سُورَةُ ”الْمُنَافِقُونَ“ مَدَنِيَّةٌ وَهِيَ إِحْدَى عَشَرَةَ آيَةً سورة المنافقون وهي مدنية بإجماعهم وذكر أهل التفسير أنها نزلت في عبد اللّه بن أبي ونظرائه. وكان السبب أن عبد اللّه خرج مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في خلق كثير من المنافقين إلى المريسيع، وهو ماء لبني المصطلق طلبا للغنيمة، لا للرغبة في الجهاد، لأن السفر قريب. فلما قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غزوه، أقبل رجل من جهينة، يقال له: سنان، وهو حليف لعبد اللّه بن أبي، ورجل من بني غفار يقال له: جهجاه بن سعيد، وهو أجير لعمر بن الخطاب لاستقاء الماء، فدار بينهما كلام، فرفع الغفاري يده فلطم الجهني، فأدماه، فنادى الجهني، يا آل الخزرج، فأقبلوا، ونادى الغفاري: يا آل قريش، فأقبلوا، فأصلح الأمر قوم من المهاجرين. فبلغ الخبر عبد اللّه ابن أبي، فقال وعنده جماعة من المنافقين: واللّه ما مثلكم ومثل هؤلاء الرهط من قريش إلا مثل ما قال الأول: سَمِّنْ كلبكَ يأكُلْكَ ولكن هذا فعلكم بأنفسكم، آويتموهم في منازلكم، وأنفقتم عليهم أموالكم، فقووا وضعفتم. وايم اللّه: لو أمسكتم أيديكم لتفرقت عن هذا جموعه، ولئن ردجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، وكان في القوم زيد بن أرقم، وهو غلام يومئذ لا يؤبه له، فقال لعبد اللّه: أنت واللّه الذليل القليل، فقال: إنما كنت ألعب، فأقبل زيد بالخبر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: دعني أضرب عنقه. فقال: إذن ترعد له آنف كبيرة، قال: فإن كرهت أن يقتله رجل من المهاجرين، فمر سعد بن عبادة، أو محمد بن مسلمة، أو عباد بن بشر فليقتله، فقال: إذن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، فأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى عبد اللّه بن أبي، فأتاه، فقال: أنت صاحب هذا الكلام؟ فقال: والذي أنزل عليك ما قلت شيئا من هذا، وإن زيدا لكذاب، فقال من حضر: لا يصدق عليه كلام غلام، عسى أن يكون قد وهم، فعذره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وفشت الملامة من الأنصار لزيد، وكذبوه، وقال له عمه: ما أردت إلا أن كذبك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمون، ومقتوكٰ فاستحيا زيد، وجلس في بيته. فبلغ عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي ما كان من أمر أبيه، فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: بلغني أنك تريد قتل عبد اللّه بن أبي، لما بلغك عنه. فإن كنت فاعلا فمرني، فأنا أحمل إليك رأسه، فإني أخشى أن يقتله غيري، فلا تدعني نفسي حتى أقتل قاتله، فأدخل النار، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «بل تحسن صحبته ما بقي معنا»، وأنزل اللّه سورة {ٱلْمُنَـٰفِقِينَ} في تصديق زيد، وتكذيب عبد اللّه، فأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقرأها عليه، فقال: إن اللّه قد صدقك. ولما أراد عبد اللّه بن أبي أن يدخل المدينة جاء ابنه، فقال: ما وراءك، قال: مالك ويلك؟ قال: واللّه لا تدخلها أبدا إلا بإذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليعلم اليوم من الأعز، ومن الأذل، فشكا عبد اللّه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما صنع، فأرسل إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن خل عنه حتى يدخل، فلما نزلت السورة وبان كذبه قيل له: يا أبا حباب: إنه قد نزلت فيك آيات شداد فاذهب إلى رسول اللّه ليستغفر لك، فلوى به رأسه، فذلك قوله تعالى: {لَوَّوْاْ * رُؤُوسَهُمْ} وقيل: الذي قال له هذا عبادة بن الصامت. بسم اللّه الرحمن الرحيم _________________________________ ١ انظر تفسير الآية:٤ ٢ انظر تفسير الآية:٤ ٣ انظر تفسير الآية:٤ ٤ قوله تعالى: {إِذَا جَاءكَ ٱلْمُنَـٰفِقُونَ} يعني: عبد اللّه بن أبي وأصحابه {قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللّه} وها هنا تم الخبر عنهم. ثم ابتدأ فقال تعالى: {وَٱللّه يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللّه يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَـٰذِبُونَ} وإنما جعلهم كاذبين، لأنهم أضمروا غير ما أظهروا. قال الفراء: إنما كذب ضميرهم. {ٱتَّخَذْواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللّه} قد ذكرناه في {المجادلة: ١٦} قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على أن قول القائل: «أشهد» يمين، لأنهم قالوا: «نشهد» فجعله يمينا بقوله تعالى: {يَعْمَلُونَ ٱتَّخَذْواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً} وقد قال أحمد، والأوزاعي، والثوري، وأبو حنيفة: أشهد، وأقسم، وأعزم، وأحلف، كلها أيمان. وقال الشافعي: «أقسم» ليس بيمين. وإنما قوله: «أقسم باللّه» يمين إذا أراد اليمين. قوله تعالى: {ذٰلِكَ} أي: ذلك الكذب {بِأَنَّهُمْ ءامَنُواّ} باللسان {ثُمَّ كَفَرُواْ} في السر {فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} الإيمان والقرآن {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَـٰمُهُمْ} يعني: أن لهم أجساما ومناظر. قال ابن عباس: كان عبد اللّه بن أبي جسيما فصيحا، ذلق اللسان، فإذا قال، سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم قوله. وقال غيره: المعنى: تصغي إلى قولهم، فتحسب أنه حق {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة: «خشب» بضم الخاء، والشين جميعا، وهو جمع خشبة. مثل ثمرة، وثمر. وقرأ الكسائي: بضم الخاء، وتسكين الشين، مثل: بدنة، وبدن، وأكمة، وأكم. وعن ابن كثير، وأبي عمرو، مثله. وقرأ أبو بكر الصديق، وعروة، وابن سيرين: «خشب» بفتح الخاء، والشين جميعا. وقرأ أبو نهيك، وأبو المتوكل، وأبو عمران بفتح الخاء، وتسكين الشين، فوصفهم اللّه بحسن الصورة، وإبانة المنطق، ثم أعلم أنهم في ترك التفهم والاستبصار بمنزلة الخشب. والمسندة: الممالة إلى الجدار. والمراد: أنها ليست بأشجار تثمر وتنمي، بل خشب مسندة إلى حائط. ثم عابهم بالجبن فقال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي: لا يسمعون صوتا إلا ظنوا أنهم قد أتوا لما في قلوبهم من الرعب أن يكشف اللّه أسرارهم، وهذه مبالغة في الجبن. وانشدوا في هذا المعنى: ولو أنها عصفورة لحسبتها مسومة تدعو عبيدا وأزنما أي: لو طارت عصفورة لحسبتها من جبنك خيلا تدعو هاتين القبلتين. قوله تعالى: {هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ} أي: لا تأمنهم على سرك، لأنهم عيون لأعدائك من الكفار {قَـٰتَلَهُمُ ٱللّه أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} مفسر في {بَرَاءةٌ}. ٥ انظر تفسير الآية:٨ ٦ انظر تفسير الآية:٨ ٧ انظر تفسير الآية:٨ ٨ قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ ٱللّه} قد بينا سببه في نزول الصورة {لَوَّوْاْ * رُؤُوسَهُمْ} وقرأ نافع، والمفضل عن عاصم، ويعقوب: «لووا» بالتخفيف. واختار أبو عبيدة التشديد. وقال: لأنهم فعلوا ذلك مرة بعد مرة. قال مجاهد: لما قيل لعبد اللّه بن أبي: تعال يستغفر لك رسول اللّه لوى رأسه، قال: ماذا قلت؟ وقال مقاتل: عطفوا رؤوسهم رغبة عن الاستغفار. وقال الفراء: حركوها استهزاء بالنبي وبدعائه. قوله تعالى: {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} أي: يعرضون عن الاستغفار. {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} أي: متكبرون عن ذلك. ثم ذكر أن استغفاره لهم لا ينفعهم. بقوله تعالى: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} وقرأ أبو جعفر: {أَسْتَغْفَرْتَ} بالمد. قوله تعالى: {هُمُ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ ٱللّه} قد بينا أنه قول ابن أبي. و{يَنفَضُّواْ} بمعنى: يتفرقوا {وَللّه خَزَائِنُ * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضَ} قال المفسرون: خزائن السموات: المطر، وخزائن الأرض: النبات. والمعنى: أنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين، لا أولئك، {وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ} أي: لا يعلمون أن اللّه رازقهم في حال إنفاق هؤلاء عليهم {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا} من هذه الغزوة. وقد تقدم ذكرها وهذا قول ابن أبي {لَيُخْرِجَنَّ ٱلاْعَزُّ} يعني: نفسه، وعنى بـ{ٱلاْذَلَّ} رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقرأ الحسن: «لنخرجن» بالنون مضمومة وكسر الراء «الأعز» بنصب الزاي والأذل منصوب على الحال بناء على جواز تعريف الحال، أو زيادة «أل» فيه، أو بتقدير «مثل» المعنى: لنخرجنه ذليلا على أي حال ذل. والكل نصبوا «الأذل» فرد اللّه عز وجل عليه فقال: {وَللّه ٱلْعِزَّةُ} وهي: المنعة والقوة {وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} بإعزاز اللّه ونصره إياهم {وَلَـٰكِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} ذلك. ٩ انظر تفسير الآية:١١ ١٠ انظر تفسير الآية:١١ ١١ قوله تعالى: {لاَ تُلْهِكُمْ} أي: لا تشغلكم. وفي المراد بذكر اللّه ها هنا أربعة أقوال: أحدها: طاعة اللّه في الجهاد، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: الصلاة المكتوبة، قاله عطاء، ومقاتل. والثالث: الفرائض من الصلاة، وغيرها، قاله الضحاك. والرابع: أنه على إطلاقه. قال الزجاج: حضهم بهذا على إدامة الذكر. قوله تعالى: و{أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـٰكُم} في هذه النفقة ثلاثة أقوال: أحدها: أنه زكاة الأموال، قاله ابن عباس. والثاني: أنها النفقة في الحقوق الواجبة بالمال، كالزكاة والحج، ونحو ذلك، وهذا المعنى مروي عن الضحاك. والثالث: أنه صدقة التطوع، ذكره الماوردي. فعلى هذا يكون الأمر ندبا، وعلى ما قبله يكون أمر وجوب. قوله تعالى: {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ} قال الزجاج: أي: من قبل أن يعاين ما يعلم منه أنه ميت. قوله تعالى: {لَوْلا أَخَّرْتَنِى} أي: هلا أخرتني {إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ} يعني بذلك الاستزادة في أجله ليتصدق ويزكي، وهو قوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ} قال أبو عبيدة: «فأصدق» نصب، لأن كل جواب بالفاء للاستفهام منصوب. تقول: من عندك فآتيك. هلا فعلت كذا فأفعل كذا، ثم تبعتها {وَأَكُن مّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ} بغير واو. وقال أبو عمرو: إنما هي، وأكون، فذهبت الواو من الخط. كما يكتب أبو جاد أبجد هجاء، وهكذا يقرؤها أبو عمرو «وأكون» بالواو، ونصب النون. والباقون يقرؤون «وأكن» بغير واو. قال الزجاج: من قرأ «وأكون» فهو على لفظ فأصدق. ومن جزم «أكن» فهو على موضع «فأصدق» لأن المعنى: إن أخرتني أصدق وأكن. وروى أبو صالح عن ابن عباس «فأصدق» أي: أزكي مالي «وأكن من الصالحين» أي: أحج مع المؤمنين، وقال في قوله تعالى:{وَٱللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} والمعنى: بما تعملون من التكذيب بالصدقة. قال مقاتل: يعني: المنافقين. وروى الضحاك عن ابن عباس، ما من أحد يموت، وقد كان له مال لم يزكه، وأطاق الحج فلم يحج، إلا سأل اللّه الرجعة عند الموت، فقالوا له: إنما يسأل الرجعة الكفار، فقال: أنا أتلو عليكم به قرآنا، ثم قرأ هذه الآية. |
﴿ ٠ ﴾