون بني آدم، وبنو آدم لا يرونهم. قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَـٰطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} قال الزجاج: سلطناهم عليهم، يزيدون في غيهم. وقال أبو سليمان: جعلناهم موالين لهم. ٢٨ قوله تعالى: {وإذا فعلوا الفاحشة} فيمن عني بهذه الآية ثلاثة اقوال. احدها: أنهم الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة. والفاحشة: كشف العورة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وزيد بن أسلم، والسدي. والثاني: أنهم الذين جعلوا السائبة والوصيلة والحام وتلك الفاحشة، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنهم المشركون؛ والفاحشة: الشرك، قاله الحسن، وعطاء. قال الزجاج: فأعلمهم عز وجل أنه لا يأمر بالفحشاء، لأن حكمته تدل على أنه لا يفعل إلا المستحسن. والقسط: العدل. والعدل: ما استقر في النفوس أنه مستقيم لا ينكره مميز، فكيف يأمر بالفحشاء، وهي ما عظم قبحه. ٢٩ قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} فيه أربعة أقوال. احدها: إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد، فصلوا فيه، ولا يقولن أحدكم: أصلي في مسجدي، قاله ابن عباس، والضحاك، واختاره ابن قتيبة. والثاني: توجهوا حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة، قاله مجاهد، والسدي، وابن زيد. والثالث: اجعلوا سجودكم خالصا للّه تعالى دون غيره، قاله الربيع بن أنس. والرابع: اقصدوا المسجد في وقت كل صلاة، أمرا بالجماعة لها، ذكره الماوردي. وفي قوله: {وَٱدْعُوهُ} قولان. احدهما: أنه العبادة. والثاني: الدعاء. وفي قوله: {مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ} قولان. احدهما: مفردين له العبادة. والثاني: موحدين غير مشركين. وفي قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} ثلاثة أقوال. احدها: كما بدأكم سعداء وأشقياء كذلك تبعثون. روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والقرظي، والسدي، ومقاتل، والفراء. والثاني: كما خلقتم بقدرته، كذلك يعيدكم، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وابن زيد، والزجاج، وقال: هذا الكلام متصل بقوله: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ}. والثالث: كما بدأكم لا تملكون شيئا، كذلك تعودون، ذكره الماوردي. ٣٠ قوله تعالى: {فَرِيقًا هَدَىٰ} قال الفراء: نصب الفريق ب {تَعُودُونَ}. وقال ابن الانباري: نصب {فَرِيقاً} و{فَرِيقاً} على الحال من الضمير الذي في {تَعُودُونَ} يريد: تعودون كما ابتدأ خلقكم مختلفين، بعضكم سعداء، وبعضكم أشقياء. قوله تعالى: {حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلَـٰلَةُ} أي بالكلمة القديمة، والإرادة السابقة. ٣١ قوله تعالى: {يَـٰبَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ} سبب نزولها: أن ناسا من الأعراب كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانت المرأة تعلق على فرجها سيورا، وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله نزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: كانوا إذا حجوا فأفاضوا من منى لا يصلح لأحد منهم في دينه الذي اشترعوا أن يطوف في ثوبيه، فيلقيهما حتى يقضي طوافه، فنزلت هذه الآية. وقال الزهري: كانت العرب تطوف بالبيت عراة، إلا الحمس قريش وأحلافها، فمن جاء من غيرهم، وضع ثيابه وطاف في ثوبي أحمس، فان لم يجد من يعيره من الحمس، ألقى ثيابه وطاف عريانا، فان طاف في ثياب نفسه، جعلها حراما عليه إذا قضى الطواف، فلذلك جاءت هذه الآية. وفي هذه الزينة قولان. احدهما: أنها الثياب. ثم فيه ثلاثة أقوال. احدها: أنه ورد في ستر العورة في الطواف، قاله ابن عباس، والحسن في جماعة. والثاني: أنه ورد في ستر العورة في الصلاة، قاله مجاهد، والزجاج. والثالث: أنه ورد في التزين بأجمل الثياب في الجمع والأعياد، ذكره الماوردي. والثاني: أن المراد بالزينة: المشط، قاله أبو رزين. قوله تعالى: {وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ} قال ابن السائب: كان أهل الجاهلية لا يأكلون في أيام حجهم دسما، ولا ينالون من الطعام إلا قوتا، تعظيما لحجهم فنزل قوله: {وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ} وفي قوله: {وَلاَ تُسْرِفُواْ} أربعة اقوال. احدها: لا تسرفوا بتحريم ما أحل لكم، قاله ابن عباس. والثاني: لا تأكلوا حراما، فذلك الإسراف، قاله ابن زيد. والثالث: لا تشركوا فمعنى الإسراف هاهنا: الإشراك، قاله مقاتل. والرابع: لا تأكلوا من الحلال فوق الحاجة، قاله الزجاج. ونقل أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق، فقال لعلي بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء، فقال. علي: قد جمع اللّه تعالى الطب في نصف آية من كتابنا. قال: ما هي؟ قال قوله تعالى: {وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} قال النصراني ولا يؤثر عن نبيكم شيء من الطب، فقال: قد جمع رسولنا علم الطب في ألفاظ يسيرة قال: وما هي؟ قال: المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء، وعودوا كل بدن ما اعتاد فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا. قال المصنف: هكذا نقلت هذه الحكاية، إلا أن هذا الحديث المذكور فيها عن النبي صلى اللّه تعالى عليه وسلم لا يثبت. وقد جاءت عنه في الطب أحاديث قد ذكرتها في كتاب {لقط المنافع في الطب}. ٣٢ قوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللّه} في سبب نزولها ثلاثة أقوال. احدها: أن المشركين عيروا المسلمين، إذ لبسوا الثياب في الطواف، وأكلوا الطيبات، فنزلت، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنهم كانوا يحرمون أشياء أحلها اللّه، من الزروع وغيرها، فنزلت هذه الآية. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: نزلت في طوافهم بالبيت عراة، قاله طاووس، وعطاء. وفي زينة اللّه قولان. احدهما: أنها ستر العورة، فالمعنى: من حرم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم؟. والثاني: أنها زينة اللباس. وفي الطيبات قولان. احدهما: أنها الحلال. والثاني: المستلذ. ثم في ما عني بها ثلاثة اقوال. احدها: أنها البحائر، والسوائب، والوصائل، والحوامي التي حرموها، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: أنها السمن، والألبان، واللحم، وكانوا حرموه في الإحرام، قاله ابن زيد. والثالث: الحرث، والأنعام، والألبان، قاله مقاتل. قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللّه ٱلَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} قال ابن الانباري: خالصة نصب على الحال من لام مضمرة، تقديرها: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا مشتركة، وهي لهم في الآخرة خالصة، فحذفت اللام لوضوح معناها، كما تحذف العرب أشياء لا يلبس سقوطها. قال الشاعر: تقول ابنتي لما رأتني شاحبا كأنك يحميك الطعام طبيب تتابع أحداث تخر من أخوتي فشيبن رأسي والخطوب تشيب أراد: فقلت لها: الذي اكسبني ما ترين، تتابع أحداث، فحذف لانكشاف المعنى. قال المفسرون: إن المشركين شاركوا المؤمنين في الطيبات، فأكلوا ولبسوا ونكحوا، ثم يخلص اللّه الطيبات في الآخرة للمؤمنين، وليس للمشركين فيها شيء. وقيل: خالصة لهم من ضرر أو إثم. وقرأ نافع: {خَالِصَةٌ} بالرفع.قال الزجاج: ورفعها على أنه خبر بعد خبر، كما تقول: زيد عاقل لبيب؛ والمعنى: قل هي ثابتة للذين آمنوا في الدنيا، خالصة يوم القيامة. قوله تعالى: {كَذٰلِكَ نُفَصّلُ ٱلآيَـٰتِ} أي: هكذا نبينها. ٣٣ قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ٱلْفَوٰحِشَ} قرأ حمزة: {رَبّيَ ٱلْفَوٰحِشَ} باسكان الياء. ما ظهر منها وما بطن. فيه ستة اقوال. احدها: أن المراد بها: الزنا ما ظهر منه: علانيته، وما بطن: سره، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والثاني: أن ما ظهر: نكاح الأمهات، وما بطن: الزنا، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال علي بن الحسين. والثالث: أن ما ظهر: نكاح الأبناء نساء الآباء، والجمع بين الأختين، وأن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، وما بطن: الزنا، روي عن ابن عباس أيضا. والرابع: أن ما ظهر: الزنا، وما بطن: العزل، قاله شريح. والخامس: أن ما ظهر: طواف الجاهلية عراة، وما بطن: الزنا، قاله مجاهد. والسادس: أنه عام في جميع المعاصي. ثم في {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قولان. احدهما: أن الظاهر: العلانية، والباطن: السر، قاله أبو سليمان الدمشقي. والثاني: أن ما ظهر: أفعال الجوارح، والباطن: اعتقاد القلوب، قاله الماوردي. وفي الإثم ثلاثة أقوال. احدها: أنه الذنب الذي لا يوجب الحد، قاله ابن عباس، والضحاك، والفراء. والثاني: المعاصي كلها، قاله مجاهد. والثالث: أنه الخمر، قاله الحسن، وعطاء. قال ابن الانباري: انشدنا رجل في مجلس ثعلب بحضرته، وزعم أن أبا عبيدة أنشده: نشرب الإثم بالصواع جهارا ونرى المتك بيننا مستعارا فقال أبو العباس: لا أعرفه، ولا أعرف الإثم: الخمر، في كلام العرب. وانشدنا رجل آخر: شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول قال أبو بكر: وما هذا البيت معروفا أيضا في شعر من يحتج بشعره، وما رأيت أحدا من أصحاب الغريب أدخل الإثم في أسماء الخمر، ولا سمتها العرب بذلك في جاهلية ولا إسلام. فان قيل: إن الخمر تدخل تحت الإثم،فصواب، لا لأنه اسم لها. فان قيل: كيف فصل الإثم عن الفواحش، وفي كل الفواحش إثم؟ فالجواب: أن كل فاحشة إثم، وليس كل إثم فاحشة، فكان لإثم: كل فعل مذموم؛ والفاحشة: العظيمة. فأما البغي: فقال الفراء: هو الاستطالة على الناس. قوله تعالى: {وَأَن تُشْرِكُواْ} قال الزجاج: موضع {ءانٍ} نصب؛ فالمعنى: حرم الفواحش، وحرم الشرك، والسلطان: الحجة. قوله تعالى: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللّه مَالاَ تَعْلَمُونَ} عام في تحريم القول في الدين من غير يقين. ٣٤ قوله تعالى: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} سبب نزولها: أنهم سألوا النبي صلى اللّه عليه وسلم العذاب، فأنزلت، قاله مقاتل. وفي الأجل قولان. احدهما: أنه أجل العذاب. والثاني: أجل الحياة. قال الزجاج: الأجل: الوقت المؤقت. {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} المعنى: ولا أقل من ساعة. وإنما ذكر الساعة، لأنها أقل أسماء الأوقات. ٣٥ انظر تفسير الآية:٣٧ ٣٦ انظر تفسير الآية:٣٧ ٣٧ قوله تعالى: {يَسْتَقْدِمُونَ يَـٰبَنِى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ} قال الزجاج: أضمر: {فأطيعوهم}. وقد سبق معنى {ٱلسّجْنِ أَمَّا} في سورة {البقرة} والباقي ظاهر إلى قوله: {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ} ففي معناه سبعة اقوال. احدها: ما قدر لهم من خير وشر، رواه مجاهد عن ابن عباس. والثاني: نصيبهم من الأعمال، فيجزون عليها، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: ما كتب عليهم من الضلالة والهدى، قاله الحسن. وقال مجاهد، وابن جبير، من السعادة والشقاوة. والرابع: ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار والاعمال، قاله الربيع، والقرظي، وابن زيد. والخامس: ما كتب لهم من العذاب، قاله عكرمة، وأبو صالح، والسدي. والسادس: ما أخبر اللّه تعالى في الكتب كلها: أنه من افترى على اللّه كذباً، اسود وجهه، قاله مقاتل. والسابع: ما أخبر في الكتاب من جزائهم، نحو قوله: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّىٰ} قاله الزجاج، فاذن في الكتاب خمسة أقوال. احدها: أنه اللوح الحفوظ. والثاني: كتب اللّه كلها. والثالث: القرآن. والرابع: كتاب أعمالهم. والخامس: القضاء. قوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا} فيهم ثلاثة أقوال. احدها: أنهم أعوان ملك الموت، قاله النخعي. والثاني: ملك الموت وحده، قاله مقاتل. والثالث: ملائكة العذاب يوم القيامة. وفي قوله {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} ثلاثة أقوال. احدها: يتوفونهم بالموت، قاله الأكثرون. والثاني: يتوفونهم بالحشر إلى النار يوم القيامة، قاله الحسن. والثالث: يتوفونهم عذاباً، كما تقول قتلت فلانا بالعذاب، وإن لم يمت، قاله الزجاج. قوله تعالى: {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ} أي: تعبدون {مِن دُونِ ٱللّه}، وهذا سؤال تبكيت وتقريع. قال مقاتل: المعنى: فليمنعوكم من النار. قال الزجاج: ومعنى: {ضَـلُّواْ عَنَّا}: بطلوا وذهبوا، فيعترفون عند موتهم أنهم كانوا كافرين. وقال غيره: ذلك الاعتراف يكون يوم القيامة. ٣٨ قوله تعالى: {قَالَ ٱدْخُلُواْ} إن اللّه تعالى يقول لهم ذلك بواسطة الملائكة، لأن اللّه تعالى لا يكلم الكفار يوم القيامة. قال ابن قتيبة: {وَفِي} بمعنى {مَعَ}. وفي قوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ} قولان. احدهما: مضت إلى العذاب. والثاني: مضت في الزمان، يعني: كفار الأمم الماضية. قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} وهذه أخوة الدين والملة، لا أخوة النسب. قال ابن عباس: يلعنون من كان قبلهم. قال مقاتل: كلما دخل أهل ملة، لعنوا أهل ملتهم، فيلعن اليهودُ اليهودَ، والنصارى النصارى، والمشركون المشركين، والأتباعَ القادةَ، ويقولون: أنتم ألقيتمونا هذا الملقى حين أطعناكم. وقال الزجاج: إنما تلاعنوا، لأن بعضهم ضل باتباع بعض. قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ٱدَّارَكُواْ} قال ابن قتيبة: أي: تداركوا، فأدغمت التاء في الدال، وأدخلت الألف ليسلم السكون لما بعدها، يريد: تتابعوا فيها واجتمعوا. قوله تعالى: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاْولَـٰهُمْ} فيه ثلاثة أقوال. احدها: آخر أمة لأول أمة، قاله ابن عباس. والثاني: آخر أهل الزمان لأوليهم الذين شرعوا له ذلك الدين، قاله السدي. والثالث: آخرهم دخولا إلى النار، وهم الأتباع، لأولهم دخولا، وهم القادة، قاله مقاتل. قوله تعالى: {هَـؤُلاء أَضَلُّونَا} قال ابن عباس: شرعوا لنا أن نتخذ من دونك إلها. قوله تعالى: {قَالَ ٱدْخُلُواْ فِى} قال الزجاج: أي: عذابا مضاعفا. قوله تعالى: {قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ} أي عذاب مضاعف ولكن لا تعلمون. قرأ أبو بكر، والمفضل عن عاصم: {يَعْلَمُونَ} بالياء. قال الزجاج: والمعنى: لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر. وقرأ الباقون: {تَعْلَمُونَ} بالتاء، وفيها وجهان ذكرهما الزجاج. احدهما: لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل فريق من العذاب. والثاني: لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ذلك، وقيل: إنما طلب الأتباع مضاعفة عذاب القادة، ليكون أحد العذابين على الكفر، والثاني على إغرائهم به، فأجيبوا: {لِكُلّ ضِعْفٌ} أي: كما كان للقادة ذلك، فلكم عذاب بالكفر، وعذاب بالاتباع. قوله: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} فيه قولان. احدهما: في الكفر، نحن وأنتم فيه سواء، قاله ابن عباس. والثاني: في تخفيف العذاب، قاله مجاهد. ٣٩ قوله تعالى: {بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} قال مقاتل: من الشرك والتكذيب. ٤٠ قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا} أي: بحججنا وأعلامنا التي تدل على توحيد اللّه ونبوة الأنبياء، وتكبروا عن الإيمان بها {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوٰبُ ٱلسَّمَاء} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر: {تُفَتَّحُ}؛ بالتاء، وشددوا التاء الثانية. وقرأ أبو عمرو {لاَ تُفَتَّحُ} بالتاء خفيفة، ساكنة الفاء. وقرأ حمزة، والكسائي: {لا يَفْتَحِ} بالياء مضمومة خفيفة. وقرأ اليزيدي عن اختياره: {لاَ تُفَتَّحُ} بتاء مفتوحة {أَبْوٰبَ ٱلسَّمَاء} بنصب الباء، فكأنه أشار إلى أفعالهم. وقرأ الحسن: بياء مفتوحة، مع نصب الأبواب، كأنه يشير إلى اللّه عز وجل. وفي معنى الكلام أربعة أقوال. احدها: لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، رواه الضحاك عن ابن عباس، وهو قول أبي موسى الأشعري، والسدي في آخرين، والأحاديث تشهد به. والثاني: لا تفتح لأعمالهم، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم، رواه عطاء عن ابن عباس. والرابع: لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم، قاله ابن جريج، ومقاتل. وفي السماء قولان. احدهما: أنها السماء المعروفة، وهو المشهور. والثاني: أن لمعنى: لا تفتح لهم أبواب الجنة ولا يدخلونها، لأن الجنة في السماء، ذكره الزجاج. قوله تعالى: {حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِى سَمّ ٱلْخِيَاطِ} الجمل: هو الحيوان المعروف. فإن قال قائل: كيف خص الجمل دون سائر الدواب، وفيها ما هو أعظم منه؟ فعنه جوابان. احدهما: أن ضرب المثل بالجمل يحصل المقصود؛ والمقصود أنهم لا يدخلون الجنة، كما لا يدخل الجمل في ثقب الإبرة، ولو ذكر أكبر منه أو اصغر منه، جاز، والناس يقولون: فلان لا يساوي درهما، وهذا لا يغني عنك فتيلا، وإن كنا نجد أقل من الدرهم والفتيل. والثاني: أن الجمل أكبر شأنا عند العرب من سائر الدواب، فانهم يقدمونه في القوة على غيره، لأنه يوقر بحمله فينهض به دون غيره من الدواب، ولهذا عجبهم من خلق الإبل، فقال: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} فآثر اللّه ذكره على غيره لهذا المعنى.ذكر الجوابين ابن الانباري. قال: وقد روى شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه قرأ: {حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ} بضم الجيم وتشديد الميم، وقال: هو القلس الغليظ. قال المصنف: وهي قراءة أبي رزين، ومجاهد، وابن محيصن، وأبي مجلز، وابن يعمر، وأبان عن عاصم. قال وروى مجاهد عن ابن عباس: {حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ} بضم الجيم وفتح الميم وتخفيفها. قلت: وهي قراءة قتادة، وقد رويت عن سعيد بن جبير، وأنه قرأ: {حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ} بضم الجيم وتسكين الميم. قلت: وهي قراءة عكرمة. قال ابن الانباري: فالجمل يحتمل أمرين: يجوز أن يكون بمعنى الجُمّلُ، ويجوز أن يكون بمعنى جملة من الجمال، قيل في جمعها: جُمَلٌ، كما قال: حُجْرة، وحُجَر، وظُلْمة وظُلَم. وكذلك من قرأ: {ٱلْجَمَلُ} يسوغ له أن يقول: الجُمْلُ، بمعنى الجُمَّل، وأن يقول: الجُمْل جمع جملة، مثل: بُسْرة وبُسْر. وأصحاب هذه القراءات يقولون: الحبل والحبال، أشبه بالإبرة والخيوط من الجمال، وروى عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه قرأ: {ٱلْجَمَلُ} بضم الجيم والميم، وبالتخفيف، وهي قراءة الضحاك، والجحدري. وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء: {ٱلْجَمَلُ} بفتح الجيم، وبسكون الميم خفيفة. قوله تعالى: {فِى سَمّ ٱلْخِيَاطِ} السم: في اللغة: الثقب. وفيها ثلاث لغات. فتح السين، وبها قرأ الأكثرون، وضمها، وبه قرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وقتادة، وابن محيصن، وطلحة بن مصرف، وكسرها، وبه قرأ أبو عمران الجوني، وأبو نهيك، والأصمعي عن نافع. قال ابن القاسم: والخياط: المخيط، بمنزلة اللحاف والملحف، والقرام والمقرم. وقد قرأ ابن مسعود، وأبو رزين، وأبو مجلز: في {سَمّ} وقال الزجاج: الخياط: الإبرة، وسمها: ثقبها. والمعنى: أنهم لا يدخلون الجنة أبدا. قال ابن قتيبة: هذا كما يقال: لا يكون ذلك حتى يشيب الغراب، ويبيض القار. قوله تعالى: {ٱلْخِيَاطِ وَكَذٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُجْرِمِينَ} أي: مثل ذلك نجزي الكافرين أنهم لا يدخلون الجنة. ٤١ انظر تفسير الآية:٤٢ ٤٢ قوله تعالى: {لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} المهاد: الفراش. وفي المراد بالغواشي ثلاثة اقوال. احدها: اللحف، قاله ابن عباس، والقرظي، وابن زيد. والثاني: ما يغشاهم من فوقهم من الدخان، قاله عكرمة. والثالث: غاشية فوق غاشية من النار، قاله الزجاج. قال ابن عباس: والظالمون: هاهنا الكافرون. ٤٣ قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ} فيمن عني بهذه الآية أربعة أقوال. احدها: أهل بدر. روى الحسن عن علي رضي اللّه عنه أنه قال: فينا واللّه أهل بدر نزلت: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ}. وروى عمرو بن الشريد عن علي أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا، وعثمان، وطلحة، والزبير، من الذين قال اللّه: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ}. والثاني: أنهم أهل الأحقاد من أهل الجاهلية حين أسلموا. روى كثير النواء عن أبي جعفر قال: نزلت هذه الآية في علي، وأبي بكر، وعمر، قلت لأبي جعفر: فأي غل هو؟ قال: غل الجاهلية، كان بين بني هاشم وبني تيم وبني عدي في الجاهلية شيء، فلما أسلم هؤلاء تحابوا، فأخذت أبا بكر الخاصرة، فجعل علي يسخن يده ويكمد بها خاصرة أبي بكر، فنزلت هذه الآية. والثالث: أنهم عشرة من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد اللّه بن مسعود، قاله أبو صالح. والرابع: أنها في صفة أهل الجنة إذا دخلوها. روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، حتى إذا هُذِبوا ونُقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفسي بيده لأحدهم أهدى بمنزلة في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا وقال ابن عباس: أول ما يدخل أهل الجنة الجنة، تعرض لهم عينان فيشربون من إحدى العينين، فيذهب اللّه ما في قلوبهم من غل وغيره مما كان في الدنيا، ثم يدخلون إلى العين الأخرى، فيغتسلون منها فتشرق ألوانهم، وتصفوا وجوههم، وتجري عليهم نضرة النعيم. فأما النزع: فهو قلع الشيء من مكانه. والغل: الحقد الكامن في الصدر. وقال ابن قتيبة: الغل: الحسد والعداوة. قوله تعالى: {ٱلْحَمْدُ للّه ٱلَّذِى هَدَانَا لِهَـٰذَا} قال الزجاج: معناه:هدانا لما صيرنا إلى هذا. قال ابن عباس: يعنون ما وصلوا إليه من رضوان اللّه وكرامته. وروى عاصم بن ضمرة عن علي كرم اللّه وجهه قال: تستقبلهم الولدان كأنهم لؤلؤ منثور، فيطوفون بهم كاطافتهم بالحميم جاء من الغيبة، ويبشرونهم بما أعد اللّه لهم، ويذهبون إلى أزواجهم فيبشرونهن فيستخفهن الفرح، فيقمن على أسكفة الباب، فيقلن: أنت رأيته، أنت رأيته؟ قال: فيجيء إلى منزله فينظر في أساسه، فاذا صخر من لؤلؤ، ثم يرفع بصره، فلولا أن اللّه ذللّه لذهب بصره، ثم ينظر اسفل من ذلك، فاذا هو بالسرر الموضونة، والفرش المرفوعة، والزرابي المبثوثة، فعند ذلك قالوا: {ٱلْحَمْدُ للّه ٱلَّذِى هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا ٱللّه} كلهم قرأ {وَمَا كُنَّا} باثبات الواو، غير ابن عامر، فانه قرأ: {مَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ} بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. قال أبو علي: وجه الاستغناء عن الواو، أن القصة ملتبسة بما قبلها، فأغنى التباسها به عن حرف العطف، ومثله: {رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ}. قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِٱلْحَقّ} هذا قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا. {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةِ} قال الزجاج: إنما قال {تِلْكُمُ} لأنهم وعدوا بها في الدنيا، فكأنه قيل لهم: هذه تلكم التي وعدتم بها. وجائز أن يكون هذا قيل لهم حين عاينوها قبل دخولهم إليها. قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر: {أُورِثْتُمُوهَا} غير مدغمة. وقرأ ابو عمرو، وحمزة، والكسائي: {أورتموها} مدغمة، وكذلك قرؤوا في {الزخرف} قال ابو علي: من ترك الادغام، فلتباين مخرج الحرفين، ومن أدغم فلأن التاء والثاء مهموستان متقاربتان، وفي معنى {ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا} أربعة أقوال. احدها: ما روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: {مَّا مِن أَحَدٌ إِلاَّ وَلَهُ مُنَزَّلٌ فِى ٱلْجَنَّةِ} ومنزل في النار، فأما الكافرُ فانه يرث المؤمنَ منزله من النار، والمؤمنُ يرثُ الكافرَ منزلَه من الجنة فذلك قوله: {أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقال بعضهم لما سمي الكفار أمواتا بقوله: {أَمْوٰتٌ غَيْرُ أَحْيَاء}. وسمى المؤمنين أحياء بقوله: {لّتُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً} أورث الأحياء الموتى. والثاني: أنهم أورثوها عن الأعمال،لأنها جعلت جزاء لأعمالهم، وثوابا عليها، إذ هي عواقبها، حكاه أبو سليمان الدمشقي. والثالث: أن دخول الجنة برحمة اللّه، واقتسام الدرجات بالأعمال، فلما كان يفسّر نيلها لا عن عوض، سميت ميراثا. والميراث: ما أخذته عن غير عوض. والرابع: أن معنى الميراث هاهنا: أن أمرهم يؤول إليها كما يؤول الميراث إلى الوارث. ٤٤ انظر تفسير الآية:٤٥ ٤٦ قوله تعالى: {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا} أي: من العذاب؟ وهذا سؤال تقرير وتعيير. قالوا: نعم. قرأ الجمهور بفتح العين في سائر القرآن، وكان الكسائي يكسرها. قال الأخفش: هما لغتان. قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذّنٌ بَيْنَهُمْ} أي نادى مناد. {أَن لَّعْنَةُ ٱللّه} قرأ ابن كثير في رواية قنبل، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم: {أَن لَّعْنَةُ ٱللّه} خفيفة النون ساكنة. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: {ءانٍ} بالتشديد {لَّعْنَةُ ٱللّه} بالنصب. قال الأخفش: {وَأَنْ} في قوله: {أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ} وقوله: {أَن لَّعْنَةُ ٱللّه} وقوله: {أَنِ ٱلْحَمْدُ للّه} و {أَن قَدْ وَجَدْنَا} هي أن الثقيلة خففت. قال الشاعر: في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل أنشد أيضا: أكاشرة وأعلم أن كلانا على ما ساء صاحبه حريص معناه: أنه كلانا؛ وتكون {أَن قَدْ وَجَدْنَا} في معنى: أي. قال ابن عباس: والظالمون هاهنا: الكافرون. قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللّه} أي: أذن المؤذن ان لعنة اللّه على الذين كفروا وصدوا عن سبيل اللّه، وهو الإسلام. {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} مفسر في {ءالَ عِمْرَانَ}. {وَهُم بِٱلاْخِرَةِ} أي: وهم بكون الآخرة كافرون. ٤٦ قوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} أي: بين الجنة والنار حاجز، وهو السور الذي ذكره اللّه تعالى في قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ} فسمي هذا السور بالأعراف لارتفاعه. قال ابن عباس: الأعراف: هو السور الذي بين الجنة والنار، له عرف كعرف الديك. وقال أبو هريرة: الأعراف: جبال بين الجنة والنار، فهم على أعرافها، يعني: على ذراها خلقتها كخلقة عرف الديك. قال اللغويون: الأعراف عند العرب: كل ما ارتفع من الأرض وعلا؛ يقال لكل عال: عُرف، وجمعه: أعراف. قال الشاعر: كل كناز لحمه نياف كالعلم الموفي على الأعراف وقال الآخر: ورثت بناء آباء كرام علوا بالمجد أعراف البناء وفي أصحاب الأعراف قولان. احدهما: أنهم من بني آدم، قاله الجمهور. وزعم مقاتل: أنهم من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم خاصة. وفي أعمالهم تسعة أقوال. احدها: أنهم قوم قتلوا في سبيل اللّه بمعصية آبائهم، فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم، ومنعهم من دخول النار قتلهم في سبيل اللّه، وهذا مروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. والثاني: أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تبلغ حسناتهم دخول الجنة، ولا سيئاتهم دخول النار، قاله ابن مسعود، وحذيفة، وابن عباس، وأبو هريرة، والشعبي، وقتادة. والثالث: أنهم أولاد الزنا، رواه صالح مولى التوأمة عن ابن عباس. والرابع: أنهم قوم صالحون فقهاء علماء، قاله الحسن، ومجاهد. فعلى هذا، يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة. والخامس: أنهم قوم رضي عنهم آباؤهم دون أمهاتهم، أو أمهاتهم دون أبائهم، رواه عبد الوهاب بن مجاهد عن إبراهيم. والسادس: أنهم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم، قاله عبد العزيز بن يحيى. والسابع: أنهم أنبياء، حكاه ابن الانباري. والثامن: أنهم أولاد المشركين، ذكره المنجوفي في تفسيرة. والتاسع: أنهم قوم عملوا للّه، لكنهم راؤوا في عملهم، ذكره بعض العلماء. والقول الثاني: أنهم ملائكة، قاله أبو مجلز، واعترض عليه، فقيل: إنهم رجال فكيف تقول: ملائكة؟ فقال: إنهم ذكور وليسوا باناث. وقيل معنى قوله: {وَعَلَى ٱلاْعْرَافِ رِجَالٌ} أي: على معرفة أهل الجنة من أهل النار، ذكره الزجاج، وابن الانباري. وفيه بعد وخلاف للمفسرين. قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَـٰهُمْ} أي: يعرف أصحاب الأعراف أهل الجنة وأهل النار، وسيما أهل الجنة: بياض الوجوه، وسيما أهل النار: سواد الوجوه، وزرقة العيون. والسيما: العلامة. وإنما عرفوا الناس، لأنهم على مكان عال يشرفون فيه على أهل الجنة والنار. {وَنَادَوْاْ} يعني: أصحاب الأعراف {أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمْ} وفي قوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} قولان. احدهما: أنه إخبار من اللّه تعالى لنا أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها، قاله الجمهور. والثاني: أنه إخبار من اللّه تعالى لأهل الأعراف إذا رأوا زمرة يذهب بها إلى الجنة أن هؤلاء لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها، هذا قول السدي. ٤٧ قوله تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَـٰرُهُمْ} يعني: أصحاب الأعراف. والتلقاء: جهة اللقاء، وهي جهة المقابلة. وقال أبو عبيدة: تلقاء أصحاب النار أي: حيالهم. ٤٨ قوله تعالى: {وَنَادَىٰ أَصْحَـٰبُ ٱلاْعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَـٰهُمْ} روى ابو صالح عن ابن عباس قال: ينادون: يا وليد بن المغيرة، يا أبا جهل بن هشام، يا عاص بن وائل، يا أمية بن خلف، يا أبي بن خلف، يا سائر رؤساء الكفار ما أغنى عنكم جمعكم في الدنيا المال والولد. {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} أي: تتعظمون عن الإيمان. ٤٩ قوله تعالى: {أَهَـٰؤُلاء ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ ٱللّه بِرَحْمَةٍ} فيه قولان. احدهما: أن أهل النار أقسموا أن أهل الأعراف داخلون النار معنا، وأن اللّه لن يدخلهم الجنة، فيقول اللّه لأهل النار: {أَهَـٰؤُلاء} يعني: أهل الأعراف {ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ ٱللّه بِرَحْمَةٍ ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ} رواه وهب بن منبه عن ابن عباس. قال حذيفة: بينا أصحاب الأعراف هنالك، اطلع عليهم ربهم فقال لهم: {ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ فَإِنّي قَدْ ٱللّه لَكُمْ}. والثاني: أن أهل الأعراف يرون في الجنة الفقراء والمساكين الذين كان الكفار يستهزؤون بهم، كسلمان، وصهيب، وخباب، فينادون الكفار: {أَهَـٰؤُلاء ٱلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ} وأنتم في الدنيا {لاَ يَنَالُهُمُ ٱللّه بِرَحْمَةٍ} قاله ابن السائب. فعلى هذا، ينقطع كلام أهل الأعراف عند قوله: {بِرَحْمَةٍ} ويكون الباقي من خطاب اللّه لأهل الجنة. وقد ذكر المفسرون في قوله: {ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ} ثلاثة اقوال. احدها: أن يكون خطابا من اللّه لأهل الأعراف، وقد ذكرناه. والثاني: أن يكون خطابا من اللّه لأهل الجنة. والثالث: أن يكون خطابا من أهل الأعراف لأهل الجنة، ذكرهما الزجاج. فعلى هذا الوجه الأخير، يكون معنى قول أهل الأعراف لأهل الجنة {ٱدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ}: اعلوا إلى القصور المشرفة، وارتفعوا إلى المنازل المنيفة، لأنهم قد رأوهم في الجنة. وروى مجاهد عن عبد اللّه بن الحارث قال: يؤتى بأصحاب الأعراف إلى نهر يقال له: الحياة، عليه قضبان الذهب مكللة باللؤلؤ، فيغمسون فيه، فيخرجون، فتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، ويقال لهم: تمنوا ما شئتم، ولكم سبعون ضعفا، فهم مساكين أهل الجنة. ٥٠ قوله تعالى: {وَنَادَىٰ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ أَصْحَـٰبَ ٱلْجَنَّةِ} قال ابن عباس: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة، طمع أهل النار في الفرج بعد اليأس، فقالوا: يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة، فائذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فنظروا إليهم وإلى ما هم فيه من النعيم فعرفوهم. ونظر أهل الجنة إلى قرابتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم، قد اسودت وجوههم وصاروا خلقا آخر، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم، وأخبروهم بقراباتهم، فينادي الرجل أخاه: يا أخي قد احترقت فأغثني؛ فيقول: {إِنَّ ٱللّه حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ} قال السدي: عني بقوله: {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللّه}: الطعام. قال الزجاج: أعلم اللّه عز وجل أن ابن آدم غير مستغن عن الطعام والشراب، وإن كان معذبا. ٥١ قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} قال ابن عباس: هم المستهزئون. والمعنى: أنهم تلاعبوا بدينهم الذي شرع لهم. وقال أبو روق: دينهم: عيدهم. وقال قتادة: {لَهْوًا وَلَعِبًا} أي: أكلا وشربا. وقال غيره: هو ما زينه الشيطان لهم من تحريم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، والمكاء، والتصدية، ونحو ذلك من خصال الجاهلية. قوله تعالى: {فَٱلْيَوْمَ نَنسَـٰهُمْ} قال الزجاج: أي: نتركهم في العذاب كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا. و{مَا} نسق على {كَمَا} في موضع جر. والمعنى: وكجحدهم. قال ابن الانباري: ويجوز أن يكون المعنى: فاليوم نتركهم في النار على علم منا ترك ناس غافل كما استعملوا في الإعراض عن آياتنا وهم ذاكرون ما يستعمله من نسي وغفل. ٥٢ قوله تعالى: ولقد {جِئْنَـٰهُمْ بِكِتَـٰبٍ} يعني: القرآن. {فَصَّلْنَاهُ} أي: بيناه بايضاح الحق من الباطل. وقيل: فصلناه فصولا: مرة بتعريف الحلال، ومرة بتعريف الحرام، ومرة بالوعد، ومرة بالوعيد، ومرة بحديث الأمم. وفي قوله: {عَلَىٰ عِلْمٍ} قولان. احدهما: على علم منا بما فصلناه. والثاني: على علم منا بما يصلحكم مما أنزلناه فيه. وقرأ ابن السميفع، وابن محيصن، وعاصم، والجحدري، ومعاذ القارىء: {فضلناه} بضاد معجمة. ٥٣ قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} قال ابن عباس: تصديق ما وعدوا في القرآن {يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ} وهو يوم القيامة {يَقُولُ ٱلَّذِينَ نَسُوهُ} أي: تركوه {مِن قَبْلُ} في الدنيا {قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بِٱلْحَقّ} أي: بالبعث بعد الموت. قوله تعالى: {أَوْ نُرَدُّ} قال الزجاج: المعنى: أو هل نرد. وقوله: {فَنَعْمَلَ} منصوب على جواب الفاء للاستفهام.
٥٤ قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللّه ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} اختلفوا أي يوم بدأ بالخلق على ثلاثة أقوال. احدها: أنه يوم السبت. روى مسلم في (صحيحه) من حديث أبي هريرة قال: أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيدي، فقال: خلق اللّه عز وجل التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الاربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر [من] يوم الجمعة [في] آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل. وهذا اختيار محمد بن إسحاق. قال ابن الانباري: وهذا إجماع أهل العلم. والثاني: يوم الأحد، قاله عبد اللّه بن سلام، وكعب، والضحاك، ومجاهد، واختاره ابن جرير الطبري، وبه يقول أهل التوراة. والثالث: يوم الاثنين، قاله ابن إسحاق، وبهذا يقول أهل الإنجيل. ومعنى قوله: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي: في مقدار ذلك، لأن اليوم يعرف بطلوع الشمس وغروبها، ولم تكن الشمس حينئذ. قال ابن عباس: مقدار كل يوم من تلك الأيام ألف سنة، وبه قال كعب، ومجاهد، والضحاك، ولا نعلم خلافا في ذلك. ولو قال قائل: إنها كأيام الدنيا، كان قوله بعيدا من وجهين. احدهما: خلاف الآثار. والثاني: أن الذي يتوهمه المتوهم من الإبطاء في ستة آلاف سنة، يتوهمه في ستة أيام عند تصفح قوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}. فان قيل: فهلا خلقها في لحظة، فانه قادر؟ فعنه خمسة أجوبة. احدها: أنه أراد أن يوقع في كل يوم أمرا تستعظمه الملائكة ومن يشاهده، ذكره ابن الانباري. والثاني: أن التثبت في تمهيد ما خلق لآدم وذريته قبل وجوده، أبلغ في تعظيمه عند الملائكة. والثالث: أن التعجيل أبلغ في القدرة، والتثبيت أبلغ في الحكمة، فأراد إظهار حكمته في ذلك، كما يظهر قدرته في قوله: {كُنْ فَيَكُونُ}. والرابع: نه علم عباده التثبت، فاذا تثبت من لا يزل، كان ذو الزلل أول بالتثبت. والخامس: أن ذلك الإمهال في خلق شيء بعد شيء، ابعد من أن يظن أن ذلك وقع بالطبع أو بالاتفاق. قوله تعالى: {ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ} قال الخليل بن احمد: العرش: السرير: وكل سرير لملك يسمى عرشا، وقلما يجمع العرش إلا في اضطرار، واعلم أن ذكر العرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام. قال أمية بن أبي الصلت: مجدوا اللّه فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبناء الأعلى الذي سبق النا س وسوى فوق السماء سريرا شرجعا لا يناله ناظر العي ن ترى دونه الملائك صورا وقال كعب: إن السموات في العرش: كالقنديل معلق بين السماء والأرض. وروى إسماعيل بن أبي خالد عن سعد الطائي قال: العرش ياقوتة حمراء. وإجماع السلف منعقد على أن لا يزيدوا على قراءة الآية. وقد شذ قوم فقالوا: العرش بمعنى الملك. وهذا عدول عن الحقيقة الى التجوز، مع مخالفة الأثر؛ ألم يسمعوا قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَاء} أتراه كان الملك على الماء؟ وكيف يكون الملك ياقوتة حمراء؟ وبعضهم يقول: استوى بمعنى استولى؛ ويحتج بقول الشاعر: حتى استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق يقول الشاعر أيضا: هما استويا بفضلهما جميعا على عرش الملوك بغير زور وهذا منكر عند اللغويين. قال ابن الاعرابي: العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى، ومن قال ذلك فقد أعظم. قالوا: وإنما يقال استولى فلان على كذا، إذا كان بعيدا عنه غير متمكن منه، ثم تمكن منه؛ واللّه عز وجل لم يزل مستوليا على الأشياء؛ والبيتان لا يعرف قائلهما، كذا قال ابن فارس اللغوي. ولو صحا، فلا حجة فيهما لما بينا من استيلاء من لم يكن مستوليا. نعوذ باللّه من تعطيل الملحدة وتشبيه المجسمة. قوله تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِى مَدَّ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: {يُغْشِى} ساكنة الغين خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {يُغْشِى} مفتوحة الغين مشددة؛ وكذلك قرؤوا في {ٱلرَّعْدُ} قال الزجاج: المعنى: أن الليل يأتي على النهار فيغطيه؛ وإنما لم يقل: ويغشي النهار الليل، لأن في الكلام دليلا عليه؛ وقد قال في موضع آخر: {يُكَوّرُ ٱلَّيْـلَ عَلَى ٱلنَّهَـارِ وَيُكَوّرُ ٱلنَّـهَارَ عَلَى ٱلَّيْلِ}. وقال أبو علي: إنما لم يقل: يغشي النهار الليل، لأنه معلوم من فحوى الكلام، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ} وانتصب الليل والنهار، لأن كل واحد منهما مفعول به، فأما الحثيث: فهو السريع. قوله تعالى: {وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرٰتٍ} قرأ الأكثرون: بالنصب فيهن، وهو على معنى: خلق السموات والشمس. وقرأ ابن عامر: {وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرٰتٍ} بالرفع فيهن هاهنا وفي {ٱلنَّحْلِ}، تابعه حفص في قوله تعالى: {وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرٰتٍ} في النحل فحسب. والرفع على الاستئناف. والمسخرات: المذللات لما يراد منهن من طلوع وأفول وسير على حسب إرادة المدبر لهن. قوله تعالى: {أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ} لأنه خلقهم {وَٱلاْمْرُ} فله أن يأمر بما يشاء. وقيل: الأمر: القضاء. قوله تعالى: {تَبَارَكَ ٱللّه} فيه أربعة أقوال. احدها: تفاعل من البركة، رواه الضحاك عن ابن عباس؛ وكذلك قال القتيبي، والزجاج. وقال أبو مالك: افتعل من البركة. وقال الحسن: تجيء البركة من قبله. وقال الفراء: تبارك من البركة؛ وهو في العربية كقولك: تقدس ربنا. والثاني: أن تبارك بمعنى تعالى، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وكذلك قال أبو العباس: تبارك ارتفع؛ والمتبارك: المرتفع. والثالث: أن المعنى: باسمه يتبرك في كل شيء، قاله ابن الانباري. والرابع: أن معنى تبارك: تقدس، أي: تطهر، ذكره ابن الانباري أيضا. ٥٥ قوله تعالى: {ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} التضرع: التذلل والخضوع، والخفية: خلاف العلانية. قال الحسن: كانوا يجتهدون في الدعاء، ولا تسمع إلا همسا. ومن هذا حديث أبي موسى: {اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَ ولا غائباً} وفي الاعتداء المذكور هاهنا قولان. احدهما: أنه الاعتداء في الدعاء. ثم فيه ثلاثة أقوال. احدها: أن يدعو على المؤمنين بالشر، كالخزي واللعنة، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. والثاني: أن يسأل مالا يستحقه من منازل الانبياء، قاله أبو مجلز. والثالث: أنه الجهر في الدعاء، قاله ابن السائب. والثاني: أنه مجاوزة المأمور به، قاله الزجاج. ٥٦ قوله تعالى: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا} فيه ستة أقوال. احدها: لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان. والثاني: لا تفسدوها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل. والثالث: لا تفسدوها بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة. والرابع: لا تعصوا، فيمسك اللّه المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم بعد أن أصلحها بالمطر والخصب. والخامس: لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه. والسادس: لا تفسدوها بتكذيب الرسل بعد إصلاحها بالوحي. وفي قوله: {وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} قولان. احدهما: خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه. والثاني: خوفا من الرد، وطمعا في الإجابة. قوله تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلاْرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا} قال الفراء: رأيت العرب تؤنث القريبة في النسب، لا يختلفون في ذلك، فاذا قالوا: دارك منا قريب، أو فلانة منا قريب، من القرب والبعد، ذكروا وأنثوا، وذلك أنهم جعلوا القريب خلفا من المكان، كقوله: {وَمَا هِى مِنَ ٱلظَّـٰلِمِينَ بِبَعِيدٍ} وقوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} ولو أُنِث ذلك لكان صوابا. قال عروة: عشية لا عفراء منك قريبة فتدنو ولا عفراء منك بعيد وقال الزجاج: إنما قيل: {قَرِيبٌ} لأن الرحمة والغفران والعفو بمعنى واحد، وكذلك كل تأنيث ليس بحقيقي. وقال الأخفش: جائز أن تكون الرحمة هاهنا في معنى المطر. ٥٧ قوله تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِى يُرْسِلُ ٱلرّيَاحَ} قرأ أبو عمرو، ونافع، وابن عامر، وعاصم: {ٱلرّيَاحِ} على الجمع. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي: {ٱلرّيَـٰحَ} على التوحيد. وقد يأتي لفظ التوحيد، ويراد به الكثرة، كقولهم: كثر الدرهم في أيدي الناس، ومثله: {إِنَّ ٱلإنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ} [١٠٣/٢]. قوله تعالى: {نَشْراً} قرأ أبو عمرو، وابن كثير، ونافع، {نَشْراً} بضم النون والشين، أرادوا جمع نشور، وهي الريح الطيبة الهبوب، تهب من كل ناحية وجانب. قال أبو عبيدة: النُشُر: المتفرقة من كل جانب. وقال أبو علي: يحتمل أن تكون النشور بمعنى المنشر، وبمعنى المنتشر، وبمعنى الناشر؛ يقال: أنشر اللّه الريح، مثل أحياها، فنشرت، أي: حييت. والدليل على أن إنشار الربح إحياؤها قول الفقعسي: وهبت له ريح الجنوب وأحييت له ريدة يحيي المياه نسيمها ويدل على ذلك أن الريح قد وصفت بالموت. قال الشاعر: إني لأرجو أن تموت الريح فأقعد اليوم وأستريح والريدة والريدانة: الريح. وقرأ ابن عامر، وعبد الوارث، والحسن البصري: {نَشْراً} بالنون مضمومة وسكون الشين، وهي في معنى {نَشْراً} يقال: كُتُبْ وكُتْب، ورُسُل ورُسْل. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، والمفضل عن عاصم: {نَشْراً} بفتح النون وسكون الشين. قال الفراء: النشر: الريح الطيبة اللينة التي تنشىء السحاب. وقال ابن الانباري: النشر: المنتشرة الواسعة الهبوب. وقال أبو علي: يحتمل النَّشر أن يكون خلاف الطي، كأنها كانت بانقطاعها كالمطوية. ويحتمل أن يكون معناها ما قاله أبو عبيدة في النشر: أنها المتفرقة في الوجوه، ويحتمل أن يكون معناها: النشر الذي هو الحياة، كقول الشاعر: حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر قال:وهذا هو الوجه. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وإبراهيم النخعي، ومسروق، ومورق العجلي: {نَشْراً} بفتح النون والشين. قال ابن القاسم: وفي النشر وجهان. احدهما: أن يكون جمعا للنشور، كما قالوا: عمود وعمد، وإهاب وأهب. والثاني: أن يكون جمعا واحده ناشر، يجري مجرى قوله: غائب وغيب، وحافد وحفد، وكل القراء نون الكلمة. وكذلك اختلافهم في {ٱلْفُرْقَانَ} و{ٱلنَّمْلِ}. هذه قراءات من قرأ بالنون. وقد قرأ آخرون بالباء، فقرأ عاصم إلا المفضل: {بُشْرىً} بالباء المضمومة وسكون الشين مثل فعلى: قال ابن الانباري: وهي جمع بشيرة، وهي التي تبشر بالمطر، والأصل ضم الشين، إلا أنهم استثقلوا الضمتين. وقرأ ابن خثيم، وابن جذلم: مثله إلا أنهما نونا الراء. وقرأ ابو الجوزاء، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: بضم الباء والشين، وهذا على أنها جمع بشيرة. والرحمة هاهنا: المطر؛ سماه رحمة لأنه كان بالرحمة. و{أَقَلَّتْ} بمعنى: حملت. قال الزجاج: جمع سحابة: السحاب. قال ابن فارس: سمي السحاب لانسحابه في الهواء. قوله تعالى: {ثِقَالاً} أي: الماء وقوله تعالى: {سُقْنَـٰهُ} رد الكناية إلى لفظ السحاب، ولفظه لفظ واحد. وفي قوله لبلد قولان. احدهما: إلى بلد. والثاني: لإحياء بلد. والميت: الذي لا ينبت فيه، فهو محتاج إلى المطر. وفي قوله: {فَأَنزَلْنَا بِهِ} ثلاثة أقوال. احدها: أن الكناية ترجع إلى السحاب. والثاني: إلى المطر، ذكرهما الزجاج. والثالث: إلى البلد، ذكره ابن الانباري. فأما هاء {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} فتحتمل الأقوال الثلاثة. قوله تعالى: {كَذٰلِكَ نُخْرِجُ ٱلْموْتَىٰ} أي: كما أحيينا هذا البلد. وقال مجاهد: نحيي الموتى بالمطر كما أحيينا البلد الميت به. قال ابن عباس: يرسل اللّه تعالى بين النفختين مطرا كمني الرجال، فينبت الناس به في قبورهم كما نبتوا في بطون أمهاتهم. قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قال الزجاج: لعل: ترج. وإنما خوطب العباد على ما يرجوه بعضهم من بعض؛ والمعنى: لعلكم بما بيناه لكم تستدلون على توحيد اللّه، وأنه يبعث الموتى. ٥٨ قوله تعالى: {وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيّبُ} يعني: الأرض الطيبة التربة {يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} وقرأ ابن أبي عبلة: {يَخْرُجُ} بضم الياء وكسر الراء، {نَبَاتُهُ} بنصب التاء، {وَٱلَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ} كذلك أيضا. وقد روى ابان عن عاصم: {لاَ يَخْرُجُ} بضم الياء وكسر الراء. والمراد بالذي خبث: الأرض السبخة. قوله تعالى: {إِلاَّ نَكِدًا} قرأ الجمهور: بفتح النون وكسر الكاف. وقرأ أبو جعفر: {نَكِدًا} بفتح الكاف. وقرأ مجاهد، وقتادة، وابن محيصن: {نَكِدًا} باسكان الكاف. قال أبو عبيدة: قليلا عسيرا في شدة، وأنشد: لا تنجز الوعد إن وعدت وإن أعطيت أعطيت تافها نكدا قال المفسرون: هذا مثل ضربه اللّه تعالى للمؤمن والكافر؛ فالمؤمن إذا سمع القرآن وعقله انتفع به وبان أثره عليه، فشبه بالبلد الطيب الذي يمرع ويخصب ويحسن أثر المطر عليه؛ وعكسه الكافر. ٥٩ انظر تفسير الآية:٦٢ ٦٠ انظر تفسير الآية:٦٢ ٦١ انظر تفسير الآية:٦٢ ٦٢ قوله تعالى: {ٱعْبُدُواْ ٱللّه} قال مقاتل: وحدوه؛ وكذلك في سائر القصص بعدها. قوله تعالى: {مَالَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ} قرأ الكسائي: {غَيْرُهُ} بالخفض. قال أبو علي: جعل غيراً صفة ل {إِلَـٰهَ} على اللفظ. قوله تعالى: {أُبَلّغُكُمْ} قرأ أبو عمرو: {أُبَلّغُكُمْ} ساكنة الباء خفيفة اللام. وقرأ الباقون: {أُبَلّغُكُمْ} مفتوحة الباء، مشددة اللام. قوله تعالى: {وَأَنصَحُ لَكُمْ} يقال: نصحته، ونصحت له، وشكرته وشكرت له. قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللّه مَالاَ تَعْلَمُونَ} أي: من مغفرته لمن تاب، وعقوبته لمن أصر. وقال مقاتل: أعلم من نزول العذاب مالا تعلمونه؛ وذلك أن قوم نوح لم يسمعوا بقوم عذبوا قبلهم. ٦٣ انظر تفسير الآية:٦٤ ٦٤ قوله تعالى: {أَوَ عَجِبْتُمْ} قال الزجاج: هذه واو العطف، دخلت عليها ألف الاستفهام، فبقيت مفتوحة. وفي الذكر قولان. احدهما: الموعظة. والثاني: البيان. وفي قوله: {عَلَىٰ رَجُلٍ مّنكُمْ} قولان. احدهما: أن {عَلَىٰ} بمعنى {مَعَ} قاله الفراء. والثاني: أن المعنى: على لسان رجل منكم، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: {قَوْماً عَمِينَ} قال ابن عباس: عميت قلوبهم عن معرفة اللّه وقدرته وشدة بطشه. ٦٥ انظر تفسير الآية:٧٠ ٦٦ انظر تفسير الآية:٧٠ ٦٧ انظر تفسير الآية:٧٠ ٦٨ انظر تفسير الآية:٧٠ ٦٩ انظر تفسير الآية:٧٠ ٧٠ قوله تعالى: {وَإِلَىٰ عَادٍ} المعنى: وأرسلنا إلى عاد {أَخَاهُمْ هُودًا} قال الزجاج: وإنما قيل: أخوهم، لأنه بشر مثلها من ولد أبيهم آدم. ويجوز أن يكون أخاهم لأنه من قومهم. وقال أبو سليمان الدمشقي: وعاد قبيلة من ولد سام بن نوح؛ وإنما سماه أخاهم، لأنه كان نسيبا لهم، وهو وهم من ولد عاد بن عوص بن إرم بن سام. قوله تعالى: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} قال ابن قتيبة: السفاهة: الجهل. وقال الزجاج: السفاهة: خفة الحلم والرأي؛ يقال: ثوب سفيه: إذا كان خفيفا. {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ ٱلْكَـٰذِبِينَ} فكفروا به، ظانين، لا مستيقنين. {قَالَ يَـاءادَمُ قَوْمٌ لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ} هذا موضع أدب للخلق في حسن المخاطبة، فانه دفع ما سبوه به من السفاهة بنفيه فقط. قوله تعالى: {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} قال الضحاك: أمين على الرسالة. وقال ابن السائب: كنت فيكم أمينا قبل اليوم. قوله تعالى: {وَٱذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء} ذكرهم النعمة حيث أهلك من كان قبلهم، وأسكنهم مساكنهم. {وَزَادَكُمْ فِى ٱلْخَلْقِ بَسْطَةً} أي: طولا وقوة. وقال ابن عباس: كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا قال الزجاج وآلاء اللّه نعمه واحدها: إلى قال الشاعر: أبيض لا يرهب الهزال ولا يقطع رحما ولا خون إلى ويجوز أن يكون واحدها {إلياً} و{فَٱنظُرْ إِلَىٰ}. قوله تعالى: ف{ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} أي: من نزول العذاب {إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} في أن العذاب نازل بنا. وقال عطاء: في نبوتك وإرسالك إلينا. ٧١ انظر تفسير الآية:٧٢ ٧٢ قوله تعالى: {قَالَ قَدْ وَقَعَ} أي: وجب عليكم من ربكم {رِجْسٌ وَغَضَبٌ} قال ابن عباس: عذاب وسخط. وقال أبو عمرو بن العلاء: الرجز؛ بالزاي، والرجس؛ بالسين: بمعنى واحد، قلبت السين زايا. قوله تعالى: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مّن} يعني: الأصنام. وفي تسميتهم لها قولان. احدهما: أنهم سموها آلهة. والثاني: أنهم سموها بأسماء مختلفة. والسلطان: الحجة. {فَٱنتَظِرُواْ} نزول العذاب {إِنّى مَعَكُم مّنَ ٱلْمُنتَظِرِينَ} الذي يأتيكم من العذاب في تكذيبكم إياي. ٧٣ انظر تفسير الآية:٧٤ ٧٤ قوله تعالى: {وَإِلَىٰ ثَمُودَ} قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود: لقلة مائها. قال ابن فارس: الثمد: الماء القليل الذي لا مادة له. قوله تعالى: {هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللّه} في إضافتها إليه قولان. احدهما: أن ذلك للتخصيص والتفضيل، كما يقال: بيت اللّه. والثاني: لأنها كانت بتكوينه من غير سبب. قوله تعالى: {لَكُمْ ءايَةً} أي: علامة تدل على قدرة اللّه؛ وإنما قال: {لَكُمْ} لأنهم هم الذين اقترحوها، وإن كانت آية لهم ولغيرهم. وفي وجه كونها آية قولان. احدهما: أنها خرجت من صخرة ملساء، فتمخضت بها تمخض الحامل، ثم انفلقت عنها على الصفة التي طلبوها. والثاني: أنها كانت تشرب ماء الوادي كله في يوم، وتسقيهم اللبن مكانه. قوله تعالى: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ ٱللّه} قال ابن الانباري: ليس عليكم مؤنتها وعلفها. و{تَأْكُلُ} مجزوم على جواب الشرط المقدر، أي: إن تذروها تأكل. قوله تعالى: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء} أي: لا تصيبوها بعقر. قوله تعالى: {وَبَوَّأَكُمْ فِى ٱلارْضِ} أي: أنزلكم. يقال: تبوأ فلان منزلا: إذا نزله. وبوأته: أنزلته. قال الشاعر: وبوئت في صميم معشرها فتم في قومها مبوؤوها أي: أنزلت من الكريم في صميم النسب؛ قاله الزجاج. قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا} السهل: ضد الحزن. والقصر: ما شيد وعلا من المنازل. قال ابن عباس: اتخذوا القصور في سهول الأرض للصيف، ونقبوا في الجبال للشتاء، قال وهب بن منبه: كان الرجل منهم يبني البنيان،فتمر عليه مائة سنة، فيخرب، ثم يجدده، فتمر عليه مائة سنة، فيخرب، ثم يجدده، فتمر عليه مائة سنة، فيخرب، فأضجرهم ذلك، فأخذوا من الجبال بيوتا. ٧٥ انظر تفسير الآية:٧٦ ٧٦ قوله تعالى: {قَالَ ٱلْمَلاَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ} وقرأ ابن عامر: {وَقَالَ ٱلْمَلاَ} بزيادة واو؛ وكذلك هي في مصاحفهم، ومعنى الآية: تكبروا عن عبادة اللّه، {لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ} يريد: المساكين. {لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ} بدل من قوله {لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ} لأنهم المؤمنون. {أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَـٰلِحاً مُّرْسَلٌ} هذا استفهام إنكار. ٧٧ انظر تفسير الآية:٧٨ ٧٨ قوله تعالى: {فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ} أي: قتلوها. قال ابن قتيبة: والعقر يكون بمعنى: القتل، ومنه قوله عليه السلام عند ذكر الشهداء: {مِنْ}. وقال ابن إسحاق: كمن لها قاتلها في أصل شجرة فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، ثم شد عليها بالسيف فكسر عرقوبها، ثم نحرها. قال الازهري: العقر عند العرب: قطع عرقوب البعير، ثم جعل العقر نحرا، لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره. قوله تعالى: {فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا} قال الزجاج: جاوزوا المقدار في الكفر. قال أبو سليمان: عتوا عن اتباع أمر ربهم. قوله تعالى: {بِمَا تَعِدُنَا} أي: من العذاب. قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ} قال الزجاج: الرجفة: الزلزلة الشديدة. قوله تعالى: {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ} أي: في مدينتهم. فان قيل: كيف وحد الدار هاهنا، وجمعها في موضع آخر، فقال: {فِى دِيَارِهِمْ} فعنه جوابان، ذكرهما ابن الانباري. احدهما: أنه أراد بالدار: المعسكر، أي: فأصبحوا في معسكرهم. وأراد بقوله: في ديارهم: المنازل التي ينفرد كل واحد منها بمنزل. والثاني: أنه أراد بالدار: الديار، فاكتفى بالواحد من الجميع، كقول الشاعر: كلوا في نصف بطنكم تعيشوا وشواهد هذا كثيرة في هذا الكتاب. قوله تعالى: {جَـٰثِمِينَ} قال الفراء: أصبحوا رمادا جاثما. وقال أبو عبيدة: أي: بعضهم على بعض جثوم. والجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل. وقال ابن قتيبة: الجثوم: البروك على الركب. وقال غيره: كأنهم أصبحوا موتى على هذه الحال. وقال الزجاج: أصبحوا أجساما ملقاة في الأرض كالرماد الجاثم. قال المفسرون: معنى {جَـٰثِمِينَ}: بعضهم على بعض، أي: إنهم سقط بعضهم على بعض عند نزول العذاب. ٧٩ انظر تفسير الآية:٨٢ ٨٠ انظر تفسير الآية:٨٢ ٨١ انظر تفسير الآية:٨٢ ٨٢ قوله تعالى: {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ} يقول: انصرف صالح عنهم بعد عقر الناقة، لأن اللّه تعالى أوحى إليه أن أخرج من بين أظهرهم، فاني مهلكهم. وقال قتادة: ذكر لنا أن صالحا أسمع قومه كما أسمع نبيكم قومه، يعني: بعد موتهم. قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ ٱلْفَـٰحِشَةَ} يعني: إتيان الرجال. {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ} قال عمرو بن دينار: ما نزا ذكر على ذكر في الدنيا حتى كان قوم لوط. وقال بعض اللغويين: لوط: مشتق من لطت الحوض: إذا ملسته بالطين. قال الزجاج: وهذا غلط، لأنه اسم أعجمي كاسحاق، ولا يقال: إنه مشتق من السحق وهو البعد. قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرّجَالَ} هذا استفهام إنكار. والمسرف: المجاوز ما أمر به. وقوله تعالى: {أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ} يعني: لوطا وأتباعه المؤمنين {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} قال ابن عباس: يتنزهون عن أدبار الرجال وأدبار النساء. ٨٣ انظر تفسير الآية:٨٤ ٨٤ قوله تعالى: {فَأَنجَيْنَـٰهُ وَأَهْلَهُ} في أهله قولان. احدهما: ابنتاه. والثاني: المؤمنون به. {إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ} أي: الباقين في عذاب اللّه تعالى. قال أبو عبيدة: وإنما قال: {مِنَ ٱلْغَـٰبِرِينَ} لأن صفة النساء مع صفة الرجال تذكر إذا أشرك بينهما. قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا} قال ابن عباس: يعني الحجارة. قال مجاهد: نزل جبريل، فأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط، ورفعها، ثم قلبها، فجعل أعلاها أسفلها، ثم أتبعوا بالحجارة. ٨٥ قوله تعالى: {وَإِلَىٰ مَدْيَنَ} قال قتادة: مدين: ماء كان عليه قوم شعيب، وكذلك قال الزجاج، وقال: لا ينصرف، لأنه اسم البقعة. وقال مقاتل: مدين: هو: ابن ابراهيم الخليل لصلبه. وقال أبو سليمان الدمشقي: مدين: هو ابن مديان بن ابراهيم، والمعنى: أرسلنا إلى ولد مدين، فعلى هذا هو اسم قبيلة. وقال بعضهم: هو اسم للمدينة. فالمعنى: وإلى أهل مدين. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: مدين: أسم أعجمي. فان كان عربيا، فالياء زائدة، من قولهم: مدن بالمكان: إذا أقام به. قوله تعالى: {وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ} قال الزجاج: البخس: النقص والقلة؛ يقال: بخست أبخس بالسين، وبخصت عينه، بالصاد لا غير. {ٱلْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلاْرْضِ} أي: لا تعملوا فيها بالمعاصي بعد أن أصلحها اللّه بالأمر بالعدل، وإرسال الرسل. قوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي: مصدقين بما أخبرتكم عن اللّه. ٨٦ قوله تعالى: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صِرٰطٍ} أي: بكل طريق {تُوعَدُونَ} من آمن بشعيب بالشر، وتخوفونهم بالعذاب والقتل. فان قيل: كيف أفرد الفعل، وأخلاه من المفعول؛ فهلا قال: توعدون بكذا؟ فالجواب: أن العرب إذا أخلت هذا الفعل من المفعول، لم يدل إلا على شر؛ يقولون: أوعدت فلانا. وكذلك إذا أفردوا: وعدت من مفعول، لم يدل إلا على الخير. قال الفراء: يقولون: وعدته خيرا، وأوعدته شرا؛ فاذا أسقطوا الخير والشر، قالوا: وعدته: في الخير، وأوعدته: في الشر؛ فاذا جاؤوا بالباء، قالوا: وعدته والشر. وقال الراجز: اوعدني بالسجن والأداهم قال المصنف: وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: إذا أرادوا أن يذكروا ما تهددوا به مع أوعدت، جاؤوا بالباء، فقالوا: أوعدته بالضرب، ولا يقولون: أوعدته الضرب. قال السدي: كانوا عشّارين. وقال ابن زيد: كانوا يقطعون الطريق. قوله تعالى: {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللّه} أي: تصرفون عن دين اللّه من آمن به. {وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} مفسر في {ءالَ عِمْرَانَ}. قوله تعالى: {وَٱذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} قال الزجاج: جائز أن يكون المعنى: جعلكم أغنياء بعد أن كنتم فقراء؛ وجائز أن يكون: كثر عددكم بعد أن كنتم قليلا، وجائز أن يكونوا غير ذوي مقدرة وأقدار، فكثرهم. ٨٧ انظر تفسير الآية:٨٨ ٨٨ قوله تعالى: {يُؤْمِنُواْ} أي: إن أختلفتم في رسالتي، فصرتم فريقين، مصدقين ومكذبين {فَٱصْبِرُواْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللّه بَيْنَنَا} بتعذيب المكذبين، وإنجاء المصدقين {وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَـٰكِمِينَ} لأنه العدل الذي لا يجور. قوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا} يعنون: ديننا، وهو الشرك. قال الفراء: جعل في قوله: {لَتَعُودُنَّ} لاما كجواب اليمين، وهو في معنى شرط، ومثله في الكلام: واللّه لأضربنك أو تقر لي، فيكون معناه معنى: {إِلا} أو معنى: {حَتَّىٰ}. {قَالَ أُوْحِى لَوْ كُنَّا كَـٰرِهِينَ} أي: أو تجبروننا على ملتكم إن كرهناها؟ٰ والألف للاستفهام. فان قيل: كيف قالوا: {لَتَعُودُنَّ}، وشعيب لم يكن في كفر قط، فيعود إليه؟ فعنه جوابان. احدهما: أنهم لما جمعوا في الخطاب معه من كان كافرا، ثم آمن، خاطبوا شعيبا بخطاب أتباعه، وغلبوا لفظهم على لفظه، لكثرتهم، وانفراده. والثاني: أن المعنى: لتصيرن إلى ملتنا فوقع العود على معنى الابتداء، كما يقال: قد عاد علي من فلان مكروه، أي: قد لحقني منه ذلك؛ وإن لم يكن سبق منه مكروه. قال الشاعر: فان تكن الأيام أحسن مرة إلي فقد عادت لهن ذنوب وقد شرحنا هذا في قوله: {وَإِلَى ٱللّه تُرْجَعُ ٱلامُورُ} في سورة {البقرة} وقد ذكر معنى الجوابين الزجاج، وابن الانباري. ٨٩ انظر تفسير الآية:٩٣ ٩٠ انظر تفسير الآية:٩٣ ٩١ انظر تفسير الآية:٩٣ ٩٢ انظر تفسير الآية:٩٣ ٩٣ قوله تعالى: {قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللّه كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ} وذلك أن القوم كانوا يدعون أن اللّه أمرهم بما هم عليه، فلذلك سموه ملة. {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا} أي: في الملة، {إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللّه} أي: إلا أن يكون قد سبق في علم اللّه ومشيئته أن نعود فيها، {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا} قال ابن عباس: يعلم ما يكون قبل أن يكون. قوله تعالى: {عَلَى ٱللّه تَوَكَّلْنَا} أي: فيما توعدتمونا به، وفي حراستنا عن الضلال. {رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقّ} قال أبو عبيدة: احكم بيننا، وأنشد: ابلغ بني عصم رسولا بأني عن فتاحتكم غني قال الفراء: وأهل عمان يسمون القاضي: الفاتح والفتاح. قال الزجاج: وجائز أن يكون المعنى: أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وينكشف، فجائز أن يكونوا سألوا بهذا نزول العذاب بقومهم ليظهر أن الحق معهم. قوله تعالى: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} فيه أربعة أقوال. احدها: كأن لم يعيشوا في دارهم، قاله ابن عباس، والأخفش. قال حاتم طيىء: غنينا زمانا بالتصعلك والغنى فكلا سقاناه بكأسيهما الدهرفما زادنا بغيا على ذي قرابة غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقرقال الزجاج:معنى غنينا: عشنا. والتصعلك: الفقر، والعرب تقول للفقير: الصعلوك. والثاني: كأن لم يتنعموا فيها، قاله قتادة. والثالث: كأن لم يكونوا فيها، قاله ابن زيد، ومقاتل. والرابع: كأن لم ينزلوا فيها، قاله الزجاج. قال الأصمعي المغاني: المنازل؛ يقال: غنينا بمكان كذا، أي: نزلنا بمكان كذا، أي: نزلنا به. وقال ابن قتيبة: كأن لم يقيموا فيها، ومعنى غنينا بمكان كذا: أقمنا. قال ابن الانباري: وإنما كرر قوله: {ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا} للمبالغة في ذمهم، كما تقول أخوك الذي أخذ أموالنا، أخوك الذي شتم أعراضنا. قوله تعالى: {فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ} فيه قولان. احدهما: أعرض. والثاني: انصرف. {وَقَالَ يأَبَتِ قَوْمٌ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَـٰلَـٰتِ رَبّى} قال قتادة: أسمع شعيب قومه، وأسمع صالح قومه، كما أسمع نبيكم قومه يوم بدر؛ يعني: أنه خاطبهم بعد الهلاك. {فَكَيْفَ ءاسَىٰ} أي: أحزن. وقال ابن اسحاق: أصاب شعيبا على قومه حزن شديد، ثم عاتب نفسه، فقال: كيف آسى على قوم كافرين. ٩٤ قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ} قال الزجاج: يقال لكل مدينة: قرية، لاجتماع الناس فيها. وقال غيره: في الآية اختصار تقديره: فكذبوه. {إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِٱلْبَأْسَاء وَٱلضَّرَّاء} وقد سبق تفسير البأساء والضراء في {ٱلاْنْعَـٰمِ}، وتفسير التضرع في هذه السورة. ومقصود الآية: إعلام النبي صلى اللّه عليه وسلم بسنة اللّه في المكذبين، وتهديد قريش. ٩٥ انظر تفسير الآية:٩٧ ٩٦ انظر تفسير الآية:٩٧ ٩٧ قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ ٱلسَّيّئَةِ ٱلْحَسَنَةَ} فيه قولان. احدهما: أن السيئة: الشدة؛ والحسنة: الرخاء، قاله ابن عباس. والثاني: السيئة: الشر؛ والحسنة: الخير، قاله مجاهد. قوله تعالى: {حَتَّىٰ عَفَواْ} قال ابن عباس: كثروا، وكثرت أموالهم. {وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءابَاءنَا ٱلضَّرَّاء وَٱلسَّرَّاء} فنحن مثلهم، يصيبنا ما أصابهم، يعني: أنهم ارادوا أن هذا دأب الدهر، وليس بعقوبة. {فَأَخَذْنَـٰهُمْ بَغْتَةً} أي: فجأة بنزول العذاب {وَهُمْ} بنزوله، حتى أهلكهم اللّه. قوله تعالى: {وَٱتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـٰتٍ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلاْرْضِ} قال الزجاج: المعنى: أتاهم الغيث من السماء، والنبات من الأرض، وجعل ذلك زاكيا كثيرا. ٩٨ انظر تفسير الآية:٩٩ ٩٩ قوله تعالى: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ ٱلْقُرَى} قرأ ابن كثير، وابن عامر، ونافع: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ} باسكان الواو. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {أَوَ أَمِنَ} بتحريك الواو. وروى ورش عن نافع: {أوامن} يدغم الهمزة، ويلقي حركتها على الساكن. ١٠٠ انظر تفسير الآية:١٠١ ١٠١ قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ} وقرأ يعقوب {نهد} بالنون، وكذلك في {رِكْزاً طه} {والسجدة}. قال الزجاج: من قرأ بالياء، فالمعنى: أو لم يبين اللّه لهم. ومن قرأ بالنون، فالمعنى: أو لم نبين. وقوله تعالى: {بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ} ليس بمحمول على {أَصَبْنَـٰهُمْ}، لأنه لو حمل على {أَصَبْنَـٰهُمْ} لكان: ولطبعنا. وإنما المعنى: ونحن نطبع على قلوبهم. ويجوز أن يكون محمولا على الماضي، ولفظه لفظ المستقبل، كما قال: {أَن لَّوْ نَشَاء}، والمعنى: لو شئنا. وقال ابن الانباري: يجوز أن يكون معطوفا على: أصبنا، إذ كان بمعنى نُصيب؛ فوضع الماضي في موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال، كما قال: {تَبَارَكَ ٱلَّذِى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذٰلِكَ} أي: إن يشأ، يدل عليه قوله: {وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً}، قال الشاعر: إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا مني وما سمعوا من صالح دفنوا أي: يدفنوا. قوله تعالى: {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي: لا يقبلون، ومنه: {سَمِعَ ٱللّه لِمَنْ}، قال الشاعر: دعوت اللّه حتى خفت أن لا يكون اللّه يسمع ما أقول قوله تعالى: {بِٱلْبَيّنَـٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} فيه خمسة أقوال. احدها: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما سبق في علم اللّه أنهم يكذبون به يوم أقروا به بالميثاق حين أخرجهم من صلب آدم، هذا قول أبي بن كعب. والثاني: فما كانوا ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا به يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من صلب آدم، فآمنوا كرها حيث أقروا بالألسن، وأضمروا التكذيب، قاله ابن عباس، والسدي. والثالث: فما كانوا لو رددناهم إلى الدنيا بعد موتهم ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم، هذا قول مجاهد. والرابع: فما كانوا ليؤمنوا بما كذب به أوائلهم من الأمم الخالية، بل شاركوهم في التكذيب، قاله يمان بن رباب. والخامس: فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات والعجائب بما كذبوا قبل رؤيتها. ١٠٢ قوله تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لاِكْثَرِهِم} قال مجاهد: يعني القرون الماضية. {مَّنْ عَـٰهَدَ} قال أبو عبيدة: أي: وفاء. قال ابن عباس: يريد: الوفاء بالعهد الذي عاهدهم حين أخرجهم من صلب آدم. وقال الحسن: العهد هاهنا: ما عهده إليهم مع الأنبياء أن لا يشركوا به شيئا. قوله تعالى: {وَإِن وَجَدْنَا} قال أبو عبيدة: وما وجدنا أكثرهم إلا الفاسقين. ١٠٣ انظر تفسير الآية:١٠٧ ١٠٤ انظر تفسير الآية:١٠٧ ١٠٥ انظر تفسير الآية:١٠٧ ١٠٦ انظر تفسير الآية:١٠٧ ١٠٧ قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم} يعني: الأنبياء المذكورين. قوله تعالى: {فَظَلَمُواْ بِهَا} قال ابن عباس: فكذبوا بها. وقال غيره: فجحدوا بها. قوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى ٱللّه إِلاَّ ٱلْحَقَّ} {عَلَىٰ} بمعنى {الباء} قال الفراء: العرب تجعل الباء في موضع {عَلَىٰ}؛ تقول: رميت بالقوس، وعلى القوس، وجئت بحال حسنة، وعلى حال حسنة. وقال أبو عبيدة: {حَقِيقٌ} بمعنى: حريص. وقرأ نافع، وأبان عن عاصم: {حَقِيقٌ عَلَىَّ} بتشديد الياء وفتحها، على الاضافة. والمعنى: واجب علي. قوله تعالى: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيّنَةٍ} قال ابن عباس: يعني: العصا. {فَأَرْسِلْ مَعِىَ بَنِى إِسْرٰءيلَ} أي: أطلق عنهم؛ وكان قد استخدمهم في الأعمال الشاقة. {فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} قال أبو عبيدة: أي: حية ظاهرة. قال الفراء: الثعبان أعظم الحيات، وهو الذكر. وكذلك روى الضحاك عن ابن عباس: الثعبان: الحية الذكر. ١٠٨ انظر تفسير الآية:١٢٢ ١٠٩ انظر تفسير الآية:١٢٢ ١١٠ انظر تفسير الآية:١٢٢ ١١١ انظر تفسير الآية:١٢٢ ١١٢ انظر تفسير الآية:١٢٢ ١٢٣ انظر تفسير الآية:١٢٢ ١١٤ انظر تفسير الآية:١٢٢ ١١٥ انظر تفسير الآية:١٢٢ ١١٦ انظر تفسير الآية:١٢٢ ١١٧ انظر تفسير الآية:١٢٢ ١١٨ انظر تفسير الآية:١٢٢ ١١٩ انظر تفسير الآية:١٢٢ ١٢٠ انظر تفسير الآية:١٢٢ ١٢١ انظر تفسير الآية:١٢٢ ١٢٢ قوله تعالى: {وَنَزَعَ يَدَهُ} قال ابن عباس: أدخل يده في جيبه، ثم أخرجها، فاذا هي تبرق مثل البرق، لها شعاع غلب نور الشمس، فخروا على وجوههم؛ ثم أدخلها جيبه فصارت كما كانت. قال مجاهد: بيضاء من غير برص. قوله تعالى: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} قال ابن عباس: ما الذي تشيرون به علي؟ وهذا يدل على أنه من قول فرعون، وأن كلام الملأ انقطع عند قوله: {مّنْ أَرْضِكُمْ}. قال الزجاج: يجوز أن يكون من قول الملأ، كأنهم خاطبوا فرعون ومن يخصه، أو خاطبوه وحده، لأنه قد يقال للرئيس المطاع: ماذا ترون؟. قوله تعالى: {أرجئه} قرأ ابن كثير {أرجهؤ} مهموز بواو بعد الهاء في اللفظ. وقرأ أبو عمرو مثله، غير أنه يضم الهاء ضمة، من غير أن يبلغ بها الواو؛ وكانا يهمزان {مرجؤن} و {ترجىء}. وقرأ قالون والمسيبي عن نافع {قَالُواْ أَرْجِهْ} بكسر الهاء، ولا يبلغ بها الياء، ولا يهمز. وروى عنه ورش: {أرجهي} يصلها بياء، ولا يهمز بين الجيم والهاء. وكذلك قال إسماعيل بن جعفر عن نافع؛ وهي قراءة الكسائي. وقرأ حمزة: {قَالُواْ أَرْجِهْ} ساكنة الهاء غير مهموز، وكذلك قرأ عاصم في غير رواية المفضل، وقد روى عنه المفضل كسر الهاء من غير إشباع ولا همز، وهي قراءة أبي جعفر، وكذلك اختلافهم في سورة {الشعراء}. قال ابن قتيبة: أرجه: أخّره؛ وقد يهمز، يقال: أرجأت الشيء، وأرجيته. ومنه قوله: {رَّحِيماً تُرْجِى مَن تَشَاء مِنْهُنَّ}. قال الفراء: بنو أسد تقول: أرجيت الأمر، بغير همز، وكذلك عامة قيس؛ وبعض بني تميم يقولون: أرجأت الأمر، بالهمز، والقراء مولعون بهمزها، وترك الهمز أجود. قوله تعالى: {وَأَرْسِلْ فِى ٱلْمَدَائِنِ} يعني: مدائن مصر، {حَـٰشِرِينَ} أي: من يحشر السحرة إليك ويجمعهم. وقال ابن عباس: هم الشرط. قوله تعالى: {يَأْتُوكَ بِكُلّ سَـٰحِرٍ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم وابن عامر: {سَـٰحِرٌ}، وفي {يُونُسَ}: {بِكُلّ سَـٰحِرٍ}؛ وقرأ حمزة، والكسائي: {سَحَّارٍ} في الموضعين؛ ولا خلاف في {يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا}: {سَحَّارٍ}. قوله تعالى: {إِنَّ لَنَا لاجْرًا} قرأ ابن كثير، ونافع، وحفص عن عاصم: {إِنَّ لَنَا لاجْرًا} مكسورة الألف على الخبر، وفي {الشعراء} {أَشْرَكُواْ أَيْنَ} ممدودة مفتوحة الألف، غير أن حفصا روى عن عاصم في {الشعراء}: {مَّعَكُمْ أَءن} بهمزتين. وقرأ أبو عمرو: {أَيْنَ لَنَا} ممدودة في السورتين. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: بهمزتين في الموضعين. قال أبو علي: الاستفهام أشبه بهذا الموضع، لأنهم لم يقطعوا على أن لهم الأجر، وإنما استفهموا عنه. قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ} أي: ولكم مع الأجر المنزلة الرفيعة عندي. قوله تعالى: {سَحَرُواْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ} قال أبو عبيدة: عشوا أعين الناس وأخذوها. {وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ} أي: خوفوهم. وقال الزجاج: استدعوا رهبتهم حتى رهبهم الناس. قوله تعالى: {فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ} وقرأ عاصم: {تَلْقَفْ} ساكنة اللام خفيفة القاف هاهنا وفي {طه}، و{الشعراء}. وروى البزي، وابن فليح عن ابن كثير: {يَمِينِكَ تَلْقَفْ} بتشديد التاء قال الفراء: يقال: لقفت الشيء، فأنا ألقفه لقفا ولقفانا؛ والمعنى: تبتلع. قوله تعالى: {مَا يَأْفِكُونَ} أي: يكذبون، لأنهم زعموا أنها حيات. قوله تعالى: {فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ} قال ابن عباس: استبان. {وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من السحر.الإشارة إلى قصتهم اختلفوا في عدد السحرة على ثلاثة عشر قولا. احدها: اثنان وسبعون، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: اثنان وسبعون ألفا، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال مقاتل. والثالث: سبعون، روي عن ابن عباس أيضا. والرابع: اثنا عشر ألفا، قاله كعب. والخامس: سبعون ألفا، قاله عطاء، وكذلك قال وهب في رواية، ألا أنه قال: فاختار منهم سبعة آلاف. والسادس: سبعمائة، وروى عبد المنعم بن إدريس عن ابيه عن وهب أنه قال: كان عدد السحرة الذين عارضوا موسى سبعين ألفا متخيرين من سبعمائة ألف، ثم إن فرعون اختار من السبعين الألف سبعمائة. والسابع: خمسة وعشرون ألفا، قاله الحسن. والثامن: تسعمائة، قاله عكرمة. والتاسع: ثمانون ألفا، قاله محمد بن المنكدر. والعاشر: بضعة وثلاثون ألفا، قاله السدي. والحادي عشر: خمسة عشر ألفا، قاله ابو اسحاق. والثاني عشر: تسعة عشر ألفا، رواه أبو سليمان الدمشقي. والثالث عشر: أربع مائة، حكاه الثعلبي. فأما أسماء رؤسائهم، فقال ابن اسحاق: رؤوس السحرة ساتور، وعاذور، وحُطحُط، ومُصَفَّى، وهم الذين آمنوا، كذا حكاه ابن ماكولا. ورأيت عن غير ابن اسحاق: سابورا، وعازورا. وقال مقاتل: اسم أكبرهم شمعون. قال ابن عباس: ألقوا حبالا غلاظا، وخشبا طوالا، فكانت ميلا في ميل، فألقى موسى عصاه، فاذا هي أعظم من حبالهم وعصيهم، قد سدت الأفق، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا، فابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم، وجعلت تأكل جميع ما قدرت عليه من صخرة أو شجرة، والناس ينظرون، وفرعون يضحك تجلدا، فأقبلت الحية نحو فرعون، فصاح: يا موسى، يا موسى، فأخذها موسى، وعرفت السحرة أن هذا من السماء، وليس هذا بسحر، فخروا سجدا، وقالوا: آمنا برب العالمين، فقال فرعون: إياي تعنون، فقالوا: رب موسى وهارون، فأصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء. وقال وهب بن منبه: لما صارت ثعبانا حملت على الناس فانهزموا منها، فقتل بعضهم بعضا، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا. وقال السدي: لقي موسى أمير السحرة، فقال: أرأيت إن غلبتك غدا، أتؤمن بي؟ فقال الساحر: لآتين غدا بسحر لا يغلبه السحر، فواللّه لئن غلبتني لأومنن بك. فان قيل: كيف جاز أن يأمرهم موسى بالإلقاء، وفعل السحر كفر؟ فعنه ثلاثة أجوبة. احدها: أن مضمون أمره: إن كنتم محقين فألقوا. والثاني: ألقوا على ما يصح، لا على ما يفسد ويستحيل، ذكرهما الماوردي. والثالث: إنما أمرهم بالإلقاء لتكون معجزته أظهر، لأنهم إذا ألقوا، ألقى عصاه فابتلعت ذلك، ذكره الواحدي. فان قيل: كيف قال: {وَأُلْقِىَ ٱلسَّحَرَةُ سَـٰجِدِينَ} وإنما سجدوا باختيارهم؟ فالجواب: أنه لما زالت كل شبهة بما أظهر اللّه تعالى من أمره، اضطرهم عظيم ما عاينوا إلى مبادرة السجود، فصاروا مفعولين في الإلقاء تصحيحا وتعظيما لشأن ما رأوا من الآيات، ذكره ابن الانباري. قال ابن عباس: لما آمنت السحرة، اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل. ١٢٣ انظر تفسير الآية:١٢٥ ١٢٤ انظر تفسير الآية:١٢٥ ١٢٥ قوله تعالى: {بِهِ ءآلنَ} قرأ نافع، وابن عامر، وأبو عمرو: {ءامَنْتُمْ بِهِ} بهمزة ومدة على الاستفهام. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: {أَءمِنتُمْ بِهِ} فاستفهموا بهمزتين، الثانية ممدودة. وقرأ حفص عن عاصم: {بِهِ ءآلنَ} على الخبر. وروى ابن الإخريط عن ابن كثير: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَءامَنتُمْ بِهِ} فقلب همزة الاستفهام واواً، وجعل الثانية ملينة بين بين. وروى قنبل عن القواس مثل رواية ابن الإخريط، غير أنه كان يهمز بعد الواو. وقال أبو علي: همز بعد الواو لأن هذه الواو منقلبة عن همزة الاستفهام، وبعد همزة الاستفهام {أفعلتم} فحققها ولم يخففها. قوله تعالى: {لَكُمْ إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ} قال ابن السائب: لصنيع صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} عاقبة ما صنعتم، {لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ أَرْجُلِكُمْ مّنْ خِلَـٰفٍ} وهو قطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى. قال ابن عباس: أول من فعل ذلك، وأول من صلب، فرعون. ١٢٦ انظر تفسير الآية:١٢٨ ١٢٧ انظر تفسير الآية:١٢٨ ١٢٨ قوله تعالى: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا} أي: وما تكره منا شيئا، ولا تعطن علينا إلا لأنا آمنا. {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} قال مجاهد: على القطع والصلب حتى لا نرجع كفارا {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} أي: مخلصين: على دين موسى. قوله تعالى: {وَأَنذِرْ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ} هذا إغراء من الملأ لفرعون. وفيما أرادوا بالفساد في الأرض قولان. احدهما: قتل أبناء القبط، واستحياء نسائهم، كما فعلوا ببني اسرائيل، قاله مقاتل. والثاني: دعاؤهم الناس إلى مخالفة فرعون وترك عبادته. قوله تعالى: {وَيَذَرَكَ} جمهور القراء على نصب الراء؛ وقرأ الحسن برفعها. قال الزجاج: من نصب {وَيَذَرَكَ} نصبه على جواب الاستفهام بالواو؛ والمعنى: أيكون منك أن تذر موسى وأن يذرك؟ ومن رفعه جعله مستأنفا، فيكون المعنى: أتذر موسى وقومه، وهو يذرك وآلهتك؟ والأجود أن يكون معطوفا على {أَتَذَرُ} فيكون المعنى: أتذر موسى، وأيذرك موسى؟ أي أتطلق له هذا؟. قوله تعالى: {وَءالِهَتَكَ} قال ابن عباس: كان فرعون قد صنع لقومه أصناما صغارا، وأمرهم بعبادتها، وقال أنا ربكم ورب هذه الأصنام، فذلك قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلاْعْلَىٰ}. وقال غيره: كان قومه يعبدون تلك الأصنام تقربا إليه. وقال الحسن: كان يعبد تيسا في السر. وقيل: كان يعبد البقر سراً. وقيل: كان يجعل في عنقه شيئا يعبده. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو العالية، وابن محيصن: {والإهتك} بكسر الهمزة وقصرها وفتح اللام وبألف بعدها. قال الزجاج: المعنى: ويذرك وربوبيتك. وقال ابن الانباري: قال اللغويون: الإلاهة: العبادة؛ فالمعنى:ويذرك وعبادة الناس إياك، قال ابن قتيبة: من قرأ: {وإلاهتك} أراد ويذرك والشمس التي تعبد، وقد كان في العرب قوم يعبدون الشمس ويسمونها آلهة. قال الأعشى: فما أذكر الرهبه حتى انقلبت قبيل الإلهة منها قريبا يعني: الشمس. والرهب: ناقته. يقول: اشتغلت بهذه المرأة عن ناقتي إلى هذا الوقت. قوله تعالى: {قَالَ سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ} قرأ أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {سَنُقَتّلُ} و{يُقَتّلُونَ أَبْنَاءكُمْ} بالتشديد، وخففهما نافع. وقرأ ابن كثير: {سَنُقَتّلُ} خفيفة، {وَيَقْتُلُونَ} مشددة، وإنما عدل عن قتل موسى إلى قتل الابناء لعلمه أنه لا يقدر عليه. {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـٰهِرُونَ} أي: عالون بالملك والسلطان. فشكا بنو إسرائيل إعادة القتل على أبنائهم، فقال موسى: {ٱسْتَعِينُواْ بِٱللّه وَٱصْبِرُواْ} على ما يفعل بكم {إِنَّ ٱلارْضَ للّه يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ}. وقرأ الحسن، وهبيرة عن حفص عن عاصم: {يُورِثُهَا} بالتشديد. فأطمعهم موسى أن يعطيهم اللّه أرض فرعون وقومه بعد إهلاكهم. قوله تعالى: {وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} فيها قولان. احدهما: الجنة. والثاني: النصر والظفر. ١٢٩ انظر تفسير الآية:١٣٠ ١٣٠ قوله تعالى: {قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} في هذا الأذى ستة اقوال. احدها: أن الأذى الاول والثاني أخذ الجزية، قاله الحسن. والثاني: أن الأول: ذبح الأبناء، والثاني: إدراك فرعون يوم طلبهم، قاله السدي. والثالث: أن الأول أنهم كانوا يسخرون في الأعمال إلى نصف النهار، ويرسلون في بقيته يكتسبون، والثاني: تسخيرهم جميع النهار بلا طعام ولا شراب، قاله جويبر. والرابع: أن الأول تسخيرهم في ضرب اللَّبن، وكانوا يعطونهم التبن الذي يخلطونه في الطين؛ والثاني: أنهم كلفوا ضرب اللبن وجعل التبن عليهم، قاله ابن السائب. والخامس: أن الأول: قتل الأبناء واستحياء البنات، والثاني: تكليف فرعون إياهم مالا يطيقونه، قاله مقاتل. والسادس: أن الأول: استخدامهم وقتل أبنائهم واستحياء نسائهم، والثاني: إعادة ذلك العذاب. وفي قوله: {مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا} قولان. احدهما: تأتينا بالرسالة، ومن بعد ما جئنا بها، قاله ابن عباس. والثاني: تأتينا بعهد اللّه أنه سيخلصنا، ومن بعد ما جئتنا به، ذكره الماوردي. قوله تعالى: {عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} قال الزجاج: عسى: طمع وإشفاق، إلا أن ما يُطمِع اللّه فيه فهو واجب. قوله تعالى: {وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ٱلاْرْضِ} في هذا الاستخلاف قولان. احدهما: أنه استخلاف من فرعون وقومه. والثاني: استخلاف عن اللّه تعالى، لأن المؤمنين خلفاء اللّه في أرضه. وفي الأرض قولان. احدهما: أرض مصر، قاله ابن عباس. والثاني: أرض الشام، ذكره الماوردي. قوله تعالى: {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} قال الزجاج: أي: يراه بوقوعه منكم لأنه إنما يجازيهم على ما وقع منهم، لا على ما علم أنه سيقع. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بِٱلسّنِينَ} قال أبو عبيدة: مجازه: ابتليناهم بالجدوب. وآل فرعون:أهل دينه وقومه. وقال مقاتل: هم أهل مصر. قال الفراء: {بِٱلسّنِينَ} أي: بالقحط والجدوب عاما بعد عام. وقال الزجاج: السنون في كلام العرب: الجدوب، يقال: مستهم السنة، ومعناه: جدب السنة، وشدة السنة. وإنما أخذهم بالضراء، لأن أحوال الشدة، تُرِقُ القلوب، وترغب فيما عند اللّه وفي الرجوع اليه، قال قتادة: أما السنون، فكانت في بواديهم ومواشيهم، وأما نقص الثمرات، فكان في أمصارهم وقراهم. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يبس لهم كل شيء، وذهبت مواشيهم، حتى يبس نيل مصر، فاجتمعوا إلى فرعون فقالوا له: إن كنت ربا كما تزعم فاملأ لنا نيل مصر، فقال: غدوة يصبِحكم الماء، فلما خرجوا من عنده، قال: أي شيء صنعت؟ أنا أقدر أن أجيء بالماء في نيل مصر غدوة أصبح، فيكذبوني؟ٰ فلما كان جوف الليل، اغتسل، ثم لبس مدرعة من صوف، ثم خرج حافيا حتى اتى بطن نيل مصر فقام في بطنه، فقال: اللّهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر أن تملأ نيل مصر ماء، فاملأه، فما علم إلا بخرير الماء لما أراد اللّه به من الهلكة. قلت: وهذا الحديث بعيد الصحة، لأن الرجل كان دهريا لا يثبت آلها، ولو صح، كان إقراره بذلك كاقرار ابليس، وتبقى مخالفته عنادا. ١٣١ قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ} وهي: الغيث والخصب وسعة الرزق والسلامة {قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ} أي: نحن مستحقوها على ما جرى لنا من العادة في سعة الرزق، ولم يعلموا أنه من اللّه فيشكروا عليه. {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ} وهي القحط والجدب والبلاء {يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ} أي: يتشاءموا بهم. وكانت العرب تزجر الطير، فتتشاءم بالبارح، وهو الذي يأتي من جهة الشمال، وتتبرك بالسانح، وهو الذي يأتي من جهة اليمين. قوله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللّه} قال أبو عبيدة: {إِلا} تنبيه وتوكيد ومجاز. {طَائِرُهُمْ} حظهم ونصيبهم وقال ابن عباس: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ ٱللّه} أي: إن الذي أصابهم من اللّه. وقال الزجاج: المعنى: ألا إن الشؤم الذي يلحقهم هو الذي وعدوا به في الآخرة، لا ما ينالهم في الدنيا. ١٣٢ انظر تفسير الآية:١٣٣ ١٣٣ قوله تعالى: {وَقَالُواْ مَهْمَا} قال الزجاج: زعم النحويون أن أصل {مَهْمَا} ماما، ولكن أبدل من الألف الأولى الهاء ليختلف اللفظ، ف {مَا} الأولى هي: {مَا} الجزاء، و{مَا} الثانية، هي: التي تزاد تأكيدا للجزاء، ودليل النحويين على ذلك: أنه ليس شيء من حروف الجزاء إلا و{مَا} تزاد، فيه قال اللّه تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ} كقولك: إن تثقفنهم، وقال: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} وتكون {مَا} الثانية للشرط والجزاء، والتفسير الأول: هو الكلام، وعليه استعمال الناس. قال ابن الانباري: فعلى قول من قال: إن معنى {مه} الكف، يحسن الوقف على {مه}، والاختيار: أن لا يوقف عليها دون {فِى مَا} لأنها في المصحف حرف واحد. وفي الطوفان ثلاثة أقوال. احدها: أنه الماء. قال ابن عباس: أرسل عليهم مطر دائم الليل والنهار ثمانية أيام، وإلى هذا المعنى ذهب سعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، وأبو مالك، ومقاتل، واختاره الفراء، وابن قتيبة. والثاني: أنه الموت، روته عائشة رضي اللّه عنها عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وبه قال مجاهد، وعطاء، ووهب بن منبه، وابن كثير. والثالث: أنه الطاعون، نقل عن مجاهد، ووهب أيضا. وفي القمل سبعة أقوال. احدها: أنه السوس الذي يقع في الحنطة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقال به. والثاني: أنه الدبى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء. وقال قتادة: القمل: أولاد الجراد. وقال ابن فارس: الدبى: الجراد إذا تحرك قبل أن تنبت أجنحته. والثالث: أنه دواب سود صغار، قاله الحسن، وسعيد بن جبير. وقيل: هذه الدواب: هي السوس. والرابع: أنه الجعلان، قاله حبيب بن أبي ثابت. والخامس: أنه القمل، ذكره عطاء الخراساني، وزيد بن أسلم. والسادس: أنه البراغيث، حكاه ابن زيد. والسابع: أنه الحمنان، واحدتها: حمنانة، وهي ضرب من القردان، قاله أبو عبيدة. وقرأ الحسن، وعكرمة، وابن يعمر: {القُمْل} برفع القاف وسكون الميم. وفي الدم قولان. احدهما: أن ماءهم صار دما، قاله الجمهور. والثاني: أنه رعاف أصابهم، قاله زيد بن اسلم. الإشارة إلى شرح القصة قال ابن عباس: جاءهم الطوفان، فكان الرجل لا يقدر ان يخرج إلى ضيعته، حتى خافوا الغرق، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشفه عنا، ونؤمن بك، ونرسل معك بني إسرائيل؛ فدعا لهم، فكشفه اللّه عنهم، وأنبت لهم شيئا لم ينبته قبل ذلك، فقالوا: هذا ما كنا نتمنى، فأرسل اللّه عليهم الجراد فأكل ما أنبتت الأرض، فقالوا: ادع لنا ربك فدعا، فكشف اللّه عنهم، فأحرزوا زروعهم في البيوت، فأرسل اللّه عليهم القمل، فكان الرجل يخرج بطحين عشرة أجربة إلى الرحى، فلا يرى منها ثلاثة أقفزة، فسألوه، فدعا لهم، فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، فأرسل اللّه عليهم الضفادع، ولم يكن شيء أشد منها، كانت تجيء إلى القدور وهي تغلي وتفور، فتلقي أنفسها فيها، فتفسد طعامهم وتطفىء نيرانهم، وكانت الضفادع برية، فأورثها اللّه تعالى برد الماء والثرى إلى يوم القيامة، فسألوه، فدعا لهم، فلم يؤمنوا، فأرسل اللّه عليهم الدم، فجرت أنهارهم وقلبهم دما، فلم يقدروا على الماء العذب، وبنو إسرائيل في الماء العذب، فاذا دخل الرجل منهم يستقي من أنهار بني اسرائيل صار ما دخل فيه دما، والماء من بين يديه ومن خلفه صاف عذب لا يقدر عليه، فقال فرعون: أقسم بالهي يا موسى لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك، ولنرسلن معك بني إسرائيل، فدعا موسى، فذهب الدم، وعذب ماؤهم، فقالوا: واللّه لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل. قوله تعالى: {ءايَـٰتٍ مّفَصَّلاَتٍ فَٱسْتَكْبَرُواْ} قال ابن قتيبة: بين الآية والآية فصل. قال المفسرون: كانت الآية تمكث من السبت إلى السبت، ثم يبقون عقيب رفعها شهرا في عافية، ثم تأتي الآية الأخرى. قال وهب بن منبه: بين كل آيتين أربعون يوما. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: مكث موسى في آل فرعون بعدما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات، الجراد والقمل والضفادع والدم. وفي قوله: {فَٱسْتَكْبَرُواْ} قولان. احدهما: عن الإيمان. والثاني: عن الانزجار. ١٣٤ انظر تفسير الآية:١٣٦ ١٣٥ انظر تفسير الآية:١٣٦ ١٣٦ قوله تعالى: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرّجْزُ} أي: نزل بهم العذاب. وفي هذا العذاب قولان. احدهما: أنه طاعون أهلك منهم سبعين ألفا، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. والثاني: أنه العذاب الذي سلطه اللّه عليهم من الجراد والقمل وغير ذلك، قاله ابن زيد. قال الزجاج: الرجز: العذاب، أو العمل الذي يؤدي إلى العذاب. ومعنى الرجز في العذاب: أنه المقلقل لشدته قلقلة شديدة متتابعة. وأصل الرجز في اللغة: تتابع الحركات، فمن ذلك قولهم: ناقة رجزاء إذا كانت ترتعد قوائمها عند قيامها. ومنه رجز الشعر، لأنه أقصر أبيات الشعر، والانتقال من بيت إلى بيت، سريع، نحو قوله: يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع وزعم الخليل أن الرجز ليس بشعر، وإنما هو أنصاف أبيات وأثلاث. قوله تعالى: {بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} فيه أربعة أقوال. احدها: أن معناه: بما أوصاك أن تدعوه به. والثاني: بما تقدم به إليك أن تدعوه فيجيبك. والثالث: بما عهد عندك في كشف العذاب عمن آمن. والرابع: أن ذلك منهم على معنى القسم، كأنهم أقسموا عليه بما عهد عنده أن يدعو لهم. قوله تعالى: {إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَـٰلِغُوهُ} أي: إلى وقت غرقهم. {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} أي: ينقضون العهد. قوله تعالى: {فَٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ} قال أبو سليمان الدمشقي: انتصرنا منهم باحلال نقمتنا بهم، وتلك النقمة تغريقنا إياهم في اليم. قال ابن قتيبة: اليم: البحر بالسريانية. قوله تعالى: {وَكَانُواْ عَنْهَا غَـٰفِلِينَ} فيه قولان. احدهما: عن الآيات، وغفلتهم: تركهم الاعتبار بها. والثاني: عن النقمة. ١٣٧ انظر تفسير الآية:١٣٨ ١٣٨ قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ} يعني: بني إسرائيل. {ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ} أي: يستذلون بذبح الأبناء، واستخدام النساء، وتسخير الرجال. {مَشَـٰرِقَ ٱلاْرْضِ وَمَغَـٰرِبَهَا} فيه ثلاثة أقوال. احدها: مشارق الشام ومغاربها، قاله الحسن. والثاني: مشارق أرض الشام ومصر. والثالث: أنه على إطلاقه في شرق الأرض وغربها. قوله تعالى: {ٱلَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا} قال ابن عباس: بالماء والشجر. قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ ٱلْحُسْنَىٰ} وهي وعد اللّه لبني إسرائيل باهلاك عدوهم، واستخلافهم في الأرض، وذلك في قوله: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلاْرْضِ} وقد بينا علة تسمية ذلك كله في {ءالَ عِمْرَانَ}. قوله تعالى: {بِمَا صَبَرُواْ} فيه قولان. احدهما: على طاعة اللّه تعالى. والثاني: على أذى فرعون. قوله تعالى: {وَدَمَّرْنَا} أي: أهلكنا {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} من العمارات والمزارع، والدمار: الهلاك. {وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ} أي: يبنون. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: {يَعْرِشُونَ} بكسر الراء هاهنا وفي {ٱلنَّحْلِ}. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بضم الراء فيهما. وقرأ ابن أبي عبلة: {يَعْرِشُونَ} بالتشديد. قال الزجاج: يقال: عَرَشَ يَعْرِشُ ويَعْرُشُ: إذا بنى. قوله تعالى: {يَعْكُفُونَ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، ويعقوب: {يَعْكُفُونَ} بضم الكاف. وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل: بكسر الكاف وقرأ ابن أبي عبلة: بضم الياء وتشديد الكاف. قال الزجاج: ومعنى {يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ}: يواظبون عليها ويلازمونها، يقال: لكل من لزم شيئا وواظب عليه: عَكَفَ يَعْكِفُ ويَعْكُفُ. قال قتادة: كان أولئك القوم نزولا بالرقة، وكانوا من لخم. وقال غيره: كانت أصنامهم تماثيل البقر. وهذا إخبار عن عظيم جهلهم حيث توهموا جواز عبادة غير اللّه بعدما رأوا الآيات. ١٣٩ قوله تعالى: {إِنَّ هَـؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} قال ابن قتيبة: مهلك. والتبار: الهلاك. ١٤٠ قوله تعالى: {قَالَ أَغَيْرَ ٱللّه أَبْغِيكُمْ إِلَـٰهًا} أي: أطلب لكم، وهذا استفهام إنكار. قال المفسرون، منهم ابن عباس، ومجاهد: العالمون هاهنا: عالمو زمانهم. ١٤١ قوله تعالى: {وَإِذْ أَنْجَيْنَـٰكُمْ} قرأ ابن عامر: {وَإِذَا أَنجَاكُمْ} على لفظ الغائب المفرد. ١٤٢ قوله تعالى: {وَوٰعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَـٰثِينَ لَيْلَةً} المعنى: وعدناه انقضاء الثلاثين ليلة. قال ابن عباس: قال موسى لقومه: إن ربي وعدني ثلاثين ليلة، فلما فصل إلى ربه زاده عشرا، فكانت فتنتهم في ذلك العشر. فان قيل: لم زيد هذا العشر؟ فالجواب: أن ابن عباس قال: صام تلك الثلاثين ليلهن ونهارهن، فلما انسلخ الشهر، كره أن يكلم ربه وريح فمه ريح فم الصائم، فتناول شيئا من نبات الأرض فمضغه، فأوحى اللّه تعالى إليه: لا كلمتك حتى يعود فوك على ما كان عليه، أما علمت أن رائحة فم الصائم أحب إلي من ريح المسك؟ وأمره بصيام عشرة أيام. وقال أبو العالية: مكث موسى على الطور أربعين ليلة. فبلغنا أنه لم يُحدث حتى هبط منه. فان قيل: ما معنى {فَتَمَّ مِيقَـٰتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وقد علم ذلك عند انضمام العشر إلى الثلاثين؟ٰ. فالجواب من وجوه: احدها: أنه للتأكيد. والثاني: ليدل أن العشر، ليال، لا ساعات. والثالث: لينفي تمام الثلاثين بالعشر أن تكون من جملة الثلاثين، لأنه يجوز أن يسبق إلى الوهم أنها كانت عشرين ليلة فأتمت بعشر وقد بينا في سورة {البقرة} لماذا كان هذا الوعد. قوله تعالى: {وَأَصْلَحَ} قال ابن عباس: مرهم بالإصلاح. وقال مقاتل: ارفق. ١٤٣ انظر تفسير الآية:١٤٤ ١٤٤ قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاء مُوسَىٰ لِمِيقَـٰتِنَا} قال الزجاج: أي: للوقت الذي وقتنا له. {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} أسمعه كلامه، ولم يكن فيما بينه وبين اللّه عز وجل فيما سمع أحد. {قَالَ رَبّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ} أي: أرني نفسك. قوله تعالى: {قَالَ لَن تَرَانِى} تعلق بهذا نفاة الرؤية وقالوا: {لَنْ} لنفي الأبد، وذلك غلط، لأنها قد وردت وليس المراد بها الأبد في قوله: {وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} ثم أخبر عنهم بتمنيه في النار بقوله: {وَنَادَوْاْ يٰمَـٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} ولأن ابن عباس قال في تفسيرها: لن تراني في الدنيا. وقال غيره: هذا جواب لقول موسى: {أَرِنِى} ولم يرد: أرني في الآخرة، وإنما أراد في الدنيا، فأجيب عما سأل. وقال بعضهم: لن تراني بسؤالك. وفي هذه الآية دلالة على جواز الرؤية، لأن موسى مع علمه باللّه تعالى، سألها، ولو كانت مما يستحيل لما جاز لموسى أن يسألها، ولا يجوز أن يجهل موسى مثل ذلك، لأن معرفة الأنبياء باللّه ليس فيها نقص، ولأن اللّه تعالى لم ينكر عليه المسألة وإنما منعه من الرؤية، ولو استحالت عليه لقال: {لاَ أَرَى}، ألا ترى أن نوحا لما قال: {إِنَّ ٱبُنِى مِنْ أَهْلِى} أنكر عليه بقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}. ومما يدل على جواز الرؤية أنه علقها باستقرار الجبل، وذلك جائز غير مستحيل، فدل على أنها جائزة، ألا ترى أن دخول الكفار الجنة لما استحال علقه بمستحيل فقال: {حَتَّىٰ يَلِجَ ٱلْجَمَلُ فِى سَمّ ٱلْخِيَاطِ}. قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} أي: ثبت ولم يتضعضع. قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ} قال الزجاج: ظهر، وبان. {جَعَلَهُ دَكّا} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: {دَكّاً} منونة مقصورة هاهنا وفي {ٱلْكَهْفِ}. وقرأ عاصم: {دَكّاً} ها هنا منونة مقصورة، وفي {ٱلْكَهْفِ}: {دَكَّاء} ممدودة غير منونة. وقرأ حمزة، والكسائي: {دَكَّاء} ممدودة غير منونة في الموضعين. قال أبو عبيدة: {جَعَلَهُ دَكّا} أي: مندكّاً، والدَّك: المستوي؛ والمعنى: مستويا مع وجه الأرض، يقال: ناقة دكَّاء، أي: ذاهبة السنام مستو ظهرها. قال ابن قتيبة: كأن سنامها دك، أي: التصق، قال: ويقال: إن اصل دككت: دققت، فأبدلت القاف كافا لتقارب المخرجين. وقال أنس بن مالك في قوله: {جَعَلَهُ دَكّا}: ساخ الجبل. قال ابن عباس: واسم الجبل: زبير، وهو أعظم جبل بمدين، وإن الجبال تطاولت ليتجلى لها، وتواضع زبير فتجلى له. قوله تعالى: {وَخَرَّ موسَىٰ صَعِقًا} فيه قولان. احدهما: مغشيا عليه، قاله ابن عباس، والحسن، وابن زيد. والثاني: ميتا، قاله قتادة، ومقاتل. والأول أصح، لقوله: {فَلَمَّا أَفَاقَ} وذلك لا يقال للميت. وقيل: بقي في غشيته يوما وليلة. قوله تعالى: {سُبْحَـٰنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} فيما تاب منه ثلاثة أقوال. احدها: سؤاله الرؤية، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: من الإقدام على المسألة قبل الإذن فيها. والثالث: اعتقاد جواز رؤيته في الدنيا. وفي قوله: {وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ} قولان. احدهما: أنك لن تُرى في الدنيا، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أول المؤمنين من بني إسرائيل، رواه عكرمة عن ابن عباس. قوله تعالى: {إِنْى ٱصْطَفَيْتُكَ} فتح ياء {إِنّى} ابن كثير، وأبو عمرو. وقرأ ابن كثير، ونافع: {برسالتي}. قال الزجاج: المعنى: اتخذتك صفوة على الناس برسالاتي وبكلامي، ولو كان إنما سمع كلام غير اللّه لما قال: {ٱلنَّاسِ بِرِسَـٰلَـٰتِي وَبِكَلَـٰمِي} لأن الملائكة تنزل إلى الأنبياء بكلام اللّه. ١٤٥ قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِى ٱلاْلْوَاحِ مِن كُلّ شَىْء} في ماهية الألواح سبعة أقوال. احدها: أنها زبرجد، قاله ابن عباس. والثاني: ياقوت، قاله سعيد بن جبير. والثالث: زمرد أخضر، قاله مجاهد. والرابع: برد، قاله أبو العالية. والخامس: خشب، قاله الحسن. والسادس: صخر، قاله وهب بن منبه. والسابع: زمرد وياقوت، قاله مقاتل. وفي عددها أربعة اقوال. احدها: سبعة، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: لوحان، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء. قال: وإنما سماها اللّه تعالى ألواحا، على مذهب العرب في إيقاع الجمع على التثنية، كقوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَـٰهِدِينَ} يريد: داود وسليمان، وقوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}. والثالث: عشرة، قاله وهب. والرابع: تسعة، قاله مقاتل. وفي قوله: {مِن كُلّ شَىْء} قولان. احدهما: من كل شيء يحتاج إليه في دينه من الحلال والحرام والواجب وغيره. والثاني: من الحكم والعبر. قوله تعالى: {مَّوْعِظَةٌ} أي: نهيا عن الجهل. {وَتَفْصِيلاً} أي: تبيينا لكل شيء من الأمر والنهي والحدود والأحكام. قوله تعالى: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} فيه ثلاثة أقوال. احدها: بجد وحزم، قاله ابن عباس. والثاني: بطاعة، قاله أبو العالية. والثالث: بشكر، قاله جويبر. قوله تعالى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} إن قيل: كأن فيها ما ليس بحسن؟ فعنه جوابان. احدهما: أن المعنى: يأخذوا بحسنها، وكلها حسن، قاله قطرب. وقال ابن الانباري: ناب {أَحْسَنُ} عن {حُسْنُ} كما قال الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول أي: عزيزة طويلة. وقال غير: {ٱلإحْسَـٰنِ} هاهنا صلة، والمعنى: يأخذوا بها. والثاني: أن بعض ما فيها أحسن من بعض. ثم في ذلك خمسة أقوال. احدها: أنهم أمروا فيها بالخير ونهوا عن الشر، فَفِعْلُ الخَيرِ هو الأحسن. والثاني: أنها اشتملت على أشياء حسنة بعضها أحسن من بعض، كالقصاص والعفو والانتصار والصبر، فأمروا أن يأخذوا بالأحسن، ذكر القولين الزجاج. فعلى هذا القول، يكون المعنى: انهم يتبعون العزائم والفضائل، وعلى الذي قبله، يكون المعنى: أنهم يتبعون الموصوف بالحسن وهو الطاعة، ويجتنبون الموصوف بالقبح وهو المعصية. والثالث: أحسنها: الفرائض والنوافل، وأدونها في الحسن: المباح. والرابع: أن يكون للكلمة معنيان أو ثلاثة، فتصرف إلى الاشبه بالحق. والخامس: أن أحسنها: الجمع بين الفرائض والنوافل. قوله تعالى: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ ٱلْفَـٰسِقِينَ} فيها أربعة أقوال. احدها: أنها جهنم، قاله الحسن، ومجاهد. والثاني: انها دار فرعون وقومه، وهي مصر، قاله عطية العوفي. والثالث: أنها منازل من هلك من الجبابرة والعمالقة، يريهم إياها عند دخولهم الشام، قاله قتادة. والرابع: أنها مصارع الفاسقين، قاله السدي. ومعنى الكلام: سأريكم عاقبة من خالف أمري، وهذا تهديد للمخالف، وتحذير للموافق. ١٤٦ انظر تفسير الآية:١٤٧ ١٤٧ قوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ ءايَـٰتِي ٱلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي ٱلارْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ} في هذه الآية قولان. احدهما: أنها خاصة لأهل مصر فيما رأوا من الآيات. والثاني: أنها عامة، وهو أصح. وفي الآيات قولان. احدهما: أنها آيات الكتب المتلوة. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال. احدها: أمنعهم فهمها. والثاني: أمنعهم من الإيمان بها. والثالث: أصرفهم عن الاعتراض عليها بالإبطال. والثاني: أنها آيات المخلوقات كالسماء والأرض والشمس والقمر وغيرها، فيكون المعنى: أصرفهم عن التفكر والاعتبار بما خَلقتُ. وفي معنى يتكبرون قولان. احدهما: يتكبرون عن الإيمان واتباع الرسول. والثاني: يحقرون الناس ويرون لهم الفضل عليهم. قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: {سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ} بضم الراء خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي: {سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ} بفتح الراء والشين مثقلة. قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} قال الزجاج: فعل اللّه بهم ذلك بأنهم {كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَـٰفِلِينَ} أي: كانوا في تركهم الإيمان بها والتدبر لها بمنزلة الغافلين. ويجوز أن يكون المعنى: وكانوا عن جزائها غافلين. ١٤٨ قوله تعالى: {وَٱتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ} أي: من بعد انطلاقه إلى الجبل للميقات. {مِنْ حُلِيّهِمْ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم وابن عامر: {مِنْ حُلِيّهِمْ} بضم الحاء. وقرأ حمزة، والكسائي: {حُلِيّهِمْ} بكسر الحاء. وقرأ يعقوب: بفتحها وسكون اللام وتخفيف الياء. والحلي: جمع حلي، مثل: ثَدْي وثُدِيٍّ، وهو اسم لما يتحسن به من الذهب والفضة. قال الزجاج: ومن كسر الحاء من {حُلِيّهِمْ} أتبع الحاء كسر اللام. والجسد: هو الذي لا يعقل ولا يميز، إنما هو بمعنى الجثة فقط. قال ابن الانباري: ذكر الجسد دلالة على عدم الروح منه، وأن شخصه شخص مثال وصورة، غير منضم إليهما روح ولا نفس. فأما الخوار: فهو صوت البقرة، يقال: خارت البقرة تخور، وجأرت تجأر؛ وقد نقل عن العرب انهم يقولون في مثل صوت الإنسان من البهائم: رغا البعير وجرجر وهدر وقبقب، وصهل الفرس وحمحم، وشهق الحمار ونهق، وشحج البغل، وثغت الشاة ويعرت، وثأجت النعجة، وبغم الظبي ونزب، وزأر الأسد ونهت ونأت، ووعوع الذئب، ونهم الفيل، وزقح القرد، وضبح الثعلب، وعوى الكلب ونبح، وماءت السنور، وصأت الفأرة، ونغق الغراب، معجمة الغين، وزقأ الديك، وسقع وصفر النسر، وهدر الحمام وهدل، ونقضت الضفادع ونقت، وعزفت الجن. قال ابن عباس: كان العجل إذا خار سجدوا، وإذا سكت رفعوا رؤوسهم. وفي رواية أبي صالح عنه: أنه خار خورة واحدة ولم يتبعها مثلها، وبهذا قال وهب، ومقاتل. وكان مجاهد يقول: خواره حفيف الريح فيه؛ وهذا يدل على أنه لم يكن فيه روح. وقرأ أبو رزين العقيلي، وابو مجلز: {لَهُ} بجيم مرفوعة. قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلّمُهُمْ} أي: لا يستطيع كلامهم. {وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} أي: لا يبين لهم طريقا إلى حجة. {ٱتَّخَذُوهُ} يعني: اتخذوه إلها. {وَكَانُواْ ظَـٰلِمِينَ} قال ابن عباس: مشركين. ١٤٩ انظر تفسير الآية:١٥٢ ١٥٠ انظر تفسير الآية:١٥٢ ١٥١ انظر تفسير الآية:١٥٢ ١٥٢ قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فَى أَيْدِيهِمْ} أي: ندموا. قال الزجاج: يقال للرجل النادم على ما فعل: المتحسر على ما فرط. قد سُقط في يده، وأسقط في يده. وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران الجوني: {سُقِطَ} بفتح السين. قال الزجاج: والمعنى: ولما سقط الندم في أيديهم، يشبه ما يحصل في القلب وفي النفس بما يرى بالعين. قال المفسرون: هذا الندم منهم إنما كان بعد رجوع موسى. قوله تعالى: {لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر وعاصم: {يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} {وَيَغْفِرْ لَنَا} بالياء والرفع. وقرأ حمزة، والكسائي، {ترحمنا} و{لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا} بالتاء، {رَبَّنَا} بالنصب. قوله تعالى: {غَضْبَـٰنَ أَسِفًا} في الاسف ثلاثة أقوال. احدها: أنه الحزين، قاله ابن عباس، والحسن، والسدي. والثاني: الجزع، قاله مجاهد. قوله تعالى: {قَالَ} أي لقومه {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى} فتح ياء {بَعْدِى} أهل الحجاز، وأبو عمرو؛ والمعنى: بئس ما عملتم بعد فراقي من عبادة العجل. {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ} قال الفراء: يقال: عجلت الأمر والشيء: سبقته، ومنه هذه الآية. وأعجلته: استحثثته. قوله تعالى: {قَالَ} أي لقومه {بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِى مِن بَعْدِى} فتح ياء {بَعْدِى} أهل الحجاز، وأبو عمرو؛ والمعنى: بئس ما عملتم بعد فراقي من عبادة العجل. {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبّكُمْ} قال الفراء: يقال: عجلت الأمر والشيء: سبقته، ومنه هذه الآية. وأعجلته: استحثثته.وقال أبو علي: يحتمل أن يريد من فتح: {قَالَ ٱبْنَ أُمَّ} أمَّا، ويحذف الألف، ومن كسر {ٱبْنُ} فيحذف الياء. فان قيل: لم قال: {قَالَ ٱبْنَ أُمَّ} ولم يقل: {يا ابن أب}؟ فالجواب: أن ابن عباس قال: كان أخاه لأبيه وأمه، وإنما قال له ذلك ليرفقه عليه. قال أبو سليمان الدمشقي: والإنسان عند ذكر الوالدة أرق منه عند ذكر الوالد. وقيل: كان لأمه دون أبيه، حكاه الثعلبي. قوله تعالى: {قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ} يعني: عبدة العجل. {ٱسْتَضْعَفُونِى} أي: استذلوني. {فَلاَ تُشْمِتْ بِىَ ٱلاعْدَاء} قرأ عبد اللّه بن عباس، ومالك بن دينار، وابن عاصم: {فَلاَ تُشْمِتْ} بتاء مفتوحة مع فتح الميم، {ٱلاعْدَاء} بالرفع. وقرأ مجاهد، وأبو العالية، والضحاك، وأبو رجاء: {فَلاَ تُشْمِتْ} بفتح التاء وكسر الميم، {ٱلاعْدَاء} بالنصب. وقرأ أبو الجوزاء، وابن أبي عبلة. مثل ذلك، إلا أنهما رفعا {ٱلاعْدَاء} ويعني بالاعداء: عبدة العجل. {وَلاَ تَجْعَلْنِى} في موجدتك وعقوبتك لي {مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ} وهم عبدة العجل. فلما تبين له عذر أخيه {قَالَ رَبّ ٱغْفِرْ لِى}. قوله تعالى: {وَذِلَّةٌ فِى ٱلْحَيوٰةِ ٱلدُّنْيَا} فيها قولان. احدهما: أنها الجزية، قاله ابن عباس. والثاني: ما أمروا به من قتل أنفسهم، قاله الزجاج. فعلى الأول يكون ما أضيف إليهم من الجزية في حق أولادهم، لأن أولئك قتلوا ولم يؤدوا جزية. قال عطية: وهذه الآية فيما أصاب بني قريظة والنضير من القتل والجلاء لتوليهم متخذي العجل ورضاهم به. قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُفْتَرِينَ} قال ابن عباس: كذلك أعاقب من اتخذ إلها دوني. وقال مالك بن انس: ما من مبتدع الا وهو يجد فوق رأسه ذلة، وقرأ هذه الاية. وقال سفيان بن عيينة: ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه، قال: وهي في كتاب اللّه تعالى، قالوا: وأين هي؟ قال: أوما سمعتم قوله: {إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ ٱلْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ وَذِلَّةٌ فِى ٱلْحَيوٰةِ ٱلدُّنْيَا}. قالوا: يا أبا محمد، هذه لأصحاب العجل خاصة، قال: كلا، أتلوا ما بعدها: {وَكَذٰلِكَ نَجْزِى ٱلْمُفْتَرِينَ} فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة. ١٥٣ قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ عَمِلُواْ ٱلسَّيّئَاتِ} فيها قولان. احدهما: أنها الشرك. والثاني: الشرك، وغيره من الذنوب. {ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا} يعني: السيئات. وفي قوله: {وَءامَنُواْ} قولان. احدهما: آمنوا باللّه، وهو يُخرَّج على قول من قال: هي الشرك. والثاني: آمنوا بأن اللّه تعالى يقبل التوبة. {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} يعني: السيئات. ١٥٤ قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ} وقرأ ابن عباس، وأبو عمران: {سَكَتَ} بفتح السين وتشديد الكاف وبتاء بعدها، {ٱلْغَضَبُ} بالنصب. وقرأ سعيد بن جبير، وابن يعمر، والجحدري: {سَكَتَ} بضم السين وتشديد الكاف مع كسرها. وقرأ ابن مسعود، وعكرمة، وطلحة: {سَكَنَ} بنون. قال الزجاج: سكت بمعنى: سكن، يقال: سكت يسكت سكتا: إذا سكن، وسكت يسكت سكتا وسكوتا: إذا قطع الكلام. قال: وقال بعضهم: المعنى: ولما سكت موسى عن الغضب، على القلب، كما قالوا: أدخلت القلنسوة في رأسي. والمعنى: أدخلت رأسي في القلنسوة، والأولى هو قول أهل العربية. قوله تعالى: {أَخَذَ ٱلاْلْوَاحَ} يعني: التي كان ألقاها. وفي قوله: {وَفِى نُسْخَتِهَا} قولان. احدهما: وفيما بقي منها، قاله ابن عباس. والثاني: وفيما نسخ فيهما، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: {لّلَّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ} فيهم قولان. احدهما: أنه عام في الذين يخافون اللّه، وهو معنى قول ابن عباس. والثاني: أنهم أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم خاصة، وهو معنى قول قتادة. ١٥٥ قوله تعالى: {وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ} المعنى: اختار من قومه فحُذف {مِنْ}، تقول العرب: اخترتك القوم، أي: اخترتك من القوم، وأنشدوا: منا الذي اختير الرجال سماحة وجودا إذا هب الرياح الزعازع هذا قول ابن قتيبة، والفراء، والزجاج. وفي هذا الميقات أربعة أقوال. احدها: أنه الميقات الذي وقته اللّه لموسى ليأخذ التوراة، أمر أن يأتي معه بسبعين، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال نوف البكالي. والثاني: أنه ميقات وقته اللّه تعالى لموسى، وأمره أن يختار من قومه سبعين رجلا ليدعو ربهم، فدعوا فقالوا: اللّهم أعطنا مالم تعط أحدا قبلنا، ولا تعطيه أحدا بعدنا، فكره اللّه ذلك، وأخذتهم الرجفة؛ رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنه ميقات وقته اللّه لموسى، لأن بني إسرائيل قالوا له: إن طائفة تزعم أن اللّه لا يكلمك، فخذ معك طائفة منا ليسمعوا كلامه فيؤمنوا فتذهب التهمة، فأوحى اللّه اليه ان اختر من خيارهم سبعين، ثم ارتق بهم على الجبل انت وهارون، واستخلف يوشع بن نون، ففعل ذلك، قاله وهب بن منبه. والرابع: أنه ميقات وقته اللّه لموسى ليلقاه في ناس من بني إسرائيل، فيعتذر إليه من فعل عبدة العجل، قاله السدي. وقال ابن السائب: كان موسى لا يأتي إلا بإذن منه. فأما الرجفة. فهي: الحركة الشديدة. وفي سبب أخذها إياهم أربعة أقوال. احدها: أنه ادعاؤهم على موسى قتل هارون؛ قاله علي بن أبي طالب. والثاني: اعتداؤهم في الدعاء وقد ذكرناه في رواية ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنهم لم ينهوا عبدة العجل ولم يرضوا؛ نقل عن ابن عباس. وقال قتادة، وابن جريج: لم يأمروهم بالمعروف، ولم ينهوهم عن المنكر، ولم يزايلوهم. والرابع: أنهم طلبوا استماع الكلام من اللّه تعالى، فلما سمعوه قالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللّه جَهْرَةً} قاله السدي، وابن إسحاق. قوله تعالى: {قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّـٰىَ} قال السدي: قام موسى يبكي ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وَإِيَّـٰىَ} قال الزجاج: لو شئت أمتهم قبل أن تبتليهم بما أوجب عليهم الرجفة. وقيل: لو شئت أهلكتهم من قبل خروجنا وإياي، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك ولا يتهمونني. قوله تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَاء مِنَّا} قال المبرد: هذا استفهام استعطاف، أي: لا تهلكنا. وقال ابن الانباري: هذا استفهام على تأويل الجحد، أراد: لست تفعل ذلك. و{ٱلسُّفَهَاء} هاهنا: عبدة العجل. وقال الفراء: ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ أصحابهم العجل. وإنما أهلكوا بقولهم: {أَرِنَا ٱللّه جَهْرَةً}. قوله تعالى: {إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} فيها قولان. احدهما: أنها الابتلاء، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو العالية. والثاني: العذاب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة. قوله تعالى: {أَنتَ وَلِيُّنَا} أي: ناصرنا وحافظنا. ١٥٦ انظر تفسير الآية:١٥٨ ١٥٧ انظر تفسير الآية:١٥٨ ١٥٨ قوله تعالى: {وَٱكْتُبْ لَنَا} أي: حقق لنا وأوجب {فِى هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةٌ} وهي: الأعمال الصالحة {وَفِي ٱلاْخِرَةِ} المغفرة والجنة {إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ} أي: تبنا، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو العالية، وقتادة، والضحاك، والسدي. وقال ابن قتيبة: ومنه {ٱلَّذِينَ هَادُواْ} كأنهم رجعوا من شيء إلى شيء. وقرأ أبو وجزة السعدي: {إِنَّا هُدْنَـا} بكسر الهاء. قال ابن الانباري: المعنى: لا نتغير؛ يقال هاد يهود ويهيد. قوله تعالى: {قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء} وقرأ الحسن البصري، والأعمش وأبو العالية: {مِنْ أَسَاء} بسين غير معجمة مع النصب. قوله تعالى: {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء} في هذا الكلام أربعة اقوال. احدها: أن مخرجه عام، ومعناه خاص، وتأويله: ورحمتي وسعت المؤمنين من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، لقوله تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} قاله ابن عباس. والثاني: أن هذه الرحمة على العموم في الدنيا، والخصوص في الآخرة، وتأويلها: ورحمتي وسعت كل شيء في الدنيا، البر والفاجر، وفي الآخرة هي للمتقين خاصة، قاله الحسن، وقتادة. فعلى، هذا معنى الرحمة في الدنيا للكافر: أنه يرزق ويدفع عنه، كقوله في حق قارون: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ إِلَيْكَ}. والثالث: أن الرحمة: التوبة، فهي على العموم، قاله ابن زيد. والرابع: أن الرحمة تسع كل الخلق، إلا أن أهل الكفر خارجون منها، فلو قدر دخولهم فيها لو سعتهم، قاله ابن الانباري. قال الزجاج: وسعت كل شيء في الدنيا. {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} في الآخرة. قال المفسرون: معنى {فَسَأَكْتُبُهَا}؛ فسأوجبها. وفي الذين يتقون قولان. احدهما: أنهم المتقون للشرك، قاله ابن عباس. والثاني: للمعاصي، قاله قتادة. وفي قوله: {وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـوٰةَ} قولان. احدهما: أنها زكاة الأموال، قاله الجمهور. والثاني: أن المراد بها: طاعة اللّه ورسوله، قاله ابن عباس، والحسن، ذهبا إلى أنها العمل بما يزكي النفس ويطهرها. وقال ابن عباس، وقتادة: لما نزلت {وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء} قال إبليس: أنا من ذلك الشيء، فنزعها اللّه من إبليس، فقال: {يُؤْمِنُونَ} فقالت اليهود: نحن نتقي، ونؤتي الزكاة، ونؤمن بآيات ربنا، فنزعها اللّه منهم، وجعلها لهذه الأمة، فقال: {ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلامّىَّ} وقال نَوفٌ: قال اللّه تعالى لموسى: أجعل لكم الأرض طهورا ومسجدا، وأجعل السكينة معكم في بيوتكم، وأجعلكم تقرؤون التوراة عن ظهور قلوبكم، يقرؤها الرجل منكم، والمرأة، والحر، والعبد، والصغير، والكبير، فأخبر موسى قومه بذلك، فقالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس والبيع، ولا أن تكون السكينة إلا في التابوت، ولا أن نقرأ التوراة إلا نظرا، فقال اللّه تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} إلى قوله: {ٱلْمُفْلِحُونَ}. وفي هؤلاء المذكورين في قوله: {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـوٰةَ} إلى قوله: {ٱلْمُفْلِحُونَ} قولان. احدهما: أنهم كل من آمن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وتبعه، قاله ابن عباس. والثاني: أنه محمد صلى اللّه عليه وسلم، قاله السدي، وقتادة. وفي تسميته بالأمي قولان. احدهما: لا يكتب. والثاني: لأنه من أم القرى. قوله تعالى: {ٱلَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ} أي: يجدون نعته ونبوته. قوله تعالى: {يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ} قال الزجاج: يجوز أن يكون مستأنفا، ويجوز أن يكون {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ} أنه يأمرهم بالمعروف. قال ابن عباس: المعروف: مكارم الأخلاق، وصلة الارحام. والمنكر: عبادة الأوثان، وقطع الأرحام. وقال مقاتل: المعروف: الإيمان، والمنكر: الشر. وقال غيره: المعروف: الحق، لأن العقول تعرف صحته، والمنكر: الباطل، لأن العقول تنكر صحته. وفي الطيبات أربعة أقوال. احدها: أنها الحلال، والمعنى: يحل لهم الحلال. والثاني: أنها ما كانت العرب تستطيبه. والثالث: أنها الشحوم المحرمة على بني إسرائيل. والرابع: ما كانت العرب تحرمه من البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. وفي الخبائث ثلاثة أقوال. احدها: أنها الحرام، والمعنى: ويحرم عليهم الحرام. والثاني: أنها ما كانت العرب تستخبثه ولا تأكله، كالحيات، والحشرات. والثالث: ما كانوا يستحلونه من الميتة، والدم، ولحم الخنزير. قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {إِصْرَهُمْ}. وقرأ ابن عامر: {آصارهم} ممدودة الألف على الجمع. وفي هذا الإصر قولان. احدهما: أنه العهد الذي أخذ اللّه على بني إسرائيل أن يعملوا بما في التوراة، قاله ابن عباس. والثاني: التشديد الذي كان عليهم من تحريم السبت، وأكل الشحوم والعروق، وغير ذلك من الأمور الشاقة، قاله قتادة. وقال مسروق: لقد كان الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب، فيصبح وقد كتب على باب بيته: إن كفارته أن تنزع عينيك فينزعهما. قوله تعالى: {إِصْرَهُمْ وَٱلاْغْلَـٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ} قال الزجاج: ذكر الأغلال: تمثيل، ألا ترى أنك تقول: جعلت هذا طوقا في عنقك، وليس هناك طوق، إنما جعلت لزومه كالطوق. والأغلال: أنه كان عليهم أن لا يقبل منهم في القتل دية، وأن لا يعملوا في السبت، وأن يَقْرِضوا ما أصاب جلودهم من البول. قوله تعالى: {فَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِهِ} يعني: بمحمد صلى اللّه عليه وسلم {وَعَزَّرُوهُ} وروى أبان {وَعَزَّرُوهُ} بتخفيف الزاي. وفي المعنى قولان. احدهما: نصروه وأعانوه، قاله مقاتل. والثاني: عظموه، قاله ابن قتيبة. و{ٱلنُّورَ ٱلَّذِى أُنزِلَ مَعَهُ}:القرآن سماه نورا، لأن بيانه في القلوب كبيان النور في العيون. وفي قوله معه قولان. احدهما: أنها بمعنى {عَلَيْهِ}. والثاني: بمعنى أُنزل في زمانه، قال قتادة. أما نصره، فقد سُبقتم إليه، ولكن خيركم من آمن به واتبع النور الذي أنزل معه. قوله تعالى: {ٱلَّذِى يُؤْمِنُ بِٱللّه وَكَلِمَـٰتِهِ} في الكلمات قولان. احدهما: أنها القرآن، قاله ابن عباس. وقال قتادة: كلماته: آياته. والثاني: أنها عيسى بن مريم، قاله مجاهد، والسدي. ١٥٩ قوله تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقّ} فيه قولان. احدهما: يدعون إلى الحق. والثاني: يعملون به. قوله تعالى: {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} قال الزجاج: وبالحق يحكمون. وفي المشار إليهم بهذا ثلاثة أقوال. احدها: أنهم قوم وراء الصين لم تبلغهم دعوة الإسلام، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: أنهم من آمن بالنبي صلى اللّه عليه وسلم مثل ابن سلام وأصحابه، قاله ابن السائب. والثالث: أنهم الذين تمسكوا بالحق في زمن أنبيائهم، ذكره الماوردي. ١٦٠ انظر تفسير الآية:١٦٢ ١٦١ انظر تفسير الآية:١٦٢ ١٦٢ قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَـٰهُمُ} يعني: قوم موسى، يقول: فرقناهم {ٱثْنَتَىْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا} يعني: أولاد يعقوب، وكانوا اثنى عشر ولدا، فولد كل واحد منهم سبطا، قال الفراء: وإنما قال: {ٱثْنَتَىْ عَشْرَةَ} والسبط ذكر، لأن بعده {أُمَمًا} فذهب بالتأنيث إلى الأمم، ولو كان {ٱثْنَىْ عَشَرَ} لتذكير السبط، كان جائزا. وقال الزجاج: المعنى: وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة، {أَسْبَاطًا} نعت {فِرْقَةٍ} كأنه يقول: جعلناهم أسباطا، وفرقناهم أسباطا، فيكون {أَسْبَاطًا} بدلا من}اثنتي عشرة} و{أُمَمًا} من نعت أسباط. والأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل ليفصل بين ولد إسماعيل وبين ولد إسحاق. وقال أبو عبيدة: الأسباط: قبائل بني إسرائيل، واحدهم: سبط، ويقال: من أي سبط أنت أي؟ من أي قبيلة وجنس؟ قوله تعالى: {فَٱنبَجَسَتْ مِنْهُ} قال ابن قتيبة: انفجرت؛ يقال: تبجس الماء، كما يقال: تفجر؛ والقصة مذكورة في {سُورَةٌ}. قوله تعالى: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَـٰيَـٰكُمْ} قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَـٰتِكُمْ} بالتاء مهموزة على الجمع. وقرأ أبو عمرو: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَـٰيَـٰكُمْ} مثل: {قضاياكم}، ولا تاء فيها. وقرأ نافع: {لَّمْ تَغْفِرْ} بالتاء مضمومة {خَطِيئَـٰتِكُمْ} بالهمز وضم التاء، على الجمع، وافقه ابن عامر في {تَغْفِرْ} بالتاء المضمومة، لكنه قرأ: {خَطِيئَـٰتِكُمْ} على التوحيد. ١٦٣ قوله تعالى: {واسألهم} يعني: أسباط اليهود، وهذا سؤال تقرير وتوبيخ يقررهم على قديم كفرهم، ومخالفة أسلافهم الأنبياء، ويخبرهم بما لا يعلم إلا بوحي. وفي القرية خمسة اقوال. احدها: أنها أيلة، رواه مرة عن ابن مسعود، وأبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، والسدي. والثاني: أنها مدين، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: أنها ساحل مدين، روي عن قتادة. والرابع: أنها طبرية، قاله الزهري. والخامس: أنها قرية يقال لها: مقنا، بين مدين وعينونا، قاله ابن زيد. ومعنى: {كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ} مجاورة البحر وبقربه وعلى شاطئه. {إِذْ يَعْدُونَ} قال الزجاج: أي: يظلمون، يقال: عدا فلان يعدو عدوانا وعداء وعدوا وعدوا: إذا ظلم وموضع {إِذْ} نصب، والمعنى: سلهم عن وقت عدوهم في السبت. {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ} في موضع نصب أيضا ب {يَعْدُونَ} والمعنى: سلهم إذ عدوا في وقت الإتيان. {شُرَّعًا} أي: ظاهرة. {كَذٰلِكَ نَبْلُوهُم} أي: مثل هذا الاختبار الشديد نختبرهم بفسقهم. ويحتمل على بعد أن يكون المعنى: {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} كذلك، أي: لا تأتيهم شرعا؛ ويكون {نَبْلُوهُم} مستأنفا. وقرأ الحسن، والأعمش، وأبان، والمفضل عن عاصم: {يَسْبِتُونَ} بضم الياء. ١٦٤ قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ} قال المفسرون: افترق أهل القرية ثلاث فرق، فرقة صادت وأكلت، وفرقة نهت وزجرت، وفرقة أمسكت عن الصيد، وقالت للفرقة الناهية: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ٱللّه مُهْلِكُهُمْ} لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنهم غير مقلعين، فقالت الفرقة الناهية: {مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبّكُمْ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {مَعْذِرَةً} رفعاً، أي: موعظتنا إياهم معذرة، والمعنى: أن الأمر بالمعروف واجب علينا، فعلينا موعظة هؤلاء عذرا إلى اللّه. وقرأ حفص عن عاصم: {مَعْذِرَةً} نصباً، وذلك على معنى نعتذر معذرةً. {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي: وجائز أن ينتفعوا بالموعظة فيتركوا المعصية. ١٦٥ انظر تفسير الآية:١٦٧ ١٦٦ انظر تفسير الآية:١٦٧ ١٦٧ قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ} يعني: تركوا ما وعظوا به {أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوء} وهم الناهون عن المنكر. والذين ظلموا هم المعتدون في السبت. قوله تعالى: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: {بَئِيسٍ} على وزن فعيل، فالهمزة بين الباء والياء. وقرأ نافع: ب{يس} بكسر الباء من غير همز. وقرأ ابن عامر: كذلك إلا أنه همز. وروى خارجة عن نافع: ب{يس} بفتح الباء من غير همز، على وزن فَعلٍ. وروى أبو بكر عن عاصم: {بيأس} على وزن {فيعل}. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأيوب: {بيآس} على وزن {فيعال}. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، ومعاذ القارىء: {بِٱلاْلْقَـٰبِ بِئْسَ} بفتح الباء وكسر الهمزة من غير ياء على وزن {نَعِس}. وقرأ الضحاك، وعكرمة: ب{بَصِيراً يس} بتشديد الياء مثل: {قيّم}. وقرأ أبو العالية، وأبو مجلز: {بِئْسَ} بفتح الباء والسين وبهمزة مكسورة من غير ياء ولا ألف على وزن {فَعَلَ}. وقرأ أبو المتوكل، وأبو رجاء: {بائس} بألف ومدة بعد الباء وبهمزة مكسورة بوزن {إِنّى فَاعِلٌ}. قال أبو عبيدة: البئيس: الشديد. وأنشد: حنقا علي وما ترى لي فيهم أثرا بئيسا وقال الزجاج: يقال: بئس يبأس بأسا، والعاتي: الشديد الدخول في الفساد، المتمرد الذي لا يقبل موعظة. وقال ابن جرير: {فَلَمَّا عَتَوْاْ} أي: تمردوا فيما نهوا عنه، وقد ذكرنا في سورة {البقرة} قصة مسخهم. وكان الحسن البصري يقول: واللّه ما لحوم هذه الحيتان بأعظم عند اللّه من دماء قوم مسلمين. قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} فيه أربعة أقوال. احدها: أعلم، قاله الحسن، وابن قتيبة. وقال: هو من آذنتك بالأمر. وقال ابن الانباري: تأذن: بمعنى: آذن؛ كما يقال: تعلَّم أن فلانا قائم، أي: اعلم. وقال أبو سليمان الدمشقي: أي: أعلم أنبياء بني إسرائيل. والثاني: حتم، قاله عطاء. والثالث: وعد، قاله قطرب. والرابع: تألى، قاله الزجاج. قوله تعالى: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} أي: على اليهود. وقال مجاهد: على اليهود والنصارى بمعاصيهم. {مَن يَسُومُهُمْ} أي: يوليهم {سُوء ٱلْعَذَابِ}. وفي المبعوث عليهم قولان. احدهما: أنه محمد صلى اللّه عليه وسلم وأمته، قاله ابن عباس. والثاني: العرب، كانوا يجبونهم الخراج، قاله سعيد بن جبير. قال: ولم يجب الخراج نبي قط إلا موسى، جباه ثلاث عشرة سنة، ثم أمسك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال السدي: بعث اللّه عليهم العرب يأخذون منهم الجزية ويقتلونهم. وفي سوء العذاب أربعة أقوال. احدها: أخذ الجزية. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: المسكنة والجزية، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: الخراج، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والرابع: أنه القتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية. ١٦٨ قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَـٰهُمْ فِي ٱلاْرْضِ أُمَمًا} قال أبو عبيدة: فرقناهم فرقا. قال ابن عباس: هم اليهود، ليس من بلد إلا وفيه منهم طائفة. وقال مقاتل: هم بنو إسرائيل. وقيل: معناه: شتات أمرهم وافتراق كلمتهم. {مّنْهُمُ ٱلصَّـٰلِحُونَ} وهم المؤمنون بعيسى ومحمد عليهما السلام. {وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ} وهم الكفار. وقال ابن جرير: إنما كانوا على هذه الصفة قبل أن يبعث عيسى، وقبل ارتدادهم. قوله تعالى: {وَبَلَوْنَـٰهُمْ} أي: اختبرناهم {بِٱلْحَسَنَـٰتِ} وهي: الخير، والخصب، والعافية، {وَٱلسَّيّئَاتِ} وهي: الجدب، والشر، والشدائد؛ فالحسنات والسيئات تحث على الطاعة، أما النعم فطلب الازدياد منها، وخوف زوالها، والنقم فلكشفها، والسلامة منها. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي لكي يتوبوا. ١٦٩ قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ} أي: من بعد الذين وصفناهم {خَلْفٌ} وقرأ الجوني، والجحدري: {خَلْفٌ} بفتح اللام. قال أبو عبيدة: الخَلَفُ والخَلْفُ واحد، وقوم يجعلون المحرَّك اللام، للصالح، والمسكنَّ لغير الصالح. وقال ابن قتيبة: الخَلْفُ: الرديء من الناس ومن الكلام، يقال: هذا خَلْفٌ من القول. وقال ابن الانباري: أكثر ما تستعمل العرب الخَلْفَ، باسكان اللام، في الرديء المذموم. وتفتح اللام في الفاضل الممدوح. وقد يوقع الخَلْفُ على الممدوح، والخلَفُ على المذموم، غير أن المختار ما ذكرناه. وفي المراد بهذا الخلف ثلاثة أقوال. احدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن زيد. والثاني: النصارى. والثالث: أن الخَلْفَ من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم، والقولان عن مجاهد. فان قيل: الخَلْفُ واحد، فكيف قال: {يَأْخُذُونَ} وكذلك قال في {مَرْيَمَ} {أَضَاعُواْ} فقد ذكر ابن الانباري عنه جوابين. احدهما: أن الخَلْفَ: جمع خالف، كما أن الركب: جمع راكب، والشّرب: جمع شارب. والثاني: أن الخَلْفَ مصدر يكون للاثنين والجميع، والمذكر والمؤنث. قوله تعالى: {وَرِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ} أي: انتقل إليهم انتقال الميراث من سلف إلى خلف، فيخرج في الكتاب ثلاثة أقوال. احدها: أنه التوراة. والثاني: الإنجيل. والثالث: القرآن. قوله تعالى: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلاْدْنَىٰ} أي: هذه الدنيا، وهو ما يعرض لهم منها. وقيل: سماه عرضا، لقلة بقائه. قال ابن عباس: يأخذون ما أحبوا من حلال أو حرام. وقيل: هو الرشوة في الحكم. وفي وصفه بالأدنى قولان. احدهما: أنه من الدنو. والثاني: أنه من الدناءة. قوله تعالى: {سَيُغْفَرُ لَنَا} فيه قولان. احدهما: أن المعنى: إنا لا نؤاخذ، تمنيا على اللّه الباطل. والثاني: أنه ذنب يغفره اللّه لنا، تأميلا لرحمة اللّه تعالى. وفي قوله: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} قولان. احدهما: أن المعنى: لا يشبعهم شيء، فهم يأخذون لغير حاجة، قاله الحسن. والثاني: أنهم أهل إصرار على الذنوب، قاله مجاهد. قوله تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ ٱلْكِتَـٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللّه إِلاَّ ٱلْحَقَّ} قال ابن عباس: وكد اللّه عليهم في التوراة أن لا يقولوا على اللّه إلا الحق، فقالوا الباطل، وهو ما أوجبوا على اللّه من مغفرة ذنوبهم التي لا يتوبون منها، وليس في التوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار. قوله تعالى: {وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ} معطوف على {وَرِثُواْ}. ومعنى {ٱلاْيَـٰتِ مَا فِيهِ}: قرؤوه، فكأنه قال: خالفوا على علم. {وَٱلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ} أي: ما فيها من الثواب {خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} أن الباقي خير من الفاني. قرأ ابن عامر، ونافع، وحفص عن عاصم: بالتاء، والباقون: بالياء. ١٧٠ قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ يُمَسّكُونَ بِٱلْكِتَـٰبِ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: {يُمَسّكُونَ} مشددة، وقرؤوا: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ ٱلْكَوَافِرِ} مخففة وقرأهما أبو عمرو بالتشديد. وروى أبو بكر عن عاصم أنه خففهما. ويقال: مسَّكت بالشيء، وتمسّكت به، واستمسكت به، وامتسكت به. وهذه الآية نزلت في مؤمني اهل الكتاب الذين حفظوا حدوده ولم يحرفوه، منهم عبد اللّه بن سلام واصحابه. قال ابن الانباري: وخبر {ٱلَّذِينَ}: {أَنَاْ} وما بعده، وله ضمير مقدر بعد {ٱلْمُصْلِحِينَ} تأويله: والذين يمسّكون بالكتاب أنا لا نضيع أجر المصلحين منهم، ولهذه العلة وعدهم حفظ الأجر بشرط، إذ كان منهم من لم يصلح. قال: وقال بعض النحويين: المصلحون يرجعون على الذين، وتلخيص المعنى عنده: والذين يمسكون بالكتاب، وأقاموا الصلاة، إنا لا نضيع أجرهم، فأظهرت كنايتهم بالمصلحين، كما يقال: عليٌ لقيت الكسائي، وأبو سعيد رويت عن الخدري، يراد لقيته ورويت عنه. قال الشاعر: فيارب ليلى أنت في كل موطن وأنت الذي في رحمة اللّه أطمع أراد في رحمته، فأظهر ضمير الهاء. ١٧١ قوله تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} أي: واذكر لهم إذ نتقنا الجبل، أي: رفعناه. قال مجاهد: أُخرجَ الجبلُ من الأرض، ورُفعَ فوقهم كالظُلَّة، فقيل لهم: لتؤمنن أو ليقعن عليكم. وقال قتادة: نزلوا في أصل الجبل، فرفع فوقهم، فقال: لتأخذن أمري، أو لأرمينكم به. قوله تعالى: {وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} فيه قولان. احدهما: أنه الظن المعروف. والثاني: أنه بمعنى اليقين. وباقي الآية مفسر في سورة {البقرة}. ١٧٢ قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ} روى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: {مِنْ ظَـٰهِرَ ءادَمَ} ـ ونعمان قريب من عرفة ـ ذكره ابن قتيبة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قِبَلاً وقال: {أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَـٰفِلِينَ} ومعنى الآية: وإذا أخذ ربكم من ظهور بني آدم. فقوله: {مِن ظُهُورِهِمْ} بدل من {وَإِذْ أَخَذَ}. وقيل: إنما قال: {مِن ظُهُورِهِمْ} ولم يقل من ظهر آدم، لأنه أخرج بعضهم من ظهور بعض، فاستغنى عن ذكر ظهر آدم لأنه قد علم أنهم بنوه، وقد أخرجوا من ظهره. وقوله تعالى: {ذرياتهم} قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم} على التوحيد. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر: {ذرياتهم} على الجمع. قال أبو علي: الذرية تكون جمعا، وتكون واحدا. وفي قوله: {ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} ثلاثة أقوال. احدها: أشهدهم على أنفسهم باقرارهم، قاله مقاتل. والثاني: دلهم بخلقه على توحيده، قاله الزجاج. والثالث: أنه أشهد بعضهم على بعض باقرارهم بذلك، قاله ابن جرير. قوله تعالى: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ} والمعنى: وقال لهم: ألست بربكم؟ وهذا سؤال تقرير. قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا. قال السدي: قوله: {شَهِدْنَا} خبر من اللّه تعالى عن نفسه وملائكته. أنهم شهدوا على إقرار بني آدم. ويحسن الوقف على قوله {بَلَىٰ} لأن كلام الذرية قد انقطع. وزعم الكلبي ان الذرية لما قالت {بَلَىٰ} قال اللّه للملائكة: {ٱشْهَدُواْ} فقالوا: {شَهِدْنَا}. وروى أبو العالية عن أبي بن كعب قال: جمعهم جميعا، فجعلهم أزواجا، ثم صورهم، ثم استنطقهم، ثم قال: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا} أنك آلهنا. قال: فاني أشهد عليكم السموات السبع والأرضين السبع،وأشهد عليكم أباكم آدم {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَـٰفِلِينَ} لم نعلم بهذا. وقال السدي: أجابته طائفة طائعين، وطائفة كارهين تقية. قوله تعالى: {أَن يَقُولُواْ} قرأ أبو عمرو {أَن يَقُولُواْ}، أو {يَقُولُواْ} بالياء فيهما. وقرأ الباقون بالتاء فيهما. قال أبو علي: حجة أبي عمرو قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} وقوله: {قَالُواْ بَلَىٰ}، وحجة من قرأ بالتاء أنه قد جرى في الكلام خطاب {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَا}. ومعنى قوله: {يَقُولُواْ} لئلا يقولوا، مثله: {أَن تَمِيدَ بِكُمْ}. وفي قوله: {إِنَّا كُنَّا} قولان. احدهما: أنه إشارة إلى الميثاق والإقرار. والثاني: أنه إشارة إلى معرفة أنه الخالق. قال المفسرون: وهذه الآية تذكير من اللّه تعالى بما أخذ على جميع المكلفين من الميثاق، واحتجاج عليهم لئلا يقول الكفار: إنا كنا على هذا الميثاق غافلين لم نذكره، ونسيانهم لا يسقط الاحتجاج بعد أن أخبر اللّه تعالى بذلك على لسان النبي صلى اللّه عليه وسلم الصادق. وإذا ثبت هذا بقول الصادق، قام في النفوس مقام الذكر، فالاحتجاج به قائم. ١٧٣ قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ} فاتبعنا منهاجهم على جهل منا بآلهيتك {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلْمُبْطِلُونَ} في دعواهم أن معك إلها، فقطع اللّه احتجاجهم بمثل هذا، إذ أذكرهم أخذ الميثاق على كل واحد منهم. وجماعة أهل العلم على ما شرحنا من أنه استنطق الذر، وركب فيهم عقولا وأفهاما عرفوا بها ما عرض عليهم. وقد ذكر بعضهم أن معنى أخذ الذرية: إخراجهم إلى الدنيا بعد كونهم نطفا. ومعنى إشهادهم على أنفسهم: اضطرارهم إلى العلم بأنه خالقهم بما أظهر لهم من الآيات والبراهين. ولما عرفوا ذلك ودعاهم كل ما يرون ويشاهدون إلى التصديق، كانوا بمنزلة الشاهدين والمشهدين على أنفسهم بصحته، كما قال: {شَـهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ} يريدهم: بمنزلة الشاهدين، وإن لم يقولوا نحن كفرة، كما يقول الرجل: قد شهدت جوارحي بصدقك، أي: قد عرفته. ومن هذا الباب قوله: {شَهِدَ ٱللّه} أي: بين وأعلم. وقد حكى نحو هذا القول ابن الانباري، والأول أصح، لموافقة الآثار. ١٧٤ قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نفَصّلُ ٱلاْيَـٰتِ} أي: كما بينا في أخذ الميثاق الآيات، ليتدبرها العباد فيعملوا بموجبها. {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: ولكي يرجعوا عما هم عليه من الكفر إلى التوحيد. ١٧٥ قوله تعالى: {وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ} قال الزجاج: هذا نسق على ما قبله، والمعنى: أتل عليهم إذ أخذ ربك، {وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِى ءاتَيْنَـٰهُ ءايَـٰتِنَا} وفيه ستة أقوال. احدها: أنه رجل من بني إسرائيل، يقال له: بلعم بن أبر، قاله ابن مسعود. وقال ابن عباس: بلعم بن باعوراء. وروي عنه: أنه بلعام بن باعور، وبه قال مجاهد، وعكرمة، والسدي. وروى العوفي عن ابن عباس أن بلعما من أهل اليمن. وروى عنه ابن أبي طلحة أنه من مدينة الجبارين. والثاني: أنه أمية بن أبي الصلت، قاله عبد اللّه بن عمرو بن العاص، وسعيد بن المسيب، وأبو روق، وزيد بن أسلم، وكان أمية قد قرأ الكتب، وعلم أن اللّه مرسل رسولا، ورجا أن يكون هو، فلما بعث النبي صلى اللّه عليه وسلم، حسده وكفر. والثالث: أنه أبو عامر الراهب، روى الشعبي عن ابن عباس قال الأنصار: تقول هو الراهب الذي بني له مسجد الشقاق، وروي عن ابن المسيب نحوه. والرابع: أنه رجل كان في بني اسرائيل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن، وكانت له امرأة له منها ولد، وكانت سمجة دميمة، فقالت: ادع اللّه أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا اللّه لها، فلما علمت أنه ليس في بني إسرائيل مثلها، رغبت عن زوجها وأرادت غيره، فلما رغبت عنه، دعا اللّه أن يجعلها كلبة نباحة، فذهبت منه فيها دعوتان، فجاء بنوها وقالوا: ليس بنا على هذا صبر أمنا كلبة نباحة يعيرنا الناس بها، فادع اللّه أن يردها إلى الحال التي كانت عليها أولا، فدعا اللّه، فعادت كما كانت، فذهبت فيها الدعوات الثلاث، رواه عكرمة عن ابن عباس، والذي روي لنا في هذا الحديث {وَكَانَتِ} بكسر الميم، وقد روى سيبويه عن العرب أنهم يقولون: رجل سَمْج: بتسكين الميم، ولم يقولوا: سَمِج؛ بكسرها. والخامس: أنه المنافق، قاله الحسن. والسادس: أنه كل من انسلخ من الحق بعد أن أعطيه من اليهود والنصارى والحنفاء، قاله عكرمة. وفي الآيات خمسة أقوال. احدها: أنه اسم اللّه الأعظم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير. والثاني: أنها كتاب من كتب اللّه عز وجل. روى عكرمة عن ابن عباس قال:هو بلعام، أوتي كتابا فانسلخ منه. والثالث: أنه أوتي النبوة، فرشاه قومه على أن يسكت، ففعل وتركهم على ما هم عليه، قاله مجاهد، وفيه بعد، لأن اللّه تعالى لا يصطفي لرسالته إلا معصوما عن مثل هذه الحال. والرابع: أنها حجج التوحيد، وفهم أدلته. والخامس: أنها العلم بكتب اللّه عز وجل، والمشهور في التفسير أنه بلعام، وكان من أمره على ما ذكره المفسرون أن موسى عليه السلام غزا البلد الذي هو فيه، وكانوا كفارا، وكان هو مجاب الدعوة، فقال ملكهم: ادع على موسى، فقال: إنه من أهل ديني ولا ينبغي لي أن أدعو عليه، فأمر الملك أن تنحت خشبة لصلبه، فلما رأى ذلك، خرج على أتان له ليدعو على موسى، فلما عاين عسكرهم، وقفت الأتان فضربها، فقالت: لم تضربني، وهذه نار تتوقد قد منعتني أن أمشي؟ فارجع، فرجع إلى الملك فأخبره، فقال: إما أن تدعو عليهم، وإما أن أصلبك، فدعا على موسى باسم اللّه الأعظم أن لا يدخل المدينة، فاستجاب اللّه له، فوقع موسى وقومه في التيه بدعائه، فقال موسى: يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه؟ فقال: بدعاء بلعم، فقال: يا رب فكما سمعت دعاءه علي، فاسمع دعائي عليه، فدعا اللّه أن ينزع منه الاسم الأعظم، فنزع منه. وقيل: إن بلعام أمر قومه أن يزينوا النساء ويرسلوهن في العسكر ليفشوا الزنا فيهم، فينصروا عليهم. وقيل: إن موسى قتله بعد ذلك. وروى السدي عن أشياخه أن بلعم أتى إلى قومه متبرعا، فقال: لا ترهبوا بني إسرائيل، فانكم إذا خرجتم لقتالهم، دعوت عليهم فهلكوا، فكان فيما شاء عندهم من الدنيا، وذلك بعد مضي الأربعين سنة التي تاهوا فيها، وكان نبيهم يوشع لا موسى. قوله تعالى: {ءايَـٰتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا} أي: خرج من العلم بها. قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ} قال ابن قتيبة: أدركه. يقال: اتبعت القوم: إذا لحقتهم، وتبعتهم: سرت في أثرهم. وقرأ طلحة بن مصرف: {فَأَتْبَعَهُ} بالتشديد. وقال اليزيدي: أتبعه واتّبعه: لغتان. وكأن {أَتَّبِعْهُ} خفيفة بمعنى: قفاه، واتّبعه مشددة: حذا حذوه. ولا يجوز أن تقول: أتبعناك، وأنت تريد: اتّبعناك، لأن معناها: اقتدينا بك. وقال الزجاج: يقال: تبع الرجل الشيء واتّبعه بمعنى واحد. قال اللّه تعالى: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} وقال: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ}. قوله تعالى: {فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ} فيه قولان. احدهما: من الضالين، قاله مقاتل. والثاني: من الهالكين الفاسدين، قاله الزجاج. ١٧٦ قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـٰهُ بِهَا} في هاء الكناية في رفعناه قولان. احدهما: أنها تعود إلى الإنسان المذكور، وهو قول الجمهور؛ فيكون المعنى: ولو شئنا لرفعنا منزلة هذا الإنسان بما علمناه. والثاني: أنها تعود إلى الكفر بالآيات، فيكون المعنى: لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بآياتنا، وهذا المعنى مروي عن مجاهد. وقال الزجاج: لو شئنا لحلنا بينه وبين المعصية. قوله تعالى: {وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلاْرْضِ} أي: ركن إلى الدنيا وسكن. قال الزجاج: يقال: أخلد وخلد، والأول أكثر في اللغة. والأرض هاهنا: عبارة عن الدنيا، لأن الدنيا هي الأرض بما عليها. وفي معنى الكلام قولان. احدهما: أنه ركن إلى أهل الدنيا، ويقال: إنه أرضى امرأته بذلك، لأنها حملته عليه، وقيل: أرضي بني عمه وقومه. والثاني: أنه ركن إلى شهوات الدنيا، وقد بين ذلك بقوله: {وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ} والمعنى: أنه انقاد لما دعاه إليه الهوى. قال ابن زيد: كان هواه مع قومه. وهذه الآية من أشد الآيات على أهل العلم إذ مالوا عن العلم إلى الهوى. قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} معناه: أن هذا الكافر، إن زجرته لم ينزجر، وإن تركته لم يهتد، فالحالتان عنده سواء كحالتي الكلب، فانه إن طرد وحمل عليه بالطرد كان لاهثا، وإن ترك وربض كان أيضا لاهثا، والتشبيه بالكلب اللاهث خاصة؛ فالمعنى: فمثله كمثل الكلب لاهثا، وإنما شبهه بالكلب اللاهث، لأنه أخس الأمثال على أخس الحالات وأبشعها. وقال ابن قتيبة: كل لاهث إنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب فانه يلهث في حال راحته وحال كلاله، فضربه اللّه مثلا لمن كذب بآياته، فقال: إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال، كالكلب إن طردته وزجرته فسعى لهث، أو تركته على حاله رابضا لهث. قال المفسرون: زُجِرَ في منامه عن الدعاء على بني اسرائيل فلم ينزجر، وخاطبته أتانه فلم ينته، فضرب له هذا المثل ولسائر الكفار؛ فذلك قوله: {ذٰلِكَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـثَايَـٰتِنَا} لأن الكافر إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال، وهو مع إرسال الرسل إليه كمن لم يأته رسول ولا بينة. قوله تعالى: {فَٱقْصُصِ ٱلْقَصَصَ} قال عطاء: قصص الذين كفروا وكذبوا أنبياءهم. ١٧٧ انظر تفسير الآية:١٧٨ ١٧٨ قوله تعالى: {سَاء مَثَلاً} يقال: ساء الشيء يسوء: إذا قبح، والمعنى: ساء مثلا مثل القوم، فحذف المضاف، فنُصب {مَثَلاً} على التمييز. قوله تعالى: {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} أي: يضرون بالمعصية. ١٧٩ قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} أي: خلقنا. قال ابن قتيبة: ومنه ذرية الرجل، إنما هي الخلق منه، ولكن همزها يتركه أكثر العرب. قوله تعالى: {لِجَهَنَّمَ} هذه اللام يسميها بعض أهل المعاني لام العاقبة، كقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} ومثله قول الشاعر: أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز يعزيه بموت ابنه، فقال: تعز أمير المؤمنين فإنه لما قد ترى يغذى الصغير ويولد وقد أخبر اللّه عز وجل في هذه الآية بنفاذ علمه فيهم أنهم يصيرون إليها بسبب كفرهم. قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} لما أعرض القوم عن الحق والتفكر فيه، كانوا بمنزلة من لم يفقه ولم يبصر ولم يسمع. وقال محمد بن القاسم النحوي: أراد بهذا كله أمر الآخرة، فانهم يعقلون أمر الدنيا. قوله تعالى: {أُوْلَـئِكَ كَٱلانْعَـٰمِ} شبههم بالأنعام لأنها تسمع وتبصر، ولا تعتبر، ثم قال: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} لأن الأنعام تبصر منافعها ومضارها، فتلزم بعض ما تبصره، وهؤلاء يعلم أكثرهم أنه معاند، فيقدم على النار، {أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ} عن أمر الآخرة. ١٨٠ قوله تعالى: {وَللّه ٱلاسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ} سبب نزولها: أن رجلا دعا اللّه في صلاته، ودعا الرحمن، فقال أبو جهل: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يدعو اثنين؟ فأنزل اللّه هذه الآية، قاله مقاتل: فأما الحسنى، فهي تأنيث الأحسن. ومعنى الآية أن أسماء اللّه حسنى، وليس المراد أن فيها ما ليس بحسن. وذكر الماوردي أن المراد بذلك ما مالت إليه النفوس من ذكره بالعفو والرحمة دون السخط والنقمة. وقوله: {فَٱدْعُوهُ بِهَا} أي: نادوه بها، كقولك: يا اللّه يا رحمن. قوله تعالى: {وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَـئِهِ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: {يُلْحِدُونَ} بضم الياء، وكذلك في {ٱلنَّحْلِ} و{السجدة}. وقرأ حمزة: {ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ} بفتح الحاء والياء فيهن، ووافقه الكسائي، وخلف في {ٱلنَّحْلِ}. قال الاخفش: أَلْحَد ولَحَد: لغتان، فمن قرأ بهما أراد الأخذ باللغتين، فكأن الإلحاد: العدول عن الاستقامة، وقال ابن قتيبة: يجورون عن الحق ويعدلون؛ [فيقولون اللات والعزى ومناة وأشباه ذلك] ومنه لحد القبر، لأنه في جانب. قال الزجاج: ولا ينبغي لأحد أن يدعوه بما لم يسم به نفسه، فيقول: يا جواد، ولا يقول: يا سخي، ويقول: يا قوي، ولا يقول: يا جلد، ويقول: يا رحيم، ولا يقول: يا رفيق، لأنه لم يصف نفسه بذلك. قال أبو سليمان الخطابي: ودليل هذه الآية أن الغلط في أسمائه والزيغ عنها إلحاد، ومما يسمع على ألسنة العامة قولهم: يا سبحان، يا برهان، وهذا مهجور مستهجن لا قدوة فيه، وربما قال بعضهم: يا رب طه ويس. وقد أنكر ابن عباس على رجل قال: يا رب القرآن. وروي عن ابن عباس أن إلحادهم في أسمائه أنهم سموا بها أوثانهم، وزادوا فيها ونقصوا منها، فاشتقوا اللات من اللّه، والعزى من العزيز، ومناة من المنان. فصل والجمهور على أن هذه الآية محكمة، لأنها خارجة مخرج التهديد، كقوله: {ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} {٧٤،١١} وقد ذهب بعضهم إلى أنها منسوخة بآية القتال، لأن قوله: {وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَـئِهِ} يقتضي الإعراض عن الكفار، وهذا قول ابن زيد. ١٨١ قوله تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقّ} أي: يعملون به، {وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أي: وبالعمل به يعدلون. وفيمن أريد بهذه الآية أربعة أقوال. احدها: أنهم المهاجرون والأنصار والتابعون باحسان من هذه الأمة، قاله ابن عباس. وكان ابن جريج: يقول: ذُكر لنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: {هَـٰذِهِ}. وقال قتادة: بلغنا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا تلا هذه الآية قال: {هَـٰذِهِ لَكُمْ وَقَدْ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ثم يقرأ: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}. والثاني: أنهم من جميع الخلق، قاله ابن السائب. والثالث: أنهم الأنبياء. والرابع: أنهم العلماء. ذكر القولين الماوردي. ١٨٢ انظر تفسير الآية:١٨٣ ١٨٣ قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـئَايَـٰتِنَا} قال أبو صالح عن ابن عباس: هم أهل مكة. وقال مقاتل: نزلت في المستهزئين من قريش. قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُم} قال الخليل بن احمد: سنطوي أعمارهم في اغترار منهم. وقال أبو عبيدة: الاستدراج: أن يتدرج إلى الشيء في خفية قليلا قليلا ولا يهجم عليه، وأصله: من الدَّرَجة، وذلك أن الراقي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة؛ ومنه: دَرَج الكتابَ: إذا طواه شيئا بعد شيء؛ ودرج القوم: إذا ماتوا بعضهم في أثر بعض. وقال اليزيدي: الاستدراج: أن يأتيه من حيث لا يعلم. وقال ابن قتيبة: هو ان يذيقهم من بأسه قليلا قليلا من حيث لا يعلمون، ولا يباغتهم به ولا يجاهرهم. وقال الأزهري: سنأخذهم قليلا قليلا من حيث لا يحتسبون؛ وذلك أن اللّه تعالى يفتح عليهم من النعم ما يغتبطهم به ويركنون إليه، ثم يأخذهم على غرتهم أغفل ما يكونون. قال الضحاك: كلما جددوا لنا معصية جددنا لهم نعمة. وفي قوله: {مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} قولان. احدهما: من حيث لا يعلمون بالاستدراج. والثاني: بالهلكة. قوله تعالى: {وَأُمْلِى لَهُمْ} الإملاء: الإمهال والتأخير. قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ} قال ابن عباس: إن مكري شديد. وقال ابن فارس: الكيد: المكر؛ فكل شيء عالجته فأنت تكيده. قال المفسرون: مكر اللّه وكيده: مجازاة أهل المكر والكيد على نحو ما بينا في سورة {البقرة} و{ءالَ عِمْرَانَ} من ذكر الاستهزاء والخداع والمكر. ١٨٤ انظر تفسير الآية:١٨٦ ١٨٥ انظر تفسير الآية:١٨٦ ١٨٦ قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ} سبب نزولها: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، علا على الصفا ليلة، ودعا قريشا فخذا فخذا: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، فحذرهم بأس اللّه وعقابه، فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون، بات يصوت حتى الصباح، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن، وقتادة. ومعنى الآية: أولم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة، أي: جنون، فحثهم على التفكر في أمره ليعلموا أنه بريء من الجنون. {إِنْ هُوَ} أي: ما هو {إِلاَّ نَذِيرٌ} أي: مخوف {مُّبِينٌ} يبين طريق الهدى. ثم حثهم على النظر المؤدي إلى العلم فقال: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ} ليستدلوا على أن لها صانعا مدبرا؛ وقد سبق بيان الملكوت في سورة الأنعام. قوله تعالى: {وَمَا خَلَقَ ٱللّه مِن شَىْء وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ ٱقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} قرأ ابن مسعود، وأبي والجحدري: {آجالهم}. ومعنى الآية: أولم ينظروا في الملكوت وفيما خلق اللّه من الأشياء كلها، وفي أن عسى أن تكون آجالهم قد قربت فيهلكوا على الكفر، ويصيروا إلى النار {أَجَلُهُمْ فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} يعني القرآن وما فيه من البيان. ثم ذكر سبب إعراضهم عن الإيمان، فقال: {مَن يُضْلِلِ ٱللّه فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: {وَنَذَرُهُمْ} بالنون والرفع. وقرأ أبو عمرو: بالياء والرفع. وقرأ حمزة، والكسائي: {وَيَذَرُهُمْ} بالياء مع الجزم خفيفة. فمن قرأ بالرفع، استأنف، ومن جزم {وَيَذَرُهُمْ} عطف على موضع الفاء. قال سيبويه: وموضعها جزم؛ فالمعنى: من يضلل اللّه يذره؛ وقد سبق في سورة {البقرة} معنى الطغيان والعمه. ١٨٧ قوله تعالى: {يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ} في سبب نزولها قولان. احدهما: أن قوما من اليهود قالوا: يا محمد، أخبرنا متى الساعة؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. والثاني: أن قريشا قالت: يا محمد، بيننا وبينك قرابة، فبين لنا متى الساعة؟ فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. وقال عروة: الذي سأله عن الساعة عتبة بن ربيعة. والمراد بالساعة هاهنا: التي يموت فيها الخلق. قوله تعالى: {أَيَّانَ مُرْسَـٰهَا} قال أبو عبيدة: اي: متى مرساها؟ أي: منتهاها. ومرسا السفينة: حيث تنتهي. وقال ابن قتيبة: {أَيَّانَ}: بمعنى: {مَتَىٰ}؛ ومتى بمعنى: أي حين، ونرى أن أصلها أيّ أوان، فحذفت الهمزة [والواو]، وجعل الحرفان واحدا، ومعنى الآية: متى ثبوتها؟ يقال: رسا في الأرض، أي: ثبت، ومنه قيل للجبال: رواسي. قال الزجاج: ومعنى الكلام: متى وقوعها؟. قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي} أي: قد استأثر بعلمها {لاَ يُجَلّيهَا} أي: لا يظهرها في وقتها {إِلاَّ هُوَ}. قوله تعالى: {ثَقُلَتْ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ} فيه أربعة أقوال. احدها: ثقل وقوعها على أهل السموات والأرض، قاله ابن عباس، ووجهه أن الكل يخافونها، محسنهم ومسيئهم. والثاني: عظم شأنها في السموات والأرض، قاله عكرمة، ومجاهد، وابن جريج. والثالث: خفي أمرها، فلم يعلم متى كونها، قاله السدي. والرابع: أن {فِى} بمعنى {عَلَىٰ} فالمعنى: ثقلت على السموات والأرض، قاله قتادة. قوله تعالى: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} أي: فجأة. قوله تعالى: {كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا} فيه أربعة أقوال. احدها: أنه من المقدم والمؤخر، فتقديره: يسألونك عنها كأنك حفي، أي: بر بهم، كقولهم: {إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً}. قال العوفي عن ابن عباس، وأسباط عن السدي: كأنك صديق لهم. والثاني:كأنك حفي بسؤالهم، مجيب لهم. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: كأنك يعجبك سؤالهم. وقال خصيف عن مجاهد: كأنك تحب أن يسألوك عنها. وقال الزجاج: كأنك فرح بسؤالهم. والثالث: كأنك عالم بها، قاله الضحاك عن ابن عباس، وهو قول ابن زيد، والفراء. والرابع: كأنك استحفيت السؤال عنها حتى علمتها، قاله ابن ابي نجيح عن مجاهد. وقال عكرمة: كأنك سؤول عنها. وقال ابن قتيبة: كأنك معني بطلب علمها. وقال ابن الانباري: فيه تقديم وتأخير، تقديره: يسألونك عنها كأنك حفي بها، والحفي في كلام العرب: المعني. قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ٱللّه} أي: لا يعلمها إلا هو {وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} قال مقاتل في آخرين: المراد بالناس هاهنا: أهل مكة. وفي قوله: {لاَّ يَعْلَمُونَ} قولان. احدهما: لا يعلمون أنها كائنة، قاله مقاتل. والثاني: لا يعلمون أن هذا مما استأثر اللّه بعلمه، قاله أبو سليمان الدمشقي. ١٨٨ قوله تعالى: {قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا} سبب نزولها: أن أهل مكة قالوا: يا محمد، ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو، فتشتري فتربح، وبالأرض التي تريد أن تجدب، فترتحل عنها إلى ما قد أخصب؟ فنزلت هذه الآية، روي عن ابن عباس. وفي المراد بالنفع والضر قولان. احدهما: أنه عام في جميع ما ينفع ويضر، قاله الجمهور. والثاني: أن النفع: الهدى، والضر: الضلالة، قاله ابن جريج. قوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَاء ٱللّه} أي: إلا ما أراد أن أملكه بتمليكه إياي؛ ومن هو على هذه الصفة فكيف يعلم علم الساعة؟. قوله تعالى: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ} فيه أربعة أقوال. احدها: لو كنت أعلم بجدب الأرض وقحط المطر قبل كون ذلك لهيأت لسنة الجدب ما يكفيها، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لو كنت أعلم ما أربح فيه إذا اشتريته لاستكثرت من الخير، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: لو كنت أعلم متى أموت لاستكثرت من العمل الصالح، قاله مجاهد. والرابع: لو كنت أعلم ما أسأل عنه من الغيب لأجبت عنه. {وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوء} أي: لم يلحقني تكذيب، قاله الزجاج. فأما الغيب: فهو كل ما غاب عنك. ويخرج في المراد بالخير هاهنا ثلاثة أقوال. احدها: أنه العمل الصالح. والثاني: المال. والثالث: الرزق. قوله تعالى: {وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوء} فيه أربعة اقوال. احدها: أنه الفقر، قاله ابن عباس. والثاني: أنه كل ما يسوء، قاله ابن زيد. والثالث: الجنون، قاله الحسن. والرابع: التكذيب، قاله الزجاج. فعلى قول الحسن، يكون هذا الكلام مبتدأ، والمعنى: وما بي من جنون إنما أنا نذير، وعلى باقي الأقوال يكون متعلقا بما قبله. ١٨٩ انظر تفسير الآية:١٩٠ ١٩٠ قوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ} يعني بالنفس: آدم، وبزوجها: حواء. ومعنى: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ليأنس بها ويأوي إليها. {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} أي: جامعها. قال الزجاج: وهذا أحسن كناية عن الجماع. والحمل، بفتح الحاء: ما كان في بطن، أو أخرجته شجرة. والحِمل، بكسر الحاء: ما يُحمل. والمراد بالحمل الخفيف: الماء. قوله تعالى: {فَمَرَّتْ بِهِ} أي: استمرت به، قعدت وقامت ولم يُثقلها. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وابن عباس، والضحاك: {تُحَرّكْ بِهِ}. وقرأ أبي بن كعب، والجوني: {تُحَرّكْ بِهِ} بزيادة ألف. وقرأ عبد اللّه ابن عمرو، والجحدري: {فمارّت} به بألف وتشديد الراء. وقرأ أبو العالية، وايوب، ويحيى بن يعمر: {خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} خفيفة الراء، أي: شكت وتمارت أحملت، أم لا؟ {فَلَمَّا أَثْقَلَت} أي: صار حملها ثقيلا. وقال الأخفش: صارت ذا ثقل. يقال: أثمرنا، أي: صرنا ذوي ثمر. قوله تعالى: {دَّعَوَا ٱللّه رَبَّهُمَا} يعني آدم وحواء {لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صَـٰلِحاً} وفي المراد بالصالح قولان. احدهما: أنه الإنسان المشابه لهما، وخافا أن يكون بهيمة، هذا قول الأكثرين. والثاني: أنه الغلام، قاله الحسن، وقتادة. شرح السبب في دعائهماذكر أهل التفسير أن إبليس جاء حواء، فقال: ما يدريك ما في بطنك، لعله كلب أو خنزير أو حمار؛ وما يدريك من أين يخرج، ايشق بطنك أم يخرج من فيك، أو من منخريك؟ فأحزنها ذلك، فدعوا اللّه حينئذ، فجاء إبليس: فقال: كيف تجدينك؟ قالت: ما أستطيع القيام إذا قعدت، قال: أفرأيت إن دعوت اللّه، فجعله إنسانا مثلك، ومثل آدم، أتسمينه باسمي؟ قالت: نعم. فلما ولدته سويا، جاءها إبليس فقال: لم لا تسمينه بي كما وعدتني؟ فقالت:وما اسمك؟ قال: الحارث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فسمته: عبد الحارث، وقيل: عبد شمس برضى آدم، فذلك قوله: {فَلَمَّا ءاتَـٰهُمَا صَـٰلِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء} قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: {شُرَكَاء} بضم الشين والمد، جمع شريك. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم: {شِركا} مكسورة. الشين على المصدر، لا على الجمع. قال أبو علي: من قرأ {شِرْكا} حذف المضاف، كأنه أراد: جعلا له ذا شرك، وذوي شريك؛ فيكون المعنى: جعلا لغيره شركا، لأنه إذا كان التقدير: جعلا له ذوي شرك، فالمعنى: جعلا لغيره شركا، وهذه القراءة في المعنى كقراءة من قرأ {ٱللّه شُرَكَاء}. وقال غيره: معنى شركاء: شريكا فأوقع الجمع موقع الواحد كقوله: {ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} والمراد بالشريك: إبليس، لأنهما أطاعاه في الاسم، فكان الشرك في الطاعة، لا في العبادة؛ ولم. يقصدا أن الحارث ربهما، لكن قصدا أنه سبب نجاة ولدهما؛ وقد يطلق العبد على من ليس بمملوك. قال الشاعر: وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا وما في إلا تلك من شيمة العبد وقال مجاهد: كان لا يعيش لآدم ولد، فقال الشيطان: إذا ولد لكما ولد فسمياه عبد الحارث، فأطاعاه في الاسم، فذلك قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَـٰهُمَا} هذا قول الجمهور، وفيه قول ثان، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما أشرك آدم، إن أول الآية لشكر، وآخرها مثل ضربه اللّه لمن يعبده في قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتَـٰهُمَا}. وروى قتادة عن الحسن قال: هم اليهود والنصارى، رزقهم اللّه أولادا فهوَّدوهم ونصَّروهم. وروي عن الحسن، وقتادة قالا: الضمير في قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء} عائد إلى النفس وزوجه من ولد آدم، لا إلى آدم وحواء. وقيل: الضمير راجع إلى الولد الصالح، وهو السليم الخلق، فالمعنى: جعل له ذلك الولد شركاء. وإنما قيل: {جَعَلاَ} لأن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى. قال ابن الانباري: الذين جعلوا له شركاء: اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار الذين هم أولاد آدم وحواء. فتأويل الآية: فلما آتاهما صالحا جعل أولادهما له شركاء، فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما قال: {وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ}. وذهب السدي إلى أن قوله: {فَتَعَـٰلَى ٱللّه عَمَّا يُشْرِكُونَ} في مشركي العرب خاصة، وأنها مفصولة عن قصة آدم وحواء. ١٩١ قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَالاً يَخْلُقُ شَيْئاً} قال ابن زيد: هذه لآدم وحواء حيث سميا ولدهما عبد شمس، والشمس لا تخلق شيئا. وقال غيره: هذا راجع إلى الكفار حيث أشركوا باللّه الاصنام، وهي لا تخلق شيئا وقوله: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي: وهي مخلوقة. قال ابن الانباري: وإنما قال: {مَا} ثم قال: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} لأن {مَا} تقع على الواحد والاثنين والجميع؛ وإنما قال: {وَهُمْ} وهو يعني الأصنام، لأن عابديها أدعوا أنها تعقل وتميز، فأجريت مجرى الناس، فهو كقوله: {رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ} وقوله {يأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَـٰكِنَكُمْ} وقوله: {وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} قال الشاعر: تمززتها والديك يدعو صباحه إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا وأنشد ثعلب لعبدة بن الطبيب: إذ أشرف الديك يدعو بعض أسرته لدى الصباح وهم قوم معازيل لما جعله يدعو، جعل الديكة قوما، وجعلهم معازيل، وهم الذين لا سلاح معهم، وجعلهم أسرة، وأسرة الرجل: رهطه وقومه. ١٩٢ قوله تعالى: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا} يقول: إن الاصنام لا تستطيع نصر من عبدها، ولا تمنع من نفسها. ١٩٣ قوله تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ} فيه قولان. احدهما: أنها ترجع إلى الأصنام، فالمعنى: وإن دعوتم أيها المشركون أصنامكم إلى سبيل رشاد لا يتبعوكم، لأنهم لا يعقلون. والثاني: أنها ترجع إلى الكفار، فالمعنى: وإن تدع يا محمد هؤلاء المشركين إلى الهدى، لا يتبعوكم، فدعاؤكم إياهم وصمتكم عنهم سواء، لأنهم لا ينقادون إلى الحق. وقرأ نافع: {لاَ يَتَّبِعُوكُمْ} بسكون التاء. ١٩٤ انظر تفسير الآية:١٩٦ ١٩٥ انظر تفسير الآية:١٩٦ ١٩٦ قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللّه} يعني الأصنام {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} في أنهم مسخرون مذللون لأمر اللّه. وإنما قال {عِبَادِ} وقال: {فَٱدْعُوهُمْ}، وإن كانت الأصنام جمادا، لما بينا عند قوله: {وَهُمْ يُخْلَقُونَ}. قوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} أي: فليجيبوكم {إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ} أن لكن عندهم نفعا وثوابا. {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} في المصالح {أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} في دفع ما يؤذي. وقرأ أبو جعفر {يَبْطِشُونَ} بضم الطاء هاهنا وفي {ٱلْقَصَصِ} و{الدخان}. {أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا} المنافع من المضار {أَمْ لَهُمْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} تضرعكم ودعاءكم؟ وفي هذا تنبيه على تفضيل العابدين على المعبودين، وتوبيخ لهم حيث عبدوا من هم أفضل منه. {قُلِ ٱدْعُواْ شُرَكَاءكُمْ} قال الحسن: كانوا يخوفونه بآلهتهم، فقال اللّه تعالى: {قُلِ ٱدْعُواْ شُرَكَاءكُمْ}، {ثُمَّ} أنتم وهم {كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} أي: لا تؤخروا ذلك. وكان ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، يقرؤون: {ثُمَّ كِيدُونِ} بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ أبو عمرو، ونافع: في رواية ابن حماد بالياء في الوصل. وروى ورش، وقالون، والمسيبي: بغير ياء في الوصل، ولا وقف. فأما {تَنظُرُونَ} فأثبت فيها الياء يعقوب في الوصل والوقف. {إِنَّ وَلِيّىَ ٱللّه} أي: ناصري {ٱلَّذِى نَزَّلَ ٱلْكِتَـٰبَ} وهو القرآن، أي كما أيدني بانزال الكتاب ينصرني. ١٩٧ قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ} يعني الأصنام {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} أي: لا يقدرون على منعكم ممن أرادكم بسوء، ولا يمنعون أنفسهم من سوء أريد بهم. ١٩٨ قوله تعالى: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى ٱلْهُدَىٰ لاَ يَسْمَعُواْ} في المراد بهؤلاء قولان. احدهما: أنهم الأصنام. ثم في قوله: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} قولان. احدهما: يواجهونك، تقول العرب: داري تنظر إلى دارك، {وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} لأنه ليس فيهم أرواح. والثاني: وتراهم كأنهم ينظرون إليك، لأن لهم أعينا مصنوعة، فأسقط كاف التشبيه، كقوله: {وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَـٰرَىٰ} أي: كأنهم سكارى، {وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} في الحقيقة. وإنما أخبر عنهم بالهاء والميم، لأنهم على هيئة بني آدم. والقول الثاني: أنهم المشركون، فالمعنى: وتراهم ينظرون إليك بأعينهم ولا يبصرون بقلوبهم. ١٩٩ قوله تعالى: {خُذِ ٱلْعَفْوَ} العفو الميسور، وقد سبق شرحه في سورة {البقرة}. وفي الذي أمر بأخذ العفو منه ثلاثة اقوال. احدها: أخلاق الناس، قاله ابن الزبير، والحسن، ومجاهد. فيكون المعنى: إقبل الميسور من أخلاق الناس، ولا تستقص عليهم فتظهر منهم البغضاء. والثاني: أنه المال، وفيه قولان. احدهما: أن المراد بعفو المال: الزكاة، قاله مجاهد في رواية الضحاك. والثاني: أنها صدقة كانت تؤخذ قبل فرض الزكاة، ثم نسخت بالزكاة، روي عن ابن عباس. والثالث: أن المراد به: مساهلة المشركين والعفو عنهم، ثم نسخ بآية السيف، قاله ابن زيد. قوله تعالى: {وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ} أي: بالمعروف. وفي قوله: {وَأَعْرِض عَنِ ٱلْجَـٰهِلِينَ} قولان. احدهما: أنهم المشركون، أمر بالإعراض عنهم، ثم نسخ ذلك بآية السيف. والثاني: أنه عام فيمن جهل، أمر بصيانة النفس عن مقابلتهم على سفههم، وإن وجب عليه الإنكار عليهم. وهذه الآية عند الأكثرين كلها محكمة، وعند بعضهم أن وسطها محكم، وطرفيها منسوخان على ما بينا. ٢٠٠ انظر تفسير الآية:٢٠١ ٢٠١ قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ} قال ابن زيد: لما نزلت {خُذِ ٱلْعَفْوَ} قال النبي صلى اللّه عليه وسلم: يا رب كيف بالغضب؟ فنزلت هذه الآية. فأما قوله {وَأَمَّا} فقد سبق بيانه في سورة {البقرة} في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدِىَ}، وقال أبو عبيدة: ومجاز الكلام: وإما تستخفنك منه خفة وغضب وعجلة. وقال السدي: النزغ: الوسوسة وحديث النفس. قال الزجاج: النزغ: أدنى حركة تكون، تقول: قد نزغته: إذا حركته. وقد سبق معنى الاستعاذة. قوله تعالى: {إِذَا مَسَّهُمْ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي: {طيف} بغير ألف. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: {عَلَيْهَا طَائِفٌ} بألف ممدودا مهموزا. وقرأ ابن عباس، وابن جبير، والجحدري، والضحاك: {طيّف} بتشديد الياء من غير ألف. وهل الطائف والطيف بمعنى واحد، أم يختلفان، فيه قولان. احدهما: أنهما بمعنى واحد، وهما ما كان كالخيال والشيء يلم بك، حكي عن الفراء. وقال الأخفش: الطيف أكثر في كلام العرب من الطائف، قال الشاعر: الا بالقوم لطيف الخيال أرق من نازح ذي دلال والثاني: أن الطائف: ما يطوف حول الشيء، والطيف: اللمة والوسوسة والخَطْرة، حكي عن أبي عمرو وروي عن ابن عباس أنه قال: الطائف: اللمة من الشيطان، والطيف: الغضب. وقال ابن الانباري: الطائف: الفاعل من الطيف؛ والطيف عند أهل اللغة: اللمم من الشيطان؛ وزعم مجاهد أنه: الغضب. قوله تعالى: {ٱلشَّيْطَـٰنِ تَذَكَّرُواْ} فيه ثلاثة أقوال. احدها: تذكروا اللّه إذا هموا بالمعاصي فتركوها، قاله مجاهد. والثاني: تفكروا فيما أوضح اللّه لهم من الحجة، قاله الزجاج. والثالث: تذكروا غضب اللّه، والمعنى: إذا جرأهم الشيطان على مالا يحل، تذكروا غضب اللّه، فأمسكوا، فاذا هم مبصرون لمواضع الخطأ بالتفكر. ٢٠٢ قوله تعالى: {وَإِخْوٰنِهِمْ} في هذه الهاء والميم قولان. احدهما: أنها عائدة على المشركين؛ فتكون هذه الآية مقدمة على التي قبلها، والتقدير: وأعرض عن الجاهلين، وإخوان الجاهلين، وهم الشياطين. {يَمُدُّونَهُمْ فِى ٱلْغَىِّ} قرأ نافع: {يَمُدُّونَهُمْ} بضم الياء وكسر الميم. والباقون: بفتح الياء وضم الميم. قال أبو علي: عامة ما جاء في التنزيل فيما يحمد ويستحب: أمددت، على أفعلت كقوله: {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ} {وَأَمْدَدْنَـٰهُم بِفَـٰكِهَةٍ} وما كان على خلافه يجيء على: مددت، كقوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَـٰنِهِمْ}؛ فهذا يدل على أن الوجه فتح الياء؛ إلا أن وجه قراءة نافع بمنزلة {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} قال المفسرون: {يَمُدُّونَهُمْ فِى ٱلْغَىِّ} أي: يزينونه لهم، ويريدون منهم لزومه، فيكون معنى الكلام: أن الذين اتقوا إذا جرهم الشيطان إلى خطيئة، تابوا منها، وإخوان الجاهلين، وهم الشياطين، يمدونهم في الغي، هذا قول الأكثرين من العلماء. وقال بعضهم: الهاء والميم ترجع إلى الشياطين، وقد جرى ذكرهم لقوله: {مّنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ} فالمعنى: وإخوان الشياطين يمدونهم. والثاني: أن الهاء والميم ترجع إلى المتقين؛ فالمعنى: وإخوان المتقين من المشركين، وقيل: من الشياطين يمدونهم في الغي، أي: يريدون من المسلمين أن يدخلوا معهم في الكفر، ذكر هذا القول جماعة منهم ابن الانباري. فان قيل: كيف قال: {وَإِخْوٰنِهِمْ} وليسوا على دينهم؟ فالجواب: أنا إن قلنا: إنهم المشركون، فجائز أن يكونوا إخوانهم في النسب أو في كونهم من بني آدم، أو لكونهم يظهرون النصح كالإخوان؛ وإن قلنا: إنهم الشياطين، فجائز أن يكونوا لكونهم مصاحبين لهم، والقول الأول أصح. قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ} وقرأ الزهري، وابن أبي عبلة: {لاَ يُقْصِرُونَ} بالتشديد. قال الزجاج: يقال: أقصر يُقْصِر، وقصّر يقصِّر. قال ابن عباس: لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات، ولا الشياطين تقصر عنهم؛ فعلى هذا يكون قوله: {يُقْصِرُونَ} من فعل الفريقين، وهذا على القول المشهور؛ ويخرج على القول الثاني أن يكون هذا وصفا للاخوان فقط. ٢٠٣ قوله تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِـئَايَةٍ} يعني به: المشركين. وفي معنى الكلام قولان. احدهما: إذا لم تأتهم بآية سألوها تعنتا، قاله ابن السائب. والثاني: إذا لم تأتهم بآية لإبطاء الوحي، قاله مقاتل. وفي قوله: {لَوْلاَ ٱجْتَبَيْتَهَا} قولان. احدهما: هلا افتعلتها من تلقاء نفسك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن زيد، والفراء، والزجاج، وابن قتيبة في آخرين. وحكي عن الفراء أنه قال: العرب تقول: اجتبيت الكلام، واختلقته، وارتجلته: إذا افتعلته من قبل نفسك. والثاني: هلا طلبتها لنا قبل مسألتك، ذكره الماوردي. والأول أصح. قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى} أي: ليس الأمر لي. قوله تعالى: {هَـٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ} يعني: القرآن. قال أبو عبيدة: البصائر: بمعنى الحجج والبرهان والبيان واحدتها: بصيرة. وقال الزجاج: معنى البصائر: ظهور الشيء وبيانه. ٢٠٤ قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِىء ٱلْقُرْءانُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ} اختلفوا في نزولها على خمسة أقوال. احدها: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قرأ في الصلاة المكتوبة، فقرأ أصحابه وراءه رافعين أصواتهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. والثاني: أن المشركين كانوا يأتون رسول اللّه إذا صلى، فيقول: بعضهم لبعض: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن المسيب. والثالث: أن فتى من الأنصار كان كلما قرأ النبي صلى اللّه عليه وسلم شيئا، قرأ هو فنزلت هذه الآية، قاله الزهري. والرابع: أنهم كانوا يتكلمون في صلاتهم أول ما فرضت، فيجيء الرجل فيقول لصاحبه: كم صليتم؟ فيقول: كذا وكذا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. والخامس: أنها نزلت تأمر بالإنصات للامام في الخطبة يوم الجمعة، روي عن عائشة، وسعيد بن جبير، وعطاء، ومجاهد، وعمرو بن دينار، في آخرين. ٢٠٥ قوله تعالى: {وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} في هذا الذكر أربعة اقوال. احدها: أنه القراءة في الصلاة، قاله ابن عباس؛ فعلى هذا، أمر أن يقرأ في نفسه في صلاة الإسرار. والثاني: أنه القراءة خلف الإمام سرا في نفسه، قاله قتادة. والثالث: أنه ذكر اللّه باللسان. والرابع: أنه ذكر اللّه باستدامة الفكر، لا يغفل عن اللّه تعالى، ذكر القولين الماوردي. وفي المخاطب بهذا الذكر قولان. احدهما: أنه المستمع للقرآن، إما في الصلاة، وإما من الخطيب، قاله ابن زيد. والثاني: أنه خطاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، ومعناه عام في جميع المكلفين. قوله تعالى: {تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} التضرع: الخشوع في تواضع، والخيفة: الحذر من عقابه. قوله تعالى: {وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ} الجهر: الإعلان بالشيء، ورجل جهير الصوت: إذا كان صوته عاليا. وفي هذا نص على أنه الذكر باللسان ويحتمل وجهين. احدهما: قراءة القرآن. والثاني: الدعاء. وكلاهما مندوب إلى إخفائه، إلا أن صلاة الجهر قد بين أدبها في قوله: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} فأما الغدو فهو جمع غُدوة؛ والآصال: جمع أُصُل، والأُصُل: جمع: أصيل؛ فالآصال: جمع الجمع، والآصال: العشيات. وقال أبو عبيدة: هي ما بين العصر إلى المغرب؛ وأنشد: لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل وروي عن ابن عباس أنه قال: يعني بالغدو: صلاة الفجر، والآصال: صلاة العصر. ٢٠٦ قوله تعالى: {إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبّكَ} يعني: الملائكة {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} أي: لا يتكبرون ويتعظمون {عَنْ عِبَادَتِهِ} وفي هذه العبادة قولان. احدهما: الطاعة. والثاني: الصلاة والخضوع فيها. وفي قوله: {وَيُسَبّحُونَهُ} قولان. احدهما: ينزهونه عن السوء. والثاني: يقولون سبحان اللّه. قوله تعالى: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} أي: يصلون. وقيل: سبب نزول هذه الآية: أن كفار مكة قالوا: أنسجد لما تأمرنا؟ فنزلت هذه الآية، تخبر أن الملائكة، وهم أكبر شأنا منكم لا يتكبرون عن عبادة اللّه. وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: {إِذَا ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءواْ مِنَّا كَذٰلِكَ يُرِيهِمُ ٱللّه أَعْمَـٰلَهُمْ حَسَرٰتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَـٰرِجِينَ مِنَ ٱلنَّارِ}. |
﴿ ٠ ﴾