٢

وفيه فصول الفصل الأول في تفسير قوله تعالى " {الحمد للّه} " وفيه وجوه :

 الأول : ههنا ألفاظ ثلاثة : الحمد والمدح والشكر فنقول : الفرق بين الحمد والمدح من وجوه

الأول : أن المدح قد يحصل للحي ولغير الحي ألا ترى أن من رأى لؤلؤة في غاية الحسن أو ياقوتة في غاية الحسن فإنه قد يمدحها ويستحيل أن يحمدها فثبت أن المدح أعم من الحمد .

الوجه الثاني في الفرق : أن المدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده

أما الحمد فإنه لا يكون إلا بعد الإحسان.

الوجه الثالث : في الفرق : أن المدح قد يكون منهيا عنه قال عليه الصلاة والسلام : احثوا التراب في وجوه المداحين أما الحمد فإنه مأمور به مطلقا قال صلى اللّه عليه وسلم من لم يحمد الناس لم يحمد اللّه

الوجه الرابع : أن المدح عبارة عن القول الدال على كونه مختصا بنوع من أنواع الفضائل

وأما الحمد فهو القول الدال على كونه مختصا بفضيلة معينة وهي فضيلة الإنعام والإحسان فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد .

وأما الفرق بين الحمد وبين الشكر فهو أن الحمد يعم ما إذا وصل ذلك الإنعام إليك أو إلى غيرك

وأما الشكر فهو مختص بالإنعام الواصل إليك .

إذا عرفت هذا فنقول : قد ذكرنا أن المدح حاصل للحي ولغير الحي وللفاعل المختار ولغيره فلو قال المدح للّه لم يدل ذلك على كونه تعالى فاعلا مختارا

أما لما قال الحمد للّه فهو يدل على كونه مختارا فقوله : " {الحمد للّه} " يدل على كون هذا القائل مقرا بأن إله العالم ليس موجبا بالذات كما تقول الفلاسفة بل هو فاعل مختار وأيضا فقوله الحمد للّه أولى من قوله الشكر للّه لأن قوله الحمد للّه ثناء على اللّه بسبب كل إنعام صدر منه ووصل إلى غيره

وأما الشكر للّه فهو ثناء بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل ولا شك أن الأول أفضل لأن التقدير كان العبد يقول : سواء أعطيتني أو لم تعطني فإنعامك واصل إلى كل العالمين وأنت مستحق للحمد العظيم

وقيل الحمد على ما دفع اللّه من البلاء والشكر على ما أعطى من النعماء .

فإن قيل : النعمة في الإعطاء أكثر من النعمة في دفع البلاء فلماذا ترك الأكثر وذكر الأقل

قلنا فيه وجوه :

 الأول : كأنه يقول أنا شاكر لأدنى النعمتين فكيف لأعلاهما .

الثاني : المنع غير متناه والإعطاء متناه فكان الابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له أولى .

الثالث : أن دفع الضرر أهم من جلب النفع فلهذا قدمه .

الفائدة الثانية : أنه تعالى لم يقل أحمد اللّه ولكن قال " {الحمد للّه} " وهذه العبارة الثانية أولى لوجوه :

 أحدها : أنه لو قال أحمد اللّه أفاد ذلك كون ذلك القائل قادرا على حمده

أما لما قال " {الحمد للّه} " فقد أفاد ذلك أنه كان محمودا قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين فهؤلاء سواء حمدوا أو لم يحمدوا وسواء شكروا أو لم يشكروا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم .

وثانيها : أن قولنا الحمد للّه معناه أن الحمد والثناء حق للّه وملكه فإنه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد فقولنا الحمد للّه معناه أن الحمد للّه حق يستحقه لذاته ولو قال أحمد اللّه لم يدل ذلك على كونه مستحقا للحمد لذاته ومعلوم أن اللفظ الدال على كونه مستحقا للحمد أولى من اللفظ الدال على أن شخصا واحدا حمده .

وثالثها : أنه لو قال أحمد اللّه لكان قد حمد لكن لا حمدا يليق به

وأما إذا قال الحمد للّه فكأنه قال من أنا حتى أحمده ؟ لكنه محمود بجميع حمد الحامدين مثاله ما لو سئلت : هل لفلان عليك نعمة ؟ فإن قلت نعم فقد حمدته ولكن حمدا ضعيفا ولو قلت في الجواب : بل نعمه على كل الخلائق فقد حمدته بأكمل المحامد

ورابعها : أن الحمد عبارة عن صفة القلب وهي اعتقاد كون ذلك المحمود متفضلا منعما مستحقا للتعظيم والإجلال فإذا تلفظ الإنسان بقوله أحمد اللّه مع أنه كان قلبه غافلا عن معنى التعظيم اللائق بجلال اللّه كان كاذبا لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامدا مع أنه ليس كذلك

أما إذا قال الحمد للّه سواء كان غافلا أو مستحضرا لمعنى التعظيم فإنه يكون صادقا لأن معناه أن الحمد حق للّه وملكه وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلا بمعنى التعظيم والإجلال أو لم يكن فثبت أن قوله الحمد للّه أولى من قوله أحمد اللّه ونظيره قولنا لا إله إلا اللّه فإنه لا يدخله التكذيب بخلاف قولنا أشهد أن لا إله إلا اللّه لأنه قد يكون كاذبا في قوله أشهد ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين : " {واللّه يشهد إن المنافقين لكاذبون} " [ المنافقون : ١ ] ولهذا السر أمر في الأذان بقوله أشهد ثم وقع الختم على قوله لا إله إلا اللّه .

الفائدة الثالثة : اللام في قوله الحمد للّه يحتمل وجوها كثيرة

أحدها : الاختصاص اللائق كقولك الجل للفرس .

وثانيها : الملك كقولك الدار لزيد .

وثالثها : القدرة والاستيلاء كقولك البلد للسلطان واللام في قولك الحمد للّه يحتمل هذه الوجوه الثلاثة فإن حملته على الاختصاص اللائق فمن المعلوم أنه لا يليق الحمد إلا به لغاية جلاله وكثرة فضله وإحسانه وإن حملته على الملك فمعلوم أنه تعالى مالك للكل فوجب أن يملك منهم كونهم مشتغلين بحمده وإن حملته على الاستيلاء والقدرة فالحق سبحانه وتعالى كذلك لأنه واجب لذاته وما سواه ممكن لذاته والواجب لذاته مستول على الممكن لذاته فالحمد للّه بمعنى أن الحمد لا يليق إلا به وبمعنى أن الحمد ملكه وملكه وبمعنى أنه هو المستولي على الكل والمستعلي على الكل .

الفائدة الرابعة : قوله الحمد للّه ثمانية أحرف وأبواب الجنة ثمانية فمن قال هذه الثمانية عن صفاء قلبه استحق ثمانية أبواب الجنة .

الفائدة الخامسة : الحمد لفظة مفردة دخل عليها حرف التعريف وفيه قولان

الأول : أنه إن كان مسبوقا بمعهود سابق انصرف إليه وإلا يحمل على الاستغراق صونا للكلام عن الإجمال

والقول الثاني : أنه لا يفيد العموم إلا أنه يفيد الماهية والحقيقة فقط .

إذا عرفت هذه فنقول : قوله الحمد للّه إن قلنا بالقول الأول أفاد أن كل ما كان حمدا وثناء فهو للّه وحقه وملكه وحينئذ يلزم أن يقال : إن ما سوى اللّه فإنه لا يستحق الحمد والثناء البتة وإن قلنا بالقول الثاني كان معناه أن ماهية الحمد حق للّه تعالى وملك له وذلك ينفي كون فرد من أفراد هذه الماهية لغير اللّه فثبت على القولين أن قوله الحمد للّه ينفي حصول الحمد لغير اللّه .

فإن قيل : أليس أن المنعم يستحق الحمد من المنعم عليه والأستاذ يستحق الحمد من التلميذ والسلطان العادل يستحق الحمد من الرعية وقال عليه السلام : من لم يحمد الناس لم يحمد اللّه ؟

قلنا إن كل من أنعم على غيره بإنعام فالمنعم في الحقيقة هو اللّه تعالى لأنه لولا أنه تعالى خلق تلك الداعية في قلب ذلك المنعم وإلا لم يقدم على ذلك الإنعام ولولا أنه تعالى خلق تلك النعمة وسلط ذلك المنعم عليها ومكن المنعم عليه من الانتفاع لما حصل الانتفاع بتلك النعمة فثبت أن المنعم في الحقيقة هو اللّه .

الفائدة السادسة : أن قوله الحمد للّه كما دل على أنه لا محمود إلا اللّه فكذلك العقل دل عليه وبيانه من وجوه :

الأول : أنه تعالى لو لم يخلق داعية الإنعام في قلب المنعم لم ينعم فيكون المنعم في الحقيقة هو اللّه الذي خلق تلك الداعية .

وثانيها : أن كل من أنعم على الغير فإنه يطلب بذلك الإنعام عوضا

أما ثوابا أو ثناء أو توصيل حق أو تخليصا للنفس من خلق البخل وطالب العوض لا يكون منعما فلا يكون مستحقا للحمد في الحقيقة أما اللّه سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته والكامل لذاته لا يطلب الكمال لأن تحصيل الحاصل محال فكانت عطاياه جودا محضا وإحسانا محضا فلا جرم كان مستحقا للحمد فثبت أنه لا يستحق الحمد إلا اللّه تعالى .

وثالثها : أن كل نعمة فهي من الموجودات الممكنة الوجود وكل ممكن الوجود فإنه وجد بإيجاد الحق

أما ابتداء وأما بواسطة ينتج أن كل نعمة فهي من اللّه تعالى ويؤكد ذلك بقوله تعالى : " {وما بكم من نعمة فمن اللّه} " [ النحل : ٥٣ ] والحمد لا معنى له إلا الثناء على الإنعام فلما كان لا إنعام إلا من اللّه تعالى وجب القطع بأن أحدا لا يستحق الحمد إلا اللّه تعالى .

ورابعها : النعمة لا تكون كاملة إلا عند اجتماع أمور ثلاثة :

 أحدها : أن تكون منفعة والانتفاع بالشيء مشروط بكونه حيا مدركا وكونه حيا مدركا لا يحصل إلا بإيجاد اللّه تعالى .

وثانيها : أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت خالية عن شوائب الضرر والغم وإخلاء المنافع عن شوائب الضرر لا يحصل إلا من اللّه تعالى .

وثالثها : أن المنفعة لا تكون نعمة كاملة إلا إذا كانت آمنة من خوف الانقطاع وهذا الأمر لا يحصل إلا من اللّه تعالى إذا ثبت هذا فالنعمة الكاملة لا تحصل إلا من اللّه تعالى فوجب أن لا يستحق الحمد الكامل إلا اللّه تعالى فثبت بهذه البراهين صحة قوله تعالى الحمد للّه .

الفائدة السابعة : قد عرفت أن الحمد عبارة عن مدح الغير بسبب كونه منعما متفضلا وما لم يحصل شعور الإنسان بوصول النعمة إليه امتنع تكليفه بالحمد والشكر إذا عرفت هذا

فنقول : وجب كون الإنسان عاجزا عن حمد اللّه وشكره ويدل عليه وجوه :

 الأول : أن نعم اللّه على الإنسان كثيرة لا يقوى عقل الإنسان على الوقوف عليها كما قال تعالى : " {وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها} " [ إبراهيم : ٣٤ ] وإذا امتنع وقوف الإنسان عليها امتنع اقتداره على الحمد والشكر والثناء اللائق بها .

الثاني : أن الإنسان إنما يمكنه القيام بحمد اللّه وشكره إذا أقدره اللّه تعالى على ذلك الحمد والشكر وإذا خلق في قلبه داعية إلى فعل ذلك الحمد والشكر وإذا زال عنه العوائق والحوائل فكل ذلك إنعام من اللّه تعالى فعلى هذا لا يمكنه القيام بشكر اللّه تعالى إلا بواسطة نعم عظيمة من اللّه تعالى عليه وتلك النعم أيضا توجب الشكر وعلى هذا التقدير : فالعبد لا يمكنه الإتيان بالشكر والحمد إلا عند الإتيان به مرارا لا نهاية لها وذلك محال والموقوف على المحال محال فكان الإنسان يمتنع منه الإتيان بحمد اللّه وبشكره على ما يليق به

الثالث : أن الحمد والشكر ليس معناه مجرد قول القائل بلسانه الحمد للّه ؛ بل معناه علم المنعم عليه بكون المنعم موصوفا بصفات الكمال والجلال وكل ما خطر ببال الإنسان من صفات الكمال والجلال فكمال اللّه وجلاله أعلى وأعظم من ذلك المتخيل والمتصور وإذا كان كذلك امتنع كون الإنسان آتيا بحمد اللّه وشكره وبالثناء عليه .

الرابع : أن الاشتغال بالحمد والشكر معناه أن المنعم عليه يقابل الإنعام الصادر من المنعم بشكر نفسه وبحمد نفسه وذلك بعيد لوجوه

( أحدها ) : أن نعم اللّه كثيرة لا حد لها فمقابلتها بهذا الاعتقاد الواحد وبهذه اللفظة الواحدة في غاية البعد

وثانيها : أن من اعتقد أن حمده وشكره يساوي نعم اللّه تعالى فقد أشرك وهذا معنى قول الواسطي الشكر شرك

وثالثها : أن الإنسان محتاج إلى إنعام اللّه في ذاته وفي صفاته وفي أحواله واللّه تعالى غني عن شكر الشاكرين وحمد الحامدين فكيف يمكن مقابلة نعم اللّه بهذا الشكر وبهذا الحمد فثبت بهذه الوجوه أن العبد عاجز عن الإتيان بحمد اللّه وبشكره فلهذه الدقيقة لم يقل احمدوا اللّه بل قال الحمد للّه لأنه لو قال أحمدوا اللّه فقد كلفهم ما لا طاقة لهم به

أما لما قال الحمد للّه كان المعنى أن كمال الحمد حقه وملكه سواء قدر الخلق على الإتيان به أو لم يقدروا عليه ؛ ونقل أن داود عليه السلام قال يا رب كيف أشكرك وشكري لك لا يتم إلا بإنعامك علي وهو أن توفقني لذلك الشكر ؟ فقال : يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني بحسب قدرتك وطاقتك .

الفائدة الثامنة : عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : إذا أنعم اللّه على عبده نعمة فيقول العبد الحمد للّه فيقول اللّه تعالى : انظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة له وتفسيره أن اللّه إذا أنعم على العبد كان ذلك الإنعام أحد الأشياء المعتادة مثل أنه كان جائعا فأطعمه أو كان عطشانا فأرواه أو كان عريانا فكساه

أما إذا قال العبد الحمد للّه كان معناه أن كل حمد أتى به أحد من الحامدين فهو للّه وكل حمد لم يأت به أحد من الحامدين وأمكن في حكم العقل دخوله في الوجود فهو للّه وذلك يدخل فيه جميع المحامد التي ذكرها ملائكة العرش والكرسي وساكنو أطباق السموات وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأنبياء من آدم إلى محمد صلوات اللّه عليهم وجميع المحامد التي ذكرها جميع الأولياء والعلماء وجميع الخلق وجميع المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قولهم : " {دعواهم فيها سبحانك اللّهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين} " [ يونس : ١٠ ] ثم جميع هذه المحامد متناهية

وأما المحامد التي لا نهاية لها هي التي سيأتون بها أبد الآباد ودهر الداهرين فكل هذه الأقسام التي لا نهاية لها داخلة تحت قول العبد " {الحمد للّه رب العالمين} " فلهذا السبب قال تعالى : انظروا إلى عبدي قد أعطيته نعمة واحدة لا قدر لها فأعطاني من الشكر ما لا حد له ولا نهاية له .

أقول : ههنا دقيقة أخرى وهي أن نعم اللّه تعالى على العبد في الدنيا متناهية وقوله الحمد للّه حمد غير متناه ومعلوم أن غير المتناهي إذا سقط منه المتناهي بقي الباقي غير متناه فكأنه تعالى يقول : عبدي ! إذا قلت الحمد للّه في مقابلة تلك النعمة فالذي بقي لك من تلك الكلمة طاعات غير متناهية فلا بد من مقابلتها بنعمة غير متناهية فلهذا السبب يستحق العبد الثواب الأبدي والخير السرمدي فثبت أن قول العبد للّه يوجب سعادات لا آخر لها وخيرات لا نهاية لها .

الفائدة التاسعة : لا شك أن الوجود خير من العدم والدليل عليه أن كل موجود حي فإنه يكره عدم نفسه ولولا أن الوجود خير من العدم وإلا لما كان كذلك وإذا ثبت هذا

فنقول وجود كل شيء ما سوى اللّه تعالى فإنه حصل بإيجاد اللّه وجوده وفضله وإحسانه وقد ثبت أن الوجود نعمة فثبت أنه لا موجود في عالم الأرواح الأجسام والعلويات والسفليات إلا وللّه عليه نعمة ورحمة وإحسان والنعمة والرحمة والإحسان موجبة للحمد والشكر فإذا قال العبد الحمد للّه فليس مراده الحمد للّه على النعم الواصلة إلي بل المراد الحمد للّه على النعم الصادرة منه وقد بينا أن إنعامه واصل إلى ما كل سواه فإذا قال العبد الحمد للّه كان معناه الحمد للّه على إنعامه على كل مخلوق خلقه وعلى كل محدث أحدثه من نور وظلمة وسكون وحركة وعرش وكرسي وجني وإنسي وذات وصفة وجسم وعرض إلى أبد الآباد ودهر الداهرين وأنا أشهد أنها بأسرها حقك وملكك وليس لأحد معك فيها شركة ومنازعة .

الفائدة العاشرة : لقائل أن يقول : التسبيح مقدم على التحميد لأنه يقال سبحان اللّه والحمد للّه فما السبب ههنا في وقوع البداية بالتحميد ؟

 والجواب أن التحميد يدل على التسبيح دلالة التضمن فإن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص والآفات والتحميد يدل مع حصول تلك الصفة على كونه محسنا إلى الخلق منعما عليهم رحيما بهم فالتسبيح إشارة إلى كونه تعالى تاما والتحميد يدل على كونه تعالى فوق التمام فلهذا السبب كان الابتداء بالتحميد أولى وهذا الوجه مستفاد من القوانين الحكمية

وأما الوجه اللائق بالقوانين الأصولية فهو أن اللّه تعالى لا يكون محسنا بالعباد إلا إذا كان عالما بجميع المعلومات ليعلم أصناف حاجات العباد وإلا إذا كان قادرا على كل المقدورات ليقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه وإلا إذا كان غنيا عن كل الحاجات إذ لو لم يكن كذلك لكان اشتغاله بدفع الحاجة عن نفسه يمنعه عن دفع حاجة العبد فثبت أن كونه محسنا لا يتم إلا بعد كونه منزها عن النقائص والآفات فثبت أن الابتداء بقوله الحمد للّه أولى من الابتداء بقوله سبحان اللّه .

الفائدة الحادية عشرة : الحمد للّه له تعلق بالماضي وتعلق بالمستقبل

أما تعلقه بالماضي فهو أنه يقع شكرا على النعم المتقدمة

وأما تعلقه بالمستقبل فهو أنه يوجب تجدد النعم في الزمان المستقبل لقوله تعالى : " {لئن شكرتم لأزيدنكم} " [ إبراهيم : ٧ ] والعقل أيضا يدل عليه وهو أن النعم السابقة توجب الإقدام على الخدمة والقيام بالطاعة ثم إذا اشتغل بالشكر انفتحت على العقل والقلب أبواب نعم اللّه تعالى وأبواب معرفته ومحبته وذلك من أعظم النعم فلهذا المعنى كان الحمد بسبب تعلقه بالماضي يغلق عنك أبواب النيران وبسبب تعلقه بالمستقبل يفتح لك أبواب الجنان فتأثيره في الماضي سد أبواب الحجاب عن اللّه تعالى ؛ وتأثيره في المستقبل فتح أبواب معرفة اللّه تعالى ولما كان لا نهاية لدرجات اللّه فكذلك لا نهاية للعبد في معارج معرفة اللّه ولا مفتاح لها إلا قولنا الحمد للّه فلهذا السبب سميت سورة الحمد بسورة الفاتحة .

الفائدة الثانية عشرة : الحمد للّه كلمة شريفة جليلة لكن لا بد من ذكرها في موضعها وإلا لم يحصل المقصود منها قيل للسري السقطي : كيف يجب الإتيان بالطاعة ؟ قال : أنا منذ ثلاثين سنة أستغفر اللّه عن قولي مرة واحدة الحمد للّه فقيل كيف ذلك ؟ قال : وقع الحريق في بغداد واحترقت الدكاكين والدور فأخبروني أن دكاني لم يحترق فقلت الحمد للّه وكان معناه أني فرحت ببقاء دكاني حال احتراق دكاكين الناس وكان حق الدين والمروءة أن لا أفرح بذلك فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة عن قولي الحمد للّه فثبت بهذا أن هذه الكلمة وإن كانت جليلة القدر إلا أنه يجب رعاية موضعها ثم إن نعم اللّه على العبد كثيرة إلا أنها بحسب القسمة الأولى محصورة في نوعين : نعم الدنيا ونعم الدين ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا لوجوه كثيرة

وقولنا الحمد للّه كلمة جليلة شريفة فيجب على العاقل إجلال هذه الكلمة من أن يذكرها في مقابلة نعم الدنيا بل يجب أن لا يذكرها إلا عند الفوز بنعم الدين ثم نعم الدين قسمان : أعمال الجوارح وأعمال القلوب والقسم الثاني أشرف ثم نعم الدنيا قسمان : تارة تعتبر تلك النعم من حيث هي نعم وتارة تعتبر من حيث إنها عطية المنعم والقسم الثاني أشرف فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يكون ذكر قولنا الحمد للّه موافقا لموضعه لائقا بسببه .

الفائدة الثالثة عشرة : أول كلمة ذكرها أبونا آدم هو قوله الحمد للّه وآخر كلمة يذكرها أهل الجنة هو قولنا الحمد للّه

أما الأول فلأنه لما بلغ الروح إلى سرته عطس فقال الحمد للّه رب العالمين

وأما الثاني فهو قوله تعالى " {وآخر دعواهم أن الحمد للّه رب العالمين} " [ يونس : ١٠ ]

ففاتحة العالم مبنية على الحمد وخاتمته مبنية على الحمد فاجتهد حتى يكون أول أعمالك وآخرها مقرونا بهذه الكلمة فإن الإنسان عالم صغير فيجب أن تكون أحواله موافقة لأحوال العالم الكبير .

الفائدة الرابعة عشرة : من الناس من قال : تقدير الكلام قولوا الحمد للّه وهذا عندي ضعيف لأن الإضمار إنما يصار إليه ليصح الكلام وهذا الإضمار يوجب فساد الكلام والذي يدل عليه وجوه :

 الأول : أن قوله الحمد للّه إخبار عن كون الحمد حقا له وملكا له وهذا كلام تام في نفسه فلا حاجة إلى الإضمار.

الثاني : أن قوله الحمد للّه يدل على كونه تعالى مستحقا للحمد بحسب ذاته وبحسب أفعاله سواء حمدوه أو لم يحمدوه لأن ما بالذات أعلى وأجل مما بالغير .

الثالث : ذكروا مسألة في الواقعات وهي أنه لا ينبغي للوالد أن يقول لولده اعمل كذا وكذا لأنه يجوز أن لا يمتثل أمره فيأثم بل يقول إن كذا وكذا يجب أن يفعل ثم إذا كان الولد كريما فإنه يجيب ويطيعه وإن كان عاقا لم يشافهه بالرد فيكون إثمه أقل فكذلك ههنا قال اللّه تعالى الحمد للّه فمن كان مطيعا حمده ومن كان عاصيا إثمه أقل .

الفائدة الخامسة عشرة : تمسكت الجبرية والقدرية بقوله الحمد للّه ؛

أما الجبرية فقد تمسكوا به من وجوه :

 الأول : أن كل من كان فعله أشرف وأكمل وكانت النعمة الصادرة عنه أعلى وأفضل كان استحقاقه للحمد أكثر ولا شك أن أشرف المخلوقات هو الإيمان فلو كان الإيمان فعلا للعبد لكان استحقاق العبد للحمد أولى واجل من استحقاق اللّه له ولما لم يكن كذلك علمنا أن الإيمان حصل بخلق اللّه لا بخلق العبد

الثاني : أجمعت الأمة على قولهم الحمد للّه على نعمة الإيمان لو كان الإيمان فعلا للعبد وما كان فعلا للّه لكان قولهم الحمد للّه على نعمة الإيمان باطلا فإن حمد الفاعل على ما لا يكون فعلا له باطن قبيح لقوله تعالى : " {ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} " [ آل عمران : ١٨٨]

الثالث : أنا قد دللنا على أن قوله الحمد للّه يدل ظاهره على أن كل الحمد للّه وأنه ليس لغير اللّه حمد أصلا وإنما يكون كل الحمد للّه لو كان كل النعم من اللّه والإيمان أفضل النعم فوجب أن يكون الإيمان من اللّه

الرابع : أن قوله الحمد للّه مدح منه لنفسه ومدح النفس مستقبح فيما بين الخلق فلما بدأ كتابة بمدح النفس دل ذلك على أن حاله بخلاف حال الخلق وأنه يحسن من اللّه ما يقبح من الخلق وذلك يدل على أنه تعالى مقدس عن أن تقاس أفعاله على أفعال الخلق فقد تقبح أشياء من العباد ولا تقبح تلك الأشياء من اللّه تعالى وهذا يهدم أصول الاعتزال بالكلية .

والخامس : أن عند المعتزلة أفعاله تعالى يجب أن تكون حسنة ويجب أن تكون لها صفة زائدة على الحسن وإلا كانت عبثا وذلك في حقه محال والزائدة على الحسن

أما أن تكون واجبة

وأما أن تكون من باب التفضل :

أما الواجب فهو مثل إيصال الثواب والعوض إلى المكلفين

وأما الذي يكون من باب التفضل :

أما الواجب فهو مثل إيصال الثواب والعوض إلى المكلفين

وأما الذي يكون باب التفضل فهو مثل أنه يزيد على قدر الواجب على سبيل الإحسان

فنقول : هذا يقدح في كونه تعالى مستحقا للحمد ويبطل صحة قولنا الحمد للّه وتقريره أن نقول :

أما أداء الواجبات فإنه لا يفيد استحقاق الحمد ألا ترى أن من كان له على غيره دين دينار فأداه فإنه لا يستحق الحمد فلو وجب على اللّه فعل لكان ذلك الفعل مخلصا له عن الذم ولا يوجب استحقاقه للحمد

وأما فعل التفضل فعند الخصم أنه يستفيد بذلك مزيد حمد لأنه لو لم يصدر عنه ذلك الفعل لما حصل له ذلك الحمد وإذا كان كذلك كان ناقصا لذاته مستكملا بغيره وذلك يمنع من كونه تعالى مستحقا للحمد والمدح .

السادس : قوله الحمد للّه يدل على أنه تعالى محمود

فنقول : استحقاقه الحمد والمدح

أما أن يكون أمرا ثابتا له لذاته أو ليس ثابتا لذاته فإن كان الأول امتنع أن يكون شيء من الأفعال موجبا له استحقاق المدح لأن ما ثبت لذاته امتنع ثبوته لغيره وامتنع أيضا أن يكون شيء من الأفعال موجبا له استحقاق الذم لأن ما ثبت لذاته امتنع ارتفاعه بسبب غيره وإذا كان كذلك لم يتقرر في حقه تعالى وجوب شيء عليه فوجب أن لا يجب للعباد عليه شيء من الأعواض والثواب وذلك يهدم أصول المعتزلة

وأما القسم الثاني - وهو أن يكون استحقاق الحمد للّه ليس ثابتا له لذاته –

فنقول : فيلزم أن يكون ناقصا لذاته مستكملا بغيره وذلك على اللّه محال

أما المعتزلة فقالوا : إن قوله الحمد للّه لا يتم إلا على قولنا لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبيح في فعله ولا جور في أقضيته ولا ظلم في أحكامه وعندنا أن اللّه تعالى كذلك فكان مستحقا لأعظم المحامد والمدائح

أما على مذهب الجبرية لا قبيح إلا وهو فعله ولا جور إلا وهو حكمه ولا عبث إلا وهو صنعه لأنه يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه ويؤلم الحيوانات من غير أن يعوضها فكيف يعقل على هذا التقدير كونه مستحقا للحمد ؟ وأيضا فذلك الحمد الذي يستحقه اللّه تعالى بسبب الإلهية

أما أن يستحقه على العبد أو على نفسه فإن كان الأول وجب كون العبد قادرا على الفعل وذلك يبطل القول بالجبر وإن كان الثاني كان معناه أن اللّه يجب عليه أن يحمد نفسه وذلك باطل قالوا : فثبت أن القول بالحمد للّه لا يصح إلا على قولنا .

الفائدة السادسة عشرة : اختلفوا في أن وجوب الشكر ثابت بالعقل أو بالسمع ؛ من الناس من قال : إنه ثابت بالسمع لقوله تعالى : " {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} " [ الإسراء : ١٥ ]

ولقوله تعالى : " {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على اللّه حجة بعد الرسل} " [ النساء : ١٦٥ ] ومنهم من قال إنه ثابت قبل مجيء الشرع وبعد مجيئه على الإطلاق والدليل عليه قوله تعالى : " {الحمد للّه} " وبيانه من وجوه :

 الأول : أن قوله الحمد للّه يدل أن هذا الحمد حقه وملكه على الإطلاق وذلك يدل على ثبوت هذا الاستحقاق قبل مجيء الشرع .

الثاني : أنه تعالى قال : " {الحمد للّه رب العالمين} " وقد ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف فههنا أثبت الحمد لنفسه ووصف نفسه بكونه تعالى ربا للعالمين رحمانا رحيما بهم مالكا لعاقبة أمرهم في القيامة فهذا يدل على أن استحقاق الحمد إنما يحصل لكونه تعالى مربيا لهم رحمانا رحيما بهم وإذا كان كذلك ثبت أن اسحقاق الحمد ثابت للّه تعالى في كل الأوقات سواء كان قبل مجيء النبي أو بعده .

الفائدة السابعة عشرة : يجب علينا أن نبحث عن حقيقة الحمد وماهيته

فنقول : تحميد اللّه تعالى ليس عبارة عن قولنا الحمد للّه لأن قولنا الحمد للّه إخبار عن حصول الحمد والإخبار عن الشيء مغاير للمخبر عنه فوجب أن يكون تحميد اللّه مغايرا لقولنا الحمد للّه

فنقول : حمد المنعم عبارة عن كل فعل يشعر بتعظيم المنعم بسبب كونه منعما .

وذلك الفعل

أما أن يكون فعل القلب أو فعل اللسان أو فعل الجوارح

أما فعل القلب فهو أن يعتقد فيه كونه موصوفا بصفات الكمال والإجلال

وأما فعل اللسان فهو أن يذكر ألفاظا دالة على كونه موصوفا بصفات الكمال

وأما فعل الجوارح فهو أن يأتي بأفعال دالة على كون ذلك المنعم موصوفا بصفات الكمال والإجلال فهذا هو المراد من الحمد واعلم أن أهل العلم افترقوا في هذا المقام فريقين :

الفريق الأول : الذين قالوا إنه لا يجوز أن يأمر اللّه عبيده بأن يحمدوه واحتجوا عليه بوجوه :

 الأول : أن ذلك التحميد أما أن يكون بناء على إنعام وصل إليهم أولا وبناء عليه

فالأول باطل لأن هذا يقتضي أنه تعالى طلب منهم على إنعامه جزاء ومكافأة وذلك يقدح في كمال الكرم فإن الكريم إذا أنعم لم يطلب المكافأة

وأما الثاني فهو إتعاب للغير ابتداء وذلك يوجب الظلم .

الثاني : قالوا الاشتغال بهذا الحمد متعب للحامد وغير نافع للمحمود لأنه كامل لذاته والكامل لذاته يستحيل أن يستكمل بغيره فثبت أن الاشتغال بهذا التحميد عبث وضرر فوجب أن لا يكون مشروعا .

الثالث : أن معنى الإيجاب هو أنه لو لم يفعل لاستحق العقاب فإيجاب حمد اللّه تعالى معناه أنه قال لو لم تشتغل بهذا الحمد لعاقبتك وهذا الحمد لا نفع له في حق اللّه فكان معناه أن هذا الفعل لا فائدة فيه لأحد ولو تركته لعاقبتك أبد الآباد وهذا لا يليق بالحكم الكريم .

الفريق الثاني : قالوا الاشتغال بحمد اللّه سوء أدب من وجوه :

 الأول : أنه يجري مجرى مقابلة إحسان اللّه بذلك الشكر القليل

والثاني : أن الاشتغال بالشكر لا يتأتى إلا مع استحضار تلك النعم في القلب واشتغال القلب بالنعم يمنعه من الاستغراق في معرفة المنعم .

الثالث : أن الثناء على اللّه تعالى عند وجدان النعمة يدل على أنه إنما أثنى عليه لأجل الفوز بتلك النعم وذلك يدل على أن مقصوده من العبادة والحمد والثناء الفوز بتلك النعم وهذا الرجل في الحقيقة معبوده ومطلوبه إنما هو تلك النعمة وحظ النفس وذلك مقام نازل واللّه أعلم .

الفصل الثاني في تفسير قوله رب العالمين وفيه فوائد

الفائدة الأولى : اعلم أن الموجود أما أن يكون واجبا لذاته

وأما أن يكون ممكنا لذاته أما الواجب لذاته فهو اللّه تعالى فقط

وأما الممكن لذاته فهو كل ما سوى اللّه تعالى وهو العالم لأن المتكلمين قالوا : العالم كل موجود سوى اللّه وسبب تسمية هذا القسم بالعالم أن وجود كل شيء سوى اللّه يدل على وجود اللّه تعالى فلهذا السبب سمي كل موجود سوى اللّه بأنه عالم .

إذا عرفت هذا فنقول : كل ما سوى اللّه تعالى

أما أن يكون متحيزا

وأما أن يكون صفة للمتحيز

وأما أن لا يكون متحيزا ولا صفة للمتحيز فهذه أقسام ثلاثة :

القسم الأول المتحيز : وهو أما أن يكون قابلا للقسمة أو لا يكون فإن كان قابلا للقسمة فهو الجسم وإن لم يكن كذلك فهو الجوهر الفرد ؛

أما الجسم فأما أن يكون من الأجسام العلوية أو من الأجسام السفلية ؛

أما الأجسام العلوية فهي الأفلاك والكواكب وقد ثبت بالشرع أشياء أخر سوى هذين القسمين مثل العرش والكرسي وسدرة المنتهى واللوح والقلم والجنة

وأما الأجسام السفلية فهي

أما بسيطة أو مركبة : أما البسيطة فهي العناصر الأربعة :

وأحدها : كرة الأرض بما فيها من المفاوز والجبال والبلاد المعمورة

وثانيها : كرة الماء وهي البحر المحيط وهذه الأبحر الكبيرة الموجودة في هذا الربع المعمور وما فيه من الأودية العظيمة التي لا يعلم عددها إلا اللّه تعالى

وثالثها : كرة الهواء

ورابعها : كرة النار .

وأما الأجسام المركبة فهي النبات والمعادن والحيوان على كثرة أقسامها وتباين أنواعها

وأما القسم الثاني - وهو الممكن الذي يكون صفة للمتحيزات - فهي الأعراض والمتكلمون ذكروا ما يقرب من أربعين جنسا من أجناس الأعراض .

أما الثالث - وهو الممكن الذي لا يكون متحيزا ولا صفة للمتجيز – فهو الأرواح وهي

أما سفلية وأما علوية : أما السفلية فهي أما خيرة وهم صالحو الجن

وأما شريرة خبيثة وهي مردة الشياطين .

والأرواح العلوية أما متعلقة بالأجسام وهي الأرواح الفلكية

وأما غير متعلقة بالأجسام وهي الأرواح المطهرة المقدسة فهذا هو الإشارة إلى تقسيم موجودات العالم ولو أن الإنسان كتب ألف ألف مجلد في شرح هذه الأقسام لما وصل إلى أقل مرتبة من مراتب هذه الأقسام إلا أنه لما ثبت أن واجب الوجود لذاته واحد ثبت أن كل ما سواه ممكن لذاته فيكون محتاجا في وجوده إلى إيجاد الواجب لذاته وأيضا ثبت أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المتبقي واللّه تعالى إله العالمين من حيث إنه هو الذي أخرجها من العدم إلى الوجود وهو رب العالمين من حيث إنه هو الذي يبقيها حال دوامها واستقرارها وإذا عرفت ذلك ظهر عندك شيء قليل من تفسير قوله الحمد للّه رب العالمين وكل من كان أكثر إحاطة بأحوال هذه الأقسام الثلاثة كان أكثر وقوفا على تفسير قوله رب العالمين .

الفائدة الثانية : المربي على قسمين

أحدهما : أن يربي شيئا ليربح عليه المربي

والثاني : أن يربيه ليربح المربي وتربية كل الخلق على القسم الأول لأنهم إنما يربون غيرهم ليربحوا عليه

أما ثوابا أو ثناء والقسم الثاني هو الحق سبحانه كما قال : خلقتكم لتربحوا علي لا لأربح عليكم فهو تعالى يربي ويحسن وهو بخلاف سائر المربين وبخلاف سائر المحسنين .

واعلم أن تربيته تعالى مخالفة لتربية غيره وبيانه من وجوه :

 الأول : ما ذكرناه أنه تعالى يربي عبيده لا لغرض نفسه بل لغرضهم وغيره يربون لغرض أنفسهم لا لغرض غيرهم

الثاني : أن غيره إذا ربى فبقدر تلك التربية يظهر النقصان في خزائنه وفي ماله وهو تعالى متعال عن النقصان والضرر كما قال تعالى : " {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم} " [ الحجر : ٢١ ] .

الثالث : أن غيره من المحسنين إذا ألح الفقير عليه أبغضه وحرمه ومنعه والحق تعالى بخلاف ذلك كما قال عليه الصلاة والسلام : إن اللّه تعالى يحب الملحين في الدعاء .

الرابع : أن غيره من المحسنين ما لم يطلب منه الإحسان لم يعط

أما الحق تعالى فأنه يعطي قبل السؤال ترى أنه رباك حال ما كنت جنينا في رحم الأم وحال ما كنت جاهلا غير عاقل لا تحسن أن تسأل منه ووقاك وأحسن إليك مع أنك ما سألته وما كان لك عقل ولا هداية .

الخامس أن غيره من المحسنين ينقطع إحسانه

أما بسبب الفقر أو الغيبة أو الموت والحق تعالى لا ينقطع إحسانه البتة

السادس : أن غيره من المحسنين يختص إحسانه بقوم دون قوم ولا يمكنه التعميم

أما الحق تعالى فقد وصل تربيته وإحسانه إلى الكل كما قال " {ورحمتي وسعت كل شيء} " [ الأعراف : ١٥٦ ] فثبت أنه تعالى رب العالمين ومحسن إلى الخلائق أجمعين فلهذا قال تعالى في حق نفسه الحمد للّه رب العالمين .

الفائدة الثالثة : أن الذي يحمد ويمدح ويعظم في الدنيا إنما يكون كذلك لأحد وجوه أربعة :

أما لكونه كاملا في ذاته وفي صفاته منزها عن جميع النقائص والآفات وإن لم يكن منه إحسان إليك

وأما لكونه محسنا إليك ومنعما عليك

وأما لأنك ترجو وصول إحسانه إليك في المستقبل من الزمان

وأما لأجل انك تكون خائفا من قهره وقدرته وكمال سطوته فهذه الحالات هي الجهات الموجبة للتعظيم فكأنه سبحانه وتعالى يقول : إن كنتم ممن يعظمون الكمال الذاتي فاحمدوني فإني إله العالمين وهو المراد من قوله الحمد للّه وإن كنتم ممن تعظمون الإحسان فأنا رب العالمين وإن كنتم تعظمون للطمع في المستقبل فأنا الرحمن الرحيم وإن كنتم تعظمون للخوف فأنا مالك يوم الدين .

الفائدة الرابعة : وجوه تربية اللّه للعبد كثيرة غير متناهية ونحن نذكر منها أمثلة :

المثال الأول : لما وقعت قطرة النطفة من صلب الأب إلى رحم الأم فانظر كيف أنها صارت علقة أولا ثم مضغة ثانيا ثم تولدت منها أعضاء مختلفة مثل العظام والغضاريف والرباطات والأوتار والأوردة والشرايين ثم اتصل البعض بالبعض ثم حصل في كل واحد منها نوع خاص من أنواع القوى فحصلت القوة الباصرة في العين والسامعة في الأذن والناطقة في اللسان فسبحان من أسمع بعظم وبصر بشحم وأنطق بلحم .

واعلم أن كتاب التشريح لبدن الإنسان مشهور وكل ذلك يدل على تربية اللّه تعالى للعبد .

المثال الثاني : أن الحبة الواحدة إذا وقعت في الأرض فإذا وصلت نداوة الأرض إليها انتفخت ولا تنشق من شيء من الجوانب إلا من أعلاها وأسفلها مع أن الانتفاخ حاصل من جميع الجوانب :

أما الشق الأعلى فيخرج منه الجزء الصاعد من الشجرة ؛

وأما الشق الأسفل فيخرج منه الجزء الغائص في الأرض وهو عروق الشجرة

فأما الجزء الصاعد فبعد صعوده يحصل له ساق ثم ينفصل من ذلك الساق أغصان كثيرة ثم يظهر على تلك الأغصان الأنوار أولا ثم الثمار ثانيا ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكثافة واللطافة وهي القشور ثم اللبوب ثم الأدهان

وأما الجزء الغائص من الشجرة فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها ؛ وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة ومع غاية لطافتها فإنها تغوص في الأرض الصلبة الخشنة وأودع اللّه فيها قوى جاذبة تجذب الأجزاء اللطيفة من الطين إلى نفسها والحكمة في كل هذه التدبيرات تحصيل ما يحتاج العبد إليه من الغذاء والأدام والفواكه والأشربة والأدوية كما قال تعالى : " {إنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا} " [ عبس : ٢٥ ] الآيات .

المثال الثالث : أنه وضع الأفلاك والكواكب بحيث صارت أسبابا لحصول مصالح العباد فخلق الليل ليكون سببا للراحة والسكون وخلق النهار ليكون سببا للمعاش والحركة " {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} " [ يونس : ٥ ] ما خلق اللّه ذلك إلا بالحق " {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} " [ الأنعام : ٩٧ ]

واقرأ قوله : " {ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا - إلى آخر الآية} " [ النبأ : ٦ ]

واعلم انك إذا تأملت في عجائب أحوال المعادن والنبات والحيوان وآثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان قضى صريح عقلك بأن أسباب تربية اللّه كثيرة ودلائل رحمته لائحة ظاهرة وعند ذلك يظهر لك قطرة من بحار أسرار قوله الحمد للّه رب العالمين .

الفائدة الخامسة : أضاف الحمد إلى نفسه فقال تعالى الحمد للّه ثم أضاف نفسه إلى العالمين والتقدير : إني أحب الحمد فنسبته إلى نفسي بكونه ملكا ثم لما ذكرت نفسي عرفت نفسي بكوني ربا للعالمين ومن عرف ذاتا بصفة فإنه يحاول ذكر أحسن الصفات وأكملها وذلك يدل على أن كونه ربا للعالمين أكمل الصفات والأمر كذلك ؛ لأن أكمل المراتب أن يكون تاما وفوق التمام فقولنا اللّه يدل على كونه واجب الوجود لذاته في ذاته وبذاته وهو التمام وقوله رب العالمين معناه أن وجود كل ما سواه فائض عن تربيته وإحسانه وجوده وهو المراد من قولنا أنه فوق التمام .

الفائدة السادسة : أنه يملك عبادا غيرك كما قال " {وما يعلم جنود ربك إلا هو} " [ المدثر : ٣١ ] وأنت ليس لك رب سواه ثم إنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك وأنت تخدمه كان لك ربا غيره فما أحسن هذه التربية أليس أنه يحفظك في النهار عن الآفات من غير عوض وبالليل عن المخافات من غير عوض ؟ واعلم أن الحراس يحرسون الملك كل ليلة فهل يحرسونه عن لدغ الحشرات وهل يحرسونه عن أن تنزل به البليات ؟

أما الحق تعالى فإنه يحرسه من الآفات ويصونه من المخافات ؛ بعد أن كان قد زج أول الليل في أنواع المحظورات وأقسام المحرمات والمنكرات فما أكبر هذه التربية وما أحسنها أليس من التربية أنه صلى اللّه عليه وسلم قال : الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب ؛ فلهذا المعنى قال تعالى " {قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن} " [ الأنبياء : ٤٢ ] ما ذاك إلا الملك الجبار والواحد القهار ومقلب القلوب والأبصار والمطلع على الضمائر والأسرار .

الفائدة السابعة : قالت القدرية : إنما يكون تعالى ربا للعالمين ومربيا لهم لو كان محسنا إليهم دافعا للمضار عنهم

أما إذا خلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه ؛ ويأمر بالإيمان ثم يمنعه منه ؛ لم يكن ربا ولا مربيا بل كان ضارا ومؤذيا وقالت الجبرية : إنما سيكون ربا ومربيا لو كانت النعمة صادرة منه والألطاف فائضة من رحمته ولما كان الإيمان أعظم النعم وأجلها وجب أن يكون حصولها من اللّه تعالى ليكون ربا للعالمين إليهم محسنا بخلق الإيمان فيهم.

الفائدة الثامنة : قولنا اللّه أشرف من قولنا رب على ما بينا ذلك بالوجوه الكثيرة في تفسير أسماء اللّه تعالى ثم إن الداعي في أكثر الأمر يقول : يا رب يا رب والسبب فيه النكت والوجوه المذكورة في تفسير أسماء اللّه تعالى فلا نعيدها.

﴿ ٢