٣٤ قوله تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لاْزْوٰجِكَ} الآية، ذكر أهل التفسير أن أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم سألنه شيئا من عرض الدنيا، وطلبن منه زيادة النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فآلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منهن شهرا وصعد إلى غرفة له فمكث فيها، فنزلت هذه الآية، وكن أزواجه يومئذ تسعا. عائشة وحفصة وام حبيبة وسودة وام سلمة وصفية الخيبرية وميمونة الهلالية وزينب بنت جحش وجويرية بنت الحارث، فنزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعرض الآية عليهن، فبدأ بعائشة فاختارت اللّه ورسوله، ثم قالت يا رسول اللّه لا تخبر أزواجك أني اخترتك، فقال: «إن اللّه بعثني مبلغا ولم يبعثني متعنتا». وقد ذكرت حديث التخيير في كتاب الحدائق وفي المغنى بطوله، وفي ما خيرهن فيه قولان. احدهما: أنه خيرهن بين الطلاق والمقام معه، هذا قول عائشة عليها السلام. والثاني: أنه خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن، أو اختيار الآخرة فيمسكهن، ولم يخيرهن في الطلاق. قاله الحسن وقتادة. وفي سبب تخييره إياهن ثلاثة أقوال. احدها: أنهن سألنه زيادة النفقة. والثاني: أنهن آذينه بالغيرة، والقولان مشهوران في التفسير. والثالث: أنه لما خير بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة فاختار الآخرة، أمر بتخيير نسائه ليكن على مثل حاله، حكاه أبو القاسم الصيمري. والمراد بقوله: {أُمَتّعْكُنَّ}: متعة الطلاق، والمراد بالسراح: الطلاق وقد ذكرنا ذلك في [البقرة: ٢٣١] والمراد بالدار الآخرة: الجنة. والمحسنات المؤثرات للآخرة. قال المفسرون: فلما اخترنه، أثابهن اللّه عز وجل ثلاثة أشياء. احدها: التفضيل على سائر النساء بقوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ ٱلنّسَاء}. والثاني: أن جعلهن امهات المؤمنين. والثالث: أن حظر عليه طلاقهن والاستبدال بهن بقوله: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ ٱلنّسَاء مِن بَعْدُ} [الأحزاب: ٥٢] وهل أبيح له بعد ذلك التزويج عليهن؟ فيه قولان سيأتي ذكرهما إن شاء اللّه تعالى. قوله تعالى: {مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَـٰحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} أي: بمعصية ظاهرة قال ابن عباس: يعني النشوز وسوء الخلق {يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} أي: يجعل عذاب جرمها في الآخرة كعذاب جرمين، كما أنها تؤتى أجرها على الطاعة مرتين. وإنما ضوعف عقابهن لأنهن يشاهدن من الزواجر الرادعة مالا يشاهد غيرهن، فاذا لم يمتنعن استحققن تضعيف العذاب، ولان في معصيتهن أذى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وجرم من آذى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أكبر من جرم غيره. قوله تعالى: {وَكَانَ ذٰلِكَ عَلَى ٱللّه يَسِيراً} أي: وكان عذابها على اللّه هينا. {وَمَن يَقْنُتْ} أي: تطع {وَأَعْتَدْنَا} قد سبق بيانه [النساء: ٣٧] والرزق الكريم: الحسن، وهو الجنة. ثم اظهر فضيلتهن على النساء بقوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ ٱلنّسَاء} قال الزجاج: لم يقل كواحدة من النساء، لان أحدا نفي عام للمذكر والمؤنث والواحد والجماعة. قال ابن عباس: يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم {إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ} فشرط عليهن التقوى بيانا ان فضيلتهن إنما تكون بالتقوى، لا بنفس اتصالهن برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قوله تعالى: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ} أي لا تلن بالكلام {فَيَطْمَعَ ٱلَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي:فجور والمعنى: لا تقلن قولا يجد به منافق أو فاجر سبيلا إلى موافقتكن له، والمرأة مندوبة إذا خاطبت الأجانب إلى الغلظة في المقالة، لأن ذلك أبعد من الطمع في الريبة. {وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} أي: صحيحا عفيفا لا يطمع فاجرا. {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ} قرأ نافع وعاصم إلا أبان وهبيرة والوليد بن مسلم عن ابن عامر {وَقَرْنَ} بفتح القاف. وقرأ الباقون بكسرها. قال الفراء: من قرأ بالفتح فهو من قررت في المكان، فخففت، كما قال: {ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} [طه: ٩٧] ومن قرأ بالكسر فمن الوقار يقال: قِرْ في منزلك، وقال ابن قتيبة: من قرأ بالكسر فهو من الوقار يقال: وقر في منزله يقِر وقورا، ومن قرأ بنصب القاف جعله من القرار. وقرأ أبي بن كعب وأبو المتوكل {واقَرْرن} باسكان القاف وبراءين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة. وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة مثله إلا أنهما كسرا الراء الأولى. قال المفسرون: ومعنى الآية الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن، وان لا يخرجن. قوله تعالى: {بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ} قال ابو عبيدة: التبرج أن يبرزن محاسنهن. وقال الزجاج: التبرج إظهار الزينة وما يستدعى به شهوة الرجل. وفي الجاهلية الأولى أربعة اقوال. احدها: أنها كانت بين إدريس ونوح، وكانت ألف سنة رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أنها كانت على عهد إبراهيم عليه السلام، وهو قول عائشة رضي اللّه عنها. والثالث: بين نوح وآدم قاله الحكم. والرابع: ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام، قاله الشعبي. قال الزجاج: وإنما قيل الأولى لأن كل متقدم أول، وكل متقدمة أولى، فتأويله: أنهم تقدموا أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم. وفي صفة تبرج الجاهلية الأولى ستة أقوال. احدها: أن المرأة كانت تخرج فتمشي بين الرجال، فهو التبرج، قاله مجاهد. والثاني: أنها مشية فيها تكسر وتغنج، قاله قتادة. والثالث: أنه التبختر، قاله أبن أبي نجيح. والرابع: أن المرأة منهن كانت تتخذ الدرع من اللؤلؤ، فتلبسه ثم تمشي وسط الطريق، ليس عليها غيره، وذلك في زمن إبراهيم عليه السلام، قاله الكلبي. والخامس: أنها كانت تلقي عن رأسها ولا تشده فيرى قرطها وقلائدها، قاله مقاتل. زالسادس: أنها كانت تلبس الثياب تبلغ المال، لا تواري جسدها حكاه الفراء. قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللّه لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرّجْسَ} وفيه للمفسرين خمسة أقوال. احدها: الشرك، قاله الحسن. والثاني: الإثم، قاله السدي. والثالث: الشيطان، قاله ابن زيد. والرابع: الشك. والخامس: المعاصي، حكاهما الماوردي. قال الزجاج: الرجس كل مستقذر من مأكول أو عمل أو فاحشة. ونصب {أَهْلَ ٱلْبَيْتِ} على وجهين. احدهما: على معنى أعني أهل البيت. والثاني: على النداء فالمعنى يا أهل البيت. وفي المراد بأهل البيت ها هنا ثلاثة اقوال. احدها: أنهم نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، لأنهن في بيته، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وبه قال عكرمة وابن السائب ومقاتل. ويؤكذ هذا القول أن ما قبله وبعده متعلق بأزواج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وعلى أرباب هذا القول اعتراض، وهو ان جمع المؤنث بالنون فكيف قيل {عَنْكُمْ وَيُطَهّرَكُمْ} فالجواب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيهن فغلب المذكر. والثاني: أنه خاص في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين، قاله ابو سعيد الخدري، وروي عن أنس وعائشة وأم سلمة نحو ذلك. والثالث: أنهم أهل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأزواجه، قاله الضحاك. وحكى الزجاج: أنهم نساء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والرجال الذين هم آله، قال: واللغة تدل على انها للنساء والرجال جميعا لقوله عنكم بالميم، ولو كانت للنساء لم يجز إلا عنكن ويطهركن. قوله تعالى: ويطهركم تطهيرا فيه ثلاثة أقوال. احدها: من الشرك، قاله مجاهد. والثاني: من السوء، قاله قتادة. والثالث: من الإثم، قاله السدي ومقاتل. قوله تعالى: {وَٱذْكُـرْنَ} فيه قولان. احدهما: أنه تذكيرلهن بالنعم. والثاني: أنه أمر لهن بحفظ ذلك، فمعنى {وَٱذْكُـرْنَ}: {وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِى بُيُوتِكُـنَّ مِنْ ءايَـٰتِ ٱللّه} يعني القرآن. وفي الحكمة قولان. احدهما: أنها السنة، قاله قتادة. والثاني: الامر والنهي، قاله مقاتل. قوله تعالى: {إِنَّ ٱللّه كَانَ لَطِيفاً} أي: ذا لطف بكن، إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آياته {خَبِيراً} بكن إذ اختاركن لرسوله. |
﴿ ٣٤ ﴾