ÓõæÑóÉõ ÇáÊøóæúÈóÉö ãóÏóäöíøóÉñ

æóåöíó ãöÇÆóÉñ æóÊöÓúÚñ æóÚöÔúÑõæäó ÂíóÉð

سورة التوبة

١

فصل في نزولها

هي مدنية باجماعهم، سوى الآيتين في آخرها:

{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} فانها نزلت بمكة. روى البخاري في {صحيحه} من حديث البراء قال: آخر سورة نزلت {لَكُم بَرَاءةٌ}. وقد نقل عن بعض العرب أنه سمع قارئا يقرأ هذه السورة، فقال الأعرابي: إني لأحسب هذه من آخر ما نزل من القرآن. قيل له: ومن أين علمت؟ فقال: إني لأسمع عهودا تُنْبَذُ ووصايا تُنَفَّذ.

فصل

واختلفوا في أول ما نزل من {بَرَاءةٌ} على ثلاثة اقوال.

احدها: أن أول ما نزل منها قوله {لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللّه فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} قاله مجاهد.

والثاني: {ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً} قاله أبو الضحى، وأبو مالك.

والثالث: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} قاله مقاتل. وهذا الخلاف إنما هو في أول ما نزل منها بالمدينة، فانهم قد قالوا: نزلت الآيتان اللتان في آخرها بمكة.

فصل

ولها تسعة أسماء.

احدها: سورة التوبة.

والثاني: براءة؛ وهذان مشهوران بين الناس.

والثالث: سورة العذاب، قاله حذيفة.

والرابع: المقشقشة، قاله ابن عمر.

والخامس: سورة البحوث، لأنها بحثت عن سرائر المنافقين، قاله المقداد بن الأسود.

والسادس: الفاضحة، لأنها فضحت المنافقين، قاله ابن عباس.

والسابع: المبعثرة، لأنها بعثرت أخبار الناس، وكشفت عن سرائرهم، قاله الحاث بن يزيد، وابن إسحاق.

والثامن: المثيرة، لأنها أثارت مخازي المنافقين ومثالبهم، قاله قتادة.

والتاسع: الحافرة، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، قاله الزجاج.

فصل

وفي سبب امتناعهم من كتابة التسمية في أولها ثلاثة أقوال.

احدها: رواه ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى {ٱلانفَالِ} وهي من المثاني، وإلى {بَرَاءةٌ} وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما {بِسْمِ اللّه ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ}؟ فقال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أنزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب، فيقول:

{ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا}،وكانت

{لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلانفَالِ} من أوائل ما نزل بالمدينة، و{بَرَاءةٌ} من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وقُبِضَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فظننا أنها منها، فمن ثم قرنتُ بينهما ولم أكتب بينهما: {بِسْمِ اللّه ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ}. وذكر نحو هذا المعنى عن أبي بن كعب. قال الزجاج: والشبه الذي بينهما: أن في الأنفال ذكر العهود، وفي {بَرَاءةٌ} نقضها. وكان قتادة يقول: هما سورة واحدة.

والثاني: رواه محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: لِمَ لم تكتبوا في براءة {بِسْمِ اللّه ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ}؟ فقال: يا بني، إن براءة نزلت بالسيف وإن {بِسْمِ اللّه ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ} أمانٌ. وسئل سفيان بن عيينة عن هذا، فقال: لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين.

والثالث: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما كتب في صلح الحديبية {بِسْمِ اللّه ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ} لم يقبلوها وردوها، فما ردها اللّه عليهم، قاله عبد العزيز بن يحيى المكي.

فصل

أما سبب نزولها، فقال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهودا بنتها مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأمره اللّه تعالى بالقاء عهودهم إليهم، فأنزل {بَرَاءةٌ} في سنة تسع،

فبعث رسول اللّه أبا بكر أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج في تلك السنة، وبعث معه صدرا من {بَرَاءةٌ} ليقرأها على أهل الموسم، فلما سار، دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليا فقال: {أَخْرَجَ مّنْ أُوْلَـئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ وأذن في الناس بذلك} فخرج علي على ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر، فرجع أبو بكر فقال: يا رسول اللّه، أنزل في شأني شيء؟ قال: {لا وَلَـٰكِن لاَّ يَبْلُغَ عَنّي إِلاَّ رَجُلٌ مِنّي أَمَّا تَرْضَىٰ إِنَّكَ كُنتَ}؟ قال: بلى يا رسول اللّه، فسار أبو بكر أميرا على الحج، وسار علي ليؤذن ب {مُّقْتَدِرٍ أَكُفَّـٰرُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَـئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ}.

فصل وفي عدد الآيات التي بعثها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أول {بَرَاءةٌ} خمسة أقوال.

احدها: أربعون آية، قاله علي عليه السلام.

والثاني:ثلاثون آية، قاله أبو هريرة.

والثالث: عشر آيات، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والرابع: سبع آيات، رواه ابن جريج عن عطاء.

والخامس: تسع آيات، قاله مقاتل.

فصل

فان توهم متوهم أن في أخذ {بَرَاءةٌ} من أبي بكر، وتسليمها إلى علي، تفضيلا لعلي على أبي بكر، فقد جهل، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أجرى العرب في ذلك على عادتهم. قال الزجاج: وقد جرت عادة العرب في عقد عهدها ونقضها، أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها، وجائز أن تقول العرب إذا تلا عليها نقض العهد من ليس من رهط النبي صلى اللّه عليه وسلم: هذا خلاف ما نعراف فينا في نقض العهود، فأزاح النبي صلى اللّه عليه وسلم العلة بما فعل. وقال عمرو بن بحر: ليس هذا بتفضيل لعلي على أبي بكر، وإنما عاملهم بعادتهم المتعارفة في حل العقد، وكان لا يتولى ذلك إلا السيد منهم، أو رجل من رهطه دَنِيا، كأخ، أو عم؛ وقد كان أبو بكر في تلك الحجة الإمام، وعلي ياتم به، وأبو بكر الخطيب، وعلي يسمع. وقال أبو هريرة: بعثني أبو بكر في تلك الحجة مع المؤذنين الذين بعثهم يؤذنون بمنى: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فأذن معنا علي ب {بَرَاءةٌ} وبذلك الكلام. وقال الشعبي: بعث رسول اللّه عليا يؤذن بأربع كلمات: {إِلاَّ لاِجَلٍ ٱلْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِى ٱلاْرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَٱعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللّه وَأَنَّ ٱللّه مُخْزِى ٱلْكَـٰفِرِينَ وَأَذَانٌ مّنَ ٱللّه وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجّ ٱلاْكْبَرِ أَنَّ ٱللّه بَرِىء مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}.

فصل

فأما التفسير، فقوله تعالى: {بَرَاءةٌ} قال الفراء: هي مرفوعة باضمار {هَـٰذِهِ}، ومثله: {سُورَةٌ أَنزَلْنَـٰهَا}. وقال الزجاج: يقال بَرِئت من الرجل والدين براءة، وبرئت من المرض، وبرأت أيضا أبرأ برءا، وقد رووا: برأت أبرؤ بروءا. ولم نجد في مالامه همزة: فعلت أفعل، إلا هذا الحرف. ويقال: بريت القلم، وكل شيء نحتّه: أبريه بريا، غير مهموز. وقرأ أبو رجاء، ومورق، وابن يعمر: {بَرَاءةٌ} بالنصب.

قال المفسرون: والبراءة هاهنا: قطع الموالاة، وارتفاع العصمة. وزوال الأمان. والخطاب في قوله: {إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} لأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والمراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لأنه هو الذي كان يتولى المعاهدة، وأصحابه راضون؛ فكأنهم بالرضا عاهدوا أيضا؛ وهذا عام في كل من عاهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقال مقاتل: هم ثلاثة أحياء من العرب: خزاعة، وبنو مدلج، وبنو خزيمة.

٢

قوله تعالى: {فَسِيحُواْ فِى ٱلاْرْضِ} أي: انطلقوا فيها آمنين لا يقع بكم منا مكروه.

إن قال قائل: هذه مخاطبة شاهد، والآية الأولى إخبار عن غائب،

فعنه جوابان.

احدهما: أنه جائز عند العرب الرجوع من الغيبة إلى الخطاب.

قال عنترة:

شطت مزار العاشقين فأصبحت  عسرا علي طلابك ابنة مخرم

هذا قول أبي عبيدة.

والثاني: أن في الكلام إضمارا، تقديره: فقل لهم سيحوا في الارض، أي: اذهبوا فيها، وأقبلوا، وأدبروا، وهذا قول الزجاج. واختلفوا.

فيمن جعلت له هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقوال.

احدها: أنها أمان لأصحاب العهد، فمن كان عهده أكثر منها حط إليها، ومن كان عهده أقل منها رفع إليها، ومن لم يكن له عهد فأجله انسلاح المحرم خمسون ليلة، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك.

والثاني: أنها للمشركين كافة، من له عهد، ومن ليس له عهد، قاله مجاهد، والزهري، والقرظي.

والثالث: أنها أجل لمن كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد آمنه أقل من أربعة أشهر، أو كان أمانه غير محدود؛ فأما من لا أمان له، فهو حرب، قاله ابن اسحاق.

والرابع: أنها أمان لمن لم يكن له أمان ولا عهد؛ فأما أرباب العهود، فهم على عهودهم إلى حين انقضاء مددهم، قاله ابن السائب. ويؤكده ما روي: أن عليا نادى يومئذ: ومن كان بينه وبين رسول اللّه عهد، فعهده إلى مدته. وفي بعض الألفاظ: فأجله أربعة أشهر.

واختلفوا في مدة هذه الأربعة الأشهر على أربعة أقوال.

احدها: أنها الأشهر الحرم، رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، قاله ابن عباس.

والثاني: أن أولها يوم الحج الأكبر، وهو يوم النحر، وآخرها العاشر من ربيع الآخر، قاله مجاهد، والسدي، والقرظي.

والثالث: أنها شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، لأن هذه الآية نزلت في شوال، قاله الزهري. قال أبو سليمان الدمشقي: وهذا أضعف الأقوال، لأنه لو كان كذلك، لم يجز تأخير إعلامهم به إلى ذي الحجة، إذ كان لا يلزمهم الأمر إلا بعد الإعلام.

والرابع: أن أولها العاشر من ذي القعدة، وآخرها العاشر من ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك اليوم، ثم صار في السنة الثانية في العشر من ذي الحجة، وفيها حج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال: {ءانٍ} ذكره الماوردي. قوله تعالى:

{ٱلاْرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَٱعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللّه} أي: وإن أجلتم هذه الأربعة الأشهر فلن تفوتوا اللّه. قوله تعالى:

{وَأَنَّ ٱللّه مُخْزِى ٱلْكَـٰفِرِينَ} قال الزجاج: الأجود: فتح {ءانٍ} على معنى: اعلموا أن، ويجوز كسرها على الاستئناف، وهذا ضمان من اللّه نصرة المؤمنين على الكافرين.

٣

قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مّنَ ٱللّه وَرَسُولِهِ} أي: إعلام؛ ومنه أذان الصلاة. وقرأ الضحاك، وأبو المتوكل، وعكرمة، والجحدري، وابن يعمر: {وَأَذّن} بكسر الهمزة وقصرها ساكنة الذال من غير ألف. قوله تعالى:

{إِلَى ٱلنَّاسِ} أي: للناس. يقال: هذا إعلام لك، وإليك. والناس هاهنا عام في المؤمنين والمشركين.

وفي يوم الحج الأكبر ثلاثة أقوال.

احدها: أنه يوم عرفة، قاله عمر بن الخطاب، وابن الزبير، وأبو جحيفة، وطاووس، وعطاء.

والثاني: يوم النحر، قاله أبو موسى الأشعري، والمغيرة بن شعبة، وعبد اللّه ابن أبي أوفى، وابن المسيب، وابن جبير، وعكرمة، والشعبي، والنخعي، والزهري، وابن زيد، والسدي في آخرين. وعن علي، وابن عباس، كالقولين.

والثالث: أنه أيام الحج كلها. فعبر عن الأيام باليوم، قاله سفيان الثوري. قال سفيان: كما يقال: يوم بعاث، ويوم الجمل، ويوم صفين يراد به: أيام ذلك، لان كل حرب من هذه الحروب دامت أياما. وعن مجاهد كالأقوال الثلاثة.

وفي تسميته بيوم الحج الأكبر ثلاثة أقوال.

احدها: أنه سماه بذلك لأنه اتفق في سنة حج فيها المسلمون والمشركون، ووافق ذلك عيد اليهود والنصارى، قاله الحسن.

والثاني: أن الحج الأكبر: هو الحج، والأصغر: هو العمرة، قاله عطاء، والشعبي.

والثالث: أن الحج الأكبر: القِران، والأصغر: الإفراد، قاله مجاهد. قوله تعالى:

{أَنَّ ٱللّه بَرِىء} وقرأ الحسن، ومجاهد، وابن يعمر:

{إِنَّ ٱللّه} بكسر الهمزة. {مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ} أي: من عهد المشركين، فحذف المضاف.

{وَرَسُولُهُ} رفع على الابتداء، وخبره مضمر على معنى: ورسوله أيضا بريء. وقرأ أبو رزين، وأبو مجلز، وأبو رجاء، ومجاهد، وابن يعمر، وزيد عن يعقوب:

{وَرَسُولُهُ} بالنصب. ثم رجع إلى خطاب المشركين بقوله:

{فَإِن تُبْتُمْ} أي: رجعتم عن الشرك، {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} عن الإيمان.

٤

قوله تعالى: {إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدتُّم مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ} قال أبو صالح عن ابن عباس: فلما قرأ علي {بَرَاءةٌ}، قالت بنو ضمرة: ونحن مثلهم أيضا؟ قال: لا، لأن اللّه تعالى قد استثناكم؛ ثم قرأ هذه الآية. وقال مجاهد: هم قوم كان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد ومدة، فأُمر أن يفي لهم. قال الزجاج: معنى الكلام: وقعت البراءة من المعاهدين الناقضين للعهود، إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقضوكم، فليسوا داخلين في البراءة مالم ينقضوا العهد. قال القاضي أبو يعلى: وفصل الخطاب في هذا الباب: أنه قد كان بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين جميع المشركين عهد عام، وهو أن لا يُصدَّ أحد عن البيت، ولا يُخافَ أحد في الشهر الحرام، فجعل اللّه عهدهم أربعة اشهر، وكان بينه وبين أقوام منهم عهود إلى آجال مسماة، فأمر بالوفاء لهم، وإتمام مدتهم إذا لم يخش غدرهم.

٥

قوله تعالى: {فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلاشْهُرُ ٱلْحُرُمُ} فيها قولان.

احدهما: أنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، قاله الأكثرون.

والثاني: أنها الأربعة الأشهر التي جعلت لهم فيها السياحة، قاله الحسن في آخرين. فعلى هذا، سميت حُرما: لأن دماء المشركين حرمت فيها. قوله تعالى:

{فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ} أي: من لم يكن له عهد

{حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} قال ابن عباس: في الحل والحرم والأشهر الحرم. قوله تعالى:

{وَخُذُوهُمْ} أي: ائسروهم، والأخيذ: الأسير

{وَٱحْصُرُوهُمْ} أي: احبسوهم؛ والحصر: الحبس. قال ابن عباس: إن تحصنوا فاحصروهم. قوله تعالى:

{وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} قال الأخفش: أي على كل مرصد؛ فألقى {عَلَىٰ} واعمل {الفعل}

قال الشاعر:

نغالي اللحم للأضياف نيئا  ونرخصه إذا نضج القدور

المعنى: نغالي باللحم، فحذف الباء كما حذف {عَلَىٰ}.

وقال الزجاج: {كُلَّ مَرْصَدٍ} ظرف، كقولك: ذهبت مذهبا، فلست تحتاج أن تقول في هذه الآية إلا ما تقوله في الظروف، مثل: خلف، وقدام. قوله تعالى:

{فَإِن تَابُواْ} أي: من شركهم.

وفي قوله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ} قولان.

احدهما: اعترفوا بذلك.

والثاني: فعلوه.

فصل

واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال.

احدها: أن حكم الأسارى كان وجوب قتلهم، ثم نسخ بقوله:

{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} قاله الحسن، وعطاء في آخرين.

والثاني: بالعكس، وأنه كان الحكم في الأسارى، أنه لا يجوز قتلهم صبرا، وإنما يجوز المن أو الفداء بقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} ثم نسخ بقوله

{فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ} قاله مجاهد، وقتادة.

والثالث: أن الآيتين محكمتان، والأسير إذا حصل في يد الإمام، فهو مخير، إن شاء من عليه، وإن شاء فاداه، وإن شاء قتله صبرا، أي ذلك رأى فيه المصلحة للمسلمين فعل، هذا قول جابر بن زيد، وعليه عامة الفقهاء، وهو قول الإمام احمد.

٦

قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ}

قال المفسرون: وإن أحد من المشركين الذين أمرتك بقتلهم استأمنك يبتغي أن يسمع القرآن وينظر فيما أمر به ونهي عنه، فأجره، ثم أبلغه الموضع الذي يأمن فيه.

وفي قوله: {ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} قولان.

احدهما: أن المعنى: ذلك الذي أمرناك به من أن يُعرّفوا ويجاروا لجهلهم بالعلم.

والثاني: ذلك الذي أمرناك به من رده إلى مأمنه إذا امتنع من الإيمان، لأنهم قوم جهلة بخطاب اللّه.

٧

قوله تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} أي: لا يكون لهم ذلك

{إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} وفيهم ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم بنو ضمرة، قاله ابن عباس.

والثاني: أنهم قريش، قاله ابن عباس أيضا. وقال قتادة: هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم زمن الحديبية، فنكثوا وظاهروا المشركين.

والثالث: أنهم خزاعة، قاله مجاهد. وذكر أهل العلم بالسير: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما صالح سهيل بن عمرو في غزوة الحديبية، كتب بينه وبينه: «هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد اللّه وسهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض، على أنه لا إسلال ولا إغلال، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل، وأنه من أتى محمدا منهم بغير إذن وليه رده إليه، وأنه من أتى قريشا من اصحاب محمد لم يردوه، وأن محمدا يرجع عنا عامه هذا بأصحابه، ويدخل علينا في قابل في أصحابه، فيقيم بها ثلاثا، لا يدخل علينا بسلاح، إلا سلاح المسافر، السيوف في القرب». فوثبت خزاعة. فقالوا: نحن ندخل في عهد محمد وعقده، ووثبت بنو بكر فقالوا: نحن ندخل في عهد قريش وعقدها، ثم إن قريشا أعانت بني بكر على خزاعة بالرجال والسلاح فبيتوا خزاعة ليلا، فقتلوا منهم عشرين رجلا. ثم إن قريشا ندمت على ما صنعت، وعلموا أن هذا نقض للعهد والمدة التي بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وخرج قوم من خزاعة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبروه بما أصابهم، فخرج إليهم وكانت غزاة الفتح. قال أبو عبيدة: الإسلال: السرقة، والإغلال: الخيانة. قال ابن الأعرابي: وقوله:

{وَأَنْ بَيْنِنَا} مثل، أراد: أن صلحنا محكم مستوثق منه كأنه عيبة مشرجة. وزعم بعض المفسرين أن قوله:

{وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَـٰهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} نسخ بقوله {فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}.

٨

قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} قال الزجاج: المعنى: كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم، فحذف ذلك، لأنه قد سبق،

قال الشاعر:

وخبرتماني أنما الموت بالقرى  فكيف وهذي هضبة وقليب

أي: فكيف مات وليس بقرية؟ ومثله قول الحطيئة: فكيف ولم أعلمهم خذلوكم  على معظم ولا أديمكم قدواأي: فكيف تلومونني على مدح قوم؟ واستغني عن ذكر ذلك، لأنه قد جرى في القصيدة ما يدل على ما أضمر. وقوله: {يَظْهَرُواْ} يعني: يقدروا ويظفروا.

وفي قوله: {لاَ يَرْقُبُواْ} ثلاثة اقوال.

احدها: لا يحفظوا.

والثاني: لا يخافوا، قاله السدي.

والثالث: لا يراعوا، قاله قطرب.

وفي الإل خمسة أقوال.

احدها: أنه القرابة، رواه جماعة عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والسدي، ومقاتل، والفراء،

وأنشدوا:

إن الوشاة كثير إن أطعتهم  لا يرقبون بنا إلا ولا ذمما

وقال الآخر: لعمرك إن إلك من قريش  كإل السقب من رأل النعام

والثاني: أنه الجوار، قاله الحسن.

والثالث: أنه اللّه تعالى، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال عكرمة.

والرابع: أنه العهد، رواه خصيف عن مجاهد، وبه قال ابن زيد، وأبو عبيدة.

والخامس: أنه الحلف، قاله قتادة. وقرأ عبد اللّه بن عمرو، وعكرمة، وأبو رجاء، وطلحة بن مصرف: {إيلا} بياء بعد الهمزة. وقرأ ابن السميفع، والجحدري:

{مُّجْرِمِينَ إِلا} بفتح الهمزة وتشديد اللام. وفي المراد بالذمة ثلاثة اقوال.

احدها: أنها العهد، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك في آخرين.

والثاني: التذمم ممن لا عهد له، قاله أبو عبيدة.

وأنشد: لا يرقبون بنا إلا ولا ذمما

والثالث:الأمان، قاله اليزيدي، واستشهد بقوله: {ويسعى بذمتهم أدناهم}.

قوله تعالى: {إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوٰهِهِمْ} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: يرضونكم بأفواههم في الوفاء، وتأبى قلوبهم إلا الغدر.

والثاني: يرضونكم بأفواههم في العدة بالإيمان، وتأبى قلوبهم إلا الشرك.

والثالث: يرضونكم بأفواههم في الطاعة، وتأبى قلوبهم إلا المعصية، ذكرهن الماوردي. قوله تعالى:

{وَأَكْثَرُهُمْ فَـٰسِقُونَ} قال ابن عباس: خارجون عن الصدق، ناكثون للعهد.

٩

انظر تفسير الآية:١١

١٠

انظر تفسير الآية:١١

١١

قوله تعالى: {ٱشْتَرَوْاْ بِـئَايَـٰتِ ٱللّه ثَمَنًا قَلِيلاً}

في المشار إليهم قولان.

احدهما: أنهم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه، قاله مجاهد.

والثاني: أنهم قوم من اليهود، قاله أبو صالح. فعلى الأول، آيات اللّه: حججه. وعلى

الثاني: هي آيات التوراة. والثمن القليل: ما حصلوه بدلا من الآيات. وفي وصفه بالقليل وجهان.

احدهما: لأنه حرام، والحرام قليل.

والثاني: لأنه من عرض الدنيا الذي بقاؤه قليل.

وفي قوله: {فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ} ثلاثة اقوال.

احدها: عن بيته، وذلك حين منعوا النبي صلى اللّه عليه وسلم بالحديبية دخول مكة.

والثاني: عن دينه يمنع الناس منه.

والثالث: عن طاعته في الوفاء بالعهد.

١٢

قوله تعالى: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَـٰنَهُم} قال ابن عباس: نزلت في أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعكرمة ابن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش الذين نقضوا العهد حين أعانوا بني بكر على خزاعة حلفاء رسول اللّه، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يسير إليهم فينصر خزاعة، وهم الذين هموا باخراج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. فأما النكث، فمعناه: النقض. والأَيمان هاهنا: العهود. والطعن في الدين: أن يعاب، وهذا يوجب قتل الذمي إذا طعن في الإسلام، لأن المأخوذ عليه أن لا يطعن فيه. قوله تعالى:

{فَقَـٰتِلُواْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ} قرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {أَئِمَّةَ} بتحقيق الهمزتين. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: بتحقيق الأولى وتليين الثانية.

والمراد بأئمة الكفر: رؤوس المشركين وقادتهم.

{إِنَّهُمْ لا أَيْمَـٰنَ لَهُمْ} أي: لا عهود لهم صادقة؛ هذا على قراءة من فتح الألف، وهم الأكثرون. وقرأ ابن عامر: {لا أَيْمَـٰنَ لَهُمْ} بالكسر؛

وفيها وجهان ذكرهما الزجاج.

احدهما: أنه وصف لهم بالكفر ونفي الإيمان،

والثاني: لا أمان لهم، تقول: آمنته إيمانا،

والمعنى: فقد بطل أمانكم لهم بنقضهم.

وفي قوله: {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} قولان.

احدهما: عن الشرك.

والثاني: عن نقض العهود. وفي لعل قولان.

احدهما: أنها بمعنى الترجي، المعنى: ليرجى منهم الانتهاء، قاله الزجاج.

والثاني: أنها بمعنى {كَى}، قاله أبو سليمان الدمشقي.

١٣

انظر تفسير الآية:١٥

١٤

انظر تفسير الآية:١٥

١٥

قوله تعالى: {أَلاَ تُقَـٰتِلُونَ قَوْماً} قال الزجاج: هذا على وجه التوبيخ، ومعناه: الحض على قتالهم.

قال المفسرون: وهذا نزل في نقض قريش عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذي عاهدهم بالحديبية حيث أعانوا على خزاعة.

وفي قوله: {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ} قولان.

احدهما: أنهم أبو سفيان في جماعة من قريش، كانوا فيمن هم باخراج النبي صلى اللّه عليه وسلم من مكة.

والثاني: انهم قوم من اليهود، غدروا برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ونقضوا عهده وهموا بمعاونة المنافقين على إخراجه من المدينة.

قوله تعالى: {وَهُمْ بَدَءوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فيه قولان.

احدهما: بدؤوكم باعانتهم على حلفائكم، قاله ابن عباس.

والثاني: بالقتال يوم بدر، قاله مقاتل. قوله تعالى:

{أَتَخْشَوْنَهُمْ} قال الزجاج: أتخشون أن ينالكم من قتالهم مكروه؟ٰ فمكروه عذاب اللّه أحق أن يخشى إن كنتم مصدقين بعذابه وثوابه. قوله تعالى:

{وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} قال ابن عباس، ومجاهد: يعني: خزاعة. قوله تعالى:

{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} أي: كربها، ووجدها بمعونة قريش بني بكر عليها. قوله تعالى:

{وَيَتُوبُ ٱللّه عَلَىٰ مَن يَشَاء} قال الزجاج: هو مستأنف، وليس بجواب {قَـٰتِلُوهُمْ}

وفيمن عني به قولان.

احدهما: بنو خزاعة،

والمعنى: ويتوب اللّه على من يشاء من بني خزاعة، قاله عكرمة.

والثاني: أنه عام في المشركين كما تاب على أبي سفيان، وعكرمة، وسهيل.

{وَٱللّه عَلِيمٌ} بنيات المؤمنين، {حَكِيمٌ} فيما قضى.

١٦

قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ} في المخاطب بهذا قولان.

احدهما: أنهم المؤمنون، خوطبوا بهذا حين شق على بعضهم القتال، قاله الأكثرون.

والثاني: أنهم قوم من المنافقين كانوا يسألون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخروج معه إلى الجهاد تعذيرا، قاله ابن عباس. وإنما دخلت الميم في الاستفهام، لأنه استفهام معترض في وسط الكلام، فدخلت لتفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ. قال الفراء: ولو أريد به الابتداء، لكان إما بالألف، أو ب {هَلُ}، ومعنى الكلام: أن تتركوا بغير امتحان يبين به الصادق من الكاذب.

{وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللّه} أي: ولم تجاهدوا فيعلم اللّه وجود ذلك منكم؛ وقد كان يعلم ذلك غيبا، فأراد إظهار ما علم ليجازي على العمل. فأما الوليجة، فقال ابن قتيبة: هي البطانة من غير المسلمين، وهو أن يتخذ الرجل من المسلمين دخيلا من المشركين وخليطا ووادا، وأصله من الولوج. قال أبو عبيدة: وكل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم فهو وليجة فيهم.

١٧

انظر تفسير الآية:١٨

١٨

قوله تعالى: {ما كان للمشركين أن يعمروا مسجد اللّه} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {مَسَـٰجِدَ ٱللّه} على التوحيد، {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللّه} على الجمع. وقرأ عاصم، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: على الجمع فيهما. وسبب نزولها: أن جماعة من رؤساء قريش أسروا يوم بدر فيهم العباس بن عبد المطلب، فأقبل عليهم نفر من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعيروهم بالشرك، وجعل علي بن أبي طالب يوبخ العباس بقتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقطيعة الرحم، فقال العباس: مالكم تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقالوا: وهل لكم من محاسن؟ قالوا: نعم، لنحن أفضل منكم أجرا؛ إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل في جماعة. وفي المراد بالعمارة قولان.

احدهما: دخوله والجلوس فيه.

والثاني: البناء له وإصلاحه؛ فكلاهما محظور على الكافر. والمراد من قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} أي: يجب على المسلمين منعهم من ذلك. قال الزجاج:

وقوله {شَـٰهِدِينَ} حال المعنى: ما كانت لهم عمارته في حال إقرارهم بالكفر،

{أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ} لأن كفرهم اذهب ثوابها.

فان قيل: كيف يشهدون على أنفسهم بالكفر، وهم يعتقدون أنهم على الصواب؟ فعنه ثلاثة أجوبة.

احدها: أنه قول اليهودي: أنا يهودي، وقول النصراني: أنا نصراني، قاله السدي.

والثاني: أنهم ثبتوا على أنفسهم الكفر بعدولهم عن أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهو حق لا يخفى على مميز، فكانوا بمنزلة من شهد على نفسه.

والثالث: أنهم آمنوا بأنبياء شهدوا لمحمد صلى اللّه عليه وسلم بالتصديق، وحرضوا على اتباعه، فلما آمنوا بهم وكذبوه، دلوا على كفرهم، وجرى ذلك مجرى الشهادة على أنفسهم بالكفر، لأن الشهادة هي تبيين وإظهار، ذكرهما ابن الانباري.

فان قيل: ما وجه قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللّه مَنْ ءامَنَ بِٱللّه وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ} ولم يذكر الرسول، والإيمان لا يتم إلا به؟

فالجواب: أن فيه دليلا على الرسول، لقوله:

{لَّيْسَ ٱلْبِرَّ} أي: الصلاة التي جاء بها الرسول، قاله الزجاج.

فان قيل: {فَعَسَى} ترج وفاعل هذه الخصال مهتد بلا شك.

فالجواب: أن {عَسَى} من اللّه واجبة، قاله ابن عباس.

فان قيل: قد يعمر مساجد اللّه من ليس فيه هذه الصفات.

فالجواب: أن المراد أنه من كان على هذه الصفات المذكورة، كان من أهل عمارتها، وليس المراد أن من عمرها كان بهذه الصفة.

١٩

انظر تفسير الآية:٢٢

٢٠

انظر تفسير الآية:٢٢

٢١

انظر تفسير الآية:٢٢

٢٢

قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجّ} في سبب نزولها ستة اقوال.

احدها: رواه مسلم في {صحيحه} من حديث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج،

وقال الآخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الاسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام،

وقال آخر: الجهاد في سبيل اللّه أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال لا ترفعوا أصواتكم عند مبز رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وهو يوم الجمعة، ولكني إذا صليت الجمعة، دخلت فاستفتيت رسول اللّه فيما اختلفتم فيه، فنزلت هذه الآية.

والثاني: أن العباس بن عبد المطلب قال يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني، فنزلت هذه الآية، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

والثالث: أن المشركين قالوا: عمارة بيت اللّه الحرام، والقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد، وكانوا يفتخرون بالحرم من أجل أنهم أهله، فنزلت هذه الآية، رواه عطية العوفي عن ابن عباس.

والرابع: أن عليا والعباس وطلحة ـ يعني سادن الكعبة ـ افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب البيت، بيدي مفتاحه، ولوأشاء بت فيه. وقال العباس: أنا صاحب السقاية، والقائم عليها، ولو أشاء بت في المسجد. وقال علي: ما أدري ما تقولون، لقد صليت ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن، والشعبي، والقرظي.

والخامس: أنهم لما أمروا بالهجرة قال العباس: أنا أسقي الحاج، وقال طلحة: أنا صاحب الكعبة فلا نهاجر، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، قاله مجاهد. هكذا ذكر مجاهد، وإنما الصواب عثمان بن طلحة، لأن طلحة هذا لم يسلم.

والسادس: أن عليا قال للعباس: ألا تلحق بالنبي صلى اللّه عليه وسلم؟ فقال: ألست في أفضل من الهجرة، ألست أسقي حاج بيت اللّه واعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه الآية والتي بعدها، قاله مرةُ الهمداني، وابن سيرين. قال الزجاج: ومعنى الآية: أجعلتم أهل سقاية الحاج وأهل عمارة المسجد الحرام كمن آمن باللّه؟ فحذف المضاف، واقام المضاف إليه مقامه. قال الحسن: كان ينبذ زبيب، فيسقون الحاج في الموسم وقال ابن عباس: عمارة المسجد: تجميره، وتخليقه، فأخبر اللّه أن أفعالهم تلك لا تنفعهم مع الشرك، وسماهم ظالمين لشركهم. قوله تعالى:

{وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً} قال الزجاج: هو منصوب على التمييز. والمعنى: أعظم من غيرهم درجة. والفائز: الذي يظفر بأمنيته من الخير. فأما النعيم، فهو لين العيش، والمقيم: الدائم.

٢٣

قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وَإِخْوٰنَكُمْ أَوْلِيَاء}

في سبب نزولها: خمسة أقوال.

احدها: أنه لما أمر المسلمون بالهجرة، جعل الرجل يقول لأهله: إنا قد أمرنا بالهجرة، فمنهم من يسرع إلى ذلك، ومنهم من يتعلق به عياله وزوجته، فيقولون: ننشدك اللّه أن تدعنا إلى غير شيء، فيرق قلبه، فيجلس معهم، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: أنه لما أمر اللّه المؤمنين بالهجرة، قال المسلمون: يا نبي اللّه، إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين، قطعنا آباءنا وعشائرنا، وذهبت تجارتنا، وخربت ديارنا، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك عن ابن عباس.

والثالث: أنه لما قال العباس: أنا أسقي الحاج، وقال طلحة: أنا أحجب الكعبة فلا نهاجر، نزلت هذه الآية والتي قبلها، هذا قول قتادة، وقد ذكرناه عن مجاهد.

والرابع: أن نفرا ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بمكة، فنهى اللّه عن ولايتهم، وأنزل هذه الآية، قاله مقاتل.

والخامس: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما أمر الناس بالجهاز لنصرة خزاعة على قريش، قال أبو بكر الصديق: يا رسول اللّه، نعاونهم على قومنا؟ فنزلت هذه الآية، ذكره أبو سليمان الدمشقي.

٢٤

قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ} الآية

في سبب نزولها ثلاثة اقوال.

احدها: أنها نزلت في الذين تخلفوا مع عيالهم بمكة ولم يهاجروا، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: أن علي بن أبي طالب قدم مكة، فقال لقوم: ألا تهاجرون؟ فقالوا: نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن سيرين.

والثالث: أنه لما نزلت الآية التي قبلها، قالوا: يا رسول اللّه، إن نحن اعتزلنا من خالفنا في الدين، قطعنا آباءنا وعشيرتنا، وذهبت تجارتنا، وخربت ديارنا، فنزلت هذه الآية، ذكره بعض المفسرين في هذه الآية، وذكره بعضهم في الآية الأولى كما حكيناه عن ابن عباس. فأما العشيرة، فهم الأقارب الأدنون.

وروى أبو بكر عن عاصم: {وعشيراتكم} على الجمع. قال أبو علي: وجهه أن كل واحد من المخاطبين له عشيرة، فاذا جمعت قلت: عشيراتكم؛ وحجة من افرد: أن العشيرة واقعة على الجمع، فاستغنى بذلك عن جمعها. وقال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع عشيرة: عشيرات، إنما يجمعونها على عشائر. والاقتراف بمعنى الاكتساب. والتربص: الانتظار.

وفي قوله: {وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِىَ ٱللّه بِأَمْرِهِ} قولان.

احدهما: أنه فتح مكة، قاله مجاهد، والأكثرون. ومعنى الآية: إن كان المقام في أهاليكم، وكانت الأموال التي اكتسبتموها

{وَتِجَـٰرَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا} لفراقكم بلدكم

{وَمَسَـٰكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ} من الهجرة، فأقيموا غير مثابين حتى تفتح مكة، فيسقط فرض الهجرة.

والثاني: أنه العقاب، قاله الحسن.

٢٥

قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللّه فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} أي: في أماكن. قال الفراء: وكل جمع كانت فيه الف قبلها حرفان وبعدها حرفان لم يجر، مثل صوامع، ومساجد. وجرى {حُنَيْنٍ} لأنه اسم لمذكر، وهو واد بين مكة والطائف، وإذا سميت ماء أو واديا أو جبلا باسم مذكر لا علة فيه، أجريته، من ذلك: حنين، وبدر، وحراء، وثبير، ودابق. ومعنى الآية: أن اللّه عز وجل أعلمهم أنهم إنما يغلبون بنصر اللّه لا بكثرتهم.

وفي عددهم يوم حنين أربعة أقوال.

احدها: أنهم كانوا ستة عشر ألفا، رواه عطاء عن ابن عباس.

والثاني: عشرة آلاف، رواه أبو صالح عن ابن عباس.

والثالث: كانوا اثني عشر ألفا، قاله قتادة، وابن زيد، وابن إسحاق، والواقدي.

والرابع: أحد عشر ألفا وخمسمائة، قاله مقاتل. قال ابن عباس: فقال ذلك اليوم سلمة بن سلامة بن وقش وقد عجب لكثرة الناس: لن تغلب اليوم من قلة، فساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل، فذلك قوله:

{إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَنْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} وقال سعيد بن المسيب: القائل لذلك: أبو بكر الصديق. وحكى ابن جرير أن القائل لذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل: بل العباس. وقيل: رجل من بني بكر. قوله تعالى:

{وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلارْضُ بِمَا رَحُبَتْ} أي: برحبها. قال الفراء: والباء هاهنا بمنزلة {فِى} كما تقول: ضاقت عليكم الأرض في رحبها وبرحبها. الإشارة إلى القصة قال أهل العلم بالسيرة، لما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة، تآمر عليه أشراف هوازن وثقيف، فجاؤوا حتى نزلوا أوطاس، وأجمعوا المسير إليه، فخرج إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلما التقوا أعجبتهم كثرتهم فهزموا. وقال البراء بن عازب: لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم، فأقبلوا بالسهام، فانكشف المسلمون عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وبعضهم يقول: ثبت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ جماعة من أصحابه منهم: أبو بكر، وعمر،وعلي، والعباس، وأبو سفيان بن الحارث. وبعضهم يقول: لم يبق معه سوى العباس وأبي سفيان، فجعل النبي يقول للعباس:

{ناد يا معشر الأنصار، يا أصحاب السمرة، يا أصحاب سورة البقرة} فنادى، وكان صيتا، فأقبلوا كأنهم الإبل إذا حنت إلى أولادها، يقولون: يا لبيك، فنظر النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى قتالهم، فقال:

{الآن حمي الوطيس، أنا النبي لا كذب، انا ابن عبد المطلب} ثم قال للعباس:

{ناولني الحصيات} فناوله، فقال: {يَشْوِى ٱلْوجُوهَ} ورمى بها،

وقال: {هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ} فقذف اللّه في قلوبهم الرعب فانهزموا.

رلاىىلاوقيل: أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كفا من تراب، فرماهم به فانهزموا. وكانوا يقولون: ما بقي منا أحد إلا امتلأت عيناه بالتراب.

٢٦

انظر تفسير الآية:٢٧

٢٧

قوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ ٱللّه سَكِينَتَهُ} أي: بعد الهزيمة. قال أبو عبيدة: هي فعليه من السكون،  وأنشد:

للّه قبر غالها ماذا يجن  لقد أجن سكينة ووقارا

وكذلك قال المفسرون: الأمن والطمأنينة. قوله تعالى:

{وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} قال ابن عباس: يعني: الملائكة.

وفي عددهم يومئذ ثلاثة أقوال.

احدها: ستة عشر ألفا، قاله الحسن.

والثاني: خمسة آلاف، قاله سعيد ابن جبير.

والثالث: ثمانية، قاله مجاهد، يعني: ثمانية آلاف. وهل قاتلت الملائكة يومئذ، أم لا؟ فيه قولان. وفي قوله: {وَعذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} أربعة أقوال.

احدها: بالقتل، قاله ابن عباس، والسدي.

والثاني: بالقتل والهزيمة، قاله ابن أبزى، ومقاتل.

والثالث: بالخوف والحذر ذكره الماوردي.

والرابع: بالقتل، والأسر، وسبي الأولاد، وأخذ الأموال، ذكره بعض ناقلي التفسير. قوله تعالى:

{ثُمَّ يَتُوبُ ٱللّه مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاء} أي: يوفقه للتوبة من الشرك.

٢٨

قوله تعالى: {إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} قال أبو عبيدة: معناه: قذر. قال الزجاج: يقال لكل شيء مستقذر: نجس. وقال الفراء: لا تكاد العرب تقول: نجس، إلا وقبلها رجس، فاذا أفردوها، قالوا: نجس. وفي المراد بكونهم نجسا ثلاثة أقوال:

احدها: أنهم أنجاس الأبدان كالكلب والخنزير، حكاه الماوردي، عن الحسن، وعمر بن عبد العزيز. وروى ابن جرير عن الحسن قال: من صافحهم فليتوضأ.

والثاني: أنهم كالأنجاس لتركهم ما يجب عليهم من غسل الجنابة، وإن لم تكن أبدانهم أنجاسا، قاله قتادة.

والثالث: أنه لما كان علينا اجتنابهم كما تجتنب الأنجاس، صاروا بحكم الاجتناب كالأنجاس، وهذا قول الأكثرين، وهو الصحيح. قوله تعالى:

{فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ}

قال أهل التفسير: يريد: جميع الحرم {بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا} وهو سنة تسع من الهجرة، وهي السنة التي حج فيها أبو بكر وقرئت {بَرَاءةٌ}. وقد أخذ احمد رضي اللّه عنه بظاهر الآية، وأنه يحرم عليهم دخول الحرم، وهو قول مالك، والشافعي.

واختلفت الرواية عنه في دخولهم غير المسجد الحرام من المساجد، فروي عنه المنع أيضا إلا لحاجة، كالحرم، وهو قول مالك.

وروي عنه جواز ذلك، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز لهم دخول المسجد الحرام، وسائر المساجد. قوله تعالى:

{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} وقرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، والشعبي، وابن السميفع: {عايلة}. قال سعيد بن جبير: لما نزلت

{ءامَنُواْ إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا} شق على المسلمين، وقالوا: من يأتينا بطعامنا؟ وكانوا يقدمون عليهم بالتجارة، فنزلت:

{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} الآية. قال الأخفش: العيلة: الفقر. يقال: عال يعيل عيلة: إذا افتقر. وأعال إعالة فهو يعيل: إذا صار صاحب عيال. وقال أبو عبيدة: العيلة هاهنا: مصدر عال فلان إذا افتقر،

وأنشد:

وما يدري الفقير متى غناه  وما يدري الغني متى يعيل

وللمفسرين في قوله:{وَأَنْ} قولان.

احدهما: أنها للشرط، وهو الأظهر.

والثاني: أنها بمعنى {وَإِذْ}، قاله عمرو بن فايد. قالوا: وإنما خاف المسلمون الفقر، لأن المشركين كانوا يحملون التجارات إليهم، ويجيئون بالطعام وغيره.

وفي قوله: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللّه مِن فَضْلِهِ إِن شَاء} ثلاثة اقوال.

احدها: أنه أنزل عليهم المطر عند انقطاع المشركين عنهم، فكثر خيرهم، قاله عكرمة.

والثاني: أنه أغناهم بالجزية المأخوذة من أهل الكتاب، قاله قتادة، والضحاك.

والثالث: أن أهل نجد، وجرش، وأهل صنعاء أسلموا، فحملوا الطعام إلى مكة على الظهر، فأغناهم اللّه به، قاله مقاتل. قوله تعالى:

{إِنَّ ٱللّه عَلِيمٌ} قال ابن عباس: {عَلِيمٌ} بما يصلحكم {حَكِيمٌ} فيما حكم في المشركين.

٢٩

قوله تعالى: {قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللّه}

قال المفسرون: نزلت في اليهود والنصارى. قال الزجاج: ومعناها: لا يؤمنون باللّه إيمان الموحدين، لأنهم أقروا بأنه خالقهم، وأنه له ولد، وكذلك إيمانهم بالبعث لأنهم لا يقرون بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون. وقال الماوردي: إقرارهم باليوم الآخر يوجب الإقرار بحقوقه، وهم لا يقرون بها، فكانوا كمن لا يقر به. قوله تعالى:

{وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللّه وَرَسُولُهُ} قال سعيد بن جبير: يعني: الخمر والخنزير. قوله تعالى:

{وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ٱلْحَقِّ} في الحق قولان.

احدهما: أنه اسم اللّه، فالمعنى: دين اللّه، قاله قتادة.

والثاني: أنه صفة للدين،

والمعنى: ولا يدينون الدين الحق؛ فاضاف الاسم إلى الصفة. وفي معنى {يَدِينُونَ} قولان.

احدهما: أنه بمعنى الطاعة،

والمعنى: لا يطيعون اللّه طاعة حق، قاله أبو عبيدة.

والثاني: أنه من دان الرجل يدين كذا: إذا التزمه. ثم في جملة الكلام قولان.

احدهما: أن المعنى: لا يدخلون في دين محمد صلى اللّه عليه وسلم، لأنه ناسخ لما قبله.

والثاني: لا يعملون بما في التوراة من اتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم. قوله تعالى:

{حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ} قال ابن الانباري: الجزية: الخراج المجعول عليهم، سميت جزية لانها قضاء لما عليهم، أخذ من قولهم: جزى يجزي: إذا قضى؛ ومنه قوله تعالى:

{لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} وقوله: {وَلاَ تَجْزِى عَنْ أَحَدٌ بَعْدِكَ}.

وفي قوله: {عَن يَدٍ} ستة اقوال.

احدها: عن قهر، قاله قتادة، والسدي. وقال الزجاج: عن قهر وذل.

والثاني: أنه النقد العاجل، قاله شريك، وعثمان بن مقسم.

والثالث: أنه إعطاء المبتدىء بالعطاء، لا إعطاء المكافىء، قاله ابن قتيبة.

والرابع: أن المعنى: عن اعتراف للمسلمين بأن أيديهم فوق أيديهم.

والخامس: عن إنعام عليهم بذلك، لأن قبول الجزية منهم إنعام عليهم،

٣٠

انظر تفسير الآية:٣١

٣١

قوله تعالى: {وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللّه} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة: {عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللّه} بغير تنوين. وقرأ عاصم، والكسائي، ويعقوب، وعبد الوارث عن أبي عمرو: منونا. قال مكي بن أبي طالب: من نون عزيرا رفعه على الابتداء، و{ٱبْنُ} خبره. ولا يحسن حذف التنوين على هذا من {عُزَيْرٌ} لالتقاء الساكنين. ولا تحذف ألف {ٱبْنُ} من الخط، ويكسر التنوين لالتقاء الساكنين. ومن لم ينون {عزيرا} جعله أيضا مبتدأ،

و{عُزَيْرٌ ٱبْنُ} صفة له، فيحذف التنوين على هذا استخفافا لالتقاء الساكنين، ولأن الصفة مع الموصوف كالشيء الواحد، وتحذف ألف {ٱبْنُ} من الخط، والخبر مضمر تقديره: عزير بن اللّه نبينا وصاحبنا. وسبب نزولها: أن سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزير ابن اللّه؟ فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال ابن عمر، وابن جريج: إن القائل لذلك فنحاص. فأما العزير: فقال شيخنا أبو منصور اللغوي: هو اسم أعجمي معرب، وإن وافق لفظ العربية، فهو عبراني، كذا قرأته عليه. وقال مكي بن أبي طالب: العزير عند كل النحويين: عربي مشتق من قوله {يعزروه}. وقال ابن عباس: إنما قالوا ذلك، لأنهم لما علموا بغير الحق، أنساهم اللّه التوراة، ونسخها من صدورهم، فدعا عزير اللّه تعالى، فعاد إليه الذي نسخ من صدروهم، ونزل نور من السماء فدخل جوفه، فأذن في قومه فقال: قد آتاني اللّه التوراة؛ فقالوا: ما أوتيها إلا لأنه ابن اللّه. وفي رواية عن ابن عباس: أن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل، وهدم بيت المقدس، وقتل من قرأ التوراة، كان عزير غلاما، فتركه. فلما توفي عزير ببابل، ومكث مائة عام، ثم بعثه اللّه تعالى إلى بني اسرائيل، فقال: أنا عزير، فكذبوه وقالوا: قد حدثنا آباؤنا أن عزيرا مات ببابل، فان كنت عزيرا فأملل علينا التوراة، فكتبها لهم؛ فقالوا هذا ابن اللّه.

وفي الذين قالوا هذا عن عزير ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم جميع بني اسرائيل، روي عن ابن عباس.

والثاني: طائفة من سلفهم، قاله الماوردي.

والثالث: جماعة كانوا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفيهم قولان.

احدهما: فنحاص وحده، وقد ذكرناه عن ابن عمر وابن جريج.

والثاني: الذين ذكرناهم في أول الآية عن ابن عباس.

فان قيل: إن كان قول بعضهم، فلم أضيف إلى جميعهم؟ فعنه جوابان.

احدهما: أن إيقاع اسم الجماعة على الواحد معروف في اللغة، تقول العرب: جئت من البصرة على البغال، وإن كان لم يركب إلا بغلا واحدا.

والثاني: أن من لم يقله، لم ينكره. قوله تعالى:

{ٱللّه وَقَالَتِ ٱلنَّصَـٰرَى ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّه} في سبب قولهم: هذا قولان.

احدهما: لكونه ولد من غير ذكر.

والثاني: لأنه أحيى الموتى وأبرأ الكمة والبرص وقد شرحنا هذا المعنى في {المائدة}. قوله تعالى:

{ذٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوٰهِهِمْ}

إن قال قائل: هذا معلوم، فما فائدته؟

فالجواب: أن المعنى: أنه قول بالفم لا بيان فيه، ولا برهان، ولا تحته معنى صحيح. قاله الزجاج. قوله تعالى:

{يضاهون} قرأ الجمهور: من غير همز.

وقرأ عاصم: {بِأَفْوٰهِهِمْ يُضَـٰهِئُونَ}. قال ثعلب: لم يتابع عاصما أحد على الهمز. قال الفراء: وهي لغة.

قال الزجاج: {يضاهون} يشابهون قول من تقدمهم من كفرتهم، فانما قالوه اتباعا لمتقدميهم. وأصل المضاهاة في اللغة: المشابهة، والأكثر ترك الهمز؛ واشتقاقه من قولهم: امرأة ضهياء، وهي التي لا ينبت لها ثدي.

وقيل: هي التي لا تحيض، والمعنى: أنها قد أشبهت الرجال. قال ابن الانباري: يقال: ضاهيت، وضاهأت، إذا شبهت.

وفي {وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} هاهنا ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم عبدة الأوثان،

والمعنى: أن أولئك قالوا: الملائكة بنات اللّه، قاله ابن عباس.

والثاني: أنهم اليهود، فالمعنى: أن النصارى في قولهم

{ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ ٱللّه} شابهوا اليهود في قولهم {عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللّه} قاله قتادة، والسدي.

والثالث: أنهم أسلافهم، تابعوهم في أقوالهم تقليدا، قاله الزجاج، وابن قتيبة.وفي قوله: {قَـٰتَلَهُمُ ٱللّه} ثلاثة أقوال.

احدها: أن معناه: لعنهم اللّه، قاله ابن عباس.

والثاني: قتلهم اللّه، قاله أبو عبيدة.

والثالث: عاداهم اللّه، ذكره ابن الانباري. قوله تعالى:

{أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} أي: من أين يصرفون عن الحق؟. قوله تعالى:

{ٱتَّخَذُواْ أَحْبَـٰرَهُمْ} قد سبق في {المائدة} معنى الأحبار والرهبان.

وقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه سئل عن هذه الآية، فقال: «أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، واذا حرموا عليهم شيئا حرموه» فعلى هذا المعنى: إنهم جعلوهم كالأرباب وإن لم يقولوا: إنهم أباب. قوله تعالى:

{وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ} قال ابن عباس: اتخذوه ربا.

٣٢

قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ٱللّه} قال ابن عباس: يخمدوا دين اللّه بتكذيبهم، يعني: أنهم يكذبون به ويعرضون عنه يريدون إبطاله بذلك. وقال الحسن، وقتادة: نور اللّه: القرآن والإسلام. فأما تخصيص ذلك بالأفواه، فلما ذكرناه في الآية قبلها.

وقيل: إن اللّه تعالى لم يذكر قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا وهو زور. قوله تعالى:

{وَيَأْبَىٰ ٱللّه إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} قال الفراء: إنما دخلت {إِلا} هاهنا، لأن في الإباء طرفا من الجحد، ألا ترى أن {أبيت} كقولك: {لَمْ ٱفْعَلْ}، {وَلاَ ٱفْعَلْ} فكأنه بمنزلة قولك: ما ذهب إلا زيد، قال الشاعر:

فهل لي أم غيرها إن تركتها  أبى اللّه إلا أن أكون لها ابمنا

وقال الزجاج: المعنى: ويأبى اللّه كل شيء إلا إتمام نوره. قال مقاتل: يتم نوره أي: يظهر دينه.

٣٣

قوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} يعني: محمدا صلى اللّه عليه وسلم بالهدى، وفيه ثلاثة اقوال.

احدها: أنه التوحيد.

والثاني: القرآن.

والثالث: تبيان الفرائض. فأما دين الحق، فهو الإسلام.

وفي قوله: {لِيُظْهِرَهُ} قولان.

احدهما: أن الهاء عائدة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فالمعنى: ليعلمه شرائع الدين كلها، فلا يخفى عليه منها شيء، قاله ابن عباس.

والثاني: أنها راجعة إلى الدين. ثم في معنى الكلام قولان.

احدهما: ليظهر هذا الدين على سائر الملل. ومتى يكون ذلك؟ فيه قولان:

احدهما: عند نزول عيسى عليه السلام، فانه يتبعه أهل كل دين، وتصير الملل واحدة فلا يبقى أهل دين إلا دخلوا في الإسلام أو أدوا الجزية، قاله أبو هريرة، والضحاك.

والثاني: أنه عند خروج المهدي، قاله السدي. والقول

الثاني: أن إظهار الدين إنما هو بالحجج الواضحة، وإن لم يدخل الناس فيه.

٣٤

قوله تعالى: {إِنَّ كَثِيراً مّنَ ٱلاْحْبَارِ} الأحبار: من اليهود، والرهبان: من النصارى. وفي الباطل أربعة اقوال.

احدها: أنه الظلم، قاله ابن عباس.

والثاني: الرشا في الحكم، قاله الحسن.

والثالث: الكذب، قاله أبو سليمان.

والرابع: أخذه من الجهة المحظورة، قاله القاضي أبو يعلى. والمراد: أخذ الأموال، وإنما ذكر الأكل، لأنه معظم المقصود من المال. وفي المراد بسبيل اللّه هاهنا قولان.

احدهما: الإيمان برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قاله ابن عباس، والسدي.

والثاني: أنه الحق والحكم. قوله تعالى:

{وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ} اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال.

احدها: أنها نزلت عامة في أهل الكتاب والمسلمين، قاله أبو ذر، والضحاك.

والثاني: أنها خاصة في أهل الكتاب، قاله معاوية بن أبي سفيان.

والثالث: أنها في المسلمين، قاله ابن عباس، والسدي.وفي الكنز المستحق عليه هذا الوعيد ثلاثة اقوال.

احدها: أنه مالم تؤد زكاته، قال ابن عمر: كل مال أديت زكاته وإن كان تحت سبع أرضين فليس بكنز، وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرا على وجه الأرض، وإلى هذا المعنى: ذهب الجمهور. فعلى هذا، معنى الإنفاق: إخراج الزكاة.

والثاني: أنه ما زاد على أربعة آلاف، روي عن علي بن أبي طالب أنه: قال أربعة آلاف نفقة، وما فوقها كنز.

والثالث: ما فضل عن الحاجة، وكان يجب عليهم إخراج ذلك في أول الإسلام ثم نسخ بالزكاة.

فان قيل: كيف قال {يُنفِقُونَهَا} وقد ذكر شيئين؟ فعنه جوابان.

احدهما: أن المعنى: يرجع إلى الكنوز والأموال.

والثاني: أنه يرجع إلى الفضة، وحذف الذهب. لأنه داخل في الفضة،

قال الشاعر:

نحن بما عندنا وأنت بما  عندك راض والرأي مختلف

يريد: نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راض، ذكر القولين الزجاج. وقال الفراء: إن شئت اكتفيت بأحد المذكورين، كقوله: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} وقوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَـٰرَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّواْ إِلَيْهَا}

وأنشد:

إني ضمنت لمن أتاني ما جنى  وأبى وكان وكنت غير غدور

ولم يقل: غدورين، وإنما اكتفى بالواحد لاتفاق المعنى. قال أبو عبيدة: والعرب إذا أشركوا بين اثنين قصروا، فخبروا عن احدهما استغناء بذلك، وتحقيقا؛ لمعرفة السامع بأن الآخر قد شاركه، ودخل معه في ذلك الخبر، وأنشد:

فمن يك أمسى بالمدينة رحله  فاني وقيار بها لغريب

والنصب في: {قيار} أجود، وقد يكون الرفع.

وقال حسان بن ثابت:

إن شرخ الشباب والشعر الأس  ود مالم يعاص كان جنونا

ولم يقل: يعاصيا.

٣٥

قوله تعالى: {أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ} أي: على الأموال. قال ابن مسعود: واللّه ما من رجل يكوى بكنز، فيوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم، ولكن يوسع جلده، فيوضع كل دينار ودرهم على حدته. وقال ابن عباس: هي حية تنطوي على جنبيه وجبهته، فتقول: أنا مالك الذي بخلت به. قوله تعالى:

{هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ} فيه محذوف تقديره: ويقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي: عذاب ذلك.

فان قيل: لم خص الجباه والجنوب والظهور من بقية البدن؟

فالجواب: أن هذه المواضع مجوفة، فيصل الحر إلى أجوافها، بخلاف اليد والرجل. وكان أبو ذر يقول: بشر الكنازين بكي في الجباه وكي في الجنوب وكي في الظهور، حتى يلتقي الحر في أجوافهم. وجواب آخر: وهو أن الغني إذا رأى الفقير، انقبض؛ وإذا ضمه وإياه مجلس، ازور عنه وولاه ظهره، قاله أبو بكر الوراق.

٣٦

قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللّه}

قال المفسرون: نزلت هذه الآية من أجل النسيء الذي كانت العرب تفعله، فربما وقع حجهم في رمضان، وربما وقع في شوال، إلى غير ذلك؛ وكانوا يستحلوا المحرم عاما، ويحرمون مكانه صفر، وتارة يحرمون المحرم ويستحلون صفر. قال الزجاج: أعلم اللّه عز وجل أن عدد شهور المسلمين التي تعبدوا بأن يجعلوه لسنتهم: اثنا عشر شهرا على منازل القمر؛ فجعل حجهم وأعيادهم على هذا العدد، فتارة يكون الحج والصوم في الشتاء، وتارة في الصيف، بخلاف ما يعتمده أهل الكتاب، فانهم يعلمون على أن السنة ثلاثمائة يوم وخمسة وستون يوما وبعض يوم. وجمهور القراء على فتح عين {ٱثْنَا عَشَرَ}.

وقرأ أبو جعفر: {ٱثْنَا عَشَرَ} وأحد عشر، وتسعة عشر، بسكون العين فيهن. قوله تعالى:

{فِي كِتَـٰبِ ٱللّه} أي: في اللوح المحفوظ. قال ابن عباس: في الإمام الذي عند اللّه، كتبه:

{يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} وفيها قولان.

احدهما: أنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، قاله الأكثرون.

وقال القاضي أبو يعلى: إنما سماها حرما: لمعنيين.

احدهما: تحريم القتال فيها، وقد كان أهل الجاهلية يعتقدون ذلك أيضا.

والثاني: لتعظيم انتهاك المحارم فيها أشد من تعظيمه. في غيرها، وكذلك تعظيم الطاعات فيها.

والثاني: انها الأشهر التي أجل المشركون فيها للسياحة، ذكره ابن قتيبة. قوله تعالى:

{ذٰلِكَ ٱلدّينُ ٱلْقَيّمُ} فيه قولان.

احدهما: ذلك القضاء المستقيم، قاله ابن عباس.

والثاني: ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوي، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى:

{فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} اختلفوا في كناية فيهن على قولين:

احدهما: أنها تعود على الاثني عشر شهرا، قاله ابن عباس. فعلى هذا يكون المعنى: لا تجعلوا حرامها حلالا،ولا حلالها حراما، كفعل أهل النسيء.

والثاني: أنها ترجع إلى الأربعة الحرم، وهو قول قتادة، والفراء؛ واحتج بأن العرب تقول لما بين الثلاثة إلى العشرة: لثلاث ليال خلون، وأيام خلون، فاذا جزت العشرة قالوا خلت ومضت، ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة: هُنَّ، وهؤلاء، فاذا جزت العشرة، قالوا: هي، وهذه؛ إرادة أن تعرف سمة القليل من الكثير. وقال ابن الانباري: العرب تعيد الهاء والنون على القليل من العدد، والهاء والألف على الكثير منه؛ والقلة: ما بين الثلاثة إلى العشرة، والكثرة: ما جاوز العشرة. يقولون: وجهت إليك أكبشا فاذبحهن، وكباشا فاذبحها فلهذا قال:

{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} وقال: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ} لأنه يعني: بقوله:

{فِيهِنَّ} الأربعة. ومن قال من المفسرين: إنه يعني بقوله: {فِيهِنَّ} الاثني عشر، فانه ممكن؛ لأن العرب ربما جعلت علامة القليل للكثير، وعلامة الكثير للقليل، وعلى قول من قال: ترجع {فِيهِنَّ} إلى الأربعة،

يخرج في معنى الظلم فيهن أربعة اقوال.

احدها: أنه المعاصي، فتكون فائدة تخصيص النهي عنه بهذه الأشهر، أن شأن المعاصي يعظم فيها أشد من تعظيمه في غيرها، وذلك لفضلها على ما سواها، كقوله:

{وَجِبْرِيلَ وَمِيكَـٰلَ} وإن كانا قد دخلا في جملة الملائكة، وقوله:

{فَـٰكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وإن كانا قد دخلا في جملة الفاكهة، وقوله:

{فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجّ} وإن كان منهيا عنه في غير الحج، وكما أمر بالمحافظة على الصلاة الوسطى وإن كان مأمورا بالمحافظة على غيرها، هذا قول الأكثرين.

والثاني: أن المراد بالظلم فيهن: فعل النسيء: وهو تحليل شهر محرم، وتحريم شهر حلال، قاله ابن اسحاق.

والثالث: أنه البداية بالقتال فيهن، فيكون المعنى: فلا تظلموا أنفسكم بالقتال فيهن إلا أن تبدؤوا بالقتال، قاله مقاتل.

والرابع: أنه ترك القتال فيهن، فيكون المعنى: فلا تظلموا فيهن أنفسكم بترك المحاربة لعدوكم، قاله ابن بحر، وهو عكس قول مقاتل. والسر في أن اللّه تعالى عظم بعض الشهور على بعض، ليكون الكف عن الهوى فيها ذريعة إلى استدامة الكف في غيرها تدريجا للنفس إلى فراق مألوفها المكروه شرعا.

٣٧

قوله تعالى: {إِنَّمَا ٱلنَّسِىء زِيَادَةٌ فِى ٱلْكُفْرِ} الجمهور على همز النسيء ومده وكسر سينه.

وروى شبل عن ابن كثير: {النسء} على وزن النسع. وفي رواية أخرى عن شبل:

{النسي} مشددة الياء من غير همز، وهي قراءة أبي جعفر؛ والمراد بالكلمة: التأخير. قال اللغويون: النسيء تأخير الشيء. وكانت العرب تحرم الأشهر الأربعة، وكان هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم، فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر، ثم يحتاجون إلى تأخير صفر أيضا إلى الشهر الذي بعده، ثم تتدافع الشهور شهرا بعد شهر حتى يستدير التحريم على السنة كلها، فكأنهم يستنسؤون الشهر الحرام ويستقرضونه، فأعلم اللّه عز وجل أن ذلك زيادة في كفرهم، لأنهم أحلوا الحرام، وحرموا الحلال،

{ليواطؤوا}: أي: ليوافقوا {لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللّه} فلا يخرجون من تحريم أربعة، ويقولون: هذه بمنزلة الأربعة الحرم، ولا يبالون بتحليل الحرام، وتحريم الحلال. وكان القوم لا يفعلون ذلك إلا في ذي الحجة إذا اجتمعت العرب للموسم، قال الفراء: كانت العرب في الجاهلية إذا أرادوا الصدر عن مِنًى، قام رجل من بني كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة، وكان رئيس الموسم، فيقول: أنا الذي لا أعاب ولا أجاب ولا يرد لي قضاء، فيقولون: أنسئنا شهرا، يريدون: أخر عنا حرمة المحرم، واجعلها في صفر، فيفعل ذلك. وإنما دعاهم إلى ذلك توالي ثلاثة أشهر حرم لا يغيرون فيها، وإنما كان معاشهم من الإغارة فتستدير الشهور كما بينا.

وقيل: إنما كانوا يستحلون المحرم عاما، فاذا كان من قابل ردوه إلى تحريمه. قال أبو عبيد: والتفسير الأول أحب إلي، لأن هذا القول ليس فيه استدارة. وقال مجاهد: كان أول من أظهر النسيء جنادة بن عوف الكناني، فوافقت حجة أبي بكر ذا القعدة، ثم حج النبي صلى اللّه عليه وسلم في العام القابل في ذي الحجة، فذلك حين قال:

{إِلا أَنْ لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ ٱلْعَـٰلِمُونَ خَلَقَ ٱللّه ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ} وقال الكلبي:أول من فعل ذلك نعيم بن ثعلبة. قوله تعالى:

{يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: {يُضِلَّ} بفتح الياء وكسر الضاد، والمعنى: أنهم يكتسبون الضلال به. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: {يُضِلَّ} بضم الياء وفتح الضاد، على مالم يسم فاعله. وقرأ الحسن البصري، ويعقوب إلا الوليد:

{يُضِلَّ} بضم الياء وكسر الضاد، وفيه ثلاثة أوجه.

احدها: يضل اللّه به.

والثاني: يضل الشيطان به، ذكرهما ابن القاسم.

والثالث: يضل به الذين كفروا الناس، لأنهم الذين سنوه لهم. قال أبو علي: التقدير: يضل به الذين كفروا تابعيهم. وقال ابن القاسم: الهاء في به راجعة إلى النسيء، وأصل النسيء: المنسوء، أي: المؤخر، فينصرف عن {مفعول} إلى {فعيل} كما قيل: مطبوخ وطبيخ، ومقدور وقدير، قال: وقيل: الهاء راجعة إلى الظلم، لأن النسيء كشف تأويل الظلم، فجرى مجرى المظهر، والأول اختيارنا.

٣٨

قوله تعالى: {مَالَكُمْ إِذَا قيل لَكُمُ ٱنفِرُواْ}

قال المفسرون: لما امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بغزوة تبوك، وكان في زمن عسرة وجدب وحر شديد، وقد طابت الثمار، عظم ذلك على الناس وأحبوا المقام، فنزلت هذه الآية. وقوله: {مَالَكُمْ} استفهام معناه التوبيخ. وقوله:

{ٱنْفِرُواْ} معناه: اخرجوا. وأصل النفر: مفارقة مكان إلى مكان آخر لأمر هاج إلى ذلك. وقوله:

{ٱثَّاقَلْتُمْ} قال ابن قتيبة: أراد: تثاقلتم، فأدغم التاء في الثاء، وأحدثت الألف ليسكن ما بعدها، وأراد: قعدتم. وفي قراءة ابن مسعود، والأعمش، {تثاقلتم}.

وفي معنى {ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلاْرْضِ} ثلاثة أقوال.

احدها: تثاقلتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمرها، قاله مجاهد.

والثاني: اطمأننتم إلى الدنيا، قاله الضحاك.

والثالث: تثاقلتم إلى الإقامة بأرضكم، قاله الزجاج.

قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ} أي: بنعيمها من نعيم الآخرة، فما يتمتع به في الدنيا قليل بالإضافة إلى ما يتمتع به الأولياء في الجنة.

٣٩

قوله تعالى: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ} سبب نزولها: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما حثهم على غزو الروم تثاقلوا، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال قوم: هذه خاصة فيمن استنفره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم ينفر. قال ابن عباس: استنفر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيا من العرب فتثاقلوا عنه، فأمسُك عنهم المطر فكان عذابهم. وفي قوله:

{وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} وعيد شديد في التخلف عن الجهاد، وإعلام بأنه يستبدل لنصر نبيه قوما غير متثاقلين. ثم أعلمهم أنهم إن تركوا نصره لم يضروه، كما لم يضرره ذلك إذ كان بمكة. وفي هاء {تَضُرُّوهُ} قولان:

احدهما: أنها ترجع إلى اللّه،

والمعنى: لا تضروا اللّه بترك النفير، قاله الحسن.

والثاني: أنها ترجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فالمعنى: لا تضروه بترك نصره، قاله الزجاج. فصل وقد روي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، قالوا: نُسخ قوله:

{إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} بقوله:

{وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً}، وقال أبو سليمان الدمشقي: ليس هذا من المنسوخ، إذ لا تنافي بين الآيتين، وإنما حكم كل آية قائم في موضعها. وذكر القاضي ابو يعلى عن بعض العلماء أنهم قالوا: ليس هاهنا نسخ، ومتى لم يقاوم أهل الثغور العدو، ففرض على الناس النفير إليهم، ومتى استغنوا عن إعانة من وراءهم، عذر القاعدون عنهم. وقال قوم: هذا في غزوة تبوك، ففرض على الناس النفير مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

٤٠

قوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} أي: بالنفير معه

{فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللّه} إعانة على أعدائه،

{إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} حين قصدوا إهلاكه على ما شرحنا في قوله:

{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ} فأعلمهم: أن نصره ليس بهم. قوله تعالى:

{ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ} العرب تقول: هو ثاني اثنين، أي: أحد الاثنين، وثالث ثلاثة، أي: أحد الثلاثة، قال الزجاج: وقوله: {ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ} منصوب على الحال، المعنى: فقد نصره اللّه أحد اثنين، أي: نصره منفردا إلا من أبي بكر، وهذا معنى قول الشعبي: عاتب اللّه أهل الأرض جميعا في هذه الآية غير أبي بكر. وقال ابن جرير: المعنى: أخرجوه وهو أحد الاثنين، وهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر. فأما الغار، فهو ثقب في الجبل، وقال ابن فارس: الغار: الكهف، والغار: نبت طيب الريح، والغار: الجماعة من الناس، والغاران: البطن والفرج، وهما الأجوفان، يقال: إنما هو عبد غاريه. قال الشاعر:

ألم تر أن الدهر يوم وليلة  وأن الفتى يسعى لغاريه دائبا

قال قتادة: وهذا الغار في جبل بمكة يقال له: ثور. قال مجاهد: مكثا فيه ثلاثا. وقد ذكرت حديث الهجرة في كتاب الحدائق. قال أنس بن مالك.أمر اللّه عز وجل شجرة فنبتت في وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسترته، وأمر العنكبوت فنسجت في وجهه، وأمر حمامتين وحشيتين فوقعتا في فم الغار، فلما دنوا من الغار، عجل بعضهم لينظر، فرأى حمامتين فرجع فقال: رأيت حمامتين على فم الغار فعلمت أنه ليس فيه أحد وقال مقاتل: جاء القائف فنظر إلى الأقدام فقال: هذه قدم ابن أبي قحافة، والأخرى لا أعرفها، إلا أنها تشبه القدم التي في المقام. وصاحبه في هذه الآية أبو بكر وكان أبو بكر، قد بكى لما مر المشركون على باب الغار،فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم: {مَا}.

وفي السكينة ثلاثة أقوال.

احدها: أنها الرحمة، قاله ابن عباس.

والثاني: الوقار، قاله قتادة.

والثالث: السكون والطمأنينة. قاله ابن قتيبة: وهو اصح.

وفي هاء {جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ} ثلاثة أقوال.

احدها: أنها ترجع إلى أبي بكر، وهو قول علي بن أبي طالب، وابن عباس، وحبيب بن أبي ثابت، واحتج من نصر هذا القول بأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان مطمئنا.

والثاني: أنها ترجع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، قاله مقاتل.

والثالث: أن الهاء هاهنا في معنى تثنية، والتقدير: فأنزل اللّه سكينته عليهما، فاكتفى باعادة الذكر على احدهما من إعادته عليهما، كقوله:

{وَٱللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} ذكره ابن الانباري. قوله تعالى:

{وَأَيَّدَهُ} أي: قواه: يعني النبي صلى اللّه عليه وسلم بلا خلاف.

{بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكة. ومتى كان ذلك؟ فيه قولان.

احدهما: يوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، قاله ابن عباس.

والثاني: لما كان في الغار، صرفت الملائكة وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته، قاله الزجاج.

فان قيل: إذا وقع الاتفاق أن هاء الكناية في {أيده} ترجع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فكيف تفارقها هاء {وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ} وهما متفقتان في نظم الكلام؟

فالجواب: أن كل حرف يرد إلى الأليق به، والسكينة إنما يحتاج إليها المنزعج، ولم يكن النبي صلى اللّه عليه وسلم منزعجا. فأما التأييد بالملائكة، فلم يكن إلا للنبي صلى اللّه عليه وسلم ونظير هذا قوله:

{لّتُؤْمِنُواْ بِٱللّه وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ} يعني: النبي صلى اللّه عليه وسلم،

{وَتُسَبّحُوهُ} يعني: اللّه عز وجل. قوله تعالى:

{وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفْلَىٰ} فيها قولان.

احدهما: أن كلمة الكافرين الشرك، جعلها اللّه السفلى، لأنها مقهورة، وكلمة اللّه وهي التوحيد، هي العليا، لأنها ظهرت، هذا قول الأكثرين.

والثاني: أن كلمة الكافرين ما قدروا بينهم في الكيد به ليقتلوه، وكلمة اللّه أنه ناصره، رواه عطاء عن ابن عباس. وقرأ ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، ويعقوب:

{وَكَلِمَةُ ٱللّه} بالنصب. قوله تعالى:

{وَٱللّه عَزِيزٌ} أي: في انتقامه من الكافرين {حَكِيمٌ} في تدبيره.

٤١

قوله تعالى: {ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً} سبب نزولها: أن المقداد جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان عظيما سمينا، فشكا إليه وسأله أن يأذن له، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.

وفي معنى {خِفَافًا وَثِقَالاً} أحد عشر قولا.

احدها: شيوخا وشبابا، رواه أنس عن أبي طلحة، وبه قال الحسن، والشعبي، وعكرمة، ومجاهد، وأبو صالح، وشمر بن عطية، وابن زيد في آخرين.

والثاني: رجالة وركبانا، رواه عطاء عن ابن عباس، وبه قال الأوزاعي.

والثالث: نشاطا وغير نشاط، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، ومقاتل.

والرابع: أغنياء وفقراء، روي عن ابن عباس.

ثم في معنى هذا الوجه قولان.

احدهما: أن الخفاف: ذوو العسرة وقلة العيال، والثقال: ذوو العيال والميسرة، قاله الفراء.

والثاني: أن الخفاف: أهل الميسرة والثقال: أهل العسرة، حكي عن الزجاج.

والخامس: ذوي عيال، وغير عيال، قاله زيد بن أسلم.

والسادس: ذوي ضياع، وغير ذوي ضياع، قاله ابن زيد.

والسابع: ذوي أشغال، وغير ذوي أشغال، قاله الحكم.

والثامن: أصحاء، ومرضى قاله مرة الهمداني، وجويبر.

والتاسع: عزابا، ومتأهلين، قاله يمان بن رياب.

والعاشر: خفافا إلى الطاعة، وثقالا عن المخالفة، ذكره الماوردي.

والحادي عشر: خفافا من السلاح، وثقالا بالاستكثار منه، ذكره الثعلبي.

فصل

روى عطاء الخراساني عن ابن عباس ان هذه الآية منسوخة بقوله:

{وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} وقال السدي: نسخت بقوله:

{لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَاء وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ}. قوله تعالى:

{وَجَـٰهِدُواْ بِأَمْوٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} قال القاضي أبو يعلى: أوجب الجهاد بالمال والنفس جميعا، فمن كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للقتال، فعليه الجهاد بماله، بأن يعطيه غيره فيغزو به، كما يلزمه الجهاد بنفسه إذا كان قويا. وإن كان له مال وقوة، فعليه الجهاد بالنفس والمال. ومن كان معدما عاجزا، فعليه الجهاد بالنصح للّه ورسوله، لقوله:

{وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للّه وَرَسُولِهِ}

قوله تعالى:{ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} فيه قولان.

احدهما: ذلكم خير لكم من تركه والتثاقل عنه.

والثاني: ذلكم الجهاد خير حاصل لكم إن كنتم تعلمون مالكم من الثواب.

٤٢

انظر تفسير الآية:٤٣

٤٣

قوله تعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا}

قال المفسرون: نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك. ومعنى الآية: لو كان ما دعوا إليه عرضا قريبا. والعرض: كل ما عرض لك من منافع الدنيا، فالمعنى: لو كانت غنيمة قريبة، أو كان سفرا قاصدا، أي: سهلا قريبا لاتبعوك طمعا في المال

{وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ ٱلشُّقَّةُ} قال ابن قتيبة: الشقة: السفر؛ وقال الزجاج: الشقة الغاية التي تقصد؛ وقال ابن فارس: الشقة مصير إلى أرض بعيدة، تقول: شق شاقة. قوله تعالى:

{وَسَيَحْلِفُونَ بِٱللّه} يعني: المنافقين إذا رجعتم إليهم

{لَوِ ٱسْتَطَعْنَا} وقرأ زائدة عن الأعمش، والأصمعي عن نافع:

{لَوِ ٱسْتَطَعْنَا} بضم الوا وكذا أين وقع، مثل:

{لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ}، كأنه لما احتيج إلى حركة الواو، حركت بالضم لأنها أخت الواو، والمعنى: لو قدرنا وكان لنا سعة في المال.

{يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} بالكذب والنفاق {وَٱللّه يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَـٰذِبُونَ} لأنهم كانوا: أغنياء ولم يخرجوا.

{عَفَا ٱللّه عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَـٰذِبِينَ}قوله تعالى:

{عَفَا ٱللّه عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} كان صلى اللّه عليه وسلم قد أذن لقوم من المنافقين في التخلف لما خرج إلى تبوك، قال ابن عباس: ولم يكن يومئذ يعرف المنافقين. قال عمرو بن ميمون: اثنتان فعلهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من الأسارى؛ فعاتبه اللّه كما تسمعون. قال مورق: عاتبه ربه بهذا. وقال سفيان بن عيينة: انظر إلى هذا اللطف، بدأه بالعفو قبل أن يعيره بالذنب. وقال ابن الانباري: لم يخاطب بهذا لجرم أجرمه، لكن اللّه وقره ورفع من شأنه حين افتتح الكلام بقوله:

{عَفَا ٱللّه عَنكَ} كما يقول الرجل لمخاطبه إذا كان كريما عليه: عفا اللّه عنك، ما صنعت في حاجتي؟ ورضي اللّه عنك هلا زرتني. قوله تعالى:

{حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ} فيه قولان.

احدهما: أن معناه: حتى تعرف ذوي العذر في التخلف ممن لا عذر له.

والثاني: لو لم تأذن لهم، لقعدوا وبان لك كذبهم في اعتذارهم. قال قتادة: ثم إن اللّه تعالى نسخ هذه الآية بقوله: {فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ}.

٤٤

انظر تفسير الآية:٤٥

٤٥

قوله تعالى: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللّه} قال ابن عباس: هذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود. قال الزجاج: أعلم اللّه عز وجل نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن علامة النفاق في ذلك الوقت الاستئذان.

فصل

وروي عن ابن عباس أنه قال: نسخت هذه الآية بقوله:

{لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّىٰ يَسْتَـذِنُوهُ} إلى آخر الآية. قال أبو سليمان الدمشقي: وليس للنسخ هاهنا مدخل، لإمكان العمل بالآيتين، وذلك أنه إنما عاب على المنافقين أن يستأذنوه في القعود عن الجهاد من غير عذر، وأجاز للمؤمنين الاستئذان لما يعرض لهم من حاجة، وكان المنافقون إذا كانوا معه فعرضت لهم حاجة ذهبوا من غير استئذانه.

٤٦

انظر تفسير الآية:٤٧

٤٧

قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ} يعني: المستأذنين له في القعود.

وفي المراد بالعدة قولان.

احدهما: النية، قاله الضحاك عن ابن عباس.

والثاني: السلاح، والمركوب، وما يصلح للخروج، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والانبعاث: الانطلاق. والتثبط: ردك الإنسان عن الشيء يفعله. قوله تعالى:

{وقيل ٱقْعُدُواْ} في القائل لهم ثلاثة أقوال.

احدها: أنهم ألهموا ذلك خذلانا لهم، قاله مقاتل.

والثاني: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قاله غضبا عليهم.

والثالث: أنه قول بعضهم لبعض، ذكرهما الماوردي. وفي المراد بالقاعدين قولان.

احدهما: أنهم القاعدون بغير عذر، قاله ابن السائب.

والثاني: أنهم القاعدون بعذر كالنساء والصبيان، ذكره علي بن عيسى. وقال الزجاج: ثم أعلم اللّه عز وجل لم كره خروجهم، فقال:

{لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} والخبال: الفساد وذهاب الشيء. وقال ابن قتيبة: الخبال: الشر.

فان قيل: كأن الصحابة كان فيها خبال حتى قيل: {مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً}

فالجواب: أنه من الاستثناء المنقطع، والمعنى: ما زادوكم قوة، لكن أوقعوا بينكم خبالا. وقيل: سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما خرج، ضرب عسكره على ثنية الوداع، وخرج عبد اللّه بن أبي، فضرب عسكره على أسفل من ذلك؛ فلما سار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، تخلف ابن أبي فيمن تخلف من المنافقين، فنزلت هذه الآية.

قوله تعالى: {ولاَوْضَعُواْ خِلَـٰلَكُمْ} قال الفراء: الإيضاع: السير بين القوم. وقال أبو عبيدة: لأسرعوا بينكم، وأصله من التخلل. قال الزجاج: يقال: أوضعت في السير: أسرعت.

قوله تعالى: {يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ} قال الفراء: يبغونها لكم. وفي الفتنة قولان.

احدهما: الكفر، قاله الضحاك، ومقاتل، وابن قتيبة.

والثاني: تفريق الجماعة،وشتات الكلمة، قال الحسن: لأوضعوا خلالكم بالنميمية لإفساد ذات بينكم. قوله تعالى:

{وَفِيكُمْ سَمَّـٰعُونَ لَهُمْ} فيه قولان.

احدهما: عيون ينقلون إليهم أخباركم، قاله مجاهد، وابن زيد.

والثاني: من يسمع كلامهم ويطيعهم، قاله قتادة، وابن إسحاق.

٤٨

قوله تعالى: {لَقَدِ ٱبْتَغَوُاْ ٱلْفِتْنَةَ} في الفتنة قولان.

احدهما: الشر، قاله ابن عباس.

والثاني: الشرك، قاله مقاتل. قوله تعالى:

{مِن قَبْلُ} أي: من قبل غزوة تبوك.

وفي قوله: {وَقَلَّبُواْ لَكَ ٱلامُورَ} خمسة أقوال.

احدها: بغوا لك الغوائل، قاله ابن عباس.

وقيل: إن اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا على طريقه ليلا ليفتكوا به، فسلمه اللّه منهم.

والثاني: احتالوا في تشتت أمرك وإبطال دينك، قاله ابو سليمان الدمشقي. قال ابن جرير: وذلك كانصراف ابن أبي يوم أحد بأصحابه.

والثالث: أنه قولهم ما ليس في قلوبهم.

والرابع: أنه ميلهم إليك في الظاهر، وممالأة المشركين في الباطن.

والخامس: أنه حلفهم باللّه

{لَوِ ٱسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} ذكر هذه الأقوال الثلاثة الماوردي. قوله تعالى:

{حَتَّىٰ جَاء ٱلْحَقُّ} يعني: النصر {وَظَهَرَ أَمْرُ ٱللّه} يعني الإسلام.

٤٩

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّنْ قَوْلَ ٱئْذَن لّي} سبب نزولها: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال للجد بن قيس:

{يا جد، هل لك في جلاد بني الأصفر، لعلك أن تغنم بعض بنات الأصفر} فقال: يا رسول اللّه، ائذن لي فأقيم، ولا تفتني ببنات الأصفر. فأعرض عنه، وقال:

{قَدْ أَذِنتَ لَكَ} ونزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وهذه الآية وما بعدها إلى قوله {إِنَّمَا ٱلصَّدَقَـٰتُ} في المنافقين. قوله تعالى:

{وَمِنْهُمُ} يعني: المنافقين {مَّن يَقُولُ ٱئْذَن لّي} أي: في القعود عن الجهاد، وهو الجد بن قيس.

وفي قوله {وَلاَ تَفْتِنّى} أربعة أقوال.

احدها: لا تفتني بالنساء، قاله ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد.

والثاني: لا تكسبني الإثم بأمرك إياي بالخروج وهو غير متيسر لي، فآثم بالمخالفة، قاله الحسن، وقتادة، والزجاج.

والثالث: لا تكفرني بإلزامك إياي الخروج، قاله الضحاك.

والرابع: لا تصرفني عن شغلى، قاله ابن بحر. قوله تعالى:

{أَلا فِى ٱلْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} في هذه الفتنة أربعة اقوال.

احدها: أنها الكفر، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: الحرج، قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

والثالث: الإثم، قاله قتادة، والزجاج.

والرابع: العذاب في جهنم، ذكره الماوردي.

٥٠

انظر تفسير الآية:٥١

٥١

قوله تعالى: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} أي: نصر وغنيمة. والمصيبة: القتل والهزيمة.

{يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا} أي: عملنا بالحزم فلم نخرج.

{وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} بمصابك وسلامتهم. قوله تعالى:

{إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللّه لَنَا} فيه ثلاثة أقوال.

احدها: ما قضى علينا، قاله ابن عباس.

والثاني: ما بين لنا في كتبه من أنا نظفر فيكون ذلك حسنى لنا، أو نقتل فتكون الشهادة حسنى لنا أيضا، قاله الزجاج.

والثالث: لن يصيبنا في عاقبة أمرنا إلا ما كتب اللّه لنا من النصر الذي وُعدنا، ذكره الماوردي. قوله تعالى:

{هُوَ مَوْلَـٰنَا} أي: ناصرنا.

٥٢

قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} أي: تنتظرون. والحسنيان: النصر والشهادة.

{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللّه بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ} في هذا العذاب قولان.

احدهما: الصواعق، قاله ابن عباس.

والثاني: الموت، قاله ابن جريج. قوله تعالى:

{أَوْ بِأَيْدِينَا} يعني: القتل.

٥٣

قوله تعالى: {أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} سبب نزولها: أن الجد بن قيس قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم لما عرض عليه غزو الروم: إذا رأيت النسا افتتنت، ولكن هذا مالي أعينك به، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. قال الزجاج: وهذا لفظ أمر، ومعناه: معنى الشرط والجزاء، المعنى: إن أنفقتم طائعين أو مكرهين لن يتقبل منكم. ومثله في الشعر قول كُثيّر: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة  لدينا ولا مقلية إن تقلت لم يأمرها بالإساءة، ولكن أعلمها أنها إن أساءت أو أحسنت فهو على عهدها. قال الفراء ومثله: {ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}.

٥٤

قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَـٰتُهُمْ} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: {تُقْبَلَ} بالتاء. وقرأ حمزة، والكسائي: {يَقْبَلُ} بالياء. قال أبو علي: من أنث، فلأن الفعل مسند إلى مؤنث في اللفظ، ومن قرأ بالياء، فلأنه ليس بتأنيث حقيقي، فجاز تذكيره، كقوله:

{فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ} وقرأ الجحدري: {ءانٍ يَقْبَلُ} بياء مفتوحة،

{نَفَقَـٰتُهُمْ} بكسر التاء. وقرأ الأعمش: {نَفَقَـٰتُهُمْ} بغير ألف مرفوعة التاء. وقرأ أبو مجلز، وأبو رجاء، {ءانٍ يَقْبَلُ} بالياء، {نَفَقَـٰتُهُمْ} بنصب التاء على التوحيد. قوله تعالى:

{إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِٱللّه} قال ابن الانباري: {ءانٍ} هاهنا مفتوحة، لأنها بتأويل المصدر مرتفعة ب {مَنَعَهُمْ} والتقدير: وما منعهم قبول النفقة منهم إلا كفرهم باللّه. قوله تعالى:

{إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَىٰ} قد شرحناه في سورة النساء. قوله تعالى:

{وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَـٰرِهُونَ} لأنهم يعدون الإنفاق مغرما.

٥٥

قوله تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوٰلُهُمْ} أي: لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد

وفي معنى الآية اربعة اقوال.

احدها: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد اللّه ليعذبهم بها في الآخرة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة. فعلى هذا، في الآية تقديم وتأخير، ويكون تعذيبهم في الآخرة بما صنعوا في كسب الأموال وإنفاقها.

والثاني: أنها على نظمها،

والمعنى: ليعذبهم بها في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد، فهي لهم عذاب، وللمؤمنين أجر، قاله ابن زيد.

والثالث: أن المعنى ليعذبهم بأخذ الزكاة من أموالهم والنفقة في سبيل اللّه، قاله الحسن. فعلى هذا، ترجع الكناية إلى الأموال وحدها.

والرابع: ليعذبهم بسبي أولادهم وغنيمة أموالهم، ذكره الماوردي. فعلى هذا، تكون في المشركين. قوله تعالى:

{وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ} أي: تخرج. يقال: زهق السهم: إذا جاوز الهدف.

٥٦

انظر تفسير الآية:٥٧

٥٧

قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِٱللّه إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} أي: مؤمنون و

{يَفْرَقُونَ} بمعنى: يخافون. فأما الملجأ، فقال الزجاج: الملجأ واللجأ مقصور مهموز، وهو المكان الذي يتحصن فيه. والمغارات: جمع مغارة، وهو الموضع الذي يغور فيه الإنسان، أي: يستتر فيه. وقرأ سعيد بن جبير، وابن أبي عبلة: أو

{مَغَـٰرَاتٍ} بضم الميم؛ لأنه يقال: أغرت وغرت: إذا دخلت الغور، واصل مدخل: مدتخل، ولكن التاء تبدل بعد الدال دالا، لأن التاء مهموسة، والدال مجهورة، والتاء والدال من مكان واحد، فكان الكلام من وجه واحد أخف. وقرأ أبي، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء:

{أَوْ} برفع الميم، وبتاء ودال مفتوحتين، مشددة الخاء.

وقرأ ابن مسعود، وأبو عمران: {مندخلا} بنون بعد الميم المضمومة. وقرأ الحسن، وابن يعمر، ويعقوب:

{وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً} بفتح الميم وتخفيف الدال وسكونها. قال الزجاج: من قال:

{مُّدْخَلاً} فهو من دخل يدخل مدخلا؛ ومن قال: {مُّدْخَلاً} فهو من أدخلته مُدخلا،

قال الشاعر:

الحمد للّه ممسانا ومصبحنا  بالخير صبحنا ربي ومسانا

ومعنى مدخل ومدخل: أنهم لو وجدوا قوما يدخلون في جملتهم

{لَوَلَّوُاْ} إليه، أي: إلى أحد هذه الأشياء {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي: يسرعون إسراعا لا يرد فيه وجوههم شيء. يقال: جمح وطمح: إذا أسرع ولم يرد وجهه شيء، ومنه قيل: فرس جموح للذي إذا حمل لم يرده اللجام.

٥٨

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَـٰتِ} فيمن نزلت فيه قولان.

احدهما: أنه ذو الخويصرة التميمي، قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم يوما: اعدل يا رسول اللّه، فنزلت هذه الآية. ويقال: أبو الخواصر، ويقال: ابن ذي الخويصرة.

والثاني: أنه ثعلبة بن حاطب، كان يقول: إنما يعطي محمد من يشاء، فنزلت هذه الآية. قال ابن قتيبة: {يَلْمِزُكَ} يعيبك ويطعن عليك. يقال: همزت فلانا ولمزته: إذا اغتبته وعبته، والأكثرون على كسر ميم {يَلْمِزُكَ}.

وقرأ يعقوب، ونظيف عن قنبل، وأبان عن عاصم، والقزاز عن عبد الوارث

{يَلْمِزُونَ} و{يَلْمِزُكَ} و{لا تَلْمِزُواْ} بضم الميم فيهن.

وقرأ ابن السميفع: {يلامزك} مثل يفاعلك. وقد رواها حماد بن سلمة عن ابن كثير. قال أبو علي الفارسي: وينبغي أن تكون فاعلت في هذا من احد، ونحو: طارقت النعل، وعافاه اللّه لأن هذا، لا يكون من النبي صلى اللّه عليه وسلم.

وقرأ الأعمش: {مَّن يَلْمِزُكَ} بتشديد الميم من غير ألف مثل: يفعلك قال الزجاج: يقال: لمزت الرجل ألمزه وألمزه، بكسر الميم وضمها: إذا عبته، وكذلك: همزته أهمزه،

قال الشاعر:

إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة  وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه

٥٩

انظر تفسير الآية:٦٠

٦٠

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتَـٰهُمُ ٱللّه وَرَسُولُهُ} أي: قنعوا بما أعطوا

{إِنَّا إِلَى ٱللّه رٰغِبُونَ} في الزيادة، أي: لكان خيرا لهم، وهذا جواب {لَوْ}، وهو محذوف في اللفظ. ثم بين المستحق للصدقات بقوله: {إِنَّمَا ٱلصَّدَقَـٰتُ لِلْفُقَرَاء وَٱلْمَسَـٰكِينِ}

اختلفوا في صفة الفقير والمسكين على ستة أقوال.

احدها: ان الفقير المتعفف عن السؤال. والمسكين الذي يسأل وبه رمق، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وجابر بن زيد، والزهري، والحكم، وابن زيد، ومقاتل.

والثاني: أن الفقير المحتاج الذي به زمانة. والمسكين: المحتاج الذي لا زمانة به، قاله قتادة.

والثالث: الفقير: المهاجر، والمسكين: الذي لم يهاجر، قاله الضحاك. بن مزاحم، والنخعي.

والرابع: الفقير: فقير المسلمين، والمسكين: من أهل الكتاب، قاله عكرمة.

والخامس: أن الفقير من له البلغة من الشيء، والمسكين الذي ليس له شيء، قاله أبو حنيفة، ويونس بن حبيب، ويعقوب بن السكيت، وابن قتيبة. واحتجوا بقول الراعي:أما الفقير الذي كانت حلوبته  وفق العيال فلم يترك له سبدفسماه فقيرا، وله حلوبة تكفيه وعياله. وقال يونس: قلت لأعرابي: أفقير أنت؟ قال لا واللّه، بل مسكين؛ يريد أنه أسوأ حالا من الفقير.

والسادس: أن الفقير أمس حاجة من المسكين، وهذا مذهب احمد، لأن الفقير مأخوذ من انكسار الفقار، والمسكنة مأخوذة من السكون والخشوع، وذلك أبلغ. قال ابن الانباري: ويروى عن الأصمعي أنه قال: المسكين أحسن حالا من الفقير.

وقال احمد بن عبيد: المسكين أحسن حالا من الفقير، لأن الفقير أصله في اللغة: المفقور الذي نزعت فقره من فقر ظهره،فكأنه انقطع ظهره من شدة الفقر؛ فصره عن مفقور إلى فقير، كما قيل: مجروح وجريح، ومطبوخ وطبيخ،

قال الشاعر:

لما رأى لبد النسور تطايرت رفع القوادم كالفقير الأعزل

قال: ومن الحجة لهذا القول قوله:

و{أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَـٰكِينَ يَعْمَلُونَ فِى ٱلْبَحْرِ} فوصف بالمسكنة من له سفينة تساوي مالا، قال: وهو الصحيح عندنا. قوله تعالى:

{وَٱلْعَـٰمِلِينَ عَلَيْهَا} وهم السعاة لجباية الصدقة، يعطون منها بقدر أجور أمثالهم، وليس ما يأخذونه بزكاة. قوله تعالى:

{وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} وهم قوم كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتألفهم على الإسلام بما يعطيهم، وكانوا ذوي شرف، وهم صنفان: مسلمون، وكافرون. فأما المسلمون، فصنفان: صنف كانت نياتهم في الإسلام ضعيفة، فتألفهم تقوية لنياتهم، كعيينة بن حصن، والأقرع؛ وصنف كانت نياتهم حسنة، فأعطوا تألفا لعشائرهم من المشركين، مثل عدي بن حاتم. وأما المشركون، فصنفان: صنف يقصدون المسلمين بالأذى، فتألفهم دفعا لأذاهم، مثل عامر بن الطفيل؛ وصنف كان لهم ميل إلى الإسلام، تألفهم بالعطية ليؤمنوا، كصفوان بن أمية. وقد ذكرت عدد المؤلفة في كتاب {التلقيح}. وحكمهم باق عند احمد في رواية، وقال أبو حنيفة، والشافعي، حكمهم منسوخ. قال الزهري: لا أعلم شيئا نسخ حكم المؤلفة قلوبهم. قوله تعالى:

{وَٱلسَّائِلِينَ وَفِي ٱلرّقَابِ} قد ذكرناه في سورة {البقرة}. قوله تعالى:

{وَٱلْغَـٰرِمِينَ} وهم الذين لزمهم الدين ولا يجدون القضاء. قال قتادة: هم ناس عليهم دين من غير فساد ولا إسراف ولا تبذير، وإنما قال هذا، لأنه لا يؤمن في حق المفسد إذا قضي دينه أن يعود إلى الاستدانة لذلك، ولا خلاف في جواز قضاء دينه ودفع الزكاة إليه، ولكن قتادة قاله على وجه الكراهية. قوله تعالى:

{وَفِى سَبِيلِ ٱللّه} يعني: الغزاة والمرابطين. ويجوز عندنا ان نعطي الأغنياء منهم والفقراء، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يعطى إلا الفقير منهم. وهل يجوز أن يصرف من الزكاة إلى الحج، أم لا؟ فيه عن احمد روايتان. قوله تعالى:

{وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ} هو المسافر المنقطع به، وإن كان له مال في بلده، قاله مجاهد، وقتادة، وأبو حنيفة، وأحمد. فأما إذا أراد أن ينشىء سفرا، فهل يجوز أن يعطى؟ قال الشافعي: يجوز، وعن احمد مثله؛ وقد ذكرنا في سورة {البقرة} فيه أقوالا عن المفسرين. قوله تعالى:

{فَرِيضَةً مّنَ ٱللّه} يعني: أن اللّه افترض هذا.

فصل

وحد الغني الذي يمنع أخذ الزكاة عند أصحابنا بأحد شيئين: أن يكون مالكا لخمسين درهما، أو عدلها من الذهب، سواء كان ذلك يقوم بكفايته، أو لا يقوم.

والثاني: أن يكون له كفاية، إما من صناعة، أو أجرة عقار، أو عروض للتجارة يقوم ربحها بكفايته. وقال أبو حنيفة: الاعتبار في ذلك أن يكون مالكا لنصاب تجب عليه فيه الزكاة. فأما ذوو القربى الذين تحرم عليه الصدقة، فهم بنو هاشم، وبنو المطلب. وقال أبو حنيفة: تحرم على ولد هاشم، ولا تحرم على ولد المطلب. ويجوز أن يعمل على الصدقة من بني هاشم وبني المطلب ويأخذ عمالته منها، خلافا لأبي حنيفة. فأما موالي بني هاشم وبني المطلب، فتحرم عليهم الصدقة، خلافا لمالك. ولا يجوز أن يعطي صدقته من تلزمه نفقته؛ وبه قال مالك، والثوري. وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا يعطي والدا وإن علا، ولا ولدا وإن سفل، ولا زوجه، ويعطي من عداهم. فأما الذمي، فالأكثرون على أنه لا يجوز إعطاؤه. وقال عبيد اللّه بن الحسن: إذا لم يجد مسلما، أعطي الذمي. ولا يجب استيعاب الأصناف، ولا اعتبار عدد من كل صنف، وهو قول أبي حنيفة، ومالك؛ وقال الشافعي: يجب الاستيعاب من كل صنف ثلاثة.

فأما إذا أراد نقل الصدقة من بلد المال إلى موضع تقصر فيه الصلاة، فلا يجوز له ذلك، فان نقلها لم يجزئه؛ وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: يكره نقلها، وتجزئه. قال احمد: ولا يعطي الفقير أكثر من خمسين درهما. وقال أبو حنيفة: أكره أن يعطي رجل واحد من الزكاة مائتي درهم. وإن أعطيته أجزأك.

فأما الشافعي، فاعتبر ما يدفع الحاجة من غير حد. فان أعطي من يظنه فقيرا، فبان أنه غني، فهل يجزىء فيه؟ عن احمد روايتان.

٦١

قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِىَّ}

في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن خذام بن خالد، والجلاس بن سويد، وعبيد بن هلال في آخرين، كانوا يؤذون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال بعضهم لبعض: لا تفعلوا، فانا نخاف أن يبلغه فيقع بنا، فقال الجلاس: بل نقول ما شئنا، فانما محمد أذن سامعة، ثم نأتهة فيصدقنا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: أن رجلا من المنافقين يقال له: نبتل بن الحارث، كان ينم حديث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المنافقين، فقيل له: لا تفعل، فقال: إنما محمد أذن، من حدثه شيئا، صدقه؛ نقول ما شئنا، ثم نأتهة فنحلف له فيصدقنا، فنزلت هذه الآية؛ قاله محمد بن إسحاق.

والثالث: أن ناسا من المنافقين منهم جلاس بن سويد، ووديعة بن ثابت، اجتمعوا، فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى اللّه عليه وسلم، وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس، فحقروه، فتكلموا، وقالوا: لئن كان ما يقوله محمد حقا، لنحن شر من الحمير، فغضب الغلام، وقال: واللّه إن ما يقوله محمد حق، وإنكم لشر من الحمير؛ ثم أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأخبره، فدعاهم فسألهم، فحلفوا أن عامرا كاذب، وحلف عامر أنهم كذبوا، وقال: اللّهم لا تفرق بيننا حتى تبين صدق الصادق، وكذب الكاذب؛ فنزلت هذه الآية، ونزل قوله:

{يَحْلِفُونَ بِٱللّه لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} قاله السدي. فأما الأذى، فهو عيبه ونقل حديثه.

ومعنى: {أَذِنَ} يقبل كل ما قيل له. قال ابن قتيبة: الأصل في هذا ان الأذن هي السامعة، فقيل: لكل من صدق بكل خبر يسمعه: أذن. وجمهور القراء يقرؤون

{هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ} بالتثقيل. وقرأ نافع:

{هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ} خير باسكان الذال فيهما.

ومعنى {أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ} أي: أذن خير، لا أذن شر، يسمع الخير فيعمل به، ولا يعمل بالشر إذا سمعه. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن يعمر، وابن أبي عبلة:

{أَذِنَ} بالتنوين {خَيْرٌ} بالرفع. والمعنى:إن كان كما قلتم، يسمع منكم ويصدقكم، خير لكم من أن يكذبكم. قال أبو علي: يجوز أن تطلق الأذن على الجملة، كما قال الخليل: إنما سميت الناب من الإبل، لمكان الناب البازل، فسميت الجملة كلها به، فأجروا على الجملة اسم الجارحة لإرادتهم كثرة استعماله لها في الإصغاء بها. ثم بين ممن يقبل، فقال

{يُؤْمِنُ بِٱللّه وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} قال ابن قتيبة: الباء واللام زائدتان، والمعنى: يصدق اللّه ويصدق المؤمنين. وقال الزجاج: يسمع ما ينزله اللّه عليه، فيصدق به، ويصدق المؤمنين فيما يخبرونه به. {وَرَحْمَةً} أي: وهو رحمة، لأنه كان سبب إيمان المؤمنين.

وقرأ حمزة: {وَرَحْمَةً} بالخفض. قال أبو علي: المعنى: أذن خير ورحمة. والمعنى: مستمع خير ورحمة.

٦٢

قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِٱللّه لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} قال ابن السائب: نزلت في جماعة من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع النبي صلى اللّه عليه وسلم، أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم، ويحلفون ويعتلون. وقال مقاتل: منهم عبد اللّه بن أبي، حلف لا يتخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وليكونن معه على عدوه. وقد ذكرنا في الآية التي قبلها أنهم حلفوا أنهم ما نطقوا بالعيب. وحكى الزجاج عن بعض النحويين أنه قال: اللام في

{لِيُرْضُوكُمْ} بمعنى القسم، والمعنى: يحلفون باللّه لكم لنرضينكم. قال: وهذا خطأ، لأنهم إنما حلفوا أنهم ما قالوا ما حكي عنهم ليرضوا باليمين، ولم يحلفوا أنهم يرضون في المستقبل. قلت: وقول مقاتل يؤكد ما أنكره الزجاج، وقد مال إليه الأخفش. قوله تعالى:

{وَٱللّه وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} فيه قولان.

احدهما: بالتوبة والإنابة.

والثاني: بترك الطعن والعيب.

فان قيل: لم قال {يُرْضُوهُ} ولم يقل: {يرضوهما}؟ فقد شرحنا هذا عند قوله:

{وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللّه}.

٦٣

قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ} روى أبو زيد عن المفضل {أَلَمْ تَعْلَمُواْ} بالتاء.

{أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللّه} فيه قولان.

احدهما: من يخالف اللّه، قاله ابن عباس.

والثاني: من يعادي اللّه، كقولك: من يجانب اللّه ورسوله، أي: يكون في حد، واللّه ورسوله في حد. قوله تعالى:

{فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ}

قرأ الجمهور: {فَانٍ} بفتح الهمزة. وقرأ أبو رزين، وأبو عمران، وابن أبي عبلة: بكسرها، فمن كسر، فعلى الاستئناف بعد الفاء، كما تقول: فله نار جهنم. ودخلت {ءانٍ} مؤكدة. ومن قال: {فَإِنَّ لَهُ} فانما أعاد {ءانٍ} الأولى توكيدا؛ لأنه لما طال الكلام، كان إعادتها أوكد.

٦٤

قوله تعالى: {يَحْذَرُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ}

في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن المنافقين كانوا يعيبون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيما بينهم، ويقولون: عسى اللّه أن لا يفشي سرنا، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.

والثاني: أن بعض المنافقين قال: لوددت أني جلدت مائة جلدة، ولا ينزل فينا شيء يفضحنا، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.

والثالث: أن جماعة من المنافقين وقفوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم في ليلة مظلمة عند مرجعه من تبوك ليفتكوا به، فأخبره جبريل عليه السلام، ونزلت هذه الآية، قاله ابن كيسان.

وفي قوله: {يَحْذَرُ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ} قولان.

احدهما: أنه إخبار من اللّه عز وجل عن حالهم، قاله الحسن، وقتادة، واختاره ابن القاسم.

والثاني: أنه أمر من اللّه عز وجل لهم بالحذر، فتقديره: ليحذر المنافقون، قاله الزجاج: قال ابن الانباري: والعرب ربما أخرجت الأمر على لفظ الخبر، فيقولون: يرحم اللّه المؤمن، ويعذب الكافر؛ يريدون: ليرحم وليعذب، فيسقطون اللام، ويجرونه مجرى الخبر في الرفع، وهم لا ينوون إلا الدعاء؛ والدعاء مضارع للأمر. قوله تعالى:

{قُلْ} هذا وعيد خرج مخرج الأمر تهديدا.

وفي قوله: {ٱسْتَهْزِءواْ إِنَّ ٱللّه مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} وجهان.

احدهما: مظهر ما تسرون.

والثاني: ناصر من تخذلون، ذكرهما الماوردي.

٦٥

انظر تفسير الآية:٦٦

٦٦

قوله تعالى: {لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} في سبب نزولها ستة أقوال.

احدها: أن جد بن قيس، ووديعة بن خذام، والجهير بن خمير، كانوا يسيرون بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرجعه من تبوك، فجعل رجلان منهم يستهزآن برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. والثالث: يضحك مما يقولان ولا يتكلم بشيء، فنزل جبريل فأخبره بما يستهزؤون به ويضحكون؛ فقال لعمار بن ياسر:

{ٱذْهَبْ مَن كَانَ فِى ٱلْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنّى عَبْدُ ٱللّه} فلما سألهم، وقال: أحرقكم اللّه؛ علموا أنه قد نزل فيهم قرآن، فأقبلوا يعتذرون إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وقال الجهير: واللّه ما تكلمت بشيء، وإنما ضحكت تعجبا من قولهم، فنزل قوله:

{لاَ تَعْتَذِرُواْ} يعني جد بن قيس، ووديعة

{أَن يَعْفُوَ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ} يعني: الجهير

{نُعَذّبْ طَائِفَةً} يعني: الجد، ووديعة، هذا قول أبي صالج عن ابن عباس.

والثاني: أن رجلا من المنافقين قال: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، ولا أرغب بطونا، ولا أكذب، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، فقال له عوف بن مالك: كذبت، لكنك منافق، لأخبرن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فذهب ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه؛ فجاء ذلك الرجل فقال: يا رسول اللّه، إنما كنا نخوض ونلعب، هذا قول ابن عمر، وزيد بن أسلم، والقرظي.

والثالث: أن قوما من المنافقين كانوا يسيرون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: إن كان ما يقول هذا حقا، لنحن شر من الحمير، فأعلم اللّه نبيه ما قالوا، ونزلت:

{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} قاله سعيد بن جبير.

والرابع: أن رجلا من المنافقين قال: يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا، وما يدريه ما الغيب؟ فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.

والخامس: أن ناسا من المنافقين قالوا: يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات، فأطلع اللّه نبيه على ذلك،فقال نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

{احبسوا علي الركب} فأتاهم، فقال: {قُلْتُمْ} فقالوا: إنما كنا نخوض ونلعب؛ فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.

والسادس: أن عبد اللّه بن أبي، ورهطا معه، كانوا يقولون في رسول اللّه وأصحابه مالا ينبغي، فاذا بلغ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، فقال اللّه تعالى:

{ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ قُلْ} لهم {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا}، قاله الضحاك. فقوله:

{تَحْذَرُونَ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ} أي: عما كانوا فيه من الاستهزاء

{لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} أي: نلهو بالحديث.

وقوله: {قَدْ كَفَرْتُمْ} أي: قد ظهر كفركم بعد إظهاركم الإيمان؛ وهذا يدل على أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء. قوله تعالى:

{أَن يَعْفُوَ عَن طَائِفَةٍ مّنْكُمْ} قرأ الأكثرون {أَن يَعْفُوَ} بالياء،

{تُعَذّبَ} بالتاء. وقرأ عاصم غير أبان {إِن نَّعْفُ} {نُعَذّبْ} بالنون فيهما ونصب

{طَائِفَةٌ}، والمعنى: إن نعف عن طائفة منكم بالتوفيق للتوبة، نعذب طائفة بترك التوبة. وقيل: الطائفتان هاهنا ثلاثة، فاستهزأ اثنان، وضحك واحد. ثم أنكر عليهم بعض ما سمع. وقد ذكرنا عن ابن عباس أسماء الثلاثة، وأن الضاحك اسمه الجُهير،

وقال غيره: هو مخشي بن خمير. وقال ابن عباس، ومجاهد: الطائفة: الواحد فما فوقه. وقال الزجاج: أصل الطائفة في اللغة: الجماعة؛ ويجوز أن يقال للواحد: طائفة، يراد به: نفس طائفة. قال ابن الانباري: إذا أريد بالطائفة الواحد، كان اصلها طائفا، على مثال: قائم وقاعد، فتدخل الهاء للمبالغة في الوصف، كما يقال: رواية، علامة، نسابة. قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: ما فُرغ من تنزيل {بَرَاءةٌ} حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا ينزل فيه شيء.

٦٧

انظر تفسير الآية:٧٠

٦٨

انظر تفسير الآية:٧٠

٦٩

انظر تفسير الآية:٧٠

٧٠

قوله تعالى: {ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ} قال ابن عباس: بعضهم على دين بعض. وقال مقاتل: بعضهم أولياء بعض، {يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ} وهو الكفر،

{وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ} وهو الإيمان.

وفي قوله: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أربعة أقوال.

احدها: يقبضونها عن الإنفاق في سبيل اللّه، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد.

والثاني: عن كل خير، قاله قتادة.

والثالث: عن الجهاد في سبيل اللّه.

والرابع: عن رفعها في الدعاء إلى اللّه تعالى، ذكرهما الماوردي. قوله تعالى:

{نَسُواْ ٱللّه فَنَسِيَهُمْ} قال الزجاج: تركوا أمره فتركهم من رحمته وتوفيقه. قال: وقوله:

{هِىَ حَسْبُهُمْ} أي: هي كفاية ذنوبهم، كما تقول: عذبتك حسب فعلك، وحسب فلان ما نزل به، أي: ذلك على قدر فعله. وموضع الكاف في قوله:

{كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} نصب، أي: وعدكم اللّه على الكفر به كما وعد الذين من قبلكم.

وقال غيره: رجع عن الخبر عنهم إلى مخاطبتهم، وشبههم في العدول عن أمره بمن كان قبلهم من الأمم الماضية. قوله تعالى:

{فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلَـٰقِهِمْ} قال ابن عباس: استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا. وقال الزجاج: بحظهم من الدنيا. قوله تعالى:

{وَخُضْتُمْ} أي: في الطعن على الدين وتكذيب نبيكم كما خاضوا.

{أُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ فِي ٱلدنْيَا} لأنها لم تقبل منهم، وفي الآخرة، لأنهم لا يثابون عليها،

{وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ} بفوت الثواب وحصول العقاب. قوله تعالى:

{وَقَوْمِ إِبْرٰهِيمَ} قال ابن عباس: يريد نمرود بن كنعان

{وِأَصْحَـٰبِ مَدْيَنَ} يعني: قوم شعيب

{وَٱلْمُؤْتَفِكَـٰتِ} قرى لوط، قال الزجاج: وهم جمع مؤتفكة، ائتفكت بهم الأرض، أي: انقلبت. قال: ويقال: إنهم جميع من أُهلك، [كما] يقال للّهالك: انقلبت عليه الدنيا. قوله تعالى:

{أَتَتْهُمْ} يعني هذه الأمم {رُسُلُهُم بِٱلْبَيّنَـٰتِ} فكذبوا بها،

{فَمَا كَانَ ٱللّه لِيَظْلِمَهُمْ} قال ابن عباس: ليهلكهم حتى يبعث فيهم نبيا ينذرهم، والمعنى: أنهم أهلكوا باستحقاقهم.

٧١

انظر تفسير الآية:٧٢

٧٢

قوله تعالى: {وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} أي: بعضهم يوالي بعضا، فهم يد واحدة، يأمرون بالإيمان، وينهون عن الكفر. قوله تعالى:

{فِى جَنَّـٰتِ عَدْنٍ} قال أبو عبيدة: في جنات خلد، يقال: عدن فلان بأرض كذا، أي: أقام؛ ومنه: المعدن، وهو في معدن صدق، أي: في أصل ثابت.

قال الأعشى:

وإن تستضيفوا إلى حلمه  تضافوا إلى راجح قد عدن

أي: رزين لا يستخف. قال ابن عباس: جنات عدن، هي بطنان الجنة، وبطنانها: وسطها، وهي أعلى درجة في الجنة، وهي دار الرحمن عز وجل، وسقفها عرشه، خلقها بيده، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محدقة بها. قوله تعالى:

{وَرِضْوٰنٌ مّنَ ٱللّه أَكْبَرُ} قال ابن عباس: أكبر مما يوصف. وقال الزجاج: أكبر مما هم فيه من النعيم.

فان قيل: لم يكن الرضوان أكبر من النعيم؟ فعنه جوابان.

احدهما: أن سرور القلب برضى الرب نعيم يختص بالقلب، وذاك أكبر من نعيم الأكل والشرب. وفي حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:

" يقول اللّه عز وجل لأهل الجنة: يا أهل الجنة، هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا ومالنا لا نرضى، وقد أعطيتنا مالم تعط أحداً من خلقك، فيقول: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أُحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبداً ".

والثاني: أن الموجب للنعيم الرضوان، والموجب ثمرة الموجب، فهو الأصل.

٧٣

قوله تعالى: {جَـٰهِدِ ٱلْكُفَّـٰرَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ} أما جهاد الكفار فبالسيف وفي جهاد المنافقين قولان.

احدهما: أنه باللسان، قاله ابن عباس، والحسن، والضحاك، والربيع بن أنس.

والثاني: جهادهم باقامة الحدود عليهم، روي عن الحسن، وقتادة.

فان قيل: إذا كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أمر بجهادهم وهو يعلم أعيانهم، فكيف تركهم بين أظهر أصحابه فلم يقتلهم؟.

فالجواب: أنه إنما أمر بقتال من أظهر كلمة الكفر وأقام عليها، فأما من إذا أطلع على كفره، أنكر وحلف وقال: إني مسلم، فانه أمر أن يأخذه بظاهر أمره، ولا يبحث عن سره.

قوله تعالى: {وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ} قال ابن عباس: يريد: شدة الانتهار لهم، والنظر بالبغضة والمقت.

وفي الهاء والميم من عليهم قولان.

احدهما: أنه يرجع إلى الفريقين، قاله ابن عباس.

والثاني: إلى المنافقين، قاله مقاتل.

٧٤

قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِٱللّه مَا قَالُواْ}

في سبب نزولها ثلاثة أقوال.

احدها: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذكر المنافقين فعابهم؛ فقال الجلاس بن سويد: إن كان ما يقول على إخواننا حقا، لنحن شر من الحمير، فقال عامر بن قيس: واللّه إنه لصادق، ولأنتم شر من الحمير؛ وأخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك، فأتى الجلاسُ فقال: ما قلت شيئا، فحلفا عند المنبر، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وذهب إلى نحوه الحسن، ومجاهد، وابن سيرين.

والثاني: أن عبد اللّه بن ابي قال: واللّه لئن رجعنا إلى المدينة، ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمعه رجل من المسلمين، فأخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأرسل إليه، فجعل يحلف باللّه ما قال، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.

والثالث: أن المنافقين كانوا إذا خلوا، سبوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، وطعنوا في الدين، فنقل حذيفة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعض ذلك، فحلفوا ما قالوا شيئا، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك. فأما كلمة الكفر، فهي سبهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وطعنهم في الدين.

وفي سبب قوله: {وَهَمُّواْ لَمْ يَنَالُواْ} أربعة أقوال.

احدها: أنها نزلت في ابن أبي حين قال: لئن رجعنا إلى المدينة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة.

والثاني: أنها نزلت فيهم حين هموا بقتل رسول اللّه، رواه مجاهد عن ابن عباس، قال: والذي هم رجل يقال له: الأسود. وقال مقاتل: هم خسة عشر رجلا، هموا بقتله ليلة العقبة.

والثالث: أنه لما قال بعض المنافقين: إن كان ما يقول محمد حقا، فنحن شر من الحمير؛ وقال له رجل من المؤمنين: لأنتم شر من الحمير، هم المنافق بقتله؛ فذلك قوله:

{وَهَمُّواْ لَمْ يَنَالُواْ} هذا قول مجاهد.

والرابع:أنهم قالوا في غزوة تبوك: إذا قدمنا المدينة، عقدنا على رأس عبد اللّه بن أبي تاجا نباهي به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؛ فلم ينالوا ما هموا به. قوله تعالى:

{وَمَا نَقَمُواْ إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ ٱللّه} قال ابن قتيبة: أي: ليس ينقمون شيئا، ولا يتعرفون من اللّه إلا الصنع، ومثله

قول الشاعر:

ما نقم الناس من أمية إلا  أنهم يحلمون إن غضبوا

وأنهم سادة الملوك ولا  تصلح إلا عليهم العرب وهذا ليس مما ينقم، وإنما أراد أن الناس لا ينقمون عليهم شيئا، وكقول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم  بهن فلول من قراع الكتائب أي: ليس فيهم عيب. قال ابن عباس: كانوا قبل قدوم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة في ضنك من معاشهم، فلما قدم عليهم، غنموا، وصارت لهم الأموال. فعلى هذا، يكون الكلام عاما. وقال قتادة: هذا في عبد اللّه بن أبي. وقال عروة: هو الجلاس بن سويد، قتل له مولى، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بديته، فاستغنى، فلما نزلت:

{فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ} قال الجلاس: أنا أتوب إلى اللّه. قوله تعالى:

{وَإِن يَتَوَلَّوْا} أي: يعرضوا عن الإيمان. قال ابن عباس: كما تولى عبد اللّه بن أبي،

{يُعَذّبْهُمُ ٱللّه عَذَابًا أَلِيمًا فِى ٱلدُّنْيَا} بالقتل، وفي الآخرة بالنار.

٧٥

قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَـٰهَدَ ٱللّه}

في سبب نزولها أربعة أقوال.

احدها: أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري، أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه، ادع اللّه أن يرزقني مالا، فقال: {ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تطيقه} قال: ثم قال مرة أخرى، فقال: {أَمَّا تَرْضَىٰ أَن تَكُونَ مَثَلُ نَّبِىٍّ ٱللّه} فقال: والذي بعثك بالحق، لئن دعوت اللّه أن يرزقني مالا، لأوتين كل ذي حق حقه. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {ٱللّهمَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} فاتخذ غنما، فنمت، فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، ونزل واديا من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما. ثم نمت، حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، ثم نمت، فترك الجمعة. فسأل عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأخبر خبره، فقال: {يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة} وأنزل اللّه تعالى: {عَسَى ٱللّه أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً} وأنزل فرائض الصدقة، فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلين على الصدقة، وكتب لهما كتابا يأخذان الصدقة، وقال: {مرا بثعلبة، وبفلان} رجل من بني سُليم، فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: ما هذا إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، ما أدري ما هذا، انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إلي، فانطلقا. فأُخبر السلمي، فاستقبلهما بخيار ماله، فقالا: لا يجب هذا عليك، فقال: خذاه فان نفسي بذلك طيبة؛ فأخذا منه. فلما فرغا من صدقتهما، مرا بثعلبة، فقال: أروني كتابكما، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية، انطلقا حتى أرى رأيي، فانطلقا، فأخبرا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما كان، فنزلت هذه الآية إلى قوله

{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ}، وكان عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة، فخرج إلى ثعلبة، فأخبره، فأتى رسول اللّه، وسأله أن يقبل منه صدقته، فقال: {أَنَّ ٱللّه قَدْ}؛ فجعل يحثو التراب على رأسه.فقال: {هَـٰذَا عَمَلُكَ قَدْ أَمَرْتُكَ فَلَمْ}. فرجع إلى منزله، وقبض رسول اللّه، ولم يقبل منه شيئا، فلما ولي أبو بكر، سأله أن يقبل منه، فأبى، فلما ولي عمر، سأله أن يقبل منه، فأبى، فلما ولي عثمان، سأله أن يقبلها؛ فقال: لم يقبلها رسول اللّه، ولا أبو بكر، ولا عمر، فلم يقبلها. وهلك ثعلبة في خلافة عثمان رضي اللّه عنه.

روى هذا الحديث القاسم عن أبي أمامة الباهلي. وقال ابن عباس: مر ثعلبة على مجلس، فأشهدهم على نفسه: لئن آتاني اللّه من فضله، آتيت كل ذي حق حقه، وفعلت كذا وكذا. فآتاه اللّه من فضله، فأخلف ما وعد؛ فقص اللّه علينا شأنه.

والثاني: أن رجلا من بني عمرو بن عوف، كان له مال بالشام، فأبطأ عنه، فجهد له جهدا شديدا، فحلف باللّه لئن آتانا من فضله، أي: من ذلك المال، لأصدقن منه، ولأصلن، فأتاه ذلك المال، فلم يفعل، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس. قال ابن السائب: والرجل حاطب بن أبي بلتعة.

والثالث: أن ثعلبة، ومعتب بن قشير، خرجا على ملأ، فقالا: واللّه لئن رزقنا اللّه لنصدقن. فلما رزقهما، بخلا به، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن، ومجاهد.

والرابع: أن نبتل بن الحارث، وجد بن قيس، وثعلبة بن حاطب، ومعتب ابن قشير، قالوا: لئن آتانا اللّه من فضله لنصدقن. فلما آتاهم من فضله بخلوا به، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك. فأما التفسير: فقوله:

{حَكِيمٌ وَمِنْهُمُ} يعني: المنافقين {مَّنْ عَـٰهَدَ ٱللّه} أي: قال علي عهد اللّه

{لَنَصَّدَّقَنَّ} الأصل: لنتصدقن، فأدغمت التاء في الصاد لقربها منها.

{وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} أي: لنعملن ما يعمل أهل الصلاح في أموالهم من صلة الرحم والإنفاق في الخير.

وقد روى كهمس عن معبد بن ثابت أنه قال: إنما هو شيء نووه في أنفسهم، ولم يتكلموا به، ألم تسمع إلى قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللّه يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ}.

٧٦

قوله تعالى: {فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ} أي: ما طلبوا من المال

{بَخِلُواْ بِهِ} ولم يفوا بما عاهدوا {وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} عن عهدهم.

٧٧

انظر تفسير الآية:٧٨

٧٨

قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ} أي: صير عاقبة أمرهم النفاق.

وفي الضمير في {أعقبهم} قولان.

احدهما: أنها ترجع إلى اللّه، فالمعنى: جازاهم اللّه بالنفاق، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد.

والثاني: أنها ترجع إلى البخل، فالمعنى: أعقبهم بخلهم بما نذروا نفاقا، قاله الحسن. قوله تعالى: {عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُواْ} يعني المنافقين {أَنَّ ٱللّه يَعْلَمُ سِرَّهُمْ} وهو ما في نفوسهم

{وَنَجْوٰهُم} حديثهم بينهم.

٧٩

قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوّعِينَ}

في سبب نزولها قولان.

احدهما: أنه لما نزلت آية الصدقة، جاء رجل فتصدق بصاع، فقالوا: إن اللّه لغني عن صاع هذا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو مسعود.

والثاني: أن عبد الرحمن بن عوف جاء بأربعين أوقية من ذهب، وجاء رجل من الأنصار بصاع من طعام؛ فقال بعض المنافقين: واللّه ما جاء به عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء، وإن كان اللّه ورسوله لغنيين عن هذا الصاع، قاله ابن عباس.

وفي هذا الأنصاري قولان.

احدهما: أنه أبو خيثمة، قاله كعب بن مالك.

والثاني: أنه أبو عقيل.

وفي اسم أبي عقيل ثلاثة أقوال.

احدها: عبد الرحمن بن بيجان، رواه أبو صالح عن ابن عباس. ويقال: ابن بيحان. ويقال: سيحان. وقال مقاتل: هو أبو عقيل بن قيس.

والثاني: أن اسمه الحبحاب، قاله قتادة.

والثالث: الحباب. قال قتادة: جاء عبد الرحمن بأربعة آلاف، وجاء عاصم ابن عدي بن العجلان بمائة وسق من تمر. و {يَلْمِزُونَ} بمعنى: يعيبون

و {ٱلْمُطَّوّعِينَ} أي: المتطوعين، قال الفراء: أدغمت التاء في الطاء، فصارت طاء مشددة. والجهد: لغة أهل الحجاز، ولغة غيرهم الجهد. قال أبو عبيدة: الجهد، بالفتح والضم سواء، ومجازه: طاقتهم. وقال ابن قتيبة: الجهد: الطاقة؛ والجهد: المشقة.

قال المفسرون: عني بالمطوعين عبد الرحمن، وعاصم، وبالذين لا يجدون إلا جهدهم: أبو عقيل. وقوله: {سَخِرَ ٱللّه مِنْهُمْ} أي: جازاهم على فعلهم. وقد سبق هذا المعنى.

٨٠

قوله تعالى: {ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}

سبب نزولها: أنه لما نزل وعيد اللامزين قالوا: يا رسول اللّه، استغفر لنا، فنزلت هذه الآية، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَهُمْ أَكْثَرَ مِن سَبْعِينَ لَعَلَّ ٱللّه يُغْفَرْ لَهُمْ} فنزل قوله:

{سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} قاله أبو صالح عن ابن عباس. وظاهر قوله:

{ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الأمر، وليس كذلك؛ إنما المعنى: إن استغفرت، وإن لم تستغفر، لا يُغفر لهم، فهو كقوله:

{أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً}، وقد سبق شرح هذا المعنى هناك، هذا قول المحققين. وذهب قوم إلى أن ظاهر اللفظ يعطي أنه إن زاد على السبعين، رجي لهم الغفران. ثم نسخت بقوله: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}.

فان قيل: كيف جاز أن يستغفر لهم، وقد أخبر بأنهم كفروا؟

فالجواب: أنه إنما استغفر لقوم منهم على ظاهر إسلامهم من غير أن يتحقق خروجهم عن الإسلام، ولا يجوز أن يقال: علم كفرهم ثم استغفر.

فان قيل: ما معنى حصر العدد بسبعين؟

فالجواب: أن العرب تستكثر في الآحاد من سبعة، وفي العشرات من سبعين.

٨١

قوله تعالى: {فَرِحَ ٱلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ} يعني: المنافقين الذين تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك. والمخلف: المتروك خلف من مضى.

{بِمَقْعَدِهِمْ} أي: بقعودهم.

وفي قوله: {خِلَـٰفَ رَسُولِ ٱللّه} قولان.

احدهما: أن معناه: بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قاله أبو عبيدة.

والثاني: أن معناه: مخالفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو منصوب، لأنه مفعول له، فالمعنى: بأن قعدوا لمخالفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قاله الزجاج. وقرأ ابن مسعود، وابن يعمر، والأعمش، وابن أبي عبلة:

{خِلَـٰفَ رَسُولِ ٱللّه} ومعناها: أنهم تأخروا عن الجهاد.

وفي قوله: {لاَ تَنفِرُواْ فِى ٱلْحَرّ} قولان.

احدهما: أنه قول بعضهم لبعض، قاله ابن اسحاق، ومقاتل.

والثاني: أنهم قالوه للمؤمنين، ذكره الماوردي. وإنما قالوا هذا، لأن الزمان كان حينئذ شديد الحر.

{قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا} لمن خالف أمر اللّه.وقوله:

{يَفْقَهُونَ} معناه: يعلمون. قال ابن فارس: الفقه: العلم بالشيء. تقول: فقهت الحديث أفقهه؛ وكل علم بشيء؛ فقه، ثم اختص به علم الشريعة، فقيل لكل عالم بها: فقيه. قال المصنف: وقال شيخنا علي بن عبيد اللّه: الفقه في إطلاق اللغة: الفهم، وفي عرف الشريعة: عبارة عن معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بأفعال المكلفين، بنحو: التحليل، والتحريم، والإيجاب، والإجزاء، والصحة، والفساد، والغرم، والضمان، وغير ذلك.

وبعضهم يختار أن يقال: الفقه: فهم الشيء. وبعضهم يختار أن يقال: علم الشيء.

٨٢

قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً} لفظه لفظ الأمر، ومعناه التهديد.

وفي قلة ضحكهم وجهان.

احدهما: أن الضحك في الدنيا، لكثرة حزنها وهمومها، قليل، وضحكهم فيها أقل، لما يتوجه إليهم من الوعيد.

والثاني: أنهم إنما يضحكون في الدنيا، وبقاؤها قليل.

{وَلْيَبْكُواْ كَثِيرًا} في الآخرة. قال أبو موسى الأشعري: إن أهل النار ليبكون الدموع في النار، حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت، ثم إنهم ليبكون الدم بعد الدموع، فلمثل ما هم فيه فليُبكي. قوله تعالى:

{جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} أي: من النفاق والمعاصي.

٨٣

قوله تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ ٱللّه} أي: ردك من غزوة تبوك إلى المدينة،

{إِلَىٰ طَائِفَةٍ} من المنافقين الذين تخلفوا بغير عذر. وإنما قال:

{إِلَىٰ طَائِفَةٍ} لأنه ليس كل من تخلف عن تبوك كان منافقا.

{فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} معك إلى الغزو،

{فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا} إلى غزاة، {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِٱلْقُعُودِ} عني {أَوَّلَ مَرَّةٍ} حين لم تخرجوا إلى تبوك.

وذكر الماوردي في قوله: {أَوَّلَ مَرَّةٍ} قولين.

احدهما: أول مرة دعيتم.

والثاني: قبل استئذانكم. فأما الخالفون، فقال أبو عبيدة: الخالف: الذي خلف بعد شاخص، فقعد في رحله، وهو الذي يتخلف عن القوم.

وفي المراد بالخالفين قولان.

احدهما: أنهم الرجال الذين تخلفوا لأعذار، قاله ابن عباس.

والثاني: أنهم النساء والصبيان، قاله الحسن، وقتادة.

٨٤

قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلّ عَلَىٰ أَحَدٍ مّنْهُم} سبب نزولها: أنه لما توفي عبد اللّه ابن أبي، جاء ابنه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: أعطني قميصك حتى أكفنه فيه، وصل عليه، واستغفر له. فأعطاه قميصه؛ فقال: آذني أصلي عليه، فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه، جذبه عمر بن الخطاب، وقال: أليس قد نهاك اللّه أن تصلي على المنافقين؟ فقال: أنا بين خيرتين:

{ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} فصلى عليه، فنزلت هذه الآية، رواه نافع عن ابن عمر. قال قتادة: ذكر لنا أن نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول:

{ما يُغْني عنه قميصي من عذاب اللّه تعالى، واللّه إني لأرجو أن يُسْلِمَ به ألف من قومه} قال الزجاج: فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وأراد الصلاة عليه. فأما قوله:

{مِنْهُمْ} فانه يعني المنافقين. وقوله {وَلاَ تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ}

قال المفسرون: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا دفن الميت، وقف على قبره ودعا له؛ فنهي عن ذلك في حق المنافقين. وقال ابن جرير: معناه: لا تتول دفنه؛ وهو من قولك: قام فلان بأمر فلان، وقد تقدم تفسيره.

٨٥

انظر تفسير الآية:٨٩

٨٦

انظر تفسير الآية:٨٩

٨٧

انظر تفسير الآية:٨٩

٨٨

انظر تفسير الآية:٨٩

٨٩

قوله تعالى: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوٰلُهُمْ} سبق تفسيره. قوله تعالى:

{وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ} هذا عام في كل سورة. وقال مقاتل: المراد بها: سورة {بَرَاءةٌ}. قوله تعالى:

{أَنْ ءامِنُواْ} أي: بأن آمنوا. وفيه ثلاثة أوجه.

احدها: استديموا الإيمان.

والثاني: افعلوا فعل من آمن.

والثالث: آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم. فعلى هذا يكون الخطاب للمنافقين. قوله تعالى:

{ٱسْتَأْذَنَكَ} أي: في التخلف {أُوْلُو ٱلطَّوْلِ} يعني: الغني وهم الذين لا عذر لهم في التخلف،

وفي الخوالف قولان.

احدهما: أنهم النساء، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وشمر بن عطية، وابن زيد، والفراء. وقال أبو عبيدة: يجوز أن تكون الخوالف هاهنا: النساء، ولا يكادون يجمعون الرجال على تقدير فواعل، غير أنهم قد قالوا: فارس، والجميع: فوارس، وهالك [في قوم] هوالك. قال ابن الانباري: الخوالف لا يقع إلا على النساء، إذ العرب تجمع فاعلة: فواعل، فيقولون: ضاربة، وضوارب، وشاتمة، وشواتم، ولا يجمعون. فاعلا: فواعل، إلا في حرفين: فوارس، وهوالك؛ فيجوز أن يكون مع الخوالف: المتخلفات في المنازل. ويجوز أن يكون: مع المخالفات العاصيات. ويجوز أن يكون: مع النساء العجزة اللاتي لا مدافعة عندهن.

والقول الثاني: أن الخوالف خساس الناس وأدنياؤهم، يقال: فلان خالفة أهله: إذا كان دونهم، ذكره ابن قتيبة؛ فأما {طَبَعَ} فقال أبو عبيدة:معناه: ختم. و{ٱلْخَيْرٰتِ} جمع خيرة.

وللمفسرين في المراد بالخيرات ثلاثة أقوال.

احدها: أنها الفاضلات من كل شيء، قاله أبو عبيدة.

والثاني: الجواري الفاضلات، قاله المبرد.

والثالث: غنائم الدنيا، ومنافع الجهاد، ذكره الماوردي.

٩٠

قوله تعالى: {وَجَاء ٱلْمُعَذّرُونَ} وقرأ ابن مسعود: {المعتذرون}.

وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن يعمر، ويعقوب:

{وَجَاء ٱلْمُعَذّرُونَ} بسكون العين وتخفيف الذال. وقرأ ابن السميفع:

{المعاذرون} بألف. قال أبو عبيدة:

{وَجَاء ٱلْمُعَذّرُونَ}: من يعذر، وليس بجاد، وإنما يعرض بما لا يفعله، أو يظهر غير ما في نفسه. وقال ابن قتيبة: يقال: عذرت في الأمر: إذا قصرت، وأعذرت: جددت.

وقال الزجاج: من قرأ {ٱلْمُعَذّرُونَ} بتشديد الذال، فتأويله: المعتذرون الذين يعتذرون، كان لهم عذر، أو لم يكن، وهو هاهنا أشبه بأن يكون لهم عذر،

وأنشدوا:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما  ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

أي: فقد جاء بعذر. ويجوز أن يكون {ٱلْمُعَذّرُونَ} الذين يعذرون، يوهمون أن لهم عذرا، ولا عذر لهم. ويجوز في النحو: المعذرون، بكسر العين، والمعذرون، بضم العين، غير أنه لم يقرأ بهما، لأن اللفظ بهما يثقل.

ومن قرأ {ٱلْمُعَذّرُونَ}: بتسكين العين، فتأويله: الذين أعذروا وجاؤوا بعذر. وقال ابن الانباري: المعذرون هاهنا: المعتذرون بالعذر الصحيح. وأصل الكلمة عند أهل النحو: المعتذرون، فحولت فتحة التاء إلى العين، وأبدلت الذال من التاء، وأدغمت في الذال التي بعدها، فصارتا ذالا مشددة. ويقال في كلام العرب: اعتذر إذا جاء بعذر صحيح، وإذا لم يأت بعذر. قال اللّه تعالى: {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ} فدل على فساد العذر، وقال لبيد:

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

اي: فقد جاء بعذر صحيح.

وكان ابن عباس يقرأ: {ٱلْمُعَذّرُونَ} ويقول: لعن اللّه المعذرين. يريد: لعن اللّه المقصرين من المنافقين وغيرهم. والمعذرون: الذين يأتون بالعذر الصحيح، فبان من هذا الكلام أن لهم عذرا على قراءة من خفف. وهل يثبت لهم عذر على قراءة من شدد؟ فيه قولان.

قال المفسرون: جاء هؤلاء ليؤذن لهم في التخلف عن تبوك، فأذن لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،وقعد آخرون من المنافقين بغير عذر وإظهار علة، جرأة على اللّه تعالى.

٩١

انظر تفسير الآية:٩٣

٩٢

انظر تفسير الآية:٩٣

٩٣

قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَاء} اختلفوا فيمن نزلت على قولين.

احدهما: أنها نزلت في عائذ بن عمرو وغيره من أهل العذر، قاله قتادة.

والثاني: في ابن مكتوم، قاله الضحاك. وفي المراد بالضعفاء ثلاثة اقوال.

احدها: أنهم الزمنى والمشايخ الكبار، قاله ابن عباس، ومقاتل.

والثاني: أنهم الصغار.

والثالث: المجانين، سموا ضعافا لضعف عقولهم، ذكر القولين الماوردي. والصحيح انهم الذين يضعفون لزمانة، أو عمى، أو سن، أو ضعف في الجسم. والمرضى: الذين بهم أعلال مانعة من الخروج للقتال،

و {ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ} هم المقلون، والحرج: الضيق في القعود عن الغزو بشرط النصح للّه ولرسوله، وفيه وجهان.

احدهما: أن المعنى: إذا برئوا من النفاق.

والثاني: إذا قاموا بحفظ الذراري والمنازل.

فان قيل: بالوجه الأول، فهو يعم جميع المذكورين.

وإن قيل بالثاني: فهو يخص المقلين. وإنما شرط النصح، لأن من تخلف بقصد السعي بالفساد، فهو مذموم؛ ومن النصح للّه: حث المسلمين على الجهاد، والسعي في إصلاح ذات بينهم، وسائر ما يعود باستقامة الدين. قوله تعالى:

{مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} أي: من طريق بالعقوبة، لأن المحسن قد سد باحسانه باب العقاب. قوله تعالى:

{وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} نزلت في البكائين، واختلف في عددهم وأسمائهم، فروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هم ستة: عبد اللّه بن مغفل، وصخر بن سلمان، وعبد اللّه بن كعب الأنصاري، وعلية بن زيد الانصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن عنمة، أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليحملهم، فقال:

{لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} فانصرفوا باكين. وقد ذكر محمد بن سعد كاتب الواقدي مكان صخر بن سلمان: سلمة بن صخر، ومكان ثعلبة بن عنمة: عمرو بن عنمة. قال: وقيل: منهم معقل بن يسار.

وروى أبو إسحاق عن أشياخ له: أن البكائين سبعة من الأنصار: سالم بن عمير، وعلية بن زيد، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب، وعمرو بن الحمام بن الجموح، وعبد اللّه بن مغفل، وبعض الناس يقول بل: عبد اللّه بن عمرو المزني، وعرباض بن سارية، وهرمي ابن عبد اللّه أخو بني واقف. وقال مجاهد: نزلت في بني مقرن، وهم سبعة؛ وقد ذكرهم محمد بن سعد فقال: النعمان بن عمرو بن مقرن، وقال أبو خيثمة: هو النعمان بن مقرن، وسويد بن مقرن، ومعقل بن مقرن، وسنان بن مقرن، وعقيل بن مقرن، وعبد الرحمن بن مقرن، وعبد الرحمن بن عقيل بن مقرن، وقال الحسن البصري: نزلت في أبي موسى وأصحابه. وفي الذي طلبوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يحملهم عليه ثلاثة أقوال.

احدها: أنه الدواب، قاله ابن عباس.

والثاني: الزاد، قاله أنس بن مالك.

والثالث: النعال قاله الحسن.

٩٤

قوله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ} قال ابن عباس: نزلت في المنافقين، يعتذرون إليكم إذا رجعتم من غزوة تبوك، فلا تعذروهم فليس لهم عذر. فلما رجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتوه يعتذرون، فقال اللّه تعالى:

{قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ} لن نصدقكم، قد أخبرنا اللّه أنه ليس لكم عذر

{وَسَيَرَى ٱللّه عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} إن عملتم خيرا وتبتم من تخلفكم

{ثُمَّ تُرَدُّونَ} بعد الموت {إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ} فيخبركم بما كنتم تعملون في السر والعلانية.

٩٥

قوله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بِٱللّه لَكُمْ} قال مقاتل: حلف منهم بضعة وثمانون رجلا، منهم جد بن قيس، ومعتب بن قشير.

قوله تعالى: {لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ} فيه قولان.

احدهما: لتصفحوا عن ذنبهم.

والثاني: لأجل إعراضكم وقد شرحنا في {المائدة} معنى الرجس.

٩٦

قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} قال مقاتل: حلف عبد اللّه بن أبي للنبي صلى اللّه عليه وسلم: لا أتخلف عنك، ولأكونن معك على عدوك، وطلب منه أن يرضى عنه، وحلف عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح لعمر بن الخطاب، وجعلوا يترضون النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لما قدم المدينة: {لا}.

٩٧

قوله تعالى: {عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَـٰسِقِينَ ٱلاْعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا} قال ابن عباس: نزلت في أعاريب أسد وغطفان وأعراب من حول المدينة، أخبر اللّه أن كفرهم ونفاقهم أشد من كفر أهل المدينة، لأنهم أقسى وأجفى من أهل الحضر. قوله تعالى:

{وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ} قال الزجاج: {ءانٍ} في موضع نصب، لأن الباء محذوفة من {ءانٍ} المعنى: أجدر بترك العلم. تقول: جدير أن تفعل، وجدير بأن تفعل، كما تقول: أنت خليق بأن تفعل، أي: هذا الفعل ميسر فيك، فاذا حذفت الباء لم يصلح إلا ب {ءانٍ}، وإن أتيت بالباء صلح ب {ءانٍ} وغيرها، فنقول: أنت جدير بأن تقوم، وجدير بالقيام. فاذا قلت: أنت جدير القيام، كان خطأ، وإنما صلح مع {ءانٍ} لأن {ءانٍ} تدل على الاستقبال، فكأنها عوض من المحذوف.

فأما قوله: {حُدُودَ مَا أَنزَلَ ٱللّه} فيعني به: الحلال والحرام والفرائض.

وقيل: المراد بالآية: أن الأعم في العرب هذا.

٩٨

قوله تعالى: {وَمِنَ ٱلاْعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ} إذا خرج في الغزو،

وقيل: ما يدفعه من الصدقة {مَغْرَمًا} لأنه لا يرجو له ثوابا. قال ابن قتيبة: المغرم: هو الغرم والخسر. وقال ابن فارس: الغرم: ما يلزم أداؤه، والغرام: اللازم، وسمي الغريم لإلحاحه.

وقال غيره: الغرم: التزام مالا يلزم. قوله تعالى:

{وَيَتَرَبَّصُ} أي: وينتظر {بِكُمُ ٱلدَّوَائِرَ} أي: دوائر الزمان بالمكروه، بالموت، أو القتل، أو الهزيمة. وقيل: ينتظر موت الرسول صلى اللّه عليه وسلم، وظهور المشركين. قوله تعالى:

{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ ٱلسَّوْء} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو بضم السين. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {ٱلسَّوْء} بفتح السين.

وكذلك قرؤوا في {سُورَةٌ ٱلْفَتْحُ}، والمعنى: عليهم يعود ما ينتظرونه لك من البلاء. قال الفراء: وفتح السين من السوء هو وجه الكلام. فمن فتح، أراد المصدر: من سؤته سوءا ومساءة. ومن رفع السين، جعله اسما: كقولك عليهم دائرة البلاء والعذاب.

ولا يجوز ضم السين في قوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ ٱمْرَأَ سَوْء} ولا في قوله

{وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْء} لأنه ضد لقولك: رجل صدق. وليس للسوء هاهنا معنى في عذاب ولا بلاء، فيضم.

٩٩

قوله تعالى: {وَمِنَ ٱلاْعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِٱللّه} قال ابن عباس: وهم من أسلم من الأعراب، مثل جهينة، وأسلم، وغفار.

وفي قوله: {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ} قولان.

احدهما: في الجهاد.

والثاني: في الصدقة. فأما القربات، فجمع قربة، وهي: ما يقرب العبد من رضى اللّه ومحبته. قال الزجاج: وفي القربات ثلاثة أوجه: ضم الراء، وفتحها، وإسكانها.

وفي المراد بصلوات الرسول قولان.

احدهما: استغفاره، قاله ابن عباس.

والثاني: دعاؤه، قاله قتادة، وابن قتيبة، والزجاج.

وأنشد الزجاج:

عليك مثل الذي صليت فاغتمضي  نوما فان لجنب المرء مضطجعا

قال: إن شئت قلت: مثل الذي، ومثل الذي؛ فالأمر أمر لها بالدعاء، كأنه قال: ادعي لي مثل الذي دعوت.

والثاني: بمعنى: عليك مثل هذا الدعاء. قوله تعالى:

{أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عمر، وحمزة، والكسائي:

{قُرْبَةٌ لَّهُمْ} خفيفة. وروى ورش، وإسماعيل ابن جعفر عن نافع، وأبان، والمفضل عن عاصم {قُرْبَةٌ} لهم بضم الراء. وفي المشار إليها وجهان.

احدهما: أن الهاء ترجع إلى نفقتهم وإيمانهم.

والثاني: إلى صلوات الرسول. قوله تعالى:

{سَيُدْخِلُهُمُ ٱللّه فِى رَحْمَتِهِ} قال ابن عباس: في جنته.

١٠٠

قوله تعالى: {وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلاْوَّلُونَ} فيهم ستة أقوال.

احدها: أنهم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قاله أبو موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين، وقتادة.

والثاني: أنهم الذين بايعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيعة الرضوان، وهي الحديبية، قاله الشعبي.

والثالث: أنهم أهل بدر، قاله عطاء بن أبي رباح.

والرابع: أنهم جميع أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، حصل لهم السبق بصحبته. قال محمد بن كعب القرظي: إن اللّه قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، وأوجب لهم الجنة محسنهم ومسيئهم في قوله: {وَٱلسَّـٰبِقُونَ ٱلاْوَّلُونَ}.

والخامس: أنهم السابقون بالموت والشهادة، سبقوا إلى ثواب اللّه تعالى، وذكره الماوردي.

والسادس: أنهم الذين أسلموا قبل الهجرة، ذكره القاضي أبو يعلى. قوله تعالى:

{مِنَ ٱلْمُهَـٰجِرِينَ وَٱلانْصَـٰرِ} قرأ يعقوب {وَٱلاْنصَـٰرِ} برفع الراء. قوله تعالى:

{وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ} من قال إن السابقين جميع الصحابة، جعل هؤلاء تابعي الصحابة، وهم الذين لم يصحبوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقد روي عن ابن عباس أنه قال: والذين اتبعوهم باحسان إلى أن تقوم الساعة. ومن قال: هم المتقدمون من الصحابة، قال: هؤلاء تبعوهم في طريقهم، واقتدوا بهم في أفعالهم، ففضل أولئك بالسبق، وإن كانت الصحبة حاصلة للكل. وقال عطاء: اتباعهم إياهم باحسان: أنهم يذكرون محاسنهم ويترحمون عليهم. قوله تعالى:

{تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلانْهَـٰرُ} قرأ ابن كثير: {مِن تَحْتِهَا} فزاد {مِنْ} وكسر التاء الثانية. قوله تعالى:

{رَّضِىَ ٱللّه عَنْهُمْ} يعم الكل. قال الزجاج: رضي اللّه أفعالهم، ورضوا ما جازاهم به.

١٠١

قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مّنَ ٱلاْعْرَابِ مُنَـٰفِقُونَ} قال ابن عباس: مزينة، وجهينة، وأسلم، وغفار، وأشجع، كان فيهم بعد إسلامهم منافقون. قال مقاتل: وكانت منازلهم حول المدينة. قوله تعالى:

{وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ٱلنّفَاقِ} قال ابن عباس: مرنوا عليه وثبتوا، منهم عبد اللّه بن أبي، وجد بن قيس، والجلاس، ومعتب، ووحوح، وأبو عامر الراهب. وقال أبو عبيدة: عتوا ومرنوا عليه، وهو من قولهم: تمرد فلان، ومنه: شيطان مريد.

فان قيل: كيف قال {وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ مَرَدُواْ}، وليس يجوز في الكلام: من القوم قعدوا؟ فعنه ثلاثة أجوبة.

أحدهن: أن تكون {مِنْ} الثانية مردودة على الأولى؛ والتقدير: وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون، ثم استأنف {مَرَدُواْ}.

والثاني: أن يكون في الكلام {مِنْ} مضمر تقديره: ومن أهل المدينة من مردوا؛ فاضمرت {مِنْ} لدلالة {مِنْ} عليها كقوله: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} يريد: إلا من له مقام معلوم؛ وعلى هذا ينقطع الكلام عند قوله: {مُنَـٰفِقُونَ}.

والثالث: أن {مَرَدُواْ} متعلق {بمنافقين} تقديره: ومن أهل المدينة منافقون مردوا، ذكر هذه الأجوبة ابن الأنباري. قوله تعالى:

{لاَ تَعْلَمُهُمْ} فيه وجهان.

احدهما: لا تعلمهم أنت حتى نعلمك بهم.

والثاني: لا تعلم عواقبهم. قوله تعالى:

{سَنُعَذّبُهُم مَّرَّتَيْنِ} فيه عشرة أقوال.

احدها: أن العذاب الأول في الدنيا، وهو فضيحتهم بالنفاق، والعذاب

الثاني: عذاب القبر، قاله ابن عباس. قال: وقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم جمعة خطيبا، فقال: يا

{يَـٰبَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ كَمَا أَخْرَجَ} ففضحهم.

والثاني: أن العذاب الأول: إقامة الحدود عليهم.

والثاني: عذاب القبر، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا.

والثالث: أن أحد العذابين: الزكاة التي تؤخذ منهم، والآخر: الجهاد الذي يؤمرون به،قاله الحسن.

والرابع: الجوع، وعذاب القبر، رواه شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال أبو مالك.

والخامس: الجوع والقتل، رواه سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد.

والسادس: القتل والسبي، رواه معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال ابن قتيبة: القتل والأسر.

والسابع: أنهم عذبوا بالجوع مرتين، رواه خصيف عن مجاهد.

والثامن: أن عذابهم في الدنيا بالمصائب في الأموال والأولاد، وفي الآخرة بالنار، قاله ابن زيد.

والتاسع: أن الأول: عند الموت تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم،

والثاني: في القبر بمنكر ونكير، قاله مقاتل بن سليمان.

والعاشر: أن الأول: بالسيف،

والثاني: عند الموت، قاله مقاتل بن حيان. قوله تعالى:

{ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ} يعني: {عَذَابَ جَهَنَّمَ}.

١٠٢

قوله تعالى: {وَءاخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ}

اختلفوا فيمن نزلت على قولين.

احدهما: أنهم عشرة رهط تخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما دنا رجوع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد. فلما رآهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:

{مِنْ هَـؤُلاَء} قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك، فأقسموا باللّه لا يطلقون أنفسهم حتى تطلقهم أنت وتعذرهم، فقال: وأنا أقسم باللّه لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون اللّه تعالى هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين فنزلت هذه الآية، فأرسل إليهم فأطلقهم وعذرهم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

وروى العوفي عن ابن عباس: أن الذين تخلفوا كانوا ستة، فأوثق أبو لبابة نفسه ورجلان معه، وبقي ثلاثة لم يوثقوا أنفسهم فلما نزلت هذه الآية، أطلقهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعذرهم.

وروى أبو صالح عن ابن عباس: أنهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة بن عبد المنذر، وأوس ابن ثعلبة، ووديعة بن خذام الأنصاري. وقال سعيد بن جبير، ومجاهد، وزيد ابن أسلم: كانوا ثمانية. وقال قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا سبعة.

والثاني: أنها نزلت في ابي لبابه وحده. واختلفوا في ذنبه على قولين.

احدهما: أنه خان اللّه ورسوله باشارته إلى بني قريظة حين شاوروه في النزول على حكم سعد أنه الذبح، وهذا قول مجاهد، وقد شرحناه في {لأنفال}

والثاني: أنه تخلفه عن تبوك، قاله الزهري. فأما الاعتراف، فهو الاقرار بالشيء عن معرفة. والاعتراف بالذنب أدعى إلى صدق التوبة والقبول. قوله تعالى:

{بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَءاخَرَ سَيّئاً} قال ابن جرير: وضع الواو مكان الباء، والمعنى: بآخر سيء، كما تقول: خلطت الماء واللبن. وفي ذلك العمل قولان.

احدهما: أن العمل الصالح ما سبق من جهادهم، والسيء: التأخر عن الجهاد، قاله السدي.

والثاني: أن العمل الصالح: توبتهم، والسيء: تخلفهم، ذكره الفراء. وفي قوله عسى قولان.

احدهما: أنه واجب من اللّه تعالى، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه ترديد لهم بين الطمع والإشفاق، وذلك يصد عن اللّهو والإهمال.

١٠٣

قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوٰلِهِمْ صَدَقَةً}

قال المفسرون: لما تاب اللّه عز وجل على أبي لبابة وأصحابه قالوا: يا رسول اللّه، هذه أموالنا فتصدق بها عنا، فقال: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا»

فنزلت هذه الآية. {وَفِي هَـٰذِهِ} قولان.

احدهما: أنها الصدقة التي بذلوها تطوعا، قاله ابن زيد، والجمهور.

والثاني: الزكاة، قاله عكرمة. قوله تعالى:

{تُطَهّرُهُمْ} وقرأ الحسن {تُطَهّرُهُمْ بِهَا} بجزم الراء. قال الزجاج: يصلح أن يكون قوله: {تُطَهّرُهُمْ} نعتا للصدقة، كأنه قال: خذ من أموالهم صدقة مطهرة. والأجود أن يكون للنبي صلى اللّه عليه وسلم، المعنى: فانك تطهرهم بها. ف {تُطَهّرُهُمْ} بالجزم، على جواب الأمر، المعنى: إن تأخذ من أموالهم، تطهرهم.

ولا يجوز في: {تزكيهم} إلا إثبات الياء، اتباعا للمصحف. قال ابن عباس:

{صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ} من الذنوب، {وَتُزَكّيهِمْ}: تصلحهم.

وفي قوله {وَصَلّ عَلَيْهِمْ} قولان.

احدهما: استغفر لهم، قاله ابن عباس.

والثاني: ادع لهم، قاله السدي. قوله تعالى:

{إِنَّ صَلَوٰتَكَ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم:

{إِنَّ صَلَوٰتَكَ} على الجمع. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، {ءانٍ} على التوحيد.

وفي قوله: {صَلَوٰتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} خمسة أقوال.

احدها: طمأنينة لهم أن اللّه قد قبل منهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال أبو عبيدة: تثبيت وسكون.

والثاني: رحمة لهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

والثالث: قربة لهم، رواه الضحاك عن ابن عباس.

والرابع: وقار لهم، قاله قتادة.

والخامس: تزكية لهم. حكاه الثعلبي. قال الحسن، وقتادة: وهؤلاء سوى الثلاثة الذين خلفوا.

١٠٤

انظر تفسير الآية:١٠٥

١٠٥

قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ ٱللّه هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ}

قرأ الجمهور {يَعْلَمُواْ} بالياء. وروى عبد الوارث: {تَعْلَمُواْ} بالتاء. وقوله: {يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} قال أبو عبيدة: أي: من عبيده. تقول: أخذته منك، وأخذته عنك. قوله تعالى:

{وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَـٰتِ} قال ابن قتيبة: أي: يقبلها. ومثله:

{خُذِ ٱلْعَفْوَ} أي اقبله. قوله تعالى:

{وَقُلِ ٱعْمَلُواْ} قال ابن زيد: هذا خطاب للذين تابوا.

١٠٦

قوله تعالى: {وَءاخَرُونَ} وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي:

{وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ} بغير همز. والآية نزلت في كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، وكانوا فيمن تخلف عن تبوك من غير عذر، ثم لم يبالغوا في الاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه، ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري؛ فوقف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمرهم، ونهى الناس عن كلامهم ومخالطتهم حتى نزل قوله:

{وَعَلَى ٱلثَّلَـٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلّفُواْ} قال الزجاج:

{وَءاخَرُونَ} عطف على قوله:

{وَمِنْ أَهْلِ ٱلْمَدِينَةِ} فالمعنى: منهم منافقون،

ومنهم {ءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ} أي: مؤخرون؛ و{أَمَّا} لوقوع أحد الشيئين، واللّه تعالى عالم بما يصير إليه أمرهم، لكنه خاطب العباد بما يعلمون، فالمعنى: ليكن أمرهم عندكم على الخوف والرجاء. قوله تعالى:

{وَٱللّه عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: {عَلِيمٌ} بما يؤول إليه حالهم {حَكِيمٌ} بما يفعله بهم.

١٠٧

قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِدًا} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: {وَٱلَّذِينَ} بواو. وكذلك هي في مصاحفهم.

وقرأ نافع، وابن عامر: {ٱلَّذِينَ} بغير واو، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام. قال أبو علي: من قرأ بالواو، فهو معطوف على ما قبله نحو قوله:

{وَمِنْهُمْ مَّنْ عَـٰهَدَ ٱللّه} {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ} {وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِىَّ} والمعنى: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا. ومن حذف الواو فعلى وجهين.

احدهما: أن يضمر ـ ومنهم الذين اتخذوا ـ كقوله: أكفرتم، المعنى: فيقال لهم: أكفرتم.

والثاني: أن يضمر الخبر بعد، كما أضمر في قوله:

{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللّه وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ} المعنى: ينتقم منهم ويعذبون.

قال أهل التفسير: لما اتخذ بنو عمرو بن عوف مسجد قباء، وبعثوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأتاهم، فصلى فيه، حسدهم إخوتهم بنو غنم بن عوف، وكانوا من منافقي الأنصار، فقالوا: نبني مسجدا، ونرسل إلى رسول اللّه فيصلي فيه، ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام؛ وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية وتنصر، فلما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة، عاداه، فخرج إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن أعدوا من استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجدا، فاني ذاهب إلى قيصر فآتي بجند الروم فأخرج محمدا وأصحابه، فبنوا هذا المسجد، إلى جنب مسجد قباء، وكان الذين بنوه اثني عشر: رجلا خذام بن خالد ومن داره أخرج المسجد، ونبتل بن الحارث، وبجاد بن عثمان، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وعباد بن حنيف، ووديعة بن ثابت، وأبو حبيبة بن الأزعر، وجارية بن عامر، وابناه يزيد ومجمع، وكان مجمع إمامهم فيه، ثم صلحت حاله، وبحزج جد عبد اللّه بن حنيف، وهو الذي قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

{مَا أَرَدْتُّ بِمَا أَرَىٰ} فقال: واللّه ما أردت إلا الحسنى، وهو كاذب.وقال مقاتل: الذي حلف مجمع. وقيل: كانوا سبعة عشر، فلما فرغوا منه، أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: إنا قد ابتنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي فيه، فدعى بقميصه ليلبسه، فنزل عليه القرآن وأخبره اللّه خبرهم، فدعا معن بن عدي، ومالك بن الدخشم في آخرين، وقال: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وأحرقوه، وأمر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يتخذ كناسة تلقى فيها الجيف. ومات أبو عامر بالشام وحيدا غريبا. فأما التفسير: فقال الزجاج: {ٱلَّذِينَ} في موضع رفع، المعنى: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا. و{ضِرَارًا} انتصب مفعولا له، المعنى: اتخذوه للضرار والكفر والتفريق والإرصاد. فلما حذفت اللام، أفضى الفعل، فنصب.

قال المفسرون: والضرار: بمعنى المضارة لمسجد قباء،

{وَكُفْراً} باللّه ورسوله {وَتَفْرِيقًا بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ} لأنهم كانوا يصلون في مسجد قباء جميعا، فأرادوا تفريق جماعتهم، والإرصاد: الانتظار، فانتظروا به مجيء أبي عامر، وهو الذي حارب اللّه ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار.

{وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا} أي: ما أردنا {إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ} أي: ما أردنا بابتنائه إلا الحسنى؛ وفيها ثلاثة أوجه.

احدها: طاعة اللّه.

والثاني: الجنة.

والثالث: فعل التي هي أحسن من إقامة الدين والاجتماع للصلاة. وقد ذكرنا اسم الحالف.

١٠٨

قوله تعالى: {لاَ تَقُمْ فِيهِ} أي: لا تصل فيه أبدا.

{لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ} أي بني على الطاعة، وبناه المتقون

{مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} أي: منذ أول يوم. قال الزجاج: {مِنْ} في الزمان، والأصل: منذ ومذ، وهو الأكثر في الاستعمال. وجائز دخول {مِنْ} لأنها الأصل في ابتداء الغاية والتبعيض، ومثله قول زهير: لمن الديار بقنة الحجر  أقوين من حجج ومن شهروقيل: معناه من مر حجج ومن مر شهر.

وفي هذا المسجد ثلاثة اقوال.

احدها: أنه مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة الذي فيه منبره وقبره. روى سهل بن سعد: أن رجلين اختلفا في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال

احدهما: هو مسجد الرسول،

وقال الآخر: هو مسجد قباء، فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال:

{هُوَ قَبْلَ هَـٰذَا} وبه قال ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري، وسعيد بن المسيب.

والثاني: أنه مسجد قباء، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وقتادة، وعروة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والضحاك، ومقاتل.

والثالث: أنه كل مسجد بني في المدينة، قاله محمد بن كعب. قوله تعالى:

{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} سبب نزولها أن رجالا من أهل قباء كانوا يستنجون بالماء، فنزلت هذه الآية، قاله الشعبي قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية، أتاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال

{مَا ٱلَّذِى ٱثْنَىْ ٱللّه بِهِ عَلَيْكُمْ} فقالوا: إنا نستنجي بالماء. فعلى هذا، المراد به الطهارة بالماء. وقال أبو العالية: أن يتطهروا من الذنوب.

١٠٩

قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي «أسس» بفتح الألف في الحرفين جميعا وفتح النون فيهما. وقرأ نافع، وابن عامر «أسس» بضم الألف «بنيانه» برفع النون. والبنيان مصدر يراد به المبني. والتأسيس: إحكام اس البناء، وهو أصله، والمعنى: المؤسس بنيانه متقيا يخاف اللّه ويرجو رضوانه خير، أم المؤسس بنيانه غير متق؟ قال الزجاج: وشفا الشيء: حرفه وحده. والشفا مقصور، يكتب بالألف، ويثنى شفوان. قوله تعالى:

{جُرُفٍ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي «جرف» مثقلاً. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: «جرف» ساكنة الراء. قال أبو علي: فالضم الأصل، والإسكان تخفيف، ومثله: الشغل والشغل. قال ابن قتيبة: المعنى: على حرف جرف هائر. والجرف: ما يتجرف بالسيول من الأودية. والهائر: الساقط. ومنه: تهور البناء وانهار: إذا سقط. وقرأ ابن كثير، وحمزة «هار» بفتح الهاء. وأمال الهاء نافع، وأبو عمرو. وعن عاصم كالقراءتين. قوله تعالى:

{فَٱنْهَارَ بِهِ} أي: بالباني {فِى نَارِ جَهَنَّمَ} قال الزجاج: وهذا مثل، والمعنى: أن بناء هذا المسجد كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها. وقال قتادة: ذكر لنا أنهم حفروا. فيه حفرة، فرؤي فيها الدخان. قال جابر: رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان.

١١٠

قوله تعالى: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ} يعني مسجد الضرار

{ٱلَّذِى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ} وفيها ثلاثة أقوال:

احدها: شكا ونفاقا، لأنهم كانوا يحسبون أنهم محسنون في بنائه، قاله ابن عباس، وابن زيد.

والثاني: حسرة وندامة، لأنهم ندموا على بنائه، قاله ابن السائب ومقاتل.

والثالث: أن المعنى: لا يزال هدم بنيانهم حزازة وغيظا في قلوبهم، قاله السدي، والمبرد. قوله تعالى:

{إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} قرأ الأكثرون: «إلا» وهو حرف استثناء. وقرأ يعقوب «إلى أن» فجعله حرف جر. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «تقطع» بضم التاء. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم: «تقطع» بفتح التاء.

ثم في المعنى قولان:

احدهما: إلا أن يموتوا، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة في آخرين.

والثاني: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم، ذكره الزجاج.

١١١

قوله تعالى: {إِنَّ ٱللّه ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} سبب نزولها أن الانصار لما بايعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليلة العقبة وكانوا سبعين رجلا، قال عبد اللّه بن رواحة: يا رسول اللّه اشترط لربك ولنفسك، ما شئت، فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، قالوا فاذا فعلنا ذلك، فما لنا؟ قال: «الجنة» قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت

{إِنَّ ٱللّه ٱشْتَرَىٰ} الآية، قاله محمد بن كعب القرظي فأما اشتراء النفس، فبالجهاد. وفي اشتراء الأموال وجهان. بالإنفاق: في الجهاد.

والثاني: بالصدقات. وذكر الشراء هاهنا مجاز، لأن المشتري حقيقة هو الذي لا يملك المشترى، فهو كقوله:

{مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللّه} والمراد من الكلام أن اللّه أمرهم بالجهاد بأنفسهم وأموالهم ليجازيهم عن ذلك بالجنة، فعبر عنه بالشراء لما تضمن من عوض ومعوض. وكان الحسن يقول: لا واللّه، إن في الدنيا مؤمن إلا وقد أخذت بيعته. وقال قتادة: ثامنهم واللّه فأغلى لهم. قوله تعالى:

{فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم «فيقتلون» ويقتلون فاعل ومفعول. وقرأ حمزة، والكسائي «فيقتلون ويقتلون» مفعول وفاعل. قال أبو علي: القراءة الأولى بمعنى أنهم يقتلون أولا ويقتلون، والأخرى يجوز أن تكون في المعنى كالأولى، لأن المعطوف بالواو يجوز أن يراد به التقديم؛ فان لم يقدر فيه التقديم، فالمعنى: يقتل من بقي منهم بعد قتل من قتل، كما أن قوله:

{فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ} ما وهن من بقي بقتل من قتل. ومعنى الكلام: إن الجنة عوض عن جهادهم، قتلوا أو قتلوا.

{وَعْدًا عَلَيْهِ} قال الزجاج: نصب «وعدا» بالمعنى، لأن معنى قوله

{بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ}: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا}،قال: وقوله:

{فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ} يدل على أن أهل كل ملة أمروا بالقتال ووعدوا عليه الجنة. قوله تعالى:

{وَمَنْ أَوْفَىٰ} أي: لا أحد أوفى بما وعد {مِنَ ٱللّه}

{فَٱسْتَبْشِرُواْ} أي: فافرحوا بهذا البيع.

١١٢

قوله تعالى: {ٱلتَّـٰئِبُونَ} سبب نزولها. أنه لما نزلت التي قبلها، قال رجل: يا رسول اللّه، وإن سرق وإن زنى وإن شرب الخمر؟ فنزلت هذه الآية؟ قاله ابن عباس. قال الزجاج: يصلح الرفع هاهنا على وجوه.

احدها: المدح، كأنه قال: هؤلاء التائبون، أو هم التائبون. ويجوز أن يكون على البدل، والمعنى: يقاتل التائبون؛ فهذا مذهب أهل اللغة، والذي عندي أنه رفع بالابتداء، وخبره مضمر، المعنى: التائبون ومن ذكر معهم لهم الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا إذا لم يقصدوا ترك الجهاد ولا العناد، لأن بعض المسلمين يجزئ عن بعض في الجهاد.

وللمفسرين في قوله: «التائبون» قولان.

احدهما: الراجعون عن الشرك والنفاق والمعاصي.

والثاني: الراجعون إلى اللّه في فعل ما أمر واجتناب ما حظر.

وفي قوله: {ٱلْعَـٰبِدُونَ} ثلاثة أقوال.

احدها: المطيعون للّه بالعبادة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: المقيمون الصلاة، قاله الضحاك عن ابن عباس.

والثالث: الموحدون، قاله سعيد بن جبير. قوله تعالى:

{ٱلْحَـٰمِدُونَ} قال قتادة: يحمدون اللّه على كل حال.

وفي السائحين أربعة أقوال.

احدها: الصائمون، قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة في آخرين. قال الفراء: ويرى أهل النظر أن الصائم إنما سمي سائحا تشبيها بالسائح، لأن السائح لا زاد معه؛ والعرب تقول للفرس إذا كان قائما لا علف بين يديه: صائم، وذلك أن له قوتين، غدوة وعشية، فشبه به صيام الآدمي لتسحره وإفطاره.

والثاني: أنهم الغزاة، قاله عطاء.

والثالث: طلاب العلم، قاله عكرمة.

والرابع: المهاجرون، قاله ابن زيد. قوله تعالى:

{ٱلركِعُونَ ٱلسَّـٰجِدونَ} يعني في الصلاة.

{ٱلاْمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ} وهو طاعة اللّه. {وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ} وهو معصية اللّه.

فان قيل: ما وجه دخول الواو

في قوله: «والناهون»؟ فعنه جوابان.

احدهما: أن الواو إنما دخلت هاهنا لأنها الصفة الثامنة، والعرب تعطف بالواو على السبعة، كقوله:

{وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} وقوله في صفة الجنة:{وَفُتِحَتْ أَبْوٰبُهَا} ذكره جماعة من المفسرين.

والثاني: أن الواو إنما دخلت على الناهين لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر في حال أمره، فكان دخول الواو دلالة على أن الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النهي عن المنكر كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السائحين، والسائحون بالسياحة دون الحامدين في بعض الأحوال والأوقات. قوله تعالى:

{وَٱلْحَـٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللّه} قال الحسن: القائمون بأمر اللّه.

١١٤

انظر تفسير الآية:١١٥

١١٥

قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ}

في سبب نزولها أربعة أقوال.

احدها: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة، دخل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وعنده أبو جهل، وعبد اللّه بن أبي أمية، فقال أي عم قل معي: لا إله إلا اللّه، أحاج لك بها عند اللّه فقال أبو جهل وابن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به أنا على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم «لأستغفرن لك مالم أنه عنك» فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ} الآية، ونزلت

{إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} أخرجه البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث سعيد بن المسيب. عن أبيه

وقيل: إنه لما مات أبو طالب، جعل النبي صلى اللّه عليه وسلم يستغفر له، فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا، وقد استغفر ابراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه؟ فاستغفروا للمشركين، فنزلت هذه الآية. قال أبو الحسين بن المنادي: هذا لا يصح، إنما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم، لعمه «لأستغفرن لك مالم أنه عنك» قبل أن يموت، وهو في السياق فأما أن يكون استغفر له بعد الموت، فلا، فانقلب ذلك على الرواة، وبقي على انقلابه.

والثاني: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مر بقبر أمه آمنة، فتوضأ وصلى ركعتين، ثم بكى، فبكى الناس لبكائه، ثم انصرف إليهم، فقالوا: ما الذي أبكاك؟ فقال «مررت بقبر امي فصليت ركعتين، ثم استأذنت ربي أن أستغفر لها، فنهيت، فبكيت، ثم عدت فصليت ركعتين، فاستأذنت ربي أن أستغفر لها، فزجرت زجرا، فأبكاني»، ثم دعا براحلته فركبها؛ فما سار إلا هنيأة، حتى قامت الناقة لثقل الوحي؛ فنزلت

{مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ} والأية التي بعدها، رواه بريدة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

والثالث: أن رجلا استغفر لأبويه، وكانا مشركين، فقال له علي بن أبي طالب: أتستغفر لهما وهما مشركان؟ فقال: أولم يستغفر إبراهيم لأبيه، فذكر ذلك علي للنبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية والتي بعدها، رواه أبو الخليل عن علي عليه السلام.

والرابع: أن رجالا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا: يا نبي اللّه، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار، ويصل الرحم، ويفك العاني، ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم؟ فقال: «بلى، واللّه لأستغفرن لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه» فنزلت هذه الآية، وبين عذر إبراهيم، قاله قتادة.

ومعنى قوله: {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَـٰبُ ٱلْجَحِيمِ} أي: من بعد ما بان أنهم ماتوا كفارا. قوله تعالى:

{إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} فيه قولان.

احدهما: أن إبراهيم وعد أباه الاستغفار، وذلك قوله:

{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي} وما كان يعلم أن الاستغفار للمشركين محظور حتى أخبره اللّه بذلك.

والثاني: أن أباه وعده أنه إن استغفر له آمن؛ فلما تبين لإبراهيم عداوة أبيه للّه تعالى بموته على الكفر، ترك الدعاء له. فعلى الأول، تكون هاء الكناية في «إياه» عائدة على آزر، وعلى الثاني، تعود على إبراهيم. وقرأ ابن السميفع، ومعاذ القارىء، وأبو نهيك: «وعدها أباه» بالباء.

وفي الأواه ثمانية أقوال.

احدها: أنه الخاشع الدعاء المتضرع، رواه عبد اللّه بن شداد بن الهاد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم.

والثاني: أنه الدعاء، رواه زر عن عبد اللّه، وبه قال عبيد بن عمير.

والثالث: الرحيم، رواه أبو العبيد بن العامري عن ابن مسعود، وبه قال الحسن، وقتادة، وأبو ميسرة.

والرابع: أنه الموقن، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك.

والخامس: أنه المؤمن، رواه العوفي، ومجاهد، وابن أبي طلحة عن ابن عباس.

والسادس: أنه المسيح، رواه أبو إسحاق عن أبي ميسرة، وبه قال سعيد ابن المسيب، وابن جبير.

والسابع: أنه المتأوه لذكر عذاب اللّه، قاله الشعبي. قال أبو عبيدة: مجاز أواه مجاز فعال من التأوه، ومعناه: متضرع شفقا وفرقا ولزوما لطاعة ربه، قال المثقب: إذا ما قمت أرحلها بليل  تأوه آهة الرجل الحزين.

والثامن: أنه الفقيه، رواه ابن جريج عن مجاهد. فأما الحليم، فهو الصفوح عن الذنوب.

١١٥

انظر تفسير الآية:١١٦

١١٦

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ ٱللّه لِيُضِلَّ قَوْماً} الآية، سبب نزولها: أنه لما نزلت آية الفرائض، وجاء النسخ، وقد غاب قوم وهم يعلمون بالأمر الأول مثل أمر القبلة والخمر، ومات أقوام على ذلك، سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال قوم: المعنى أنه بين أنه لم يكن ليأخذهم بالاستغفار للمشركين قبل تحريمه، فاذا حرمه ولم يمتنعوا عنه، فقد ضلوا. وقال ابن الانباري: في الآية حذف واختصار، والتأويل: حتى يتبين لهم ما يتقون، فلا يتقونه، فعند ذلك يستحقون الضلال؛ فحذف ما حذف البيان معناه، كما تقول العرب: أمرتك بالتجارة فكسبت الأموال؛ يريدون: فتجرت فكسبت.

١١٧

قوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللّه عَلَىٰ ٱلنَّبِىّ}

قال المفسرون: تاب عليه من إذنه للمنافقين في التخلف. وقال أهل المعاني: هو مفتاح كلام، وذلك أنه لما كان سبب توبة التائبين، ذكر معهم، كقوله: {فَأَنَّ للّه خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ}

قوله تعالى: {ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ} قال الزجاج: هم الذين اتبعوه في غزوة تبوك، والمراد بساعة العسرة: وقت العسرة، لأن الساعة تقع على كل الزمان، وكان في ذلك الوقت حر شديد، والقوم في ضيقة شديدة، كان الجمل بين جماعة يعتقبون عليه، وكانوا في فقر، فربما اقتسم التمرة اثنان، وربما مص التمرة الجماعة ليشربوا عليها الماء، وربما نحروا الإبل فشربوا من ماء كروشها من الحر.

وقيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن ساعة العسرة، فقال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستتقطع، حتى إن الرجل ليذهب يلتمس الماء، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده. فقال أبو بكر: يا رسول اللّه، إن اللّه قد عودك في الدعاء خيرا، فادع لنا، قال: «تحب ذلك»؟ قال: نعم. فرفع يديه، فلم يرجعهما حتى قالت السماء، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر. قوله تعالى:

{مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ} قرأ حمزة، وحفص عن عاصم: «كاد يزيغ» بالياء. وقرأ الباقون بالتاء.

وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال.

احدها: تميل إلى التخلف عنه، وهم ناس من المسلمين هموا بذلك، ثم لحقوه، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: أن القلوب مالت إلى الرجوع للشدة التي لقوها، ولم تزغ عن الإيمان، قاله الزجاج.

والثالث: أن القلوب كادت تزيغ تلفا بالجهد والشدة، ذكره الماوردي. قوله تعالى:

{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} كرر ذكر التوبة، لأنه ليس في ابتداء الآية ذكر ذنبهم، فقدم ذكر التوبة فضلا منه، ثم ذكر ذنبه، ثم أعاد ذكر التوبة.

١١٨

قوله تعالى: {وَعَلَى ٱلثَّلَـٰثَةِ ٱلَّذِينَ خُلّفُواْ} وقرأ أبو رزين، وأبو مجلز، والشعبي، وابن يعمر: «خالفوا» بألف. وقرأ معاذ القارىء، وعكرمة، وحميد: «خلفوا» بفتح الخاء واللام المخففة. وقرأ أبو الجوزاء، وأبو العالية: «خلفوا» بفتح الخاء واللام مع تشديدها. وهؤلاء هم المرادون بقوله:

{وَءاخَرُونَ مُرْجَوْنَ} وقد تقدمت أسماؤهم

وفي معنى «خلفوا» قولان.

احدهما: خلفوا عن التوبة، قاله ابن عباس، ومجاهد، فيكون المعنى: خلفوا عن توبة اللّه على أبي لبابة واصحابه إذ لم يخضعوا كما خضع أولئك.

والثاني: خلفوا عن غزوة تبوك، قاله قتادة. وحديثهم مندرج في توبة كعب بن مالك وقد رويتها في كتاب «الحدائق». قوله تعالى:

{حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ ٱلارْضُ بِمَا رَحُبَتْ} أي: ضاقت مع سعتها، وذلك أن المسلمين منعوا من معاملتهم وكلامهم، وأمروا باعتزال أزواجهم، وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم معرضا عنهم.

{وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} بالهم والغم.

{وَظَنُّواْ} أي: أيقنوا {أَن لاَّ مَلْجَأَ} أي: لا معتصم من اللّه ومن عذابه إلا هو.

{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} أعاد التوبة تأكيدا، {لِيَتُوبُواْ} قال ابن عباس: ليستقيموا

وقال غيره: وفقهم للتوبة ليدوموا عليها ولا يرجعوا إلى ما يبطلها. وسئل بعضهم عن التوبة النصوح، فقال: أن تضيق على التائب الارض، وتضيق عليه نفسه، كتوبة كعب وصاحبيه.

١١٩

قوله تعالى: {يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱللّه وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ}

في سبب نزولها قولان.

احدهما: أنها نزلت في قصة الثلاثة المتخلفين.

والثاني: أنها في أهل الكتاب. والمعنى: ياأيها الذين آمنوا بموسى وعيسى اتقوا اللّه في إيمانكم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وكونوا مع الصادقين.

وفي المراد بالصادقين خمسة أقوال.

احدها: أنه النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، قاله ابن عمر.

والثاني: أبو بكر وعمر، قاله سعيد بن جبير، والضحاك. وقد قرأ ابن السميفع. وأبو المتوكل، ومعاذ القارىء: «مع الصادقين» بفتح القاف وكسر النون على التثنية.

والثالث: أنهم الثلاثة الذين خلفوا، صدقوا النبي صلى اللّه عليه وسلم عن تأخرهم، قاله السدي.

والرابع: أنهم المهاجرون، لأنهم لم يتخلفوا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الجهاد، قاله ابن جريج. قال أبو سليمان الدمشقي:

وقيل: إن أبا بكر الصديق احتج بهذه الآية يوم السقيفة، فقال: يا معشر الأنصار، إن اللّه يقول في كتابه: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَـٰجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ} إلى قوله:

{أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ} من هم؟ قالت الأنصار: أنتم هم. قال: فان اللّه تعالى يقول:

{ٱتَّقُواْ ٱللّه وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ} فأمركم أن تكونوا معنا، ولم يأمرنا أن نكون معكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء.

والخامس: أنه عام، قاله قتادة «ومع» بمعنى «من» وكذلك هي في قراءة ابن مسعود: «وكونوا من الصادقين».

١٢٠

انظر تفسير الآية:١٢١

١٢١

قوله تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولها من الاعراب} قال ابن عباس: يعني: مزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، وغفار،

{أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللّه} في غزوة غزاها،

{وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} لا يرضوا لأنفسهم بالخفض والدعة ورسول اللّه في الحر والمشقة. يقال: رغبت بنفسي عن الشيء: إذا ترفعت عنه. قوله تعالى:

{ذٰلِكَ} أي: ذلك النهي عن التخلف

{بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} وهو العطش {وَلاَ نَصَبٌ} وهو التعب

{وَلاَ مَخْمَصَةٌ} وهو المجاعة {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً} أسرا أو قتلا أو هزيمة، فأعلمهم اللّه أن يجازيهم على جميع ذلك. قوله تعالى:

{وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً} قال ابن عباس: تمرة فما فوقها.

{وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا} مقبلين أو مدبرين

{إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ} أي: أثبت لهم أجر ذلك.

{لِيَجْزِيَهُمُ ٱللّه أَحْسَنَ} أي: بأحسن {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

فصل

قال شيخنا علي بن عبيد اللّه:

اختلف المفسرون في هذه الآية، فقالت طائفة: كان في أول الأمر لا يجوز التخلف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين كان الجهاد يلزم الكل؛ ثم نسخ ذلك بقوله:

{وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً}. وقالت طائفة: فرض اللّه تعالى على جميع المؤمنين

في زمان النبي صلى اللّه عليه وسلم ممن لا عذر له الخروج معه لشيئين.

احدهما: أنه من الواجب عليهم أن يقوه بأنفسهم.

والثاني: أنه إذا خرج الرسول فقد خرج الدين كله،فأمروا بالتظاهر لئلا يقل العدد، وهذا الحكم باق إلى وقتنا؛ فلو خرج أمير المؤمنين إلى الجهاد، وجب على عامة المسلمين متابعته لما ذكرنا. فعلى هذا، الآية محكمة. قال أبو سليمان: لكل آية وجهها. وليس للنسخ على إهدى الآيتين طريق.

١٢٢

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً}

في سبب نزولها أربعة اقوال.

احدها: أنه لما أنزل اللّه عز وجل عيوب المنافقين في غزوة تبوك، قال المؤمنون: واللّه. لا نتخلف عن غزوة يغزوها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا سرية أبدا. فلما أرسل السرايا بعد تبوك، نفر المسلمون جميعا، وتركوا رسول اللّه وحده، فنزلت هذه الآية، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثاني: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما دعا على مضر، أجدبت بلادهم؛ فكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها إلى المدينة من الجهد، ويظهرون الإسلام وهم كاذبون؛ فضيقوا على أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.

والثالث: أن ناسا أسلموا، وخرجوا إلى البوادي يعلمون قومهم، فنزلت:

{إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ} فقال ناس من المنافقين: هلك من لم ينفر من أهل البوادي، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة.

والرابع: أن ناسا خرجوا إلى البوادي يعلمون الناس ويهدونهم، ويصيبون من الحطب ما ينتفعون به؛ فقال لهم الناس ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا؛ فأقبلوا من البادية كلهم، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد. قال الزجاج: ولفظ الآية لفظ الخبر، ومعناها الأمر، كقوله:

{مَا كَانَ لِلنَّبِىّ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} والمعنى: ينبغي أن ينفر بعضهم، ويبقى البعض. قال الفراء: ينفر وينفر، بكسر الفاء وضمها، لغتان.

واختلف المفسرون في المراد بهذا النفير على قولين.

احدهما: أنه النفير إلى العدو، فالمعنى: ما كان لهم أن ينفروا بأجمعهم، بل تنفر طائفة، وتبقى مع النبي صلى اللّه عليه وسلم طائفة.

{لّيَتَفَقَّهُواْ فِى ٱلدّينِ} يعني الفرقة القاعدين. فاذا رجعت السرايا، وقد نزل بعدهم قرآن أو تجدد أمر، أعلموهم به وأنذروهم به إذا رجعوا إليهم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس.

والثاني: أنه النفير إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بل تنفر منهم طائفة ليتفقه هؤلاء الذين ينفرون،ولينذروا قومهم المتخلفين، هذا قول الحسن، وهو أشبه بظاهر الآية. فعلى القول الأول، يكون نفير هذه الطائفة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إن خرج إلى غزاة أو مع سراياه. وعلى القول الثاني، يكون نفير الطائفة إلى رسول اللّه لاقتباس العلم.

١٢٣

انظر تفسير الآية:١٢٦

١٢٤

انظر تفسير الآية:١٢٦

١٢٥

انظر تفسير الآية:١٢٦

١٢٦

قوله تعالى: {قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مّنَ ٱلْكُفَّارِ} قد أمر بقتال الكفار على العموم، وإنما يبتدأ بالأقرب فالأقرب.

وفي المراد بمن يليهم خمسة أقوال.

احدها: أنهم الروم، قاله ابن عمر.

والثاني: قريظة، والنضير، وخيبر، وفدك، قاله ابن عباس.

والثالث: الديلم، قاله الحسن.

والرابع: العرب، قاله ابن زيد.

والخامس: أنه عام في قتال الاقرب فالأقرب، قاله قتادة. وقال الزجاج: في هذه الآية دليل على أنه ينبغي أن يقاتل أهل كل ثغر الذين يلونهم. قال:

وقيل كان النبي صلى اللّه عليه وسلم ربما تخطى في حربه الذين يلونه من الأعداء ليكون ذلك أهيب له، فأمر بقتال من يليه ليستن بذلك. وفي الغلظة ثلاث لغات: غلظة، بكسر الغين؛ وبها قرأ الأكثرون. وغلظة، بفتح الغين، رواها جبلة عن عاصم. وغلظة بضم الغين، رواها المفضل عن عاصم. ومثلها: جذوة وجذوة وجذوة، ووجنة ووجنة ووجنة، ورغوة ورغوة ورغوة، وربوة وربوة وربوة، وقسوة وقسوة وقسوة، وإلوة وإلوة وإلوة، في اليمين. وشاة لجبة ولجبة ولجبة: قد ولى لبنها. قال ابن عباس في قوله «غلظة». شجاعة وقال مجاهد: شدة. قوله تعالى:

{فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَـٰناً} هذا قول المنافقين بعضهم لبعض استهزاء بقول اللّه تعالى.

{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ} لأنهم إذا صدقوا بها وعملوا بما فيها. زادتهم إيمانا.

{وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي: يفرحون بنزولها.

{وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي: شك ونفاق.

وفي المراد بالرجس ثلاثة أقوال.

احدها:الشك، قاله ابن عباس.

والثاني: الإثم، قاله مقاتل.

والثالث: الكفر، لأنهم كلما كفروا بسورة زاد كفرهم، قاله الزجاج.

قوله تعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ} يعني المنافقين.

وقرأ حمزة: «أولا ترون» بالتاء على الخطاب للمؤمنين.

وفي معنى {يُفْتَنُونَ} ثمانية أقوال.

احدها: يكذبون كذبة أو كذبتين يضلون بها، قاله حذيفة بن اليمان.

والثاني: ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون، قاله أبو صالح عن ابن عباس.

والثالث: يبتلون بالغزو في سبيل اللّه، قاله الحسن، وقتادة.

والرابع: يفتنون بالسنة والجوع، قاله مجاهد.

والخامس: بالأوجاع والأمراض، قاله عطية.

والسادس: ينقضون عهدهم مرة أو مرتين، قاله يمان.

والسابع: يكفرون، وذلك أنهم كانوا إذا أخبرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بما تكلموا به إذ خلوا، علموا أنه نبي، ثم يأتيهم الشيطان فيقول: إنما بلغه هذا عنكم، فيشركون، قاله مقاتل بن سليمان.

والثامن: يفضحون باظهار نفاقهم، قاله مقاتل بن حيان.

قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ} أي: من نفاقهم.

{وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي: يعتبرون ويتعظون.

١٢٧

قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ} قال ابن عباس: كانت إذا أنزلت سورة فيها عيب المنافقين، وخطبهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعرض بهم في خطبته، شق ذلك عليهم، ونظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب، يقولون:

{هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ} من المؤمنين إن قمتم؟ فان لم يرهم أحد، خرجوا من المسجد. قال الزجاج: كأنهم يقولون ذلك إيماء لئلا يعلم بهم أحد،

{ثُمَّ ٱنصَرَفُواْ} عن المكان، وجائز عن العمل بما يسمعون. وقال الحسن: ثم انصرفوا على عزم التكذيب بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبما جاء به. قوله تعالى:

{صَرَفَ ٱللّه قُلُوبَهُم} قال ابن عباس: عن الإيمان. قال الزجاج: أضلهم مجازاة على فعلهم.

١٢٨

قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} قرأ الجمهور بضم الفاء. وقرأ ابن عباس، وأبو العالية، والضحاك، وابن محيصن، ومحبوب عن أبي عمرو: بفتحها

وفي المضمونة أربعة أقوال.

احدها: من جميع العرب، قاله ابن عباس؛ وقال: ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت رسوله اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

والثاني: ممن تعرفون، قاله قتادة.

والثالث: من نكاح لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية، قاله جعفر الصادق.

الرابع: بشر مثلكم، فهو آكد للحجة، لأنكم تفقهون عمن هو مثلكم، قاله الزجاج.

وفي المفتوحة ثلاثة أقوال.

احدها: أفضلكم خلقا.

والثاني: أشرفكم نسبا.

والثالث: أكثركم طاعة للّه عز وجل. قوله تعالى:

{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} فيه قولان.

احدهما: شديد عليه ما شق عليكم، رواه الضحاك عن ابن عباس. قال الزجاج: شديد عليه عنتكم. والعنت: لقاء الشدة.

والثاني: شديد عليه ما آثمكم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قوله تعالى:

{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} قال الحسن: حريص عليكم أن تؤمنوا. قوله تعالى:

{بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ} قال ابن عباس: سماه باسمين من أسمائه. وقال أبو عبيدة: {رَءوفٌ} فعول، من الرأفة، وهي أرق من الرحمة؛ ويقال: {رؤف}

وأنشد:

ترى للمؤمنين عليك حقا  كفعل الوالد الرؤف الرحيم

وقيل: رؤوف بالمطيعين، رحيم بالمذنبين.

١٢٩

قوله تعالى: {إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: أعرضوا عن الإيمان

{فَقُلْ حَسْبِىَ ٱللّه} أي: يكفيني {رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ}.

وقرأ ابن محيصن {ٱلْعَظِيمِ} برفع الميم. وإنما خص العرش بالذكر، لأنه الأعظم، فيدخل فيه الأصغر. قال أبي بن كعب آخر آية أنزلت:

{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ} إلى آخر السورة.ابن الجوزي

﴿ ٠