ÓõæÑóÉõ íõæÓõÝó Úóáóíúåö ÇáÓøóáóÇãõ ãóßøöíøóÉñ æóåöíó ãöÇÆóÉñ æóÅöÍúÏóì ÚóÔóÑóÉó ÂíóÉð سورة يوسف عليه السلام بسم اللّه الرحمن الرحيم _________________________________ ١ فصل في نزولها. هي مكية بالإجماع. وفي سبب نزولها قولان. أما القول الأول، فروي عن سعد بن أبي وقاص. قال: أنزل القرآن على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول اللّه، لو قصصت علينا، فأنزل اللّه تعالى: {الر تِلْكَ ءايَاتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْمُبِينِ} إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ}، فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول اللّه، لو حدثتنا، فأنزل اللّه تعالى {ٱللّه نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَـٰباً مُّتَشَـٰبِهاً مَّثَانِيَ} [الزمر: ٢٣] كل ذلك يؤمرون بالقرآن. وقال عون بن عبد اللّه: مل أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ملة، فقالوا: يا رسول اللّه حدثنا، فأنزل اللّه عز وجل {ٱللّه نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَـٰباً مُّتَشَـٰبِهاً مَّثَانِيَ} [الزمر: ٢٣]، ثم إنهم ملوا ملة أخرى، فقالوا: يا رسول اللّه، فوق الحديث، ودون القرآن، يعنون القصص، فأنزل اللّه { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ}، فأراد الحديث، فدلهم على أحسن الحديث، وأرادوا القصص، فدلهم على أحسن القصص. والثاني: رواه الضحاك عن ابن عباس قال: سألت اليهود النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقالوا: حدثنا عن أمر يعقوب وولده وشأن يوسف، فأنزل اللّه عز وجل {الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا}وذلك أن التوراة بالعبرانية، والإنجيل بالسريانية، وأنتم قوم عرب، ولو أنزلته بغير العربية ما فهمتموه. وقد بينا تفسير أول هذه السورة في أول {يُونُسَ}، إلا أنه قد ذكر ابن الأنباري زيادة وجه في هذه السورة، فقال: لما لحق أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ملل وسآمة، فقالوا له: حدثنا بما يزيل عنا هذا الملل، فقال: تلك الأحاديث التي تقدرون الانتفاع بها وانصراف الملل، هي آيات الكتاب المبين. وفي معنى {ٱلْمُبِينُ} خمسة أقوال. احدها: البين حلاله وحرامه، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: المبين للحروف التي تسقط عن ألسن الأعاجم، رواه خالد بن معدان عن معاذ بن جبل. والثالث: البين هداه ورشده، قاله قتادة. والرابع: المبين للحق من الباطل. والخامس: البين إعجازه فلا يعارض، ذكرهما الماوردي. ٢ قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَـٰهُ} في هاء الكناية قولان. احدهما: أنها ترجع إلى الكتاب، قاله الجمهور. والثاني: إلى خبر يوسف، ذكره الزجاج، وابن القاسم. قوله تعالى: {قُرْءاناً عَرَبِيّاً} قد ذكرنا معنى القرآن واشتقاقه في سورة [النساء: ٨٢] وقد اختلف الناس، هل في القرآن شيء بغير العربية، أم لا، فمذهب أصحابنا أنه ليس فيه شيء بغير العربية. وقال أبو عبيدة: من زعم أن في القرآن لسانا سوى العربية فقد أعظم على اللّه القول، واحتج بقوله: {إِنَّا جَعَلْنَـٰهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً} [الزخرف: ٣] وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة أن فيه من غير لسان العرب، مثل «سجيل» و«المشكاة» و«اليم» و«الطور» و«أباريق» و«إستبرق» وغير ذلك. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: قال أبو عبيد: وهؤلاء أعلم من أبي عبيدة، ولكنهم ذهبوا إلى مذهب، وذهب هو إلى غيره، وكلاهما مصيب إن شاء اللّه، وذلك أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل، فقال: أولئك على الأصل، ثم لفظت به العرب بالسنتها فعربته فصار عربيا بتعريبها إياه، فهي عربية في هذه الحالة، أعجمية الأصل، فهذا القول يصدق الفريقين جميعا. قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} قال ابن عباس: لكي تفهموا. ٣ قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ} قد ذكرنا سبب نزولها في أول الكلام. وقد خصت بسبب آخر، فروي عن سعيد بن جبير قال: اجتمع أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى سلمان، فقالوا: حدثنا عن التوراة فإنها حسن ما فيها، فأنزل اللّه تعالى {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ} يعني: قصص القرآن أحسن مما في التوراة. قال الزجاج: والمعنى نحن نبين لك أحسن البيان، والقاص، الذي يأتي بالقصة على حقيقتها. قال: وقوله: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي: بوحينا إليك هذا القرآن. قال العلماء: وإنما سميت قصة يوسف أحسن القصص، لأنها جمعت ذكر الأنبياء، والصالحين، والملائكة، والشياطين، والأنعام، وسير الملوك، والمماليك، والتجار، والعلماء، والرجال، والنساء، وحيلهن، وذكر التوحيد، والفقه، والسر، وتعبير الرؤيا، والسياسة، والمعاشرة، وتدبير المعاش، والصبر على الأذى، والحلم، والعز، والحكم، إلى غير ذلك من العجائب. قوله تعالى: {وَإِن كُنتُ} في إن قولان. احدهما: أنها بمعنى «قد» والثاني: بمعنى «ما» قوله تعالى: {مِن قَبْلِهِ} قال ابن عباس: من قبل نزول القرآن. {لَمِنَ ٱلْغَـٰفِلِينَ} عن علم خبر يوسف وما صنع به إخوته. ٤ انظر تفسير الآية:٥ ٥ قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لاِبِيهِ} في إذ قولان: احدهما: أنها صلة للفعل المتقدم، والمعنى: نحن نقص عليك إذ قال يوسف. والثاني: أنها صلة لفعل مضمر، تقديره: اذكر إذ قال يوسف، ذكرهما الزجاج، وابن الأنباري. قوله تعالى: {يا أبت} قرأ أبو جعفر، وابن عامر بفتح التاء، ووقفا بالهاء، وافقهما ابن كثير في الوقف بالهاء، وقرأ الباقون بكسر التاء. فمن فتح التاء، أراد: يا ابتا، فحذف الألف كما تحذف الياء، فبقيت الفتحة دالة على الألف، كما أن الكسرة تبقى دالة على الياء. ومن وقف على الهاء، فلان تاء التأنيث تبدل منها الهاء في الوقف. وقرأ أبو جعفر أحد عشر، وتسعة عشر، بسكون العين فيهما. وفي ما رآه يوسف قولان. احدهما: أنه رأى الشمس والقمر والكواكب، وهو قول الأكثرين. قال الفراء: وإنما قال: «رأيتهم» على جمع ما يعقل، لأن السجود فعل ما يعقل، كقوله: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَـٰكِنَكُمْ} [النمل: ١٨]. قال المفسرون: كانت الكواكب في التأويل إخوته، والشمس أمه، والقمر أباه، فلما قصها على يعقوب أشفق من حسد إخوته. وقال السدي: الشمس أبوه، والقمر خالته، لأن أمه كانت قد ماتت. والثاني: أنه رآي أبويه وإخوته ساجدين له، فكنى عن ذكرهم، وهذا مروي عن ابن عباس، وقتادة. فأما تكرار قوله: {رَأَيْتَهُمْ} فقال الزجاج: إنما كرره لما طال الكلام توكيدا. وفي سن يوسف لما رأى هذا المنام ثلاثة أقوال. احدها: سبع سنين. والثاني: اثنتا عشرة سنة والثالث: سبع عشرة سنة. قال المفسرون: علم يعقوب أن إخوة يوسف يعلمون تأويل رؤياه، فقال: {لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا}، قال ابن قتيبة: يحتالوا لك حيلة ويغتالوك. وقال غيره: اللام صلة، والمعنى: فيكيدوك. والعدو المبين: الظاهر العداوة. ٦ قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} قال الزجاج، وابن الأنباري: ومثل ما رأيت من الرفعة والحال الجليلة، يختارك ربك ويصطفيك من بين إخوتك. وقد شرحنا في [الأنعام: ٨٧] معنى الاجتباء. وقال ابن عباس: يصطفيك بالبنوة. قوله تعالى: {وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ ٱلاْحَادِيثِ} فيه ثلاثة اقوال. احدها: أنه تعبير الرؤيا، قاله ابن عباس ومجاهد، وقتادة، فعلى هذا سمي تأويلا لأنه بيان ما يؤول أمر المنام إليه. والثاني: أنه العلم والحكمة، قاله ابن زيد. والثالث: تأويل أحاديث الأنبياء والأمم والكتب، ذكره الزجاج. قال مقاتل: و«من» هاهنا صلة. قوله تعالى: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} فيه ثلاثة أقوال. احدها: بالنبوة، قاله ابن عباس والثاني: باعلاء الكلمة. والثالث: بأن أحوج إخوته إليه حتى أنعم عليهم، ذكرهما الماوردي. وفي {يَعْقُوبَ كَمَا} ثلاثة أقوال. احدها: أنهم ولده، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: يعقوب وامرأته وأولاده الأحد عشر، أتم عليهم نعمته بالسجود ليوسف، قاله مقاتل. والثالث: أهله، قاله أبو عبيدة، واحتج بأنك إذا صغرت الآل، قلت: أهيل. قوله تعالى: {كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحق} قال عكرمة: فنعمته على إبراهيم أن نجاه من النار، ونعمته على إسحاق أن نجاه من الذبح. قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ} أي: عليم حيث يضع النبوة {حَكِيمٌ} في تدبير خلقه. ٧ قوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} أي: في خير يوسف وقصة إخوته {ءايَـٰتِ} أي: عبر لمن سأل عنهم، فكل حال من أحواله آية. وقرأ ابن كثير {ءايَةً} قال المفسرون: وكان اليهود قد سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قصة يوسف، فأخبرهم بها كما في التوراة، فعجبوا من ذلك. وفي وجه هذه الآيات خمسة أقوال. احدها: الدلالة على صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم حين أخبر أخبار قوم لم يشاهدهم، ولا نظر في الكتب. والثاني: ما أظهر اللّه في قصة يوسف من عواقب البغي عليه. والثالث: صدق رؤياه وصحة تأويله. والرابع: ضبط نفسه وقهر شهوته حتى قام بحق الأمانة. والخامس: حدوث السرور بعد اليأس. فان قيل: لم خص السائلين، ولغيرهم فيها آيات أيضا؟ فعنه جوابان. احدهما: أن المعنى: للسائلين وغيرهم، فاكتفى بذكر السائلين من غيرهم، كما اكتفى بذكر الحر من البرد في قوله: {تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ} [النحل: ٨١] والثاني: أنه إذا كان للسائلين عن خبر يوسف آية، كان لغيرهم آية أيضا؟ وإنما خص السائلين، لأن سؤالهم نتج الأعجوبة وكشف الخبر. ٨ قوله تعالى: {إِذْ قَالُواْ} يعني. إخوة يوسف. {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ} يعنون ابن يامين. وإنما قيل له: ابن يامين، لأن أمه ماتت نفساء. ويامين بمعنى الوجع، وكان أخاه لأمه وأبيه. والباقون إخوته لأبيه دون أمه. فأما العصبة، فقال الزجاج هي في اللغة الجماعة الذين أمرهم واحد يتابع بعضهم بعضا في الفعل، ويتعصب بعضهم لبعض. وللمفسرين في العصبة ستة أقوال. احدها: أنها ما كان أكثر من عشرة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنها ما بين العشرة إلى الأربعين، روي عن ابن عباس أيضا، وبه قال قتادة. والثالث: أنها ستة أو سبعة، قاله سعيد بن جبير. والرابع: أنها من عشرة إلى خمسة عشر، قاله مجاهد. والخامس: الجماعة، قاله ابن زيد، وابن قتيبة، والزجاج. والسادس: عشرة، قاله مقاتل. وقال الفراء: العصبة عشرة فما زاد قوله تعالى: {إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلٰلٍ} فيه ثلاثة اقوال. احدها: لفي خطأ من رايه، قاله ابن زيد. والثاني: في شقاء، قاله مقاتل؛ والمراد به عناء الدنيا. والثالث: لفي ضلال عن طريق الصواب الذي يقتضي تعديل المحبة بيننا، لأن نفعنا له أعم. قال الزجاج: ولو نسبوه إلى الضلال في الدين كانوا كفارا، إنما أرادوا: إنه قدم ابنين صغيرين علينا في المحبة ونحن جماعة نفعنا أكثر. ٩ قوله تعالى: {مُّبِينٍ ٱقْتُلُواْ يُوسُفَ} قال أبو علي: قرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي: «مبين اقتلوا» بضم التنوين، لأن تحريكه يلزم لالتقاء السكانين، فحركوه بالضم ليتبعوا الضمة الضمة، كما قالوا: {مَدَّ} و«ظلمات» وقرأ أبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، بكسر التنوين، فلم يتبعوا الضمة كما قالوا. {مَدَّ} «ظلمات». قال المفسرون: وهذا قولهم بينهم {أَوِ ٱطْرَحُوهُ أَرْضًا} قال الزجاج: نصب «أرضا» على إسقاط «في» وأفضى الفعل إليها؛ والمعنى: أو اطرحوه أرضا يبعد بها عن أبيه. وقال غيره: أرضا تأكله فيها السباع. قوله تعالى: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} اي: يفرغ لكم من الشغل بيوسف. {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ} أي: من بعد يوسف. {قَوْمًا صَـٰلِحِينَ} فيه قولان. احدهما: صالحين بالتوبة من بعد قتله، قاله ابن عباس. والثاني: يصلح حالكم عند أبيكم، قاله مقاتل. وفي قصتهم نكتة عجيبة، وهو أنهم عزموا على التوبة قبل الذنب، وكذلك المؤمن لا ينسى التوبة وإن كان مرتكبا للخطايا. ١٠ انظر تفسير الآية:١٤ ١١ انظر تفسير الآية:١٤ ١٢ انظر تفسير الآية:١٤ ١٣ انظر تفسير الآية:١٤ ١٤ قوله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ} فيه ثلاثة أقوال. احدها: أنه يهوذا، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال وهب بن منبه، والسدي، ومقاتل. والثاني: أنه شمعون، قاله مجاهد. والثالث: روبيل، قاله قتادة، وابن إسحاق. فأما غيابة الجب، فقال أبو عبيدة: كل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة، والجب: الركية التي لم تطو. وقال الزجاج: الغيابة: كل ما غاب عنك، أو غيب شيئا عنك، قال المنخل: فإن أنا يوما غيبتني غيابتي فسيروا بسيري في العشيرة والأهل والجب: البئر التي لم تطو؛ سميت جبا من أجل أنها قطعت قطعا، ولم يحدث فيها غير القطع من طي وما أشبهه. وقال ابن عباس: {فِى غَيَابَةِ ٱلْجُبّ} أي: في ظلماته. وقال الحسن: في قعره. وقرأ نافع: {غَيَابَةِ ٱلْجُبّ} فجعل كل منه غيابة. وروى خارجة عن نافع: «غيابات» بتشديد الياء. وقرأ الحسن، وقتادة، ومجاهد: {غَيَابَةِ ٱلْجُبّ} بغرير ألف مع إسكان الياء. وأين كان هذا الجب، فيه قولان. احدهما: بأرض الأردن، قاله وهب. وقال مقاتل: هو بأرض الأردن على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب. والثاني: ببيت المقدس، قاله قتادة. قوله تعالى: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ ٱلسَّيَّارَةِ} قال ابن عباس: يأخذه بعض من يسير. {إِن كُنتُمْ فَـٰعِلِينَ} أي: إن أضمرتم له ما تريدون. وأكثر القراء قرؤوا «يلتقطه» بالياء. وقرأ الحسن، وقتادة، وابن أبي عبلة بالتاء. قال الزجاج: وجميع النحويين يجيزون ذلك، لأن بعض السيارة سيارة، فكأنه قال: تلتقطه سيارة بعض السيارة. وقال ابن الأنباري: من قرأ بالتاء،فقد أنث فعل بعض، وبعض مذكر، وإنما فعل ذلك حملا على المعنى، إذ التأويل: تلتقطه السيارة، قال الشاعر: رأت مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال راد: رأت السنين، وقال الآخر: طول الليالي أسرعت في نقضي طوين طولي وطوين عرضي رادك: الليالي، أسرعت وقال جرير: لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع راد: تواضعت المدينة، وقال الآخر: وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم أراد: كما شرقت القناة. قال المفسرون: فلما عزم القوم على كيد يوسف، قالوا لأبيه: {مَـٰلِكَ لاَ تَأْمَنَّا} قرأ الجماعة «تأمنا» بفتح الميم وإدغام النون الأولى في الثانية والإشارة إلى إعراب النون المدغمة بالضم؛ قال مكي: لأن الأصل «تأمننا» ثم أدغمت النون الأولى، وبقي الإشمام يدل على ضمة النون الأولى، والإشمام: هو ضم شفتيك من غير صوت يسمع، فهو بعد الإدغام وقبل فتحه النون الثانية. وابن كيسان يسمي الإشمام الإشارة، ويسمى الروم إشماما؛ والروم: صوت ضعيف يسمع خفيا. وقرأ أبو جعفر «تأمنا» بفتح النون من غير إشمام إلى إعراب المدغم. وقرأ الحسن «مالك لا تأمنا» بضم الميم. وقرأ ابن مقسم «تأمننا» بنونين على الأصل والمعنى: مالك لا تأمنا على يوسف فترسله معنا. فإنه قد كبر ولا يعلم شيئا من أمر المعاش {وَإِنَّا لَهُ لَنَـٰصِحُونَ} فيما أشرنا به عليك؛ {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً} إلى الصحراء. وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، وذلك أنهم قالوا له: أرسله معنا، فقال إني ليحزنني أن تذهبوا به، فقالوا: مالك لا تأمنا. قوله تعالى: {نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو «نرتع ونلعب» بالنون فيهما، والعين ساكنه؛ وافقهم زيد عن يعقوب في «نرتع» فحسب. وفي معنى «نرتع» ثلاثة أقوال. احدها: نله، قاله الضحاك. والثاني: نسع، قاله قتادة. والثالث: نأكل؛ يقال: رتعت الإبل: إذا رعت، وأرتعتها: إذا تركتها ترعى. قال الشاعر: وحبيب لي إذا لا قيته وإذا يخلوا له لحمي رتع ي: أكله، هذا قول ابن الأنباري، وابن قتيبة. وقرأ عاصم، و حمزة والكسائي: «يرتع ويلعب» بالياء فيهما وجزم العين والباء، يعنون «يوسف». وقرأ نافع: «نرتع» بكسر العين من «نرتع» من غير بلوغ إلى الياء. قال ابن قتيبة: ومعناها: نتحارس، ويرعى بعضنا بعضا، أي: يحفظ؛ ومنه يقال: رعاك اللّه، أي: حفظك. وقد رويت عن ابن كثير أيضا «نرتعي» باثبات ياء بعد العين في الوصل والوقف. وقرأ أنس، وأبو رجاء «نرتع» بنون مرفوعة وكسر التاء وسكون العين، و «نلعب» بالنون. قال أبو عبيدة: أي: نرتع إبلنا. فأما قوله: {وَنَلْعَبُ} فقال ابن عباس: نلهو. فان قيل: كيف لم ينكر عليهم يعقوب ذكر اللعب؟ فالجواب: من وجهين. احدهما: أنهم لم يكونوا حينئذ أنبياء، قاله أبو عمرو ابن العلاء. والثاني: أنهم عنوا مباح اللعب، قاله الماوردي. قوله تعالى: {إِنّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُواْ بِهِ} أي: يحزنني ذهابكم به، لأنه يفارقني فلا أراه. {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ ٱلذّئْبُ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: «الذئب» بالهمز في الثلاثة المواضع. وقرأ الكسائي، وأبو جعفر، وشيبة بغير همز. قال أبو علي: «الذئب» مهموز في الأصل. يقال بذاءيت الريح: إذا جاءت من كل جهة كما يأتي الذئب. وفي علة تخصيص الذئب بالذكر ثلاثة أقوال. احدها: أنه رأى في منامة أن الذئب شد على يوسف، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن أرضهم كانت كثيرة الذئاب، قاله مقاتل. والثالث: أنه خافهم عليه فكنى بذكر الذئب، قاله الماوردي. قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَـٰفِلُونَ} فيه قولان. احدهما: غافلون في اللعب. والثاني: مشتغلون برعيتكم. قوله تعالى: {لَئِنْ أَكَلَهُ ٱلذّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أي: جماعة نرى الذئب قد قصده ولا نرد عنه {إِنَّا إِذَا لَّخَـٰسِرُونَ} أي: عاجزون. قال ابن الأنباري: ومن قرأ «عصبة» بالنصب، فتقديره: ونحن نجتمع عصبة. ١٥ قوله تعالى: {فلما ذهبوا به} في الكلام اختصار وإضمار، تقديره: فأرسله معهم فلما ذهبوا. {وَأَجْمَعُواْ} أي: عزموا على أن يجعلوه في غيابة الجب. الإشارة إلى قصة ذهابهم قال المفسرون: قالوا ليوسف: أما تشتاق أن تخرج معنا فتلعب وتتصيد؟ قال: بلى، قالوا: فسل أباك أن يرسلك معنا، قال: أفعل، فدخلوا بجماعتهم على يعقوب، فقالوا: يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا، فقال: ما تقول يا بني؟ قال: نعم يا أبت، قد أرى من إخوتي اللين واللطف، فأنا أحب أن تأذن لي، فأرسله معهم، فلما أصحروا، أظهروا له ما في أنفسهم من العداوة، وأغلظوا له القول، وجعل يلجأ إلى هذا، فيضربه، وإلى هذا، فيؤذيه، فلما فطن لما قد عزموا عليه، جعل ينادي: يا أبتاه، يا يعقوب، لو رأيت يوسف وما ينزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك، يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك، وضيعوا وصيتك، وجعل يبكي بكاءا شديدا. قال الضحاك عن ابن عباس: فأخذه روبيل فجلد به الأرض، ثم جثم على صدره وأراد قتله، فقال له يوسف: مهلا يا أخي لا تقتلني، قال: يا ابن راحيل صاحب الأحلام، قل لرؤياك تخلصك من أيدينا، ولوى عنقه ليكسرهها، فنادى يوسف: يا يهوذا اتق اللّه في، وخل بيني وبين من يريد قتلي، فأدركته له رحمه، فقال يهوذا: يا إخوتاه، ألا أدلكم على أمر هو خير لكم وأرفق به؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: تلقونه في هذا الجب فيلتقطه بعض السيارة، قالوا: نفعل؛ فانطلفوا به إلى الجب، فخلعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه، لم نزعتم قميصي؟ ردوه علي أستر به عورتي ويكون كفنا لي في مماتي؛ فأخرج اللّه له حجرا في البئر مرتفعا من الماء، فاستقرت عليه قدماه. وقال السدي: جعلوا يدلونه في البئر، فيتعلق بشفير البئر؛ فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال: يا إخوتاه، ردوا علي قيمصي أتوارى به، فقالوا: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا، فدلوه في البئر، حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت، فكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم أوى إلى صخرة فيها فقام، عليها فلما ألقوه في الجب جعل يبكي، فنادوه، فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة، فمنعهم يهوذا، وكان يهوذا يأتيه بالطعام. وقال كعب: جمعوا يديه إلى عنقه ونزعوا قميصه، فبعث اللّه إليه ملكا، فحل عنه وأخرج له حجرا من الماء، فقعد عليه؛ وكان يعقوب قد أدرج قميص إبراهيم الذي كساه اللّه إياه يوم ألقي في النار في قصبة، وجعلها في عنق يوسف، فألبسه إياه الملك حينئذ، وأضاء له الجب وقال الحسن: ألقي في الجب، فعذب ماؤه، فكان يغنيه عن الطعام والشراب؛ ودخل عليه جبريل، فأنس به، فلما أمسى، نهض جبريل ليذهب، فقال له يوسف: إنك إذا خرجت عني استوحشت، فقال: إذا رهبت شيئا فقل: يا صريخ المستصرخين، وياغوث المستغيثنين، ويا مفرج كرب المكروبين، قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري. فلما قالها حفته الملائكة، فاستأنس في الجب ومكث فيه ثلاثة أيام، وكان إخوته يرعون حول الجب. وقال محمد بن مسلم الطائفي: لما ألقي يوسف في الجب، قال: يا شاهدا غير غائب، ويا قريبا غير بعيد، ويا غالبا غير مغلوب، اجعل لي فرجا مما أنا فيه؛ قال: فما بات فيه. وفي مقدار سنة حين ألقي في الجب أربعة أقوال. احدها: اثنتا عشرة سنة، قاله الحسن. والثاني: ست سنين، قاله الضحاك. والثالث: سبع عشرة، قاله ابن السائب، وروي عن الحسن ايضا. والرابع: ثمان عشرة. قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} فيه قولان. احدهما: أنه إلهام، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنه وحي حقيقة. قال المفسرون: أوحي إليه لتخبرن إخوتك بأمرهم، أي: بما صنعوا بك وأنت عال عليهم. وفي قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} قولان. احدهما: لا يشعرون أنك يوسف وقت إخبارك لهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثاني: لا يشعرون بالوحي، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد. فعلى الأول يكون الكلام من صلة «لتنبئنهم»؛ وعلى الثاني من صلة «وأوحينا إليه» قال حميد: قلت للحسن: أيحسد المؤمن المؤمن؟ قال: لا أبالك، ما نساك بني يعقوب؟ ١٦ انظر تفسير الآية:١٧ ١٧ قوله تعالى: {وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ} وقرأ أبو هريرة، والحسن، وابن السميفع، والأعمش: {عِشَاء} بضم العين. قال المفسرون: جاؤوا وقت العتمة ليكونوا أجرأ في الظلمة على الاعتذار بالكذب، فلما سمع صوتهم فزع، وقال: مالكم يا بني، هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فما اصابكم؟ وأين يوسف؟ {قَالُواْ يأَبَانَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} وفيه ثلاثة أقوال. احدها: ننتضل، قاله ابن عباس، وابن قتيبة، قال: والمعنى، يسابق بعضنا بعضا في الرمي، والثاني: نشتد، قاله السدي. والثالث: نتصيد، قاله مقاتل. فيكون المعنى على الأول: نستبق في الرمي لننظر أينا أسبق سهما؛ وعلى الثاني: نستبق على الأقدام؛ وعلى الثالث: للصيد. قوله تعالى: {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَـٰعِنَا} أي: ثيابنا. {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} أي: يمصدق. وفي قوله: {وَلَوْ كُنَّا صَـٰدِقِينَ} قولان. احدهما: أن المعنى: وإن كنا قد صدقنا، قاله ابن إسحاق. والثاني: لو كنا عندك من أهل الصدق لا تهمتنا في يوسف لمحبتك إياه، وظننت أنا قد كذبناك، قاله الزجاج. ١٨ قوله تعالى: {وَجَاءوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} قال اللغويون: معناه: بدم مكذوب فيه، والعرب تجعل المصدر في كثير من الكلام مفعولا، فيقولون للكذب مكذوب، وللعقل معقول، وللجلد مجلود، قال الشاعر: حتى إذا لم يتركوا لعظامه لحما ولا لفؤاده معقولا أراد: عقلا. وقال الآخر: قد والذي سمك السماء بقدره بلغ العزاء وأدرك المجلود يريد: أدرك الجلد. ويقولون: ليس لفلان عقد رأي، ولا معقود رأي، ويقولون: هذا ماء سكب، يريدون: مسكوبا، وهذا شراب صب، يريدون: مصبوبا، وماء غور، يعنون: غائرا، ورجل صوم، يريدون: صائما، وامرأة نوح، يريدون: نائحة؛ وهذا الكلام مجموع قول الفراء، والأحفش، والزجاج، وابن قتيبة في آخرين. قال ابن عباس: أخذوا جديا فذبحوه، ثم غمسوا قميص يوسف في دمه، وأتوه به وليس فيه خرق، فقال: كذبتم، لو كان أكله الذئب لخرق القميص. وقال قتادة: كان دم ظبية. وقرأ ابن أبي عبلة: {بِدَمٍ كَذِبًا} بالنصب. وقرأ ابن عباس، والحسن، وأبو العالية: «بدم كذب» بالدال غير معجمة، أي: بدم طري. قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ} أي: زينت {لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} غير ما تصفون {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} قال الخليل: المعنى: فشأني صبر جميل، والذي أعتقده صبر جميل. وقال الفراء: الصبر مرفوع، لأنه عزى نفسه وقال: ما هو إلا الصبر، ولو أمرهم بالصبر، لكان نصبا. وقال قطرب: المعنى: فصبري صبر جميل. وقرأ ابن مسعود، وأبي، وأبو المتوكل: «فصبرا جميلا» بالنصب. قال الزجاج: والصبر الجميل، لا جزع فيه، ولا شكوى إلى الناس. قوله تعالى: {وَٱللّه ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} فيه قولان. احدهما: على ما تصفون من الكذب. والثاني: على احتمال ما تصفون. ١٩ قوله تعالى: {وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ} أي: قوم يسيرون {فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} قال الأخفش: أنث السيارة وذكر الوارد، لأن السيارة في المعنى للرجال. وقال الزجاج: الوارد: الذي يرد الماء ليستقي للقوم. وفي اسم هذا الوارد قولان. احدهما: مالك بن ذعر بن يؤيب بن عيفا بن مدين بن إبراهيم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: مجلث بن رعويل، قاله وهب بن منبه. قوله تعالى: {فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ} أي: أرسلها. قال الزجاج: يقال: أدليت الدلو: إذا أرسلتها لتملأها ودلوتها: إذا أخرجتها. {قَالَ يَـاءادَمُ} قرأه ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «يا بشراي» بفتح الياء وإثبات الألف. وروى ورش عن نافع «بشراي» و «محياي» [الأنعام ١٦٢] و «مثواي» [يوسف: ٢٣] بسكون الياء. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي «يا بشرى» بألف بغير ياء. وعاصم بفتح الراء، وحمزة، والكسائي يميلانها. قال الزجاج: من قرأ «يا بشراي» فهذا النداء لتنبيه للمخاطبين، لأن البشرى لا تجيب ولا تعقل؛ فالمعنى: أبشروا، وياأيها البشرى هذا من أوانك، وكذلك إذا قلت: يا عجباه، فكأنك قلت: اعجبوا، وياأيها العجب هذا من حينك؛ وقد شرحنا هذا المعنى [هود ٦٩ و ٧٤].فأما قراءة من قرأ «يا بشرى» فيجوز أن يكون المعنى: يا من حضر، هذه بشرى. ويجوز أن يكون المعنى: يا بشرى هذا أوانك على ما سبق بيانه من تنبيه الحاضرين. وذكر السدي أنه نادى بذاك أحدهم وكان اسمه بشرى. وقال ابن الأنباري: يجوز فيه هذه الأقوال، ويجوز أن يكون اسم امرأة. وقرأ أبو رجاء، وابن أبي عبلة: «يا بشري» بتشديد الياء وفتحها من غير ألف. قال ابن عباس: لما أدلى دلوه؛ تعلق يوسف بالحبل فنظر إليه فإذا غلام أحسن ما يكون من الغلمان، فقال لأصحابه: البشرى، فقالوا: ما وراءك؟ قال: هذا غلام في البئر، فأقبلوا يسألونه الشركة فيه، واستخرجوه من الجب، فقال بعضهم لبعض: اكتموه عن أصحابكم لئلا يسألونكم الشركة فيه، فإن قالوا: ما هذا؟ فقولوا: استبضعناه أهل الماء لنبيعه لهم بمصر؛ فجاء إخوة يوسف فطلبوه فلم يجدوه في البئر، فنظروا، فإذا هم بالقوم ومعهم يوسف، فقالوا لهم: هذا غلام أبق منا، فقال مالك بن ذعر: فأنا أشتريه منكم، فباعوه بعشرين درهما وحلة ونعلين، واسره مالك بن ذعر من أصحابه، وقال: استبضعناه أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. قوله تعالى: {غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَـٰعَةً} قال الزجاج: «بضاعة» منصوب على الحال، كأنه قال: وأسروه جاعليه بضاعة. وقال ابن قتيبة: أسروا في أنفسهم أنه بضاعة وتجارة. في الفاعلين لذاك قولان. احدهما: أنهم واردوا الجب. أسروا ابتياعه عن باقي أصحابهم، وتواصوا أنه بضاعة استبضعهم إياها أهل الماء؛ وقد ذكرنا هذا المعنى عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثاني: أنهم إخوته، أسروا أمره، وباعوه، وقالوا: هو بضاعة لنا، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس أيضا. قوله تعالى: {وَٱللّه عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} يعم الباعة والمشترين. ٢٠ قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ} هذا حرف من حروف الأضداد، تقول: شريت الشيء، بمعنى بعته؛ وشريته؛ يمعنى اشتريته. فإن كان بمعنى باعه، ففيهم قولان. احدهما: أنهم إخوته، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنهم السيارة، ولم يبعه إخوته، قاله الحسن، وقتادة. وإن كان بمعنى اشتروه، فإنهم السيارة. قوله تعالى: {بِثَمَنٍ بَخْسٍ} فيه ثلاثة أقوال. احدها: أنه الحرام، قاله ابن عباس، والضحاك، وقتادة في آخرين. والثاني: أنه القليل، قاله عكرمة، والشعبي، قال ابن قتيبة: البخس: الخسيس الذي بخس به البائع. والثالث: الناقص، وكانت الدراهم عشرين درهما في العدد، وهي تنقص عن عشرين في الميزان، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: {دَرٰهِمَ مَعْدُودَةٍ} قال الفراء: إنما قيل: «معدودة» ليستدل بها على القلة. وقال ابن قتيبة: أي: يسيرة، سهل عددها لقلتها، فلو كانت كثيرة لثقل عددها. وقال ابن عبسا: كانوا في ذلك الزمان لا يزنون أقل من أريعين درهما، وقيل: إنما لم يزنوها لزهدهم فيه. وفي عدد تلك الدراهم خمسة أقوال. احدها: عشرون درهما، قاله ابن مسعود، وابن عباس في رواية، وعكرمة في رواية، ونوف الشامي، ووهب بن منبه، والشعبي، وعطية، والسدي، ومقاتل في آخرين. والثاني: عشرون درهما وحلة، ونعلان، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث: اثنان وعشرون درهما، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والرابع: أربعون درهما، قاله عكرمة في رواية، وابن إسحاق. والخامس: ثلاثون درهما، ونعلان، وحلة، وكانوا قالوا له بالعبرانية: إما أن تقر لنا بالعبودية، وإما أن نأخذك منهم فنقتلك، قال: بل أقر لكم بالعبودية، ذكره إسحاق بن بشر عن بعض أشياخه. قال المفسرون: اقتسموا ثمنه، فاشتروا به نعالا وخفافا. وكان بعض الصالحين يقول: واللّه ما يوسف ـ وإن باعه أعداؤه ـ بأعجب منك في بيعك نفسك بشهوة ساعة من معاصيك. قوله تعالى: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ ٱلزهِدِينَ} الزهد: قلة الرغبة في الشيء. وفي المشار إليهم قولان. احدهما: أنهم إخوته، قاله ابن عباس؛ فعلى هذا، في هاء فيه قولان. احدهما: أنها ترجع إلى يوسف، لأنهم لم يعلموا مكانه من اللّه تعالى، قاله الضحاك، وابن جريج. والثاني: أنها ترجع إلى الثمن. وفي علة زهدهم قولان. احدهما: ردائته. والثاني: أنهم قصدوا بعد يوسف، لا الثمن. والثاني: أنهم السيارة الذين اشتروه. وفي علة زهدهم ثلاثة أقوال. احدها: أنهم ارتابوا لقلة ثمنه. والثاني: أن إخوته وصفوه عندهم بالخيانة والإباق. والثالث: أنهم علموا أنه حر. ٢١ قوله تعالى: {وَقَالَ ٱلَّذِى ٱشْتَرَاهُ مِن مّصْرَ} قال وهب: لما ذهبت به السيارة إلى مصر، وقفوه في سوقها يعرضونه للبيع، فتزايد الناس في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا، ووزنه ورقا، ووزنه حريرا، فاششتراه بذلك الثمن رجل يقال له: قطفير، وكان أمين فرعون وخازنه، وكان مؤمنا. وقال ابن عباس: إنما اشتراه قطفير من مالك بن ذعر بعشرين دينارا، وزوجي نعل، وثوبين أبيضين، فلما رجع إلى منزله قال لامرأته: أكرمي مثواه. وقال قوم: اسمه أطفير. وفي اسم المرأة قولان. احدهما: رعاييل بنت عايبل، قاله ابن إسحاق. والثاني: أزليخا بنت تمليخا، قاله مقاتل. قال ابن قتيبة: «أكرمي مثواه» يعني أكرمي منزله ومقامه عندك، من قولك: ثويت بالمكان: إذا أقمت به. وقال الزجاج: أحسني إليه في طول مقامه عندنا. قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف، فقال لامرأته: «أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا» وابنة شعيب حين قالت: {إحداهما يٰأَبَتِ ٱسْتَـجِرْهُ} [القصص ٢٦]، وأبو بكر حين استخلف عمر. وفي قوله: {عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا} قولان. احدهما: يكفينا إذا بلغ أمورنا. والثاني: بالربح في ثمنه. قوله تعالى: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} قال ابن عباس: نتبناه. وقال غيره: لم يكن لهما ولد، وكان العزيز لا يأتي النساء. قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} أي: وكما أنجيناه من إخوته وأخرجناه من ظلمة الجب، مكنا له في الأرض، أي: ملكناه في أرض مصر فجعلناه على خزائنها. {وَلِنُعَلّمَهُ} قال ابن الأنباري: إنما دخلت الواو في «ولنعلمه» لفعل مضمر هو المجتلب للام، والمعنى: مكنا ليوسف في الأرض، واختصصناه بذلك لكي نعلمه من تأويل الأحاديث. وقد سبق «تفسير تأويل الأحاديث» [يوسف ٦] {وَٱللّه غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ} في هاء الكناية قولان. احدهما: أنها ترجع إلى اللّه، فالمعنى: أنه غالب على ما أراد من قضائه، وهذا معنى قول ابن عباس. ٢٢ قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قد ذكرنا معنى الأشد في [الأنعام ١٥٢]، واختلف العلماء في المراد به هاهنا على ثمانية أقوال. احدها: أنه ثلاث وثلاثون سنة، رواه عسد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة. والثاني: ثماني عشرة سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. والثالث: أربعون سنة، قاله الحسن. والرابع: بلوغ الحلم، قاله الشعبي، وربيعة، وزيد بن أسلم، وابنه. والخامس: عشرون سنة، قاله الضحاك. والسادس: أنه من نحو سبع عشرة سنة إلى نحو الأربعين، قاله الزجاج. والسابع: أنه بلوغ ثمان وثلاثين سنة، حكاه ابن قتيبة. والثامن: ثلاثون سنة، ذكره بعض المفسرين. قوله تعالى: {اتَيْنَاهُ حُكْمًا} فيه أربعة أقوال. احدها: أنه الفقه والعقل، قاله مجاهد. والثاني: النبوة، قاله ابن السائب. والثالث: أنه جعل حكيما، قاله الزجاج، قال: وليس كل عالم حكيما، إنما الحكيم: العالم المستعمل علمه، الممتنع به من استعمال ما يجهل فيه. والرابع: أنه الإصابة في القول، ذكره الثعلبي. قال اللغويون: الحكم عند العرب ما يصرف عن الجهل والخطأ، ويمنع منهما، ويرد النفس عما يشينها ويعود عليها بالضرر، ومنه: حكمة الدابة. وأصل أحكمت في اللغة: منعت، وسمي الحاكم حاكما، لأنه يمنع من الظلم والزيغ. وفي المراد بالعلم هاهنا قولان. احدهما: الفقه والثاني علم الرؤيا. قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِى ٱلْمُحْسِنِينَ} أي: ومثل ما وصفنا من تعلم يوسف وحراسته، نثيب من أحسن عمله، واجتنب المعاصي، فننجيه من الهلكة، ونستنفذه من الضلالة فنجعله من أهل العلم والحكمة كما فعلنا بيوسف. وفي المراد بالمحسنين هاهنا ثلاثة أقوال. احدها: الصابرون على النوائب. والثاني: المهتدون، رويا عن ابن عباس. والثالث: المؤمنون. قال محمد بن جرير: هذا، وإن كان مخرج ظاهره على كل محسن، فالمراد به محمد صلى اللّه عليه وسلم، والمعنى: كما فعلت بيوسف بعد ما لقي من البلاء فمكنته في الأرض وآتيته العلم، كذلك أفعل بك وأنجيك من مشركي قومك. ٢٣ قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} أي: طلبت منه المواقعة، وقد سبق اسمها. قال الزجاج: المعنى: راودته عما أرادته مما يريد النساء من الرجال. {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} قرأ ابن كثير: «هيت لك» بفتح الهاء وتسكين الياء وضم التاء. وقرأ نافع، وابن عامر: «هيت لك» بكسر الهاء وتسكين الياء وفتح التاء، وهي مروية عن علي بن أبي طالب. وروى الحلواني عن هشام عن ابن عامر مثله، إلا أنه همزه. قال أبو علي الفارسي: هو خطأ. وروي عن ابن عامر: «هئت لك» بكسر الهاء وهمز الياء وضم التاء، وهي قراءة ابن عباس، وأبي الدرداء، وقتادة. قال الزجاج: هو من الهيئة، كأنها قالت: تهيأت لك. وعن ابن محيصن، وطلحة بن مصرف، مثل قراءة ابن عباس؛ إلا أنها بغير همز، وعن ابن محيصن بفتح الهاء وكسر التاء، وهي قراءة أبي رزين، وحميد. وعن الوليد بن عتبة بكسر الهاء والتاء مع الهمز، وهي قراءة أبي العالية. وقرأ ابن خثيم مثله، إلا أنه لم يهمز. وعن الوليد بن مسلم عن نافع بكسر الهاء وفتح التاء مع الهمز، وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع، وابن يعمر، والجحدري: «هيئت لك» برفع الهاء والتاء وبياء مشددة مكسورة بعدها همزة ساكنة. وقرأ أبي بن كعب: «ها أنا لك». وقرأ الباقون بفتح الهاء والتاء بغير همز. قال الزجاج: وهو أجود اللغات، وأكثرها في كلام العرب، ومعناها: هلم لك، أي: أقبل على ما أدعوك إليه، وقال الشاعر: أبلغ أمير المؤمنين أخا العراق إذا أتيتا أن العراق وأهله عنق إليك فهيت هيتا أي: فأقبل وتعال. وقال ابن قتيبة: يقال: هيت فلان لفلان: إذا دعاه وصاح به، قال الشاعر: قد رابني أن الكري أسكتا لو كان معنيا بها لهيتا أي: صار ذا سكوت. واختلف العلماء في قوله: «هيت لك» بأي لغة هي، على أربعة أقوال. احدها: أنها عربية، قاله مجاهد. وقال ابن الأنباري: وقد قيل:إنها من كلام قريش، إلا أنها مما درس وقل في أفواههم آخرا، فأتى اللّه به، لأن أصله من كلامهم، وهذه الكلمة لا مصدر لها، ولا تصرف، ولا تثنية، ولا جمع، ولا تأنيث، يقال للاثنين: هيت لكما، وللجميع: هيت لكم، وللنسوة: هيت لكن. والثاني: أنها بالسريانية، قاله الحسن. والثالث: بالحورانية، قاله عكرمة، والكسائي. وقال الفراء: يقال: إنها لغة لأهل حوران، سقطت إلى أهل مكة فتكلموا بها. والرابع: أنها بالقبطية، قاله السدي. قوله تعالى: {قَالَ مَعَاذَ ٱللّه} قال الزجاج: هو مصدر، والمعنى: أعوذ باللّه أن أفعل هذا، يقال: عذت عياذا ومعاذا ومعاذة. {إِنَّهُ رَبّى}. أي: إن العزيز صاحبي {أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ}، قال: ويجوز أن يكون «إنه ربي» يعني اللّه عز وجل «أحسن مثواي» أي: تولاني في طول مقامي. قوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ} أي: إن فعلت هذا فخنته في أهله بعدما أكرمني فأنا ظالم. وقيل: الظالمون هاهنا: الزناة. ٢٤ قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} الهم بالشيء في كلام العرب: حديث المرء نفسه بمواقعته مالم يواقع. فأما هم أزليخا، فقال المفسرون: دعته إلى نفسها واستلقت له. واختلفوا في همه بها على خمسة أقوال. احدها: أنه كان من جنس همها، فلولا أن اللّه تعالى عصمه لفعل، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن، وسعيد بن جبير، والضحاك، والسدي، وهو قول عامة المفسرين المتقدمين، واختاره من المتاخرين جماعة منهم ابن جرير، وابن الأنباري. وقال ابن قتيبة: لا يجوز في اللغة: هممت بفلان، وهم بي، وأنت تريد: اختلاف الهمين. واحتج من نصر هذا القول بأنه مذهب الأكثرين من السلف والعلماء الأكابر، ويدل عليه ما سنذكره من أمر البرهان الذي رآه. قالوا: ورجوعه عما هم به من ذلك خوفا من اللّه تعالى يمحو عنه سيء الهم، ويوجب له علو المنازل، ويدل على هذا الحديث الصحيح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: أن ثلاثة خرجوا فلجؤوا إلى غار، فانطبقت عليهم صخرة، فقالوا: ليذكر كل واحد منكم أفضل عمله. فقال أحدهم: اللّهم إنك تعلم أنه كانت لي بنت عم فراودتها عن نفسها فأبت إلا بمائة دينار، فلما أتيتها بها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة، أرعدت وقالت: إن هذا لعمل ما عملته قط، فقمت عنها وأعطيتها المائة الدينار، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا، فزال ثلث الحجر. والحديث معروف، وقد ذكرته في «الحدائق» فعلى هذا نقول: إنما همت، فترقت همتها إلى العزيمة، فصارت مصرة على الزنا. فأما هو، فعارضه ما يعارض البشر من خطرات القلب، وحديث النفس، من غير عزم، فلم يلزمه هذا الهم ذنبا، فإن الرجل الصالح قد يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد، فإذا لم يشرب لم يؤاخذ بما هجس في نفسه، وقد قال صلى اللّه عليه وسلم. «عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تتكلم أو تعمل» وقال صلى اللّه عليه وسلم «هلك المصرون» وليس الإصرار إلا عزم القلب، فقد فرق بين حديث النفس وعزم القلب. وسئل سفيان الثوري: أيؤاخذ العبد بالهمة؟ فقال: إذا كانت عزما، ويؤيده الحديث الصحيح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «يقول اللّه تعالى إذا هم عبدي بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها عليه سيئة» واحتج القاضي أبو يعلى على أن همته لم تكن من جهة العزيمة، وإنما كانت من جهة دواعي الشهوة بقوله: «قال معاذ اللّه إنه ربي» وقوله: «كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء» وكل ذلك إخبار ببراءة ساحتة من العزيمة على المعصية. فان قيل: فقد سوى القرآن بين الهمتين، فلم فرقتم؟ فالجواب: أن الاستواء وقع في بداية الهمة، ثم ترقت همتها إلى العزيمة، بدليل مراودتها واستلقائها بين يديه، ولم تتعد همته مقامها، بل نزلت عن رتبتها، وانحل معقودها، بدليل هربه منها، وقوله: «معاذ اللّه». وعلى هذا تكون همته مجرد خاطر لم يخرج إلى العزم. ولا يصح ما يروى عن المفسرين أنه حل السراويل وقعد منها مقعد الرجل، فإنه لو كان هذا، دل على العزم، والأنبياء معصومون من العزم على الزنا. والقول الثاني: أنها همت به أن يفترشها، وهم بها، أي: تمناها أن تكون له زوجة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والقول الثالث: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، تقديره: ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فلما رأى البرهان، لم يقع منه الهم، فقدم جواب «لولا» عليها، كما يقال: قد كنت من الهالكين، لولا أن فلانا خلصك، لكنت من الهالكين، ومنه قول الشاعر: فلا يدعني قومي صريحا لحرة لئن كنت مقتولا وتسلم عامر أراد: لئن كنت مقتولا وتسلم عامر، فلا يدعني قومي، فقدم الجواب. وإلى هذا القول ذهب قطرب، وأنكره قوم، منهم ابن الأنباري، وقالوا: تقديم جواب «لولا» عليها شاذ مستكره، لا يوجد في فصيح كلام العرب، فأما البيت المستشهد به، فمن اضطرار الشعراء، لأن الشاعر يضيق الكلام به عند اهتمامه بتصحيح أجزاء شعره، فيضع الكلمة في غير موضعها، ويقدم ما حكمه التأخير، ويؤخر ما حكمه التقديم، ويعدل عن الاختيار إلى المستقبح للضرورة، قال الشاعر: جزى ربه عني عدي بن حاتم بتركي وخذلاني جزاء موفرا تقديره: جزى عني عدي بن حاتم ربه، فاضطره إلى تقديم الرب، وقال الآخر: لما جفا إخوانه مصعبا أدى بذلك البيع صاعا بصاع أراد: لما جفا مصعبا إخوانه، وأنشد الفراء: طلبا لعرفك يا ابن يحيى بعدما تتقطعت بي دونك الأسباب فزاد تاء على «تقطعت» لا أصل لها ليصلح وزن شعره، وأنشد ثعلب: إن شكلي وإن شكلك شتى فالزمي الخفض وانعمي تبيضضي فزاد ضادا لا أصل لها لتكمل أجزاء البيت، وقال الفرزدق: هما تفلا في في من فمويهما على النابح العاوي أشد لجاميا فزاد واوا بعد الميم ليصلح شعره. ومثل هذه الأشياء لا يحمل عليها كتاب اللّه النازل بالفصاحة، لأنها من ضرورات الشعراء. والقول الرابع: أنه هم أن يضربها ويدفعها عن نفسه، فكان البرهان الذي رآه من ربه أن اللّه أوقع في نفسه إن ضربها كان ضربه كان ضربه إياها حجة عليه، لأنها تقول: راودني فمنعته فضربني، ذكره ابن الأنباري. والقول الخامسس: أنه هم بالفرار منها، حكاه الثعلبي، وهو قول مرذول، أفتراه أراد الفرار منها، فلما رأى البرهان، أقام عندها؟ٰ قال بعض العلماء: كان هم يوسف خطيئة من الصغائر الجائزة على الأنبياء، وإنما ابتلاهم بذلك ليكونوا على خوف منه، وليعرفهم مواقع نعمته في الصفح عنهم، وليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء الرحمة. قال الحسن: إن اللّه تعالى لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعبيرا لهم، ولكن لئلا تقنطوا من رحمته. يعني الحسن: أن الحجة للأنبياء ألزم، فإذا قبل التوبة منهم، كان إلى قولها منكم أسرع. وروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. أنه قال: «ما من أحد يلقى اللّه تعالى إلا وقد هم بخطيئة أو عملها إلى يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعملها». قوله تعالى: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} جواب «لولا» محذوف. قال الزجاج: المعنى: لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما هم به. قال ابن الأنباري: لزنا، فلما رأى البرهان كان سبب انصراف الزنا عنه. وفي البرهان ستة أقوال. احدها: أنه مثل له يعقوب. روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: نودي يا يوسف، أتزني فتكون مثل الطائر الذي نتف ريشه فذهب يطير فلم يستطع؟ فلم يعط على النداء شيئا، فنودي الثانية، فلم يعط على النداء شيئا، فتمثل له يعقوب فضرب صدره، فقام، فخرجت شهوته من أنامله. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: رأى صورة أبيه يعقوب في وسط البيت عاضا على أنامله، فأدبر هاربا، وقال: وحقك يا أبت لا أعود أبدا. وقال أبو صالح عن ابن عباس: رأى مثال يعقوب في الحائط عاضا على شفتيه. وقال الحسن: مثل له جبريل في صورة يعقوب في سقف البيت عاضا على إبهامه أو بعض أصابعه.وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، وابن سيرين، والضحاك في آخرين. وقال عكرمة: كل ولد يعقوب، قد ولد له اثنا عشر ولدا، إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولدا، فنقص بتلك الشهوة ولدا. والثاني: أنه جبريل عليه السلام. روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس. قال: مثل له يعقوب فلم يزدجر، فنودي: أتزني فتكون مثل الطائر نتف ريشه؟ٰ فلم يزدجر حتى ركضه جبريل في ظهره، فوثب. والثالث: أنها قامت إلى صنم في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال لها يوسف: أي شيء تصنعين؟ قالت: استحي من إلهي هذا أن يراني على هذه السوأة، فقال: أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع، ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت؟ فهو البرهان الذي رأى، قاله علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين، والضحاك. والرابع: أن اللّه بعث إليه ملكا، فكتب في وجه المرأة بالدم: {وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} قاله الضحاك عن ابن عباس. وروي عن محمد ابن كعب القرظي: أنه رأى هذه الآية مكتوبة بين عينيها، وفي رواية أخرى عنه، أنه رآهامكتوبة في الحائط. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: بدت فيما بينهما كف ليس فيها عضد ولا معصم، وفيها مكتوب {وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الاسراء ٣٢]، فقام هاربا، وقامت، فلما ذهب عنها الرعب عادت وعاد، فلما قعد إذا بكف قد بدت فيما بينهما فيها مكتوب {وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللّه} [البقرة ٢٨١]، فقام هاربا، فلما عاد، قال اللّه تعالى لجبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة، فانحط جبريل عاضا على كفه أو أصبعه وهو يقول: يا يوسف، أتعمل عمل السفهاءوأنت مكتوب عند اللّه في الأنبياء؟ٰ وقال وهب بن منبه: ظهرت تلك الكف وعليها مكتوب بالعبرانية {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}، فانصرفا، فلما عادا رجعت وعليها مكتوب {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـٰفِظِينَ كِرَاماً كَـٰتِبِينَ} [الأنفطار ١١ ١٢] فانصرفا، فلما عادا عادت وعليها مكتوب {وَلاَ تَقْرَبُواْ} الآية، فعاد، فعادت الرابعة وعليها مكتوب {تَعْلَمُونَ وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللّه}، فولى يوسف هاربا. الخامس: أنه سيده العزيز دنا من الباب، رواه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم. وقال ابن إسحاق: يقال:إن البرهان خيال سيده، رآه عند الباب فهرب. والسادس: أن البرهان أنه علم ما أحل اللّه مما حرم اللّه، فرأى تحريم الزنا، روي عن محمد بن كعب القرظي، قال ابن قتيبة: رأى حجة اللّه عليه، وهي البرهان، وهذا هو القول الصحيح، وما تقدمه فليس بشيء، وإنما هي أحاديث من أعمال القصاص، وقد أشرت إلى فسادها في كتاب «المغني في التفسير» وكيف يظن بنبي للّه كريم أنه يخوف ويرعب ويضطر إلى ترك هذه المعصية وهو مصر؟ٰ هذا غاية القبح. قوله تعالى: {كَذٰلِكَ} أي: كذلك أريناه البرهان {لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوء} وهو خيانة صاحبه {وَٱلْفَحْشَاء} ركوب الفاحشة {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر بكسر اللام، والمعنى: إنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بفتح اللام، أرادوا: من الذين أخلصهم اللّه من الأسواء والفواحش. وبعض المفسرين يقول: السوء: الزنى، والفحشاء: المعاصي. ٢٥ انظر تفسير الآية:٢٧ ٢٦ انظر تفسير الآية:٢٧ ٢٧ قوله تعالى: {وَٱسُتَبَقَا ٱلْبَابَ} يعني يوسف والمرأة، تبادرا إلى الباب يجتهد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه، وأراد يوسف أن يسبق ليفتح الباب ويخرج، وأرادت هي إن سبقت إمساك الباب لئلا يخرج، فأدركته فتعلقت بقميصه من خلفه، فجذبته إليها، فقدت قميصه من دبر، أي: قطعته من خلفه، لأنه كان هو الهارب وهي الطالبة له. قال المفسرون: قطعت قميصه نصفين، فلما خرجا، ألفيا سيدها، أي: صادفا زوجها عند الباب، فحضرها في ذلك الوقت كيد، فقالت سابقة بالقول مبرئة لنفسها من الأمر {مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا} قال ابن عباس: تريد الزني {إِلا أَن يُسْجَنَ} أي: ما جزاؤه إلا السجن {أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تعني الضرب السياط، فغضب يوسف حينئذ وقال: {هِىَ رَاوَدَتْنِى}. وقال وهب ابن منبه: قال له العزيز حينئذ: اخنتني يا يوسف في أهلي، وغدرت بي، وغررتني بما كنت أرى من صلاحك؟ فقال حينئذ: {هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى}. قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا} وذلك أنه لما تعارض قولاهما، احتاجا إلى شاهد يعل به قول الصادق.وفي ذلك الشاهد ثلاثة أقوال. احدها: أنه كان صبيا في المهد، رواه عكرمة عن ابن عباس، وشهر بن حوشب عن أبي هريرة، وبه قال سعيد بن جبير، والضحاك، وهلال بن يساف في آخرين. والثاني: أنه كان من خاصة الملك، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس. وقال أبو صالح عن ابن عباس: كان ابن عم لها، وكان رجلا حكيما، فقال: قد سمعنا الاشتداد والجلبة من وراء الباب، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة وهو كاذب، وإن كان من خلفه فهو صادق وأنت كاذبة، وقال بعضهم كان ابن خالة المرأة. والثالث: أنه شق القميص، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وفيه ضعف، لقوله: «من أهلها». فان قيل: كيف وقعت شهادة الشاهد هاهنا معلقة بشرط، والشارط غير عالم بما يشرطه؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري. احدهما: أن الشاهد شاهد بأمر قد علمه، فكأنه سمع بعض كلام يوسف وأزليخا، فعلم، غير أنه أوقع في شهادته شرطا ليلزم المخاطبين قبول شهادته من جهة العقل والتمييز، فكأنه قال: هو الصادق عندي، فإن تدبر تم ما اشترطه لكم، عقلتم قولي. ومثل هذا قول الحكماء: إن كان القدر حقا، فالحرص باطل، وإن كان الموت يقينا، فالطمأنينة إلى الدنيا حمق. والجواب الثاني: أن الشاهد لم يقطع بالقول، ولم يعلم حقيقة ما جرى، وإنما قال ما قال على جهة إظهار ما يسنح له من الرأي، فكان معنى قوله: «وشهد شاهد» أعلم وبين. فقال: الذي عندي من الرأي أن نقيس القميص ليوقف على الخائن. فهذان الجوابان يدلان على أن المتكلم رجل. فإن قلنا: إنه صبي في المهد، كان دخول الشرط مصححا لبراءة يوسف، لأن كلام مثله أعجوبة ومعجزة لا يبقى معها شك. ٢٨ قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ} في هذا الرائي والقائل: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ} قولان. احدهما: أنه الزوج. والثاني: الشاهد. وفي هاء الكناية في قوله: «إنه من كيدكن» ثلاثة أقوال. احدها: أنها ترجع إلى تمزيق القميص، قاله مقاتل. والثاني: إلى قولها: «ما جزاء من أراد بأهلك سوءا» فالمعنى: قولك هذا من كيدكن، قاله الزجاج. والثالث: إلى السوء الذي دعته إليه، ذكره الماوردي. قال ابن عباس: «إن كيدكن» أي: عملكن «عظيم» تخلطن البريء والسقيم. ٢٩ انظر تفسير الآية:٣٠ ٣٠ قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا} المعنى: يا يوسف أعرض. وفي القائل له هذا قولان. احدهما: أنه ابن عمها وهو الشاهد، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الزوج، ذكره جماعة من المفسرين. قال ابن عباس: أعرض عن هذا الأمر فلا تذكره لأحد، واكتمه عليها. وروى الحلبي عن عبد الوراث: «يوسف أعرض عن هذا» بفتح الراء على الخبر. قوله تعالى: {وَٱسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ} فيه قولان. احدهما: استعفي زوجك لئلا يعاقبك، قاله ابن عباس. والثاني: توبي من ذنبك فإنك قد أثمت. وفي القائل لهذا قولان. احدهما: ابن عمها. والثاني: الزوج. قوله تعالى: {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَـٰطِئِينَ} يعني: من المذنبين. قال المفسرون: ثم شاع ذلك الحديث في مصر حتى تحدث بذلك النساء، وهو قوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى ٱلْمَدِينَةِ} وفي عددهن قولان. احدهما: أنهن كن أربعا: امرأة ساقي الملك، وامرأة صاحب دوانه، وامرأة خبازه، وامرأة صاحب سجنه، قاله ابن عباس. والثاني: أنهن خمس، امرأة الخباز، وامرأة الساقي، وامرأة السجان، وامرأة صاحب الدواة، وامرأة الآذن، قاله مقاتل. فأما العزيز، فهو بلغتهم الملك، والفتى بمعنى العبد. قال الزجاج: كانوا يسمون المملوك فتى. وإنما تكلم النسوة في حقها، طعنا فيها، وتحقيقا لبراءة يوسف. قوله تعالى: {قَدْ شَغَفَهَا حُبّا} أي: بلغ حبه شغاف قلبها. وفي الشغاف أربعة أقوال. احدها: أنه جلدة بين القلب الفؤاد، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أنه غلاف القلب، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة: ولم يرد الغلاف، إنما أراد القلب، يقال: شغفت فلانا: إذا أصبت شغافه، كما يقال: كبدته: إذا أصبت كبده، وبطنته: إذا أصبت بطنه. والثالث: أنه حبة القلب وسويداؤه/ والرابع: أنه داء يكون في الجوف في الشراسيف، وأنشدوا: وقد حال هم دون ذلك داخل دخول الشغاف تبتغيه الأصابع ذكر القولين الزجاج.وقال الأصمعي: الشغاف عند العرب: داء يكون تحت الشراسيف في الجانب الأيمن من البطن، والشراسيف: مقاط رؤوس الأضلاع، واحدها: شرسوف. وقرأ عبد اللّه بن عمرو، وعلي بن الحسين، والحسن البصري، ومجاهد، وابن محيصن، وابن أبي عبلة «قد شعفها» بالعين. قال الفراء: كأنه ذهب بها كل مذهب، والشعف: رؤوس الجبال. قوله تعالى: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ} أي: عن طريق الرشد، لحبها إياه. والمبين: الظاهر. ٣١ انظر تفسير الآية:٣٢ ٣٢ قوله تعالى: {فلماسمعت} يعني: امرأة العزيز، {سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ} وفيه قولان. احدهما: أنه قولهن وعيبهن لها، قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة. قال الزجاج: وإنما سمي هذا القول مكرا، لأنها كانت أطلعتهن على أمرها، واستكتمتهن، فمكرن وأفشين سرها. والثاني: أنه مكر حقيقة، وإنما قلن ذلك مكرا بها لتريهن يوسف، قاله ابن إسحاق. قوله تعالى: {وَأَعْتَدَتْ} قال الزجاج: أفعلت من العتاد، وكل ما اتخذته عدة لشيء فهو عتاد، والعتاد: الشيء الثابت اللازم. وقال ابن قتيبة: أعتدت بمعنى أعدت. فأما المتكأ، ففيه ثلاثة اقوال. احدها: أنه المجلس، فالمعنى: هيأت لهن مجلسا، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنه الوسائد اللائي يتكئن عليها، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال الزجاج: المتكأ: ما يتكأ عليه لطعام أو شراب أو حديث. والثالث: أنه الطعام، قاله الحسن، ومجاهد، وقتادة. قال ابن قتيبة: يقال: اتكأنا عند فلان: إذا طعمنا، قال جميل بن معمر: فظللنا في نعمة واتكأنا وشربنا الحلال من قللّه والأصل في هذا أن من دعوته ليطعم، أعددت له التكأة للمقام والطمأنينة، فسمي الطعام متكأ على الاستعارة. قال الأزهري: إنما قيل للطعام: متكأ، لأن القوم إذا قعدوا على الطعام اتكؤوا، ونهيت هذه الأمة عن ذلك. وقرأ مجاهد «متكا» باسكان التاء خفيفة، وفيه أربعة أقوال. احدها: أنه الأترج، قاله ابن عباس، ومجاهد، ويحيى بن يعمر في آخرين، ومنه قول الشاعر: نشرب الإثم بالصواع جهارا وترى المتك بيننا مستعارا يريد: الأُتْرُجّ. ٣٣ انظر تفسير الآية:٣٤ ٣٤ قوله تعالى: {قَالَ رَبّ ٱلسّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ} قال وهب بن منبه: لما قالت: «فذلكن الذي لمتنني فيه» قلن: لا لوم عليك، قالت: فاطلبن إلى يوسف أن يسعفني بحاجتي، فقلن: يا يوسف افعل، فقالت: لئن لم يفعل لأخلدنه السجن، فعند ذلك قال. {رَبّ ٱلسّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ} وقرأ يعقوب: «السجن» بفتح السين هاهنا فحسب. قال الزجاج: من كسر سين «السجن» فعلى اسم المكان، فيكون المعنى: نزول السجن أحب إلي من ركوب المعصية، ومن فتح، فعلى المصدر، المعنى: أن أسجن أحب إلي. {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ} أي: إلا تعصمني {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي: أمل إليهن. يقال: صبا إلى اللّهو يصبو صبوا وصبوا وصباء: إذا مال. وقال ابن الأنباري: ومعنى هذا الكلام: اللّهم اصرف عني كيدهن، ولذلك قال: {فَٱسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ}. قال: فان قيل: إنما كادته امرأة العزيز وحدها، فكيف قال «كيدهن». فعنه ثلاثة أجوبة. احدها: أن العرب توقع الجمع على الواحد، فيقول قائلهم: خرجت إلى البصرة في السفن، وهو لم يخرج إلا في سفينة واحدة. والثاني: أن المكني عنه امرأة العزيز والنسوة اللاتي عاضدنها على أمرها. والثالث: أنه عنى امرأة العزيز وغيرها من نساء العالمين اللاتي لهن مثل كيدها. ٣٥ قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَـٰتِ} في المراد بالآيات ثلاثة أقوال. احدها: أنها شق القميص، وقضاء ابن عمها عليها، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها قد القميص، وشهادة الشاهد، وقطع الأيدي، وإعظام النساء إياه، رواه مجاهد عن ابن عباس. والثالث: جماله وعفته، ذكره الماوردي. قال وهب بن منبه: فأشار النسوة عليها بسحنه رجاء أن يستهوينه حين يخلو لهن في السجن، وقلن: متى سجنتيه قطع ذلك عنك قالة الناس التي قد شاعت، ورأوا أنك تبغضينه، ويذله السجن لك، فلما انصرفن عادت إلى مراودته فلم يزدد إلا بعدا عنها، فلما يئست، قالت لسيدها: إن هذا العبد قد فضحني، وقد أبغضت رؤيته، فائذن لي في سجنه، فأذن لها، فسجنته وأضرت به. وقال السدي: قالت: إما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر بعذري، وإما أن تحبسه كما حبستني، فظهر للعزيز واصحابه من الرأي حبس يوسف. قال الزجاج: كان العزيز أمر بالإعراض، فقط ثم تغير رأيه عن ذلك. قال ابن الأنباري: وفي معنى الآية قولان. احدهما: «ثم بدا لهم» أي: ظهر لهم بالقول والرأي والفكر سجنه. والثاني: ثم بدا لهم في يوسف بدء، فقالوا: واللّه لنسجننه، فاللام جواب يمين مضمرة. فأما الحين، فهو يقع على قصير الزمان وطويله. وفي المراد به هاهنا للمفسرين خمسة أقوال. احدها: خمس سنين، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: سنة، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث: سبع سنين، قاله عكرمة. والرابع: إلى انقطاع القالة، قاله عطاء. والخامس: أنه زمان غير محدود، ذكره الماوردي، وهذا هو الصحيح، لأنهم لم يعزموا على حبسه مدة معلومة، وإنما ذكر المفسرون قدر مالبث. ٣٦ قوله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسّجْنَ فَتَيَانَ} قال الزجاج: فيه دليل على أنه حبس، وإن لم يذكر ذلك. و «فتيان» جائز أن يكونا حدثين أو شيخين، لأنهم يسمون المملوك فتى. قال ابن الأنباري: إنما قال: «فتيان» لأهما كانا مملوكين، والعرب تسمي الملموك فتى، شابا كان أو شيخا. قال المفسرون: عمر ملك مصر فملوه: فدسوا إلى خبازه وصاحب شرابه أن يسماه، فبلغه ذلك فحبسهما، فكان يوسف قال لأهل السجن: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتين: هلم فلنجرب هذا العبد العبراني. واختلفوا هل كانت رؤياهما صادقة، أم لا؟ على ثلاثة أقوال. احدها: أنها كانت كذبا، وإنما سألاه تجريبا، قاله ابن مسعود، والسدي. والثاني: أنها كانت صدقا، قاله مجاهد، وابن إسحاق. والثالث: أن الذي صلب منهما كان كاذبا، وكان الآخر صادقا، قاله أبو مجلز. قوله تعالى: {قَالَ احدهما} يعني الساقي {إِنّى أَرَانِى} أي: في النوم {أَعْصِرُ خَمْرًا} أي: عنبا. وفي تسمية العنب خمرا ثلاثة أقوال. احدها: أنه سماه باسم ما يؤول إليه، لأن المعنى لا يلتبس. كما يقال: فلان يطبخ الآجر ويعمل الدبس، وإنما يطبخ اللبن ويصنع التمر، وهذا قول أكثر المفسرين. قال ابن الأنباري: وإنما كان كذلك، لأن العرب توقع بالفرع ما هو واقع بالأصل، كقولهم: فلان يطبخ آجرا. والثاني: أن الخمر في لغة أهل عمان اسم للعنب، قاله الضحاك، والزجاج. قال ابن القاسم: وقد نطقت قريش بهذه اللغة وعرفتها. والثالث: أن المعنى: أعصر عنب خمر، وأصل خمر، وسبب خمر، فحذف المضاف، وخلفه المضاف إليه، كقوله: {وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ} [يوسف ٨٢] قال أبو صالح عن عن ابن عباس: رأى يوسف ذات يوم الخباز والساقي مهمومين، فقال: ما شأنكما؟ قالا: رأينا رؤيا، قال: قصاها علي، قال الساقي: إني رأيت كأني دخلت كرما فجنيت ثلاثة عناقيد، عنب فعصرتهن في الكأس، ثم أتيت به الملك فشربه، وقال الخباز: رايت أني خرجت من مطبخ الملك أحمل فوق رأسي ثلاث سلال من خبز، فوقع طير على أعلاهن فأكل منها، {نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} أي: أخبرنا بتفسيره. وفي قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ} خمسة أقوال. احدها: أنه كان يعود المرضى ويداويهم ويعزي الحزين، رواه مجاهد عن ابن عباس. والثاني: إنا نراك محسنا إن أنبأتنا بتأويله، قاله ابن إسحاق. والثالث: إنا نراك من العالمين قد أحسنت العلم، قاله الفراء. قال ابن الأنباري: فعلى هذا يكون مفعول الإحسان محذوفا، كما حذف في قوله: {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف ٤٩] يعني العنب والسمسم. وإنما علموا أنه عالم، لنشره العلم بينهم. والرابع: إنا نراك ممن يحسن التأويل، ذكره الزجاج. والخامس: إنا نراك محسنا إلى نفسك بلزومك طاعة اللّه، ذكره ابن الأنباري. ٣٧ انظر تفسير الآية:٣٩ ٣٨ انظر تفسير الآية:٣٩ ٣٩ قوله تعالى: {قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في معنى: الكلام قولان: احدهما: لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة إلا أخبرتكما به قبل أن يصل إليكما، لأنه كان يخبر بما غاب كعيسى عليه السلام، وهو قول الحسن. والثاني: لا يأتيكما طعام ترزقانه في المنام إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما في اليقظة، هذا قول السدي. قال ابن عباس: فقالا له: وكيف تعلم ذلك، ولست بساحر، ولا عراف، ولا صاحب نجوم؛ فقال: {ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى} فان قيل: هذا كله ليس بجواب سؤالهما، فأين جواب سؤالهما؟ فعنه أربعة أجوبة. احدها: أنه لما علم أن احدهما مقتول، دعاهما إلى نصيبهما من الآخرة، قاله قتادة. والثاني: أنه عدل عن الجواب لما فيه من المكروه لاحدهما، قاله ابن جريج. والثالث: أنه ابتدأ بدعائهما إلى الإيمان قبل جواب السؤال، قاله الزجاج. والرابع: أنه ظنهما كاذبين في رؤياهما، فعدل عن جوابهما ليعرضا عن مطالبته بالجواب فلما ألحا أجابهما، ذكره ابن الأنباري. فأما الملة فهي الدين. وتكرير قوله: {هُمْ} للتوكيد. قوله تعالى: {مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِٱللّه مِن شَىْء} قال ابن عباس: يريد: أن اللّه عصمنا من الشرك {ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللّه عَلَيْنَا} أي: اتباعنا الإيمان بتوفيق اللّه: {وَعَلَى ٱلنَّاسِ} يعني المؤمنين بأن دلهم على دينه. وقال ابن عباس: «ذلك» من فضل اللّه عينا أن جعلنا أنبياء «وعلى الناس» أن بعثنا إليهم، {وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ} من أهل مصر {لاَ يَشْكُرُونَ} نعم اللّه فيوحدونه. قوله تعالى: {مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ} يعني: الأصنام من صغير وكبير {خَيْرٌ} أي: أعظم صفة في المدح {أَمِ ٱللّه ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ} يعني أنه أحق بالإلهية من الأصنام؟ فأما الواحد، فقال الخطابي: هو الفرد الذي لم يزل وحده، وقيل: هوالمنقطع القرين، المعدوم الشريك والنظير، وليس كسائر الآحاد من الأجسام المؤلفة، فإن كل شيء سواه يدعى واحدا من جهة، غير واحد من جهات، والواحد لا يثنى من لفظه، لايقال: واحدان. والقهار: الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة، وقهر الخلق كلهم بالموت. وقال غيره: القهار: الذي قهر كل شيء فذللّه، فاستسلم وذل له. ٤٠ انظر تفسير الآية:٤١ ٤١ قوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ} إنما جمع في الخطاب لهما لأنه أراد جميع من شاركهما في شركهما. وقوله: «من دونه» أي من دون اللّه {إِلاَّ أَسْمَاء} يعني: الأرباب والآلهة، ولا يصح معاني تلك الأسماء للأصنام، فكأنها أسماء فارغة، فكأنهم يعبدون الأسماء، لأنها لا تصح معانيها. {مَّا أَنزَلَ ٱللّه بِهَا مِن سُلْطَـٰنٍ} أي: من حجة بعبادتها. {إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للّه} أي: ما القضاء والأمر والنهي إلا له. {ذٰلِكَ ٱلدّينُ ٱلْقَيّمُ} أي: المستقيم يشير إلى التوحيد. {وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} فيه قولان. احدهما: لا يعلمون أنه لا يجوز عبادة غيره. والثاني: لا يعلمون ماللمطيعين من الثواب وللعاصين من العقاب. قوله تعالى: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا} الرب هاهنا: السيد. قال ابن السائب: لما قص الساقي رؤياه على يوسف، قال له: ما أحسن ما رأيتٰ أما الأغصان الثلاثة، فثلاثة أيام، يبعث إليك الملك عند انقضائها، فيردك إلى عملك، فتعود كأحسن ما كنت فيه، وقال للخباز: بئس ما رأيت، السلال الثلاث، ثلاثة ايام، ثم يبعث إليك الملك عند انقضائهن، فيقتلك ويصلبك ويأكل الطير من رأسك، فقالا: ما رأينا شيئا، فقال: {قُضِىَ ٱلاْمْرُ ٱلَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} أي: فرغ منه، وسبقع بكما، صدقتما أو كذبتما. فان قيل: لم حتم على وقوع التأويل، وربما صدق تأويل الرؤيا وكذب؟ فعنه جوابان. احدهما: أنه حتم ذلك لوحي أتاه من اللّه، وسبيل المنام المكذوب فيه أن لا يقع تأويله، فلما قال: «قضي الأمر» دل على أنه بوحي. والثاني: أنه لم يحتم، بدليل قوله: «وقال للذي ظن أنه ناج منهما». قال أصحاب هذا الجواب: معنى «قضي الأمر»:قطع الجواب الذي التمستماه من جهتي، ولم يعن أن الأمر واقع بكما، وقال أصحاب الجواب الأول: الظن هاهنا بمعنى العلم. ٤٢ قوله تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا} يعني الساقي. وفي هذا الظن قولان. احدهما: أنه بمعنى العلم، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الظن الذي يخالف اليقين، قاله قتادة. قوله تعالى: {ٱذْكُرْنِى عِندَ رَبّكَ} أي: عند صاحبك، وهو الملك، وقل له: إن في السجن غلاما حبس ظلما. واسم الملك: الوليد بن الريان. قوله تعالى: {فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ ذِكْرَ رَبّهِ} فيه قولان. احدهما: فأنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف لربه، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن إسحاق. والثاني: فأنسى الشيطان يوسف ذكر ربه، وأمره بذكر الملك ابتغاء الفرج من عنده، قاله مجاهد، ومقاتل، والزجاج، وهذا نسيان عمد، لا نسيان سهو، وعكسه القول الذي قبله. قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِى ٱلسّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} أي: غير ما كان قد لبث قبل ذلك. عقوبة له على تعلقه بمخلوق. وفي البضع تسعة أقوال. احدها: ما بين السبع والتسع، روى ابن عباس أن أبا بكر لما ناحب قريشا عند نزول {الم غُلِبَتِ ٱلرُّومُ} [الروم: ١٢] قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ألا احتطت، فإن البضع ما بين السبع إلى التسع. والثاني: اثنتا عشرة سنة، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: سبع سنين، قاله عكرمة. والرابع: أنه ما بين الخمس إلى السبع، قاله الحسن. والخامس: أنه ما بين الأربع إلى التسع، قاله مجاهد. والسادس: ما بين الثلاث والتسع، والعشر، قاله قتادة. والثامن: أنه ما دون العشرة، قاله الفراء، وقال الأخفش: البضع: من واحد إلى عشرة. والتاسع: أنه مالم يبلغ العقد ولا نصفه، قاله أبو عبيدة: قال ابن قتيبة: يعني ما بين الواحد إلى الأربعة. وروى الأثرم عن أبي عبيدة: البضع: ما بين ثلاث وخمس. وفي جملة ما لبث في السجن ثلاثة أقوال. احدها: اثنتا عشرة سنة، قاله ابن عباس. والثاني: أربع عشرة، قاله الضحاك. والثالث: سبع سنين، قاله قتادة. قال مالك بن دينار: لما قال يوسف للساقي «اذكرني عند ربك» قيل له: يا يوسف، اتخذت من دوني وكيلا؟ لأطيلن حبسك، فبكى،وقال: يارب، أنسى قلبي كثرة البلوى، فقلت كلمة، فويل لإخوتي. ٤٣ قوله تعالى: {وَقَالَ ٱلْمَلِكُ} يعني ملك مصر الأكبر {إِنّى أَرَىٰ} يعني في المنام، ولم يقل: رايت، وهذا جائز في اللغة أن يقول القائل: أرى، بمعنى رأيت. قال وهب بن منبه: لما انقضت المدة التي وقتها اللّه تعالى ليوسف في حبسه، دخل عليه جبريل إلى السجن، فبشره بالخروج وملك مصر ولقاء أبيه، فلما أمسى الملك من ليلتئذ، رأى سبع بقرات سمان خرجن من البحر، في آثارهن سبع عجاف، فأقبلت العجاف على السمان، فأخذن بأذنابهن فأكلنهن إلى القرنين، ولم يزد في العجاف شيء، ورأى سبع سنبلات خضر وقد أقبل عليهن سبع يابسات فأكلنهن حتى أتين عليهن، ولم يزدد في اليابسات شيء، فدعا أشراف قومه فقصها عليهم، فقالوا: {أَضْغَـٰثُ أَحْلاَمٍ}. قال الزجاج: والعجاف التي قد بلغت في الهزال الغاية. والملأ: الذين يرجع إليهم في الأمور ويقتدى برأيهم، واللام في قوله: {لِلرُّؤْيَا} دخلت على المفعول للتبيين، المعنى: إن كنتم تعبرون، ثم يبن باللام فقال. «للرؤيا» ومعنى عبرت الرؤيا وعبرتها: أخبرت بآخر ما يؤول إليه أمرها، واشتقاقه من عبر النهر، وهو شاطىء النهر، فتأويل عبرت النهر: بلغت إلى عبره، أي: إلى شطه وهو آخر عرضه. وذكر ابن الأنباري في اللام قولين. احدهما: أنها للتوكيد. والثاني: أنها أفادت معنى «إلى» والمعنى إن كنتم توجهون العبارة إلى الرؤيا. ٤٤ قوله تعالى: {قَالُواْ أَضْغَـٰثُ أَحْلاَمٍ} قال أبو عبيدة: واحدها ضغث، مكسورة، وهي ما لا تأويل له من الرؤيا تراه جماعات، تجمع من الرؤيا كما يجمع الحشيش، فيقال: ضغث، أي: ملء كف منه. وقال الكسائي: الأضغاث: الرؤيا المختلطة. وقال ابن قتيبة: «أضغاث أحلام» أي: أخلاط مثل أضغاث النبات يجمعها الرجل، فيكون فيها ضروب مختلفة. وقال الزجاج: الضغث في اللغة: الحزمة والباقة من الشيء، كالبقل وما أشبهه، فقالوا له: رؤياك أخلاط أضغاث، أي: حزم أخلاط، ليست برؤيا بينه، {وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ ٱلاْحْلَـٰمِ بِعَـٰلِمِينَ} أي: ليس للرؤيا المخلتطة عندنا تأويل. وقال غيره: وما نحن بتأويل الأحلام الذي هذا وصفها بعالمين. والأحلام: جمع حلم، وهو ما يراه الإنسان في نومه مما يصح ومما يبطل. ٤٥ انظر تفسير الآية:٤٨ ٤٦ انظر تفسير الآية:٤٨ ٤٧ انظر تفسير الآية:٤٨ ٤٨ قوله تعالي: {وَقَالَ ٱلَّذِى نَجَا مِنْهُمَا} يعني اللذي تخلص من القتل من الفتيين، وهو الساقي، {وَٱدَّكَرَ} اي: تذكر شأن يوسف وما وصاه به. قال الزجاج: وأصل ادكر: اذتكر، ولكن التاء ابدلت منها الدال، وأدغمت الذال في الدال. وقرأ الحسن: «واذكر» بالذال المشددة. وقوله: {بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعد حين، وهو الزمان الذي لبثه يوسف بعده في السجن، وقد سبق بيانه. وقرأ ابن عابس، والحسن «بعد امة» أراد بعد نسيان. فان قيل: هذا يدل على أن الناسي في قوله: «فأنساه الشيطان ذكر ربه» هو الساقي، ولا شك أن من قال: إن الناسي يوسف يقول: لم ينس الساقي. فالجواب: أن من قال: إن يوسف نسي، يقول: معنى قوله: «وادكر» ذكر، كما تقول العرب: احتلب بمعنى حلب، واغتدى بمعنى غدا، فلا يدل إذا على نسيان سبقه. وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال: إنما لم يذكر الساقي خبر يوسف للملك حتى احتاج الملك إلى تأويل رؤياه، خوفا من أن يكون ذكره ليوسف سببا لذكره الذنب الذي من أجله حبس، ذكر هذا الجواب ابن الأنباري. قوله تعالى: {أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ} أي: من جهة يوسف {فَأَرْسِلُونِ} أثبت الياء فيها وفي {وَلاَ تَقْرَبُونِ} [يوسف: ٦٠] {أَن تُفَنّدُونِ} [يوسف: ٩٤] يعقوب في الحالين، فخاطب الملك وحده بخطاب الجميع، تعظيما، وقيل: خاطبه وخاطب أتباعه. وفي الكلام اختصار، المعنى: فأرسلوه فأتى يوسف فقال: يا يوسف ياأيها الصديق. والصديق: الكثير الصدق، كما يقال: فسيق، وسكير، وقد سبق بيانه [النساء: ٦٩] قوله تعالى: {لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ} يعني الملك وأصحابه والعلماء الذين جمعهم لتعبير رؤياه. وفي قوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} قولان. احدهما: يعلمون تأويل رؤيا الملك. والثاني: يعلمون بمكانك فيكون سبب خلاصك. وذكر ابن الأنباري في تكرير «لعلي» قولين. احدهما: أن «لعل» الأولى متعلقة بالإفتاء. والثانية مبنية على الرجوع، وكلتاهما بمعنى «كي» والثاني: أن الأولى بمعنى «عسى» والثانية بمعنى «كي» فأعيدت لاختلاف المعنيين، وهذا هو الجواب عن قوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا ٱنْقَلَبُواْ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: ٦٣] قال المفسرون: كان سيده العزيز قد مات، واشتغلت عنه امرأته. وقال بعضهم: لم يكن العزيز قد مات، فقال يوسف للساقي: قل للملك: هذه سبع سنين مخصبات، ومن بعدهن سبع سنين شداد، إلا أن يحتال لهن، فانطلق الرسول إلى الملك فأخبره، فقال له الملك: ارجع إليه فقل له: كيف يصنع؟ فقال: {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «دأبا» ساكنه الهمزة، إلا أن أبا عمرو كان إذا أدرج القراءة لم يهمزها. وروى حفص عن عاصم «دأبا» بفتح الهمزة. قال أبو علي: الأكثر في «دأب» الإسكان، ولعل الفتح لغة، ومعنى «دأبا» أي: زراعة متوالية على عادتكم، والمعنى: تزرعون دائبين. فناب «دأب» عن «دائبين» وقال الزجاج: المعنى: تدأبون دأبا، ودل على تدأبون «تزرعون» والدأب: الملازمة للشيء والعادة. فان قيل: كيف حكم بعلم الغيب، فقال: «تزرعون» ولم يقل: إن شاء اللّه؟ فعنه أربعة أجوبة. احدها: أنه كان بوحي من اللّه عز وجل. والثاني: أنه بنى على علم ما علمه اللّه من التأويل الحق، فلم يشك. والثالث: أنه أضمر «إن شاء اللّه» كما أضمر إخوته في قولهم: {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا} [يوسف: ٦٥] فاضمروا الاستثناء في نياتهم، لأنهم على غير ثقة مما وعدوا، ذكره ابن الأنباري. والرابع: أنه كالآمر لهم، فكأنه قال: ازرعوا. قوله تعالى: {فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ} فإنه أبقى له، وأبعد من الفساد. والشداد: المجدبات التي تشتد على الناس. {يَأْكُلْنَ} أي: يذهبن ما قدمتم لهن في السنين المخصبات، فوصف السنين بالأكل، وإنما يؤكل فيها، كما يقال: ليل نائم. قوله تعالى: {إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ} أي: تحرزون وتدخرون. ٤٩ قوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَامٌ} إن قيل: لم أشار إلى السنين وهي مؤنثة ب «ذلك» فعنه جوابان ذكرهما ابن القاسم. احدهما: أن السبع مؤنثه، ولا علامة للتأنيث في لفظها، فأشبهت المذكر، كقوله: {السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: ١٨] فذكر منفطرا لما لم يكن في السماء علم التأنيث، قال الشاعر: فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها فذكر «أبقل» لما وصفنا. والثاني: أن «ذلك» إشارة إلى الجدب، وهذا قول مقاتل، والأول قول الكلبي. قال قتادة: زاده اللّه علم عام لم يسألوه عنه. قوله تعالى: {فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ} فيه قولان: احدهما: يصيبهم الغيث، قاله ابن عباس. والثاني: يغاثون بالخصب. ذكره الماوردي. قوله تعالى: {وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم: «يعصرون» بالياء. وقرأ حمزة، والكسائي بالتاء، فوجها الخطاب إلى المستفتين. وفي قوله «يعصرون» خمسة أقوال. احدها: يعصرون العنب والزيت والثمرات، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والجمهور. والثاني: «يعصرون» بمعنى يحتلبون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وروى ابن الأنباري عن أبيه عن احمد بن عيد قال: تفسير «يعصرون» يحتلبون الألبان لسعة خيرهم واتساع خصبهم، واحتج بقول الشاعر: فما عصمة الأعراب إن لم يكن لهم طعام ولا در من المال يعصر أي: يحلب. والثالث: ينجون، وهو من العصر، والعصر: النجاء، والعصرة: المنجاة. ويقال: فلان في عصرة: إذا كان في حصن لا يقدر عليه، قال الشاعر: صاديا يستغيث غير مغاث ولقد كان عصرة المنجود أي: غياثا للمغلوب المقهور، وقال عدي: لو بغير الماء حلقي شرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري ذا قول أبي عبيده. والرابع: يصيبون ما يحبون، روي عن أبي عبيدة أيضا أنه قال: المعتصر: الذي يصيب الشيء ويأخذه، ومنه هذه الآية. ومنه قول ابن أحمر: فإنما العيش بريانه وأنت من أفنانه معتصر والخامس: يعطون ويفضلون لسعة عيشهم، رواه ابن الأنباري عن بعض أهل اللغة. وقرأ سعيد بن جبير: «يعصرون» بضم الياء وفتح الصاد. وقال الزجاج: أراد: يمطرون من قوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً} [النبأ: ١٤] ٥٠ انظر تفسير الآية:٥١ ٥١ قوله تعالى: {وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِى بِهِ} قال المفسرون: لما رجع الساقي إلى الملك وأخبره بتأويل رؤياه، وقع في نفسه صحة ما قال، فقال: ائتوني بالذي عبر رؤياي، فجاءه الرسول، فقال: أجب الملك، فأبى أن يخرج حتى تبين براءته مما قرف به، فقال: {ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبّكَ} يعني الملك {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنّسْوَةِ} وقرأ ابن أبي عبلة: «النسوة» بضم النون، والمعنى: فاسأل الملك أن يتعرف ما شأن تلك النسوة وحالهن ليعلم صحة براءتي، وإنما أشفق أن يراه اللمك بعين مشكوك في أمره أو متهم بفاحشة، وأحب أن يراه بعد استقرار براءته عنده. وظاهر قوله: {إِنَّ رَبّى شَىْء عَلِيمٌ} أنه يعني اللّه تعالى، وحكى ابن جرير الطبري أنه أراد به سيده العزيز، والمعنى: أنه يعلم براءتي. وقد روي عن نبينا صلى اللّه عليه وسلم أنه استحسن حزم يوسف وصبره عن التسرع إلى الخروج، فقال صلى اللّه عليه وسلم «إن الكريم بن الكريم بن الكريم [ابن الكريم] يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، لو لبثت في السجن ما لبث يوسف، ثم جاءني الداعي لأجبت» وفي ذكره للنسوة دون امرأة العزيز أربعة أقوال. احدها: أنه خلطها بالنسوة، لحسن عشرة فيه وأدب، قاله الزجاج. والثاني: لأنها زوجة ملك، فصانها. والثالث: لأن النسوة شاهدات عليها له. والرابع: لأن في ذكره لها نوع تهمة، ذكر الأقوال الثلاثة الماوردي. قال المفسرون: فرجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف، فدعا الملك النسوة وفيهن امرأة العزيز، فقال: {مَا خَطْبُكُنَّ} أي: ما شأنكن وقصتكن {إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ}. فان قيل: إنما راودته واحدة، فلم جمعن؟ فعنه ثلاثة أجوبة. احدها: أنه جمعهن في السؤال ليعلم عين المراودة. والثاني: أن أزليخا راودته على نفسه، وراوده باقي النسوة على القبول منها. والثالث: أنه جمعهن في الخطاب، والمعنى لواحدة منهن، لأنه قد يوقع على النوع وصف الحبس إذا أمن من اللبس، يدل عليه قول النبي صلى اللّه عليه وسلم للنساء: «إنكن أكثر أهل النار»، فجمعهن في الخطاب والمعنى لبعضهن، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: {قُلْنَ حَاشَ للّه} قال الزجاج: قرأ الحسن بتسكين الشين، ولا اختلاف بين النحويين أن الإسكان غير جائز، لأن الجمع بين ساكنين لا يجوز، ولا هو من كلام العرب. فأعلم النسوة الملك براءة يوسف من السوء، فقالت امرأة العزيز: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} أي: برزوتبين، واشتقاقه في اللغة من الحصة، أي: بانت حصة الحق وجهته من حصة جهة الباطل. وقال ابن القاسم: «حصحص» بمعنى وضح وانكشف، تقول العرب: حصحص البعير في بروكة: إذا تمكن، وأثر في الأرض، وفرق الحصى. وللمفسرين في ابتداء أزليخا بالإقرار قولان. احدهما: أنها لما رأت النسوة قد برأنه، قالت: لم يبق إلا أن يقبلن على بالتقرير، فأقرت، قاله الفراء. والثاني: أنها أظهرت التوبة وحققت صدق يوسف، قاله الماوردي. ٥٢ قوله تعالى: {ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ} قال مقاتل: «ذلك» بمعنى هذا. وقال ابن الأنباري: قال اللغويون: هذا وذلك يصلحان في هذا الموضع وأشباهه، لقرب الخبر من أصحابه، فصار كالمشاهد الذي يشار إليه بهذا، ولما كان متقضيا، أمكن أن يشار إليه بذلك، لأن المقتضي كالغائب. واختلفوا في القائل لهذا على ثلاثة أقوال: احدها: أنه يوسف، وهو من أغمض ما يأتي من الكلام أن تحكي عن شخص شيئا ثم تصله بالحكاية عن آخر. ونظير هذا قوله: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مّنْ أَرْضِكُمْ} [الأعراف: ١١٠] هذا قول الملأ {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} قول فرعون. ومثله {وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل: ٣٤] هذا قول بلقيس {وَكَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ} قول اللّه تعالى. ومثله {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [بيس: ٥٢] هذا قول الكفار، فقالت الملائكة: {هَذَا مَا وَعَدَ ٱلرَّحْمـٰنُ} وإنما يجوز مثل هذا في الكلام، لظهور الدلالة على المعنى. واختلفوا، أين قال يوسف هذا؟ على قولين. احدهما: أنه لما رجع الساقي إلى يوسف فأخبره وهو في السجن بجواب امرأة العزيز والنسوة للملك، قال: حينئذ «ذلك ليعلم» رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن جريج. والثاني: أنه قاله بعد حضوره مجلس الملك، رواه عطاء عن ابن عباس. قوله تعالى: {ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ} أي: ذلك الذي فعلت من ردي رسول الملك، ليعلم.واختلفوا في المشار إليه بقوله: «ليعلم» وقوله: {لَمْ أَخُنْهُ} على أربعة أقوال. احدها: أنه العزيز، والمعنى: ليعلم العزيز أني لم أخنه في امرأته {بِٱلْغَيْبِ} أي: إذا غاب عني، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وقتادة، والجمهور. والثاني: أن المشار إليه بقوله: «ليعلم» الملك، والمشار إليه بقوله: «لم أخنه» العزيز. والمعنى: ليعلم الملك أني لم أخن العزيز في أهله بالغيب، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أن المشار إليه بالشيئين، الملك، فالمعنى: ليعلم الملك أني لم أخنه، يعني الملك أيضا، بالغيب. وفي وجه خيانة الملك في ذلك قولان. احدهما: لكون العزيز وزيره، فالمعنى:لم أخنه في امرأة وزيره، قاله ابن الأنباري. والثاني: لم أخنه في بنت أخته، وكانت أزليخا بنت أخت الملك، قاله أبو سليمان الدمشقي. والرابع: أن المشار إليه بقوله: «ليعلم» اللّه، فالمعنى: ليعلم اللّه أني لم أخنه، روي عن مجاهد، قال ابن الأنباري: نسب العلم إلى اللّه في الظاهر، وهو في المعنى للمخلوقين، كقوله: {حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ} [محمد: ٣١]. فان قيل: إن كان يوسف قال هذا في مجلس الملك، فكيف قال: «ليعلم» ولم يقل: لتعلم، وهو يخاطبه؟ فالجواب: أنا إن قلنا: إنه كان حاضرا عند الملك، فإنما آثر الخطاب بالياء توقيرا للملك، كما يقول الرجل للوزير: إن رأى الوزير أن يوقع في قصتي. وإن قلنا: إنه كان غائبا، فلا وجه لدخول التاء، وكذلك إن قلنا: إنه عني العزيز، والعزيز غائب عن مجلس الملك حينئذ. والقول الثاني: أنه قول امرأة العزيز، فعلى هذا يتصل بما قبله، والمعنى: ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته الآن بالكذب عليه. والثالث: أنه قول العزيز، والمعنى: ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، فلم أغفل عن مجازاته على أمانته، حكى القولين الماوردي. قوله تعالى: {وَأَنَّ ٱللّه لاَ يَهْدِى كَيْدَ ٱلْخَـٰئِنِينَ} قال ابن عباس: لا يصوب عمل الزناة، وقال غيره: لا يرشد من خان أمانته ويفضحه في عاقبته. ٥٣ انظر تفسير الآية:٥٦ ٥٤ انظر تفسير الآية:٥٦ ٥٥ انظر تفسير الآية:٥٦ ٥٦ قوله تعالى: {وَمَا أُبَرّىء} في القائل لهذا ثلاثة أقوال، وهي التي تقدمت في الآية قبلها. فالذين قالوا: هو يوسف، اختلفوا في سبب قوله لذلك على خمسة أقوال. احدها: أنه لما قال: «ليعلم أني لم أخنه بالغيب» غمزه جبريل، فقال: ولا حين هممت؟ فقال: «وما أبرىء نفسي»، رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الأكثرون. والثاني: أن يوسف لما قال: «لم أخنه»، ذكر أنه قد هم بها فقال: «وما أبرىء نفسي» رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنه لما قال ذلك، خاف أن يكون قد زكى نفسه، فقال: «وما أبرىء نفسي» قاله الحسن. والرابع: أنه لما قاله، قال له الملك الذي معه: اذكر ما هممت به، فقال: «وما أبرىء نفسي» قاله قتادة. والخامس: أنه لما قاله، قالت امرأة العزيز: ولا يوم حللت سراويلك؟ فقال: «وما أبرىء نفسي» قاله السدي. والذين قالوا: هذا قول امرأة العزيز، فالمعنى: وما أبرىء نفسي أني كنت راودته.والذين قالوا: هو العزيز، فالمعنى: وما أبرئ نفسي من سوء الظن بيوسف، لأنه قد خطر لي. قوله تعالى: {لامَّارَةٌ بِٱلسُّوء} قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة، ويعقوب إلا رويسا: «بالسوء إلا» بتحقيق الهمزتين. وقرأ أبو عمرو، وابن شنبوذ عن قنبل بتحقيق الثانية وحذف الأولى، وروى نظيف عن قنبل بتحقيق الأولى وقلب الثانية ياء. وقرأ أبو جعفر، وورش، ورويس بتحقيق الأولى وتليين الثانية بين بين، مثل: «السوء علا» وروى ابن فليح بتحقيق الثانية وقلب الأولى واوا، وأدغمها في الواو التي قبلها، فتصير واوا مكسورة مشددة قبل همزة«إلا» قوله تعالى: {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى} قال ابن الأنباري: قال اللغويون: هذا استثناء منقطع، والمعنى: إلا أن رحمة ربي عليها المعتمد.قال أبو صالح عن ابن عباس: المعنى: إلا من عصم ربي. وقيل: «ما» بمعنى «من» قال الماوردي: ومن قال: هو قول امرأة العزيز، فالمعنى: إلا من رحم ربي في قهره لشهوته، أو في نزعها عنه. ومن قال: هو قول العزيز، فالمعنى: إلا من رحم ربي بأن يكفيه سوء الظن، أو يثبته، فلا يعجل. قال ابن الأنباري: والقول بأن هذا قول يوسف، أصح، لوجين. احدهما: لأن العلماء عليه. والثاني: لأن المرأة كانت عابدة وثن، وما تضمنته الآية، أليق أن يكون قول يوسف من قول من لا يعرف اللّه عز وجل. وقال المفسرون: فلما تبين الملك عذر يوسف وعلم أمانته، قال: {ٱئْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى} أي: أجعله خالصا لي، لا يشركني فيه أحد. فان قيل: فقد رويتم في بعض ما مضى أن يوسف قال في مجلس الملك: «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب» فكيف قال الملك: «ائتوني به» وهو حاضر عنده؟ٰ فالجواب: أن أرباب هذا القول يقولون: أمر الملك باحضاره ليقلده الأعمال في غير المجلس الذي استحضره فيه لتعبير الرؤيا. قال وهب: لما دخل يوسف على الملك، وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا، كان كلما كلمة بلسان، أجابه يوسف بذلك اللسان، فعجب الملك، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة، فقال: إني أحب أن أسمع رؤياي منك شفاها، فذكرها له، قال: فما ترى أيها الصديق؟ قال: أرى أن تزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة، وتجمع الطعام، فيأتيك الناس فيمتارون، وتجمع عندك من الكنوز مالم يجتمع لأحد، فقال الملك: ومن لي بهذا؟ فقال يوسف: «اجعلني على خزائن الأرض» قال ابن عباس: ويريد بقوله: {مِكِينٌ أَمِينٌ} أي: قد مكنتك في ملكي وائتمنتك فيه. وقال مقاتل: المكين: الوجيه، والأمين: الحافظ. قوله تعالى: {ٱجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَائِنِ ٱلاْرْضِ} أي: خزائن أرضك. وفي المراد بالخزائن قولان. احدهما: خزائن الأموال، قاله الضحاك، والزجاج. والثاني: خزائن الطعام فحسب، قاله ابن السائب. قال الزجاج: وإنما سأل ذلك، لأن الأنبياء، بعثوا بالعدل، فعلم أنه لا أحد أقوم بذلك منه. وفي قوله: {إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ثلاثة أقوال. احدها: حفيظ لما وليتني، عليم بالمجاعة متى تكون، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: حفيظ لما استودعتني، عليم بهذه السنين، قاله الحسن. والثالث: حفيظ للحساب، عليم بالألسن، قاله السدي، وذلك أن الناس كانوا يردون على الملك من كل ناحية فيتكلمون بلغات مختلفة. واختلفوا، هل ولاه الملك يومئذ، أم لا؟ على ثلاثة أقوال. احدها: أنه ولاه بعد سنة، روى الضحاك عن ابن عباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «رحم اللّه أخي يوسف، لو لم يقل: أجعلني على خزائن الأرض، لاستعمله من ساعته، ولكنه أخر ذلك سنة». وذكر مقاتل أن النبي صلى اللّه عليه وسلم «قال لو أن يوسف قال إني حفيظ عليم إن شاء اللّه لملك من وقته» قال مجاهد: أسلم الملك على يد يوسف. وقال أهل السير: أقام في بيت الملك سنة، فلما انصرمت، دعاه الملك، فتوجه، ورداه بسيفه، وأمر له بسرير من ذهب، وضرب عليه كلة من إستبرق، فجلس على السرير كالقمر، ودانت له الملوك، ولزم الملك بيته، وفوض أمره إليه، وعزل قطفير عما كان عليه، وجعل يوسف مكانه، ثم إن قطفير هلك في تلك الليالي، فزوج الملك يوسف بامرأة قطفير، فلما دخل عليها، قال: أليس هذا خيرا مما تريدين؟ فقالت: أيها الصديق لا تلمني، فإني كنت امرأة حسناء في ملك ودنيا، وكان صاحبي لا يأتي النساء، فغلبتني نفسي، فلما بنى بها يوسف وجدها عذراء، فولدت له ابنين، إفراييم وميشا، واستوسق له ملك مصر. والقول الثاني: أنه ملكه بعد سنة ونصف، حكاه مقاتل عن ابن عباس. والثالث: أنه سلم إليه الأمر من وقته، قاله وهب، وابن السائب. فان قيل: كيف قال يوسف: «إني حفيظ عليم» ولم يقل: إن شاء اللّه؟ فعنه ثلاثة أجوبة. احدها: أن ترك الاستثناء أوجب عقوبة بأن أخر تمليكه، على ما ذكرنا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. والثاني: أنه أضمر الاستثناء، كما أضمروه في قولهم: {وَنَمِيرُ أَهْلِهَا}. والثالث: أنه أراد أن حفظي وعلمي يزيدان على حفظ غيري وعلمه، فلم يحتج هذا إلى الاستثناء، لعدم الشك فيه، ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري. فان قيل: كيف مدح نفسه بهذا القول، ومن شأن الأنبياء والصالحين التواضع. فالجواب: أنه لما خلا مدحه لنفسه من بغي وتكبر، وكان مراده به الوصول إلى حق يقيمه وعدل يحيه وجور يبطله، كان ذلك جميلا جائزا، وقد قال نبينا صلى اللّه عليه وسلم: أنا أكرم ولد آدم على ربه وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: واللّه ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت، أم بنهار. وقال ابن مسعود: لو أعلم أحدا أعلم بكتاب اللّه مني تبلغه الإبل لأتيته. فهذه الأشياء، خرجت مخرج الشكر للّه، وتعريف المستفيد ما عند المفيد، ذكر هذا محمد بن القاسم. قال القاضي أبو يعلى: في قصة يوسف دلالة على أنه يجوز للانسان أن يصف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه، وأنه ليس من المحظور في قوله: {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} [النجم: ٣٢] قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} في الكلام محذوف، تقديره: اجعلني على، خزائن الأرض، قال: قد فعلت، فحذف ذلك، لأن قوله: «وكذلك مكنا ليوسف» يدل عليه والمعنى: ومثل ذلك الإنعام الذي أنعما عليه في دفع المكروه عنه، وتخليصه من السجن، وتقريبه من قلب اللمك، أقدرناه على ما يريد في أرض مصر {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء} قال ابن عباس: ينزل حيث أراد. وقرأ ابن كثير، والمفضل: «حيث نشاء» بالنون. قوله تعالى: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا} أي: نختص بنعمتنا من النبوة والنجاة {مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ} يعني المؤمنين. يقال: إن يوسف باع أهل مصر الطعام بأموالهم، وحليهم، ومواشيهم، وعقارهم، وعبيدهم، ثم بأولادهم، ثم برقابهم، ثم قال للملك: كيف ترى صنع ربي؟ فقال الملك: إنما نحن لك تبع، قال: فإني أشهد اللّه وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر ورددت عليهم أملاكهم. وكان يوسف لا يشبع في تلك الأيام، ويقول: إني أخاف أن أنسى الجائع. ٥٧ قوله تعالى: {وَلاَجْرُ ٱلاْخِرَةِ خَيْرٌ} المعنى: ما نعطي يوسف في الآخرة، خير مما أعطيناه في الدنيا، وكذلك غيره من المؤمنين ممن سلك طريقه في الصبر. ٥٨ قوله تعالى: {وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ} روى الضحاك عن ابن عباس قال: لما فوض الملك إلى يوسف أمر مصر، تلطف يوسف للناس، ولم يزل يدعوهم إلى الإسلام، فآمنوا به وأحبوه، فلما أصاب الناس القحط، نزل ذلك بأرض كنعان، فأرسل يعقوب ولده للميرة، وذاع أمر يوسف في الآفاق، وانتشر عدله ورحمته ورأفته، فقال يعقوب: يا بني، إنه قد بلغني أن بمصر ملكا صالحا، فانطلقوا إليه وأقرئوه مني السلام، وانتسبوا له لعله يعرفكم، فانطلقوا فدخلوا عليه، فعرفهم وأنكروه، قال: من أين أقبلتم؟ قالوا: من أرض كنعان، ولنا شيخ يقال له: يعقوب، وهو يقرئك السلام، فبكى وعصر عينيه وقال: لعلكم جواسيس جئتم تنظرون عورة بلدي، فقالوا: لا واللّه، ولكنا من كنعان، أصابنا الجهد، فأمرنا أبونا أن نأتيك، فقد بلغه عنك خير، قال: فكم أنتم؟ قالوا: أحد عشر أخا، وكنا اثنى عشر فأكل أحدنا الذئب، قال: فمن يعلم صدقكم؟ ائتوني بأخيكم الذي من أبيكم. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: لما دخلوا عليه كلموه بالعبرانية، فأمر الترجمان فكلمهم ليشبه عليهم، فقال الترجمان: قل لهم: أنتم عيون، بعثكم ملككم لتنظروا إلى أهل مصر فتخبرونه فيأتينا بالجنود، فقالوا: لا، ولكنا قوم لنا أب شيخ كبير، وكنا اثنى عشر، فهلك منا واحد في الغنم، وقد خلفنا عند أبينا أخا له من أمه، فقال: إن كنتم صادقين، فخلفوا عندي بعضكم رهنا، وائتوني بأخيكم، فحبس عنده شمعون. واختلفوا بماذا عرفهم يوسف على قولين. احدهما: أنه عرفهم برؤيتهم، قاله ابن عباس. والثاني: أنه ما عرفهم حتى تعرفوا إليه، قاله الحسن. قوله تعالى: {وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} قال مقاتل: لا يعرفونه. وفي علة كونهم لم يعرفوه قولان. احدهما: أنهم جاؤوه مقدرين أنه ملك كافر، فلم يتأملوا منه ما يزول به عنهم الشك. والثاني: أنهم عاينوا من زيه وحليته ما كان سببا لإنكارهم. وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنه كان لا بسا ثياب حرير، وفي عنقه طوق من ذهب. فان قيل: كيف يخفى من قد أعطي نصف الحسن، وكيف يشتبه بغيره؟ فالجواب: أنهم فارقوه طفلا ورأوه كبيرا، والأحوال تتغير، وما توهموا أنه ينال هذه المرتبة. وقال ابن قتيبة: معنى كونه أعطي نصف الحسن، أن اللّه جعل للحسن غاية وحدا، وجعله لمن شاء من خلقه، إما للملائكة، أو للحور، فجعل ليوسف نصف ذلك الحسن، فكأنه كان حسنا مقاربا لتلك الوجوه الحسنة، وليس كما يزعم الناس من أنه أعطي هذا الحسن، وأعطي الناس كلهم نصف الحسن. ٥٩ انظر تفسير الآية:٦٠ ٦٠ قوله تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} يقال: جهزت القوم تجهيزا: إذا هيأت لهم ما يصلحهم، وجهاز البيت: متاعه. قال المفسرون: حمل لكل رجل منهم بعيرا، وقال: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى ٱلْكَيْلَ} أي: أتمه ولا أبخسه، {وَأَنَاْ خَيْرُ ٱلْمُنْزِلِينَ} يعني: المضيفين، وذلك أنه أحسن ضيافتهم. ثم أوعدهم على ترك الإتيان بأخيهم، فقال: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى} وفيه قولان. احدهما: أنه يعني به: فيما بعد، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه منعهم الكيل في الحال، قاله وهب بن منبه. ٦١ قوله تعالى: {قَالُواْ سَنُرٰوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} أي: نطلبه منه، والمراودة: الاجتهاد في الطلب. وفي قوله: {وَإِنَّا لَفَـٰعِلُونَ} ثلاثة أقوال. احدها: أن المعنى: وإنا لجاؤوك به. وضامنون لك المجيء به، هذا مذهب الكلبي. والثاني: أنه توكيد، قاله الزجاج، فعلى هذا، يكون الفعل الذي ضمنوه عائدا إلى المراودة، فيصح معنى التوكيد. والثالث: وإنما لمديمون المطالبة به لأبينا، ومتابعون المشورة عليه بتوجيهه، وهذا غير المراودة، ذكره ابن الأنباري. فان قيل: كيف جاز ليوسف أن يطلب أخاه، وهو يعلم مافي ذلك من إدخال الحزن على أبيه؟ فعنه خمسة أجوبة. احدها: أنه يجوز أن يكون ذلك بأمر عن اللّه تعالى زيادة لبلاء يعقوب ليعظم ثوابه، وهذا الأظهر. والثاني: أنه طلبه لا ليحبسه، فلما عرفه قال: لا أفارقك يا يوسف، قال: لا يمكنني حبسك إلا أن أنسبك إلى أمر فظيع، قال: أفعل ما بدا لك، قاله كعب. والثالث: أن يكون قصد تنبيه يعقوب بذلك على حال يوسف. والرابع: ليتضاعف سرور يعقوب برجوع ولديه. والخامس: ليعجل سرور أخيه باجتماعه به قبل إخوته. وكل هذه الأجوبة مدخوله، إلا الأول، فإنه الصحيح. ويدل عليه ما روينا عن وهب بن منبه، قال: لما جمع اللّه بين يوسف ويعقوب، قال له يعقوب: بيني وبينك هذه المسافة القريبة، ولم تكتب إلى تعرفني؟ٰ فقال: إن جبريل أمرني أن لا أعرفك، فقال له: سل جبريل، فسأله، فقال: إن اللّه أمرني بذلك، فقال: سل ربك، فسأله، فقال: قل ليعقوب: خفت عليه الذئب، ولم تؤمني؟ ٦٢ قوله تعالى: {وَقَالَ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «لفتيته» وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: «لفتيانه» قال أبو علي: الفتية جمع فتى في العدد القليل، والفتيان في الكثير. والمعنى: قال لغلمانه: {لِفِتْيَانِهِ ٱجْعَلُواْ بِضَـٰعَتَهُمْ} وهي التي اشتروا بها الطعام {فِى رِحَالِهِمْ}، والرحل: كل شيء يعد للرحيل. {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} أي: ليعرفوها {إِذَا ٱنْقَلَبُواْ} أي: رجعوا {إِلَىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: لكي يرجعوا. وفي مقصوده بذلك خمسة أقوال. احدها: أنه تخوف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى، فجعل دراهمهم في رحالهم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنه أراد أنهم إذا عرفوها، لم يستحلوا إمساكها حتى يردوها، قاله الضحاك. والثالث: أنه استقبح أخذ الثمن من والده وإخوته مع حاجتهم إليه، فرده عليهم من حيث لا يعلمون سبب رده تكرما وتفضلا، ذكره ابن جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي. والرابع: ليعلموا أن طلبه لعودهم لم يكن طمعا في أموالهم، ذكره الماوردي. والخامس: أنه أراهم كرمه وبره ليكون أدعى إلى عودهم. ٦٣ انظر تفسير الآية:٦٤ ٦٤ قوله تعالى: {فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَىٰ أَبِيهِمْ} قال المفسرون: لما عادوا إلى يعقوب، قالوا: يا أبانا، قدمنا على خير رجل، أنزلنا، وأكرمنا كرامة، لو كان رجلا من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته. وفي قوله: {مُنِعَ مِنَّا ٱلْكَيْلُ} قولان قد تقدما في قوله: {فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى} [يوسف ٦١]. فإن قلنا: إنه لم يكل لهم، فلفظ «منع» بين. وإن قلنا: إنه خوفهم منع الكيل، ففي المعنى قولان. احدهما: حكم علينا بمنع الكيل بعد هذا الوقت، كما تقول للرجل: دخلت واللّه النار بما فعلت. والثاني: أن المعنى: يا أبانا يمنع منا الكيل إن لم ترسله معنا، فناب «منع» عن «يمنع» كقوله: {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة ٣] أي: يخلده، وقوله: {وَنَادَىٰ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ} [الأعراف ٥٠]، {وَإِذْ قَالَ ٱللّه يٰعِيسَى عِيسَى} [المائدة ١١٦] أي: وإذ يقول، ذكرهما ابن الأنباري. قوله تعالى: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «نكتل» بالنون. وقرأ حمزة، والكسائي: «يكتل» بالياء. والمعنى: إن أرسلته معنا اكتلنا، وإلا فقد منعنا الكيل قوله تعالى: {هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ} أي: لا آمنكم إلا كأمني على يوسف، يريد أنه لم ينفعه ذلك الأمن إذ خانوه. {فَٱللّه خَيْرٌ حَـٰفِظًا} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وابو بكر عن عاصم: «حفظا» والمعنى: خير حفظا من حفظكم. . وقرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم: «خير حافظا» بألف. قال أبو علي: ونصبه على التمييز دون الحال. ٦٥ انظر تفسير الآية:٦٨ ٦٦ انظر تفسير الآية٦٨ ٦٧ انظر تفسير الآية٦٨ ٦٨ قوله تعالى: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَـٰعَهُمْ} يعني أوعية الطعام {وَجَدُواْ بِضَـٰعَتَهُمْ} التي حملوها ثمنا للطعام {رُدَّتْ} قال الزجاج: الأصل «رددت»؛ فأدغمت الدال الأولى في الثانية، وبقيت الراء مضمومة. ومن قرأ بكسر الراء جعل كسرتها منقولة من الدال. كما فعل ذلك في: قيل، وبيع، ليدل على أن أصل الدال الكسر. قوله تعالى: {مَا نَبْغِى} في «ما» قولان. احدهما: أنها استفهام، المعنى: أي شيء نبغي وقد ردت بضاعتنا إلينا. والثاني: أنها نافية، المعنى: ما نبغي شيئا، أي: لسنا نطلب منك دراهم نرجع بها إليه، بل تكفينا هذه في الرجوع إليه، وأرادوا بذلك تطييب قلبه ليأذن لهم بالعود. وقرأ ابن مسعود، وابن يعمر، والجحدري، وأبو حيوة «ما تبغي» بالتاء، على الخطاب ليعقوب. قوله تعالى: {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} أي: نجلب لهم الطعام. قال ابن قتيبة: يقال: مار أهله يميرهم ميرا، وهو مائر لأهله: إذا حمل إليهم أقواتهم من غير بلده. قوله تعالى: {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} فيه قولان. احدهما: نحفظ أخانا بنيامين الذي ترسله معنا، قاله الأكثرون. والثاني: ونحفظ أخانا شمعون الذي أخذه رهينة عنده، قاله الضحاك عن ابن عباس. قوله تعالى: {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} أي: وقر بعير، يعنون بذلك نصيب أخيهم، لأن يوسف كان لا يعطي الواحد أكثر من حمل بعير. قوله تعالى: {ذٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} فيه ثلاثة أقوال. احدها: ذلك كيل سريع، لا حبس فيه، يعنون: إذا جاء معنا، عجل الملك لنا الكيل، قاله مقاتل. والثاني: ذلك كيل سهل على الذي نمضي إليه، قاله الزجاج. والثالث: ذلك الذي جئناك به كيل يسير لا يقنعنا، قاله الماوردي. قوله تعالى: {حَتَّىٰ تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ ٱللّه} أي: تعطوني عهدا أثق به. والمعنى: حتى تحلفوا لي باللّه {لَتَأْتُنَّنِى بِهِ} أي: لتردنه إلي. قال ابن الأنباري: وهذه اللام جواب لمضمر، تلخيصه: وتقولوا: واللّه لتأتنني به. قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} فيه قولان. احدهما: أن يهلك جميعكم، قاله مجاهد. والثاني: أن يحال بينكم وبينه فلا تقدرون على الإتيان به، قاله الزجاج. قوله تعالى: {فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ} أي: أعطوه العهد وفيه قولان. احدهما: أنهم حلفوا له بحق محمد صلى اللّه عليه وسلم ومنزلته من ربه، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنهم حلفوا باللّه تعالى، قاله السدي. قوله تعالى: {قَالَ ٱللّه عَلَىٰ مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} فيه قولان. احدهما: أنه الشهيد. والثاني: كفيل بالوفاء، رويا عن ابن عباس. قوله تعالى: {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ} قال المفسرون: لما تجهزوا للرحيل، قال لهم يعقوب: «لا تدخلوا» يعني مصر «من باب واحد». وفي المراد بهذا الباب قولان. احدهما: أنه أراد بابا من أبواب مصر، وكان لمصر أربعة أبواب، قاله الجمهور. والثاني: أنه أراد الطرق لا الأبواب، قاله السدي، وروى نحوه أبو صالح عن ابن عباس. وفي ما أراد بذلك ثلاثة أقوال. احدها: أنه خاف عليهم العين، وكانوا أولي جمال وقوة، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنه خاف أن يغتالوا لماظهر لهم في أرض مصر من التهمة، قاله وهب بن منبه. والثالث: أنه أحب أن يلقوا يوسف في خلوة، قاله إبراهيم النخعي. قوله تعالى: {وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ ٱللّه مِن شَىْء} أي: لن أدفع عنكم شيئا قضاه اللّه، فإنه إن شاء أهلككم متفرقين، ومصداقة في الآية التي بعدها {مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ مّنَ ٱللّه مِن شَىْء إِلاَّ حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا} وهي إرادته أن يكون دخولهم كذلك شفقة عليهم.قال الزجاج: «إلا حاجة» استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها. قال ابن عباس: «قضاها» أي: أبداها وتكلم بها. قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ} فيه سبعة أقوال. احدها: إنه حافظ لما علمناه، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: وإنه لذو علم أن دخلوهم من أبواب متفرقة لا يغني عنهم من اللّه شيئا، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثالث: وإنه لعامل بما علم، قاله قتادة. وقال ابن الأنباري: سمي العمل علما، لأنه العلم أول أسباب العمل. والرابع: وإنه لمتيقن لوعدنا، قاله الضحاك. والخامس: وإنه لحافظ لوصيتنا، قاله ابن السائب. والسادس: وإنه لعالم بما علمناه أنه لا يصيب بنيه إلا ما قضاه اللّه، قاله مقاتل. والسابع: وإنه لذو علم لتعليمنا إياه، قاله الفراء. ٦٩ قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ} يعني إخوته {اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} يعني بنيامين. وكان أخاه لأبيه وأمه، قاله قتادة، وضمه إليه وأنزله معه، قال ابن قتيبة: يقال آويت فلانا إلي. بمد الألف: إذا ضممته إليك، وأويت إلى بني فلان، بقصر الألف: إذا لجأت إليهم. وفي قوله: {قَالَ إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ} قولان. احدهما: أنهم لما دخلوا عليه حبسهم بالباب، وأدخل أخاه، فقال له: ما اسمك؟ فقال: بنيامين، قال: فما اسم أمك؟ قال: راحيل بنت لاوي، فوثب إليه فاعتنقه، فقال: «إني أنا أخوك»، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وكذلك قال ابن إسحاق: أخبره أنه يوسف. والثاني: أنه لم يعترف له بذلك، وإنما قال: أنا أخوك مكان أخيك الهالك، قاله وهب بن منبه. وقيل: إنه أجلسهم كل اثنين على مائدة، فبقي بنيامين وحيدا يبكي، وقال: لو كان أخي حيا لأجلسني معه، فضمه يوسف إليه، وقال: إني أرى هذا وحيدا، فأجسله معه على مائدته. فلما جاء الليل، نام كل اثنين على منام، فبقي وحيدا، فقال يوسف: هذا ينام معي. فلما خلا به. قال هل لك أخ من أمك؟ قال كان لي أخ من أمي فهلك، فقال: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ فقال: أيها الملك، ومن يجد أخا مثلك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف، وقام إليه فاعتنقه، وقال: {إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ} يوسف {فَلاَ تَبْتَئِسْ} قال قتادة: لا تأس ولا تحزن، وقال الزجاج: لا تحزن ولا تستكن. قال ابن الأنباري: «تبتئس»: تفتعل من البؤس، وهو الضر والشدة، أي: لا يلحقنك بؤس بالذي فعلوا. قوله تعالى: {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فيه ثلاثة اقوال. احدها: أنهم كانوا يعيرون يوسف وأخاه بعبادة جدهما أبي أمهما للأصنام، فقال: لا تبتئس بما كانوا يعملون من التعيير لنا. روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لا تحزن بما سيعملون بعد هذا الوقت حين يسرقونك، فتكون «كانوا» بمعنى «يكونون» قال الشاعر: فأدركت من قد كان قبلي ولم أدع لمن كان بعدي من القصائد مصنعا وقال آخر: وانضح جوانب قبره بدمائها فلقد يكون أخا دم وذبائح رادك: فقد كان، وهذا مذهب مقاتل. والثالث: لا تحزن بما عملوا من حسدنا، وحرصوا على صرف وجه أبينا عنا، وإلى هذا المعنى ذهب ابن إسحاق. ٧٠ انظر تفسير الآية:٧٢ ٧١ انظر تفسير الآية:٧٢ ٧٢ قوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} قال المفسرون: أوفى لهم الكيل، وحمل ل «بنيامين» بعيرا باسمه كما حمل لهم، وجعل السقاية في رحل أخيه، وهي الصواع، فهما اسمان واقعان على شيء واحد، كالبر والحنطة، والمائدة والخوان. وقال بعضهم: الاسم الحقيقي: الصواع، والسقاية وصف، كما يقال: كوز، وإناء، فالاسم الخاص: الكوز. قال المفسرون: جعل يوسف ذلك الصاع مكيالا لئلا يكال بغيره. وقيل: كال لإخوته بذلك، إكراما لهم. قالوا: ولما ارتحل إخوة يوسف وأمعنوا، أرسل الطلب في أثرهم، فأدركوا وحبسوا، {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ} قال الزجاج: أعلم معلم، يقال: آذنته بالشيء، فهو مؤذن به، أي: أعلمته، وآذنت: أكثرت الإعلام بالشيء، يعني: أنه إعلام بعد إعلام. {أَيَّتُهَا ٱلْعِيرُ} يريد: أهل العير، فأنث لأنه جعلها للعير. قال الفراء: لا يقال: عير، إلا لأصحاب الإبل. وقال أبو عبيدة: العير: الإبل المرحولة المركوبة. وقال ابن قتيبة: العير: القوم على الإبل. فان قيل: كيف جاز ليوسف أن يسرق من لم يسرق؟ فعنه أربعة أجوبة. احدها: أن المعنى: إنكم لسارقون يوسف حين قطعتموه عن أبيه وطرحتموه في الجب، قاله الزجاج. والثاني: أن المنادي نادى وهو لا يعلم أن يوسف أمر بوضع السقاية في رحل أخيه، فكان غير كاذب في قوله، قاله ابن جرير. والثالث: أن المنادي نادى بالتسريق لهم بغير أمر يوسف. والرابع: أن المعنى: إنكم لسارقون فيما يظهر لمن لم يعلم حقيقة أخباركم، كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ} [الدخان ٤٩] أي: عند نفسك، لا عندنا، وقول النبي صلى اللّه عليه وسلم: «كذب إبراهيم ثلاث كذبات» أي: قال قولا يشبه الكذب، وليس به. قوله تعالى: {قَالُواْ} يعني: إخوة يوسف {سَوَاء عَلَيْهِمْ} فيه قولان. احدهما: على المؤذن وأصحابه. والثاني: أقبل المنادي ومن معه على إخوة يوسف بالدعوى. {مَّاذَا تَفْقِدُونَ} مالذي ضل عنكم؟ {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ ٱلْمَلِكِ} قال الزجاج: الصواع هو الصاع بعينه، وهو يذكر ويؤنث، وكذلك الصاع يذكر ويؤنث. وقد قرىء: «صياع» بياء، وقرىء: «صوغ» بغين معجمة، وقرىء: «صوع» بعين غيرمعجمة مع فتح الصاد، وضمها، وقرأ أبو هريرة: «صاع الملك» وكل هذه لغات ترجع إلى معنى واحد، إلا أن الصوغ، بالغين المعجمة، مصدر صغت، وصف الإناء به، لأنه كان مصوغا من ذهب. واختلفوا في جنسه على خمسة أقوال. احدها: أنه كان قدحا من زبرجد. والثاني: أنه كان من نحاس، رويا عن ابن عباس. والثالث: أنه كان شربة من فضة مرصعة بالجوهر. قاله عكرمة. والرابع: كان كأسا من ذهب، قاله ابن زيد. والخامس: كان من مس حكاه الزجاج. وفي صفته قولان. احدهما: أنه كان مستطيلا يشبه المكوك. والثاني: أنه كان يشبه الطاس. قوله تعالى: {وَلِمَن جَاء بِهِ} يعني الصواع {حِمْلُ بَعِيرٍ} من الطعام {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} أي: كفيل لمن رده بالحمل، يقوله المؤذن. ٧٣ انظر تفسير الآية:٧٥ ٧٤ انظر تفسير الآية:٧٥ ٧٥ قوله تعالى: {قَالُواْ تَٱللّه} قال الزجاج: «تاللّه» بمعنى: واللّه، إلا أن التاء لا يقسم بها إلى في اللّه عز وجل. ولا يجوز: تالرحمن لأفعلن، ولا: تربي لأفعلن. والتاء تبدل من الواو، كما قالوا في وراث: تراث، وقالوا: يتزن، وأصله: يوتزن، من الوزن. قال ابن الأنباري: أبدلت التاء من الواو، كما أبدلت في التخمة والتراث والتجاه، وأصلهن من الوخمة والوجاه، لأنهن من الوخامة والوراثة والوجه. ولا تقول العرب: تالرحمن، كما قالوا: تاللّه، لأن الاستعمال في الإقسام كثر باللّه، ولم يكن بالرحمن، فجاءت التاء بدلا من الواو في الموضع الذي يكثر استعماله. قوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتُمْ} يعنون يوسف {مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى ٱلاْرْضِ} أي: لنظلم أحدا أو نسرق. فان قيل: كيف حلفوا على علم قوم لا يعرفونهم؟ فالجواب من ثلاثة أوجه. احدها: أنهم قالوا ذلك، لأنهم رددوا الدراهم ولا يستحلوها، فالمعنى: لقد علمتم أنا رددنا عليكم دراهمكم وهي أكثر من ثمن الصاع، فكيف نستحل صاعكم، رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثاني: لأنهم لما دخلوا مصر كعموا أفواه إبلهم وحميرهم حتى لا تتناول شيئا، وكان غيرهم لا يفعل ذلك، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أن أهل مصر كانوا قد عرفوهم أنهم لا يظلمون أحدا. قوله تعالى: {فَمَا جَزَاؤُهُ} المعنى: قال المنادي وأصحابه: فما جزاؤه. قال الأخفش: إن شئت رددت الكناية إلى السارق، وإن شئت رددتها إلى السرق. قوله تعالى: {إِن كُنتُمْ كَـٰذِبِينَ} أي: في قولكم، {وَمَا كُنَّا سَـٰرِقِينَ} {قَالُواْ}: يعني إخوة يوسف {جَزؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} أي: يستعبد بذلك. قال ابن عباس: وهذه كانت سنة آل يعقوب. ٧٦ قوله تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ} قال المفسرون: انصرف بهم المؤذن إلى يوسف، وقال: لا بد من تفتيش أمتعتكم، {فَبَدَأَ} يوسف {بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ} لإزالة التهمة، فلما وصل إلى وعاء أخيه، قال: ما أظن هذا أخذ شيئا، فقالوا: واللّه لا نبرح حتى تنظر في رحله، فهو أطيب لنفسك. فلما فتحوا متاعه وجدوا الصواع، فذلك قوله: {ثُمَّ ٱسْتَخْرَجَهَا}. وفي هاء الكناية ثلاثة أقوال. احدها: أنها ترجع إلى السرقة، قاله الفراء. والثاني: إلى السقاية، قاله الزجاج. والثالث: إلى الصواع على لغة من أنثه، ذكره ابن الأنباري. قال المفسرون: فأقبلوا على بنيامين، وقالوا: أي شيء صنعت؟ٰ فضحتنا وأزريت بأبيك الصديق، فقال: وضع هذا في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم، وقد كان يوسف أخبر أخاه بما يريد أن يصنع به. قوله تعالى: {كَذٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} فيه أربعة أقوال. احدها: كذلك صنعنا له، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: احتلنا له، والكيد: الحيلة، قاله ابن قتيبة. والثالث: أردنا ليوسف، ذكره ابن القاسم. والرابع: دبرنا له بأن ألهمناه ما فعل بأخيه ليتوصل إلى حبسه. قال ابن الأنباري: لما دبر اللّه ليوسف ما دبر من ارتفاع المنزلة وكمال النعمة على غير ما ظن إخوته، شبه بالكيد من المخلوقين، لأنهم يسترون ما يكيدون به عمن يكيدونه. قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ ٱلْمَلِكِ} في المراد بالدين هاهنا قولان. احدهما: أنه السلطان، فالمعنى: في سلطان الملك، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه القضاء، فالمعنى: في قضاء الملك لأن قضاء الملك، أن من سرق إنما يضرب ويغرم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وبيانه أنه لو أجرى أخاه على حكم الملك ما أمكنه حبسه، لأن حكم الملك الغرم والضرب فحسب. فأجرى اللّه على ألسنة إخوته أن جزاء السارق الاسترقاق، فكان ذلك مما كاد اللّه ليوسف لطفا حتى أظفره بمراده بمشيئة اللّه،فذلك معنى قوله: {إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللّه} وقيل: إلا أن يشاء اللّه إظهار علة يستحق بها أخاه. قوله تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَـٰتٍ مَّن نَّشَاء} وقرأ يعقوب «يرفع درجات من يشاء» بالياء فيهما. وقرأ أهل الكوفة «درجات» بالتنوين، والمعنى: نرفع الدرجات بصنوف العطاء، وأنواع الكرامات، وابواب العلوم، وقهر الهوى، والتوفيق للّهدى، كما رفعنا يوسف. {وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} أي: فوق كل ذي علم رفعه اللّه بالعلم من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى اللّه تعالى، والكمال في العلم معدوم من غيره. وفي مقصود هذا الكلام ثلاثة أقوال. احدها: أن المعنى: يوسف أعلم من إخوته، وفوقه من هو أعلم منه. والثاني: أنه نبه على تعظيم العلم، وبين أنه أكثر من أن يحاط به. والثالث: أنه تعليم للعالم التواضع لئلا يعجب. ٧٧ انظر تفسير الآية:٧٩ ٧٨ انظر تفسير الآية:٧٩ ٧٩ قوله تعالى: {قَالُواْ} يعني: إخوة يوسف {إِن يَسْرِقْ} يعنون بنيامين {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} يعنون يوسف. قال المفسرون: عوقب يوسف ثلاث مرات، قال للساقي: «اذكرني عند ربك» فلبث في السجن بضع سنين، وقال للعزيز: «ليعلم أني لم أخنه بالغيب»، فقال له جبريل: ولا حين هممت؟ فقال: «وما أبرئ نفسي»، وقال لإخوته: «إنكم لسارقون»، فقالوا: «إن يسرق» فقد سرق أخ له من قبل. وفي ما عنوا بهذه السرقة سبعة اقوال. احدها: أنه كان يسرق الطعام من مائدة أبيه في سني المجاعة، فيطعمه للمساكين، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أنه سرق مكحلة لخالته، رواه أبو مالك عن ابن عباس. والثالث: أنه سرق صنما لجده أبي أمه، فكسره وألقاه في الطريق، فعيره إخوته بذلك، قاله سعيد بن جبير، ووهب بن منبه، وقتادة. والرابع: أن عمة يوسف ـ وكانت أكبر ولد إسحاق ـ كانت تحضن يوسف وتحبه حبا شديدا، فلما ترعرع، طلبه يعقوب، فقالت: ما أقدر أن يغيب عني، فقال: واللّه ما أنا بتاركه، فعمدت إلى منطقة إسحاق، فربطتها على يوسف تحت ثيابه، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق، فانظروا من أخذها، فوجدوها مع يوسف، فأخبرت يعقوب ذلك، وقالت: واللّه إنه لي أصنع فيه ما شئت، فقال: أنت وذاك، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت، فذاك الذي عيره به إخوته، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والخامس: أنه جاءه سائل يوما، فسرق شيئا، فأعطاه السائل، فعيروه بذلك. وفي ذلك الشيء ثلاثة اقوال: احدهما: أنه كان بيضه، قاله مجاهد. والثاني: أنه شاة، قاله كعب. والثالث: دجاجة، قاله سفيان بن عيينة. والسادس: أن بني يعقوب كانوا على طعام، فنظر يوسف إلى عرق، فخبأه، فعيروه بذلك، قاله عطية العوفي، وإدريس الأودي. قال ابن الأنباري: وليس في هذه الأفعال كلها ما يوجب السرقة، لكنها تشبه السرقة، فعيره إخوته بذلك عند الغضب. والسابع: أنهم كذبوا عليه فيما نسبوه إليه، قاله الحسن. وقرأ أبو رزين، وابن أبي عبلة: «فقد سرق» بضم السين وكسر الراء وتشديدها. قوله تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ} في هاء الكناية ثلاثة أقوال. احدها: أنها ترجع إلى الكلمة التي ذكرت بعد هذا، وهي قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً}، روى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنها ترجع إلى الكلمة التي قالوها في حقه، وهي قولهم: «فقد سرق أخ له من قبل»، وهذا معنى قول أبي صالح عن ابن عباس، فعلى هذا يكون المعنى: أسر جواب الكلمة فلم يجبهم عليها. والثالث: أنها ترجع إلى الحجة، المعنى: فأسر الاحتجاج عليهم في ادعائهم عليه السرقة، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} فيه قولان. احدهما: شر صنيعا من يوسف لما قدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم، قاله ابن عباس. والثاني: شر منزلة عند اللّه، ذكره الماوردي. قوله تعالى: {وَٱللّه أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} فيه قولان. احدهما: تقولون، قاله مجاهد. والثاني: بما تكذبون، قاله قتادة. قال الزجاج: المعنى: واللّه أعلم أسرق أخ له، أم لا. وذكر بعض المفسرين أنه لما استخرج الصواع من رحل أخيه، نقر الصواع، ثم أدناه من أذنه، فقال: إن صواعي هذا يخبرني أنكم كنتم اثنى عشر رجلا، وأنكم انطلقتم بأخ لكم فبعتموه، فقال بنيامين: أيها الملك، سل صواعك عن أخي، أحي هو؟ فنقره ثم، قال: هو حي وسوف تراه، فقال: سل صواعك، من جعله في رحلي؟ فنقره، وقال: إن صواعي هذا غضبان، وهو يقول: كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت؟ فغضب روبيل، وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يطاقوا، فإذا مس أحدهم الآخر ذهب غضبه، فقال: واللّه أيها الملك لتتركنا، أو لأصيحن صيحة لا يبقى بمصر امرأة حامل إلا ألقت ما في بطنها، فقال يوسف لابنه: قم إلى جنب روبيل فامسسه، ففعل الغلام، فذهب غضبه، فقال روبيل: ما هذا؟ٰ إن في هذا البلد من ذرية يعقوب؟ قال يوسف: ومن يعقوب؟ فقال: أيها الملك، لا تذكر يعقوب، فإنه إسرائيل اللّه بن ذبيح اللّه بن خليل. اللّه فلما لم يجدوا إلى خلاص أخيهم سبيلا، سألوه أن يأخذ منهم بديلا به، فذلك قوله: {يأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا} أي: في سنة، وقيل: في قدره، {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} أي: تستعبده بدلا عنه {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ} فيه قولان. احدهما: فيما مضى. والثاني: إن فعلت. {قَالَ مَعَاذَ ٱللّه} قد سبق تفسيره [يوسف ٣٣]، والمعنى: أعوذ باللّه أن نأخذ بريئا بسقيم. ٨٠ انظر تفسير الآية:٨١ ٨١ قوله تعالى: {فَلَمَّا ٱسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ} أي: أيسوا. وفي هاء «منه» قولان. احدهما: أنها ترجع إلى يوسف، فالمعنى: يئسوا من يوسف أن يخلي سبيل أخيهم. والثاني: إلى أخيهم، فالمعنى: يئسوا من أخيهم. قوله تعالى: {خَلَصُواْ نَجِيّا} أي: اعتزلوا الناس ليس معهم غيرهم، يتناجون ويتناظرون ويتشاورون، يقال: قوم نجي، والجمع أنجيه، قال الشاعر: إني إذا ما القوم كانوا أنجيه واضطربت أعناقهم كالأرشية وإنما وحد «نجيا» لأنه يجري مجرى المصدر الذي يكون للاثنين، والجمع والمؤنث بلفظ. واحد وقال الزجاج: انفردوا متناجين فيما يعملون في ذهابهم إلى أبيهم وليس معهم أخوهم. قوله تعالى: {قَالَ كَبِيرُهُمْ} فيه قولان. احدهما: أنه كبيرهم في العقل، ثم فيه قولان. احدهما: أنه يهوذا، ولم يكن أكبرهم سنا، وإنما كان أكبرهم سنا روبيل، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، ومقاتل. والثاني: أنه شمعون، قاله مجاهد. والثاني: أنه كبيرهم في السن وهو روبيل، قاله قتادة، والسدي. قوله تعالى: {ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثق من اللّه} في حفظ أخيكم ورده إليه {وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ} قال الفراء: «ما» في موضع رفع، كأنه قال: ومن قبل هذا تفريطكم في يوسف. وإن شئت جعلتها نصبا، المعنى: ألم تعلموا هذا، وتعلموا من قبل تفريطكم في يوسف. وإن شئت جعلت «ما» صلة كأنه قال: ومن قبل فرطتم في يوسف. قال الزجاج: وهذا أجود الوجوه، أن تكون «ما» لغوا. قوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ ٱلاْرْضَ} أي: لن أخرج من أرض مصر، يقال: برح الرجل براحا:إذا تنحى عن موضعه. {حَتَّىٰ يَأْذَنَ لِى} قال ابن عباس: حتى يبعث إلي أن آتيه، {أو يحكم اللّه لي} فيه ثلاثة أقوال. احدها: أو يحكم اللّه لي، فيرد أخي علي. والثاني: يحكم اللّه لي بالسيف، فأحارب من حبس أخي. والثالث: يقضي في أمري شيئا، {وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَـٰكِمِينَ} أي: أعدلهم وأفضلهم. قوله تعالى: {إِنَّ ٱبْنَكَ سَرَقَ} وقرأ ابن عباس، والضحاك، وابن أبي سريج عن الكسائي: «سرق» بضم السين وتشديد الراء وكسرها. قوله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} فيه قولان. احدهما: وما شهدنا عليه بالسرقة إلا بما علمنا، لأنا رأينا المسروق في رحله، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: وما شهدنا عن يوسف بأن السارق يؤخذ بسرقته إلا بما علمنا من دينك، قاله ابن زيد. وفي قوله: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَـٰفِظِينَ} ثمانية أقوال. احدها: أن الغيب هو الليل، والمعنى: لم نعلم ما صنع بالليل، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وهذا يدل على أن التهمة وقعت به ليلا. والثاني: ما كنا نعلم أن ابنك يسرق، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال عكرمة، وقتادة، ومكحول. قال ابن قتيبة: فالمعنى: لم نعلم الغيب حين أعطيناك الموثق لنأتينك به أنه يسرق فيؤخذ. والثالث: لم نستطع أن نحفظه فلا يسرق، رواه عبد الوهاب عن مجاهد. والرابع: لم نعلم أنه سرق للملك شيئا، ولذلك حكمنا باسترقاق السارق، قاله ابن زيد. والخامس: أن المعنى: قد رأينا السرقة قد أخذت من رحله، ولا علم لنا بالغيب فلعلهم سرقوه، قاله ابن إسحاق. والسادس: ما كنا لغيب ابنك حافظين، إنما نقدر على حفظه في محضره، فإذا غاب عنا، خفيت عنا أموره. والسابع: لو علمنا من الغيب أن هذه البلية تقع بابنك ما سافرنا به، ذكرهما ابن الأنباري. والثامن: لم نعلم أنك تصاب به كما أصبت بيوسف، ولو علمنا لم نذهب به، قاله ابن كيسان. ٨٢ قوله تعالى: {وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ} المعنى: قولوا لأبيكم: سل أهل القرية {ٱلَّتِى كُنَّا فِيهَا} يعنون مصر {وَٱلّعِيْرَ ٱلَّتِى أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي: وأهل العير، وكان قد صحبهم قوم من الكنعانيين. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون المعنى: وسل القرية والعير فإنها تعقل عنك لأنك نبي، والأنبياء قد تخاطبهم الأحجار والبهائم، فعلى هذا تسلم الآية من إضمار. ٨٣ قوله تعالى: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} في الكلام اختصار، والمعنى: فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ذلك، فقال لهم هذا، وقد شرحناه في اول السورة [يوسف: ١٨]. واختلفوا لأي علة قال لهم هذا القول، على ثلاثة أقوال. احدها: أنه ظن أن الذي تخلف منهم، إنما تخلف حيلة ومكرا ليصدقهم، قاله وهب بن منبه. والثاني: أن المعنى: سولت لكم أنفسكم أن خروجكم بأخيكم يجلب نفعا، فجر ضررا، قاله ابن الأنباري. والثالث: سولت لكم أنه سرق، وما سرق. قوله تعالى: {عَسَى إِلَـٰهَ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا} يعني: يوسف وبنيامين وأخاهما المقيم بمصر، وقال مقاتل: أقام بمصر يهوذا وشمعون، فاراد بقوله. «أن يأتيني بهم» يعني: الأربعة. قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ} أي: بشدة حزني، وقيل: بمكانهم، {ٱلْحَكِيمُ} فيما حكم علي. ٨٤ قوله تعالى: {وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ} أي: أعرض عن ولده أن يطيل معهم الخطب، وانفرد بحزنه، وهيج عليه ذكر يوسف {وَقَالَ يأَبَتِ دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ} قال ابن عباس: يا طول حزني على يوسف. قال ابن قتيبة: الأسف: أشد الحسرة. قال سعيد بن جبير: لقد أعطيت هذه الأمة عند المصيبة مالم يعط الأنبياء قبلهم {إِنَّا للّه وَإِنَّـا إِلَيْهِ رٰجِعونَ} [البقرة: ١٥٦] ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب، إذ يقول: «يا أسفى على يوسف». فان قيل: هذا لفظ الشكوى، فأين الصبر؟ فالجواب من وجهين. احدهما: أنه شكا إلى اللّه تعالى، لا منه. والثاني: أنه أراد به الدعاء، فالمعنى: يارب ارحم أسفي على يوسف. وذكر ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال: نداء يعقوب الأسف في اللفظ، من المجاز الذي يعني به غير المظهر في اللفظ وتلخيصه: يا إلهي ارحم أسفي، أو أنت راء أسفي، وهذا أسفي، فنادى الأسف في اللفظ، والمنادى في المعنى سواه، كما قال: «يا حسرتنا» والمعنى: يا هؤلاء تنبهوا على حسرتنا، قال: والحزن ونفور النفس من المكروه والبلاء لا عيب فيه ولا مأثم إذا لم ينطق اللسان بكلام مؤثم ولم يشك إلا إلى ربه فلما كان قوله يا أسفي شكوى إلى ربه، كان غير ملوم. وقد روي عن الحسن أن أخاه مات، فجزع الحسن جزعا شديدا، فعوتب في ذلك، فقال: ما وجدت اللّه عاب على يعقوب الحزن حيث قال: «يا أسفي على يوسف». قوله تعالى: {وَٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ} أي: انقلبت إلى حال البياض. وهل ذهب بصره، أم لا؟ فيه قولان. احدهما: أنه ذهب بصره، قاله مجاهد. والثاني: ضعف بصره لبياض تغشاه من كثرة البكاء، ذكره الماوردي. وقال مقاتل: لم يبصر بعينيه ست سنين. قال ابن عباس: وقوله: «من الحزن» أي: من البكاء، يريد أن عينيه ابيضتا لكثرة بكائه، فلما كان الحزن سببا للبكاء، سمي البكاء حزنا. وقال ثابت البناني: دخل جبريل على يوسف، فقال: أيها الملك الكريم على ربه، هل لك علم بيعقوب؟ قال: نعم. قال: ما فعل، قال: ابيضت عيناه، قال: ما بلغ حزنه؟ قال: حزن سبعين ثكلى، قال: فهل له على ذلك من أجر؟ قال: أجر مائة شهيد. وقال الحسن البصري:ما فارق يعقوب الحزن ثمانين سنة، وما جفت عينه، وما أحد يومئذ أكرم على اللّه منه حين ذهب بصره. قوله تعالى: {فَهُوَ كَظِيمٌ} الكظيم بمعنى الكاظم، وهو الممسك على حزنه فلا يظهره، قاله ابن قتيبة: وقد شرحنا هذا عند قوله: {وَٱلْكَـٰظِمِينَ ٱلْغَيْظَ} [آل عمران: ١٣٤]. ٨٥ انظر تفسير الآية:٨٧ ٨٦ انظر تفسير الآية:٨٧ ٨٧ قوله تعالى: {قَالُواْ تَاللّه تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} قال ابن الأنباري: معناه: واللّه، وجواب هذا القسم «لا» المضمرة التي تأويلها: تاللّه لا تفتأ، فلما كان موضعها معلوما خفف الكلام بسقوطها من ظاهره، كما تقول العرب: واللّه أقصدك أبدا، يعنون: لا أقصدك، قال امرؤ القيس: فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي يُريد: لا أبرح. وقالت الخنساء: فأقسمت آسى على هالك أو اسأل نائحة مالها أرادت: لا آسى، وقال الآخر: لم يشعر النعش ما عليه من ال عرف ولا الحاملون ما حملوا تاللّه أنسى مصيبتي أبدا ما أسمعتني حنينها الإبل قرأ أبو عمران، وابن محيصن، وأبو حيوة: «قالوا باللّه» بالباء، وكذلك كل قسم في القرآن. وأما قوله: «تفتأ» فقال المفسرون وأهل اللغة: معنى «تفتأ» تزال، فمعنى الكلام: لا تزال تذكر يوسف، وأنشد أبو عبيدة: فما فتئت خيل تثوب وتدعي ويلحق منها لا حق وتقطع وأنشد ابن القاسم: ما فتئت منا رعال كأنها رعال القطا حتى احتوين بني صخر قوله تعالى: {حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً} فيه أربعة أقوال. احدها: أنه الدنف، قاله أبو صالح عن ابن عباس. قال ابن قتيبة: يقال: أحرضه الحزن، أي: أدنفه. قال أبو عبيدة: الحرض: الذي قد أذابه الحزن أو الحب، وهي في موضع محرض. وأنشد. إني امرؤ لج بي حب فأحرضني حتى بليت وحتى شفني السقم أي: أذابني. وقال الزجاج: الحرض: الفاسد في جسمه، والمعنى: حتى تكون مدنفا مريضا. والثاني: أنه الذاهب العقل، قاله الضحاك عن ابن عباس. وقال ابن إسحق: الفاسد العقل. قال الزجاج: وقد يكون الحرض: الفاسد في أخلاقه. والثالث: أنه الفاسد في جسمه وعقله، يقال: رجل حارض وحرض، فحارض، يثني ويجمع ويؤنث، وحرض لا يجمع ولا يثنى، لأنه مصدر، قاله الفراء. والرابع: أنه الهرم، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد. قوله تعالى: {أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَـٰلِكِينَ} يعنون: الموتى. فان قيل: كيف حلفوا على شيء يجوز أن يتغير؟ فالجواب: أن في الكلام إضمارا، تقديره: إن هذا في تقديرنا وظننا. قوله تعالى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى} قال ابن قتيبة: البث: أشد الحزن، سمي بذلك، لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثه. قوله تعالى: {إِلَى ٱللّه} المعنى: إني لا أشكو إليكم، وذلك لما عنفوه بما تقدم ذكره. وروى الحاكم أبو عبد اللّه في «صحيحه» من حديث أنس بن مالك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. أنه قال: «كان ليعقوب أخ مؤاخ، فقال له ذات: يوم يا يعقوب، مالذي أذهب بصرك؟ وما الذي قوس ظهرك؟ قال: أما الذي أذهب بصري، فالبكاء على يوسف، وأما الذي قوس ظهري، فالحزن على بنيامين، فأتاه جبريل، فقال: يا يعقوب إن اللّه يقرئك السلام ويقول لك، أما تستحي أن تشكو إلى غيري؟ فقال: إنما أشكو بثي وحزني إلى اللّه، فقال جبريل: اللّه أعلم بما تشكو، ثم قال يعقوب: أي رب، أما ترحم الشيخ الكبير؟ أذهبت بصري، وقوست ظهري، فاردد علي ريحاني أشمه شمة قبل الموت، ثم اصنع بي يا رب ما شئت، فأتاه جبريل، فقال: يا يعقوب، إن اللّه يقرأ عليك السلام ويقول: أبشر، فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك، اصنع طعاما للمساكين، فإن أحب عبادي إلي، المساكين، وتدري لم أذهبت بصرك، وقوست ظهرك، وصنع إخوة يوسف بيوسف ما صنعوا؟ لأنكم ذبحتم شاة، فأتاكم فلان المسكين وهو صائم، فلم تطعموه منها. فكان يعقوب بعد ذلك إذا أراد الغداء أمر مناديا فنادى: ألا من أراد الغداء من المساكين فليتغد مع يعقوب وإذا كان صائما، أمر مناديا فنادى: من كان صائما فليفطر مع يعقوب، وقال وهب بن منبه: أوحى اللّه تعالى إلى يعقوب: أتدري لم عاقبتك وجبست عنك يوسف ثمانين سنة؟قال: لا، قال: لأنك شويت عناقا وقترت على جارك وأكلت ولم تطعمه، وذكر بعضهم أن السبب في ذلك أن يعقوب ذبح عجل بقرة بين يديها، وهي تخور، فلم يرحمها. فان قيل: كيف صبر يوسف عن أبيه بعد أن صار ملكا؟ فقد ذكر المفسرون عنه ثلاثة أجوبة. احدها: أنه يجوز أن يكون ذلك عن أمر اللّه تعالى، وهو الأظهر. والثاني: لئلا يظن الملك بتعجيل استدعائه أهله، شدة فاقتهم. والثالث: أنه أحب بعد خروجه من السجن أن يدرج نفسه إلى كمال السرور. والصحيح أن ذلك كان عن أمر اللّه تعالى، ليرفع درجة يعقوب بالصبر على البلاء. وكان يوسف يلاقي من الحزن لأجل حزن أبيه عظيما، ولا يقدر على دفع سببه. قوله تعالى: {وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللّه مَالاً تَعْلَمُونَ} فيه أربعة أقوال. احدها: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأنا سنسجد له، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أعلم من سلامة يوسف مالا تعلمون. قال ابن السائب: وذلك أن ملك الموت أتاه، فقال له يعقوب: هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال: لا. والثالث: أعلم من رحمة اللّه وقدرته مالا تعلمون، قاله عطاء. والرابع: أنه لما أخبره بنوه بسيرة العزيز، طمع أن يكون هو يوسف، قاله السدي، قال: ولذلك قال لهم: {ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ}. وقال وهب بن منبه: لما قال له ملك الموت: ما قبضت روح يوسف، تباشر عند ذلك، ثم أصبح، فقال لبنيه: {ٱذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ}. قال أبو عبيدة: «تحسسوا» أي: تخبروا والتمسوا في المظان. فان قيل: كيف: «قال من يوسف» والغالب أن يقال: تحسست عن كذا؟ فعنه جوابان ذكرهما ابن الأنباري. احدهما: أن المعنى: عن يوسف، ولكن نابت عنها «من» كما تقول العرب: حدثني فلان من فلان، يعنون عنه. والثاني: أن «من» أوثرت للتبعيض، والمعنى: تحسسوا خبرا من أخبار يوسف. قوله تعالى: {وَلاَ تَايْـئَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللّه} فيه ثلاثة أقوال. احدها: من رحمة اللّه، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني: من فرج اللّه، قاله ابن زيد. والثالث: من توسعة اللّه، حكاه ابن القاسم. قال الأصمعي: الروح: الاستراحة من غم القلب. وقال أهل المعاني: لا تيأسوا من الروح الذي يأتي به اللّه، {أَنَّهُ يَايْـئَسُ مِن رَّوْحِ ٱللّه إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ} لأن المؤمن يرجوا اللّه في الشدائد. ٨٨ انظر تفسير الآية:٩٣ ٨٩ انظر تفسير الآية:٩٣ ٩٠ انظر تفسير الآية:٩٣ ٩١ انظر تفسير الآية:٩٣ ٩٢ انظر تفسير الآية:٩٣ ٩٣ قوله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ} في الكلام محذوف. تقديره: فخرجوا إلى مصر، فدخلوا على يوسف، ف {قَالُواْ يأَيُّهَا ٱلْعَزِيزُ} وكانوا يسمون ملكهم بذلك، {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا ٱلضُّرُّ} يعنون الفقر والحاجة{وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ}. احدها: أنها كانت دراهم، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنها كانت متاعا رثا كالحبل والغرارة، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس. والثالث: كانت أقطا قاله الحسن. والرابع: كانت نعالا وأدما، رواه جويبر عن الضحاك. والخامس: كانت سويق المقل، روي عن الضحاك أيضا. والسادس: حبة الخضراء وصنوبر، قاله أبو صالح. والسابع: كانت صوفا وشيئا من سمن، قاله عبد اللّه بن الحارث. وفي المزجاة خمسة أقوال. احدها: أنها القليلة. روى العوفي عن ابن عباس قال: دراهم غير طائلة، وبه قال مجاهد، وابن إسحاق، وابن قتيبة. قال الزجاج: تأويله في اللغة أن التزجية: الشيء الذي يدافع به، يقال: فلان يزجي العيش، أي: يدفع بالقليل ويكتفي به، فالمعنى: جئنا ببضاعة إنما ندافع بها ونتقوت، وليست مما يتسع به، قال الشاعر: الواهب المائة الهجان وعبدها عوذا تزجي خلفها أطفالها أي: تدفع أطفالها. والثاني:أنها الرديئة، رواه الضحاك عن ابن عباس. قال أبو عبيدة: إنما قيل للرديئة: مزجاة، لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها، قال: وهي من الإزجاء، والإزجاء عند العرب: السوق والدفع، وأنشد: ليبك على ملحان ضيف مدفع وأرملة تزجي من الليل أرملا أي: تسوقه. والثالث: الكاسدة، رواه الضحاك أيضا عن ابن عباس. والرابع: الرثة، وهي المتاع الخلق، رواه ابن أبي مليكة عن ابن عباس. والخامس: الناقصة، رواه أبو حصين عن عكرمة. قوله تعالى: {مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا ٱلْكَيْلَ} أي: أتمه لنا ولا تنقصه لرداءة بضاعتنا. قوله تعالى: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} فيه ثلاثة أقوال. احدها: تصدق علينا بما بين سعر الجياد والرديئة، قاله سعيد بن جبير، والسدي. قال ابن الأنباري: كان الذي سألوه من المسامحة يشبه التصدق، وليس به. والثاني: برد أخينا، قال ابن جريج. قال: وذلك أنهم كانوا أنبياء، والصدقة لا تحل للأنبياء. والثالث: وتصدق علينا بالزيادة على حقنا، قاله ابن عيينة، وذهب إلى أن الصدقة قد كانت تحل للأنبياء قبل نبينا صلى اللّه عليه وسلم، حكاه أبو سليمان الدمشقي، وأبو الحسن الماوردي، وابو يعلى بن الفراء. قوله تعالى: {إِنَّ ٱللّه يَجْزِى ٱلْمُتَصَدّقِينَ} أي: بالثواب. قال الضحاك: لم يقولوا: إن اللّه يجزيك إن تصدقت علينا، لأنهم لم يعلموا أنه مؤمن. قوله تعالى: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} في سبب قوله لهم هذا، ثلاثة اقوال. احدها: أنه أخرج إليهم نسخة الكتاب الذي كتبوه على أنفسهم ببيعه من مالك بن ذعر، وفي آخر الكتاب: «وكتب يهوذا» فلما قرؤوا الكتاب اعترفوا بصحته وقالوا: هذا كتاب كتبناه على أنفسنا عند بيع عبد كان لنا، فقال يوسف عند ذلك: إنكم تستحقون العقوبة، وأمر بهم ليقتلوا، فقالوا: إن كنت فاعلا، فاذهب بأمتعتنا إلى يعقوب، ثم أقبل يهوذا على بعض إخوته، وقال: قد كان ابونا متصل الحزن لفقد واحد من ولده، فكيف به إذا أخبر بهلكنا أجمعين؟ فرق يوسف عند ذلك وكشف لهم أمره، وقال لهم هذا القول، رواه أبو صالح عن ابن عباس. الثاني: أنهم لما قالوا: «مسنا وأهلنا الضر» أدركته الرحمة، فقال لهم هذا، قاله ابن إسحاق. والثالث: أن يعقوب كتب إليه كتابا: إن رددت ولدي، وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك،فبكى، وقال لهم هذا. وفي «هل» قولان. احدهما: أنها استفهام لتعظيم القصة لا يراد به نفس الاستفهام. قال ابن الأنباري: والمعنى: ما أعظم ما ارتكبتم، وما أسمج ما آثرتم من قطيعة الرحم وتضييع الحق، وهذا مثل قول العربي: أتدري من عصيت؟ هل تعرف من عاديت؟ لا يرد بذلك الاستفهام، ولكن يريد تفظيع الأمر، قال الشاعر: أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي لم يرد الاستفهام، إنما أراد أن هذا غير مرجو عندهم. قال: ويجوز أن يكون المعنى: هل علمتم عقبى ما فعلتم بيوسف وأخيه من تسليم اللّه لهما من المكروه؟ وهذه الآية تصديق قوله: {لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ} والثاني: أن «هل» بمعنى «قد» ذكره بعض أهل التفسير. فان قيل: فالذي فعلوا بيوسف معلوم، فما الذي فعلوا بأخيه، وما سعوا في حبسه ولا أرادوه؟ فالجواب من وجوه. احدها: أنهم فرقوا بينه وبين يوسف، فنغصوا عيشه بذلك. والثاني: أنهم آذوه بعد فقد يوسف. والثالث: أنهم سبوه لما قذف بسرقة الصاع. وفي قوله: {إِذْ أَنتُمْ جَـٰهِلُونَ} أربعة أقوال. احدها: إذ أنتم صبيان، قاله ابن عباس. والثاني: مذنبون، قاله مقاتل. والثالث: جاهلون بعقوق الأب، وقطع الرحم، وموافقة الهوى. والرابع: جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف، ذكرهما ابن الأنباري. قوله تعالى: {أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ} قرأ ابن كثير، وأبو جعفر، وابن محيصن: «إنك» على الخبر، وقرأه آخرون بهمزتين محققتين، وأدخل بعضهم بينهما ألفا. واختلف المفسرون، هل عرفوه، أم شبهوه؟ على قولين. احدهما: أنهم شبهوه بيوسف، قاله ابن عباس في رواية. والثاني: أنهم عرفوه، قاله ابن إسحاق. وفي سبب معرفتهم له ثلاثة أقوال. احدها: أنه تبسم، فشبهوا ثناياه بثنايا يوسف، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: أنه كانت له علامة كالشامة في قرنه، وكان ليعقوب مثلها، ولإسحاق مثلها، ولسارة مثلها، فلما وضع التاج عن رأسه، عرفوه، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: أنه كشف الحجاب، فعرفوه، قاله ابن إسحاق. قوله تعالى: {قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ} قال ابن الأنباري: إنما أظهر الاسم، ولم يقل: أنا هو، تعظيما لما وقع به من ظلم إخوته، فكأنه قال: أنا المظلوم المستحل منه، المراد قتله، فكفى ظهور الاسم من هذه المعاني،ولهذا قال: {وَهَـٰذَا أَخِى} وهم يعرفونه، وإنما قصد: وهذا المظلوم كظلمي. قوله تعالى: {قَدْ مَنَّ ٱللّه عَلَيْنَا} فيه ثلاثة أقوال. احدها: بخير الدنيا والآخرة. والثاني: بالجمع بعد الفرقة. والثالث: بالسلامة ثم بالكرامة. قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} قرأ ابن كثير في رواية قنبل: «من يتقي ويصبر» بياء في الوصل والوقف، وقرأ الباقون بغير ياء الحالين. وفي معنى الكلام أربعة أقوال. احدها: من يتق الزنى ويصبر على البلاء. والثاني: من يتق الزنى ويصبر على العزبة. والثالث: من يتق اللّه ويصبر على المصائب، رويت هذه الأقوال عن ابن عباس. والرابع: يتق معصية اللّه ويصبر على السجن، قاله مجاهد. قوله تعالى: {فَإِنَّ ٱللّه لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْسِنِينَ} أي: أجر من كان هذا حاله. قوله تعالى: {لَقَدْ اثَرَكَ ٱللّه عَلَيْنَا} أي: اختارك وفضلك. وبماذا عنوا أنه فضله فيه؟ أربعة أقوال. احدها: بالملك، قاله الضحاك عن ابن عباس. والثاني: بالصبر، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: بالحلم والصفح عنا، ذكره أبو سليمان الدمشقي. والرابع: بالعلم والعقل والحسن وسائر الفضائل التي أعطاه. قوله تعالى: {وَإِن كُنَّا لَخَـٰطِئِينَ} قال ابن عباس: لمذنبين آثمين في أمرك. قال ابن الأنباري: ولهذا اختير «خاطئين» على «مخطئين» وإن كان «أخطأ» على ألسن الناس أكثر من «خطىء يخطأ» لأن معنى خطىء يخطأ، فهو خاطىء: آثم، ومعنى أخطأ يخطىء، فهو مخطىء: ترك الصواب ولم يأثم، قال الشاعر: عبادك يخطأون وأنت رب بكفيك المنايا والحتوم راد: يأثمون. قال: ويجوز أن يكون آثر «خاطئين» على «مخطئين» لموافقة رؤوس الآيات لأن «خاطئين» أشبه بما قبلها. وذكر الفراء في معنى «إن» قولين. احدهما: وقد كنا خاطئين. والثاني: وما كنا إلا خاطئين. قوله تعالى: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ} قال أبو صالح عن ابن عباس: لا أعيركم بعد اليوم بهذا أبدا. قال ابن الأنباري: إنما أشار إلى ذلك اليوم، لأنه أول أوقات العفو، وسبيل العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة. وقال ثعلب: قد ثرب فلان على فلان: إذا عدد عليه ذنوبه. وقال ابن قتيبة: لا تعيير عليكم بعد هذا اليوم بما صنعتم، وأصل التثريب: الإفساد، يقال: ثرب علينا: إذا أفسد، وفي الحديث: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ولا يثرب» أي: لا يعيرها بالزنى، قال ابن عباس: جعلهم في حل، وسأل اللّه المغفرة لهم. وقال السدي: لما عرفهم نفسه، سألهم عن أبيه، فقالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه، وقال: {ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَـٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا} وهذا القميص كان في قصبة من فضة معلقا في عنق يوسف لما ألقي في الجب، وكان من الجنة، وقد سبق ذكره [يوسف: ١٨/٢٥/ ٢٦/٢٧/٢٨]. قوله تعالى: {يَأْتِ بَصِيرًا} قال أبو عبيدة: يعود مبصرا. فان قيل: من أين قطع على الغيب؟ فالجواب: أن ذلك كان بالوحي إليه، قاله مجاهد. قوله تعالى: {وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} قال الكلبي: كان أهله نحوا من سبعين إنسانا. قوله تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ} أي: خرجت من مصر متوجهة إلى كنعان. وكان الذي حمل القميص يهوذا. قال السدي: قال يهوذا ليوسف: أنا الذي حملت القميص إلى يعقوب بدم كذب فأحزنته، وأنا الآن أحمل قميصك لأسرة، فحمله، قال ابن عباس: فخرج حافيا حاسرا يعدو، ومعه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها. قوله تعالى: {قَالَ لَهُمْ أَبُوهُمْ} يعني يعقوب لمن حضره من أهله وقرابته وولد ولده {إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} ومعنى أجد: أشم، قال الشاعر: وليس صرير النعش ما تسمعونه ولكنها أصلاب قوم تقصف ليس فتيق المسك ما تجدونه ولكنه ذاك الثناء المخلف ان قيل: كيف وجد يعقوب ريحه وهو بمصر، ولم يجد ريحه من الجب وبعد خروجه منه، والمسافة هناك أقرب؟ فعنه جوابان. احدهما: أن اللّه تعالى أخفى أمر يوسف على يعقوب في بداية الأمر لتقع البلية التي يتكامل بها الأجر، وأوجده ريحه من المكان النازح عند تقضي البلاء ومجيء الفرج. والثاني: أن هذا القميص كان في قصبة من فضة معلقا في عنق يوسف على ما سبق بيانه. فلما نشره فاحت روائح الجنان في الدنيا فاتصلت بيعقوب، فعلم أن الرائحة من جهة ذلك القميص. قال مجاهد: هبت ريح فضربت القميص، ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص فمن ثم قال: {إِنّى لاجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}. وقيل: إن ريح الصبا استأذنت ربها في أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل البشير فأذن لها، فلذلك يستروح كل محزون إلى ريح الصبا، ويجد المكروبون لها روحا، وهي ريح لينة تأتي من ناحية المشرق، قال أبو صخر الهذلي: إذا قلت هذا حين اسلو يهيجني نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر ال ابن عباس: وجد ريح قميص يوسف من مسيرة ثمان ليال ثمانين فرسخا. قوله تعالى: {لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ} فيه خمسة أقوال. احدها: تجهلون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثاني: تسفهون، رواه عبد اللّه بن أبي الهذيل عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وقتادة، ومجاهد في رواية. وقال في رواية أخرى: لولا أن تقولوا: ذهب عقلك. والثالث: تكذبون، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، والضحاك. والرابع: تهرمون، قاله الحسن، ومجاهد في رواية. قال ابن فارس: الفند: إنكار العقل من هرم. والخامس: تعجزون، قاله ابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: تسفهون وتعجزون وتلومون، وأنشد: يا صاحبي دعا لومي وتفنيدي فليس ما فات من أمر بمردود قال ابن جرير: وأصل التفنيد: الإفساد، وأقوال المفسرين تتقارب معانيها، وسمعت الشيخ أبا محمد إبن الخشاب يقول: قوله: «لولا أن تفندون» فيه إضمار، تقديره: لأخبرتكم أنه حي. ٩٥ قوله تعالى: {قَالُواْ تَٱللّه إِنَّكَ لَفِى ضَلَـٰلِكَ ٱلْقَدِيمِ} قال ابن عباس: بنو بنيه خاطبوه بهذا، وكذلك قال السدي: هذا قول بني بنيه، لأن بنيه كانوا بمصر. وفي معنى هذا الضلال ثلاثة أقوال. احدها: أنه بمعنى الخطأ، قاله ابن عباس، وابن زيد. والثاني: أنه الجنون، قاله سعيد بن جبير. والثالث: الشقاء والعناء، قاله مقاتل، يريد بذلك شقاء الدنيا. ٩٦ انظر تفسير الآية:٩٨ ٩٧ انظر تفسير الآية:٩٨ ٩٨ قوله تعالى: {فَلَمَّا أَن جَاء ٱلْبَشِيرُ} فيه قولان. احدهما: أنه يهوذا، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال وهب بن منبه، والسدي، والجمهور. والثاني: أنه شمعون، قاله الضحاك. فان قيل: ما الفرق بين قوله هاهنا: {فَلَمَّا أَن جَاء} وقال في موضع: {فَلَمَّا جَاءهُم} [البقرة: ٨٩]. فالجواب: أنهما لغتان لقريش خاطبهم اللّه بهما جميعا، فدخول «أن» لتوكيد مضي الفعل، وسقوطها للاعتماد على إيضاح الماضي بنفسه، ذكره ابن الأنباري. قوله تعالى: {أَلْقَاهُ} يعني القميص {عَلَىٰ وَجْهِهِ} يعني يعقوب {فَٱرْتَدَّ بَصِيرًا}، الارتداد: رجوع الشيء إلى حال قد كان عليها. قال ابن الأنباري: إنما قال: ارتد، ولم يقل: رد، لأن هذا من الأفعال المنسوبة إلى المفعولين، كقولهم: طالت النخلة، واللّه أطالها، وتحركت الشجرة، واللّه حركها. قال الضحاك: رجع إليه بصره بعد العمى، وقوته بعد الضعف، وشبابه بعد الهرم، وسروره بعد الحزن. وروى يحيى بن يمان عن سفيان قال: لما جاء البشير يعقوب، قال: على أي دين تركت يوسف؟ قال: على الإسلام، قال: الآن تمت النعمة. قوله تعالى: {ألم أقل لكم إني أعلم من اللّه مالا تعلمون} فيه أقوال قد سبق ذكرها قبل هذا بقليل. قوله تعالى: {قَالُواْ يأَبَانَا ٱسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} سألوه يستغفر لهم ما أتوا، لأنه نبي مجاب الدعوة. {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى} في سبب تأخيره لذلك ثلاثة أقوال. احدهما: أنه أخرهم لانتظار الوقت الذي هو مظنة الإجابة، ثم فيه ثلاثة أقوال. احدها: أنه أخرهم إلى ليلة الجمعة، رواه ابن عباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال وهب: كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. والثاني: إلى وقت السحر من ليلة الجمعة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال طاووس: فوافق ذلك ليلة عاشوراء. والثالث: إلى وقت السحر، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، وابن عمر، وقتادة، والسدي، ومقاتل. قال الزجاج: إنماأراد الوقت الذي هو أخلق لإجابة الدعاء، لا أنه ضن عليهم بالاستغفار، وهذا أشبه بأخلاق الأنبياء عليهم السلام. والقول الثاني: أنه دفعهم عن التعجيل بالوعد. قال عطاء الخراساني: طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ، ألا ترى إلى قول يوسف: «لا تثريب عليكم اليوم» وإلى قول يعقوب: «سوف أستغفر لكم ربي» والثالث: أنه أخرهم ليسأل يوسف، فإن عفا عنهم، استغفر لهم، قاله الشعبي. وروي عن أنس بن مالك أنهم قالوا: يا أبانا إن عفا اللّه عنا، وإلا فلا قرة عين لنا في الدنيا، فدعا يعقوب وأمن يوسف، فلم يجب فيهم عشرين سنة، ثم جاء جبريل فقال: إن اللّه قد أجاب دعوتك في ولدك، وعفا عما صنعوا به، واعتقد مواثيقهم من بعد على النبوة. قال المفسرون: وكان يوسف قد بعث مع البشير إلى يعقوب جهازا ومائتي راحلة، وسأله أن يأتيه بأهله وولده. فلما ارتحل يعقوب ودنا من مصر، استأذن يوسف الملك الذي فوقه في تلقي يعقوب، فأذن له، وأمر الملأ من أصحابه بالركوب معه، فخرج في أربعة آلاف من الجند، وخرج معهم أهل مصر. وقيل: إن الملك خرج معهم أيضا. فلما التقى يعقوب ويوسف، بكيا جميعا، فقال يوسف: يا أبت بكيت علي حتى ذهب بصرك، أما علمت أن القيامة تجمعني وإياك؟ قال: أي بني، خشيت أن تسلب دينك فلا نجتمع. وقيل: إن يعقوب ابتدأه بالسلام، فقال السلام عليكم يا مذهب الأحزان. ٩٩ قوله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ} يعني: يعقوب وولده. وفي هذا الدخول قولان. احدهما: أنه دخول أرض مصر، ثم قال لهم: {ٱدْخُلُواْ مِصْرَ} يعني البلد. والثاني: أنه دخول مصر، ثم قال لهم: «ادخلوا مصر» أي: استوطنوها. وفي قوله: {إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ} قولان. احدهما: أبوه وخالته، لأن أمه كانت قد ماتت، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني: أبوه وأمه، قاله الحسن، وابن إسحاق. وفي قوله: {إِن شَاء ٱللّه ءامِنِينَ} أربعة أقوال. احدها: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، فالمعنى: سوف أستغفر لكم ربي إن شاء اللّه، إنه هو الغفور الرحيم، هذا قول ابن جريج. والثاني: أن الاستثناء يعود إلى الأمن. ثم فيه قولان. احدهما: أنه لم يثق بانصراف الحوادث عنهم. والثاني: أن الناس كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر، فلا يدخلون إلا بجوارهم. والثالث: أنه يعود إلى دخول مصر، لأنه قال لهم هذا حين تلقاهم قبل دخولهم، على ما سبق بيانه. والرابع: أن «إن» بمعنى: «إذ» كقوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور: ٣٣] قال ابن عباس: دخلوا مصر يومئذ وهم نيف وسبعون من ذكر وأنثى، وقال ابن مسعود: دخلوا وهم ثلاثة وتسعون، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا. ١٠٠ انظر تفسير الآية:١٠١ ١٠١ قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ} في «أبويه» قولان قد تقدما في الآية التي قبلها. والعرش هاهنا: سرير المملكة، أجلس أبويه عليه {وَخَرُّواْ لَهُ} يعني: أبويه وإخوته. وفي هاء «له» قولان. احدهما: أنها ترجع إلى يوسف، قاله الجمهور. قال أبو صالح عن ابن عباس: كان سجودهم كهيأة الركوع كما يفعل الأعاجم. وقال الحسن: أمرهم اللّه بالسجود لتأويل الرؤيا. قال ابن الأنباري: سجدوا له على جهة التحية، لا على معنى العبادة، وكان أهل ذلك الدهر يحيى بعضهم بعضا بالسجود والانحناء، فحظره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فروى، أنس بن مالك قال: «قال رجل: يا رسول اللّه أحدنا يلقى صديقه اينحني له قال لا». والثاني: أنها ترجع إلى اللّه، فالمعنى: وخروا للّه سجدا، رواه عطاء، والضحاك عن ابن عباس، فيكون المعنى: أنهم سجدوا شكرا للّه إذ جمع بينهم وبين يوسف. قوله تعالى: {هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَـٰى} اي: تصديق ما رأيت، وكان قد رآهم في المنام يسجدون له، فأراه اللّه ذلك في اليقظة. واختلفوا فيما بين رؤياه وتأويلها على سبعة أقوال. احدها: أربعون سنة، قاله سلمان الفارسي، وعبد اللّه بن شداد بن الهاد، ومقاتل. والثاني: اثنتان وعشرون سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: ثمانون سنة، قاله الحسن، والفضيل بن عياض. والرابع: ست وثلاثون سنة، قاله سعيد بن جبير، وعكرمة، والسدي. والخامس: خمس وثلاثون سنة، قاله قتادة. والسادس: سبعون سنة، قاله عبد اللّه بن شوذب. السابع: ثماني عشرة سنة، قاله ابن إسحاق. قوله تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بَى} أي: إلي. والبدو: البسط من الأرض. وقال ابن عباس: البدو: البادية، وكانوا أهل عمود وماشية. قوله تعالى: {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَـٰنُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى} أي: أفسد بيننا: قال أبو عبيدة: يقال: نزغ بينهم ينزغ، أي: أفسد وهيج، وبعضهم يكسر زاي ينزغ. {إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء} أي: عالم بدقائق الأمور. وقد شرحنا معنى «اللطيف» في [الأنعام: ١٠٢]. فان قيل: قد توالت على يوسف نعم خمسة، فما اقتصاره على ذكر السجن، وهلا ذكرالجب، وهو أصعب. فالجواب من وجوه. احدها: أنه ترك ذكر الجب تكرما، لئلا يذكر إخوته صنيعهم، وقد قال: «لا تثريب عليكم اليوم». والثاني: أنه خرج من الجب إلى الرق، ومن السجن إلى الملك، فكانت هذه النعمة أوفى. والثالث: أن طول لبثه في السجن كان عقوبة له، بخلاف الجب، فشكر اللّه على عفوه.قال العلماء بالسير: أقام يعقوب بعد قدومه مصر أربعا وعشرين سنة. وقال بعضهم: سبع عشرة سنة في أهنأ عيش، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى يوسف أن يحمل إلى الشام حتى يدفنه عند أبيه إسحاق، ففعل به ذلك، وكان عمره مائة وسبعا وأربعين سنة، ثم إن يوسف تاق إلى الجنة، وعلم أن الدنيا لا تدوم فتمنى الموت، قال ابن عباس، وقتادة: ولم يتمن الموت نبي قبله، فقال: {رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ ٱلْمُلْكِ} يعني: ملك مصر {وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ ٱلاْحَادِيثِ} وقد سبق تفسيرها [يوسف: ٦]. وفي «من» قولان. احدهما: أنها صلة، قاله مقاتل. والثاني: أنها للتبعيض، لأنه لم يؤت كل الملك، ولا كل تأويل الأحاديث. قوله تعالى: {فَاطِرَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ} قد شرحناه في [الأنعام: ٦] {رَبّ قَدْ} أي: الذي تلي أمري. توفني مسلما قال ابن عباس: يريد: لا تسلبني الإسلام حتى تتوفاني عليه. وكان ابن عقيل يقول: لم يتمن يوسف الموت، وإنما سأل أن يموت على صفة. والمعنى: توفني إذا توفيتني مسلما، قال الشيخ: وهذا الصحيح. قوله تعالى: {وَأَلْحِقْنِى بِٱلصَّـٰلِحِينَ} والمعنى: ألحقني بدرجاتهم، وفيهم قولان. احدهما: أنهم أهل الجنة، قاله عكرمة. والثاني: آباؤه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، قاله الضحاك: قالوا: فلما احتضر يوسف، أوصى إلى يهوذا، ومات، فتشاح الناس في دفنه، كل يحب أن يعرفن في محلته رجاء البركة، فاجتمعوا على دفنه في النيل ليمر الماء عليه ويصل إلى الجميع،فدفنوه في صندوق من رخام، فكان هنالك إلى أن حمله موسى حين خرج من مصر ودفنه بأرض كنعان. قال الحسن: مات يوسف وهو ابن مائة وعشرين سنة. وذكر مقاتل أنه مات بعد يعقوب بسنتين. ١٠٢ قوله تعالى: {ذٰلِكَ مِنْ أَنبَاء ٱلْغَيْبِ} أي: ذلك الذي قصصنا عليك من أمر يوسف وإخوته من الأخبار التي كانت غائبة عنك، فأنزله اللّه عليك دليلا على نبوتك. {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي: عند إخوة يوسف {إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ} أي: عزموا على إلقائه في الجب {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} بيوسف، وفي هذا احتجاج على صحة نبوة نبينا صلى اللّه عليه وسلم، لأنه لم يشاهد تلك القصة، ولا كان يقرأ الكتاب، وقد أخبر عنها بهذا الكلام المعجز، فدل على أنه أخبر بوحي. ١٠٣ انظر تفسير الآية:١٠٤ ١٠٤ قوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} قال ابن الأنباري: إن قريشا واليهود سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قصة يوسف وإخوته، فشرحها شرحا شافيا، وهو يؤمل ان يكون ذلك سبا لإسلامهم، فخالفوا ظنه، فحزن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فعزاه اللّه تعالى بهذه الآية. قال الزجاج: ومعناها: وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على أن تهديهم. {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ} أي: على القرآن وتلاوته وهدايتك {عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ} أي: ما هو إلا تذكرة لهم لما فيه صلاحهم ونجاتهم. ١٠٥ قوله تعالى: {وَكَأَيّن} أي: وكم {مّنْ ءايَةٍ} أي: علامة ودلالة تدلهم. على توحيد اللّه، من أمر السموات والأرض. {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} أي: يتجاوزونها غير متفكرين ولا معتبرين. ١٠٦ قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللّه إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} فيهم ثلاثة أقوال. احدها: أنهم المشركون، ثم في معناها المتعلق بهم قولان. احدهما: أنهم يؤمنون بأن اللّه خالقهم ورازقهم وهم يشركون به، رواه أبوصالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، والشعبي، وقتادة. والثاني: أنها نزلت في تلبية مشركي العرب، كانوا يقولون: لبيك اللّهم لبيك لبيك، لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: انهم النصارى، يؤمنون بأنه خالقهم ورازقهم، ومع ذلك يشركون به، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنهم المنافقون، يومنون في الظاهر رئاء الناس، وهم في الباطن كافرون، قاله الحسن. فان قيل: كيف وصف المشرك بالإيمان؟ فالجواب: أنه ليس المراد به حقيقة الإيمان، وإنما المعنى: أن أكثرهم، مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم مشركون. ١٠٧ قوله تعالى: {أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ ٱللّه} قال ابن قتيبة: الغاشية: المجللة تغشاهم. وقال الزجاج: المعنى: يأتيهم ما يغمرهم من العذاب. والبغتة: الفجأة من حيث لم تتوقع. ١٠٨ قوله تعالى: {قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِى} المعنى: قل يا محمد للمشركين: هذه الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها، سبيلي، أي: سنتي ومنهاجي. والسبيل تذكر وتؤنث، وقد ذكرنا ذلك في [آل عمران: ١٩٥]. {ٱدْعُواْ إِلَىٰ ٱللّه عَلَىٰ بَصِيرَةٍ} أي: على يقين. قال ابن الأنباري: وكل مسلم لا يخلو من الدعاء إلى اللّه عز وجل، لأنه إذا تلا القرآن، فقد دعا إلى اللّه بما فيه. ويجوز أن يتم الكلام عند قوله: {إِلَى ٱللّه} ثم ابتدأ فقال: {عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى} قوله تعالى: {وَسُبْحَـٰنَ ٱللّه} المعنى: وقل سبحان اللّه تنزيها له عما أشركوا. ١٠٩ قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} هذا نزل من أجل قولهم: هلا بعث اللّه ملكا، فالمعنى: كيف تعجبوا من إرسالنا إياك، وسائر الرسل كانوا على مثل حالك {يُوحَى إِلَيْهِمُ}؟ وقرأ حفص عن عاصم: «نوحي» بالنون. والمراد بالقرى: المدائن. وقال الحسن: لم يبعث اللّه نبيا من أهل البادية، ولا من الجن، ولا من النساء، قال قتادة: لأن أهل القرى أعلم وأحلم من اهل العمود. قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى ٱلاْرْضِ} يعني: المشركين المنكرين نبوتك {فَيَنظُرُواْ} إلى مصارع الأمم المكذبة فيعتبروا بذلك. {وَلَدَارُ ٱلاْخِرَةِ} يعني: الجنة {خَيْرٌ} من الدنيا {لّلَّذِينَ ٱتَّقَواْ} الشرك. قال الفراء: أضيفت الدار إلى الآخرة، وهي الآخرة، لأن العرب قد تضيف الشيء إلى نفسه إذا اختلف لفظه، كقوله: {لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ} [الواقعة: ٩٦] والحق: هو اليقين، وقولهم: أتيتك عام الأول، ويوم الخميس. قوله تعالى: {أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} قرأ أهل المدينة، وابن عامر، وحفص، والمفضل، ويعقوب: «تعقلون» بالتاء، وقرأ الآخرون بالياء، والمعنى: أفلا يعقلون هذا فيؤمنوا. ١١٠ قوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْـئَسَ ٱلرُّسُلُ} المعنى متعلق بالآية الأولى، فتقديره: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا، فدعوا قومهم، فكذبوهم، وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس الرسل، وفيه قولان. احدهما: استيأسوا من تصديق قومهم، قاله ابن عباس. والثاني: من أن نعذب قومهم، قاله مجاهد. {وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «كذبوا» مشددة الذال مضمومة الكاف، والمعنى: وتيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم، فيكون الظن هاهنا بمعنى اليقين، هذا قول الحسن، وعطاء، وقتادة. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «كذبوا» خفيفة، والمعنى: ظن قومهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا به من النصر، لأن الرسل لا يظنون ذلك. وقرأ أبو رزين، ومجاهد، والضحاك: «كذبوا» بفتح الكاف والذال خفيفة، والمعنى: ظن قومهم أيضا أنهم قد كذبوا، قاله الزجاج. قوله تعالى: {جَاءهُمْ نَصْرُنَا} يعني: الرسل {دَرَجَـٰتٍ مَّن نَّشَاء} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «فننجي» بنونين، الأولى مضمومة والثانية ساكنة والياء ساكنة. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر، وحفص، جميعا عن عاصم، ويعقوب: «فنجي» مشدده الجيم مفتوحة الياء بنون واحدة، يعني: المؤمنين، نجوا عند نزول العذاب. ١١١ قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ} اي: في خبر يوسف وإخوته. وروى عبد الوارث كسر القاف، وهي قراءة قتادة، وأبي الجوزاء. {عِبْرَةٌ} أي: عظة {لاِوْلِى ٱلاْلْبَـٰبِ} أي: لذوي العقول السليمة، وذلك من وجهين. احدهما: ما جرى ليوسف من إعزازه وتمليكه بعد استعباده، فإن من فعل ذلك به، قادر على إعزاز محمد صلى اللّه عليه وسلم وتعلية كلمته. والثاني: أن من تفكر، علم أن محمدا صلى اللّه عليه وسلم، مع كونه أميا، لم يأت بهذه القصة على موافقة ما في التوراة من قبل نفسه، فاستدل بذلك على صحة نبوته. قوله تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ} في المشار إليه قولان. احدهما: أنه القرآن، قاله قتادة. والثاني: ما تقدم من القصص، قاله ابن إسحاق، فعلى القول الأول، يكون معنى قوله: {وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ}: ولكن كان تصديقا لما بين يديه من الكتب {وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء} يحتاج إليه من أمور الدين {وَهَدَىٰ} بيانا ورحمة لقوم يؤمنون أي يصدقون بما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم. وعلى القول الثاني: وتفصيل كل شيء من نبأ يوسف وإخوته. |
﴿ ٠ ﴾