١ فصل في نزولها هي مدنية باجماعهم، سوى الآيتين في آخرها: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} فانها نزلت بمكة. روى البخاري في {صحيحه} من حديث البراء قال: آخر سورة نزلت {لَكُم بَرَاءةٌ}. وقد نقل عن بعض العرب أنه سمع قارئا يقرأ هذه السورة، فقال الأعرابي: إني لأحسب هذه من آخر ما نزل من القرآن. قيل له: ومن أين علمت؟ فقال: إني لأسمع عهودا تُنْبَذُ ووصايا تُنَفَّذ. فصل واختلفوا في أول ما نزل من {بَرَاءةٌ} على ثلاثة اقوال. احدها: أن أول ما نزل منها قوله {لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللّه فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} قاله مجاهد. والثاني: {ٱنْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً} قاله أبو الضحى، وأبو مالك. والثالث: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} قاله مقاتل. وهذا الخلاف إنما هو في أول ما نزل منها بالمدينة، فانهم قد قالوا: نزلت الآيتان اللتان في آخرها بمكة. فصل ولها تسعة أسماء. احدها: سورة التوبة. والثاني: براءة؛ وهذان مشهوران بين الناس. والثالث: سورة العذاب، قاله حذيفة. والرابع: المقشقشة، قاله ابن عمر. والخامس: سورة البحوث، لأنها بحثت عن سرائر المنافقين، قاله المقداد بن الأسود. والسادس: الفاضحة، لأنها فضحت المنافقين، قاله ابن عباس. والسابع: المبعثرة، لأنها بعثرت أخبار الناس، وكشفت عن سرائرهم، قاله الحاث بن يزيد، وابن إسحاق. والثامن: المثيرة، لأنها أثارت مخازي المنافقين ومثالبهم، قاله قتادة. والتاسع: الحافرة، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، قاله الزجاج. فصل وفي سبب امتناعهم من كتابة التسمية في أولها ثلاثة أقوال. احدها: رواه ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى {ٱلانفَالِ} وهي من المثاني، وإلى {بَرَاءةٌ} وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما {بِسْمِ اللّه ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ}؟ فقال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أنزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب، فيقول: {ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا}،وكانت {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلانفَالِ} من أوائل ما نزل بالمدينة، و{بَرَاءةٌ} من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وقُبِضَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فظننا أنها منها، فمن ثم قرنتُ بينهما ولم أكتب بينهما: {بِسْمِ اللّه ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ}. وذكر نحو هذا المعنى عن أبي بن كعب. قال الزجاج: والشبه الذي بينهما: أن في الأنفال ذكر العهود، وفي {بَرَاءةٌ} نقضها. وكان قتادة يقول: هما سورة واحدة. والثاني: رواه محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: لِمَ لم تكتبوا في براءة {بِسْمِ اللّه ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ}؟ فقال: يا بني، إن براءة نزلت بالسيف وإن {بِسْمِ اللّه ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ} أمانٌ. وسئل سفيان بن عيينة عن هذا، فقال: لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين. والثالث: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما كتب في صلح الحديبية {بِسْمِ اللّه ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ} لم يقبلوها وردوها، فما ردها اللّه عليهم، قاله عبد العزيز بن يحيى المكي. فصل أما سبب نزولها، فقال المفسرون: أخذت العرب تنقض عهودا بنتها مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فأمره اللّه تعالى بالقاء عهودهم إليهم، فأنزل {بَرَاءةٌ} في سنة تسع، فبعث رسول اللّه أبا بكر أميرا على الموسم ليقيم للناس الحج في تلك السنة، وبعث معه صدرا من {بَرَاءةٌ} ليقرأها على أهل الموسم، فلما سار، دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليا فقال: {أَخْرَجَ مّنْ أُوْلَـئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ وأذن في الناس بذلك} فخرج علي على ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر، فرجع أبو بكر فقال: يا رسول اللّه، أنزل في شأني شيء؟ قال: {لا وَلَـٰكِن لاَّ يَبْلُغَ عَنّي إِلاَّ رَجُلٌ مِنّي أَمَّا تَرْضَىٰ إِنَّكَ كُنتَ}؟ قال: بلى يا رسول اللّه، فسار أبو بكر أميرا على الحج، وسار علي ليؤذن ب {مُّقْتَدِرٍ أَكُفَّـٰرُكُمْ خَيْرٌ مّنْ أُوْلَـئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ}. فصل وفي عدد الآيات التي بعثها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أول {بَرَاءةٌ} خمسة أقوال. احدها: أربعون آية، قاله علي عليه السلام. والثاني:ثلاثون آية، قاله أبو هريرة. والثالث: عشر آيات، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: سبع آيات، رواه ابن جريج عن عطاء. والخامس: تسع آيات، قاله مقاتل. فصل فان توهم متوهم أن في أخذ {بَرَاءةٌ} من أبي بكر، وتسليمها إلى علي، تفضيلا لعلي على أبي بكر، فقد جهل، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أجرى العرب في ذلك على عادتهم. قال الزجاج: وقد جرت عادة العرب في عقد عهدها ونقضها، أن يتولى ذلك على القبيلة رجل منها، وجائز أن تقول العرب إذا تلا عليها نقض العهد من ليس من رهط النبي صلى اللّه عليه وسلم: هذا خلاف ما نعراف فينا في نقض العهود، فأزاح النبي صلى اللّه عليه وسلم العلة بما فعل. وقال عمرو بن بحر: ليس هذا بتفضيل لعلي على أبي بكر، وإنما عاملهم بعادتهم المتعارفة في حل العقد، وكان لا يتولى ذلك إلا السيد منهم، أو رجل من رهطه دَنِيا، كأخ، أو عم؛ وقد كان أبو بكر في تلك الحجة الإمام، وعلي ياتم به، وأبو بكر الخطيب، وعلي يسمع. وقال أبو هريرة: بعثني أبو بكر في تلك الحجة مع المؤذنين الذين بعثهم يؤذنون بمنى: أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، فأذن معنا علي ب {بَرَاءةٌ} وبذلك الكلام. وقال الشعبي: بعث رسول اللّه عليا يؤذن بأربع كلمات: {إِلاَّ لاِجَلٍ ٱلْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِى ٱلاْرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَٱعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللّه وَأَنَّ ٱللّه مُخْزِى ٱلْكَـٰفِرِينَ وَأَذَانٌ مّنَ ٱللّه وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجّ ٱلاْكْبَرِ أَنَّ ٱللّه بَرِىء مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}. فصل فأما التفسير، فقوله تعالى: {بَرَاءةٌ} قال الفراء: هي مرفوعة باضمار {هَـٰذِهِ}، ومثله: {سُورَةٌ أَنزَلْنَـٰهَا}. وقال الزجاج: يقال بَرِئت من الرجل والدين براءة، وبرئت من المرض، وبرأت أيضا أبرأ برءا، وقد رووا: برأت أبرؤ بروءا. ولم نجد في مالامه همزة: فعلت أفعل، إلا هذا الحرف. ويقال: بريت القلم، وكل شيء نحتّه: أبريه بريا، غير مهموز. وقرأ أبو رجاء، ومورق، وابن يعمر: {بَرَاءةٌ} بالنصب. قال المفسرون: والبراءة هاهنا: قطع الموالاة، وارتفاع العصمة. وزوال الأمان. والخطاب في قوله: {إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} لأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والمراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لأنه هو الذي كان يتولى المعاهدة، وأصحابه راضون؛ فكأنهم بالرضا عاهدوا أيضا؛ وهذا عام في كل من عاهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقال مقاتل: هم ثلاثة أحياء من العرب: خزاعة، وبنو مدلج، وبنو خزيمة. |
﴿ ١ ﴾