٤

الفصل الرابع في تفسير قوله مالك يوم الدين وفيه فوائد

الفائدة الأولى : قوله مالك يوم الدين أي مالك يوم البعث والجزاء وتقريره أنه لا بد من الفرق بين المحسن والمسيء والمطيع والعاصي والموافق والمخالف وذلك لا يظهر إلا في يوم الجزاء كما قال تعالى " {ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} " [ النجم : ٣١ ]

وقال تعالى : " {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} " [ ص : ٨ ]

وقال " {إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى} " [ طه : ١٥ ]

واعلم أن من سلط الظالم على المظلوم ثم إنه لا ينتقم منه فذاك

أما للعجز أو للجهل أو لكونه راضيا بذلك الظلم وهذه الصفات الثلاث على اللّه تعالى محال فوجب أن ينتقم للمظلومين من الظالمين ولما لم يحصل هذا الانتقام في دار الدنيا وجب أن يحصل في دار الأخرى بعد دار الدنيا وذلك هو المراد بقوله : " {مالك يوم الدين} " وبقوله : " {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره - الآية} " [ الزلزلة : ٧ ]

روي أنه يجاء برجل يوم القيامة فينظر في أحوال نفسه فلا يرى لنفسه حسنة البتة فيأتيه النداء يا فلان ادخل الجنة بعملك فيقول : إلهي ماذا عملت ؟ فيقول اللّه تعالى ألست لما كنت نائما تقلبت من جنب إلى جنب ليلة كذا فقلت في خلال ذلك اللّه ثم غلبك النوم في الحال فنسيت ذلك

أما أنا فلا تأخذني سنة ولا نوم فما نسيت ذلك وأيضا يؤتى برجل وتوزن حسناته وسيئاته فتخف حسناته فتأتيه بطاقة فتثقل ميزانه فإذا فيها شهادة أن لا إله إلا اللّه فلا يثقل مع ذكر اللّه غيره .

واعلم أن الواجبات على قسمين : حقوق اللّه تعالى وحقوق العباد .

أما حقوق اللّه تعالى فمبناها على المسامحة لأنه تعالى غني عن العالمين

وأما حقوق العباد فهي التي يجب الاحتراز عنها .

روي أن أبا حنيفة رضي اللّه عنه كان له على بعض المجوس مال فذهب إلى داره ليطالبه به فلما وصل إلى باب داره وقع على نعله نجاسة فنفض نعله فارتفعت النجاسة عن نعله ووقعت على حائط دار المجوسي فتحير أبو حنيفة وقال : إن تركتها كان ذلك سببا لقبح جدار هذا المجوسي وإن حككتها انحدر التراب من الحائط فدق الباب فخرجت الجارية فقال لها : قولي لمولاك أن أبا حنيفة بالباب فخرج إليه وظن أنه يطالبه بالمال فأخذ يعتذر فقال أبو حنيفة رضي اللّه عنه : ههنا ما هو أولى وذكر قصة الجدار وأنه كيف السبيل إلى تطهيره فقال المجوسي : فأنا أبدأ بتطهير نفسي فأسلم في الحال

والنكتة فيه أن أبا حنيفة لما احترز عن ظلم المجوسي في ذلك القدر القليل من الظلم فلأجل تركه ذلك انتقل المجوسي من الكفر إلى الإيمان فمن احترز عن الظلم كيف يكون حاله عند اللّه تعالى .

الفائدة الثانية : اختلف القراء في هذه الكلمة فمنهم من قرأ مالك يوم الدين ومنهم من قرأ ملك يوم الدين .

حجة من قرأ مالك وجوه :

 الأول : أن فيه حرفا زائدا فكانت قراءته أكثر ثوابا .

الثاني أنه يحصل في القيامة ملوك كثيرون .

أما المالك الحق ليوم الدين فليس إلا اللّه

الثالث : المالك قد يكون ملكا وقد لا يكون كما أن الملك قد يكون مالكا وقد لا يكون فالملكية والمالكية قد تنفك كل واحدة منهما عن الأخرى إلا أن المالكية سبب لإطلاق التصرف والملكية ليست كذلك فكان المالك أولى .

الرابع : أن الملك ملك للرعية والمالك مالك للعبيد والعبد أدون حالا من الرعية فوجب أن يكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية فوجب أن يكون المالك أعلى حالا من الملك

الخامس : أن الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك باختيار أنفسهم

أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه عن كونه مملوكا لذلك المالك باختيار نفسه فثبت أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية .

السادس : أن الملك يجب عليه رعاية حال الرعية قال عليه الصلاة والسلام : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ولا يجب على الرعية خدمة الملك .

أما المملوك فإنه يجب عليه خدمة المالك وأن لا يستقل بأمر إلا بإذن مولاه حتى إنه لا يصح منه القضاء والإمامة والشهادة وإذا نوى مولاه السفر يصير هو مسافرا وإن نوى مولاه الإقامة صار هو مقيما ؛ فعلمنا أن الانقياد والخضوع في المملوكية أتم منه في كونه رعية فهذه هي الوجوه الدالة على أن المالك أكمل من الملك .

وحجة من قال إن الملك أولى من المالك وجوه :

 الأول : أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكا

أما الملك لا يكون إلا أعظم الناس وأعلاهم فكان الملك أشرف من المالك .

الثاني : أنهم أجمعوا على أن قوله تعالى : " {قل أعوذ برب الناس ملك الناس} " [ الناس : ١ ] لفظ الملك فيه متعين ولولا أن الملك أعلى حالا من المالك وإلا لم يتعين

الثالث : الملك أولى لأنه أقصر والظاهر أنه يدرك من الزمان ما تذكر فيه هذه الكلمة بتمامها بخلاف المالك فإنها أطول فاحتمل أن لا يجد من الزمان ما يتم فيه هذه الكلمة هكذا نقل عن أبي عمرو وأجاب الكسائي بأن قال : إني أشرع في ذكر هذه الكلمة فإن لم أبلغها فقد بلغتها حيث عزمت عليها نظيره في الشرعيات من نوى صوم الغد قبل غروب الشمس من اليوم في أيام رمضان لا يجزيه لأنه في هذا اليوم مشتغل بصوم هذا اليوم فإذا نوى صوم الغد كان ذلك تطويلا للأمل

أما إذا نوى بعد غروب الشمس فإنه لا يجزيه ؛ لأنه وإن كان ذلك تطويلا للأمل إلا أنه خرج عن الصوم بسبب غروب الشمس ويجوز أن يموت في تلك الليلة فيقول : إن لم أبلغ إلى اليوم فلا أقل من أكون على عزم الصوم كذا ههنا يشرع في ذكر قوله مالك فإن تممها فذاك وإن لم يقدر على إتمامها كان عازما على الإتمام وهو المراد .

ثم نقول : إنه يتفرع على كونه ملكا أحكام وعلى كونه مالكا أحكام أخر .

أما الأحكام المتفرعة على كونه ملكا فوجوه :

 الأول : أن السياسات على أربعة أقسام : سياسة الملاك وسياسة الملوك وسياسة الملائكة وسياسة ملك الملوك فسياسة الملوك أقوى من سياسة الملاك ؛ لأنه لو اجتمع عالم من المالكين فإنهم لا يقاومون ملكا واحدا ألا ترى أن السيد لا يملك إقامة الحد على مملوكه عند أبي حنيفة وأجمعوا على أن الملك يملك إقامة الحدود على الناس

وأما سياسة الملائكة فهي فوق سياسات الملوك ؛ لأن عالما من أكابر الملوك لا يمكنهم دفع سياسة ملك واحد

وأما سياسة ملك الملوك فإنها فوق سياسات الملائكة ألا ترى إلى قوله تعالى " {يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا لمن أذن له الرحمن وقال صوابا} " [ النبأ : ٣٨ ]

وقوله تعالى : " {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} " [ البقرة : ٢٥٥ ]

وقال في صفة الملائكة : " {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} " [ الأنبياء : ٢٨ ]

فيا أيها الملوك لا تغتروا بمالكم من المال والملك فإنكم أسراء في قبضة قدرة مالك يوم الدين ويا أيها الرعية إذا كنتم تخافون سياسة الملك أفما تخافون سياسة ملك الملوك الذي هو مالك يوم الدين .

الحكم الثاني من أحكام كونه تعالى ملكا : أنه ملك لا يشبه سائر الملوك لأنهم إن تصدقوا بشيء انتقص ملكهم وقلت خزائنهم ؛

أما الحق سبحانه وتعالى فملكه لا ينتقص بالعطاء والإحسان بل يزداد بيانه أنه تعالى إذا أعطاك ولدا واحدا لم يتوجه حكمه إلا على ذلك الولد الواحد

أما لو أعطاك عشرة من الأولاد كان حكمه وتكليفه لازما على الكل فثبت أنه تعالى كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكا .

الحكم الثالث من أحكام كونه ملكا : كمال الرحمة والدليل عليه آيات :

إحداها : ما ذكر في هذه السورة من كونه ربا رحمانا رحيما

وثانيها : قوله تعالى " {هو اللّه الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} " [ الحشر : ٢٢ ] ثم قال بعده " {هو اللّه الذي لا إله إلا هو الملك} " [ الحشر : ٢٣ ]

ثم ذكر بعده كونه قدوسا عن الظلم والجور ثم ذكر بعده كونه سلاما وهو الذي سلم عباده من ظلمه وجوره ثم ذكر بعده كونه مؤمنا وهو الذي يؤمن عبيده عن جوره وظلمه فثبت أن كونه ملكا لا يتم إلا مع كمال الرحمة .

وثالثها : قوله تعالى : " {الملك يومئذ الحق للرحمن} " [ الفرقان : ٢٦ ] لما أثبت لنفسه الملك أردفه بان وصف نفسه بكونه رحمانا يعني إن كان ثبوت الملك له في ذلك اليوم يدل على كمال القهر فكونه رحمانا يدل على زوال الخوف وحصول الرحمة .

ورابعها : قوله تعالى : " {قل أعوذ برب الناس ملك الناس} " [ الناس : ١ ] فذكر أولا كونه ربا للناس ثم أردفه بكونه ملكا للناس وهذه الآيات دالة على أن الملك لا يحسن ولا يكمل إلا مع الإحسان والرحمة فيا أيها الملوك اسمعوا هذه الآيات وارحموا هؤلاء المساكين ولا تطلبوا مرتبة زائدة في الملك على ملك اللّه تعالى .

الحكم الرابع للملك : أنه يجب على الرعية طاعته فإن خالفوه ولم يطيعوه وقع الهرج والمرج في العالم وحصل الاضطراب والتشويش ودعا ذلك إلى تخريب العالم وفناء الخلق فلما شاهدتم أن مخالفة الملك المجازي تفضي آخر الأمر إلى تخريب العالم وفناء الخلق فانظروا إلى مخالفة ملك الملوك كيف يكون تأثيرها في زوال المصالح وحصول المفاسد ؟ وتمام تقريره أنه تعالى بين أن الكفر سبب لخراب العالم قال تعالى " {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا} " [ مريم : ٩٠ ]

وبين أن طاعته سبب للمصالح قال تعالى : " {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى} " [ طه : ١٣٢ ]

فيا أيها الرعية كونوا مطيعين لملوككم ويا أيها الملوك كونوا مطيعين لملك الملوك حتى تنتظم مصالح العالم .

الحكم الخامس : أنه لما وصف نفسه بكونه ملكا ليوم الدين أظهر للعالمين كمال عدله فقال " {وما ربك بظلام للعبيد} " [ فصلت : ٤٦ ]

ثم بين كيفية العدل فقال : " {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا} " [ الأنبياء : ٤٧ ]

فظهر بهذا أن كونه ملكا حقا ليوم الدين إنما يظهر بسبب العدل فإن كان الملك المجازي عادلا كان ملكا حقا وإلا كان ملكا باطلا فإن كان ملكا عادلا حقا حصل من بركة عدله الخير والراحة في العالم وإن كان ملكا ظالما ارتفع الخير من العالم .

يروى أن أنوشروان خرج إلى الصيد يوما وأوغل في الركض وانقطع عن عسكره واستولى العطش عليه ووصل إلى بستان فلما دخل ذلك البستان رأى أشجار الرمان فقال لصبي حضر في ذلك البستان : أعطني رمانة واحدة فأعطاه رمانة فشقها وأخرج حبها وعصرها فخرج منه ماء كثير فشربه وأعجبه ذلك الرمان فعزم على أن يأخذ ذلك البستان من مالكه ثم قال لذلك الصبي : أعطني رمانة أخرى فأعطاه فعصرها فخرج منها ماء قليل فشربه فوجده عفصا مؤذيا فقال : أيها الصبي لم صار الرمان هكذا ؟ فقال الصبي : لعل ملك البلد عزم على الظلم فلأجل شؤم ظلمه صار الرمان هكذا فتاب أنوشروان في قلبه عن ذلك الظلم وقال لذلك الصبي : أعطني رمانة أخرى فأعطاه فعصرها فوجدها أطيب من الرمانة الأولى فقال للصبي : لم بدلت هذه الحالة ؟ فقال الصبي : لعل ملك البلد تاب عن ظلمه فلما سمع أنوشروان هذه القصة من ذلك الصبي وكانت مطابقة لأحوال قلبه تاب بالكلية عن الظلم فلا جرم بقي اسمه مخلدا في الدنيا بالعدل حتى إن من الناس من يروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : ولدت في زمن الملك العادل .

أما الأحكام المفرعة على كونه مالكا فهي أربعة :

الحكم الأول : قراءة المالك أرجى من قراءة الملك ؛ لأن أقصى ما يرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأسا برأس

أما المالك فالعبد يطلب منه الكسوة والطعام والرحمة والتربية فكأنه تعالى يقول : أنا مالككم فعلي طعامكم وثوابكم وجنتكم .

الحكم الثاني : الملك وإن كان أغنى من المالك غير ان الملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه وليست لنا طاعات ولا خيرات فلا يريد أن يطلب منا يوم القيامة أنواع الخيرات والطاعات بل يريد أن نطلب منه يوم القيامة الصفح والمغفرة وإعطاء الجنة بمجرد الفضل فلهذا السبب قال الكسائي : اقرأ مالك يوم الدين ؛ لأن هذه القراءة هي الدالة على الفضل الكثير والرحمة الواسعة .

الحكم الثالث : أن الملك إذا عرض عليه العسكر لم يقبل إلا من كان قوي البدن صحيح المزاج أما من كان مريضا فإنه يرده ولا يعطيه شيئا من الواجب

أما المالك إذا كان له عبد فإن مرض عالجه وإن ضعف أعانه وإن وقع في بلاء خلصه فالقراءة بلفظ المالك أوفق للمذنبين والمساكين .

الحكم الرابع : الملك له هيبة وسياسة والمالك له رأفة ورحمة واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة .

الفائدة الثالثة : الملك عبارة عن القدرة فكونه مالكا وملكا عبارة عن القدرة ههنا بحث : وهو أنه تعالى أما أن يكون ملكا للموجودات أو للمعدومات

والأول باطل لأن إيجاد الموجودات محال فلا قدرة للّه على الموجودات إلا بالإعدام وعلى هذا التقرير فلا مالك إلا للعدم

والثاني باطل أيضا ؛ لأنه يقتضي أن تكون قدرته وملكه على العدم ويلزم أن يقال : إنه ليس للّه في الموجودات مالكية ولا ملك وهذا بعيد .

والجواب أن اللّه تعالى مالك الموجودات وملكها بمعنى أنه تعالى قادر على نقلها من الوجود إلى العدم أو بمعنى أنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة وهذه القدرة ليست إلا للّه تعالى فالملك الحق هو اللّه سبحانه وتعالى إذا عرفت أنه الملك الحق

فنقول : إنه الملك ليوم الدين وذلك لأن القدرة على إحياء الخلق بعد موتهم ليست إلا للّه والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس ليس إلا للّه فإذا كان الحشر والنشر والبعث والقيامة لا يتأتى إلا بعلم متعلق بجميع المعلومات وقدرة متعلقة بجميع الممكنات ثبت أنه لا مالك ليوم الدين إلا اللّه وتمام الكلام في هذا الفصل متعلق بمسألة الحشر والنشر .

فإن قيل : إن المالك لا يكون مالكا للشيء إلا إذا كان المملوك موجودا والقيامة غير موجودة في الحال فلا يكون اللّه مالكا ليوم الدين بل الواجب أن يقال : مالك يوم الدين بدليل أنه لو قال : أنا قاتل زيد فهذا إقرار ولو قال أنا قاتل زيدا بالتنوين كان تهديدا ووعيدا .

قلنا : الحق ما ذكرتم إلا أن قيام القيامة لما كان أمرا حقا لا يجوز الإخلال في الحكمة جعل وجود القيامة كالأمر القائم في الحال الحاصل في الحال وأيضا من مات فقد قامت قيامته فكانت القيامة حاصلة في الحال فزال السؤال .

الفائدة الرابعة : أنه تعالى ذكر في هذه السورة من أسماء نفسه خمسة : اللّه والرب والرحمن والرحيم والمالك .

والسبب فيه كأنه يقول : خلقتك أولا فأنا إله ثم ربيتك بوجوه النعم فأنا رب ثم عصيت فسترت عليك فأنا رحمن ثم تبت فغفرت لك فأنا رحيم ثم لا بد من إيصال الجزاء إليك فأنا مالك يوم الدين .

فإن قيل : إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية مرة واحدة وفي السورة مرة ثانية فالتكرير فيهما حاصل وغير حاصل في الأسماء الثلاثة فما الحكمة ؟

 قلنا : التقدير كأنه قيل : اذكر أني إله ورب مرة واحدة واذكر أني رحمن رحيم مرتين لتعلم أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأمور ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال : لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ونظيره قوله تعالى " {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول} " [ غافر : ٣ ] .

الفائدة الخامسة : قالت القدرية : إن كان خالق أعمال العباد هو اللّه امتنع القول بالثواب والعقاب والجزاء ؛ لأن ثواب الرجل على ما لم يعمله عبث وعقابه على ما لم يعمله ظلم وعلى هذا التقدير فيبطل كونه مالكا ليوم الدين وقالت الجبرية : لو لم تكن أعمال العباد بتقدير اللّه وترجيحه لم يكن مالكا لها ولما أجمع المسلمون على كونه مالكا للعباد ولأعمالهم ؛ علمنا أنه خالق لها مقدر لها واللّه أعلم .

﴿ ٤